التبصرة في أصول الفقه

مسَائِل الِاسْتِثْنَاء
مَسْأَلَة 1
لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء إِلَّا إِذا اتَّصل الْكَلَام
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ يَصح الِاسْتِثْنَاء إِلَى سنة

(1/162)


وَرُوِيَ عَن الْحسن وَعَطَاء أَنه يَصح مَا دَامَ الْمجْلس
لنا هُوَ أَن أهل اللِّسَان لَا يسمون مَا انْفَصل عَن الْكَلَام وتراخى عَنهُ اسْتثِْنَاء فِي عرفهم وعادتهم
أَلا ترى أَنه لَو قَالَ رَأَيْت النَّاس ثمَّ قَالَ بعد شهر إِلَّا زيدا لَكَانَ ذَلِك لَغوا فَدلَّ على أَن ذَلِك لَا يجوز
وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ هَذَا لم يوثق بِأحد فِي وعد وَلَا وَعِيد لجَوَاز أَن يسْتَثْنى بعد زمَان مَا يسْقط حكم الْكَلَام وَفِي اتِّفَاق أهل اللِّسَان على خلاف هَذَا دَلِيل على بطلَان هَذَا القَوْل
وَلِأَن من جوز الِاسْتِثْنَاء إِلَى سنة لم ينْفَصل عَن من جوزه إِلَى سنتَيْن وَثَلَاث فَوَجَبَ أَن يكون الْجَمِيع بَاطِلا

(1/163)


وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَخْصِيص عُمُوم فَجَاز أَن يتَأَخَّر عَن الْعُمُوم كالتخصيص بِغَيْر الِاسْتِثْنَاء
قُلْنَا لَا نسلم الأَصْل على قَول من لم يجوز من أَصْحَابنَا تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب
فَإِن سلمنَا ذَلِك فَإنَّا نقلب عَلَيْهِم فَنَقُول تَخْصِيص عُمُوم فَاسْتَوَى فِيهِ السّنة وَمَا زَاد دَلِيله التَّخْصِيص بِغَيْر الِاسْتِثْنَاء

(1/164)


مَسْأَلَة 2
الِاسْتِثْنَاء من غير جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لَا يكون اسْتثِْنَاء حَقِيقَة
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا يكون حَقِيقَة وَهُوَ قَول بعض الْمُتَكَلِّمين
لنا هُوَ أَنه أحد مَا يخْتَص بِهِ اللَّفْظ الْعَام فَلم يَصح فِيمَا لم يدْخل فِي الْعُمُوم كالتخصيص بِغَيْر الِاسْتِثْنَاء
وَلِأَنَّهُ قيل إِن الِاسْتِثْنَاء مَأْخُوذ من قَوْلهم ثنيت فلَانا عَن رَأْيه وثنيت عنان الدَّابَّة إِذا صرفتها
وَقيل إِنَّه مَأْخُوذ من تَثْنِيَة الْخَبَر بعد الْخَبَر وَهَذَا لَا يُوجد إِلَّا فِيمَا دخل فِي الْكَلَام حَتَّى يثنيه على القَوْل الأول ويثني فِيهِ الْخَبَر على القَوْل الثَّانِي

(1/165)


وَلِأَن أَلْفَاظ الِاسْتِثْنَاء كَقَوْلِه إِلَّا وَغير وَسوى لَا تستقل بأنفسها وَلَا يَصح الِابْتِدَاء بهَا فَدلَّ على أَنه يتَعَلَّق بالمستثنى مِنْهُ وَلَيْسَ لتَعَلُّقه بِهِ وَجه أَكثر من أَنَّهَا تخرج بعض مَا اقْتَضَاهُ
وَلِأَنَّهُ يقبح فِي الْكَلَام أَن يُقَال خرج النَّاس إِلَّا الْحمير وَرَأَيْت النَّاس إِلَّا الْكلاب فَدلَّ على أَنه لَيْسَ بِحَقِيقَة
وَاحْتَجُّوا بِأَن الِاسْتِثْنَاء من غير جنسه لُغَة الْعَرَب وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} وَهَذَا كُله اسْتثِْنَاء من غير الْجِنْس
وَقَالَ الشَّاعِر
وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس ... إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس
فاستثنى اليعافير والعيس من الأنيس
وَقَالَ الآخر
وَلَا عيب فيهم غير أَن سيوفهم ... بِهن فلول من قراع الْكَتَائِب

(1/166)


