البرهان في أصول الفقه

ج / 2 ص -205-       باب: في ترجيح الأقيسة.
1252- هذا الباب هو الغرض الأعظم من الكتاب وفيه تنافس القياسون وفيه أتساع الاجتهاد وهو يستدعي تجديد العهد بمراتب الأقيسة فنقول:
المرتبة العليا المعدودة من مسالك القياس ما يقال: إنه في معنى الأصل وقد سبق تأصيله وتفصيله وتقدم القول في أنه: هل يعد من الأقيسة أو يعد من مقتضيات الألفاظ وهو على كل حال مقدم على ما بعده.
والسبب فيه أنه ملتحق بأصله قطعا والتحاقه به مقطوع غير مظنون ولا شك في تقديم مراتب العلوم على درجات الظنون ثم يلي ذلك من قياس المعنى ما يطرد وينعكس ويليه القياس الذي يسمى قياس الدلالة كما سبق وصفه ويلي ذلك قياس الشبه فأما ما يعلم فلا ترتيب فيه.
مراتب قياس المعنى.
1253- وأما قياس المعنى فهو على مراتب لا يضبطها ضابط فإن مسالك الظنون لا يتأتى حصرها وهي وإن كانت منحصرة من جهة تعيين مناسبتها لأصولها الشريعة فلا يتأتى للناظر الوصول إلى ضبطها بعد وربطها بحد ولكنا نحرص على تقريب الأمور والإشراف على ما يكاد أن يكون تشوفا إلى الضبط ونتقي فيما نحاوله مصالح لا نرى تقدير ها مأخذ الأحكام ونحاذر فيها الوقوع في منخرق مذهب مالك ومتسع مسلكه المفضى إلى الخروج عن الحصر والضبط.
ثم قد ذكرنا في الاستدلال طرفا من ذلك ونحن نعيده ونزيده تقريرا وتقريبا فنقول:
1254- إذا وجدنا أصلا استنبطنا منه معنى مناسبا للحكم فيكفي فيه ألا يناقضه أصل من أصول الشريعة ويكفي في الضبط فيه استناده إلى أصل متفق الحكم [ومرجوعنا] في ذلك وجداننا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترسلين في استنباط المصالح من أصول الشريعة من غير توقع وقوف عند بعضها.
1255- فأما المعنى الذي لا نجد له أصلا ولا مستندا فهو الذي سميناه الاستدلال ونحن نرى التعلق به كما مهدنا القول فيه.

 

ج / 2 ص -206-       ولا يجوز التعلق عندنا بكل مصلحة ولم ير ذلك أحد من العلماء ومن ظن ذلك بمالك رضي الله عنه فقد أخطأ فإنه قد اتخذ من أقضية الصحابة رضي الله عنهم أصولا وشبه بها مأخذ الوقائع فمال فيما قال إلى فتاويهم وأقضيتهم فإذا لم ير الاسترسال في المصالح ولكنه لم يحط بتلك الوقائع على حقائقها وهذا كبنائه قواعد على سيرة عمر رضي الله عنه في أخذه شطرا من مال خالد وعمرو وقد قدر ذلك تأديبا منه.
وهذا زلل فإنه لا يمتنع أنه رآهما آخذين من مال الله تعالى ما لا يستحقان أخذه على ظن وحسبان وكان يرعى طبقة الرعية بالعين الكالئة والأليق بشهامته وإيالته أن نظره الثاقب كان بالمرصاد لما يتعديان فيه الحدود عامدين أو خاطئين إذ كانا موليين على مال الله تعالى وإذا أمكن ذلك وهو الظاهر فحمله على التأديب لا وجه له ولو صح عنه أخذ مال رجل غير متصرف في مال الله تعالى لكان يظهر ما تخيله مالك.
وكذلك كل واقعة ربط مالك أصلا من أصوله بها فإنه لا يرى ذلك الأصل استحداث أمر وهو عند الباحثين ينعطف على أبلغ وجه إلى قواعد الشريعة.
فخرج مما ذكرناه أن مالكا ضم وقائع الصحابة إلى الأمور الظاهرة من الشريعة ولم يظن بهم افتتاح أمر من عند أنفسهم ولكنه قال: الأخبار [منقسمة] إلى ما نقلت صريحا وإلى ما فهمنا ضمنا فإنا لا نظن بأئمة الصحابة استقلالهم بأنفسهم في تأسيس أصول فهذا بيان مذهبه.
1256- ونحن نرى الاقتصار في مآخذ الأحكام على أصول الشريعة وأقضية الصحابة محمولة عليها ولا نتخيل أخبارا استندوا بها وسكتوا عن نقلها مع علمنا بأنهم كانوا يبرئون أنفسهم عن الاستقلال ويعضدون ما يحكمون به بما يصح عندهم من أخبار الرسول عليه السلام وهذا وجه انفصال أحد المذهبين عن الثاني ثم الاستدلال المقبول هو المعنى المناسب الذي لا يخالف مقتضاه أصلا من أصول الشريعة كما ذكرناه في المعنى المستنبط من الأصول ويظهر أثر ذلك بضابط في النفي والإثبات وهو أن كل معنى لو أطرد جر طرده حكما بديعا لم يعهد مثله في الزمان الأطول فيدل خروج أثره عن النظير على خروج معناه المقتضى عن كونه معتبرا.
والدليل عليه أنه لو كان معتبرا لوجب في حكم العادة القطع بوقوع مثله في.

 

ج / 2 ص -207-       الزمن المتمادي وبمثل هذا المسلك قطعنا [بأنه] لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وإذا كان أثر المعنى لا يعدم نظيرا قريبا ولم يقتض طرد المعنى مخالفة أصل من الأصول فهو استدلال مقبول معمول به.
وبيان ذلك بالمثال: أن مالكا لما زل نظره كان آثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة محجمة دم من غير سبب متأصل في الشريعة ومنه [تجويزه التأديب] بالقتل في ضبط الدولة وإقامة السياسة وهذا إن عهد فهو من عادة الجبابرة وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض عصر الصحابة.
1257- فإذا تجدد العهد بما ذكرناه فنحن نرسم بعده مراتب في الإخالات وننزل كل مرتبة منزلتها ونرى أن مدركها على حقائقها مشرف على طرف المعاني فإذا عسر الوفاء باستيعاب أمثلة الأقيسة المعنوية في هذا المجموع فالوجه أن نتخذ أصلا من أصول الشريعة يشتمل على مجامع القول في وجوه الإخالات ونبين فيه وجوه الترتيب فيها وما يقع في الرتبة العليا والرتبة التي تليها إلى استيعاب مدارك الفقه ومعانيها ثم [يقيس] الفطن على ما نرسمه فيها ما يدانيها.
المرتبة الأولى:
1258- فليقع الكلام في القصاص وما يقتضى إيجابه وما يوجب اندفاعه فنقول أوجب الله القصاص في نص كتابه زجرا للجناة وكفا لهم وأشعر بذلك قوله تعالى:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}1 واتفق المسلمون على هذه القاعدة ولم ينكرها من طبقاتهم منكر.
ثم قال أئمة الشريعة: كل مسلك يطرق إلى الدماء الهرج على جريان واسترسال واستمكان من غير حاجة إلى أمر نادر ومعاناة شاقة فهو مردود فإن المقصود المتفق عليه من القصاص صيانة الدماء وحفظ المهج فمن خالف هذا فهو لو قدر ثبوته [ناقض] له والثالث نصا وإجماعا لا سبيل إلى نقضه.
فإذا تمهد [ذلك] فكل معنى يستند إلى هذه القاعدة ويوافقها من غير اختلاف في مجراه فهو على المرتبة العليا من أقيسة المعاني.
1259- وهذا يمثل [بالقول في القتل] بالمثقل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "179" سورة البقرة.

 

ج / 2 ص -208-       ولا شك أن من نفي القصاص به مناقض للقاعدة من جهة أن القصد إلى القتل بهذه الآلات أمر ثابت وهو ممكن لا عسر في إيقاعه وليس القتل به مما يندر [فإذا لم يعسر ولم يندر] فكان نفي القصاص بالقتل بها مضادا لحكمة الشريعة في القصاص.
فإذا ناكر الخصم العمدية في القتل بهذه الآلات سفه عقله ولم يستفد به إيضاح عسر القتل.
1260- وإن شبب بتعبد في آلة القصاص وكان ذلك في حكم العبث فإن تقدير التعبد مع ما تمهد من الحكمة يناقض الحكمة المرعية في العصمة فليفهم الفاهم مواقع التعبد.
1261- وإن تمسك بصورة في العكس وقال الجرح الذي لا يغلب اقتضاؤه إلى الهلاك إذا أهلك أوجب القصاص كان هذا غاية في خلاف الحق فإن الجرح لاختصاصه بمزيد الغور وإمكان السريان إذا اقتضى القصاص حسما لمادة الجناية وردعا للمعتدين فكيف يستجيز ذو الدين أن يبنى عليه إسقاط القصاص بالقتل الذي يقع بالأسباب التي تقتل لا محالة؟
وليعتبر المعتبر عن هذا الأصل فإنه أجلى أقيسة المعاني وأعلى مرتبة فيها فإنه لا حاجة في ربطه بالقاعدة إلى تكلف أو تقرير أو تقريب وتحرير.
ولو قيل: هو الأصل بعينه [و] ليس ملحقا به لم يكن [بعيدا].
1262- ومخالف ما يقع في هذه المرتبة مائل عن الحق على قطع وليس القول فيها دائرا في فنون الظنون وما يكون بهذه الصفة لا يتصور أن يعارضه معارض.
1263- ونضرب لهذا مثالا آخر قياسا.
فنقول: الغرض من شهادة الشهود إيضاح المقصود المشهود به ثم للشرع تعبدات وتأكيدات في رتب البينات على حسب أقدار المقاصد.
وأعلى البينات بينة الزنا فإذا شهد على صريح الزنا أربعة من الشهود العدول وتناهى القاضي في البحث وانتفت مسالك التهم فهذا أقصى الإمكان في الإيضاح والبيان فلو شهدوا وأقر المشهود عليه مرة واحدة لم يؤثر إقراره ووجب القصاص بموجب البينة فإن إقراره تأكيد البينة ولا يحط من مرتبة البينة شيئا.
فإذا قال أبو حنيفة: إذا أقر المشهود عليه مرة سقطت البينة ولم [يثبت] بذلك.

 

ج / 2 ص -209-       الإقرار شيء لم يجز أن يكون هذا مضمون في أصل الشريعة المحمدية فإن الإقرار لم يعارض البينة مناقضا ثم هو ذريعة يسيرة غير عسيرة في ترك البينات ثم المقر لا يحلف حتى يتخيل ارعواؤه ولو طلبنا أمثال ذلك وجدنا منه الكثير.
المرتبة الثانية:
1264- تعتمد على قياس معتضد بالأصل ولكنه قد يلقى الجامع احتياجا إلى مزيد تقرير وتقريب ويعن للخصم تخيل فرق وإن كان إفساده هينا.
ومثال ذلك: أنه قد ثبت وجوب القصاص على المشتركين في القتل وهذا مستند إلى قاعدة الشرع في تحقيق العصمة وزجر الجناة فإن الاستعانة في أمثال ذلك ليست بالعسيرة والقتل على [الاشتراك] غالب الوقوع فاقتضى معنى القصاص في الأصل إيجاب القتل على الشركاء وهذا يتطرق إليه الكلام قليلا من جهة أن كل واحد [منهم] ليس قاتلا وفعل كل واحد منهما يخرج أفعال شركائه عن الاستقلال بالقتل وقتل غير القاتل فيه مخالفة الموضوع المشروع في تخصيص القتل بالقاتل.
وفيه وجه آخر: وهو أن إمكان القتل بالمثقل فوق إمكان الاستعانة وعن هذا تردد بعض العلماء في إيجاب القصاص على الشركاء وصرح بعض المفتين بأن قتل المشتركين خارج عن القياس.
والمعتمد فيه قول عمر رضي الله عنه إذ قال: "لو تمالا عليه اهل صنعاء لقتلتهم به"، فنشأ من منتهى هذا الكلام أن الجاني محرم الدم معصوم [فإذا تطرقت الاحتمالات لم يجز الهجوم على قتل معصوم].
1265- والمسلك الحق عندنا أن المشركين يقتلون بحكم قاعدة القصاص ولا نظر إلى خروج بعضهم عن الاستقلال بالقتل إذا كان يظهر بسبب درء القصاص [عنهم] هرج ظاهر فلا نظر مع الظهور إلى انحطاط إمكان الاشتراك قليلا عن الانفراد بالقتل بالمثقل فإنه يعارض ذلك أن المنفرد لا يستمكن استمكان المشتركين ويتطرق إلى الاستقلال بالقتل عسر [من وجه] حتى تمس الحاجة إلى فرض كلام في أيد وضعيف أو تقدير اغتيال [فيعتدل] المسلكان حينئذ وخروج كل واحد عن كونه قاتلا لا وقع له مع إفضاء درء القصاص إلى الهرج مع العلم بأن القصاص ليس على قياس الأعواض.

