البرهان في أصول الفقه ج / 2 ص -175-
الكتاب الخامس: كتاب الترجيح.
1167-
الترجيح تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن ولا ينكر
القول به على الجملة مذكور وقبله منكرو القياس واستعملوه
في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن [الملقب بالبصري وهو
جعل]1 أنه أنكر القول بالترجيح2 ولم أر ذلك في شيء من
مصنفاته مع بحثي عنها وسأذكر شيئا ينبه على إمكان ذلك في
النقل.
1168- والدليل القاطع في الترجيح إطباق الأولين ومن تبعهم
على ترجيح مسلك في الاجتهاد على مسلك هذا ما درج عليه
الأولون قبل اختلاف الآراء وكانوا رضي الله عنهم إذا جلسوا
يشتورون تعلق معظم كلامهم في وجوه الرأي بالترجيح وما
كانوا يشتغلون بالاعتراضات والقوادح [وتوجيه النقوض].
وهذا أثبت بتواتر النقل في الأخبار والظواهر وجميع مسالك
الأحكام فوضح أن الترجيح مفطوع به3.
1169- واستدل القاضي رحمه الله لمن حكى الخلاف عنه في نفي
الترجيح بالبينات في الحكومات فإنه لا يترجح بينة على بينة
بعد استقلال كل واحدة لو انفردت.
وهذا مردود فإن العلماء من يرى ترجيح البينة على البينة
وهو مالك رضي الله عنه وطوائف من علماء السلف وليس من
الإنصاف إلزام مجتهد فيه على القول في مسألة مسلكها القطع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في إرشاد الفحول: سحعل, والظاهر أنه تصحيف.
2 في إرشاد الفحول: "ص 276": واستبعد الأنباري وقوع ذلك من
مثله.
3 إرشاد الفحول "ص 276".
ج / 2 ص -176-
ثم إن
ظن ظان أن لا ترجيح في البينة ورآها مستندة إلى توقيفات
تعبدية فهذا لا يعارض ما ثبت قطعا تواترا في الترجيح
والعمل به وليس متعلق مثبتي الترجيح تجويزا ظنيا فينتقض
بشيء أو يقاس على شيء.
1170- فإذا ثبت أصل الترجيح فلا سبيل إلى استعماله في
مسالك القطع.
فإذا أجرى المتكلم في مسلك قطعي صيغة ترجيح أشعرت بذهوله
أو غباوته وما يفضى إلى القطع لا ترجيح فيه فإنه ليس بعد
العلم بيان ولا ترجيح وإنما الترجيحات تغليبات لطرق الظنون
ولا معنى لجريانها في القطعيات فإن المرجح أغلب في الترجيح
وهو مظنون [والمظنون] غير جار في مسلك القطع فكيف يجرى في
القطعيات ترجيح ما لا يجرى أصله فيها؟
مسألة:
1171- أطلق الأئمة القول بأن المعقولات لا ترجيح فيها
وهذا سديد لا ننكره ولكنا أوضحنا في الديانات أن العوام لا
يكلفون بلوغ الغايات ودرك حقائق العلوم في المعتقدات وإنما
يكلفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم
ثم عقدهم لا يحصل في مطرد العادة هجوما وافتتاحا من غير
استناد إلى مسلك من مسالك النظر وإن كان غير تام وإذا كان
كذلك فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجرى فإن
عقودهم ليست علوما ومأخذها كمأخذ الظنون في حق من يعلم أنه
ظان وهذا الذي ذكرناه لا يناقض ما ذكره الأئمة فإنهم زعموا
أن الترجيحات لا وقع لها في مدارك العلوم وما ذكروه حق لا
نزاع فيه وإنما يكتفى من العوام بعقود سليمة ليست علوما
فتجرى عقائدهم مجرى الظنون في المظنونات.
مسألة:
1172- قال الأئمة رضي الله عنهم: الترجيحات لا تستعمل
في المذاهب من غير نصب أمارات فإن كل ذي مذهب مدع قبل أن
يدل والدعاوى لا تقبل الترجيح إذ الترجيح في نفسه لا يستقل
دليلا والمذهب لو كفى ترجيحه لكان الترجيح مستقلا لإثبات
المذهب وما كان كذلك كان دليلا مستقلا بنفسه.
وهذا يتطرق إليه استثناء عندنا على تفصيل نشير إليه الآن
ثم نقرره في كتاب الفتاوى إن شاء الله تعالى.
ج / 2 ص -177-
فليعلم
الناظر أن المستفتى لا يتخير في تقليد من شاء من المفتين
ولكن عليه ضرب من النظر في تخير واحد منهم لمزية يتخيلها
أو يظنها لمن يختاره وسيأتي ذلك مشروحا في موضعه إن شاء
الله تعالى.
وإن كان كذلك فمتعلق المستفتى ترجيح مجرد وقد ينقدح أن
يقال: ما يغلب على ظنه تخصيص واحد من العلماء فهو دليل
مثله فالقول في هذا يئول إلى عبارة ونحن الآن نرسم ما
يترجح به مذهب الإمام المطلبي الشافعي رضي الله عنه.
مسألة:
1173- أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا
بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل عليهم أن
يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب
وذكروا أوضاع المسائل وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين.
والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة
للمسلمين فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد وإيضاح
طرق النظر والجدال وضبط المقال ومن خلفهم من أئمة الفقه
كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة فكان العامي مأمورا
باتباع مذاهب السابرين.
1174- ثم نحن نوضح وراء ذلك ما يتعلق به منتحل المذهب على
الجملة في اختيار مذهب الشافعي ومجامع الكلام في ذلك
يحصرها طرق.
أحدها: أن السابق وإن كان له حق الوضع
والتأسيس والتأصيل فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل
وكل موضوع على الافتتاح قد يتطرق إلى مبادئه بعض التثبيج
ثم يتدرج المتأخر إلى التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق
أن يتبع لجمعه المذاهب إلى ما حصل السابق تأصيله وهذا واضح
في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون وهذه
الطريقة يقبلها كل منصف وليس فيها تعرض لنقض مرتبة إمام.
1175- فإذا حصلنا المقصود مع الاعتراف للمتقدمين بفضل
السبق فالذي يتم به الغرض أن الصديق أفضل من طلعت عليه
الشمس بعد النبي عليه السلام ثم اشتغال من بعده بالسبر
أوجب على العوام ألا يبتدروا مذهب الصديق رضي الله عنه مع
علو منصبه وارتفاع قدره.
ج / 2 ص -178-
فإن
قيل: يلزمكم على هذا أن توجبوا الاقتداء بمن بعد الشافعي
من الأئمة على ما ذكرتموه.
قلنا: إن ثبت لأحد بعده من الأئمة من المزية والفضل وتهذيب
ما لم ينتظم وكشف ما لم يتبين فلا يناقض مسلك الطريقة
ولكنا لسنا نرى أحدا بلغ هذا المحل وسيأتي تفصيل ذلك في
كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى.
1176-
طريقة أخرى:
وهي أن نقول: المذاهب [تمتحن] بأصولها فإن الفروع تستد
باستدادها وتعوج باعوجاجها وهذا النوع [من النظر] هو الذي
يليق بالمستفتين ومنتحلي المذاهب وسبيل محنة الأصول
معرفتها أفرادا في قواعد ثم معرفة ترتيبها وتنزيل كل أصل
منها منزلته.
فإذا تبين ذلك فأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم
الأقيسة الظنية علامات انتصبت على الأحكام [أعلاما] بأصل
من الأصول الثلاثة مقطوع به كما سبق شرح ذلك.
ثم لها مراتب ودرجات ومناصب فإذا نظر الناظر إلى منصب
الشافعي عرف أنه أعرف الأئمة بكتاب الله تعالى فإنه عربي
مبين والشافعي تفقأت عنه بيضة قريش.
ولا يخفى تميزه عن غيره فيما نحاوله ثم يتعلق معرفة الناسخ
والمنسوخ وأسباب النزول بمعرفة الروايات ومقامه لا يخفى في
الأخبار ومعرفة الرجال وفقه الحديث والإجماع يتلقى من
معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهذا بيان
الأصول.
1177- وأما تنزيلها منازلها [فإنه شوف] الشافعي فإنه قدم
كتاب الله تعالى ثم أتبعه بسنة رسوله عليه السلام ثم إذا
لم يجدها تأسى بالصحابة رضي الله عنهم في التعلق بالرأي
الناشئ من قواعد الشريعة المنضبطة أصولها ولم ير التعلق
بكل استصواب لما فيه من الانحلال والانسلال عن ضبط الشريعة
ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل
فاستحث على الاتباع فيما لا يعقل معناه وقد يقيس إذا لاحت
الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى [المخيل]
ج / 2 ص -179-
المناسب وهو في ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع ويدور عليها.
1178- ومن بديع نظره أنه قد يعن له معنى مخيل ولكن يراه
منقوضا [بما لا يعلل] فيلحقه بما لا يعلل وهذا مسلكه في
منع القيم في الزكوات فإن غرض الزكاة سد الخلة والحاجة وهو
وإن كان معقولا فلا جريان له فرأى الأتباع فيه معنى السد
مع الخلاص [من] غرر المخالفة ثم جعل كون الزكاة عبادة عضدا
لذلك كالمرجح به ولا حاجة إلى ذكر [مذهب] غيره فإن في هذا
تنبيها على مقتضاه.
