التبصرة في أصول الفقه مسَائِل الْأَخْبَار
مَسْأَلَة 1
للْخَبَر صِيغَة تدل عَلَيْهِ بِنَفسِهِ فِي اللُّغَة
وَقَالَت الأشعرية لَيْسَ للْخَبَر صِيغَة تدل عَلَيْهِ
بِنَفسِهِ
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة الْخَبَر إِنَّمَا يصير خَبرا بِشَرْط
أَن يَنْضَم إِلَى اللَّفْظ قصد الْمخبر إِلَى الْإِخْبَار
بِهِ كَمَا قَالُوا فِي الْأَمر وَالنَّهْي
لنا هُوَ أَن أهل اللِّسَان قسموا الْكَلَام فَقَالُوا أَمر
وَنهي وَخبر واستخبار
فَالْأَمْر قَوْلك افْعَل
وَالنَّهْي قَوْلك لَا تفعل
وَالْخَبَر قَوْلك زيد فِي الدَّار
والاستخبار قَوْلك أَزِيد فِي الدَّار
وَهَذَا يدل على أَن اللَّفْظ مَوْضُوع للْخَبَر يدل عَلَيْهِ
بِنَفسِهِ
وَاحْتَجُّوا بِأَن هَذِه الصِّيغَة ترد وَيُرَاد بهَا
الْخَبَر كَمَا قُلْتُمْ وَترد وَالْمرَاد بهَا غير الْخَبَر
كَقَوْلِه تَعَالَى {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلَاثَة قُرُوء} فَإِذا ورد
(1/289)
مُطلقًا وَجب التَّوَقُّف فِيهِ حَتَّى يدل
الدَّلِيل عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْأَسْمَاء
الْمُشْتَركَة كاللون وَالْعين وَغَيرهمَا
وَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذَا مَوْضُوع بِإِطْلَاقِهِ للْخَبَر
وَيسْتَعْمل فِي غَيره بِدَلِيل كَمَا قُلْنَا فِي الْبَحْر
إِنَّه مَوْضُوع بِإِطْلَاقِهِ للْمَاء الْكثير الْمُجْتَمع
وَيسْتَعْمل فِي الرجل الْجواد بِدَلِيل كَذَلِك هَاهُنَا
(1/290)
مَسْأَلَة 2
يَقع الْعلم بالأخبار المتواترة
وَقَالَت البراهمة لَا يَقع الْعلم بالأخبار المتواترة
لنا هُوَ أَن الْإِنْسَان يجد نَفسه عَالِمَة بِمَا يسمع من
أَخْبَار الْبلدَانِ النائية والأمم السالفة كَمَا يجدهَا
عَالِمَة بِمَا يحس بهَا من المحسوسات وَمن أنكر ذَلِك كَانَ
بِمَنْزِلَة من أنكر المشاهدات
وَاحْتَجُّوا أَن كل وَاحِد من الْعدَد الْمُتَوَاتر يجوز
عَلَيْهِ الصدْق وَالْكذب فَإِذا انْضَمَّ بَعضهم إِلَى بعض لم
يتَغَيَّر حَاله فِي خَبره فَوَجَبَ أَن لَا يَقع الْعلم
بخبرهم
قُلْنَا لَيْسَ إِذا جَازَ ذَلِك على كل وَاحِد مِنْهُم إِذا
انْفَرد جَازَ عَلَيْهِم الِاجْتِمَاع أَلا ترى أَن كل وَاحِد
من الْجَمَاعَة إِذا انْفَرد يجوز أَن يعجز عَن حمل الشَّيْء
الثقيل ثمَّ لَا يجوز أَن يعْجزُوا عَن ذَلِك عِنْد
الِاجْتِمَاع
وَلِأَنَّهُ عِنْد الِانْفِرَاد يجوز أَن يَدْعُو كل وَاحِد
مِنْهُم إِلَى الْكَذِب فيكذب وَعند الِاجْتِمَاع لَا يجوز أَن
تتفق دواعيهم على الْكَذِب
(1/291)
قَالُوا وَلِأَن كل وَاحِد مِنْهُم عِنْد
الِاجْتِمَاع يقدر على الْكَذِب كَمَا يقدر عِنْد الِانْفِرَاد
فَإِذا لم يَقع الْعلم بخبرهم حَال الِانْفِرَاد لم يَقع على
الِاجْتِمَاع
قُلْنَا وَإِن كَانُوا قَادِرين على الْكَذِب إِلَّا أَنه مَعَ
كثرتهم وَاخْتِلَاف هممهم لَا يتفقون على فعله كَمَا أَن كل
وَاحِد مِنْهُم يقدر على السّرقَة وَالزِّنَا وَالْقَتْل وَلَا
يتفقون على فعلهَا
قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ اتِّفَاق الْجَمَاعَة
الْكَثِيرَة على الْخَطَأ من حَيْثُ الِاجْتِهَاد وهم أَصْحَاب
الطبائع والفلاسفة جَازَ اتِّفَاقهم على الْخَطَأ فِي خبرهم
قُلْنَا ذَاك يدْرك بِالِاجْتِهَادِ فَجَاز أَن يغلطوا فِيهِ
وَالْخَبَر طَرِيقه السماع والمشاهدة فَلَا يجوز أَن يتَّفق
الْخلق الْعَظِيم على الْخَطَأ فِيهِ
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعلم يَقع بالأخبار لوَجَبَ
أَن يَقع الْعلم بِخَبَر الْيَهُود عَن مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَام وَالنَّصَارَى عَن عِيسَى وَالْمَجُوس عَن إِدْرِيس
وَالرَّوَافِض عَن أئمتها
قُلْنَا من شَرط التَّوَاتُر أَن يكون النقلَة عددا لَا يَصح
التواطؤ مِنْهُم على الْكَذِب وَأَن يَسْتَوِي طرفاه ووسطه
وَهَذِه الشُّرُوط لم تتكامل فِيمَا يَرْوُونَهُ هَؤُلَاءِ
لِأَن روايتهم ترجع إِلَى عدد يسير فَلهَذَا لم يَقع الْعلم
بخبرهم
قَالُوا لَو كَانَ الْعلم يَقع بالْخبر الْمُتَوَاتر لوَجَبَ
إِذا تعَارض خبران على التَّوَاتُر أَن يَقع بِهِ علمَان
متضادان وَهَذَا محَال
قُلْنَا لَا يتَصَوَّر أَن يتَّفق خبران فِي شَيْء وَاحِد
متضادان فَسقط مَا قَالُوهُ
(1/292)
مَسْأَلَة 3
الْعلم الَّذِي يَقع بالْخبر الْمُتَوَاتر ضَرُورَة
وَقَالَ الْبَلْخِي من الْمُعْتَزلَة الْعلم الَّذِي يَقع بِهِ
اكْتِسَاب وَهُوَ قَول الدقاق
لنا هُوَ أَن مَا يعلم الْإِنْسَان بذلك من أَخْبَار الْبِلَاد
النائية والأمم السالفة يُعلمهُ علما لَا يُمكنهُ نَفْيه
بِالشَّكِّ والشبهة فَصَارَ بِمَنْزِلَة الْعلم الْوَاقِع
بالحواس
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعلم يَقع بهَا من جِهَة
الِاسْتِدْلَال لوَجَبَ أَن لَا يَقع بهَا
(1/293)
للصبيان لِأَنَّهُ لَا يَصح مِنْهُم النّظر
وَالِاسْتِدْلَال وَلما وَقع لَهُم الْعلم بذلك دلّ على أَن
الْعلم بهَا يَصح ضَرُورَة
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو كَانَ يَقع الْعلم بِهِ ضَرُورَة
لاشترك النَّاس كلهم فِي إِدْرَاكه وَلما رَأينَا الْعُقَلَاء
يُنكرُونَ الْعلم بِهِ دلّ على أَن الْعلم من جِهَته عَن
اسْتِدْلَال
قُلْنَا نَحن لَا نعتد بِخِلَاف من خَالف فِي ذَلِك كَمَا لَا
نعتد بِخِلَاف من خَالف فِي المحسوسات من السوفسطائية
ثمَّ لَو جَازَ أَن يَجْعَل ذَلِك دَلِيلا على نفي الْعلم بِهِ
ضَرُورَة لجَاز أَن يَجْعَل خلاف من خَالف فِي المحسوسات
دَلِيلا على أَن الْعلم لَا يَقع من جِهَة الْحَواس ضَرُورَة
وَلما بَطل هَذَا بِالْإِجْمَاع بَطل مَا قَالُوهُ أَيْضا
قَالُوا وَلِأَن الْإِنْسَان يسمع الشَّيْء من الْوَاحِد
والاثنين وَلَا يَقع بِهِ الْعلم إِلَى أَن يتكاثروا فيبلغوا
التَّوَاتُر فَيَقَع لَهُ حِينَئِذٍ الْعلم فَكَانَ ذَلِك
اسْتِدْلَالا كَالْعلمِ الْوَاقِع بِالنّظرِ فِي الْعَالم
وَالِاسْتِدْلَال على حَدثهُ
قُلْنَا لَيْسَ إِذا لم يَقع الْعلم فِي ابْتِدَاء السماع لم
يكن الْعلم الْحَاصِل لَهُ عِنْد الِانْتِهَاء ضَرُورَة أَلا
ترى أَن الْإِنْسَان يرى الشَّيْء من بعيد فَلَا يَقع لَهُ
الْعلم بِهِ على التَّفْصِيل ثمَّ يقرب مِنْهُ فَيعلم
حَقِيقَته على التَّفْصِيل ثمَّ لَا يُقَال إِن ذَلِك الْعلم
اسْتِدْلَال
قَالُوا وَلِأَن الْعلم لَا يَقع بأخبارهم إِلَّا على صِفَات
تصحبهم يسْتَدلّ بهَا على صدقهم فَصَارَ كَالْعلمِ بِحَدَث
الْعَالم لما وَقع عَن الصِّفَات الَّتِي تصْحَب الْعَالم من
الِاجْتِمَاع والافتراق كَانَ اكتسابا فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَالْجَوَاب هُوَ أَن الْأَخْبَار وَإِن اعْتبر فِيهَا صِفَات
