البرهان في أصول الفقه

باب النسخ.
1412- النسخ في وضع اللغة معناه الرفع ومنه قولهم نسخت الشمس الظل ونسخت الريح آثار القوم1.
ومعناه في التواضع بين الأصوليين وحملة الشريعة مختلف فيه فأقرب عبارة منقولة عن الفقهاء أن النسخ هو اللفظ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع تأخير عن مورده.
وقال القاضي أبو الطيب2: الدال على انتهاء أمد العبادة وهذا مزيف من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إرشاد الفحول "ص 183" وزاد في: "منه تناسخ القرون, وعليه اقتصر العسكري. ويطلق ويراد به النقل والتحويل, ومنه: نسخت الكتاب. أي: نقلته ومنه قوله تعالى:
{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ومنه تناسخ المواريث. أ هـ.
2 سبق تخريجه.

 

ج / 2 ص -247-       جهة أن النسخ لا يختص بالعبادات والحدود تعني للجمع والاحتواء.
ولم يقيد كثير من الفقهاء الكلام بالتأخير وهذا يرد عليه الألفاظ المتضمنة للتأقيت على الاتساق والاتصال كقوله تعالى:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}1 فهذه الألفاظ ليست نسخا وفيها بيان انتهاء الآماد وليس ما ذكرناه مذهبا.
ولكن أتى قوم من اختلال العبارة وقلة تصورهم عما يرد عليها.
1413- والمذهب الذي يعزى إلى الفقهاء ما ذكرناه عاما للأحكام مقيدا بشرط التأخير.
وحقيقته ترجع إلى أن النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ والمكلفون قبل وروده [لا يقطعون بتناول] اللفظ الأول جميع الأزمان على التنصيص وإنما يتناولها ظاهرا معرضا للتأويل.
فالنسخ عندهم تخصيص اللفظ بالزمان كما أن ما يسمى تخصيصا هو إزالة ظاهر العموم في المسميات.
1414- وقد صرح الأستاذ أبو إسحاق: بأن النسخ تخصيص الزمان.
1415- وقالت المعتزلة النسخ هو اللفظ الدال على أن الحكم الذي دل عليه اللفظ الأول زائل في المستقبل على وجه لولاه لثبت مع التراخي.
ومذهبهم قريب من مذهب الفقهاء وقال القاضي أبو بكر بن الطيب النسخ رفع الحكم بعد ثبوته.
وهو لا يحتاج إلى التقييد بالتأخير فإن اللفظ الذي ينتظم لقصد التأقيت ليس فيه رفع حكم بعد ثبوته في قصد الشارع ومعتمد القاضي أن الحكم يثبت على التحقيق مؤبدا ثم يزول بعد ثبوته.
1416- ونحن نذكر لباب كلام القاضي في إتباع من يخالفه ثم نذكر بعد نجاز تفاوضهم ما هو الحق عندنا.
قال القاضي رحمه الله: إذا كان النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ فلا فرق بينه وبين التخصيص وإزالة ظاهر اللفظ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "187" سورة البقرة.

 