1179-
طريقة أخرى: وهي تشتمل على نظر كلي إلى
الفروع وهذا يتأتى بضبط ورد نظر إلى الكليات فالشريعة
متضمنها مأمور به ومنهي عنه ومباح.
فأما المأمور به: فمعظمه العبادات فلينظر الناظر فيها وأما
المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر ولا يكاد
يخفى احتياط كثير من الناس فيها وبالجملة الدم معصوم
بالقصاص ومسألة المثقل يهدم حكمة الشرع فيه والفروج معصومة
بالحدود ولا يخفى ما فيها من الاضطراب والأموال معصومة عن
السراق بالقطع وقد أثبت من [نعنيه] ذرائع إلى إسقاطه سهلة
المدارك وأعيان الأموال مستردة من الغصاب.
وقد بان للفقيه مسالك الناس الذين خالفوا مذهب الشافعي1
فمن نظر إلى الأصول ثم نظر نظرا كليا إلى الفروع لم يخف
عليه من يكون أولى بالاتباع وإن قصر [نظر] بعض المستفتين
عن فهم ما ذكرناه فلا عليه لو [احتذى] بقول النبي عليه
السلام:
"الأئمة من قريش"2
ولم أجد أحدا من أصحاب المذاهب معتزيا إلى طينة قريش
بالمسلك الواضح إلا الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذاك وأبو
حنيفة من الموالى ومالك كذلك [على ما حكى بعض الناس] فهذه
مرامز كافية فيما نحاوله وإذا أردنا أن نعبر عن الأئمة
الثلاثة الناخلين المرموقين الذين طبقت مذاهبهم طبق الأرض
مالك والشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهم قلنا:
1180 - أما أبو حنيفة فلا ننكر [اتقاد] فطنته وجودة قريحته
في درك عرف المعاملات ومراتب الحكومات فهو في هذا الفن
واستمكانه من وضع المسائل بحسنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
2 أحمد "3/183", "4/421, 345", والبيهقي "3/121", "8/143,
144" والحاكم "4/76" وسكت عنه الذهبي في "التلخيص"
والطبراني "1/224" وابن أبي شيبة "12/170".
ج / 2 ص -180-
على
النهاية ولكنه غير خبير بأصول الشريعة وهي في حقه منقسمة
إلى أصل جهله [أو] أغفله وذهل عنه وإلى آخر تمسك به وما
رعاه وما [عقله] وانتهض لتبويب الأبواب انتهاض من لم يستمد
من القواعد ومن عجيب أمره أنه لم يعتن بجمع الأخبار
والآثار ليبني عليها مسائله ولكنه يوصل الفروع بناء على ما
يراه ثم يستأنس بما يبلغه وفاقا.
1181- وأما الإمام مالك فلا يشق غباره في ضبط ما يصح من
الأخبار والآثار والأقضية ووقائع الصحابة ولا يدرك آثاره
في درك سبل الصحابة والطرق التي منها يتطرق الخلل وإمكان
الزلل إلى النقلة فقد كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لقد رأيت بعدد أساطين هذا المسجد من يقول:
حدثني أبي فلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم
أستجز أن أروى عنهم حديثا.
فقيل له أكنت لا تثق بهم فقال كنت [لا] أتهم صدقهم ولو
نشروا بالمناشير ما كذبوا على رسول الله عليه السلام ولكن
لم يكونوا من أهل [هذا] الشأن.
ولكنه ينحل بعض الانحلال في الأمور الكلية حتى يكاد أن
يثبت في الإيالات والسياسات أمورا لا تناظر قواعد الشريعة
وكان يأخذها من وقائع وأقضية لها محامل على موافقة الأصول
بضرب من التأويل فكان يتمسك بها ويتخذها أصولا ويبنى عليها
أمورا عظيمة.
كما روى أن عمر رضي الله عنه قال للمغيرة: وكان قد أخذ
قذاة من لحيته فظن عمر [به] استهانة فقال: أبن ما أبنت
وإلا أبنت يدك.
ونقل عنه مشاطرة خالد وعمرو بن العاص1 على أموالهما فاتخذ
ذلك أصلا فرأى إراقة الدم وأخذ أموال بتهم من غير استحقاق
لمصالح إيالية حتى انتهى إلى أن قال: أقتل ثلث الخلق في
استبقاء ثلثيهم.
وكان من الممكن أن يحمل قول عمر رضي الله عنه2 على التغليظ
بالقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عمرو بن العاص بن وائل السهمي أسلم سنة سبع قبل الفتح
بستة أشهر وكان من دهاة العرب ورؤسائهم وله مناقب عديدة
مات سنة "43" ودفن بمصر له ترجمة في "الرياض المستطابة" "ص
215, 217".
2 سبقت ترجمته.
ج / 2 ص -181-
وكانوا
يعتادون ذلك وكذلك من بعدهم.
وأخذه الأموال محمول على علمه بانبساط خالد وعمرو فيما لا
يستحقان من مال الخمس وأموال المسلمين ولا يبلغ من حزم عمر
درك مبلغ ذلك فإذا أمكن هذا فلا وجه لإطلاق أيدي الولاة في
الدماء والأموال.
1182- وأما الشافعي1 فإنه أعرف خلق الله بأصول الشريعة
وأضبطهم لها وأشدهم كيسا [واتقادا] في مآخذها وتنزيلها
منازلها [وترتيبها على مراتبها ويشهد ذلك بالثقة فيها
سابقا إليه] ولكن لم تتنفس مدته ولم تتسع مهلته فلم يتشوف
إلى وضع مسائل بديعة وكان متصديا للإجابة عن كل ما يسأل
عنه واخترم وقد نيف على الخمسين وكان ذلك الأمد لا يتسع
لأكثر من ضبط الأصول فيها فهان على أصحابه البناء عليها.
1183- وهذا بيان منازلهم وسنذكر في كتاب الفتوى أنه يتعين
على المستفتى نظر كلي في [تخير] قدوته وسنصف ذلك النظر
وحده.
ثم نقول: ليس على المستفتى تعلق بمبادئ النظر في كل مسألة
يأخذ فيها جواب قدوته وهذا متفق عليه في المظنونات.
1184- ونقل عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال: إذا اشتملت
المسألة على مدرك قطعي وجب على العامي الاحتواء عليه فإن
كانت المسألة عملية فتلتحق بالعقائد التي لا يسوغ العقل
التقليد فيها.
1185- وهذا عندنا سرف ومجاوزة حد فإنا لا نرى أولا في
العقائد ما يراه وقد ظهر اختيارنا فيما عليهم من عقائدهم
وأما إلحاق قطعيات الشرع بالعقائد فعظيم فإن الشريعة تحتوي
على مائة ألف مسألة وأكثر مستندها القطع وتكليف العامي
الإحاطة بها في معاملاته التي يمارسها ظاهر الفساد وهو
اقتحام خرق الإجماع.
مسألة:
1186- ذهب معظم الأصوليين إلى أن المجتهد لا يجوز له
الاقتصار على ترجيح مذهب على مذهب من غير تمسك بما يستقل
دليلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
ج / 2 ص -182-
وحكى
صاحب المغنى وهو عبد الجبار في كتابه المترجم بالعمد عن
بعض أصحابه جواز الاكتفاء بالترجيح وسقوط هذا المذهب واضح
فإن الترجيح الحقيقي ينشأ من منتهى الدليل فإذا لم يكن
دليل لم يثبت الترجيح تصورا وإن فرض تمسك بمبادئ نظر وسمى
ذلك ترجيحا فهو نظر فاسد لقصوره ولا ترجيح بالفاسد والنظر
يفسد بقصوره تارة وبحيد عن المدرك المطلوب أخرى.
1187- فإن قيل: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في
تفاوضهم يكتفون بمسالك الترجيحات وما كانوا يمهدون أدلة
مستقلة ثم يبنون عليها ترجيحات وهم الأسوة.
قلنا: هذه دعوى عرية لا أصل لها فإنهم كانوا يبنون أحكاما
على معان سديدة وعلى تقريبات شبهية وهذا مدرك الشرع وكانوا
لا يعتنون برد المعاني إلى الأصول لا عن جهل بها ولكنهم
علموا أن معتمد الأحكام المعاني.
فأما الاقتصار على الترجيحات فادعاؤه عليهم تخرص [بين]
[نعم] قد نقول: إذا عريت واقعة عن نظر قويم ولاحت فيه
مخيلة على بعد ولا يكون مثلها دليلا فقد يجوز التمسك بها
تجويزا للمجتهد استصحاب الحال وإن رأينا أن نذكر في آخر
هذا المجموع طرفا صالحا من حكم شغور الزمان عن المفتين
وحملة الشريعة ذكرنا طرفا صالحا في ذلك إن شاء الله تعالى.
القول في ترجيحات الأدلة.
1188- إنما مظنة الترجيحات تعارض صور الأدلة وهي في
غرضنا ألفاظ منقولة ومعان مستنبطة.