إِلَّا أَن الْعلم بصدقهم لَا يفْتَقر إِلَى اعْتِبَار
الصِّفَات أَلا ترى أَنه يجوز أَن يَقع الْعلم لمن لَا ينظر
فِي الصِّفَات وَيُخَالف هَذَا الْعلم الْوَاقِع عَن الْعَالم
فَإِن بذلك لَا يَقع إِلَّا بعد النّظر فِي الْمعَانِي الَّتِي
تصْحَب الْعَالم وَالِاسْتِدْلَال بهَا فَلذَلِك كَانَ اكتسابا
وَفِي الْأَخْبَار يَقع الْعلم من غير نظر وَاعْتِبَار
فَافْتَرقَا
(1/294)
مَسْأَلَة 4
لَيْسَ فِي التَّوَاتُر عدد مَحْصُور
وَقَالَ بعض النَّاس هم خَمْسَة فَصَاعِدا ليزيدوا على عدد
الشُّهُود وَهُوَ قَول الجبائي
وَقَالَ بَعضهم اثْنَا عشر بِعَدَد النُّقَبَاء
وَقَالَ بَعضهم سَبْعُونَ بِعَدَد أَصْحَاب مُوسَى
وَقَالَ بَعضهم ثَلَاثمِائَة وَكسر بِعَدَد أَصْحَاب رَسُول
الله يَوْم بدر
لنا هُوَ أَن التَّوَاتُر مَا وَقع الْعلم الضَّرُورِيّ
بِخَبَرِهِ وَهَذَا لَا يخْتَص بِعَدَد وَإِنَّمَا يُوجد ذَلِك
فِي جمَاعَة لَا يَصح مِنْهَا التواطؤ على الْكَذِب فَوَجَبَ
أَن يكون الِاعْتِبَار بذلك
(1/295)
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك يَقْتَضِي
عددا محصورا لاقتضى اعْتِبَار صفتهمْ كَمَا قُلْنَا فِي
الشَّهَادَة وَلما لم تعْتَبر صِفَات الروَاة وَلم تخْتَلف
باخْتلَاف حَالهم من الْكفْر وَالْإِسْلَام وَالْعَدَالَة
والفسوق دلّ على أَنه لَا اعْتِبَار فِيهِ بِعَدَد مَحْصُور
وَأما المخالفون فَلَيْسَ لَهُم شُبْهَة يرجعُونَ إِلَيْهَا
إِلَّا هَذِه الْأَعْدَاد الَّتِي وَردت فِي الْمَوَاضِع
الَّتِي ذكروها وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا لَيْسَ مَعَهم
أَن هَذِه الْأَعْدَاد اعْتبرت فِي الْمَوَاضِع الَّتِي ذكروها
للتمييز بَين مَا يُوجب الْعلم وَبَين مَالا يُوجب وَإِذا لم
يثبت هَذَا لم يتم الدَّلِيل
(1/296)
مَسْأَلَة 5
لَا يعْتَبر الْإِسْلَام فِي رُوَاة التَّوَاتُر وَيَقَع
الْعلم بتواتر الْكفَّار
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يَقع الْعلم بتواتر الْكفَّار
وَمِنْهُم من قَالَ إِن لم يطلّ الزَّمَان وَقع وَإِن طَال
الزَّمَان وَأمكن وُقُوع المراسلة والتواطؤ لم يَقع
لنا أَن الْعلم يَقع للسامع بأخبارهم إِذا وجدت على الشُّرُوط
الْمُعْتَبرَة كَمَا يَقع بأخبار الْمُسلمين فَدلَّ على أَنه
لَا اعْتِبَار بِالْإِسْلَامِ
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لما اخْتصَّ الْمُسلمُونَ
بِالْإِجْمَاع وَجب أَن يختصوا بالتواتر أَيْضا
وَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذَا جمع من غير عِلّة فَلَا يلْزم على
أَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا صَار حجَّة بِالشَّرْعِ وَالشَّرْع
ورد فِي الْمُسلمين دون الْكفَّار وَلَيْسَ كَذَلِك
الْأَخْبَار فَإِنَّهَا توجب الْعلم من طَرِيق الْعَادة وَمَا
طَرِيقه الْعَادة لَا يخْتَلف فِيهِ الْمُسلمُونَ وَالْكفَّار
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ يَقع الْعلم بتواترهم لوقع لنا
الْعلم بِمَا أخْبرت بِهِ النَّصَارَى من صلب عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَام وَلما لم يَقع لنا الْعلم بذلك دلّ على أَن خبرهم
لَا يُوجب الْعلم
قُلْنَا إِنَّمَا لم يَقع هُنَاكَ الْعلم لِأَن شَرَائِط
التَّوَاتُر فِيهِ لم تتكامل وَهُوَ اسْتِوَاء طرفِي الْعدَد
ووسطه فَإِن النَّقْل فِي الأَصْل يرجع إِلَى عدد يسير فَلم
يَقع الْعلم بخبرهم وَفِي مَسْأَلَتنَا تكاملت شَرَائِط
الْخَبَر من اسْتِوَاء طرفِي الْعدَد وَالْوسط فَوَقع بِهِ
الْعلم
(1/297)
مَسْأَلَة 6
أَخْبَار الْآحَاد لَا توجب الْعلم
وَقَالَ بعض أهل الظَّاهِر توجب الْعلم
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الحَدِيث فِيهَا مَا يُوجب الْعلم
كَحَدِيث مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَمَا أشبهه
وَقَالَ النظام فِيهَا مَا يُوجب الْعلم وَهُوَ مَا قارنه
سَبَب
(1/298)
لنا هُوَ أَنه لَو كَانَ خبر الْوَاحِد
يُوجب الْعلم لأوجب خبر كل وَاحِد وَلَو كَانَ كَذَلِك لوَجَبَ
أَن يَقع الْعلم بِخَبَر من يَدعِي النُّبُوَّة وَمن يَدعِي
مَالا على غَيره وَلما لم يقل هَذَا أحد دلّ على أَنه لَيْسَ
فِيهِ مَا يُوجب الْعلم
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ خبر الْوَاحِد يُوجب الْعلم لما اعْتبر
فِيهِ صِفَات الْمخبر من الْعَدَالَة وَالْإِسْلَام
وَالْبُلُوغ وَغير ذَلِك كَمَا لم يعْتَبر ذَلِك فِي أَخْبَار
التَّوَاتُر
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ يُوجب الْعلم لوَجَبَ أَن يَقع التبري
بَين الْعلمَاء فِيمَا فِيهِ خبر وَاحِد كَمَا يَقع التبري
فِيمَا فِيهِ خبر متواتر
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ يُوجب الْعلم لوَجَبَ إِذا عَارضه خبر
متواتر أَن يتعارضا وَلما ثَبت أَنه يقدم عَلَيْهِ
الْمُتَوَاتر دلّ على أَنه غير مُوجب للْعلم
وَأَيْضًا هُوَ أَنه يجوز السَّهْو وَالْخَطَأ وَالْكذب على
الْوَاحِد فِيمَا نَقله فَلَا يجوز أَن يَقع الْعلم بخبرهم
وَاحْتج أهل الظَّاهِر بِأَنَّهُ لَو لم يُوجب الْعلم لما وَجب
الْعَمَل بِهِ إِذْ لَا يجوز الْعَمَل بِمَا لَا يُعلمهُ
وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ
علم}
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه لَا يمْتَنع أَن يجب الْعَمَل بِمَا لَا
يُوجب الْعلم كَمَا يَقُولُونَ فِي شَهَادَة الشُّهُود وَخبر
الْمُفْتى وترتيب الْأَدِلَّة بَعْضهَا على بعض فَإِنَّهُ يجب
الْعَمَل بذلك كُله وَإِن لم يُوجب الْعلم
(1/299)
وَأما قَوْله عز وَجل {وَلَا تقف مَا
لَيْسَ لَك بِهِ علم} فَالْجَوَاب أَن المُرَاد بِهِ مَا
لَيْسَ لَك بِهِ علم من طَرِيق الْقطع وَلَا من طَرِيق
الظَّاهِر وَمَا يخبر بِهِ الْوَاحِد وَإِن لم يقطع بِهِ
فَهُوَ مَعْلُوم من طَرِيق الظَّاهِر وَالْعَمَل بِهِ عمل
بِالْعلمِ
وَاحْتج أَصْحَاب الحَدِيث بِأَن أَصْحَاب هَذِه الْأَخْبَار
على كثرتها لَا يجوز أَن تكون كلهَا كذبا وَإِذا وَجب أَن يكون
فِيهَا صَحِيح وَجب أَن يكون ذَلِك مَا اشْتهر طَرِيقه وَعرفت
عَدَالَة رُوَاته
قُلْنَا يبطل بِهِ إِذا اخْتلف عُلَمَاء الْعَصْر فِي حَادِثَة
على أَقْوَال لَا يحْتَمل غَيرهَا فَإنَّا نعلم أَنه لَا يجوز
أَن تكون كلهَا بَاطِلا ثمَّ لَا يُمكن أَن نقطع بِصِحَّة
وَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه فَبَطل مَا قَالُوهُ
وَاحْتج النظام بِأَن خبر الْوَاحِد يُوجب الْعلم وَهُوَ إِذا
أقرّ على نَفسه بِمَا يُوجب الْقَتْل وَالْقطع فَيَقَع الْعلم
بِهِ لكل من سمع مِنْهُ وَكَذَلِكَ إِذا خرج الرجل من دَاره