 

ج / 2 ص -210-       وأما كون الجاني معصوما فلا أثر له في هذا المقام مع أنه سعى في دم من غير أن يفرض له تقدير عذر فكان ما أقدم عليه مسقطا حرمته وخارما عصمته والشبهات إنما تنشأ من فرض أمر يقدر للجاني عذرا على قرب أو على بعد وهو منشأ الشبهات على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
1266- فإذا تمهدت هذه القاعدة [فغرض هذه] المرتبة إلحاق فرع بهذا الأصل مع تقدير الوفاق فيه.
فنقول في الطرف: إنه صين بالقصاص على المنفرد فليصن بالقصاص على المشتركين كالنفس وهذا أجلى ولكنه في أعلى مراتب الظنون.
1267- فإن قيل: ما سبب خروج هذا القياس عن مسالك العلوم مع استبانة [استقائه] من القاعدة كما ذكرتموه؟ قلنا: في القاعدة على الجملة نظر.
أما إسقاط أصل القصاص عن المشتركين فمعلوم بطلانه قطعا فإنه مبطل لحكمة العصمة وأما قتل واحد من المشركين لا بعينه مع تفويض الأمر إلى رأى من له القصاص فليس يرد ذلك ولكنه يقع في مجال الظنون.
ثم في إلحاق الطرف بالنفس ثلاثة أشياء يطرق كل واحد إليه الظن:
أحدها: أن قائلا لو قال: لو أفضى قطع الطرف إلى النفس لوجب القصاص على المشتركين وتقرير ذلك مردعة لهم فلا يؤدي ذلك إلى الهرج هذا وجه واقع ودافعه أنه لو صح لسقط القصاص في الطرف أصلا فإذا جرى القصاص مع الاندمال أشعر ذلك باعتناء الشرع بتخصيصه بالصور حتى كأن الطرف مع النفس كزيد مع عمرو في أن كل واحد منهما مقصود بالصون.
1268- والوجه الثاني: مما يقتضي الظن ظن الخصم أن ما ذكرناه من الجمع في حكمه القصاص ينقضه تمييز فعل أحد الشريكين في القطع عن فعل الشريك الثاني فإذا كان كذلك فهو ممكن غير عسير ثم لا قصاص على واحد منهما وهذا إن سلم فهو لعمري قادح في الجمع وقد صح فيه منع كما يعرف الفقهاء.
1269- والوجه الثالث: أن الطرف مما يقبل التبعيض فيصور الخصم أن القطع الواقع على صورة الشركة يحمل على وقوعه على التبعيض إذا كان المجني عليه قابلا للتبعيض.

 

ج / 2 ص -211-       وهذا زلل فإن إمكان تصوير ما يسقط القصاص لا يدرؤه إذا لم يكن وكان بدله ما يشابه الاشتراك في الروح فلو توجهت هذه الجهات وبعد القول في الأصل بعض البعد كان ذلك دون المرتبة الأولى المستندة إلى العلم [والقطع] فهذا واضح جدا.
ومن حكم وضوحه أنه لا يثبت له معارض إذ لو قدر له معارض لكان ناشئا من تقدير شبهة توجب المحافظة على حكمة العصمة في حق الجاني ومآخذ الشبهات ما يشير إليه المعاذير ولا عذر للجاني.
وإن حاول الخصم تسبيب المعارضة في جهة أن واحدا لم يقطع اليد بطل ذلك عليه بالنفس.
ولو رجع وزعم أن القصاص على الشركاء على خلاف القياس كان ذلك روم اعتراض وقد أوضحنا بطلانه والمخيلة العظمى في ظهور قياس المعنى امتناع المعارضة المحوجة إلى الترجيح.
فإن عارضوا القصاص في الطرف بقطع السرقة وشبهوا الاشتراك في قطع اليد بالاشتراك في سرقة نصاب لم يكن ما جاءوا به مأخوذا من قاعدة القصاص.
ونحن لم نعن بامتناع المعارضة انسداد المسالك البعيدة وإنما المعارضة الحاقة ما ينشأ من وضع الكلام ولا شك [في] أن قطع السرقة بعيد في أصله وتفصيله عن القصاص فإن الأصل المعتبر في قطع السرقة أخذ مال غير تافه على الاختفاء من حرز مثله والغرض بشرع القطع ردع السارق عن تناول المال والنفيس وفي النفس مزجرة عن ركوب الأخطار بسبب التافه.
وهذا المعنى يوجب نفي القطع عن الشركاء فإن كل واحد منهم على حصته من المسروق وذلك المقدار لا حاجة إلى إثبات رادع عنه.
وهذا لا يتحقق في القصاص أصلا [فيما نحن فيه] فإن معتمده الصون وتمهيد العصمة وليس في قاعدته انقسام إلى التافه والنفيس وخروج كل جان عن الاستقلال بكل الجناية لا يسقط القصاص عنه إذ لو قيل به لخرم قاعدة الصون على أنه محقق في النفس كما سبق.
1270- وإذا لم تكن المعارضة على حقها في منشأ الاجتهاد لم ينتظم فرق

 

ج / 2 ص -212-       ورجع كلام المحقق إلى تباين القاعدتين وتباعدهما وإيضاح ابتناء كل واحد منهما على أصل غير معتبر في القاعدة الأخرى.
وهذا لا ينتظم فرقا ويدخل في أقسام فساد الوضع ووجب نسبه الخصم إلى البعد عن مأخذ الكلام والاكتفاء بتلفيق لفظي عرى عن التحقيق.
1271- والذي يحقق ذلك أن من سرق نصابا واحدا في دفعات [وهو في كل دفعة] يهتك حرزا لم يستوجب قطعا ولو قطع جان يدا واحدة بدفعات استوجب القصاص عند الإبانة.
1272- ويتعلق بالكلام في هذا القسم أمر يتعين الاعتناء به وهو مزلة مالك ونحن نقول فيه: إذا ثبت ارتباط حكم في أصل بحكمة مرعية فيجوز الاستمساك بعينها في إلحاق الفرع بالمنصوص عليه في عين الحكم المنصوص.
ولا يجوز تقدير حكم آخر متعلق بحكمة تناظر الحكمة [الثابتة] [في الأصل المنصوص عليه فإن هذا يجر إلى الخروج عن الضبط ويفضي في مساقه إلى الانحلال فإن الحكمة الثانية] لو قدرت لدعت إلى ثالثه ثم لا وقوف إلى منتهى مضبوط.
1273- وبيان ذلك بالمثال: أن المال صين بشرع القطع إبقاء له على ملاكه وزجرا للمتشوفين إليه ولو فرض تعرض للحرم بمراودات دون الوقاع فأدناها يبر على أقدار الأموال ولا يسوغ نقل القطع إليه وكذلك القول في أمثاله.
1274- وعند ذلك انتشر مذهب مالك وكاد يفارق ضوابط الشريعة واعتصم بألفاظ وعيدية معرضة للتأويل منقولة عن جلة الصحابة وقد يدنو المأخذ جدا فيزل الفطن إذا لم يكن متهذبا دربا بقواعد الاجتهاد.
1275- وبيان ذلك [بالمثال] أنا إذا قلنا: قطع السرقة مشروع لصون الأموال وزجر السارقين فألزمنا عليه ما إذا نقب الواحد الحرز وسرق الآخر فلا قطع على وواحد منهما وهذا يخرم الحكمة المرعية في [صون] الأموال فإن [التسبب] إلى ما ذكرناه يسير ممكن.
وهذا على الحقيقة غامض من جهة أن الشخص الواحد إذا نقب وسرق فقد أخرج النقب الحرز عن حقيقته ولم يقدم على المال إلا وهو في مضيعة ثم لم نقل لا قطع عليه من حيث انفصل هتك الحرز عن أخذ المال وكان من الممكن أن

 

ج / 2 ص -213-       يختص القطع بمن يتسلق على الحرز ويأخذ المال من غير هتك.
وهذا مجال ضيق ويتجه فيه خلاف العلماء وحق الأصولي ألا يعرج على مذهب ولا يلتزم الذب عن مسلك واحد ولكن يجري مسلك القطع غير ملتفت إلى مذاهب الفقهاء في الفروع.
1276- ثم القول الممكن في السارق والناقب أن صون الأموال وإن اثبت فهو مخصوص بالسرقة من الحرز وليس [إلينا] وضع الحكم والمصالح ولكن إذا وضعها الشارع اتبعناها.
1277- ومن لطيف الكلام في ذلك أن المعلل إذا قيد تعليله [الفقهي] المعنوي يقيد غير مخيل لا على معنى الاستقلال ولا على الانضمام إلى أركان العلة المركبة فذلك التقييد مطرح في مسلك المعاني وطرق الإخالة إلا فيما نصفه وهو تقييد الكلام بحكم معين تعلق بحكمة معلومة.
وهذا كذكرنا صون المال عن السراق فإذا ألزمنا صون الحرم لم نلتفت إليه ولم نلتزم فرقا بين الصورتين فإن ذلك إنما ينشأ من رعاية المصلحة مع الانحصار على الحكم المنصوص عليه.
ثم ما ذكرناه ليس مختصا بحكم واحد بل هو مطرد في جمله المصالح الشرعية فكل مصلحة مختصة [بحكمها] وغاية القايس ضم جزئي في المنصوص عليه إلى القاعدة الكلية.
1278- فإن قيل: إذا قسم الطرف في حق الاشتراك على النفس فهل تنسبون إلى المحذور الذي ذكرتموه من مجاوزة موارد المصالح؟.
قلنا: إن كان ذلك مجاوزة فلا قياس إذا وينبغي أن يجتنب المنتهي إلى هذا المقام طرفي القياس والانحلال.
فنقول: ساوى الطرف النفس في الأصل وهو القصاص ثم ثبت الصون في النفس بإجراء [القصاص] على المشتركين فرمنا إلحاق الطرف المساوي للنفس [في أصل القصاص بالنفس] في فرع اقتضاه أصل القصاص وهذا غاية المطلوب في ارتباط الفرع بالأصل واقتضاء الأصل الفرع.
1279 - وإذا بلغ الكلام هذا المبلغ فليعلم الناظر أن أسد المذاهب في القول.

 

ج / 2 ص -214-       بالقياس الحق واجتناب الخروج عن الضبط مذهب الشافعي.
ولست أرى في مسالكه حيدا إلا في أصل واحد لم يحط بسر مذهبه [فيه فهمي] وهو: إثباته قتل تارك الصلاة فإنه لم يرد فيه نص وتقريب القول فيه يتضمن حكمه لم يثبت أصلها وهذا مشكل جدا فإن طمع [من] قصر فكره بتشبيه المأمور به بالمنهي عنه كان ذلك بعيدا غير لائق بمذهب هذا الإمام.
وهذا القدر كاف في التنبيه وقد نجز غرضنا في القول في المرتبة الثانية من قياس المعنى.
المرتبة الثالثة:
1280- نمثلها في القول بالمكره على القتل وفيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: أن القصاص على المكره دون المكره.
والثاني: وهو قياس مبين أن القصاص على المكره دون المكره وهو مذهب زفر.
والثالث: أن القصاص يجب عليهما وهو مذهب الشافعي.
1281- وأبعد المذاهب عن الصواب إيجاب القصاص على المكره دون المكره المحمول فإنه زعم أن فعل منقول إلى مكره وكأنه آلة له.
وهذا ساقط مع المصير إلى [أن] النهي عن القتل متجه مستمر على المكره القاتل فكيف يتحقق كونه آلة مع تكليف الشرع إياه ومن ضرورة كون الشيء آلة انقطاع التكليف عنه فتخصيص المكره بإلزام القصاص مع ما ذكرناه لا أصل له.
1282- [ووجه] مذهب زفر في القياس لائح وهو: أنه رأى المحمول ممنوعا ولم ير أثر الإكراه في سلب المنع والنهي والمباشرة تغلب على السبب إذا استقلت فارتبط بها التكليف والتصريف من الشارع.
1283- والذي يختاره أصحاب الشافعي ينبني على ما ذكرناه لزفر في استقلال المباشرة وهذا يقتضي إيجاب القصاص على القاتل المحمول ولكن لم ير هؤلاء إحباط الإكراه وإسقاط أثره [بالكلية] فإنه موقع القتل غالبا والإكراه من أسباب تقرير الضمان فيبعد تعطيله وإخراجه من البين وبعد إحباط المباشرة فالوجه تنزيلها منزلة الشريكين ولا شك أن فعل كل واحد من الشريكين يضعف فعل صاحبه من.