فأما الألفاظ فتنقسم إلى النصوص التي لا تقبل التأويل وإلى
الظواهر.
فأما النصوص فتنقسم إلى ما ينقل قطعا واستوت في النقل
ويلتحق بهذا القسم ما ينقل من غير قطع ولكن تستوي النصوص
في [طريق] النقل من غير ترجيح آيل إلى الثقة والتغليب فيها
ونحن نرسم ما يتعلق بهذا القسم.
ج / 2 ص -183-
مسألة:
1189- إذا تعارض نصان على الشرط الذي ذكرناه وتأرخا
فالمتأخر ينسخ المتقدم1 وليس ذلك من مواقع الترجيح.
1190- فإن تطرق إلى أحد النصين ظن النسخ من غير قطع فهذا
نصفه ونصوره ثم نذكر المذاهب فيه.
قال الشافعي في مسألة المس: قيس بن طلق2 راوي حديث الخصم
وهو ممن تقدم إسلامه3 وأبو هريرة4 ممن روى [أحاديثنا] وكان
إسلامه بعد الهجرة بست سنين فرأينا إمكان النسخ تطرق إلى
ما رواه قيس.
وكذلك صح عن النبي عليه السلام [في مرض موته] أنه قال:
"إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون"5.
ولكن الشافعي تعلق بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم في مرض
موته والمقتدون به قيام وراءه فكان هذا من أواخر أفعاله
والحديث الذي رويناه مطلق فيغلب على الظن أنه كان في صحته.
ومن هذا القبيل أخبار الدباغ مع ما رواه عبد الله بن عكيم6
الجهني قال: ورد علينا كتاب النبي عليه السلام قبل موته
بشهر
"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثاله: حديث شداد بن أوس مرفوعا:
"أفطر الحاجم والمحجوم"
رواه أبو داود والنسائي. وذكر الشافعي أنه منسوخ بحديث ابن
عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم. احتجم وهو محرم صائم"
أخرجه مسلم فإن ابن عباس إنما صحبه محرما في حجة الوداع
سنة عشر وفي بعض طرق حديث شداد: أن ذلك كان زمن الفتح سنة
ثمان. "تدريب الراوي" "2/191, 92".
2 قيس بن طلق ين علي بن المنذر الحنفي اليمامي روى عن أبيه
قال العجلي: يمامي تابعي ثقة وأبو صحابي وقال ابن معين:
لقد أكثر الناس فيه وأنه لا يحتج بحديثه, له ترجمة في
"تهذيب التهذيب" "8/356/710".
3 هذه العبارة سهو من أمام الحرمين, وإنما الصحابي هو أبو
طلق. الإصابة "2/232/4283".
4 سبقت ترجمته.
5 البخاري "1/177, 187" "2/59, 89", ومسلم في "الصلاة"
"82", وأبو داود "605", والنسائي "2/142", وابن ماجه
"1237", وأحمد "6/51".
6 عبد الله بن عكيم الجهني. روى عن أبي بكر وعمر وحذيفة بن
اليمان وعائشة. وعنه زيد بن وهب وعبد الرحمن بن أبي ليلى,
قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة, وكان
ثقة. وقال ابن حبان في"الصحابة" أدرك زمنه, ولم بسمع منه
شيئا, مات في ولاية الحجاج. له ترجمة في الإصابة
"2/346/4831" وتهذيب التهذيب "5/283/554".
7 أبو داود في: اللباس "41", والترمذي "1729" وقال: حسن,
والنسائي "7175" وابن ماجه "3613" وأحمد "4/310, 311"
والطبراني في "الصغير" "2/101" وابن أبي شيبة "8/315"
"13/53" والإرواء "1/76/28" وقال: صحيح.
ج / 2 ص -184-
فأحاديث الدباغ كانت مطلقة غير مقيدة بتاريخ فالغالب على
الظن جريانها قبل هذا التاريخ ولكن الشافعي رد حديث عبد
الله لأنه كان محالا على الكتاب وناقل الكتاب مجهول ليس
بمذكور فالتحق الحديث بالمرسلات فهذا تصوير ما أردناه.
1191- قال الشافعي: إن تجرد نص ولم يعارضه آخر فإمكان
النسخ مردود ومدعيه مطالب بنقل النسخ ولا يكتفى في هذا
المقام بغلبة الظن فإن تعارض نصان وتطرق إلى أحدهما مسلك
من المسالك التي صورناها فعند ذلك يرى الشافعي ترجيح النص
الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ على الآخر [ورأيه أولى] من
الحكم بتساقط النصين عند تعارضهما.
1192- وقال قائلون: النصان متعارضان فإن الذي اتجه فيه
إمكان النسخ ظنا لا يخفى سقوطه والنص الآخر يهى به ويحط عن
منزلته والتمسك بمرتبة أخرى دون النصوص أولى ولا يبقى مع
تعارض النصين إلا ظن ترجيح ومجرد الترجيح لا يجوز التمسك
به.
1193- ووجه الحق في ذلك: أن الحادثة إذا عريت عن مسلك
[يعد] من سبل مسالك الأحكام وتعارض خبران نصان وتطرق إلى
أحدهما إمكان النسخ وعدم المجتهد متعلقا سواهما فالوجه
التمسك بالخبر الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ وهذا أولى من
تعطيل الحكم وتعرية الواقعة عن موجب الشرع وهذا يناسب
القول في مآخذ الأحكام عند عرو الزمان عن المفتين ولعلنا
نختتم هذا المجموع بطرف صالح منه يقع به الاستقلال.
فإن وجد المتناظران مسلكا من مآخذ [الأحكام] سوى الخبرين
مثل أن يجد للقياس مضطربا فالوجه النزول عن الخبرين جميعا
والتمسك بالقياس ثم الخبر الذي بعد عن ظن النسخ يستعمل
ترجيحا لأحد القياسين [على الآخر].
فهذا وجه مدرك الحق في ذلك وهو أصل في كتاب الترجيح وسنسند
إليه أمثاله.
ج / 2 ص -185-
مسألة:
1194- إذا
تعارض خبران نصان نقلهما الآحاد واستوى الرواة في الصفات
المرعية في حصول الثقة ولكن كان أحدهما أكثر رواة.
فالذي ذهب إليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد [وهو مذهب
الفقهاء] وذهب بعض المعتزلة إلى منع الترجيح بكثرة العدد
واحتجوا في ذلك بالشهادة فإنه لا ترجح بينة على بينة بكثرة
العدد.
وهذا الذي ذكروه مما اختلف الفقهاء فيه:
1195- فذهب معظم أصحاب مالك وشرذمة من أصحاب الشافعي إلى
أن البينة المختصة بمزيد العدد في الشهود مقدمة على البينة
التي تعارضها.
والمسألة على الجملة مظنونة وللاجتهاد فيها مجال ثم معظم
قواعد الشهادات منوطة بالتعبدات والروايات مدار أصولها
وتفاصيلها على الثقة المحضة ولهذا لا تعتبر فيها الحرية
والعدد في [أصل القبول] وكثرة الروايات توجب مزيدا في غلبة
الظن.
وقد قال القاضي رحمه الله تعالى: تقديم الخبر على الخبر
بكثرة الرواة لا أراه قاطعا وإنما أراه من مسالك الاجتهاد.
1196- والوجه في هذا عندنا: أن المجتهدين إذا لم يجدوا
متمسكا إلا الخبر وتعارض في الواقعة خبران واستوى الرواة
في العدالة والثقة وانفرد بنقل أحدهما واحد وروى الآخر جمع
فيجب العمل بالخبر الذي رواه الجمع.
وهذا مقطوع به فإنا على قطع نعلم أن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم لو تعارض لهما خبران كما وصفنا والواقعة في
محل لا تقدير للقياس فيه ولا مضطرب للرأي لما كانوا يعطلون
الواقعة بل كانوا يرون التعلق بما رواه الجمع.
1197- فأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت
رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية فإن الخبر الذي نقله
الواحد يضعف بالخبر الذي يعارضه فيبعد أن يستقل دليلا.
والذي يقتضيه هذا المسلك النزول عنهما والتمسك بالقياس
وترجيح القياس الذي يعضده الخبر الذي يرويه الجمع ولو تجرد
القياس في الجانب الآخر [فهو]
ج / 2 ص -186-
متمسك
[الحكم ومتعلقه فهذا وجه ولكن قد نظن أن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم كانوا يقدمون] الخبر الذي يرويه الجمع
ويضربون عن القياس كدأبهم في تعظيم الخبر وتقديمه ولسنا
على قطع في ذلك فإنا لا نثبت أصول الشريعة إلا بمستند قطعي
فما قطعنا به أثبتناه وما غلب على ظننا ترددنا فيه
وألحقناه بالمظنونات.
1198- فآل حاصل القول إلى أن الخبر وإن رواه جمع من الثقات
إذا عارضه خبر نقله عدل واحد فيسقط ما رواه الجمع عن رتب
الأدلة المقطوع بها فإن عدمنا مأخذا سواهما كان تعلقنا
بالأرجح تعلق من لا يجد مضطربا سوى الترجيح ومحض الترجيح
لا يتعلق به عند فقد الأدلة كما سيأتي شرحه إن شاء الله
تعالى.