مخرق الثِّيَاب وَذكر أَن أَبَاهُ مَاتَ وَقع الْعلم لكل من
سمع ذَلِك مِنْهُ فَدلَّ على أَن فِيهِ مَا يُوجب الْعلم
وَالْجَوَاب هُوَ أَن لَا نسلم أَن الْعلم يَقع بِسَمَاعِهِ
لِأَنَّهُ يجوز أَن يظْهر ذَلِك لغَرَض وَجَهل يحمل عَلَيْهِ
وَقد شوهد من قتل نَفسه بِيَدِهِ وصلب نَفسه وَأخْبر بِمَوْت
أَبِيه لغَرَض يصل إِلَيْهِ وَأمر يلتمسه فَإِذا احْتمل مَا
ذَكرْنَاهُ لم يجز أَن يَقع الْعلم بِهِ
(1/300)
مَسْأَلَة 7
يجوز التَّعَبُّد بأخبار الْآحَاد
وَقَالَ بعض أهل الْبدع لَا يجوز ذَلِك من جِهَة الْعقل
لنا هُوَ أَنه إِذا جَازَ فِي الْعقل أَن يعلق وجوب
الْعِبَادَات على شَرَائِط إِذا وجدت تعلق بهَا الْوُجُوب
جَازَ أَن يعلق وجوب الْعِبَادَة على مَا يخبر بِهِ الْعدْل
وَلَا فرق بَينهمَا
وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يكون فرض الْإِنْسَان مَا يخبر
بِهِ الْمُفْتِي وَيشْهد بِهِ الشَّاهِد وان جَازَ عَلَيْهِم
السَّهْو وَالْخَطَأ وَلم يقبح ذَلِك فِي الْعقل جَازَ أَن يرد
التَّعَبُّد بِالرُّجُوعِ الى قَوْله فِي احكام الشَّرْع
وَلِأَن مَا يُفْتى بِهِ الْمُفْتِي اخبار عَن دَلِيل من
أَدِلَّة الشَّرْع وَرُبمَا كَانَ ذَلِك نصا وَرُبمَا كَانَ
استنباطا فَإِذا جَازَ الرُّجُوع إِلَى خَبره مَعَ
الِاحْتِمَال الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَلِأَن يجوز الرُّجُوع إِلَى
خبر من روى قَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أولى
وَلِأَن الشَّرْع قد ورد بالتعبد بِهِ وَنحن ندل عَلَيْهِ
وَلَو لم يجز وُرُود التَّعَبُّد بِهِ لما ورد
وَاحْتَجُّوا بِأَن التَّكْلِيف لَا يجوز أَن يتَعَلَّق إِلَّا
بِمَا فِيهِ الْمصلحَة للمكلف
(1/301)
والمصلحة لَا يعلمهَا إِلَّا الله
وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا كَانَ الْمخبر
عَنْهُمَا وَاحِدًا لم نعلم الْمصلحَة لِأَنَّهُ يجوز عَلَيْهِ
السَّهْو وَالْخَطَأ فَوَجَبَ أَن لَا يقبل
قُلْنَا الْمصلحَة تتَعَلَّق بِمَا علق التَّكْلِيف عَلَيْهِ
وَهُوَ خبر الْعدْل وَإِذا وجدنَا ذَلِك علمنَا مَا تعلق بِهِ
الْمصلحَة وَإِن لم نعلم حَقِيقَة الْحَال فِيمَا أخبر بِهِ
وَهَذَا كَمَا تَقول فِي الْحَاكِم إِذا شهد عِنْده شَاهِدَانِ
بِحَق ثَبت عِنْده عدالتهما جَازَ لَهُ أَن يحكم بِهِ وَكَانَ
ذَلِك الحكم الَّذِي أوجب الله تَعَالَى وَإِن لم يعلم حَال
الْمَشْهُود بِهِ فِي الْبَاطِن
وَجَوَاب آخر وَهُوَ أَنه لَو كَانَ هَذَا طَرِيقا فِي رد
الْخَبَر لوَجَبَ أَن يَجْعَل ذَلِك طَرِيقا فِي رد الْفَتْوَى
فَيُقَال إِن التَّعَبُّد لَا يتَعَلَّق إِلَّا بِمَا فِيهِ
مصلحَة الْمُكَلف وَذَلِكَ لَا يعلم بقول الْوَاحِد فَيجب أَن
لَا يقبل وَلما لم يَصح أَن يُقَال هَذَا فِي الْفَتْوَى لم
يَصح أَن يُقَال ذَلِك فِي الْأَخْبَار
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ خبر الْوَاحِد لَا يجوز أَن يتَعَلَّق
بِهِ التَّكْلِيف لجَوَاز السَّهْو وَالْخَطَأ على الْمخبر
لوَجَبَ أَن لَا يجوز التَّعَبُّد بطرِيق الِاجْتِهَاد
وَبِنَاء دَلِيل على دَلِيل وترتيب لفظ على لفظ لِأَن السَّهْو
وَالْخَطَأ فِي ذَلِك كُله يجوز وَهَذَا لَا يَقُوله أحد
فَبَطل مَا قَالُوهُ
قَالُوا لَو جَازَ التَّعَبُّد بِمَا يخبر بِهِ الْوَاحِد
وَإِن لم يَقع الْعلم بِخَبَرِهِ لجَاز أَن يقبل خبر الْفَاسِق
وَالْمَجْنُون
قُلْنَا لَو ورد التَّعَبُّد بقبوله لقبلناه
ثمَّ لَيْسَ إِذا لم يقبل من الْفَاسِق وَالْمَجْنُون لم يقبل
مِمَّن لَا يَقع الْعلم بِخَبَرِهِ كَمَا تَقول فِي
الشَّهَادَة وَالْفَتْوَى لَا تقبل من الْفَاسِق وَالْمَجْنُون
ثمَّ تقبل مِمَّن لَا يَقع الْعلم بِخَبَرِهِ
وَلِأَن الْعُقَلَاء يرجعُونَ إِلَى من يوثق بِخَبَرِهِ فِي
أُمُورهم وَلَا يرجعُونَ إِلَى من لَا يوثق بِهِ من المجانين
والفساق فَدلَّ على الْفرق بَينهمَا
(1/302)
مَسْأَلَة 8
يجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد من جِهَة الشَّرْع
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يجب الْعَمَل بِهِ من جِهَة الْعقل
وَالشَّرْع
وَقَالَ القاساني لَا يجب الْعَمَل بِهِ وَهُوَ قَول ابْن
دَاوُد والرافضة
(1/303)
لنا قَوْله تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة
مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدَّين ولينذروا قَومهمْ إِذا
رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} فَأوجب الحذر مِمَّا تنذر
بِهِ الطَّائِفَة
فَإِن قيل وجوب الْإِنْذَار لَا يدل على وجوب الرُّجُوع إِلَى
قَول الْمُنْذر وَحده بل يجوز أَن يفْتَقر الرُّجُوع إِلَى آخر
كَمَا يجب على الشَّاهِد أَن يشْهد بِمَا عِنْده ثمَّ لَا يجب
الْعَمَل بقوله حَتَّى يشْهد مَعَه غَيره
قيل قد أوجب الْإِنْذَار وَأوجب الحذر من الْمُخَالفَة وَهَذَا
يَقْتَضِي وجوب الحذر بِمُجَرَّد الْإِنْذَار
فَإِن قيل الحذر هُوَ أَن ينظر وَيعْمل بِمَا يَقْتَضِيهِ
الدَّلِيل لَا أَن يعْمل بِمَا أخبر بِهِ
قيل إِذا تعلق الْوَعيد بترك أَمر فالحذر عَن مُخَالفَته هُوَ
أَن يفعل ذَلِك الشَّيْء فَأَما إِذا لم يفعل فَلم يحذر فَلم
يكن ممتثلا لما اقْتَضَاهُ الظَّاهِر
وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا} فَدلَّ على أَنه إِذا جَاءَهُ عدل لم يتَبَيَّن
فِي خَبره
وَأَيْضًا فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ بعث
أَصْحَابه إِلَى الْبلدَانِ أُمَرَاء وعمالا وقضاة وَاحِدًا
وَاحِدًا وَلَو لم يجز الْعَمَل بِخَبَر كل وَاحِد مِنْهُم لما
بَعثهمْ آحادا
فَإِن قيل يجوز أَن يكون قد بَعثهمْ إِلَى قوم فِي أَحْكَام
علموها بالتواتر قبل بعثة الرَّسُول كَمَا علمُوا فِي قَوْلكُم
وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد قبل بعث الرُّسُل
قيل لَو كَانَ نقل إِلَيْهِم فِي ذَلِك تَوَاتر لنقل إِلَيْنَا
وعلمناه كَمَا علمنَا كل مَا تَوَاتر بِهِ الْخَبَر وَأما وجوب
الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فقد علموه بِمَا تَوَاتر بِهِ
الْخَبَر من بعثة الرُّسُل إِلَى كل جِهَة
(1/304)
فَإِن قيل فقد كَانَ أَيْضا يبْعَث
وَيَدْعُو إِلَى الْإِيمَان وَإِن لم يكن مَعْلُوما من جِهَة
الرُّسُل فَكَذَلِك فِي الْأَحْكَام
قيل عندنَا لم يعلم وجوب الْإِيمَان إِلَّا من جِهَة الشَّرْع
وَعِنْدهم يعلم ذَلِك بِالْعقلِ فَبعث من ينبههم على أَعمال
الْفِكر وَالنَّظَر فِي الدَّلِيل وَيدل عَلَيْهِ إِجْمَاع
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَإِنَّهُم عمِلُوا بأخبار
الْوَاحِد فِي مسَائِل مُخْتَلفَة وَأَحْكَام شَتَّى