ج / 2 ص -248-       وهذا في التحقيق إنكار للنسخ وموافقة لجاحديه من اليهود وغلاة الروافض ويلزم منه تجويز النسخ بما يجوز به التخصيص حتى لا يمتنع نسخ نصوص القرآن والأخبار المتواترة بالخبر الذي ينقله الآحاد وبالقياس على رأى من يرى التخصيص به.
1417- وهذا الذي ذكره القاضي [عندنا] تشعيب غير مستند إلى مأخذ من القطع.
فأما نسبته القوم إلى موافقة من ينكر النسخ فمردود من جهة أن منكريه لا يرون تخصيص الألفاظ في الزمان.
وما ذكره من إلزامهم تجويز النسخ بما يجوز التخصيص به كلام غير سديد فإن المعتمد في التخصيص ما ظهر من سيرة الصحابة رضي الله عنهم فلولا إزالتهم الظواهر لما أزلناها وقد رأيناهم لا يرون النسخ بما يرون التخسيس به فلا وقع إذا لهذا الكلام.
وإن تعلق متعلق باقتضاء النسخ الرفع في اللغة كان ذلك ركيكا من الكلام فإن مثل هذا الأصل العظيم لا يتلقى من اشتقاق اللغة مع اتساعها لتطرق التأويلات إليها.
1418- ثم إذا وضح ما ذكرناه فإن نفتتح بعده سؤالا موجها على القاضي ينكشف به وجه الحق فنقول:
إذا أثبت الله تعالى حكما على المكلفين فمعناه تعلق قوله الأزلي به في حق المكلفين فإذا علم [الله] أنه سيرد عليهم ما يسميه العلماء نسخا فخبره الأزلي يتعلق بتقديره وتحقيقه ويستحيل أن يتعلق خبره بثبوته على الأبد وارتفاعه على [الجمع] فإن ذلك لو قدر لكان [تناقضا] فلا معنى إذا لحقيقة الرفع بعد الثبوت وهذا ما لا جواب عنه.
ويتصل به أن اللفظ الأول الوارد على المكلفين إذا اقتضى تأبيدا فهو متضمن بشرط ألا يرد ما ينفي التأبيد وكان التقدير فيه أن المكلفين متعبدون بالحكم الأول أبدا بشرط ألا يرد عليهم ما ينافيه وهذا الشرط وإن لم يكن مصرحا به فهو ثابت قطعا.
1419- ولا يسوغ فهم الناسخ والمنسوخ مع تنزيه كلام الله تعالى عن.

 

ج / 2 ص -249-       التناقض واعتقاد استحالة البداء عليه إلا على هذا الوجه.
فإذا الحكم الذي يرد النسخ عليه في علم الله تعالى غير مؤبد ولا لبس على الله تعالى وإنما حسب المتعبدون أمر بأن خلاف ما حسبوه ولو تحققوا لكانوا في استمرار الحكم الأول مجوزين للتقدير الذي ذكرناه فلا يكونون [إذا] قاطعين بالتأبيد في الحكم مع تجويزهم ورود ما ينافيه وعلمهم بأنه لا تبديل لقول الله عز وجل وموجب علمه فيرجع والحالة هذه النسخ إلى انعدام شرط دوام الحكم الأول والنسخ إظهار لذلك بعد أن كان مستورا عن المخاطبين ويرجع التقدير في الحكم الأول إلى أن الحكم ثابت بشرط ألا ينسخ فإذا ظهر النسخ لم يكن مقتضاه رفع ما تحقق ثبوته ولكن كان إبداء [لانتفاء شرط] الاستمرار.
والعبارة عن هذا المقصود أن النسخ هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول.
1420- فإن قيل: لا فرق بين هذا الاختيار وبين مذاهب الفقهاء.
قلنا: لا فرق بين هذا وبين مذاهبهم في أن الحكم الثابت في علم الله وقوله تعالى لا يزول لما قدمناه.
ولكن في كلام الفقهاء ما يدل على أن اللفظ الدال على الحكم الأول ظاهر في الأزمان معرض للتأويل تعرض الألفاظ العامة للتخصيص.
وهذا فيه إيهام لا حاجة إليه فإن اللفظ العام في وضعه ليس نصا في استغراق المسميات وليس كذلك موجب اللفظ في تأبيد الحكم فإنا نجوز ورود النص في استغراق الزمان مطلقا مع ورود الناسخ بعده وليس ذلك من جهة تأويل اللفظ في وضعه وإنما هو من جهة [تقدير] شرط مسكوت عنه وهو متضمن كل أمر يجوز تقدير نسخه.
1421- فإن قيل: لو قال الشارع: هذا الحكم مؤبد عليكم لا ينسخه شيء فهل يجوز تقدير النسخ فيه والحالة هذه؟
قلنا: إذا ثبت هذا المعنى نصا لم يجز ورود [النسخ عليه] فإن [في] تقدير [ورود] النسخ عليه تجويز الخلف ولهذا اعتقدنا تأبيد شريعتنا ولا يكاد يبقى خلاف معنوي مع الفقهاء.