1199- فأما إذا وجدنا [أدلة فالمسألة إذ ذاك ظنية منزلة
على ما يؤدى إليه اجتهاد الناظر وكذلك إذا وجدنا] القياس
موافقا للخبر الذي نقله الواحد فالمسألة ظنية أيضا وإن كان
القياس في جانب الخبر الذي رواه الجمع [فلا شك أن الحكم
بذلك القياس المرجح بالخبر الذي رواه الجمع] فهذه جوامع
القول في ذلك.
1200- وقد ذكرنا في تعارض الخبرين إذا تطرق إلى أحدهما
إمكان النسخ من الجهات التي ذكرناها [أن] الوجه النزول
عنهما والتمسك بالأقيسة إن وجدناها ولم [نردد] في ذلك
تغليب ظن.
والسبب فيه أنا ظننا ظنا غالبا بالصحابة رضي الله عنهم
اعتبار الترجيح بالثقة والعدد ورددنا القول ولم يسنح لنا
مثل ذلك فيما يتطرق إليه النسخ إمكانا إذ تبينا من تفحصهم
عن أسباب الثقة ما يغلب على الظن الترجيح بها وتقديم
الأخبار على الأقيسة تعظيما لها إذا رجع الأمر إلى التفاوت
في الثقة.
[فإن ظهر لنا ظن عندنا في وقائع] بلغته أنهم نظروا في
إمكان النسخ نظرهم في الثقة نزلنا تلك [المسألة] هذه
المنزلة وعاد القول إلى التعارض إلا فيما يمنع منه متمسك
لما قدمنا تمهيده من أن التعارض في التساقط [أقوى] في نظر
الناظرين من الاعتصام بترجيح ظني فهذا منتهى المراد.
1201- ومما نذكره في فروع هذا الفصل أنه إذا روى راويان
خبرين وكل.
ج / 2 ص -187-
واحد
منهما [ثقة] مقبول الرواية لو انفرد ولكن في أحدهما مزية
ظاهرة في قوة الحفظ والضبط والاعتناء بالوعي فهذا مما يرى
أهل الحديث مجمعين على التقديم [فيه].
وهو كما روى عبيد1 الله بن عمر العمري [مع ما رواه أخوه
عبد الله2 بن عمر العمري] في سهم الفارس من المغنم3 فقال
الأئمة: حديث عبيد الله مقدم وإن كان أخوه عبد الله عدلا
فإن بينهما تفاوتا بينا قال محمد بن إسماعيل البخاري:
بينهما ما بين الدينار والدرهم والفضل لعبيد الله وهذا وإن
ظهر من خدمة الحديث فإذا رجع الأمر إلى العلم فالقول عندي
في الخبرين مع اختصاص إحدى الروايتين بالمزية كالقول في
اختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة مع الاستواء في الصفات
المرعية وقد سبق ذلك مفصلا.
غير أن التمسك بحديث عبيد الله حتم من جهة أن القول متعلق
بالتقدير وهو متلقى من توقيف الشارع ولا مجال للقياس فيه
والرأي لا يضبط منتهى الغناء والكفاية.
1202- فهذا من المنازل التي يتعين فيها الاستمساك بالخبر
ولا نظر لذي الرأي على استرسال كلى وهو موافق لمذهب
الشافعي فإن نظرنا إلى الغناء فلا يكاد يخفى أن غناء
الفارس يزيد على ضعف غناء الراجل فلا موقف ينتهى [إليه]
فيستعمل الرأي كليا ويستعمل الخبر توقيفا ينتهى إليه.
1203- ومما يتصل بذلك [أنه] إذا روى أحد الخبرين ثقة وروى
الآخر جمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب
العدوي العمري أحد الفقهاء السبعة روى عن أم خالد بنت سعيد
بن العاص ولها صحبة وعن أبيه وخاله, وآخرين؛ قال أبو زرعة
وأبو حاتم: ثقة. مات سنة "147هـ" له ترجمة في "تهذيب
التهذيب" "7/35, 36/71".
2 عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم. روى عن نافع وزيد بن
أسلم وسعيد بن المقبري. قال أحمد: كان يزيد في الأسانيد,
ويخالف, وكان رجلا صالحا. وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه
الصلاح حتى غفل عن الضبط, فاستحق الترك. مات سنة "173هـ"
له ترجمة في تهذيب التهذيب" "5/285, 286/564".
3 البخاري في "الجهاد" "51" والمغازي "38" ومسلم في
"الجهاد" "57" وأبو داود في الجهاد" "143, 147", والترمذي
في "السير" "6, 8" وأحمد "2/2".
ج / 2 ص -188-
لا
يبلغ آحادهم مبلغ راوي الخبر الآخر في الثقة والعدالة
فاجتمع مزية الثقة وقوة العدد فمن أهل الحديث من يقدم مزية
العدد ومنهم من يقدم مزية الثقة.
والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق
بمزية الثقة إذا ظهرت فإن الغالب على الظن أن الصديق رضي
الله عنه لو روى خبرا وروى جمع على خلافه خبرا لكان
الصحابة يؤثرون رواية الصديق.
ومأخذ الكلام في جميع هذه الفنون واحد فليرجع الناظر إلى
المعتبر الممهد أصلا وتفصيلا وليميز مواقع القطع من الظن.
مسألة:
في تقديم أحد الخبرين على الآخر بموافقة أقضية الصحابة رضي
الله عنهم.
1204- القول في حقيقة هذه المسألة يستدعى مقدمة من كتاب
الإجماع فنقول: إن اجتمع علماء العصر على [مذهب] واستمر
الإجماع على الشرائط المرعية فلا يبقى للتعلق بالخبر
والحالة هذه وقع فإن الخبر إن كان منقولا آحادا فلا خفاء
بما ذكرناه.
ولو فرضنا خبرا متواترا وقد انعقد الإجماع على خلافه
فتصويره عسر فإنه غير واقع ولكنا على التقدير نقول لو فرض
ذلك فالتعلق بالإجماع أولى فإن الأمة لا تجتمع على الضلالة
ويتطرق إلى الخبر إمكان النسخ فيحمل الأمر على ذلك قطعا لا
وجه غيره ونقطع بهذا.
1205- فإن قيل: الخبر المتواتر النص من الأدلة القاطعة
وكذلك الإجماع فلم قدمتم الإجماع؟.
قلنا: لأن الخبر عرضة لقبول النسخ والإجماع لا ينعقد
متأخرا إلا على قطع فلا يتصور حصول الإجماع على باطل وتطرق
النسخ إلى الخبر ممكن فالوجه حمل الإجماع على القطع الكائن
وحمل الخبر على مقتضى النسخ استنادا أو تنبيها على تقدير
استثناء والمستحيل حصول الإجماع على حكم مع خبر نص على
مناقضته مع الإجماع على أنه غير منسوخ فهذا مما لا يتصور
وقوعه حتى يتكلم فيه في تقديم أو تأخير وإنما الكلام في
خبر مطلق.
ثم الذي أراه [أن] من ضرورة الإجماع على مناقضه الخبر النص
المتواتر أن
ج / 2 ص -189-
يلهج
أهل الإجماع بكونه منسوخا فهذا قولنا في الإجماع.
1206- أما إذا فرض خبر على شرط الصحة نقله الآحاد وجرت
أقضية [أئمة من] الصحابة على مخالفته فكيف الوجه؟
ذهب مالك رحمه الله إلى تقديم ما صار إليه أهل المدينة
يعني علماءها وروي عنه في تحقيق ذلك تمسك بأخبار تشير إلى
تعظيم المدينة وأهلها فإن صح ذلك فهو ضعيف وإن كان مذهبه
النظر في مذاهب العلماء الذين كانوا وإنما أجرى ذكر [أهل]
المدينة لتوافر العلماء بها في ذلك الزمن فهذا قريب على ما
سيأتي الشر حليه إن شاء الله.
1207- وقال الشافعي رحمه الله: لا نظر إلى الأعمال
والأقضية إذا لم يتفق عليها أهل الإجماع والتعلق بالخبر
أولى.
ونحن نذكر ما تمسك به الشافعي ثم نذكر بعده المختار عندنا.
قال الشافعي: الحجة في الخبر وما نقل من عمل على خلافه فهو
منقول عن أقوام ليست أقوالهم حجة ولا معنى لترك الحجة لما
ليس بحجة.
ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال: العاملون بخلاف الخبر محجوجون
به ولا يقدم قول محجوج بحجة على الحجة.
وقال الشافعي في بعض مجاري كلامه: لو [عاصرت] العاملين
بخلاف الخبر لحاججتهم وجادلتهم العين, العين ولا يتعين ذلك
بانقراضهم.
وقد يقول: لو وجدت قياسا يخالف أقضية أقوام من الأئمة
لتمسكت به ولم أبال بمن ينازعني والخبر مقدم على القياس
فإذا قدمت القياس على قولهم فكيف أترك الخبر المقدم على
القياس بقولهم؟.