روى أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ عمل بِخَبَر الْمُغيرَة
وَمُحَمّد بن مسلمة فِي مِيرَاث الْجدّة
وَعمل عمر رَضِي الله عَنهُ بِخَبَر عبد الرَّحْمَن فِي أَخذ
الْجِزْيَة من الْمَجُوس وبخبر حمل بن مَالك فِي دِيَة
الْجَنِين وَقَالُوا لَوْلَا هَذَا لقضينا بِغَيْرِهِ
(1/305)
وَبِحَدِيث الضَّحَّاك بن سُفْيَان فِي
تَوْرِيث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا
وَعمل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بِخَبَر فريعة بنت مَالك فِي
سُكْنى الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا
وَعَن عَليّ كرم الله وَجهه أَنه قَالَ كَانَ إِذا حَدثنِي أحد
عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء أحلفته فَإِن
حلف صدقته إِلَّا أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ
حَدثنِي وَصدق أَبُو بكر
وَعمل ابْن عمر فِي ترك المخابرة بِحَدِيث رَافع بن خديج
وَعمل ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ بِحَدِيث أبي سعيد
الْخُدْرِيّ فِي الرِّبَا فِي النَّقْد
وَعمل زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ بِخَبَر امْرَأَة من
الْأَنْصَار أَن الْحَائِض تنفر بِغَيْر وداع
(1/306)
وَعَلمُوا كلهم بِحَدِيث أبي بكر الصّديق
رَضِي الله عَنهُ إِن الْأَئِمَّة من قُرَيْش وَبِحَدِيث
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي التقاء الختانين فَدلَّ على
وجوب الْعَمَل بِهِ
فَإِن قيل هَذِه أَخْبَار آحَاد فَلَا يحْتَج بهَا فِي
إِثْبَات خبر الْوَاحِد
قيل هَذَا تَوَاتر من طَرِيق الْمَعْنى فَإِنَّهَا وَإِن وَردت
فِي قصَص مُخْتَلفَة فَهِيَ متفقة على إِثْبَات خبر الْوَاحِد
فَصَارَ ذَلِك كالأخبار المتواترة فِي سخاء حَاتِم وشجاعة
عَليّ كرم الله وَجهه
فَإِن قيل يجوز أَن يكون قد علمُوا بذلك لأسباب اقترنت بهَا
قيل لم ينْقل غير الْأَخْبَار وَالرُّجُوع إِلَيْهَا فَمن
ادّعى زِيَادَة على ذَلِك احْتَاجَ إِلَى دَلِيل
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ هُنَاكَ سَبَب آخر يُوجب الْعَمَل بِهِ
لنقل وَلم يخل بِهِ
فَإِن قيل إِنَّمَا رجعُوا إِلَى تِلْكَ الْأَخْبَار
لِأَنَّهَا نقلت بِحَضْرَة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
وَلم يُنكر على رواتها فَصَارَ ذَلِك إِجْمَاعًا مِنْهُم على
قبُولهَا فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهَا لأجل الْإِجْمَاع
قيل لَو كَانَت تِلْكَ الْأَخْبَار عِنْد جَمَاعَتهمْ لما
أشكلت عَلَيْهِم الْأَحْكَام قبل رِوَايَتهَا
فَإِن قيل إِن كَانَ قد نقل عَنْهُم الْعَمَل بِخَبَر
الْوَاحِد فقد نقل عَنْهُم أَيْضا الرَّد لخَبر الْوَاحِد
(1/307)
أَلا ترى أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ
لم يقبل خبر الْمُغيرَة حَتَّى شهد مَعَه مُحَمَّد بن مسلمة
ورد عمر رَضِي الله عَنهُ خبر أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي
الاسْتِئْذَان حَتَّى شهد مَعَه أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ
ورد عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام حَدِيث أبي سِنَان فِي المفوضة
قيل قبولهم على مَا بَيناهُ دَلِيل على وجوب الْعَمَل بِهِ
وردهم لَا يدل على أَنه لَا يجوز الْعَمَل بِهِ لِأَنَّهُ يجوز
الرَّد إِذا وجد عِلّة تَقْتَضِي الرَّد
أَلا ترى أَن الْخَبَر الْمُتَوَاتر يجب الْعَمَل بِهِ
بِالْإِجْمَاع ثمَّ رددنا تَوَاتر النَّصَارَى أَن الْمَسِيح
صلب وَلَا يمْنَع ذَلِك الْعَمَل بالمتواتر لَا سِيمَا وَقد
روى فِي بعض الْمَوَاضِع الَّتِي ذكروها الْعلَّة الَّتِي
اقْتَضَت الرَّد والتوقف فَروِيَ عَن عمر أَنه قَالَ فِي
الاسْتِئْذَان لأبي مُوسَى فعلت ذَلِك لكَي لَا يجترأ على
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي خبر أبي سِنَان
أَعْرَابِي بوال على عَقِبَيْهِ أَي لَا يعرف الْأَحْكَام
فَلَا يعول على رِوَايَته
(1/308)
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه إِخْبَار عَن حكم
شَرْعِي فَوَجَبَ قبُول خبر الْوَاحِد فِيهِ كالفتوى
وَلِأَنَّهُ لَو لم يجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد لوَجَبَ
أَن يكون مَا بَين النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام طول عمره
يخْتَص بِهِ من سمع ذَلِك مِنْهُ لَا يلْزم غَيره اعْتِقَاده
وَالْعَمَل بِهِ لِأَنَّهُ لم ينْقل إِلَى غَيره نقل تَوَاتر
وَهَذَا لَا يَقُوله أحد
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ
علم} وَمَا أخبر بِهِ الْوَاحِد لَا علم لَهُ بِهِ فَيجب أَن
لَا يقفو
قُلْنَا إِن كَانَ الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد عملا بِمَا لَا
علم لَهُ بِهِ فَرده أَيْضا عمل بِمَا لَا علم لَهُ بِهِ فَيجب
أَن لَا يرد وعَلى أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد عندنَا عمل
لما يُعلمهُ لِأَن الَّذِي دلّ على وجوب الْعَمَل بِهِ مُوجب
للْعلم قَاطع للْعُذْر وَإِن كَانَ مَا يخبر بِهِ يجوز فِيهِ
الصدْق وَالْكذب وَهَذَا كَمَا تَقول فِي الرُّجُوع إِلَى قَول
الشَّاهِد وَقَول الْمُفْتِي إِنَّه رُجُوع إِلَى الْعلم
وَالْعَمَل بِهِ وَإِن كَانَ مَا يشْهد بِهِ الشَّاهِد ويفتى
بِهِ الْمُفْتِي يجوز أَن يكون صَحِيحا وَيجوز أَن يكون
بَاطِلا
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن يقبل من غير دَلِيل لوَجَبَ
أَن يقبل قَول من ادّعى النُّبُوَّة من غير دَلِيل
قُلْنَا نعارضكم بِمثلِهِ فَنَقُول وَلَو جَازَ رد خبر
الْوَاحِد من غير دَلِيل لجَاز رد قَول النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام من غير دَلِيل
وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يقبل قَول الْمُفْتِي وَخبر
الشَّاهِد من غير حجَّة وَإِن لم تقبل دَعْوَى النُّبُوَّة من
غير حجَّة جَازَ أَيْضا أَن يقبل خبر الْوَاحِد وَإِن لم تقبل
دَعْوَى النُّبُوَّة من غير حجَّة
وعَلى أَن خبر الْوَاحِد لَا يقبل إِلَّا بِدَلِيل وَهُوَ مَا
دللنا بِهِ على وجوب الْعَمَل بِهِ من الْكتاب وَالسّنة
وَالْإِجْمَاع وَيُخَالف دَعْوَى النُّبُوَّة فَإِن هُنَاكَ
لَو نعلم نبوته إِلَّا من جِهَته وَلم يقم دَلِيل على صِحَّته
فَلم يثبت وَهَاهُنَا الشَّرْع قد ثَبت قبله وَعلم من جِهَته
قبُوله فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهِ
(1/309)
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ قبُول خبر
الْوَاحِد فِي فروع الدَّين لجَاز قبُوله فِي الْأُصُول من
التَّوْحِيد وَإِثْبَات الصِّفَات