والفلول من قراع الْكَتَائِب لَيْسَ بِعَيْب وَقد اسْتَثْنَاهُ من الْعَيْب
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه قَوْله سُبْحَانَهُ {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس} اسْتثِْنَاء من جنسه لِأَن إِبْلِيس من جنس الْمَلَائِكَة
فَإِن قيل فَكيف يكون من جُمْلَتهمْ وَقد قَالَ إِنَّه من الْجِنّ
قيل رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ هُوَ من جملَة الْمَلَائِكَة
وَقيل إِنَّه كَانَ من خزان الْجنَّة وَكَانَ رئيسهم وَإِنَّمَا سمي بذلك اشتقاقا من الْجنَّة فَبَطل مَا قَالُوهُ
وَأما قَوْله {إِلَّا رب الْعَالمين} فَالْمُرَاد بِهِ لَكِن رب الْعَالمين
وَأما قَول الشَّاعِر: إِلَّا اليعافير وَلَا العيس
فَهُوَ اسْتثِْنَاء من جنسه لِأَن ذَلِك كُله مِمَّا يسْتَأْنس بِهِ
وَأما قَوْله وَلَا عيب فيهم فَهُوَ أَيْضا اسْتثِْنَاء من جنسه لِأَن الفلول عيب فِي نَفسه وَإِن كَانَ قد جعل ذَلِك نسيبا يمدح بِهِ قراع الْكَتَائِب

(1/167)


مَسْأَلَة 3
يَصح الِاسْتِثْنَاء الْأَكْبَر من الْجُمْلَة
وَقَالَ أَحْمد لَا يَصح اسْتثِْنَاء النّصْف فَمَا زَاد عَلَيْهِ وَبِه قَالَ ابْن درسْتوَيْه
لنا قَوْله تَعَالَى {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين}

(1/168)


ثمَّ قَالَ {فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} فاستثنى الغاوين من الْعباد والعباد من الغاوين وَأيهمَا كَانَ أَكثر فقد اسْتَثْنَاهُ من الآخر فَدلَّ على جَوَازه
وَلِأَنَّهُ معنى يخرج من الْعُمُوم مَا لولاه لدخل فَجَاز فِي الْأَكْثَر كالتخصيص وَلِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء بعض مَا اقْتَضَاهُ الْعُمُوم فصح كالأقل
وَاحْتَجُّوا بِأَن طَرِيق الِاسْتِثْنَاء اللُّغَة وَلم يسمع ذَلِك فِي الْأَكْثَر فَوَجَبَ أَن لَا يجوز
قُلْنَا لَا نسلم بل قد سمع ذَلِك فِي اللُّغَة قَالَ الشَّاعِر
أَدّوا الَّتِي نقضت تسعين من مائَة ... ثمَّ ابْعَثُوا حكما بِالْحَقِّ قوالا
وَهَذَا فِي معنى الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ تَقْدِيره مائَة إِلَّا تسعين
وَلِأَنَّهُ وَإِن لم يسمع من أهل اللُّغَة إِلَّا أَن الْقُرْآن قد نزل بِهِ على مَا بَيناهُ وَالْقُرْآن أقوى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ فِي معرفَة اللُّغَة
وَلِأَنَّهُ لَو لم يسمع لَكَانَ ذَلِك فِي معنى المسموع لِأَن الْقَصْد من الِاسْتِثْنَاء الِاسْتِدْرَاك على نَفسه فِيمَا أوردهُ من القَوْل وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْقَلِيل وَالْكثير فَكَانَ حكم أَحدهمَا كَحكم الآخر يبين صِحَة هَذَا هُوَ أَنا لم نسْمع مِنْهُم الِاسْتِثْنَاء فِي كل جنس وَفِي كل عدد لَكِن لما عرفنَا غرضهم فِيمَا سمعناه من كَلَامهم حملنَا عَلَيْهِ كل عدد وكل جنس فَكَذَلِك هَاهُنَا
قَالُوا وَلِأَن كَلَام الْعَرَب مَوْضُوع على الِاخْتِصَار وَلَيْسَ من الِاخْتِصَار أَن يَقُول لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا تِسْعَة وَنصفا ويمكنه أَن يَقُول عَليّ نصف دِرْهَم
قُلْنَا هم يبسطون الْكَلَام تَارَة ويختصرونه أُخْرَى وَلَهُم بِالْجَمِيعِ عَادَة فَلَا يجوز إِسْقَاط إِحْدَى العادتين بِالْأُخْرَى