وقال رضى الله عنه: إن كان تقديم أقضية الصحابة لتحسين
الظن بهم ولا تجب لهم العصمة فتحسين الظن بخبر الشارع
المعصوم [أولى].
1208- والرأي الحق عندنا [في ذلك] يوضحه تقسيم فنقول:
إن تحققنا بلوغ الخبر [طائفة من أئمة الصحابة وكان الخبر]
نصا لا يطرق إليه تأويل ثم ألفيناهم يقضون بخلاف مع ذكره
والعلم به فلسنا نرى التعلق بالخبر إذ
ج / 2 ص -190-
لا
محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب وترك
المبالاة أو العلم بكونه منسوخا وليس بين هذين التقديرين
لاحتمال ثالث مجال.
[وقد] أجمع المسلمون قاطبة على وجوب اعتقاد تبرئتهم عن
القسم الأول فيتعين حمل عملهم مع الذكر والإحاطة بالخبر
على العلم بورود النسخ وليس [ما] ذكرنا تقديما لأقضيتهم
على الخبر وإنما هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم
على وجه يمكن من الصواب [فكأنا] تعلقنا بالإجماع في معارضة
الحديث وليس في تطريق إمكان النسخ إلى الخبر غض من قدره
عليه السلام وحط من منصبه وقد قدمنا في كتاب الإجماع أن
الإجماع في نفسه ليس بحجة ولكن [إجماع] أهله يشعر بصدر ما
أجمعوا عليه [عن] حجة.
فهذا قول في قسم وهو: إذا بلغهم الخبر وعملوا بخلافة
ذاكرين له.
1209- فأما إذا لم يبلغهم أو غلب على الظن أنه لم يبلغهم
فالتعليق بالخبر حينئذ وظني بدقة نظر الشافعي في أصول
الشريعة أنه رأى التقديم للخبر في مثل هذه الصورة.
1210- وإن غلب على الظن أن الخبر بلغهم وتحققنا أن عملهم
مخالف له فهذا عندي مقام التوقف والبحث فإن لم نجد في
الواقعة متعلقا سوى الخبر والأقضية فالوجه التعلق بالخبر
وإن وجدنا مسلكا في الدليل سوى الخبر فالتمسك به أولى.
1211- ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له: أن مذاهب الصحابة
إذا نقلت من غير إجماع فلا نرى التعلق بها وإذا نقلت في
معارضة خبر نص على المخالفة التي لا تقبل تأويلا فتعين
التعلق بالمذاهب وليس هذا على الحقيقة تعلقا بالمذاهب
وإنما هو تعلق بما صدرت المذاهب عنه وما ذكرناه في أئمة
الصحابة يطرد في أئمة التابعين وأئمة كل عصر ما لم تقف على
خبر.
وبيان ذلك بالمثال: أن مالكا رضي الله عنه يرى تقديم أقضية
الصحابة رضي الله عنهم على الخبر مطلقا من غير تفصيل وقد
لا نأمن أن يكون بعض تلك الأقضية ممن لم يبلغه الخبر أو
بلغه ونسيه.
فإذا لم يفصل مالك تبينا أنه لم يكن مطلعا على حقيقة هذا
الأصل فلا جرم نقول: إذا روى مالك خبرا وخالفه لم نبل
بمخالفته من حيث لا نثق بتحقيق منه في.
ج / 2 ص -191-
مأخذ
الباب ولذلك ثبت خيار المجلس بما رواه مالك عن نافع عن ابن
عمر عن الرسول عليه السلام ولم يقل مالك بخيار المجلس.
1212- ومما يجب تنزيله على هذا القسم: أن جمعا لو بلغهم
خبر ثم صح عندنا عملهم بخلافة بعد تطاول زمن وجوزنا ذهولهم
عنه ونسيانهم له فليخرج ذلك على التقاسم في تطاول غلبة
الظن كما سبق.
وما ذكرناه في جمع فهو في المجتهد الواحد الموثوق بعدالته
وأمانته بمثابته في جمع.
1213- ولو صح خبر وعمل به جمع ولم يعمل به جمع والفريقان
ذاكران الخبر والمسألة مفروضة حيث لا احتمال إلا النسخ.
فالذي أراه تقديم عمل المخالفين فإنه لا يحمل أمرهم إلا
على ثبت وتحقيق وعمل العاملين يحمل على التمسك بظاهر
الخبر.
1214- وليعلم الناظر إذا انتهى إلى هذا المقام أن الكلام
في هذه المضايق ينتهي إلى حال يعسر التصوير فيها فلا ينبغي
للإنسان أن يسترسل في قبول كل ما يتصور عليه.
ومن هذا القبيل ما انتهينا إليه فإنه يبعد قطع قوم
بالمخالفة مع تصحيح الخبر وقطع آخرين بالعمل فلا بد أن
يشيع المخالفون ما عندهم ويبحث عنه العاملون.
[نعم قد يتفق عمل العاملين في صقع من غير غوص وتحقيق وبحث
عن حالة المخالفين].
فهذا منتهى القول في ذلك وهو مقدمة غرضنا في الترجيح.
1215- فإذا تعارض خبران صحيحان وعمل بأحدهما أئمة من
الصحابة.
فقد رأى الشافعي ترجيح ذلك الخبر على الخبر الذي [عارضه و]
لم يصح العمل به واستشهد بما رواه أنس1 في نصب الغنم إذ
عارضه ما رواه علي2 رضي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أنس هو: ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي, أبو حمزة.
خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرا وسفرا منذ قدم
المدينة إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزا
معه ثمان غزوات. مات سنة "93". له ترجمة في: الإصابة
"1/84" وشذرات الذهب "1/100", والعبر "1/107".
2 سبق تخريجه.
ج / 2 ص -192-
الله
عنه فيها وعمل الشيخين يوافق ما رواه أنس [فقال رضي الله
عنه أقدم حديث أنس].
وهذا مما يجب التأني [فيه] فليس ما استشهد به مما يقال فيه
إن عمل الصحابة خالف خبرا إذ لم يصح عندنا أنهم بلغهم حديث
على رضي الله عنه ثم لم يعلموا به ولكن قد يظن ذلك ظنا.
1216- فإن قيل: فما الوجه والحالة كما وصفتم؟.
قلنا: نرى الحديثين متعارضين فإن معارضة أحدهما الثاني ليس
مما يسقطه ترجيح ظني في أحد الجانبين ثم لو صح أنه بلغهم
الحديثان ثم عملوا بأحدهما فليس هذا من الترجيح ولكنه
يتعلق بالقسم المتقدم وهو أن أقضية أئمة الصحابة بخلاف
الخبر مع العلم به والذكر له كيف الوجه فيه وقد تقدم ما
فيه بلاغ.
1217- ومما يجب التفطن له أن النصب مقادير ولا مجال فيها
للرأي والخبران وإن رأينا تعارضهما فيخرج وجوب العمل بما
عمل به الصحابة رضي الله عنهم على الرأي المتقدم في أنا
إذا عدمنا مسلكا للحكم ولم نظفر إلا بما يقع ترجيحا لا
استقلال له ولو ثبتت الأدلة فالتمسك بما لا يستقل أولى من
تعريه الواقعة عن حكم.
فالوجه إذا التعلق بحديث أنس لما ذكرنا آخرا والله أعلم.
مسألة:
1218- إذا تعارض خبران نصان وانضم إلى أحدهما قياس يوافق
معناه [الخبر] فقد اختلف العلماء في ذلك:
فالذي ارتضاه الشافعي أن الحديث الذي وافقه القياس مرجح
على الآخر واستدل بأنه قال إذا اختص أحد الحديثين بما يوجب
تغليب الظن تلويحا فهو مرجح على الآخر ومجرد التلويح لا
يستقل دليلا فإذا اعتضد أحد الحديثين بما يستقل دليلا فلأن
يكون مرجحا أولى.
1219- وقال القاضي: إذا تعارض الخبران كما ذكرناه في تصوير
المسألة تساقطا ويجب العمل بالقياس والمسلكان يفضيان إلى
موافقة حكم القياس ولكن الشافعي يرى متعلق الحكم بالخبر
المرجح بموافقة القياس والقاضي يرى العمل بالقياس وسقوط
الخبرين.
ج / 2 ص -193-
واستدل
القاضي بأن قال: الخبر مقدم في مراتب الأدلة على القياس
[فيستحيل] ترجيح خبر على خبر بما يسقطه الخبر ومن أحاط
بمراتب الأدلة لم يتعلق بالقياس في واقعة فيها خبر صحيح
فإن القياس مع الخبر الصحيح المستقل الواقع نصا في حكم
اللغو الذي لا حاجة إليه وما يقدم على القياس إذا خالفه
فهو مقدم عليه أيضا إذا وافقه فالقياس إذا لا وقع له مع
ثبوت الخبر والتعارض يوجب سقوط التعلق بالخبرين فإذا سقطا
فالتعلق بعد سقوطهما.
1220- والقول في ذلك عندي لا يبلغ مبلغ الإفادة ويجوز لمن
ينصر نص الشافعي في ذلك أن يقول: إنما يقدم الخبر إذا لم
يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر أحدهما إلى التأكيد بما
يغلبه على الآخر.
فهذا منتهى القول ولا قطع والعمل بما اجتمع عليه الخبر
والنظر.