قُلْنَا فِي مسَائِل الْأُصُول أَدِلَّة توجب الْقطع من طَرِيق
الْعقل فَلَا يعدل عَنْهَا إِلَى خبر الْوَاحِد كَمَا أَن من
عاين الْقبْلَة لَا يرجع إِلَى الِاجْتِهَاد فِي طلبَهَا
وَلَيْسَ كَذَلِك الْفُرُوع فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا طَرِيق
يُوجب الْقطع فَجَاز الرُّجُوع فِيهَا إِلَى الظَّن كَمَا
نقُول فِي الْغَائِب عَن الْقبْلَة
قَالُوا وَلِأَن بَرَاءَة الذِّمَّة متيقنة وَخبر الْوَاحِد
مَوضِع شكّ فَلَا يجوز إِزَالَة الْيَقِين بِالشَّكِّ
قُلْنَا نَحن لَا نزيل الْيَقِين إِلَّا بِيَقِين مثله
وَوُجُوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد يَقِين وَإِن كَانَ مَا
تضمنه غير مُتَيَقن
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ هَذَا صَحِيحا فِي رد الْخَبَر لوَجَبَ
أَن يَجْعَل طَرِيقا فِي إبِْطَال الشَّهَادَة والفتاوى
فَيُقَال بَرَاءَة الذِّمَّة متيقنة وَالشَّهَادَة
وَالْفَتْوَى مَوضِع شكّ وشبهة فَلَا يتْرك الْيَقِين
بِالشَّكِّ
وعَلى أَن حكم الأَصْل غير مُتَيَقن بعد وُرُود الْخَبَر بل
هُوَ حَال شكّ وشبهة لأَنا نجوز أَن يكون الْأَمر قد تغير
عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي الأَصْل فَلَا يكون الْعَمَل
بالْخبر إِزَالَة يَقِين بِالشَّكِّ
قَالُوا وَلِأَن الْمخبر كالمفتي ثمَّ ثَبت أَن مَا يُفْتِي
بِهِ الْمُفْتِي لَا يلْزم الْعَالم الْعَمَل بِهِ حَتَّى يعلم
صِحَّته فَكَذَلِك مَا يخبر الْمخبر يجب أَن لَا يلْزم
الْعَمَل بِهِ حَتَّى تعلم صِحَّته
قُلْنَا إِن كَانَ لَا يجوز للْعَالم أَن يعْمل بفتواه قبل
الْعلم بِصِحَّتِهِ فَيجوز للعامي أَن يعْمل بِهِ قبل الْعلم
بِصِحَّتِهِ فَلَيْسَ لَهُم أَن يتعلقوا بِأحد الْفَرِيقَيْنِ
إِلَّا وَلنَا أَن نتعلق بالفريق الآخر
وَلِأَن الْعَالم لَا مشقة عَلَيْهِ فِي معرفَة مَا أفتى بِهِ
لِأَن لَهُ اجْتِهَادًا يرجع إِلَيْهِ
(1/310)
وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإنَّا لَو
ألزمنا النَّاس أَن يعرفوا مَا سَمِعُوهُ من الْأَخْبَار من
طَرِيق التَّوَاتُر لشق على النَّاس فَصَارَ بمنزلتهم فِي
ذَلِك من الْفَتْوَى منزلَة الْعَاميّ لما شقّ عَلَيْهِم
الِانْقِطَاع إِلَى الْفِقْه جوز لَهُم التَّقْلِيد فِي
الْفَتْوَى وَإِن لم يعلمُوا صِحَة مَا أفتوا بِهِ
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد
وَاجِبا لوَجَبَ التَّوَقُّف عَنهُ وَعَن سَائِر أَدِلَّة
الشَّرْع لِأَنَّهُ إِذا أَرَادَ الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد
جوز أَن يكون هُنَاكَ مَا هُوَ أولى من أَخْبَار الْآحَاد
فَيحْتَاج أَن يتَوَقَّف عَن الْعَمَل بِهِ حَتَّى يُحِيط علمه
بِجَمِيعِ مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ فَوَجَبَ أَن يكون الْعَمَل بِهِ
بَاطِلا
قُلْنَا لَو كَانَ تَجْوِيز مَا هُوَ أولى مِنْهُ من
الْأَدِلَّة يجوز أَن يمْنَع الْعَمَل بِمَا وَقع إِلَيْهِ
مِنْهَا لوَجَبَ أَن لَا يجوز للْحَاكِم أَن يحكم بِشَهَادَة
شَاهد وَلَا للعامي أَن يعْمل بفتوى فَقِيه لجَوَاز أَن يكون
هُنَاكَ مَا هُوَ أولى مِنْهُ وَلما بَطل هَذَا بَطل مَا
ذَكرُوهُ
وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن يكون هَذَا طَرِيقا للْمَنْع من
الْأَخْبَار لوَجَبَ أَن يَجْعَل طَرِيقا إِلَى الْمَنْع من
الْعَمَل بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ مَتى رتب دَلِيلا على
دَلِيل بِاجْتِهَادِهِ جوز أَن يكون هُنَاكَ مَا هُوَ أولى
مِنْهُ فَيُؤَدِّي إِلَى إِبْطَاله وَلما لم يجز أَن يُقَال
هَذَا فِي إبِْطَال الِاجْتِهَاد لم يجز أَن يُقَال فِي
إبِْطَال الْأَخْبَار
(1/311)
مَسْأَلَة 9
يجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَإِن انْفَرد الْوَاحِد
بروايته
وَقَالَ أَبُو عَليّ الجبائي لَا يجوز حَتَّى يرويهِ اثْنَان
عَن اثْنَيْنِ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ بعض النَّاس لَا يقبل أقل من أَرْبَعَة
لنا قَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا} فَدلَّ على أَنهم إِذا جَاءَهُم عدل لم يتبينوا
وَأَيْضًا هُوَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يبْعَث
عماله وقضاته إِلَى الْبِلَاد آحادا فَبعث معَاذًا إِلَى
الْيمن وَبعث عتاب بن أسيد إِلَى مَكَّة وَبعث مُصعب بن
عُمَيْر إِلَى الْمَدِينَة وَبعث عمر وَأبي بن كَعْب وَأَبا
هُرَيْرَة على الصَّدقَات وَاحِدًا وَاحِدًا
(1/312)
وَأَيْضًا فَإِن الصَّحَابَة رجعت فِي
التقاء الختانين إِلَى حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
وَحدهَا
وَلِأَنَّهُ خبر عَن حكم شَرْعِي فَلم يعْتَبر فِيهِ الْعدَد
كالفتوى وَلِأَن مَالا يشْتَرط فِي الْفَتْوَى لَا يشْتَرط فِي
قبُول الْخَبَر كالحرية والذكورة
وَلِأَنَّهُ خبر لَا تشْتَرط فِيهِ الْحُرِّيَّة فَلَا يعْتَبر
فِيهِ لاعدد كالخبر فِي الْأذن فِي دُخُول الدَّار وَقبُول
الْهَدِيَّة
وَلِأَنَّهُ طَرِيق لإِثْبَات الحكم فَلَا يشْتَرط فِيهِ
الْعدَد دَلِيله الْأُصُول الَّتِي يُقَاس عَلَيْهَا
ولأنا لَو اعْتبرنَا رِوَايَة اثْنَيْنِ عَن اثْنَيْنِ إِلَى
أَن يتَّصل بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لشق ذَلِك
فَوَجَبَ أَنِّي سقط اعْتِبَاره
وَاحْتَجُّوا بِأَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ لم
يعْمل بِخَبَر الْمُغيرَة فِي مِيرَاث الْجدّة حَتَّى شهد
عِنْده مُحَمَّد بن مسلمة وَعمر لم يعْمل بِخَبَر أبي مُوسَى
فِي الاسْتِئْذَان حَتَّى شهد مَعَه أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ
فَدلَّ على أَنه لَا بُد من الْعدَد
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه يجوز أَن يَكُونَا طلبا الزِّيَادَة
احْتِيَاطًا وَلِهَذَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه
قَالَ لأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ لَا أتهمك وَلَكِنِّي أردْت
أَن لَا يجترىء أحد على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَنا روينَا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ
الرُّجُوع إِلَى خبر الْوَاحِد فَدلَّ على أَن التَّوَقُّف
كَانَ لما ذَكرْنَاهُ
قَالُوا وَلِأَنَّهُ خبر شَرط فِيهِ الْعَدَالَة فَاعْتبر
فِيهِ الْعدَد أَصله الشَّهَادَات
قُلْنَا هَذَا يبطل بالفتوى فَإِنَّهُ يعْتَبر فِيهِ
الْعَدَالَة وَلَا يعْتَبر فِيهِ الْعدَد
على أَنه لَو كَانَ بِمَنْزِلَة الشَّهَادَات لوَجَبَ أَن لَا
يقبل من العبيد وَالنِّسَاء فِي الْحُدُود ولوجب أَن يخْتَلف
عدده باخْتلَاف الْأَحْكَام كَمَا اخْتلفت الشَّهَادَات