 

ج / 2 ص -215-       جهة أنه يخرجه عن كونه قتلا ثم لم يسقط الاشتراك القصاص عنهما.
فإذا لم يصر أحد إلى إسقاط القصاص عن الحامل والمحمول لضعف ما صدر عن كل واحد منهما أما ضعف المباشر فمن جهة كون المباشرة [محمولا] وأما ضعف الإكراه فمن جهة كون المكره المحمول منهيا واستمرار التكليف يوهي أثر الإكراه فليس أحدهما بالضعف أولى من الثاني فلا سبيل إلى تخصيص القصاص بأحدهما وقد ثبت أن القصاص أولى بأحدهما وقد ثبت أن القصاص لا يسقط عنهما وقرب تنزيلهما منزلة الشريكين.
1284- ولكن القول في هذا ينحط عن القول في الشريكين من جهة اختلاف السبب والمباشرة وخروج كل واحد منهما عن قياس بابه ثم يتعارض مأخذ مذهب زفر وأبي حنيفة والترجيح لزفر.
1285- ومأخذ إيجاب القصاص عليهما يتشوف إلى جمع نكتتي المذهبين مع امتناع إسقاط القصاص [عنهما جميعا وإيجاب القصاص] على شهود الزنا إذا رجعوا بعد إقامة الرجم أظهر من إيجاب القصاص على المكره الحامل من جهة أن الإكراه يضعف ببقاء التكليف على المحمول ولا خيرة للقاضي بعد إقامة البينة وليس ممنوعا منع المكره المحمول بل النية أوجبت على القاضي إقامة الرجم ولذلك لم يختلف قول الشافعي في وجوب القصاص عليهم اختلافه في المكره.
أما الشهود على القصاص إذا رجعوا فإن فرض رجوع المدعي واعترافه فلا وجه لوجوب القصاص على الشهود فالطريق القطع بتغليب المباشرة وإن فرض الكلام في استمرار المدعي على دعوى الاستحقاق فهذا ينحط في مرتبة الاجتهاد عن شهود الزنا فإن المدعي على خيرته.
ولو ذهبنا نستقصي هذه الأمثلة لطال الكلام وإنما غرضنا التنبيه.
1286- ولم يوجب الشافعي عقوبة في هذا المساق أبعد من إيجابه حد الزنا على المرأة إذا نكلت عن اللعان بعد لعان الرجل فإن هذا سفك دم بقول المدعي وهو في مسلك القياس يداني إيجاب القصاص بأيمان المدعي في مسلك لوث القسامة ولولا الخبر لما اقتضى القياس ذلك.
1287- وهذا أوان تغليب حق المدعي عليه من طريق القياس.
قال الشافعي: إذا كان القصاص لحقن الدم والهلاك لا يستدرك وإذا رجع

 

ج / 2 ص -216-       الغرض إلى حقن دم الباقين فرعاية حقن دم الجاني وهو غير مسفوك أولى واللعان أبعد من القسامة من جهة أن الشرط فيها ظهور اللوث عند الحاكم وهو غير مشروط في اللعان غير أن المعتمد في القسامة الخبر الصريح والمعتمد في اللعان يستند إلى شيئين:
أحدهما: أنا لا نجد بدا من الخروج عن قانون الحجج فالاستمساك بظاهر القرآن العظيم أقرب وحمل العذاب على الجنس بعيد.
وبالجملة نفي إيجاب الحد وتغليب حقن دمها أقرب عندي إلى مأخذ الشريعة.
1288- ومن عجيب الأمر أن قول الشافعي اختلف في القصاص:
هل يجب بأيمان القسامة؟ ولم يختلف في وجوب الحد على المرأة مع تعرض الحد الواجب [لله تعالى] فيه للسقوط بما لا يسقط القصاص به وسبب هذا أن خبر القسامة ورد في [الغرم] وآية اللعان اشتملت على ذكر العذاب وهذا وغيره في أمثال ما ذكرناه من قواعد الشريعة.
ونحن نختتمه بأمر بديع يقضي الفطن [العجب] منه:
1289- فالمرتبة الأولى: العلمية تكاد أن لا تكون جزءا من المنصوص عليه.
والمرتبة الأخيرة: نعنى اللعان والقسامة لا يستقل المعنى فيها ولم نرسمها مرتبة في القياس من حيث لم نرها مستقلة.
فهذه جملة كافية في التنبيه على المراتب وضابطها القريب من القاعدة والبعيد منها مراتب قياس الشبه.
1290- ونحن نذكر الآن مراتب قياس الشبه.
فنقول: مجال هذا القسم [عند] انحسام المعنى المخيل المناسب فإذا لم نجد معنى للحكم الثابت أو صادفنا ما يخيل غير صحيح على السبر فالوجه رد النظر إلى التشبيه.
1291- ثم مراتب الأشباه تنقسم إلى القريب والبعيد انقسام [مراتب] قياس المعنى.
فالواقع في المرتبة الأولى هو الذي يسميه الأصوليون في معنى الأصل ولا يريدون به المعنى المخيل وهذا إذا وقع معلوما كان في المرتبة العالية.

 

ج / 2 ص -217-       وقد سبق [القول في] الاختلاف فيها هل يسمى قياسا أو هو ملتقى من الألفاظ والنص؟
1292- والوجه عندنا في ذلك أن يقال إن كان في اللفظ إشعار به من طريق اللسان فلا نسميه قياسا كقوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم عليه فهذا وإن كان في ذكر فالعبودية مستعملة في الأمة وقد يقال للأمة عبدة وأما إذا لم يكن لفظ الشارع مشعرا في وضع اللسان بما ألحق به فهو قياس مفض إلى العلم وهو قاعدة الأشباه بعد ونظيره إلحاق الشافعي عرق الكلب بلعانة في التعبد برعاية العدد والتعفير.
1293- فإذا زال العلم وكان الشبه يفيد غلبة الظن ولا يفسد لدى السبر والعرض على الأصول [فهو مقبول] وإن لم يفد غلبة الظن فهو الطرد المردود عند المحققين والأشباه بين طرفي قياس المعنى والطرد.
1294- والذي لاح من كلام الشافعي أن أقرب الرتب من المراتب المعلومة إلحاق الزبيب بالتمر في الربا وأبعد منه قليلا بحيث لا يخرج عن الرتبة إلحاق [الرز بالحنطة والذرة بالشعير ثم يلي هذه الرتبة] الوضوء بالتيمم في الافتقار إلى النية ولهذا قال الشافعي [مستبعدا] طهارتان فكيف تفترقان؟
1295- ونحن نقول في ذلك كل شبة يعتضد بمعنى كلي فهو بالغ في فنه وذلك إذا كان المعنى لا يستقل مخيلا مناسا.
وبيان ذلك فيما وقع المثل به: أن التيمم ليس فيه غرض ناجز وقد بينا من كلى الشريعة أنها [مبنية] على الاستصلاح فإذا لم يلح صلاح ناجز يظهر من المآخذ الكلية ربط ما لا غرض فيه ناجز بصلاح في العقبى وهو التعرض للثواب ولا سبيل إليه إلا بقصد التقرب فإذا وجدنا طهرا كذلك متفقا عليه ثم كان المختلف فيه غير معقول المعنى ظهر فيه وقع التشبيه في الافتقار إلى النية المحصلة غرض العقبى.
1296- فليتخذ الناظر هذا معتبرا في الرتبة الأولى من الأشباه المظنونة ولم يبلغ مرتبة العلم للاختلاف الواقع بين الطهرين في أحكام وشرائط.
وإلحاق المطعومات التي لا تقدر بكيل ووزن طريقة الأشباه عندنا فإن مسالك.

 

ج / 2 ص -218-       الإخالات باطلة فلا يبقى إلا التشبيه.
ثم سبيل هذا التشبيه النظر إلى المقصود من المنصوص عليه وقد لاح أن المقصود هو الطعم وبطل اعتبار القوت لمكان الملح وسقط اعتبار [التقدير] لجريانه في الجنسين والجنس على وتيرة واحدة ولاح النظر إلى المقصود مع الاعتراف بأنه غير مستند إلى معنى معقول وهذا ينحط عما يتعلق بغرض في العقبى كما ذكرناه في القسم الأول من المظنونات.
ولولا ما ثبت عندنا في الاضطرار إلى تعليل المنصوصات في الربا لما لاح لنا فيها معنى ولا شبه ولكن إذا اضطررنا إليه لإجماع القياسين وجدنا إتباع المقصود أقرب مسلك ولهذا وقع في المرتبة الثانية.
1297- فإن قيل: هل ترون الشبه الخلقي في غير مجانسة ومماثلة معتبرا؟.
قلنا: لا، إلا أن نشير إلى أن اعتبار الخلقي أصل الشريعة كما ثبت ذلك في جزاء الصيد وقد ثبت قريب منه في الحيوانات المشكلة في الحل والحرمة.
وما ذكره أبو حنيفة في [اعتبار الانطراق] والانطباع في الجواهر المعدنية في الزكاة طرد عندنا.
1298- ومن أبواب الشبه ما يتعارض فيه المعنى والشبه على التناقض فيقع لذلك الشبه ثانيا وهو كالتردد في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة؟
فالذي يقتضيه القياس المعنوي عدم الضرب اعتبارا بجملة المملوكات والذي يقتضيه الشبه اعتباره بالحر.
فإن قيل: هذا أيضا في الشبه الخلقي وقد أنكرتموه.
قلنا: ليس الأمر كذلك فإن العبد يفرض قتله على الجهة التي يفرض فيها قتل الحر إذ قد يظن على بعد أن سبب التعاون في الحمل في الديات ما يقع [من] الخطأ بالقتل بين أصحاب الأسلحة وهذا يتفق في الحر والعبد على جهة واحدة.
1299- ومما يلتحق بهذا الفن القول في تقدير أروش أطراف العبيد بالسبب الذي يقدر [به] أطراف الأحرار فالذي يقتضيه القياس المعنوي نفي التقدير واعتبار ما ينتقص من القيمة نظرا إلى المملوكات سيما على رأي تقديره قيمه العبيد وتنزيلهم منزلة البهائم التي تضمن بأقصى قيمتها وهذا مذهب ابن سريج والظاهر

 

ج / 2 ص -219-       من مذهب الشافعي أنها تقدر ومعتمده الشبه.
1300- فإن قيل: فما الوجه في المثالين؟.
قلنا: الوجه في مسألة التقدير مذهب الشافعي فإن الشارع أثبت [للحر] بدلا حتى لا يحبط إذا قتل خطأ ثم قاسموا أطرافه بجملة بمعان لا تنتهي أفهام المستنبطين إلى ضبطها وكان من الممكن ألا [تتقدر] أروش أطراف الحر فإنا ألفينا في جراح الأحرار حكومات غير مقدرة فلئن اقتضى شرف الحر تقدير دينه فهذا لا يطرد في أطرافه فلما تأصل في الطرف تقدير وطرف العبد في العبد كطرف الحر في الحر فلا التفات إلى خروج قيمة العبد عن التقدير.
1301- فإن قيل: [فقدروا] أطراف البهائم.
قلنا: لم يتحقق فيها أنها تقع موقع أطراف الأحرار في الأحرار فهذا الشبه أولى من المعنى الكلي من جهة أنه أجلى وأليق بالغرض وأميز للمقصود هذا والمضمون من الحر والعبد الدمية.
1302- أما القول في تحمل العقل والقيمة فالأظهر عندنا التمسك بالمعنى لعبد تحمل العاقلة العقول عن مدارك العقول وقد يظن أن العبيد لا يخالفون الأحرار في تعاطيهم الأسلحة وإن ذكر فيهم ذلك فقد يتعدى إلى الدواب في تجاول الفرسان فكان تقدير أروش أطراف الأحرار معللا بمعان اعتقدناها ولم ندرك حقيقتها وضرب العقل [يشبه] تحكم المالك على المملوكين [فالأحزم] أن [لا] يضطرب فيها [بالخطى] الوساع.
1303- ومما يعده الفطن قريبا مما نحن فيه إلحاق القليل من الدية بالكثير في الضرب على العاقلة.
ونحن نرى ذلك المسلك الأعلى من الشبه من جهة أن أصل الضرب ثابت وهو جاز في القليل عند كثرة الشركاء جريانه في الكثير وليس هو مبينا على الإجحاف بالمحمول عنه فإن الدية محمولة على الموسرين فكأن الضرب ثبت في الشرع مسترسلا [على الأقدار] من غير اعتبار مقدار وهذا من جملة الأمثلة التي ذكرناها تكاد أن تلتحق بالمرتبة المعلومة أو تدانيها.
1304- فهذه قواعد الأشباه المعتبرة ونحن نجدد فيها ترتيبا بعد ما وضحت.