ونبني على هذا مسائل نسردها ونبين الحق فيها منها:
[مسألة]:
1221- أنه إذا تعارض خبران واعتضد أحدهما بقياس الأصول
وكان أقرب إلى القواعد الممهدة.
قال الشافعي: يقدم ما يوافق القواعد.
ومثال ذلك: الخبران المتعارضان [في صلاة الخوف في غزوة ذات
الرقاع فالذي رواه ابن عمر فيه ترددات كثيرة والترددات
تخالف نظم الصلاة ورواية خوات ابن جبير ليس فيها حركات
وترددات فرأى الشافعي رضي الله عنه تقديم خبر خوات وهذا
يتصل تحقيقه بموافقة القياس لإحدى الروايتين ومخالفة
الأخرى فكان العمل بموجب القياس أولى ثم يئول الكلام إلى
أن رواية خوات مرجحة بالقياس أم الروايتان متعارضتان
والتعلق بالقياس بعدهما؟
1222- ويجري في هذه الواقعة نوعان من النظر:
أحدهما: أنه لا يمتنع
جريان الصلاتين الموصوفتين في الروايتين.
وقد مال الشافعي في بعض أجوبته إلى تجويزهما جميعا ثم آثر
رواية خوات من طريق التفصيل وهذا متجه حسن فإنه يبعد أن
تختلف روايتان في واقعة واحدة اختلاف رواية ابن عمر وخوات.
ج / 2 ص -194-
وإذا
روى عدلان لفظين من غير تاريخ فالظن بهما الصدق ويقدر
[تقدم] أحدهما [وتأخر] الآخر فإذا اعتاص معرفة ذلك منهما
قيل: تعارضا.
فأما إذا تعلقت الروايتان بحكاية واحدة وظهر التفاوت في
النقل فالوجه أن يحمل الأمر على جريانهما جميعا ويرد
الترجيح إلى الفضيلة فهذا وجه.
ومما يتعلق بما نحن فيه أنا إذا حملنا الرواية المختارة
على الجواز ولم نجوز غيرها فليس في روايتنا منع لما رواه
ابن عمر فإذا لا تعارض في الحقيقة إلا من وجهة واحدة وهي
أن يدعي الاتحاد وتنسب إحدى الروايتين إلى الوهم والزلل ثم
لا يتعين لذلك أحدهما فيتمسك بالقياس وهذا بعيد عما تعبدنا
به من تحسين الظن بالرواة والمختار تجويز ما اشتملت عليه
الروايتان ورد الأمر إلى التفصيل.
1223- وقد ذكر القاضي وجها في تقديم رواية ابن عمر رضي
الله عنهما وهو أنه قال: إنها نافلة عن المألوف في القواعد
فيجب حملها على تثبيت الناقل والرواية الأخرى ليست كذلك
وقد يشعر بعدم التثبيت وبناء الأمر مطلقا على ما عهد في
الشرع.
وهذا غير سديد وهو تحويم على تخصيص عدل بوهم وزلل بموافقة
الأصول فيما رواه ثم [في] رواية خوات أنواع من الإثبات لا
تعهده في القوانين والقواعد فلا وجه لما ذكره.
مسألة:
1224-
ومنها: إذا تعارض خبران ووافق أحدهما حكم
اقترن من كتاب الله تعالى فقد رجح بعض العلماء الخبر الذي
وافقه حكم القرينة.
ومثال ذلك الخبران المتعارضان في العمرة فيروى أن النبي
عليه السلام قال:
"الحج جهاد والعمرة تطوع"1 وعارضه ما روى أنه عليه السلام قال:
"الحج والعمرة نسكان فرضان لا يضرك بأيهما بدأت"2 ثم خبر الفريضة وافق حكم القرآن في كتاب الله تعالى فإنه قال:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه "2989" من طريق مندل والحسن وهما ضعيفان,
والبيهقي "4/148", والطبراني "11/442", والمجمع "3/205",
وعزاه إليه في "الكبير" من طريق محمد بن الفضل, وهو كذاب.
2 الدارقطني "2/284".
3 آية "169" سورة البقرة.
ج / 2 ص -195-
وهذا
فيه نظر فإن إتمام الحج يتعرض لفرضه ابتداء لا في الحج ولا
في العمرة وهما مقترنان وفاقا في وجوب الإتمام بعد الشرع
فيهما ولم نذكر هذا إلا أن الشافعي ذكره فتيمنا بإيراد
كلامه.
مسألة:
1225- إذا تعارض خبران ولم يترجح احدهما على الثاني
ولم يتطرق إلى واحد منهما نسخ فيما يعلم أو يظن وعريت
الواقعة عن دلالة أخرى فحكمهما عند الأصوليين الوقف عن
الحكم فيها وإلحاق الصورة بالوقائع كلها قبل ورود الشرائع
وهذا حكم الأصول.
1226- ولكن ما أراه: أن الشريعة إذا كانت متعلقة بالمفتين
ولم يشغر عنهم [الزمان] فلا يقع مثل هذه الواقعة [إذ] لو
فرض تجويز ذلك لوجب في حكم العادة وقوعه لا محالة فإذا لم
يقع مثله في الأزمان على تطاولها وقد اشتملت على كل ممكن
على التكرر [فارتقاب] واقعة شاذة لا نظير لها ولا مداني
محال في حكم العادة وسيأتي شرح ذلك في كتاب الفتوى.
وإن تحقق التعارض والتساوي بين النصين وانحسم مسلك التأويل
ووجدنا للحكم متعلقا من طريق القياس [أو الاستدلال] وآخر
مسلكه استصحاب الحال فهذا مما تقرر القول فيه قبل من أن
الخبر الذي يوافقه مرجح به أو الخبران يتساقطان بالتعارض
والمعنى مجرد للتعلق به.
فصل: في تعارض الظواهر.
1227- [كل ما] قدمناه في تعارض النصوص.
وأما إذا تعارض ظاهران يتطرق التأويل إلى كل واحد منهما
فتتسع مسالك الترجيح فإن مبنى التعلق بالظاهر على غلبات
الظنون وهي حرية بالترجيحات.
فإذا تعارضا وتأيد أحدهما بمزية ثقة في الراوي أو العدد في
الرواة فالوجه التمسك بما تأيد بهذه الجهات وليس كالنصين
فيما قدمناه فإنا تحققنا [من] طرق الماضين أنهم في غلبات
الظنون كانوا يبغون ترجيح ظن على ظن.
ج / 2 ص -196-
وإنما
توقفنا في تعارض النصوص من جهة أن معارضة النص بالنص يوهي
التعلق به واقتضاؤه إياه يزيد على ما يتعلق به الترجيح
وأيضا فإنا لم نتحقق مثالا في تعارض النصيين مع ترجيح
أحدهما بمزية البينة والعدد ولم ينقل لنا مسلك الأولين في
مثل ذلك حتى نتخذه معتبرا.
[وأما ما] يتعلق بالظنون [فقد] استبنا على قطع استرسال
الأولين في الاستمساك بما يتضمن مزية في تغليب الظن فإذا
تعارض ظاهران ولم يكن أحدهما في الثبوت والتعرض للتأويل
بأولى من الثاني ولم يتطرق إلى أحدهما ما يوجب تغليب الظن
فتعارضهما والحالة هذه كتعارض النصين على ما تقدم.
مسألة:
1228- إذا تعارض ظاهران أحدهما من الكتاب والآخر من
السنة فقد اختلف أرباب الأصول.
فقال بعضهم: يقدم كتاب الله تعالى وقال آخرون: تقدم السنة
وقال آخرون: هما متعارضان.
1229- فأما من قدم الكتاب فمتعلقه قول معاذ1 إذ قال:
"أحكم بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله فإن لم أجد اجتهد رأيي"2 واشتهر في
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الابتداء بالكتاب ثم طلب
السنة إن لم يجدوا متعلقا من الكتاب.
1230- ومن قدم السنة احتج بأن السنة هي المفسرة للكتاب
وإليها الرجوع في بيان مجملات الكتاب وتخصيص ظواهره وتفصيل
محتملة.
1231- والصحيح عندنا الحكم بالتعارض فإن الرسول عليه
السلام ما كان يقول من تلقاء نفسه شيئا وكل ما كان يقول
فمستنده أمر الله تعالى وما ذكره معاذ فمعناه أن ما يوجد
فيه نص من كتاب الله تعالى فلا يتوقع فيه خبر يخالفه فمبني
الأمر فيه على تقديم الكتاب ثم آي الكتاب لا تشتمل على
بيان الأحكام والأخبار أعم وجودا [منها] ثم طرق الرأي لا
انحصار لها فجرى الترتيب منه بناء على هذا في الوجود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 سبق تخريجه.
ج / 2 ص -197-
ونحن
فرضنا المسألة في ظاهرين ليسا نصين وكذلك ما ادعاه من
ابتدار الصحابة الكتاب فهو منزل على ما ذكرناه.
فأما كون السنة مفسرة فلا تعلق [فيه] فإنا نقول أن روى
تفسيرا للكتاب فلا خلاف في قبوله وتنزيل الكتاب عليه ومعظم
التفاسير منقولة آحادا وليس هذا من غرضنا وكذلك لو كان
الخبر الذي نقله الأثبات نصا في معارضه ظاهر فالنص مقدم
على الظاهر من الكتاب والسنة.