 

ج / 2 ص -250-       وما ذكرناه إن كان تنبيها لم [ينتبه] إليه [بحث] الفقهاء [و] إشارة إلى تهذيب لفظ في التعرض لإظهار الشرط [المقدر] الذي لا بد منه فإذا رجع إلى أن الثابت في علم الله تعالى لا ينسخ التفتت المذاهب إلى الوفاق فإن وافق القاضي ما ذكرناه فلا خلاف وإن أصر على أن النسخ يتضمن رفعا لم يكن لمذهبه وجه.
1422- والنسخ فيما اخترناه مثل ما نصفه.
فنقول: إذا توجه الأمر الجازم على معين فهو مشروط بأن يبقى إمكانه فإذا اخترم تبينا لم يكن مأمورا فإن توجه الأمر مشروط بالإمكان والأمر وإن كان مطلقا فالإمكان مشروط [فيه] وإن لم يجر ذكره تصريحا.
وقد ذكرنا في ذلك قولا بليغا في كتاب الأوامر ونقلنا في ذلك لجاج القاضي وطريق تتبعه بالنقض مع بناء الأمر على [امتناع] تكليف ما لا يطاق.
مسألة:
1423- منعت اليهود النسخ وتابعهم على منعه غلاة الروافض من التناسخية وغيرهم وافترق نفاته فرقتين:
فذهب أكثرهم إلى أن النسخ ممتنع عقلا.
فنقول لهؤلاء: إن زعمتم أن وقوعه مستحيل وأن [امتناعه من] جهة استحالة وقوعه فقد جحدتم البديهة فإنا نعلم على اضطرار أن ذلك ممكن الوقوع.
1424- وإن جحدتم ذلك من جهة أن المأمور به الأول مستحسن فلو فرض النهي عنه لتضمن [ذلك] كونه مستقبحا وفي ذلك خروجه عن حقيقة الأولى فقد قدمنا في أول الكتاب أن الاستحسان والاستقباح لا يرجعان إلى حقائق الأفعال وصفات ذواتها.
ثم القول في النسخ غير مفروض فيما يزعم المخالفون أنه حسن لعينه أو قبيح لعينه وإنما تفرض مسائل النسخ في التفاصيل التي تتفق أرباب العقول على أن مداركها الشرع لا غير.
1425- وإن زعموا أن النسخ ممتنع من جهة إفضائه إلى البداء والقديم سبحانه وتعالى متعال عنه فلا حقيقة لهذا فإن البداء إن أريد به تبين ما لم يكن متبينا في علمه فليس هذا من شرط النسخ فإن الرب تعالى كان عالما في أزلة.

 

ج / 2 ص -251-       تفاصيل ما يقع فيما لا يزال ولئن كان يلزم من تجدد الإحكام البداء لزم من تجدد الحوادث إماتة وإحياء وإعاشة [وإرداء] ما ادعاه هؤلاء وليس الأمر كذلك.
1426- فإن ردوا الامتناع إلى ما يتعلق باستصلاح العباد واستفسادهم فهذا غير مرضى عندنا في حكم الله تعالى ثم لا يمتنع في غيبه أن يكون الاستصلاح في تبديل الأحكام كلما فتر قوم في امتثال الأحكام أرسل الله تعالى إليهم مبتعثا جديدا بحكم جديد فلا وجه لادعاء الاستحالة من طريق العقل.
1427- وزعم زاعمون أن النسخ ممتنع من جهة السمع.
وادعى طوائف من اليهود: أن موسى عليه السلام أنبأهم أن شريعته مؤبدة إلى قيام الساعة وزعم هؤلاء أن طريق معرفة ذلك من دينهم كطريق معرفتنا بذلك من ديننا.
1428- وهذا باطل من وجهين:
أحدهما: أن الأمر لو كان كذلك لما قامت معجزة عيسى عليه السلام ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم بعده على نسخ ملة موسى فإن أنكروا قيام المعجزة رد الكلام معهم إلى أصل النبوات وكان سبيل إنكارهم معجزة من بعد موسى كسبيل إنكار من يجحد معجزة موسى.
1429- والوجه الثاني: أن ما ادعوه من دينهم لو كان صريحا لأظهروه وباحوا به من عصر نبينا عليه السلام ولا تخذوا ذلك أقوى عصمهم ولو فعلوا ذلك لنقله الناقلون متواترا لأن الأمر الخطير لا يخفى وقوعه وتتوفر الدواعي على نقله فقد ثبت جواز النسخ عقلا وشرعا.
1430- ولو أردنا أن نبتدئ الدليل على جوازه فأقرب مسلك فيه التمسك بمعجزة عيسى بعد موسى عليهما السلام ثم التمسك بالإجماع في تحريم الخمر بعد ثبوت تحليلها في صدر الشرع وهذا على من ينكر النسخ من اهل الملة ممن ينتمي إلى المسلمين ثم نقول لهؤلاء: لا شك في مخالفة [دين نبينا] محمد صلى الله عليه وسلم دين موسى وعيسى عليهما السلام في معظم قواعد الشريعة فكيف السبيل إلى تصديق الأنبياء مع إنكار النسخ؟ وهذا فيه أكمل مقنع.