باخْتلَاف الْحُقُوق وَلما قبل ذَلِك من العبيد وَالنِّسَاء
وَلم يخْتَلف باخْتلَاف الْأَحْكَام دلّ على أَنه بِمَنْزِلَة
الْفَتْوَى
(1/313)
مَسْأَلَة 10
يقبل خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة لَا يقبل
لنا هُوَ أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم رجعت إِلَى
حَدِيث عَائِشَة فِي التقاء الختانين وَهُوَ مِمَّا تعم بِهِ
الْبلوى
وَقَالَ ابْن عمر كُنَّا نخاير أَرْبَعِينَ سنة وَلَا نرى بذلك
بَأْسا حَتَّى أَتَانَا رَافع ابْن خديج فَأخْبر أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن ذَلِك فتركناه لقَوْل رَافع
وَلِأَنَّهُ حكم شَرْعِي يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد فَجَاز
إثْبَاته بِخَبَر الْوَاحِد
دَلِيله مَا لَا تعم بِهِ الْبلوى
وَلِأَنَّهُ كل دَلِيل ثَبت بِهِ مَا لَا تعم بِهِ الْبلوى
ثَبت بِهِ مَا تعم بِهِ الْبلوى كالسنة المتواترة
وَلِأَن كل حكم ثَبت بِالْقِيَاسِ ثَبت بِخَبَر الْوَاحِد
دَلِيله مَا لَا تعم بِهِ الْبلوى
(1/314)
وَلِأَن الْقيَاس فرع مستنبط من خبر
الْوَاحِد فَإِذا جَازَ إِثْبَات مَا تعم بِهِ الْبلوى
بِالْقِيَاسِ فَلِأَن يجوز بِخَبَر الْوَاحِد الَّذِي هُوَ
أَصله أولى
وَلِأَن وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد ثَبت بِدَلِيل قَاطع
وَهُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة فَصَارَ كالقرآن الْمَقْطُوع
بِصِحَّتِهِ فَإِذا جَازَ إِثْبَات مَا تعم بِهِ الْبلوى
بِالْقُرْآنِ جَازَ إثْبَاته أَيْضا خبر الْوَاحِد
وَاحْتَجُّوا بِأَن مَا تعم بِهِ الْبلوى يكثر السُّؤَال عَنهُ
وَإِذا كثر السُّؤَال عَنهُ كثر الْجَواب وَإِذا كثر الْجَواب
كثر النَّقْل فَلَمَّا رَأينَا النَّقْل قد قل دلّ على أَنه
لَا أصل لَهُ وَلِهَذَا الْمَعْنى رددنا حَدِيث الرافضة فِي
النَّص على إِمَامَة عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَقُلْنَا أَنه
لَو كَانَ صَحِيحا لكثر النَّقْل فِيهِ
وَالْجَوَاب هُوَ أَنا لَا نسلم أَنه إِذا كثر الْجَواب كثر
النَّقْل بل يجوز أَن يكثر الْجَواب وَلَا يكثر النَّقْل
وَذَلِكَ أَن نقل الْأَخْبَار على حسب الدَّوَاعِي وَلِهَذَا
حج النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي الجم الْغَفِير وَالْعدَد
الْكثير وَبَين الْمَنَاسِك بَيَانا عَاما ثمَّ لم يروه إِلَّا
نفر مِنْهُم وَلِهَذَا كَانَ كثير من الصَّحَابَة لَا يؤثرون
رِوَايَة الْأَخْبَار فَإِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ أَن يكثر
الْجَواب وَلَا يكثر النَّقْل
وَيُخَالف هَذَا مَا ذَكرُوهُ من جِهَة الْإِمَامَة فَإِن
ذَلِك عِنْدهم يجب على كل أحد أَن يُعلمهُ وَيقطع بِهِ فَلَا
يجوز أَن يثبت بِنَقْل خَاص وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا
فَإِنَّهُ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَيجوز أَن ينْفَرد بِهِ
الْبَعْض بِعِلْمِهِ وَيكون فرض البَاقِينَ الِاجْتِهَاد أَو
التَّقْلِيد فَافْتَرقَا
(1/315)
مَسْأَلَة 11
يقبل خبر الْوَاحِد وَإِن كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس وَيقدم
عَلَيْهِ
وَقَالَ أَصْحَاب مَالك إِذا كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس لم يقدم
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة إِن كَانَ مُخَالفا لقياس
الْأُصُول لم يقبل
(1/316)
لنا مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ بِمَ تحكم قَالَ بِكِتَاب الله
تَعَالَى قَالَ فَإِن لم تَجِد قَالَ بِسنة رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَإِن لم تَجِد قَالَ أجتهد رَأْيِي
وَلَا آلو فَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الْحَمد لله
الَّذِي وفْق رَسُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما
يُحِبهُ ويرضاه رَسُول الله فرتب الْعَمَل بِالْقِيَاسِ على
السّنة فَدلَّ على أَن السّنة مُقَدّمَة
وَيدل عَلَيْهِ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ ترك الْقيَاس فِي
الْجَنِين لحَدِيث حمل بن مَالك بن النَّابِغَة وَقَالَ
لَوْلَا هَذَا لقضينا بِغَيْرِهِ
وَرُوِيَ أَنه كَانَ يقسم ديات الْأَصَابِع على قدر
مَنَافِعهَا ثمَّ ترك ذَلِك بقوله عَلَيْهِ
(1/317)
السَّلَام فِي كل إِصْبَع مِمَّا هُنَالك
عشر من الْإِبِل وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد
وَلِأَن الْقيَاس يدل على قصد صَاحب الشَّرْع من طَرِيق الظَّن
وَالْخَبَر يدل على قَصده من طَرِيق الصَّرِيح فَكَانَ
الرُّجُوع إِلَى الصَّرِيح أولى
وَلِأَن الِاجْتِهَاد فِي الْخَبَر فِي عَدَالَة الرَّاوِي
فَقَط وَفِي الْقيَاس عِلّة الأَصْل ثمَّ فِي إِلْحَاق
الْفَرْع بِهِ لِأَن من النَّاس من منع إِلْحَاق الْفَرْع بِهِ
إِلَّا بِدَلِيل آخر فَكَانَ الْمصير فِي مَا قل فِيهِ من
جِهَة الِاجْتِهَاد أولى لِأَنَّهُ أسلم من الْغرَر
وَأَيْضًا هُوَ أَنه لَو سمع الْقيَاس وَالنَّص الْمُخَالف
لَهُ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقدم النَّص
فِيمَا يتَنَاوَلهُ على الْقيَاس فَلِأَن يقدم على قِيَاس لم
يسمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى
وَلِأَن النَّص ينْقض بِهِ حكم الْحَاكِم فِيمَا فِيهِ خلاف
وَالْقِيَاس لَا ينْقض بِهِ فَدلَّ على أَن النَّص أقوى فَلَا
يجوز تَركه لما هُوَ دونه
وَأما أَصْحَاب أبي حنيفَة فَيُقَال لَهُم مَا الَّذِي
تُرِيدُونَ بمخالفة الْأُصُول فَإِن قَالُوا نُرِيد بِهِ
مَعَاني الْأُصُول فَهُوَ كَقَوْل أَصْحَاب مَالك وَقد بَينا
فَسَاده
وَلِأَنَّهُم ناقضوا فِي هَذَا فَإِنَّهُم يتركون الْقيَاس
بِخَبَر الْوَاحِد ويسمونه مَوضِع الِاسْتِحْسَان وَلِهَذَا
قَالَ أَبُو حنيفَة الْقيَاس أَن من أكل نَاسِيا بَطل صَوْمه
إِلَّا أَنِّي أتركه لحَدِيث أبي هُرَيْرَة
وَقَالُوا الْقيَاس أَنه لَا يجوز التَّوَضُّؤ بنبيذ التَّمْر
وَلَكنَّا تَرَكْنَاهُ لحَدِيث ابْن مَسْعُود وأمثال ذَلِك على
أصلهم كثير
(1/318)
وَإِن أَرَادوا بالأصول الْكتاب وَالسّنة
وَالْإِجْمَاع وافقناهم عَلَيْهِ إِلَّا أَنهم يذكرُونَ ذَلِك
فِي مَوَاضِع لَا كتاب فِيهَا وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع وَهُوَ
فِي خبر الْمُصراة والتفليس والقرعة فَبَطل مَا قَالُوهُ 1
وَاحْتج أَصْحَاب مَالك بِأَن الْقيَاس يتَعَلَّق باستدلاله
وَالْخَبَر رُجُوع إِلَى قَول الْغَيْر وَهَذَا بِفِعْلِهِ
أوثق مِنْهُ بِفعل غَيره فَكَانَ الرُّجُوع إِلَيْهِ أولى
وَلِهَذَا قدمنَا اجْتِهَاده على اجْتِهَاد غَيره من الْعلمَاء