وقد ذكرنا هذا في تخصيص العموم وأشرنا إلى خلاف فيه والذي
ذكرناه الآن هو المختار.
1232- وقال القاضي رحمه الله: إن تعارض ظاهر خبر نقله
الآحاد فهما متعارضان وهذا لست أراه كذلك فإن الظاهرين
متساويان في تطرق التأويل إلى كل واحد منهما والكتاب يختص
[بثبوته على جهة القطع] ولا أعرف خلافا [أنه] إذا تعارض
ظاهران من الأخبار أحدهما منقول تواترا والآخر منقول آحادا
فالمتواتر يقدم فليكن الأمر كذلك في تقديم الكتاب على
السنة.
مسألة:
1233- قال الله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}1 الآية وهذه الآية من آخر ما نزل ولا خلاف أنها ليست منسوخة.
وقد تعلق مالك رحمه الله بموجبها ونزل مذهبه عليها فحرم ما
اقتضت الآية تحريمه وأحل ما عداه ورأى الشافعي رحمه الله
التعلق بأخبار نقلها الآحاد وترك موجب الآية لها.
منها: أنه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل
ذي مخلب من الطير2 وحرم الفواسق3 وحرم الحمر الأهلية4
والأخبار في تحريمها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "145" سورة الأنعام.
2 الترمذي "1477", وأحمد "1/147, 194, 224, 289", والبيهقي
"1/25", "5/338", وابن شيبة "5/399", والحاكم "2/40".
3 البخاري في "الصيد" "7", ومسلم في "الحج" 71, 73",
والترمذي في "الحج" "21" والنسائي في "المناسك" "116,
117", وأحمد "1/257".
4 البخاري في "الذبائح" "28", ومسلم في "الصيد" "33, 25,
27, 30, 31, 37" والترمذي في "النكاح" "29", والصيد "9",
والأطعمة "6" والنسائي في "الصيد" "31" وابن ماجه في
"الذبائح" "13" وأحمد "2/21".
ج / 2 ص -198-
بعد
التحليل في الصحاح.
وتقديم أخبار الآحاد على نص الكتاب مشكل في غير محل
الإجماع وليس القرآن في مرتبة الظواهر في هذا الغرض ولكنه
يشتمل على النفي والإثبات والإبقاء والاستثناء وهذا أبعد
في التأويل من الأخبار التي رويت في معرض المناهي.
وصيغ النهي ليست نصوصا في التحريم والتنزيه غالب في كثير
من المطعومات.
1234- والذي اعتمده الشافعي في الكلام على الآية تنزيلها
على [سبب] في النزول يدل عليه ما قبل الآية التي فيها
الكلام وما بعدها وذلك أنه قال: زعمت اليهود أن الشحوم
محرمة وذكر تفاصيلهم في البحيرة والسائبة ونسبوا النبي
عليه السلام إلى أنه بغير حكم الله تعالى من تلقاء نفسه
وأباح طوائف من الكفار الميتة وجادلوا المسلمين فيها
وكانوا يقولون: تستحلون ما تقتلون ولا تستحلون ما يقتله
الله تعالى وأباح آخرون الخنزير والدم فأنزل الله تعالى
أنه لم يحرم إلا ما أحلوه وأنهم مراغمون لما أنزل الله
تعالى على نبيه عليه السلام وتجري الآية على مذهب من يقول
لمن يخاطبه لم تأكل اليوم حلاوى؟ فيقول المجيب: لم آكل
اليوم إلا الحلاوى.
1235- وهذا [استكراه] عندي في الكلام على الآية ولكن يعضده
عندي ما هو مجمع عليه في أمور ومذهب مالك مسبوق بالإجماع
فيها فإنا لا نشك في اجتناب أصحاب النبي عليه السلام أكل
الحشرات وغيرها واعتقادهم أنها بمثابة المحرمات وكذلك
الخمر محرمة وليس لها ذكر في هذه الآية ونزولها مسبوق
يتحريم الخمر فإذا ظاهر الآية متروك بالإجماع ولا يعتد [مع
تحققه] بخلاف مالك بعده فينتظم من ذلك الآية على ما ذكره
الشافعي.
مسألة:
1236- إذا ورد عام وخاص في حادثة وتسلط الخاص [على العام]
إجماعا وورد مثله عام وخاص فالوجه تنزيل العام على موجب
الخاص.
ومثال موضع الخلاف والوفاق ما نصفه الآن أما المتفق عليه
فتنزيل قوله
ج / 2 ص -199-
قوله
عليه السلام:
"في الرقة ربع العشر"1 على قوله:
"ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة"2
والحديث الأول يعم القليل والكثير والحديث الثاني يخص
الزكاة بالنصاب فهذا متفق عليه وسببه أن المقيد من الخبرين
نص في نفي الزكاة عما قصر عن خمس أواق والخبر الأول ظاهر
غير مقصود والغالب على الظن أن المراد بيان قدر الزكاة.
1237- فأما ما أختلف العلماء فيه وهو [في] معنى ما وصفناه
فقوله عليه السلام:
"فيما سقت السماء العشر" مع قوله:
"ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة"3.
فلم يعتبر أبو حنيفة النصاب وتعلق بظاهر قوله عليه
السلام:
"فيما سقت السماء العشر"4 وقال الشافعي أقصى الممكن منه تسليم ظاهره.
على أن الأمر على خلاف ذلك فإنه لا يخفى على الفاهم أن
الغرض من مساق الحديث الفصل بين العشر وبين نصف العشر فإنه
عليه السلام قال: "فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح
أو دالية نصف العشر"5 وخمسة أوسق نص فلا عذر لأبي حنيفة في
تركه.
وضرب الشافعي ما [في الورق] من الخبرين مثالا ورأى ما ذكره
مسلكا قطعيا وألحق الشافعي بهذا الفن قوله عليه السلام:
"في أربعين شاة, شاة"6
مع قوله:
"في سائمة الغنم الزكاة".
وهذا دون القسم الأول
فإن اشتراط السوم متلقى من المفهوم ونفي الزكاة عما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك في "الزكاة" باب "11", حديث "23".
2 مسلم في "الزكاة" " "6" والنسائي "5/36" والبيهقي "4/84"
وابن خزيمة "2298, 2299".
3 البخاري في "الزكاة" "4/32", والبيوع "83" والمساقاة
"17" ومسلم في "الزكاة" "1,3, 4, 6" والبيوع "71", وأبو
داود في "الزكاة" "2" والبيوع "20, 98, 296" والترمذي في
"الزكاة" "7", والنسائي في "5" وابن ماجه في "6", والدارمي
في "الزكاة "1, 2", وأحمد "2/92, 237, 402".
4 سبق تخريجه.
5 سبق تخريجه.
6 مالك في "الزكاة" حديث "23".
ج / 2 ص -200-
دون
خمسة أوسق منصوص عليه على وجه لا يقبل التأويل.
مسألة:
- 1238 إذا تعارض عمومان من الكتاب [أو السنة] فظاهرهما
التناقض والتنافي مثل قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}1
فهذا ظاهر في وضع السيف فيهم حيث يثقفون.
وقال في آية أخرى حَتَّى:
{يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}2
فظاهر الآية أخذ الجزية من كل كافر كتابيا كان أو وثنيا.
وقال عليه السلام:
"خذ من كل
حالم دينارا"3.
وظاهر هذا جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير تفصيل.
وقال عليه السلام:
"أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"4
وظاهر هذا أن الجزية لا تؤخذ وأن ليس بيننا وبين الكفار
إلا السيف أو الإسلام.
1239- وقال بعض الفقهاء فيما ذكرناه وأمثاله: الوجه الجمع
بين الظاهرين في المقدار الممكن فنأخذ الجزية من أهل
الكتاب لآية الجزية ونضع السيف فيمن ليس متمسكا بكتاب ولا
شبهة كتاب لظاهر الآية الواردة في القتل.
وزعم هؤلاء أن هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحدة من
الآيتين وكذلك القول في الخبرين وهؤلاء يرون تصرفا في
الظواهر مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دلالة.
1240- وهذا مردود عند الأصوليين فالظاهر إذا تعارضهما إلا
أن يتجه تأويل وينتصب عليه دليل كما أوضحنا سبيل ذلك في
كتاب التأويلات.
وما ذكره الفقهاء من الجمع احتكام لا أصل له ولو لم يقم
عليه دليل لكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "5" سورة التوبة.
2 آية "29" سورة التوبة.
3 الإرواء "5/95/1254" وعزاه إلى الشافعي وقال: صحيح.
4 البخاري في "الإيمان" "17" ومسلم في "الإيمان" "32" وأبو
داود في "الزكاة" "1" والترمذي في "الإيمان "1, 2",
والنسائي في "الزكاة" "3", وابن ماجه في "الفتن" "1" وأحمد
"1/11, 78" "2/314".