 

ج / 2 ص -220-       الأصول ونبني الغرض على سؤال وجواب وهو السر وكشف الغطاء.
1305- فإن قيل: إن تعلق الناظر بوجه من الشبه فما وجه تقريره إذا نوقش فيه؟.
فإن قال المشبه: ما ذكرته يغلب على الظن.
فقال له المعترض: ليس كذلك فما سبيل درئه وكيف الجواب عن سؤاله؟
ولا شك أن غلبة الظن لا تحصل إلا مستندة إلى شبه يقتضيها ولا بد من ذكره وبه يتميز الشبه عن الطرد وكل شبه يقتضي الظن فلا بد أن تنتظم عبارة وعربة عنه ثم أن تأتي وانتظم ذلك سالما عن القوادح فهو معنى إذا فترجع الأشباه إلى معان خفية ويبطل تقسيم الأقيسة إلى المعنوي والشبهي.
1306- قلنا: هذا السؤال بحث عن لباب الفصل وحقيقته فلا يتصور استقلال [شبه] دون ما ذكره السائل ولكن سبيل القول فيه أن الشبه يستند إلى مأخذين هما الأصل وبعدهما أمر ثالث ينبه [عليه].
أحدهما: الأمثلة وجريانها على مقتضى الشبه.
وهذا كإلحاقنا اليسير بالكثير في الضرب على العاقلة والمستند فيه ضرب حصة آحاد الشركاء مع تناهيها في القلة وينضم إليه بطلان اعتبار المواساة المشروعة بسبب خيفة الإجحاف.
فيخرج [مما] ذكرناه وأمثاله أن ضرب العقل لا ينتهي إلى موقف في قلة [ولا كثرة] وليس هذا معنى مخيلا [مناسبا] وإنما هو متلقى من أصل الوضع بالمسلك الذي ذكرناه فهذا إذا ظهر قليلا التحق [بالقسم] الذي يسمى قياسا في معنى الأصل كما سنذكره في آخر هذا الفصل فهذا وجه.
1307- والوجه الثاني: وهو الذي يدور عليه معظم الأشباه إن ثبت معنى على الجملة في قصد الشارع ولا يدخل في الإمكان ضبطه بعبارة وهذا كعلمنا أن الشارع قدر أرش يد الحر بنصف الدية لنسبة لها مخصوصة إلى الجملة لا يضبطها والإصبع دونها في [الغناء] وهذا لا شك فيه ولكنا إذا أردنا أن نطلع عليه وعلى الوجه الذي لأجله يقتضي التشطير لم يكن ذلك ممكنا وهذا يناظر علمنا بأن الشارع فرق بين التافه والنفيس من المسروق ثم قدر النفيس بدينار أو ربع دينار.

 

ج / 2 ص -221-       فالأصل معلوم ولا اطلاع على المعنى الذي يقتضي هذا المقدار ويناسبه.
فإذا تمهد ذلك وكان اعتبار يد العبد بيد الحر شبها فإنا نعلم أن غناء يد العبد من جملته كغناء يد الحر من جملته فهذا إذا يستند إلى معنى معتقد [على الجملة] من قصد الشارع ولكن لا سبيل إلى التنصيص عليه.
ومهما اتجه هذا النوع كان بالغا جدا مقدما على المعاني الكلية المناسبة.
1308- فأما الأمر الثالث الموعود: فالتشبيه بالمقصود وهذا لا استقلال له إلا أن يضطر إلى التمسك بتقدير علم الحكم المنصوص عليه.
ومثال ذلك الأشياء الستة المنصوص عليها في الربا فلو هجم الناظر عليها ولم يتقدم عنده وجوب طلب علم لم يعثر على فقه قط ولا شبه فإن الفقه مناسب جار مطرد سليم على السبر والشبه متلقي من أمثلة أو مخيل معنى جملي والرأي لا يقضي بواحد منهما في نصب الطعم علما ولكن إذا ثبت طلب العلم وانحسم المعنى المسبور والجملي فلا وجه إلا أن يقال: إذا لم يثبت الحكم لأعيان هذه الأشياء ثبت لمعانيها هي المقصودة منها.
1309- ثم ينتصب على ذلك شاهدان:
أحدهما: من قبيل التخصيص وهو اختلاف الحكم باتحاد الجنس واختلافه.
والثاني: عموم قوله عليه السلام:
"لا تبيعوا الطعام بالطعام"1 [إلا مثل بمثل] فهذه معاقد الأشباه ثم لا حاجة إلى تكلف الميز بينها وبين الطرد.
1310- فإن قيل: المعلوم الذي يسمى قياسا في معنى الأصل ما مستند العلم فيه؟.
قلنا: اكتفى بعض الضعفة بادعاء العلم وانتهى إلى دعوى البديهة وزعم أن جاحده في حكم جاحد الضرورات.
ونحن نوضح الحق في ذلك ونقول: كون العتق في العبد بمثابة كونه في الأمة والرق فيهما أيضا على وتيرة واحدة وهذا معلوم قطعا ولا يمتنع أن ينص الفصيح على واحد من الأمثال ويرغب عن التعلق بالألفاظ العامة ويجعل ما ذكره مثالا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.

 

ج / 2 ص -222-       لحكم يؤسسه [كالواحد] منا إذا أراد أن يبين حكم البيع فقد يقول: من باع [ثوبا] فقد زال ملكه عنه فيؤثر ضرب مثل لخفته عليه في مجارى الكلام وهذا أن ساغ لا استكراه فيه ولا يمتنع في تحكمات الشرع تخصيص سريان العتق بالعبد.
لكن لو كان كذلك لتعين في حكم البيان التنصيص على التخصيص [فإذا] لم يجر ذلك انتظم من مجموعة القطع بثبوت القياس في معنى الأصل.
1311- ولو نص الشارع على موصوف وذكر فيه حكما تقتضيه تلك الصفة اقتضاء اختصاص فهذا النوع من التخصيص بتضمن نفي ما عدا المنصوص وهو المفهوم وقاعدته كقوله عليه السلام:
"في سائمة الغنم الزكاة"1 فأما لو قدر مقدر من الشارع أن يقول في عفر الغنم زكاة فهذا ليس في مرتبة المفهوم ولا يصلح [أيضا] لإجراء مثالا بخلاف العبد الذي يجرى مثالا في المملوكين.
فإذا لا يقول الشارع مثل هذا فإنه من التخصيص العرى عن الفائدة.
فليفهم الناظر هذه المنازل والترتيب بعد ذلك كله.
1312- فالمرتبة الأولى: للمعلوم وقد بينا مأخذه.
1313-  والمرتبة الثانية: لما يتلقى من الأمثلة كإلحاق القليل من العقل [في الضرب] على العاقلة بالكثير فإن ذلك قريب جدا من الرتبة المعلومة.
1314- والمرتبة الثالثة: ما يستند إلى معنى كلى لا تحيط الأفهام والعبارات بتفصيله كما ذكرناه في تقدير أروش الأطراف وافتقار طهارة الحدث إلى النية.
1315- وأنا أرى الطهارة تنحط في الرتبة عن تقدير الأروش فإن تقدير الأروش يستند إلى أغراض ناجزة نعتقد أصولها ونقصر عن درك تفصيلها وأمر الثواب خفي في الطهارة لا يتأتى فيه من الاطلاع ما يتأتى في مستند تقدير الأروش فلا بأس إذا لو قدر افتقار الطهارة إلى النية كرتبة متأخرة عن تقدير أروش أطراف العبيد.
وأما نصب المقاصد فمسترسل كما سبق تقديره في الربويات فهذا لا يستقل بنفسه دون الإرهاق إلى نصب العلم وهو دون المرتبة الثالثة.
1316- ونحن نختم هذا الأصل بمسألة يتعارض فيها شبهان فنقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.

 

ج / 2 ص -223-       اختلف العلماء في أن العبد هل يملك؟.
ومأخذ الكلام من طريق التشبيه ما نصفه أما من يقول يملك فشبهه بالحر من جهة أن الحر فطن مؤثر مختار طلوب لما يصلحه دافع لما يضره لبيب فطن أريب والعبد في هذا كالحر فهذا شبه فطري غير عائد إلى [الصورة] وإنما راجع إلى المعاني التي بها يتهيأ الإنسان لمطالبة ومآربه.
1317- ومن منع كونه مالكا شبهه بالبهائم من حيث إنه مسلوب القصد والاختيار مستوعب المنافع باختيار مالكه حتى كأنه لا اختيار له والتعلق بهذه الأشياء أقرب فإن القائل الأول تمسك بالأمور الخلقية ومن منع الملك تمسك بمأخذ الأحكام فكان ما قاله أقرب فإن الرق حكم غير راجع إلى صفات حقيقية خلقية وحاصلة سقوط استبداد شخص وتهيؤه لتصرف غيره وهذا يناقض صفات المالكين فإن حكم الملك الاستقلال ثم أقام الشارع المالك طالبا للمملوك فيما يسد حاجته ويكفي مؤنته والحاجة [التي] لا يتصور فيها الكفاية أثبتها الشارع للمملوك بإذن مالكه وهو حق المستمتع في النكاح.
1318- فإن قيل: السيد إذا ملك عبده فالحق لا يعدوهما فإن كان استغراق السيد إياه يمنعه من صفات المالكين فإذا ملكه المولى وجب أن يملك.
قلنا: هذا يلزم الخصم في تصوير إلزام الملك [له] ثم التمليك لم يخرجه عن كونه مملوكا متحكما عليه فلم يجامعه التمليك كما لم يجامعه إلزام الملك فإذا زال الرق عنه ملك حينئذ وإذا ثبت له حق [الاستقلال] بأن كاتبه فيتصور له ملك على ضعف على حسب ما يليق به.
فهذا المعتبر في النظر إلى [أقرب] الأشباه [وأدنى المآخذ] فيها.
وما تعلق به الأولون موجبة أن لا فرق لأن خلقه وصفاته كصفات الحر فإذا تصور كونه مملوكا سقط هذا الاعتبار وجلى الشرع حكمه.
فصل
1319- المرتبة الأولى: من قياس المعنى: هو النتيجة الأولى لما صح من معنى القاعدة ويناظرها في مأخذ الأشباه ما يقال إنه في معنى الأصل.

 

ج / 2 ص -224-       وما يستأخر من أقيسة المعاني عن رتبة العلم ويقع في أعلى مراتب الظنون كاعتبار الإطراف بالنفس يناظر من الأشباه ما ثبت بظواهر الأمثلة كاعتبار القليل من ضرب العقل على العاقلة بالكثير.
وما يبعد عن المرتبة الأولى في المعاني المظنونة يناظر ما يتعلق بتقدير الأروش في أطراف العبيد ثم ما يتعلق بالأمور المغيبة كتقدير الثواب في الطهارة وما ثبت معللا من جهة الشارع ولم يعقل وجه المناسبة فيه كقوله عليه السلام:
"أينقص الرطب إذا يبس؟"1 يناظر ما يضطر إليه من اعتبار المقاصد في الربويات.
1320- فأما رتبة العلم فلا يترجح فيها مطلوب على مطلوب فإن العلوم لا تفاوت فيها.
وإن انحططنا عن رتبة العلم فآخر مراتب المعاني مقدم على أعلى مراتب الأشباه إلا أن يسترسل المعنى ويختص بالشبه كاعتبار نقصان القيمة في أطراف العبيد أخذا من المعاني الكلية مع التقدير أخذا من التشبيه بالأحرار.
وهذا لا يتطرق إليه قطع إذ لو كان مقطوعا به لما عد من خفيات المظنونات.
وإلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل [على العاقلة] أظهر من المعنى الكلي فيه فإن من تمسك بالمعنى الكلي ينقطع طرد كلامه بمحل الوفاق في ضرب العقل على العاقلة ويضطر أن يقف موقف الطالبين [ويقول] الأصل تخصيص الغرم بالجاني فأقيموا دليلا في محل النزاع.
وإذا طالب ذكرنا مسلكا من ضرب الأمثلة فكان في حكم شبه لا يعارضه معنى غير أن الشبه ينبغي أن يكون على نهاية القوة في محاولة النقل من أصل كلي إلى الإلحاق بما هو عن قياس المعنى.
ولا مزيد في القوة على ما ذكرناه والمسألة مع ذلك مظنونة وليس هذا كتقدير ارش طرف العبد فإن من يوجب ما ينقص بطرد معنى فلا ينتقض عليه فيبغي اعتبار صاحب الشبه بالأخص فلينظر الناظر إلى جولان الحقائق في هذه المضايق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.