قُلْنَا لَا فرق بَينهمَا لِأَنَّهُ يرجع فِي عَدَالَة
الرَّاوِي وَمَعْرِفَة صدقه إِلَى أَفعاله الَّتِي قد شَاهدهَا
مِنْهُ كَمَا يرجع إِلَى الْمَعْنى الَّذِي أودعهُ صَاحب
الشَّرِيعَة فِي الأَصْل فَيحكم بِهِ فِي الْفَرْع بل طَرِيق
معرفَة الْعَدَالَة أظهر لِأَنَّهُ رُجُوع إِلَى العيان
والمشاهدة وَطَرِيق معرفَة الْعلَّة الْفِكر وَالنَّظَر
فَكَانَ الرُّجُوع إِلَى الْخَبَر أولى
قَالُوا وَلِأَن الْأُصُول وَإِن اتّفقت على إِيجَاب حكم لم
تحْتَمل إِلَّا وَجها وَاحِدًا وَخبر الْوَاحِد يحْتَمل
السَّهْو على رُوَاته فَلَا يجوز ترك مَالا يحْتَمل بِمَا هُوَ
مُحْتَمل كنص الْقُرْآن بِالسنةِ إِذا تَعَارضا
قُلْنَا إِنَّمَا يجوز تَرْجِيح أحد الْأَمريْنِ على الآخر
بِنَفْي الِاحْتِمَال إِذا ثَبت أَنَّهُمَا دليلان وَفِي
مَسْأَلَتنَا الْقيَاس لَيْسَ بِدَلِيل إِذا عَارضه النَّص
فَلَا يجوز أَن يرجع على النَّص بِنَفْي الِاحْتِمَال
على أَن هَذَا يبطل بِنَصّ السّنة إِذا عَارضه مُقْتَضى الْعقل
فِي بَرَاءَة الذِّمَّة فَإِن بَرَاءَة الذِّمَّة فِي الْعقل
لَا تحْتَمل إِلَّا وَجها وَاحِدًا وَنَصّ السّنة يحْتَمل
السَّهْو على رُوَاته ثمَّ يقدم على مُقْتَضى الْعقل الَّذِي
لَا احْتِمَال فِيهِ
قَالُوا إِذا اتّفقت الْأُصُول على شَيْء وَاحِد دلّت على
صِحَة الْعلَّة قطعا ويقينا فَلَو قبلنَا خبر الْوَاحِد فِي
مُخَالفَته لنقضنا الْعلَّة وَصَاحب الشَّرْع لَا يتناقض فِي
علله فَيجب أَن يحمل الْخَبَر على أَن الرَّاوِي سَهَا فِيهِ
وَلِهَذَا رددنا مَا خَالف أَدِلَّة الْعُقُول من الْأَخْبَار
المروية فِي السّنة لما أوجب نقض أَدِلَّة قَاطِعَة
(1/319)
قُلْنَا لَا نسلم أَنه إِذا خَالف النَّص
كَانَ ذَلِك عِلّة لصَاحب الشَّرْع حَتَّى لَا يجوز أَن يتناقض
فِيهِ فَيجب أَن يثبتوا عِلّة حَتَّى يَصح هَذَا الدَّلِيل
ثمَّ يبطل بِهِ إِذا عَارضه نَص كتاب أَو خبر متواتر فَإِنَّهُ
يُؤَدِّي إِلَى نقض عِلّة صَاحب الشَّرْع على زعمهم ثمَّ يقبل
وَيقدم على الْقيَاس
وعَلى أَنه مَتى خَالف النَّص زِدْنَا فِيهِ وَصفا آخر فَمنع
من دُخُول النَّقْض وَيُخَالف هَذَا إِذا ورد النَّص مُخَالفا
لأدلة الْعقل فَإِنَّهُ لَا يُمكن الزِّيَادَة فِي أَدِلَّة
الْعقل وَهَاهُنَا يُمكن فَافْتَرقَا
وَلِأَن الشَّرْع لَا يجوز أَن يرد بِمَا يُخَالف أَدِلَّة
الْعُقُول فَعلمنَا أَنه خطأ من الرَّاوِي وَلَيْسَ كَذَلِك
هَاهُنَا فَإِنَّهُ يجوز أَن يرد النَّص بِمَا يُخَالف
الْقيَاس فَافْتَرقَا
(1/320)
إِذا روى الْخَبَر اثْنَان وَتفرد أَحدهمَا
بِزِيَادَة قبلت الزِّيَادَة
(1/321)
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الحَدِيث لَا تقبل
الزِّيَادَة أصلا
لنا هُوَ أَن هَذِه الزِّيَادَة لَا تنَافِي الْمَزِيد
عَلَيْهِ فَهُوَ كَمَا لَو انْفَرد أَحدهمَا بِزِيَادَة حَدِيث
لَا يرويهِ الآخر
وَلِأَنَّهُ يجوز أَن يكون أَحدهمَا سمع الحَدِيث من أَوله
إِلَى آخِره وَالْآخر سمع بعضه أَو أَحدهمَا ذكر الحَدِيث كُله
وَالْآخر نسي بعضه فَلَا يجوز رد الزِّيَادَة بِالشَّكِّ
وَلِأَن الْخَبَر كَالشَّهَادَةِ ثمَّ فِي الشَّهَادَة لَو شهد
شَاهِدَانِ على رجل أَنه أقرّ بِأَلف وَشهد آخرَانِ أَنه أقرّ
بِأَلف وَخَمْسمِائة فَإِنَّهُ تثبت الزِّيَادَة فَكَذَلِك فِي
الْخَبَر
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ مَا انْفَرد بِهِ أَحدهمَا مِمَّا لَا
يقبل لوَجَبَ أَن لَا يقبل مَا انْفَرد بِهِ أبي وَابْن
مَسْعُود فِي الْقرَاءَات لِأَنَّهَا رِوَايَات انفردوا بهَا
عَن الصَّحَابَة
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمَا مشتركان فِي السماع فَلَو كَانَت
الزِّيَادَة صَحِيحَة لاشتركا فِيهَا
قُلْنَا تبطل بِمَا ذَكرْنَاهُ من الشُّهُود على أَنا بَينا
أَنه يجوز سَماع الْبَعْض دون الْبَعْض وَيجوز أَن يشتركا فِي
الْجَمِيع وينسى أَحدهمَا بعضه وَإِذا احْتمل هَذَا لم يجز رد
الزِّيَادَة
قَالُوا وَلِأَن فِي التَّقْوِيم يقدم قَول من قوم
بِالنُّقْصَانِ فَكَذَلِك فِي الْخَبَر
قُلْنَا هَذَا مُخَالف للتقويم فَإِن شَهَادَة الْمُقَوّم
مُعَارضَة فِي الزِّيَادَة أَلا ترى أَن من قوم بِالنُّقْصَانِ
يذكر أَنه عرف السّلْعَة وسعر السُّوق وَلَا تَسَاوِي إِلَّا
(1/322)
كَذَا وَمن قوم بِالزِّيَادَةِ يذكر أَنه
عرف السّلْعَة وسعر السُّوق وَهُوَ يُسَاوِي كَذَا وَلَيْسَ
كَذَلِك فِي الْخَبَر فَإِن من روى الْخَبَر نَاقِصا لَا
يمْنَع الزِّيَادَة فَلَا يقْدَح فِي صِحَّتهَا فَوَجَبَ
الْأَخْذ بهَا
قَالُوا مَا اتفقنا عَلَيْهِ من الْخَبَر يَقِين وَالزِّيَادَة
مَشْكُوك فِيهَا فَلَا يتْرك الْيَقِين بِالشَّكِّ
قُلْنَا فَيجب إِذا انْفَرد أَحدهمَا بِخَبَر لم يروه الآخر
أَن لَا يقبل فَيُقَال أحد الْخَبَرَيْنِ يَقِين وَالْآخر
مَشْكُوك فِيهِ فَلَا يتْرك الْيَقِين بِالشَّكِّ
على أَنا لَا نقُول إِن الزِّيَادَة مَشْكُوك فِيهَا بل هِيَ
ثَابِتَة على مُقْتَضى الظَّاهِر لِأَنَّهُ ثِقَة فَلَو لم
يسمع لما ذكر وَالْأَخْذ بِالظَّاهِرِ من الْأَخْبَار وَاجِب
قَالُوا إِذا انْفَرد وَاحِد من الْجَمَاعَة بِزِيَادَة فقد
خَالف إِجْمَاع أهل الْعَصْر فَهُوَ كالواحد إِذا خَالف
الْإِجْمَاع
قُلْنَا الْمَعْنى هُنَاكَ أَن أهل الِاجْتِهَاد أَجمعُوا على
خطئه فوزانه من مَسْأَلَتنَا أَن يجمع أهل الِاجْتِهَاد على
إبِْطَال الزِّيَادَة فَتسقط وَأما هَاهُنَا فَإِنَّهُم لم
يقطعوا بِإِبْطَال الزِّيَادَة فَوَجَبَ الْأَخْذ بهَا
قَالُوا لَو كَانَ لهَذِهِ الزِّيَادَة أصل لما خص رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعضهم بهَا لِأَن فِي ذَلِك ترعيضا
للباقين للخطأ
قُلْنَا لَا نقُول إِنَّه خص بَعضهم بِالزِّيَادَةِ بل حدث
الْجَمِيع بِالْحَدِيثِ كُله وَلَكِن نسي بَعضهم بعض الحَدِيث
أولم يحضر بَعضهم من أول الحَدِيث إِلَى آخِره
وعَلى أَنه يجوز أَن لَا يحدث بَعضهم بِجَمِيعِ الحَدِيث على
التَّفْصِيل إِذا لم تدع الْحَاجة إِلَى الْبَيَان وَإِنَّمَا
لَا يجوز ذَلِك عِنْد الْحَاجة فَسقط مَا قَالُوهُ
قَالُوا وَلِأَنَّهُ قد جرت عَادَة الروَاة بتفسير
الْأَحَادِيث وإدراج ذَلِك فِي جملَة الْخَبَر فَلَا يُؤمن أَن
تكون هَذِه الزِّيَادَة من هَذَا الْجِنْس فَيجب أَن لَا تقبل
(1/323)
قُلْنَا إِذا أسْندهُ إِلَى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَالظَّاهِر أَن الْجَمِيع من قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
على أَنه لَو كَانَ هَذَا دَلِيلا فِي إبِْطَال الزِّيَادَة
لوَجَبَ أَن يَجْعَل ذَلِك طَرِيقا فِي رد الْأَخْبَار أصلا