(1/169)


وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي هَذَا دَلِيل على أَنه لَا يجوز اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر لم يجز أَن يَجْعَل دَلِيلا على أَنه يجوز اسْتثِْنَاء الْأَقَل لِأَنَّهُ لَيْسَ من الِاخْتِصَار أَنه يجمع بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات وَيذكر عددين فَيَقُول عَليّ عشرَة إِلَّا أَرْبَعَة ويمكنه أَن يقْتَصر على الْإِثْبَات فَيَقُول لَهُ عَليّ سِتَّة وَلما أجمعنا على جَوَاز ذَلِك دلّ على بطلَان مَا قَالُوهُ
قَالُوا وَلِأَن عَادَة الْعَرَب فِي الْكَلَام إِذا ضمُّوا مَجْهُولا إِلَى مَعْلُوم أَن يبنوا الْأَمر على التَّقْرِيب فَإِذا كَانَ الْمَجْهُول قَرِيبا من العقد ذكرُوا العقد واستثنوا الْمَجْهُول وَإِن كَانَ بَعيدا مِنْهُ ضموه إِلَى مَا قبله من الْعدَد وَلم يستثنوه فَيَقُولُونَ فِيمَا قرب من العقد كران إِلَّا شَيْئا وَفِيمَا بعد من العقد كرّ حِنْطَة وَشَيْء وَلِهَذَا حمل الشَّافِعِي رَحمَه الله قَول ابْن جريج فِي تَقْدِير الْقلَّة بالقربتين وَشَيْء الشَّيْء على دون النّصْف ثمَّ بلغ بِهِ النّصْف احْتِيَاطًا للْمَاء فَدلَّ على أَنه لَا يَسْتَثْنِي إِلَّا الْأَقَل
قُلْنَا هَذَا هُوَ الدَّلِيل عَلَيْكُم لأَنهم إِذا ضمُّوا مَجْهُولا إِلَى عقد ثمَّ فسر ذَلِك بِمَا يُقَارب العقد الثَّانِي جَازَ وَهُوَ أَن يَقُول لَهُ عَليّ كرّ وَشَيْء ثمَّ يُفَسر الشَّيْء بِأَكْثَرَ من النّصْف
وَإِن كَانَت الْعَادة أَن لَا يضم الْمَجْهُول إِلَى العقد الأول إِلَّا إِذا كَانَ أقل من

(1/170)


النّصْف فَكَذَلِك يجوز اسْتثِْنَاء الْمَجْهُول من العقد الثَّانِي ثمَّ يُفَسر ذَلِك بِمَا زَاد على النّصْف وَإِن كَانَت الْعَادة فِيهِ خلاف ذَلِك
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ جَوَاز الِاسْتِثْنَاء يعْتَبر بِمَا يعتادونه من كَلَامهم من ضم الْمَجْهُول إِلَى الْجُمْلَة واستثنائه مِنْهَا لوَجَبَ أَن لَا يجوز اسْتثِْنَاء الشَّيْء الْيَسِير من الْجُمْلَة فَإِنَّهُم لَا يَقُولُونَ فِي الْعَادة عَليّ عشرَة إِلَّا شَيْئا ويريدون بِهِ اسْتثِْنَاء أَرْبَعَة مِنْهَا وَلما أجمعنا على جَوَاز اسْتثِْنَاء أَرْبَعَة من الْعشْرَة دلّ على بطلَان مَا ذَكرُوهُ

(1/171)


مَسْأَلَة 4
إِذا تعقب الِاسْتِثْنَاء جملا عطف بَعْضهَا على بعض رَجَعَ الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجَمِيع

(1/172)


وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة يرجع إِلَى أقرب الْمَذْكُور فَقَط
وَقَالَ الأشعرية هُوَ مَوْقُوف على الدَّلِيل
لنا هُوَ أَن الِاسْتِثْنَاء معنى يَقْتَضِي التَّخْصِيص لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَإِذا تعقب جملا رَجَعَ إِلَى الْجَمِيع كالشرط وَهُوَ إِذا قَالَ امْرَأَتي طَالِق وعبدي حر وَمَالِي صَدَقَة إِن شَاءَ الله كَانَ هَذَا الشَّرْط يرجع إِلَى الْجَمِيع فَكَذَلِك الِاسْتِثْنَاء
وَلِأَن مَا جَازَ أَن يرجع إِلَى كل وَاحِدَة من الْجمل إِذا انْفَرَدت عَاد إِلَى جَمِيعهَا إِذا عطف بَعْضهَا على بعض كالشرط الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَيبين صِحَة هَذَا هُوَ أَن الِاسْتِثْنَاء فِي معنى الشَّرْط أَلا ترى أَنه لَا فرق بَين قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} وَبَين قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} وَإِنَّمَا اخْتلف لَفْظهمَا فَإِذا رَجَعَ الشَّرْط إِلَى الْجَمِيع وَجب أَن يرجع الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجَمِيع

(1/173)


وَلِأَنَّهُ يصلح عوده إِلَى كل وَاحِدَة من الْجمل وَلَيْسَ بَعْضهَا بِأولى من الْبَعْض فَوَجَبَ أَن يرجع إِلَى الْجَمِيع كالعموم لما صلح لَفظه لكل وَاحِد من الجنسين وَلم يكن بعضهما بِأولى من الْبَعْض حمل على الْكل كَذَلِك هَاهُنَا
وَلِأَن الْمَعْطُوف بِالْوَاو كالمذكور جملَة وَاحِدَة يدلك عَلَيْهِ هُوَ أَنه لَا فرق بَين أَن يَقُول اقْتُلُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَبَين أَن يَقُول اقْتُلُوا الْمُشْركين
ثمَّ ثَبت أَن الِاسْتِثْنَاء إِذا تعقب الْمَذْكُور جملَة عَامَّة رَجَعَ إِلَى الْجَمِيع مثل أَن يَقُول اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا من أدّى الْجِزْيَة فَكَذَلِك إِذا أفرد بَعْضهَا عَن بعض وَعطف بِالْوَاو
فَإِن قيل فرق بَين الْمَذْكُور جملَة وَاحِدَة وَبَين الْمَعْطُوف بِالْوَاو أَلا ترى لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا طَلْقَة يَصح اسْتِثْنَاؤُهُ وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق إِلَّا تَطْلِيقَة لم يَصح
قُلْنَا هَذِه الْمَسْأَلَة فِيهَا وَجْهَان فَلَا نسلم على أَحدهمَا
وَإِن سلمنَا فَلِأَن هُنَاكَ لَا يجوز أَن ترد إِلَى كل وَاحِد من الْجُمْلَة عِنْد الِانْفِرَاد فَكَذَلِك لَا يجوز عِنْد الِاجْتِمَاع وَفِي مَسْأَلَتنَا بِخِلَافِهِ
فَإِن قيل إِذا ذكر جملَة عَامَّة ثمَّ اسْتثِْنَاء لم يفصل بَين الِاسْتِثْنَاء والمستثنى مِنْهُ بِمَا يمْنَع الرُّجُوع وَإِذا عطف بَعْضهَا على بعض فقد فصل بَين الِاسْتِثْنَاء وَالْجُمْلَة الأولى بِمَا يمْنَع الرُّجُوع وَهُوَ الْجُمْلَة المعطوفة
قيل الْوَاو تَقْتَضِي الْجمع والتشريك وَالْمَذْكُور بالْعَطْف كالمجموع بِلَفْظ عَام فَإِذا رَجَعَ الِاسْتِثْنَاء فِي أَحدهمَا إِلَى الْجَمِيع فَكَذَلِك فِي الآخر

(1/174)


وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ فصل بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَة بَين الْجُمْلَة الأولى وَبَين الِاسْتِثْنَاء فَلم يرجع الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا كَمَا لَو فصل بَينهمَا بِقطع الْكَلَام وإطالة السُّكُوت
قُلْنَا الْفَصْل بَين الْجُمْلَة وَالِاسْتِثْنَاء بالْكلَام لَا يمْنَع من عود الِاسْتِثْنَاء وَإِن كَانَ الْفَصْل بالإطالة وَالسُّكُوت يمْنَع أَلا ترى أَنه لَو فصل بَين الْجُمْلَة وَالِاسْتِثْنَاء بالْخبر بِأَن يَقُول أعْط بني تَمِيم وَبني طَيء كل وَاحِد دِينَارا إِلَّا الْكفَّار لم يمْنَع ذَلِك من رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجَمِيع وَلم يَجْعَل ذَلِك بِمَنْزِلَة مَا لَو فصل بَينهمَا بِالسُّكُوتِ
قَالُوا وَلِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء تعقب جملتين فَلم يرجع بِظَاهِرِهِ إِلَيْهِمَا كَمَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا ثَلَاثًا إِلَّا أَرْبعا
قُلْنَا إِنَّمَا يرجع فِيمَا ذَكرُوهُ إِلَى الْجَمِيع لِأَن الِاسْتِثْنَاء يرفع الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَهَاهُنَا لَا يرفع الْمُسْتَثْنى مِنْهُ يدلك عَلَيْهِ أَن فِيمَا ذَكرُوهُ لَو انْفَرَدت كل وَاحِدَة من هَذِه الْجمل وتعقبها الِاسْتِثْنَاء لم يرجع إِلَيْهَا وَهَاهُنَا لَو انْفَرَدت كل وَاحِدَة من هَذِه الْجمل وتعقبها الِاسْتِثْنَاء رَجَعَ إِلَيْهَا فَدلَّ على الْفرق بَينهمَا
قَالُوا وَلِأَن الْعُمُوم قد ثَبت فِي كل وَاحِدَة من هَذِه الْجمل وتعقبها الِاسْتِثْنَاء وَتَخْصِيص جَمِيعهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ مَشْكُوك فِيهِ فَلَا يجوز تَخْصِيص الْعُمُوم بِالشَّكِّ
قُلْنَا لَا نسلم ثُبُوت الْعُمُوم مَعَ اتِّصَال الِاسْتِثْنَاء بالْكلَام ثمَّ هَذَا يبطل بِالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَة إِذا تناولت أَشْيَاء ثمَّ تعقبها اسْتثِْنَاء بِأَن الْعُمُوم قد ثَبت لكل وَاحِدَة من الْجمل على زعمهم ثمَّ الِاسْتِثْنَاء يعود إِلَى الْجَمِيع
وعَلى أَنا نعارضهم بِمثلِهِ فَنَقُول الْقدر الَّذِي حصل عَلَيْهِ الْوِفَاق أصل دَاخل فِي عُمُوم الجملتين بِيَقِين وَهُوَ لم يتَنَاوَلهُ الِاسْتِثْنَاء بِالْإِجْمَاع وَمَا زَاد عَلَيْهِ مَشْكُوك فِيهِ فَلَا يحمل اللَّفْظ عَلَيْهِ بِالشَّكِّ

(1/175)


قَالُوا وَلِأَن الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا رد إِلَى مَا تقدم لِأَنَّهُ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَإِذا رد إِلَى مَا يَلِيهِ اسْتَقل فَلم تجز الزِّيَادَة عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيل
قُلْنَا هَذَا بَاطِل بِالشّرطِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا علق على مَا يتَّصل بِهِ من الْكَلَام لِأَنَّهُ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَإِذا رد إِلَى مَا يَلِيهِ اسْتَقل ثمَّ لَا يقْتَصر عَلَيْهِ
قَالُوا لِأَنَّهُ لَو قَالَ امْرَأَتي طَالِق وَأعْطِ فلَانا عشرَة دَرَاهِم إِن دخل الدَّار لم يرجع إِلَى الطَّلَاق فَكَذَلِك هَاهُنَا
قُلْنَا فِيمَا ذكرْتُمْ عدل عَن لفظ الْخَبَر إِلَى الْأَمر وَقطع حكم الْكَلَام الأول فروعي حكم الشَّرْط فِيمَا اسْتَأْنف وَلَيْسَ كَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا فَإِنَّهُ لم يقطع مَا تقدم بِغَيْرِهِ فوزانه من الشَّرْط أَن يَقُول امْرَأَتي طَالِق وَلفُلَان على عشر دَرَاهِم إِن دخلا الدَّار فَيرجع الشَّرْط إِلَى الْجَمِيع
وَاحْتج من ذهب إِلَى الْوَقْف بِأَنَّهُ يجوز أَن يكون عَائِدًا إِلَى الْبَعْض وَيجوز أَن يكون عَائِدًا إِلَى الْجَمِيع فَوَجَبَ التَّوَقُّف فِيهِ
قُلْنَا هُوَ وَإِن احْتمل أَن يكون عَائِدًا إِلَى الْبَعْض إِلَّا أَن عوده إِلَى الْكل هُوَ الظَّاهِر وَقد دللنا عَلَيْهِ فَوَجَبَ حمل الْكَلَام عَلَيْهِ وَإِن احْتمل غَيره

(1/176)