 

ج / 2 ص -225-       فصل: في مراتب قياس الدلالة.
1321- أحدث المتأخرون لقبا لباب من أبواب القياس وراموا بذلك التلقيب تمييز فن كثير في مسالك الأحكام جار على منهاج واحد وهو عند المحققين إذا صح يلتحق بقياس الشبه من وجه وقد يتأتى في بعض أمثلته وجه يلحقه بقياس المعنى واللقب الذي تواضعوا عليه هو قياس الدلالة وهو كقول الشافعي في الذمي من صح طلاقه صح ظهار كالمسلم.
1322- والذي يقتضيه الترتيب تصدير الفصل بأن المستدل بهذا النوع يتوجه عليه سؤال المطالبة لا محالة كما ذكرنا قريبا منه [فيما تمحض] شبها فللمعترض أن يقول: وأي مناسبة بين الطلاق والظهار؟ ولم يجب أن يتساويا ثبوتا ونفيا؟ مع العلم بانقسام الأحكام إلى التساوي والتفاوت؟ فإن لم يبحث المطالب ويبدي وجها كان مقصرا.
1323- ثم ينقدح في الخروج عن المطالبة مسلكان نجريهما ثم ننهي كل واحد منهما النهاية المطلوبة ثم مسلك الحق وراء الاستقصاء المقول والمنقول.
فإن قال المطالب: الطلاق مقتضاه التحريم والحل والكفر لا ينافي ذلك ومحل التصرف قابل له والظهار فيما ذكرته كالطلاق [ولا ينافي الكفر المنكر والزور كما لا ينافي التصرف في الطلاق] وإذا سلك هذا المسلك لم يبعد أن يكون ما ذكره جامعا بين الطلاق والظهار معنويا وقد يتمكن المطالب من منع يضاهي ما ذكرناه على ما يورده الفقهاء.
فهذا النوع إذا سلك صاحب هذا المسلك يلتحق بأقيسة المعاني.
1324- والمسلك الثاني: في الخروج عن المطالبة ألا يخوض المطالب في التزام طريق المعاني المستقلة الجامعة من طريق المعنى وهذا القسم ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يرد الأمر إلى طريق الاطراد والانعكاس وقد ذكرنا أن الطرد والعكس معتبر معتمد وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا فليقل المطالب اقترن الطلاق [بالظهار] ثبوتا ونفيا واقترنا في الصبي ومن لا يعقل انتفاء فكذلك القول في اقترانهما ثبوتا وانتفاء باختلاف صفات المحل في البقاء في النكاح والبينونة عنه فهذا مسلك مرضى.

 

ج / 2 ص -226-       1325- والقسم الثاني من هذا القسم: أن يذكر المطالب بين ما استشهد به وبين المتنازع فيه شبها غير مخيل ولكنه يستقل في طريق الشبه فهذا مضطرب النظار فيما ذكرناه.
1326- وأنا أقول: إذا تحقق وجوب الخروج عن المطالبة فلا يستقل بتمهيد قياس الدلالة إلا فطن دراك فإن المعلل لو سلك طريق [إبداء] المعنى فقد بين أن ما اعتمده وسكت عليه لم يكن كلاما [تاما] فإن إبداء المناسب إذا كان محتوما ولم يكن في الكلام الأول ذلك فسكوت المطالب بالدليل على [ما جاء] به يتضمن اعتقاد كونه مستقلا فإذا بين أن [التمام] في الجواب عن المطالبة فقد لاح أن ما أبداه مفتاح الحجة ومبدؤها وقد سكت عنه سكوت من يراه تاما مستقلا فهذا وجه.
1327- والوجه الآخر: أنه جعل أصل قياسه المسلم فيما تمثلنا به.
والآن إذا أبدى معنى جامعا بين الطلاق والظهار فقد صار الطلاق أصلا للظهار وخرج الكلام الأول عن نظمه وترتيبه وإن أبدى وجها من الشبه بين الطلاق والظهار فقد التزم الجمع تشبيها وهو تتمة الكلام [كما] قدمناه في المعنى المستقل وينقدح فيه تغيير الترتيب والنظم كما تقدم فإذا لا بد من مناسبة فقهية أو شبهية وكلاهما ينافي المسلك الأول الذي اعتمده.
1328- وإذا انتبه الناظر [للغائلة] التي ذكرناها فلا يظن أنها تشبيب برد هذا النوع من القياس فإنا من القائلين به ولكن الوجه في تمهيد هذا النوع ودفع المطالبة شيئان:
أحدهما: الطرد والعكس كما تقدم وفيه التغليب المطلوب وتقرير نظر الدلالة الأولى [من] غير مسيس حاجة إلى إتمام أو تعيين أصل بتقدير الصرف عن الاعتبار بالمسلم ويرد الأمر إلى اعتبار الظهار بالطلاق ومن اللطائف الجدلية في ذلك أن مطلق الشرط يشعر بالعكس فلا يكون من صاغ [العلة] على صيغة الشرط بإبداء الطرد والعكس مظهرا لما لم يتضمنه الكلام الأول.
والصحيح عندنا التحاق ذلك بالأشباه.

 

ج / 2 ص -227-       1329- ومن تتمة القول فيه: إن قياس المعنى إذا انعكس كان العكس فيه ترجيحا فإذا لم يلتزم المعلل المعنى وتمسك بالاطراد والانعكاس كان متمسكه شبها وكان قريبا من القسم الثاني الذي يستند إلى ضرب الأمثلة كما قدمناه في إلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل على العاقلة.
1330- ومما ينقدح في هذا النوع أن يقول المتمسك به:
الأصل المسلم وظهاره والفرع الكافر وظهاره والجامع بينهما شبه الطلاق فنفوذ الطلاق من المسلم والذمي شبه جامع بينهما في الظهار فغلب على الظن وهذا وإن كان يستمر شبها فكل شبه يعتضد كما ذكرت في تقاسيم الأشباه فإن تمكن الجامع من إبداء معتضد الشبه كما تقدم مفصلا كان حسنا وإن أراد الاجتزاء بالطرد والعكس عاد إلى المسلك الأول.
والأحزم في قياس الدلالة الاكتفاء بالطرد والعكس فهذا النوع من القياس يجري في الأغلب من المسائل التي يكون المعنى ممكنا فيها ولكن يطول الكلام في تقريره وتتسع العبارة في محاولة ضم نشره والمناظر المتحذق يبغي ضم أطراف الكلام وإرهاق الخصم بالمسلك الأقرب والسبيل المهذب إلى مضيق التحقيق في إيراد فرق يعسر إيراده على شرطه.
فلو تكلف المناظر الجمع بين الطلاق والظهار بمعنى مناسب لكثرت المطالبات في وجوه المناسبات ولم يأمن الجامع من التعرض للنقض ما لم يتناه في التصون والتحرز فيؤثر والحالة هذه جعل الطلاق وصفا ويربط الظهار به حكما ويتخذ المسلم أصلا ويجعل معتمده في إثبات الطريقة جريانها طردا وعكسا.
1331- ومما يتعين الإحاطة به في هذا الصنف [أن] المعنى المخيل حكم مناسب لحكم أو صورة تنبئ العبارة عنها وتقع مناسبة وقد يكون الجامع نفي حكم أو نفي مع ظهور المناسبة والسلامة عن المبطلات فإذا ظهرت الإخالة واتضحت السلامة قيل: معنى مخيل مناسب جامع مستند إلى أصل.فلو قال المطالب وراء ذلك: فلم زعمت أن الحكم الذي قدر وصفا يقتضي الحكم الذي فيه النزاع؟
كان الجواب الكافئ فيه إيضاح الإخالة مع استمرار السلامة فإن أراد المطالب إبداء فرق بين الحكم المجعول وصفا وبين محل النزاع لم ينتظم فيه كلام على صورة الفرق ونظمه.

 

ج / 2 ص -228-       1332- نعم قد يبدى كلاما يقدح في المناسبة ويتعين على المستدل قطع ما دونه واستقلال مناط الحكم المتنازع فيه بمناسبة وإخالة.
وبيان ذلك بالمثال: أنا إذا طلبنا مسلك المعنى وقلنا: كلمة تتضمن التحريم فيثبت حكمها في حق الذمي كالطلاق وكان معنى التحريم مع قبول المرأة له واتصاف الكافر بالاستمكان منه مناسبا للنفوذ.
فإذا قال الخصم: التحريم ينقسم إلى ما يقع تصرفا [محضا] في مورد النكاح غير متعلق بحق الله تعالى وإلى ما يتعلق بحق الله تعالى [وتحريم الظهار يتعلق بحق الله تعالى] والاستحقاق في في مورد النكاح قائم لم ينخرم والكافر لا يخاطب بما يقع حقا لله تعالى فقصد المعترض بهذا يرجع إلى [توهين] الإخالة في التحريم المطلق فيتعين الإجابة بطريقها وليس ما جاء به فرقا على نظمه المعروف.
1333- فإذا قلنا في هذه المسألة: من صح طلاقه صح ظهار فنحن رابطون نفوذا بنفوذ ولكن في تصرفين مختلفين يتأتى جعل أحدهما [أصلا والآخر] فرعا ونصب الجامع بينهما وإذا أمكن الجمع تصور الفرق ولا يمكن الجمع بين حكم مناسب لشيء وبين ذلك الشيء فلما أمكن الفرق ظهرت المطالبة بالجمع وتميز هذا الصنف عما يتمحض فقها مناسا فكان القسم الذي فيه الكلام بين قياس المعنى من جهة مناسبة تصرف تصرفا على الجملة مع الجريان على السلامة وبين مسالك الأشباه من جهة تطرق المطالبة بالجمع وعدم التزام المعلل له.
والذي [يحيك في الصدر] أن المعنى إذا أمكن فهو [أولى] ونصبه في مراتب الأقيسة أعلى والتمسك بالأدنى مع الاستمكان من الأعلى لا [يتجه] في طرق الفتوى والنظر تدوار على تمهيد طرق الاجتهاد التي هي مستند الفتوى فسبيل الجواب عنه أن نقول:
1334- إذا اشتملت المسألة المظنونة على مراتب من الأدلة متفاوتة فلا حرج على المستدل لو تمسك بأدنى المراتب وإنما يظهر تفاوت الرتبتين إذا تناقض موجب الحجتين فيقدم موجب الأعلى على الأدنى فأما إذا توافقت شهادات المراتب المختلفة على مقتضى الوفاق فلا معاب على من يتمسك بالأدنى وكذلك إذا اشتملت المسألة على خبر نص وقياس ولا يمتنع التمسك

 

ج / 2 ص -229-       بالقياس الموافق الخبر وإنما يمتنع التمسك بقياس يخالفه نعم إذا كان المطلوب في المسألة علما فلا وجه للتمسك بقياس لا يقتضي العلم.
1335- وحاصل القول في هذا الفن إذا انتهى الكلام إليه يحصره أقسام.
أحدها: يطلب العلم وما كان كذلك فالمطلوب منه ما يفضي إلى العلم ولا حكم لتفاوت الرتب بعد استواء [الجميع] في الأفضاء إلى العلم.
1336- والقسم الثاني: ما تتفاوت الرتب فيه ومتعلق جميعها ظنون.
والرأي عندنا تسويغ التمسك بالجميع على ما يراه المستدل.
ومنع بعض الجدليين التمسك بالأدنى مع التمكن من الأعلى وهذا فيه نظر إذا تميزت المراتب بالقواطع وإن كانت كل مرتبة في نفسها لا تقتضى علما فأما إذا كان تفاوت الرتب مظنونا فلا يمتنع وفاقا من التمسك بأدنى آحاد الرتب.
1337- ومما يتعلق باستكمال الكلام في هذا الفصل أنه قد يتعلق ثبوت بنفي أو نفي بثبوت على مضاهاه قياس الدلالة وليس من قياس الدلالة في شئ وهو كقول القائل من لا يملك التصرف [يل] الوالى التصرف منه أو من يستقل بالتصرف لا يلي الوالى منه ما يستقل به.
فهذا إذا سلم يلتحق بأقيسة المعاني فإنه مناسب مخيل ولا ينتظم بين النفي والإثبات فرق.
1338- وقياس الدلالة [يتميز] عن محض قياس المعنى بهذا فإنه لا يمتنع رسم [فرق] بين وصف قياس الدلالة والحكم المنوط به ويمتنع ذلك بين نفي التصرف وإثبات الولاية وإثبات التصرف ومنع نفي الولاية.
1339- فهذا منتهى القول على قدر ما يليق بهذا المجموع في قياس الدلالة فإذا نجز قدر الحاجة في مراتب الأقيسة حان أن نرجع بناء الكلام إلى الترجيح فنقول.

فصل: [الترجيح في الأقيسة].
1340- إنما يجري الترجيح في أقيسة لا يعترض عليها إلا من وجهة التعارض ثم الأصل المعتبر في الترجيح [الخصيص] بالأقيسة [ينشأ] من تفاوت الرتب مع اجتماع الجميع في الظن.