ج / 2 ص -201-
ذلك الممسك متضمنا تعطيل الظاهرين وإخراجهما من حكم العموم من
غيره دليل وليس أحد الظاهرين أولى بالتسليط
على الثاني من الآخر وكل عموم خص فلا بد من
عضد تخصيصه بدليل ونحن إنما نخص الجزية
بالكتابيين بأخبار وآثار مسطورة في كتب الفقه.
والغرض من هذا الفصل إجراء الظاهرين على
تعارضهما من غير أن يجعل أحدهما دليلا في
تخصيص الثاني ثم يجعل الثاني دليلا في تخصيص
الأول وهذا لا سبيل إليه.
ولكن اتجه في كل ظاهر تخصيص افتقر ذلك التخصيص
إلى دليل غير الظاهرين وإن لم يتجه تعلقنا
بالترجيح إن وجدناه فإن لم نجد نزلنا عن
التعلق بالظاهرين.
مسألة:
1241- إذا تعارض ظاهران وأحدهما وارد على
سبب خاص والثاني غير مطلق وارد على سبب.
أما من قال بتخصيص اللفظ العام بمورده فلا شك
أنه يخصصه به.
وأما من رأى التمسك بالعموم دون السبب فإذا
تعارض عمومان كما وصفناه والتفريع على أن
الاعتبار بعموم اللفظ فإنه يوهيه ويحطه عن
رتبة عموم اللفظ المطلق والترجيح يغلب على
الظن من منشأ الدليل.
واللفظ العام يغلب على الظن حمله على مقتضى
شموله فإذا عارضه لفظ آخر ينحط عنه في غلبة
الظن آخر عن الأول.
وهذا هو السر الأخفى في الترجيحات فلا وجه
للترجيح من طريق النظر في النصوص إلا أن يحمل
ذلك على عمل المجمعين والظاهر يقوى وقع
الترجيح فيها وهو متضح في طريق النظر فإن
المتعلق فيه غلبة الظن وقد تحقق من الأولين في
تعارض الظواهر الاستمساك بالأظهر فالأظهر.
مسألة:
1242- إذا تعارض ظاهران وفي أحدهما ما
يقتضي التعليل في [صيغة التعميم] فهو مرجح على
العام الذي عارضه وليس فيه اقتضاء التعليل
والسبب فيه أن التعليل.
ج / 2 ص -202-
في صيغة العموم من أقوى الدلالات على ظهور قصد التعميم حتى ذهب
ذاهبون إلى أنه نص ممتنع تخصيصه فإن قدر نصا
فلا شك في تقديمه على الظاهر المعرض للتأويل
وإن اعتقد ظاهرا فهو مرجح على معارضه لاختصاصه
بما يوجب تغليب الظن.
1243- وكشف الغطاء في هذا عندنا وهو مما أراه
سر هذه الأبواب ولم نسبق بإظهاره فنقول إذا
صدر من الشارع كلام غير مقيد بسؤال ولا حكاية
حال ولاح قصد التعميم من إجرائه الحكم الذي
فيه العموم مقصودا [لكلامه] [فما] يقع كذلك
فاللفظ في المتماثلات نص وليس من الظواهر
والضابط فيه أنما لا يخلو عن ذكر المتكلم
وعلمه وقت قوله واللفظ في الوضع يتناوله وقد
لاح بانتفاء التقييدات وقرائن الأحوال قصد
التعميم فلو تخيل متخيل قصر اللفظ على بعض
المسميات المتماثلة لكان ذلك عندنا خلفا
وتلبيسا وإنما يسوغ الخروج عن مقتضى اللفظ
وضعا فيما يجوز تقدير ذهول المتكلم عنه وهذا
في حكم التعميم بناء عظيم.
وتمام الغرض فيه بذكر معارض لذلك على المناقضة
فنقول مستعينين بالله تعالى:
1244- لو ظهر لنا خروج معنى عن قصد المتكلم
وكان سياق الكلام يفضي إلى تنزيل غرض الشارع
على قصد آخر فلست أرى التعلق بالعموم الذي ظهر
فيه خروجه عن قصد الشارع وهو كقوله عليه
السلام:
"فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو
دالية نصف العشر"1 فالكلام مسوق لتعيين [العشر ونصف العشر فلو تعلق الحنفي بقوله
عليه السلام:
"فيما
سقت السماء العشر"، ورام
تعليق العشر بغير الأقوات فلسنا نراه متعلقا
بظاهر فهذا طرف.
1245- ولو نقل لفظ ولم يظهر فيه قصد التعميم
ولا تنزيل الكلام على مقصود آخر فهذا هو الذي
أراه ظاهرا وهو الذي يتطرق التخصيص إليه.
1246- وقد رأى القاضي التعلق بالقسم الأول
الذي أخرجته عن الظواهر على رأي المعممين ثم
قال: هذا يعارضه أدنى مسلك في الظن ويتسلط
عليه التأويل والتخصيص والرأي عندي فيه قد
قدمته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
ج / 2 ص -203-
والدليل عليه: أن الشارع إذا كان مقصوده بيان العشر ونصف العشر لو
أخذ يفصل الأجناس وهو يبغي غيرها يعد ذلك
تطويلا نازلا عن الوجه المختار في اللغة
العالية فتقدير التعميم يشير إلى أنه [لو لم]
يرد العموم لفصل الأجناس ولو فصلها لكان مائلا
عن الوجه الأحسن في النظم.
وإذا تمهد هذا الأصل فالذي ذكره الأصحاب من أن
علة الشارع لا تنقض محمول على تقدير ما قصد
التعميم فيه نصا فليفهم الناظر ذلك وليقف عليه
عند هذا وقفة باحث.
مسألة:
1247- وإذا تعارض ظاهران وقد تطرق التخصيص
إلى أحدهما فالمذهب الذي ذهب إليها المحققون
أن الذي لم يتطرق إليه تخصيص مرجح.
فأما المعتزلة فإنهم قضوا بأن اللفظ الذي خص
في بعض المسميات صار مجملا في الباقي ولا
يعارض المجمل ظاهرا.
وأما أهل الحق وإن لم يحكموا بالإجمال فإنهم
يرون تعميم اللفظ في الباقي أضعف في حكم الظن
من اللفظ الذي لم يجر فيه تخصيص فإذا لاح وجه
في غلبة الظن من منشأ ظهور الظاهر كان ذلك
ترجيحا مقبولا.
مسألة:
1248- إذا تعارض ظاهران أو نصان وأحدهما
أقرب إلى احتياط فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن
الأحوط مرجح على الثاني وزعموا أن الذي يقتضيه
الورع وإتباع السلامة هذا واحتجوا بأن قالوا:
اللائق بحكمة الشريعة ومحاسنها الاحتياط فإذا
تعارض لفظان غلب على الظن أن الذي نقله صاحب
الاحتياط صدق وكأن القواعد تغلب على الظن ذلك
وتؤازر الرأي في ذلك.
1249- وقال القاضي: لا مستروح إلى هذا ولا
معنى للترجيح بالسلامة وما ذكره هؤلاء من
شهادة الأصول وإثارتها تغليب الظن يعارضه أن
العدل الذي نقل الثاني لا يتهم ولا يظن به
العدول عن قاعدة الاحتياط إلا بثبت واختصاص
بمزية حفظ.
ج / 2 ص -204-
وقد يتخيل أن ما جاء به الأخر بناه على ما [رآه] من ظاهر الاحتياط
وحمل عليه نظم لفظه من غير ثبت في النقل ثم
قال القاضي: لا وجه للترجيح وإن انقدح ما
ذكرناه آخر فيما لا يوافق الاحتياط انخرمت
الشهادة كما ذكرناها أولا فالوجه التعارض.
مسالة:
1250- إذا تعارض لفظان متضمن أحدهما النفي
ومتضمن الثاني الإثبات فقد قال جمهور الفقهاء:
الإثبات مقدم.
وهذا يحتاج إلى مزيد تفصيل عندنا: فإن كان
الذي [نقله النافي] إثبات لفظ عن الرسول عليه
السلام مقتضاه النفي فلا يترجح [على ذلك]
اللفظ الذي متضمنه الإثبات لأن كل واحد من
الراويين متثبت فيما نقله.
وهو مثل أن ينقل أحدهما أن الرسول عليه السلام
أباح شيئا وينقل الثاني أنه قال لا يحل وكل
ناف في قوله مثبت.
فأما إذا نقل أحدهما قولا أو فعلا ونقل الثاني
أنه لم يقل ولم يفعل فالإثبات مقدم لأن الغفلة
تتطرق إلى المصغي المستمع وإن كان محدا
والذهول عن بعض ما يجري أقرب من تخيل شيء لم
يجر له ذكر.
مسألة:
1251- إذا تعارض ظاهران أو نصان أحدهما
يوافق المعروف المعتاد والآخر ما جرى به العرف
فالقول في هذا كالقول في موافقة أحد المنقولين
للاحتياط ومخالفة الآخر إياه وقد مضى فيه قول
بالغ.
والمختار التعارض في المسألتين.
فهذا الذي ذكرناه كلام بالغ في ترجيح الألفاظ
النصوص منها والظواهر ومن أحاط بها وأحكم
أصولها لم يخف عليه مدرك الكلام فيما يرد عليه
من أمثالها. |
|