 

ج / 2 ص -252-       مسألة: مترجمة بالنسخ قبل الفعل.
1431- وهذه الترجمة فيها خلل من جهة أن كل نسخ واقع فهو متعلق بما كان يقدر وقوعه في المستقبل فإن النسخ لا ينعطف على مقدم سابق.
والغرض من هذه المسألة أنه إذا فرض ورود أمر بشيء فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضي من وقت اتصال الأمر به زمن يتسع لفعل المأمور به؟
1432- فالذي ذهب إليه أهل الحق جواز ذلك وأطبقت المعتزلة على منعه وساعدهم على ذلك طوائف من الفقهاء.
1433- والدليل على تجويزه كالدليل على تجويز أصل النسخ فالوجه رد الكلام إلى التقاسيم السابقة في مسالك العقول التي يتلقى منها الجواز والاستحالة.
1434- فإذا قالوا: النسخ يرجع إلى بيان مدة التكليف وليس رافعا لما ثبت في حكم الله تعالى [ولو جوزنا النسخ في صورة الخلاف لكان ذلك رافعا للحكم لا محالة.
قلنا: ما ذكرناه من اختيارنا يجيب عن هذا فإنا نقول النسخ راجع إلى إظهار انتفاء لشرط بقاء الحكم فإن الحكم الموجه مشروط بألا ينسخ فإذا ثبت النسخ قبل انقضاء زمان يسع الفعل بان أنه لا حكم أصلا.
وهو من طريق التمثيل كزوال إمكان المكلف قبل استتمام الفعل.
1435- وإذا رد المعتزلة الكلام إلى استصلاح العباد لم يخف خلافنا لهم في أصل ذلك ثم لا يبعد في مجاري أحكام الغيب أن يكون الاستصلاح في أن يخاطبوا ويقبلوا ثم يرفع عنهم التكليف حتى يؤجروا على صدق نياتهم ويوفوا مالا يستقلون به في علم الله تعالى.
1436- ثم استدل أصحابنا في تجويز النسخ قبل الفعل بما جرى في قصة الخليل عليه السلام وابنه الذبيح الحق أو إسماعيل عليهم السلام.
ووجه التمسك أن الأمر بالذبح نسخ قبل وقوعه.
1437- فإن زعم المخالف أن المأمور به كان شدا وربطا وتلا للجبين كان ذلك باطلا من وجهين:

 

ج / 2 ص -253-       أحدهما أن الخليل عليه السلام اعتقد وجوب الذبح [ولو لم يكن] الأمر كذلك لما كان هذا بلاء عظيما كما أشعر به القرآن العظيم وهذا مقطوع به ويستحيل أن يكون معتقد النبي عليه السلام في الذي خوطب به خطا.
ثم الفداء دليل على ارتفاع الذبح بعد وقوعه الأمر [به] وقيام الفداء مقام ما كان المأمور به من الذبح.
1438- فإن [تعلقوا] بقوله تعالى:
{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}1.
قيل لهم: لم يقل: قد حققت [أوأ] وقعت ما أمرت به بل قال صدقت وليس من شرط التصديق إيقاع ما يتعلق التصديق به.
1439- وقال بعض المخالفين: وقع الذبح وجرت المدية وكانت تقطع ويلتحم ما انقطع وهذا بهت عظيم إذ لو كذلك لكان هذا أحق منقول وأظهر معجزة تتوفر الدواعي على نقلها ونص القرآن مع ما فيه من القيود والقرائن أصدق شاهد في ذلك فإنه قال:
{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} ولو كان ذبح لما وقع الاقتصار على ذكر التل للجبين دون وقوع المأمور به ثم ذكر الفداء بعد هذا مشعر بأن الذبح المأمور به لم يقع وأن الفداء قائم مقامه.
وهذا منتهى المثال في ذلك.
مسألة:
1440- قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وتردد قوله في نسخ السنة بالكتاب والذي اختاره المتكلمون وهو الحق المبين أن نسخ الكتاب بالسنة غير ممتنع.
والمسألة دائرة على حرف واحد وهو أن الرسول لا يقول من تلقاء نفسه أمرا وإنما يبلغ ما يؤمر به كيف فرض الأمر ولا امتناع بأن يخبر الرسول الأمة مبلغا بأن حكم آية يذكرها قد رفع عنكم.
ويرجع حاصل القول في المسألة إلى أن النسخ لا يقع إلا بأمر الله تعالى ولا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "105" سورة الصافات.