 

ج / 2 ص -230-       فأما اقيسة المعاني فمستندها قاعدة معنوية معلومة ولا ترجيح في معلوم فإذا انحط المعنى عن العلوم فقد تقدم ترتيب مسالك الظنون والأرجح: فالأرجح أقربها إلى المعنى المعلوم وقد مضى ترتيبها في القرب والبعد.
1341- ومما يتعلق بالترجيح في المعاني النظر فيما يثبتها وقد تقدم القول مثبتات المعاني ورجع الحاصل إلى مسلكين:
أحدهما: إيماء الشارع.
والثاني: الإخالة [مع السلامة.
وما يثبته الشرع مقدم على الإخالة] التي لا دلالة في لفظ الشارع عليها والسبب فيه أن ما أشار الشارع إلى التعليل به أمن المستنبط من الوقوع في متسع المصالح التي لا يحصرها ضبط الشريعة وهذا أمر عظيم في الاجتهاد وهو محذور الحذاق من أهل النظر ثم الإخالة على الرتب المقدمة.
1342- ومن الأسرار في ذلك: أن الاستدلال يصح القول به وإن لم يستند إلى أصل حكمه متفق عليه على الرأي الظاهر فلو عارض استدلال لا اصل له معنى مستندا إلى أصل فالمستند إلى الأصل مرجح على الاستدلال والسبب فيه انحصاره في حكم ثابت شرعا متفق عليه والمستدل على خطر الخروج عن الضبط.
1343- فهذه قواعد الترجيح في أقيسة المعاني.
ثم أدناها مرجح على أعلى الأشباه المظنونة كما سبق في ذلك قول بالغ.
1344- فإذا تعارض شبه خاص ومعنى عام كلي فقد قدمنا وجه الرأي فيه فلا نعيده.
1345- والاستدلال إذا عارضه شبه [ومن] ضرورة الشبه استناده إلى أصل فالذي ذهب إليه المحققون تقديم الشبه لمكان استناده إلى أصل.
وقدم الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله تعالى الاستدلال على الشبه والقول في ذلك يتعلق بالظن عندنا فليعمل كل مجتهد على حسب ما يؤدي إليه إجتهاده.
1346- فهذه مجامع الأقوال في ترجيح الأقيسة لا يشذ عنها إلا أفراد مسائل اضطراب فيها الجدليون ونحن نرسمها مسألة مسألة وفي استيفائها استكمال القول في الترجيح.

 

ج / 2 ص -231-       مسائل تشذ عن القاعدة العامة للترجيح.
مسألة:
1347- إذا تعارضت علتان إحداهما منعكسة والآخرى غير منعكسة فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن الانعكاس من المرجحات المعتمدة.
وهذا يتجه جدا على قولنا إن الانعكاس مع الاطراد دليل صحة العلة وقد قدمنا في حقيقة العكس قولا بالغا مغنيا عن الإعادة.
ونحن نذكر من اسراره مأخذا يستدعيه ويقتضيه أمر الترجيح فنقول:
1348- القياس الشبهى إذا اطرد وانعكس كان الانعكاس مخيلة معتمدة جدا فإن أقوى متعلقات الأشباه الأمثلة كما قدمنا ذكرها والاطراد والانعكاس فن الأمثلة المغلبة على الظن فإذا فرضنا تعارض شبهين انعكس أحدهما دون الثاني كان ذلك ترجيحا مقتضيا مزيد تغليب الظن لا يجحده في هذا المقام إلا غبي بمآخذ الأقيسة ومراتبها.
1349- وإن فرض الانعكاس في أقيسة المعاني فلا بد من ذكر تقسيم في ذلك منبه على سر العكس أولا ثم يعود الكلام إلى غرضنا من الترجيح فنقول: رب معنى مخيل مناسب لا يشعر انتفاؤه لانتفاء الحكم في وضعه وربما يشعر انتفاؤه بانتفاء الحكم الذي اقتضاه الطرد.
وبيان ذلك بالمثال: أنا قلنا في تحريم النبيذ: مشتد مسكر فهذا يناسب التحريم من جهة إفضاء السكر إلى الاستجراء على محارم الله تعالى والاستهانة بأوامره وعدم الشدة لا يشعر بالتحليل.
1350- وإذا قلنا: مستقل بالتصرف فلا يولى عليه كان الاستقلال مشعرا بنفي الولاية وعدم الاستقلال مشعر بإثبات الولاية فإذا تمثل النوعان في قياس المعنى بنينا عليه غرضنا وقلنا: إن لم يكن المعنى بحيث يخيل عدمه عدم حكم الطرد وفرض مع ذلك انعكاسه فقد تجمعت فيه الإخالة والشبه فإذا عارضه معنى غير منعكس ولم يكن في وضعه بحيث يشعر عدمه بعدم الحكم فالمنعكس مقدم عليه بطريق الترجيح إذا اجتمع فيه إخالة فقهية وقوة شبهية.

 

ج / 2 ص -232-       1351- فإن تعارض معنيان وأحدهما يشعر في الطرد والعكس نفيا وإثباتا والثاني يخيل من وجه الطرد ولا يخيل من جهة العكس فان انعكس المخيل ولم ينعكس ما لا يخيل فالمنعكس مرجح وسبب ترجيحه قوة الإخالة وإن لم ينعكس ما لا يخيل من جهة العكس بسبب علة أخرى خلفت العلة الزائلة فالوجه ترجيحها على العلة التي لا تخيل في العكس فإن عدم الانعكاس فيما يخيل من جهة الانعكاس محمول على ثبوت علة اخرى خلفت العلة الزائلة وقوة الإخالة لا تزول.
1352- وتحقيق هذا: أنا قدرنا عند انتفاء العلة التي فيها الكلام انتفاء علة أخرى [لانتفي] الحكم لقوة الخالة [وشدة] الارتباط [ومقتضى 9 اقتران الحكم والعلة وهذا المعنى لا يتحقق فيما لا يقتضي الإخالة في جهة العكس.
1353- فلو لم تنعكس علة مقتضاها الانعكاس لمكان علة اخرى [خالفت] وانعكست التي لا تخيل في جهة العكس فقد اختلف المحققون في ذلك:
فقدم مقدمون المنعكس لاجتماع قوة الإخالة في الطرد وقوة الشبه في العكس وذهب أخرون إلى تقديم العلة التي تخيل في جهة العكس لاختصاصها بقوة الإخالة.
وأدنى مأخذ المعاني مقدم على أعلى مسالك الاشباه ولا يقدح في قوة الإخالة عدم الانعكاس إذا ثبتت علة تخلف العلة في الطرد.
1354- ومما يتم به الغرض في ذلك أن العلة إذا أخالت في العكس فالعلة المخالفة يجب أن تكون أقوى من [إخالة] العلة الأولى في العكس لا محالة.
1355- فإن امتنع الانعكاس لنص أو إجماع فهذا موضوع التوقف.
قال قائلون: عدم الانعكاس مفسد للعلة من حيث إنه أثر في فقهه وإخالته فكان هذا كالنقض في الطرد.
وقال المحققون: لا يبطل العلة فلها في الثبوت دلالة وعلة عدم الحكم عدم العلة أمكن الانعكاس فالإجماع [قدح انتفاء الحكم] في تقدير العدم علة والنقض يخرج وجود العلة عن كونه علة والقول في النقض طويل وقد سبق تفصيله فيما تقدم فهذا هو اللآئق بغرض الترجيح في فصل الانعكاس.

 

ج / 2 ص -233-       مسألة:
1356- وقد تقدم القول في العلة القاصرة المقتصرة على محل النص فإذا رأينا صحتها فلو فرضنا علة متعدية عن محل النص ففي ترجيحها على القاصرة خلاف.
1357- وحاصل ما قيل فيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق ترجيح القاصرة.
والثاني: وهو المشهور ترجيح المتعدية.
والثالث: وهو اختيار القاضي أنه لا ترجح إحداهما على الأخرى بالقصور والتعدي.
1358- وأول ما يجب به الافتتاح تصوير المسألة:
فإن فرضنا علتين: قاصرة ومتعدية في نص واحد فالقول في هذا ينبني على أن الحكم الواحد هل يعلل بأكثر من علة واحدة وهذا أصل قد سبق تمهيده.
فإن لم يمتنع اجتماعهما فلا معنى لترجيح إحدى العلتين على الأخرى ولكن الوجه القول بالعلتين والقاصرة والمتعدية متوافيتان في محل النص الواحد لا تناقض بينهما ولا تعارض فإن المتعدية مستعملة مقول بها وراء النص.
وإن لم نر اجتماع [العلتين لحكم واحد فإذ ذاك] ينقدح الكلام في ترجيح القاصرة على المتعدية.
1359- [أما الجمهور] من أرباب الأصول فذاهبون إلى ترجيح المتعدية ووجه قولهم أن العلل [تعني] كفوائدها والفائدة المتعدية فإن النص يغنى عن القاصرة فكان التمسك بالمتعدية أولى ومن رجع القاصرة احتج بأنها متأيده بالنص وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة فكان التمسك بها أولى.
1360- ووجه القاضي: إن الفوائد بعد صحة العلل [وصحة العلل] ترتبط بما يصحهها مما يقتضي سلامتها عن المبطلات فإذا دل الدليل على الصحة.
واستمرت دعوى السلامة فلا نظر وراء ذلك في النتائج والفوائد قلت أو كثرت وليس من الرأى الترجيح بحكم العلة وهو النتيجه والفائدة.

 

ج / 2 ص -234-       والترجيح الحقيقي إنما ينشأ من مثار الدليل على الصحة وفائدة العلة في مرتبة ما يدعى لها.
1361- وقول القاضي في المسلك الذي ذكره أوجه الأقوال في مقتضى الأصول.
وما رآه الجمهور من النظر إلى الفوائد متروك بما ذكرناه وما اعتبره الأستاذ في مطابقة النص لحكم العلة القاصرة غير معتبر لما نبهنا عليه من أن حق المرجح ألا ينظر إلى حكم العلة ولا يرجح به بل الترجيح بما يصحح به العله ويقتضى مزيد تغليب الظن فيه.
وما ذكره مرجح العلة القاصرة من الأمن [لا وقع] له فإنه راجع إلى استشعار [خيفة] لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد.
1362- والذي [يبتغى] وراء ما ذكرناه أن العلة المتعدية إذا صحت على السبر ولم يناف صحتها طارىء فقد وجدنا معنى على شرط الصحة ومقتضاه اعتبار غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه وهو مستند إلى أصل ثابت منشؤه من قاعدة شرعية.
فلست أدري ردها لمكان حكمة تسنح من الفكر منطبقة على محل النص فإن المعاني إذا اتصفت بالصفات التي ذكرناها من اجتماع الأمور المرعية والسلامة عن المبطلات والاستناد إلى منصوص عليه.
فالأولون من الأئمة كانوا مسترسلين على العمل بها وليس ما يجرى في الفكر من العلة القاصرة مناقضا فلا وجه لترك المتعدية قطعا.
وإنما المتروك من قول من يرجح العلة المتعدية [تعلقه] بالفوائد ومصيره إلى أن العلة [تعنى] لثمرتها وفوائدها وهذا واه ضعيف فالوجه التعلق باسترسال المجمعين على العمل بالقياس كما ذكرناه وهذا إذا ضمه الناظر إلى ما حصلناه من القول في العلة القاصرة انتظم له فيه حقيقة المراد.
1363- [وعندنا أن] هذه المسألة غير [واقعة في الشريعة وإنما هي مقدرة] والشريعة عرية عن اتفاق وقوعها.
1364- فإن قيل: قد علل أبو حنيفة رحمه الله تعالى الربا في النقدين.

 

ج / 2 ص -235-       بالوزن وهو متعد إلى كل موزون وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين وهذا مقتصر على محل النص.
فما قولكم في ذلك؟.
1365- قلنا: الوزن على باطلة عند الشافعي والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضى صحتها لو انفردت.
1366- ومن تمام الكلام في ذلك أن العلة القاصرة لو صح القول بها إن كانت غير مخيلة في جهة العكس فلا معارضة ولا مناقضة [والنقدية] ليست مخيلة في جهة العكس فكيف يتوقع اقتضاؤها نفي الحكم في العكس؟ وقد ذكرنا في مراتب الأقيسة أن علة الربا في الأشياء الستة واقعة آخرا في درجات الأشباه ولا يتسلط المستنبط عليها [إلا] بتقدير الإرهاق والاضطرار إلى استنباطها.
فلسنا نرى للمسألة الموضوعة جدوى ولا فائدة.
1367- فإن قال قائل: لو استنبط ناظر علة في محل التحريم فصادف اجتهاده علة قاصرة ورأى محل النزاع عكسا لها واستنبط مستنبط آخر في محل تحليل مجمع عليه علة متعدية وصورة النزاع طردها فما القول والحالة هذه؟
قلنا: لا يتصور أن يعارض عكس طردا فإن الطرد في منزلة العلة والعكس يقع في حكم [العضد] للإخالة على طريق التبعية ولا يقابل ما هو أصل ما يقع فرعا في معرض التلويح.
وهذا على التحقيق لو قيل به مصير إلى معارضة العلة ترجيحا.
1368- فإذا لم يتصور في اجتماع العكس قاصرة ومتعدية على حكم التوافق [نظرا] إلى الترجيح ولم يتحقق تعارض بين قاصرة ومتعدية في أصلين مختلفين فإن القول يرجع إلى معارضة الطرد والعكس وهذا لا سبيل إليه.
1369- فإن قيل: علة الشافعي في تثبيت الخيار للمعتقة تحت العبد قاصرة وقد قدمتموها على العلة المتعدية لأبي حنيفة قلنا هذا ساقط من أوجه:
أحدها: أن ما اعتمده أصحاب أبي حنيفة من تعليل الخيار باطل في نفسه فلا ينتهى القول فيه إلى مقام الترجيح.

 

ج / 2 ص -236-       ومنها: أن الرأي الظاهر عندنا ألا يعلل خيار المعتقة [تحت العبد] كما حققنا في "الأساليب".
ومنها: أن من يثبت الخيار للمعتقة تحت الحر يزعم أن قصة بريرة كانت واقعة والزوج.
حر فلا معنى للاستشهاد بهذه الصورة في ادعاء الوقوع والاستشهاد به.
1370- فإذا هذه المسألة تقديرية لا نراها واقعة وقد [كنا] ذكرنا أن اجتماع العلل للحكم الواحد ينساغ في نظر العقول [ولكنه غير متفق وقوعا في الشرع] فلا معنى لإعادة ما سبق فهذا منتهى المراد [في ذلك].
ثم فرع الجدليون وراء هذا مسألتين نرسمهما وهما عريتان عن الفوائد.
مسألة:
1371- قال من يرجح العلة المتعدية: إذا تعارضت علتان فروع إحداهما أكثر من [فروع] الأخرى [وهما جميعا متعديتان] فكثيرة الفروع منهما مقدمة على الأخرى.
وقد ذكرنا أن أصل الكلام في المتعدية والقاصرة غير واقع وإنما يتكلم المتكلم على التقدير فالقول في المتعديتين يجرى على ذلك النحو فليس في المتفق عندنا علتان على الوفاق لحكم واحد منصوص عليه ومجمع عليه وكل واحدة على شرط الصحة.
1372- فإن قدر المقدر فرضهما فلسنا نرى تعطيل العلة الكثيرة الفروع لمكان أخرى تساويها في بعض مقتضياتها فليس هذا [إذا] لو اتفق [من] مسالك الترجيح في شيء فلو فرضنا علتين متناقضتين في محل النزاع وأصلاهما مختلفان فلا يقع الترجيح بكثرة فروع إحداهما قطعا ومن خالف في ذلك لم نبال به وإنما تتخصص إحدى العلتين بما يقتضي تغليبا على الظن والترجيح عائد إلى تلويح ظني وهذا القدر كاف.
مسألة:
1373- من اعتقد أن كثرة الفروع تقتضي ترجيحا رسم مسألة وتكلم فيها مجادلا بما يصفه.
والغرض ألا يعرى هذا المجموع عما [قيل في] أصول الترجيح.
قال هؤلاء: إذا كثرت فروع علة وقلت فروع أخرى ولكن القليلة الفروع.

 

ج / 2 ص -237-       اعتضدت بنظائر لها تضاهي في عدتها فروع العلة الكثيرة [الفروع] كانت كثرة النظائر في معارضة كثرة الفروع.
1374- وبيان ذلك بالمثال: أن الشافعي خصص لزوم الكفارة العظمى من جملة المفطرات بالوقاع ورأى إتيان المرأة في المأتى الأصل وفيه واقعة الأعرابي وعدى علته إلى إيلاج الحشفة في كل فرج.
-1375 واعتبر أبو حنيفة في إيجاب الكفارة الفطر [بمتنوع] [المفطرات] فكانت فروعه أكثر ولكن للاختصاص بالوقاع نظائر كثيرة كالغسل والحد ووجوب المهر وتكميله والإحصان والتحليل فكانت هذه النظائر في الاختصاص مضاهية لكثرة الفروع في علة الخصم.
1376- وهذا قول عرى عن التحصيل في مساق كلام هذا القائل إلى [أن نذكر] حقيقة المسألة فإن النظائر التي ذكرناها ما نراها معللة فلا وجه للاعتضاد بها.
وإن تمسك متمسك بها في مسلك الأشباه [فلا] تعلق أيضا بها فإن ثبوت [الأحكام بالوقاع] على الاختصاص لا يغلب على الظن أن يختص بها كل حكم ينقل فيه ولا يجري مجرى الأمثلة التي ذكرناها للرتبة العليا من أقيسة الأشباه.
ومن فهم ما تقدم تميز عنده ما نحن فيه عما سبق.
1377- وبالجملة: إن تلك الأمثلة تجري في غير المطلوب إذ النظر في اعتبار القليل بالكثير في ضرب العقل اعتضد بالقليل في حق الشريك وكان ذلك ناشئا من عين المطلوب والضرب مسترسل لا توقف فيه فلا أصل إذا لما ذكر هذا الإنسان.
ثم إنما يستقيم ما ذكره لو كانت علة الخصم صحيحة دون تقدير المعارضة وليست كذلك ولو صحت لما عارضتها علة أخرى تساويها وتوافقها في بعض مقتضياتها.
وقد ينشأ من فرض هذه المسألة أصل في الترجيح فليتأمله الناظر.
1378- فأما مسلك أبي حنيفة فمردود من جهة التناقض المنقول عنه في مذهبه وإنما المذهب المطرد مذهب مالك في تعليقه الكفارة بكل فطر هاتك حرمة الصوم من غير مناقضة فإذا استنبط ذلك من محل النص وهو الوقاع واستنبطناه فلا نرى لترجيح ما يستنبطه وجها مع جريان ما اعتبره مالك وإن تعلقنا بالأشباه وادعينا أن الوطء.

 

ج / 2 ص -238-       يجب أن يكون على مزية اعتبارا [بالنسك] فهذا شبه على بعد في معارضة معنى الهتك [وليس من الانصاف معارضة شبه على هذا النعت بمعنى جار في محل النزاع وإن لم نر تعليل الكفارة لم ينتفع بهذا ما لم نبطل معنى الهتك] لمالك وبالجملة قوله في تعميم الكفارة متجه جدا والعلم عند الله وليس هذا من القول في قواعد الترجيح ولكن وضع المسألة على ما وصفناه.
مسألة: متعلقة ببقايا الكلام في هذا الفن.
1379- قال قائلون من أصحاب الشافعي رضي الله عنه: إذا تعارضت علتان وإحداهما أكثر فروعا بيد أن الأخرى منطبقة على الأصل والفرع من غير تأويل والكثيرة الفروع تحتاج إلى تقدير [تأويل] في بعض مجاريها فهذا يغض من جريانها ويقدح في الترجيح بكثرة فروعها.
1380- وبيان ذلك: أن إذا اعتبرنا في القرابة المقتضية للنفقة والعتق البعضية وهذا يجري في الوالدين والمولودين على انطباق.
واعتبر أبو حنيفة رضي الله عنه الرحم والمحرمية وفروع علته وإن كانت مركبة أكثر فإنها تتناول الأصول والفروع غير أن الرحم والمحرمية لا يجريان إلا على تأويل بين الذكرين والأنثيين وذلك بأن يقدر أحدهما ذكرا والآخر أنثى.
وهذا ركيك من الكلام لا ينساغ مثله لمتشوف إلى تحصيل وذلك أن الرحم لا تأويل فيه وكذلك المحرمية ولكن لا يظهر التحريم لا لتقاعد العلة ولكن لعدم المحل.
1381- وليس من الرأي التعويل على مثل هذا بعدما قدمنا القول في كثرة الفروع وقلتها وقد انتهى الغرض في هذا الفن ونحن نأخذ بعده في رسم مسائل في سائر أغراض المرجحين إن شاء الله تعالى.

مسائل في أغراض المرجحين.
مسألة:
1382- ذهب ذاهبون إلى أن ما تجاذبه أصلان وتعارض في إلحاقه بأحدهما نظر النظار فمن تمكن من توفير شبهى الأصليين كان مسلكه مرجحا ومثلوا ذلك بالقول في يمين اللجاج والغضب فإنها بين النذر الذي يوجب الوفاء وبين اليمين التي توجب

 

ج / 2 ص -239-       الكفارة فمن خير بين الوفاء والكفارة كان مسلكه مرجحا من جهة توفير شبهى الأصليين.
1383- وهذا مزيف عندنا من جهة أنه ترجيح مذهب لا ترجيح علة جارية على شرط الصحة وقد قدمنا في أول [الكتاب] أن المذاهب لا ترجح [و] مأخذ مسألة يمين اللجاج من [الآثار عندنا] وكل من سلك هذا المسلك فهو يزعمه [يوفر] شبهين من أصلين على إبعاد في الكلام وهو على القرب بقطعة عنهما جميعا وهو غافل عما يأتي.
وبيانه أن مقتضى النذر إلتزام الوفاء [لا تجويزه] ومقتضى اليمين التزام الكفارة والتخيير مباين للمقتضيين ووضوح ذلك مغن عن بسط القول فيه.
مسألة:
1384- إذا تعارضت علتان واختصت إحداهما بالاستناد إلى أصول ففي الترجيح بكثرة الأصول خلاف بين أهل الأصول.
فذهب بعضهم: إلى أن ذلك يقتضي ترجيحا من جهة أنها في محل الشواهد وكثرة الشهادات تغلب على الظن وهو المقصود بالترجيح واستشهد هؤلاء بكثرة الرواة في تعارض الخبرين.
1385- والرأي الحق عندنا يقتضي تفصيلا.
فإن كان المعنى الجامع واحدا وكان مستندا إلى أصول فلست أرى الترجيح بكثرة الأصول والحالة هذه فإن الدلالة على الحكم [هي] المعنى وإنما يذكر الذاكر الأصل استئناسا به وأمنا من الوقوع في متسع الظنون مع العلم بأن مسالكها مضبوطة في الشريعة وهذا يحصل بأصل واحد وليس عدد الأصول بمثابة عدد الرواة فإن التعويل في الأخبار على الثقة وظهورها في الظن وهذا يزداد بزيادة عدد الرواة ولو استمكن القايس من جوامع وكل جامع معنى مستقل مستند إلى أصل ولم يتمكن الخصم إلا من معنى واحد فلا شك أن من كثرة معاينة مع الاستواء في الرتب مقدم لكثرة الدلالات وهذا الآن يناظر كثرة الرواة.
ولكن إذا عارض معنى الخصم معنى آخر ثم أتى بمعان فهذا من باب ترجيح دليل بدليل وقد تقدم القول فيه وهو متعلق بلفظ [بعدما وضح] أن صاحب.

 

ج / 2 ص -240-       المعاني يقدم مذهبه.
1386- ومما يتصل بهذا الفصل أن الناظر في مسلك الأشباه قد يلقى صورة تضاهي كثرة الأصول والترجيح بها واقع.
ومثاله: أن أحمد بن حنبل رحمه الله جوز المسح على العمامة تشبيها بالمسح على الخفين ومنعه الشافعي رحمه الله تشبيها بالوجه واليدين.
فإذا ما يمنع المسح فيه أكثر وهذا يقوي من جهة أن الكلام في قربه واحدة تشتمل عليها رابطة فكثرة الأمثلة فيها تقرب من مآخذ الأشباه وليس هذا كأصول متبددة يجمعها معنى واحد فليفهم الناظر ما يرد عليه.
1387- فإن قيل: إلحاق الرجل بالرأس أخص وأمس من جهة أن التخفيف يتطرق إليها.
قيل: هذا باطل فإن ما ابتنى على التخفيف أشعر ابتناؤه عليه باكتفاء الشرع به حتى لا مزيد وهذا يعتضد بأمر واقع وهو تيسير مسح الرأس مع العمامة من غير احتياج إلى [تنحيتها] بخلاف القدم والخف ثم محل الأشباه في الرخص البعيدة عن مدارك المعاني الجزئية والكلية ضيق جدا والأصل اتباع الأصل.
مسألة:
1388- إذا تعارض قياسان ومع أحدهما ظاهر معرض للتأويل فالعلماء على مذاهب.
قال بعضهم: إذا كان الظاهر بحيث يسوغ تأويله بالقياس الذي يعارضه فلا وقع له ولا ترجيح به والقياسان متعارضان.
وقال قائلون: القياس الذي يعتضد بالظاهر مرجح وقال آخرون القياسان يتساقطان والتعلق بالظاهر.
1389- فأما من أسقط الظاهر فمذهبه مردود وذلك أن تأويل الظاهر إنما ينساغ إذا اعتضد بقياس غير معارض والمسألة مفروضة في تعارض القياسين.
وإذا بطل هذا المذهب فالمذهبان الآخران بعده متقاربان وحاصلهما يئول إلى

 