 

ج / 2 ص -254-       ناسخ إلا الله والأمر كيف فرض جهات تبليغه لله تعالى فهذا القدر فيه مقنع.
1441 - فإن زعم الفقيه أن القرآن معجزة بخلاف السنة فليس المنسوخ نفس القرآن وإنما المنسوخ حكمه ولا إعجازه في الحكم [و] هذا عرى عن التحصيل.
1442- وإن تعلقوا بقوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}1 فهذا خبر من الله تعالى وليس فيه ما يتضمن استحالة الوقوع وفيها الخلاف بل لا يمتنع تأويل الظواهر ولا وقع لها في القطعيات.
1443- ثم لا محمل لقول القائل: لا تنسخ السنة بالقرآن.
فيقال لمن أنتحل هذا المذهب: نزول القرآن بخلاف السنة ممتنع أم لا فإن منعه كان منكرا من القول وإن جوزه وزعم أن الرسول يسن عند نزوله سنة بخلاف السنة الأولى فيقع نسخ السنة بالسنة فهذا من الهزء واللعب والتلاعب بالحقائق وكيف يقدر وقوف النسخ وقد ورد القرآن.
وبالجملة إلى الله مصير الأمور ومنه النسخ والإثبات والرسول عليه السلام مبلغ في البين وهذا القدر كاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "106" سورة البقرة.

مسألة: مشهورة بالزيادة على النص.
1444- ومدارها على تحقيق تصويرها فإذا ورد نص في شيء [واقتضى] وروده الاقتصار على المنصوص عليه والحكم بالإجزاء فكان ذلك مقطوعا تلقيا من اللفظ والفحوى ولو فرضنا زيادة مشروطة لتضمن ثبوتها نسخ الإجزاء في المقدار الأول لا محالة ولا [يسوغ] تقدير الخلاف في ذلك.
1445- وإن اقتضى ما ورد به أولا الإجزاء وجواز الاقتصار اقتضاء ظاهرا وكان يتطرق التأويل إليه في منع الإجزاء فلو فرضت زيادة كانت في معنى إزالة الظاهر الأول ولم يتضمن نسخا اعتبارا بكل ظاهر يزال بحكم التأويل.
وهذا مما لا أرى فيه للخلاف مساغا.
1446- وإذا ثبت هذان الطرفان وهما حظ الأصول فالكلام بعدهما في

 