ج / 2 ص -241-       تقديم المذهب الذي توافق عليه الظاهر والقياس.
1390- والعبارة السديدة: ترجح القياس المعتضد بالظاهر فإن الظاهر لا يستقل دليلا مع قياس يصلح لإزالة الظاهر فإذا لم يستقل دليلا واعتضد به قياس أفاده ترجيحا وتلويحا ولا مرد على من أسقط القياسين وتمسك بالظاهر والأمر بعد بطلان المذهب الأول قريب.
مسألة:
1391- إذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بمذهب صحابي.
فمن يقول: مذهب الصحابي حجة عد هذا من انضمام دليل إلى أحد القياسين وهذا يقتضى تقديم المذهب الذي تطابق عليه القياس ومذهب الصحابي.
ويقع الكلام في أن هذا هل يسمى ترجيحا أم لا؟ وإذا كنا لا نرى التعلق بمذهب الصحابي فلا أثر له في الترجيح وقوله كقول بعض علماء التابعين ومن بعدهم.
1392- وإن اعتضد القياس بمذهب صحابي شهد له الشارع بمزية علم في ذلك الفن كقوله عليه السلام أفرضكم زيد فهذا على المذهب الظاهر يقتضى ترجيحا وإن كنا لا نرى قول الصحابي حجة وذلك لما في هذا التوافق من تغليب الظن مع المصير إلى أن مجرد قوله ليس بحجة.
1393- ثم قال الشافعي رضي الله عنه قول زيد في الفرائض أرجح من قول معاذ وإن [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]:
"أعرفكم بالحلال والحرام معاذ"1 وذلك أن شهادة الرسول عليه السلام لزيد2 أخص في الفرائض3 وأدل على اختصاصه بمزية الدرك فيها.
وكذلك مذهبه مع انضمام قياس أرجح من مذهب علي رضي الله عنه وإن قال الرسول عليه السلام:
"أقضاكم علي"4 وهذا أوضح وأبين مما قدمناه في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد "3/281" وابن ماجه "154" والبيهقي "3/422" وقال: صحيح على شرط الشيخين, ووافقه الذهبي.
2 زيد هو: ابن ثابت ين الضحاك الأنصاري الخزرجي البخاري المدني. استصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فرده, وشهد أحدا وما بعدها, وكان يكتب لرسول الله الوحي والمراسلات. مات بالمدينة سنة "45" له ترجمة في "أسد الغابة" "2/278", والإصابة "1/543" والنجوم الزاهرة "1/130".
3 الحديث السابق.
4 نفس الحديث.

 

ج / 2 ص -242-       في معاذ فإن شهادة الشارع له بمزية النظر في القضاء تشير إلى التفطن لقطع الشجار وفصل الخصومة والتهدي إلى تمييز المبطل عن المحق والشهادة بمزية العلم في الحلال والحرام أوقع في مظان الاجتهاد والشهادة بمزية العلم في الفرائض أخص من الجميع فهذه إذا ثلاث مراتب.
1394- فإذا لم يكن في الواقعة قياس واجتمعت هذه المراتب فالقول في تقليد من يقلد يتعلق بكتاب الفتوى وبيان المفتى والمستفتى وسنستقصي القول في مذاهب الصحابة.
1395- فإن قيل: إذا اعتضد مذهب يقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فما الرأي فيه وقد قال عليه السلام:
"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"1 قلنا: هذا أعم عندنا من الشهادة لعلي بمزية العلم في القضاء فإنا نجوز أن الرسول عليه السلام أشار إلى الاستحثاث على اتباعهما في الخلافة وإبداء الطاعة فإذا انضم إلى المراتب في الشهادة للصحابة رضي الله عنهم مرتبة رابعة فأعلاها وأولاها في التعلق أخصها وتليها الشهادة لمعاذ2 وتليها الشهادة لعلي3 رضي الله عنه ثم يلي ما ذكرناه الشهادة لأبي بكر4 وعمر5 رضي الله عنهما.
1396- ثم قال الشافعي: قول على في الأقضية كقول زيد6 في الفرائض وقول معاذ في التحليل والتحريم إذا لم يتعلق بالفرائض كقول زيد في الفرائض.
مسألة:
1397- إذا تعارضت علتان وإحداهما مستندة إلى أصل مجمع عليه [أو إلى نص] والأخرى ليست كذلك فالمستندة إلى الإجماع أو إلى محل النص مرجحة.
وبيان ذلك بالمثال: أن أبا حنيفة رحمه الله إذا أوجب الكفارة في الطعام وقاسه على الوقاع فعلته مستندة إلى محل الإجماع والنص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي "3662" وقال: حسن, وابن ماجه "97" وأحمد "5/382, 385, 399" والبيهقي "5/12" والحاكم "3/75".
2 سبقت ترجمته.
3 سبقت ترجمته.
4 سبقت ترجمته.
5 سبقت ترجمته.
6 سبقت ترجمته.

 

ج / 2 ص -243-       ونحن إذا أبقينا الكفارة واستنبطنا القياس من [بلع] الحصاة لم يكن مستند [قياسنا] مجمعا عليه وهو [أظهر] ما يعتني به في الترجيح.
ولكن لا ينتهي القول مع أبي حنيفة إلى الترجيح فإن ما استنبطه باطل وإنما يقع الترجيح وراء الاستقلال نعم مصادمة مالك عسرة [فإنه] لا يناقض ولا يوجد معه أصل به مبالاة.
1398- ومن هذا القبيل الذي ذكرناه أن أبا حنيفة إذا استنبط علة في عتق الأمة تحت العبد وعداها إلى الأمة المعتقة تحت الحر فعلته إن صحت مستندة إلى محل النص فإن وجدنا محلا مجمعا عليه في نفي الخيار واستندنا إليه علة في عتق الأمة تحت الحر تفاوتت العلتان.
1399- وهذا تقدير ذكرناه: تمثيلا وإلا فعله أبي حنيفة باطلة في تلك المسألة والصحيح عندي قصور العلة رأسا على خيار المعتقة تحت العبد كما ذكرنا في "الأساليب" فليتنبه الناظر لهذا الأصل العظيم في الترجيح وليكن على بال منه.
مسألة:
1400- إذا تقابلت علتان إحداهما ذات وصف واحد والأخرى ذات وصفين فصاعدا.
فذهب بعض الجدليين إلى تقدم التي هي ذات وصف واحد وعللوا بأمرين:
أحدهما: أن ذات الوصف الواحد تكثر فروعها وفوائدها.
والآخر: أن الاجتهاد يقل فيه وإذا قل الاجتهاد قل الخطر.
1401- وهذا المسلك باطل عند المحققين.
فأما كثرة الفروع فقد سبق القول فيه ثم إطلاق هذا القول لا وجه له فرب علة.
ذات وصف لا تكثر فروعها وربما تكون قاصرة لا تعدو محل النص فإن فرض فارض ازدحام علتين على أصل واحد [و] لم تكونا قاصرتين فإذ ذاك ذات الوصفين أقل فروعا ويعود الكلام إلى تعليل حكم بعلتين.
1402- ونحن نقول [و] قد انتهى الكلام إلى هذا الحد:
من يتمسك بذات الوصفين لا يخلو إما أن يقول لا تستقل العلة بالوصف

 

ج / 2 ص -244-       الواحد فعليه إبانة بطلانها ولا يكون هذا الكلام في محل الترجيح وإما أن يقول تستقل العلة بالوصف الواحد فلا معنى إذا لما يريده ولا يتعلق هذا بالترجيح.
1403- وهذا نمثله بقولين للشافعي في علة الربا: مذهبه في الجديد أن العلة الطعم في الأشياء الأربعة وضم في القديم التقدير إلى الطعم.
فإن كان يرى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا تعين بيان فساد الاقتصار وإن كان يرى ذلك مسوغا فليس التقدير وصفا في العلة قطعا.
ولكن إن ذكره ذاكر فغايته أن يكون الكلام في التقدير أظهر منه دونه ويكون هذا بمنزلة من يتخذ صورة من صور الخلاف ويرى الكلام فيها أقرب.
فالقول بالتقديرين جميعا خارج عن محل الترجيح وإنما أجرينا هذا مثالا وإلا فلا ريب في أن الشافعي رأى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا.
1404- وأما ما ذكره من تقديم ذات الوصف من [قلة] الاجتهاد فقول ركيك فإن [النظر] في الأدلة وترجيح بعضها على بعض لا يتلقى من جهة الخطر واستشعار الخوف.
والذي يحقق ذلك أن صاحب العلة ذات الوصف الواحد إن لم ينظر في ذات الوصفين فاجتهاده قاصر وهو على رتبة المقلدين والمقتصرين على طريق من الاجتهاد.
وإن نظر في ذات الوصفين ولم ير التعلق بها فقد كثر اجتهاده وتعرض للغرر ولكن أدى اجتهاده إلى النفي فإن رأى ذات الوصف صحيحة فذات الوصفين عنده عديمة التأثير في أحد وصفيها.
وكل ذلك يفسد نهاية الاجتهاد فسقط الركون إلى قلة الاجتهاد واستشعار الخوف وتبين أن اقتحام الخطر حتم على كل مجتهد.
مسألة:
1405- إذا تضمنت إحدى العلتين نفيا والأخرى إثباتا فقد صار بعض الناس إلى تقديم العلة المثبتة وهذا قول من لا يثبت فيما يأتي به فإن الترجيح لا ينشأ من النفي والإثبات فربما يكون الإثبات أغلب في مسالك الظنون وربما يكون الأمر على [الظن في].

 

ج / 2 ص -245-       العكس فليتبع المتبع طريق التغليب على الظن مع الانحصار في مسالك الشريعة غير معرج على نفي أو إثبات.
1406- ويتصل بهذه المسألة: أن إحدى العلتين إذا انطبقت على أصل مستقر في الشرع وتضمنت الأخرى النفل عنه فهذا مقام النظر فقد قال قائلون النافلة أولى لاشتمالها على الزيادة واستشهدوا بخبرين أحدهما يثبت قول الشارع والآخر ينفيه فالمثبت أولى لاختصاصه بمزية درك يقدر ذهول النافي عنه.
وهذا قد فصلناه في ترجيح الأخبار.
1407- ولكن لو سلمنا الآن فليس مما نحن فيه بسبيل من جهة أن مأخذ الأخبار يستند إلى بصيرة النافلة ومرتبته في الدرك وقد يختص المثبت بها والعلل لا تؤخذ من هذا المأخذ ولكن مسالكها معلومة مسورة فلتعرض ولينظر الناظر فيها ثم لا يقع الترجيح [بحسبها].
نعم الوجه تقديم العلة المنطبقة على الأصل المستقر فإنه في حكم الشهادة المؤكدة للعلة والنافلة تحتاج إلى مزيد وضوح يصادم قرار الأصل الذي يناقضها وإذا كان كذلك فالترجيح بمطابقة الأصل المستقر أولى.
ونقول بحسب ذلك: إذا تقابلت علتان في الحكم بالحظر والتحليل [فالتحليل في] أصل الحظر علته أغلب فالمرجح العلة الحاظرة إلا أن تختص المحللة بمزية ظاهرة.
فهذا سر القول في هذا الفصل.
مسألة:
1408- إذا تقابلت علتان إحداهما حكم والأخرى أمر ثابت محسوس فلا يقع بينهما ترجيح.
وذهب بعض الجدليين إلى أن المحسوس مرجح من جهة أن ثبوته معلوم قطعا.
وهذا الفن ساقط عندنا فإن الحكم عندنا ثابت قطعا وإن لم يكن ثبوته مقطوعا به والقول فيه يتعلق بما مهدناه في استناد إحدى العلتين إلى مقطوع به وتردد الأخرى فأما إذا كان الحكم مجمعا عليه فلا وجه لما قاله هؤلاء.

 

ج / 2 ص -246-       مسألة:
1409- إذا كانت إحدى العلتين تعم الأحوال كعلة الشافعي في منع بيع الكلب فإنه اعتبر النجاسة وكانت العلة الأخرى تختص ببعض الأحوال كالانتفاع الذي تمسك به أبو حنيفة في جواز البيع وهذا لا يجري في الجرو.
فقد قال قائلون: [تقدم] العلة التي تعم الأحوال.
وهذا عندنا عرى عن التحصيل فإن الجرو من جنس ما ينتفع به فلا ينتصب من مثل هذا شئ له وقع في مأخذ الأدلة.
1410- ورأينا في مسألة الكلب أن التعلق بالنجاسة شبه لا يتأتى الوفاء بتقديرها معنى فقهيا ولكنه شبه مطرد.
وقول أبي حنيفة في الانتفاع معنى فقهي ولكنه منتقض والشبه المطرد مقدم على المخيل المنتقض فهذا وجه الكلام.
1411- والأمر المتبع في ترجيح الأقيسة ما مهدناه قبل الخوض في رسم المسائل ولكنا استوعبنا بهذه المسائل ما خاض فيه الخائضون وأوفينا على الاستيعاب وإن تركنا شيئا لم نتعرض له فقد مهدنا ما يرشد إلى [قواعد] القول فيه والله المستعان.