ج / 2 ص -255-       ألفاظ ظنها الظانون نصوصا وهي ظواهر ثم القول في تفاصيلها مستقصى في "الأساليب" ولكنا نضرب للتمثيل صورا:
منها: أن أصحاب أبي حنيفة ظنوا أن من أثبت النية في الطهارة فقد زاد على النص والكلام في ذلك مشهور.
وأقرب مسلك فيه: أنا لا نبعد أن يكون غرض الآية مقصورا على بيان [أفعال الطهارة] وتقدير هذا لا يخالف نصا ولا فحوى وليس مع تجويز هذا لإدعاء النص وجه.
ومنها: قوله تعالى في كفارة الظهار:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}1 قال أصحاب أبي حنيفة: زيادة الإيمان نسخ الأجزاء في الرقبة المطلقة وقد أوضحنا أن هذا تخصيص عموم.
ومنها قوله تعالى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}2.
قالوا إثبات الشاهد واليمين يخالف هذا الحصر وهذا لا وجه له مع أن هذا الاحتياط مندوب إليه ونحن لا ننكر الندب [إلى بينة] كاملة مغنية عن الحلف.
ومنها قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}3 الآية مع استدلال الخصم بها في معنى التغريب.
وهذا من أظهر ما يتمسكون به وليس نصا فإنه لا يمتنع اشتمال الآية على بعض العقوبة وإحالة تمامها إلى بيان الرسول عليه السلام إذ ليس في الآية للرجم في حق المحصن ذكر.
فهذا بيان حقيقة القول في المسألة.
مسألة:
1447- أجمع العلماء على أن الثابت قطعا لا ينسخه مظنون فالقرآن لا ينسخه الخبر المنقول آحادا والسنة المتواترة لا ينسخها ما نقله غير مقطوع به ووراء ما ذكرناه حقيقة هي كشف الغطاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "3" سورة المجادلة.
2 آية "282" سورة البقرة.
3 آية "2" سورة النور.

 

ج / 2 ص -256-       ونحن نبينها بسؤال وجواب عنه:
فإن قيل ما المانع من انتصاب دليل قاطع على أن الخبر إذا نقله العدول يجب ترك حكم القرآن عند نقلهم؟.
قلنا هذا غير ممتنع لو ورد ولكن لم يرد ثم لو قدر وروده فالنسخ يتلقى من الدليل القاطع والخبر المنقول آحادا في حكم العلم الذي يقع العمل عنده لا به وقد تكرر هذا الفن مرارا في مسائل هذا المجموع.
وهذا الذي ذكرناه في الخبر يطرد في القياس أيضا.
مسألة:
1448- يجوز نسخ رسم آية من القرآن في التلاوة مع بقاء حكمها ويجوز تقدير نسخ حكمها مع بقاء رسمها في آي القرآن.
وقد منع مانعون من المعتزلة الأمرين وصار إلى منع أحدهما دون الآخر [على البدل] صائرون.
وما ذكرنا في طريق إثبات الجواز في مسالك هذا الكتاب يجري على المنكر للجواز في هذه المسألة.
ثم الأمر بالتلاوة على نظم القرآن حكم غير القرآن فيؤل القول في الحقيقة إلى نسخ حكم فأما عين القرآن فلا يرد عليه نسخ [أصلا].
مسألة:
1449- إذا ثبت النسخ ولم يبلغ خبره قوما فهل يثبت النسخ في حقهم قبل بلوغ الخبر إياهم؟.
هذا ما أختلف فيه الأصوليون.
وعندنا أن المسالة إذا حقق تصويرها لم يبق فيها خلاف فإن قيل على من لم يبلغه الخبر الأخذ بحكم الناسخ قبل العلم به فهذا ممتنع عندنا وهو من فن تكليف ما لا يطاق وهو مستحيل في تكليف الطلب وإن أريد بثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الخبر أن الخبر إذا بلغه لزمه تدارك أمر فيما مضى فهذا لا امتناع فيه وإذا ردت المذاهب المطلقة في النفي والإثبات إلى هذا التفصيل لم يبق للخلاف تحصيل.

 

ج / 2 ص -257-       مسألة:
- 1450لا يمتنع نسخ الحكم من غير بدل عنه ومنع ذلك جماهير المعتزلة وهذا تحكم منهم والدليل على جوازه ما تمهد في مسألة التجويز في أصل النسخ فلا معنى للإعادة بعد وضوح المقصد.
مسألة:
1451- إذا ورد نص واستنبط منه قياس ثم نسخ النص تبعه القياس المستنبط [منه].
وقال أبو حنيفة: لا يبطل القياس وإن نسخ النص وقد جرى له هذا المسلك في الأخذ من صوم [يوم] عاشوراء [في ترك حكم التبييت] لما اعتقد وجوبه ثم ثبت نسخ وجوبه.
1452- والقول الواقع في ذلك عندنا أن المعنى المستنبط من الأصل الأول إذا نسخ أصله [بقي] معنى لا أصل له فإن صح استدلالا نظرنا فيه وإن لم يصح أبطلناه.