فَيُقَال إِن الروَاة يغلطون فيروون عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَا لَيْسَ عَنهُ فَلَا يُؤمن أَن تكون هَذِه
الْأَخْبَار من ذَلِك الْجِنْس فَلَمَّا بَطل هَذَا فِي رد
الْخَبَر أصلا بَطل فِي رد الزِّيَادَة
(1/324)
مَسْأَلَة 13
إِذا روى الثِّقَة حَدِيثا مُسْندًا وأرسله غَيره لم يقْدَح
ذَلِك فِي الرِّوَايَة وَكَذَلِكَ إِذا رَفعه أَحدهمَا ووقه
الآخر على الصَّحَابِيّ
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الحَدِيث إِن ذَلِك يقْدَح فِي رِوَايَة
من وَصله وأسنده
لنا هُوَ أَنه من أرسل ذَلِك مِنْهُمَا يجوز أَن يكون قد أغفل
من سمع مِنْهُ وَاخْتَارَ إرْسَاله لغَرَض
وَالَّذِي وَقفه يجوز أَن يكون قد سمع فَتْوَى الصَّحَابِيّ
عَن نَفسه فَإِن من عِنْده حَدِيث يجوز أَن يرويهِ مرّة ويفتي
بِهِ أُخْرَى فَلَا يجوز رد مَا أسْندهُ الثِّقَة
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو كَانَ أَحدهمَا مُسْندًا أَو
مَرْفُوعا لشاركه الآخر فِي إِسْنَاده وَرَفعه كَمَا شَاركهُ
فِي سَمَاعه
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه يجوز أَن يكون قد أرْسلهُ وَوَقفه لما
بَيناهُ فَلَا يجوز أَن يَجْعَل ذَلِك قدحا فِي رِوَايَته
(1/325)
مَسْأَلَة 14
مَرَاسِيل غير الصَّحَابَة لَيست بِحجَّة
وَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة هُوَ حجَّة وَهُوَ قَول
الْمُعْتَزلَة
وَقَالَ عِيسَى بن أبان تقبل مَرَاسِيل الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ وتابع التَّابِعين وَلَا تقبل مَرَاسِيل من
بعدهمْ إِلَّا أَن يكون إِمَامًا
لنا مَا اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ
أَن الْخَبَر كَالشَّهَادَةِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن
الْعَدَالَة مُعْتَبرَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا ثمَّ ثَبت أَن
الْإِرْسَال فِي الشَّهَادَة يمْنَع صِحَّتهَا فَكَذَلِك
هَاهُنَا فِي الْخَبَر
(1/326)
فَإِن قيل الشَّهَادَة آكِد من الْخَبَر
أَلا ترى أَن الشَّهَادَة لَا تقبل من العَبْد وَلَا من شُهُود
الْفَرْع مَعَ حُضُور شُهُود الأَصْل وَالْأَخْبَار تقبل من
العَبْد وَتقبل من الرَّاوِي مَعَ حُضُور الْمَرْوِيّ عَنهُ
فَدلَّ على الْفرق بَينهمَا
قيل هما وَإِن افْتَرقَا فِيمَا ذكرْتُمْ إِلَّا أَنَّهُمَا
يتساويان فِي اعْتِبَار الْعَدَالَة والإرسال يمْنَع ثُبُوت
الْعَدَالَة فيهمَا فَيجب أَن يمْنَع صحتهما
وَأَيْضًا هُوَ أَن من شَرط الْخَبَر عَدَالَة الرَّاوِي
فَإِذا روى مُرْسلا جهلت عَدَالَة الرَّاوِي فَيجب أَن لَا
يقبل
فَإِن قيل الظَّاهِر أَنه لم يرو إِلَّا عَن عدل
قيل لَيْسَ الظَّاهِر مَا ذكرْتُمْ بل يجوز أَن يرْوى عَن عدل
وَغير عدل وَقد جرت عَادَة أَصْحَاب الحَدِيث بالرواية عَن كل
أحد وَلِهَذَا قَالَ ابْن سِيرِين لَا تَأْخُذُوا بمراسيل
الْحسن وَأبي الْعَالِيَة فَإِنَّهُمَا لَا يباليان مِمَّن
أخذا وعَلى أَن عِنْدهم لَو أرسل عَمَّن لَا يعرفهُ وَلَا يعرف
عَدَالَته لجَاز الْعَمَل بِهِ فَسقط مَا قَالُوهُ
وَاحْتَجُّوا بِأَن الرَّاوِي لَا يُرْسل الحَدِيث إِلَّا
مِمَّن يقطع بِصِحَّتِهِ وَثُبُوت طَرِيقه وَلِهَذَا رُوِيَ
عَن إِبْرَاهِيم أَنه قَالَ إِذا رويت عَن عبد الله وأسندت فقد
حَدثنِي وَاحِد وَإِذا أرْسلت فقد حَدثنِي جمَاعَة
(1/327)
وَقَالَ الْحسن وَقد أرسل حَدِيثا فَسئلَ
عَنهُ فَقَالَ حَدثنِي بِهِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا فَدلَّ على
أَن الْمُرْسل كالمسند وَأقوى مِنْهُ
قُلْنَا يجوز أَن يكون قد أرسل لما ذكرْتُمْ وَيجوز أَن يكون
قد أرسل لِأَنَّهُ نسي الْمَرْوِيّ عَنهُ وَهَذَا هُوَ
الْأَكْثَر لِأَنَّهُ جرت الْعَادة أَنهم يَقُولُونَ عِنْد
النسْيَان قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَعند الذّكر
وَالْحِفْظ يذكرُونَ الْإِسْنَاد وَيجوز أَن يكون قد أرسل
لِأَنَّهُ لم يرض الرِّوَايَة عَنهُ أَو يستنكف عَن
الرِّوَايَة عَنهُ وَإِذا احْتمل هَذَا سقط مَا ذَكرُوهُ
وعَلى أَن أَكثر مَا فِي هَذَا أَن يكون الْمَرْوِيّ عَنهُ
عِنْده ثِقَة فَأرْسل عَنهُ وَبِهَذَا الْقدر لَا يلْزمنَا
الْعَمَل بِهِ حَتَّى يُبينهُ لنا فَنَنْظُر فِي عَدَالَته
قَالُوا وَلِأَن الظَّاهِر أَنه لَا يُرْسل إِلَّا عِنْد صِحَة
الحَدِيث لِأَنَّهُ مَتى شكّ بَين إِسْنَاده حَتَّى تلْزمهُ
عهدته فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ أرسل دلّ على صِحَة الحَدِيث
وَالْجَوَاب أَنا قد بَينا أَنه يحْتَمل إرْسَاله لما ذَكرُوهُ
وَيحْتَمل مَا بَيناهُ والجميع مُعْتَاد مُتَعَارَف فَلَا يَصح
حمل الْأَمر على أحد الْوَجْهَيْنِ دون الآخر
وعَلى أَن هَذَا كُله يبطل بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة
فَإِنَّهُ إِذا لم يسم شَاهد الْفَرْع شَاهد الأَصْل لم يَصح
وَإِن كَانَ الظَّاهِر أَنه مَا ترك تَسْمِيَته إِلَّا لصِحَّة
الْأَمر عِنْده
قَالُوا وَلِأَن الْمَرْوِيّ عَنهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن
يكون على صفة يقبل خَبره أَو لَا يقبل خَبره وَلَا يجوز أَن
يكون على صفة لَا يقبل خَبره لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك
لوَجَبَ أَن يكون الْإِرْسَال عَنهُ يقْدَح فِي دين الرَّاوِي
عَنهُ حَتَّى لَا يقبل مُسْنده وَلما ثَبت أَن مُسْنده يقبل
دلّ على أَن الْمَرْوِيّ عَنهُ على صفة يقبل خَبره فَوَجَبَ
قبُول الْمُرْسل عَنهُ
قُلْنَا يجوز أَن يكون على صفة لَا يقبل خَبره وَلَكِن لَا
يقْدَح ذَلِك فِي سَنَد الرَّاوِي عَنهُ لِأَنَّهُ يجوز أَن
لَا يعرفهُ وَهُوَ مِمَّن يعْتَقد جَوَاز الرِّوَايَة عَن
المجاهيل وَيجوز أَن يكون قد نسي اسْمه فَلَا يجب أَن الْقدح
فِي عَدَالَته
(1/328)
وعَلى أَن أَكثر مَا فِيهِ أَن يكون
الْمَرْوِيّ عَنهُ عدلا عِنْده فَأرْسلهُ لذَلِك وعدالته
عِنْده لَا تَكْفِي فِي وجوب الْعَمَل حَتَّى ينظر فِي حَاله
وعَلى أَنه لَو كَانَ هَذَا دَلِيلا فِي إرْسَال الْخَبَر
لوَجَبَ أَن يَجْعَل دَلِيلا فِي إرْسَال الشَّهَادَة فَيُقَال
الْمَشْهُود على شَهَادَته لَا يَخْلُو من أَن يكون مَرْدُود
الشَّهَادَة فَيجب أَن يُوجب ذَلِك قدحا فِي عَدَالَة هَذَا
الشَّاهِد فَلَا تقبل شَهَادَته فِي شَيْء أَو مَقْبُول
الشَّهَادَة فَيجب قبُول الشَّهَادَة عَلَيْهِ مَعَ
الْإِرْسَال وَلما بَطل هَذَا فِي الشَّهَادَة بَطل فِي
الْأَخْبَار
قَالُوا من قبل مُسْنده قبل مرسله كالصحابة
وَالْجَوَاب أَن أَبَا إِسْحَق الإِسْفِرَايِينِيّ لم يسلم
هَذَا لَا تقبل مَرَاسِيل الصَّحَابَة كَمَا لَا تقبل
مَرَاسِيل التَّابِعين وَالْمذهب أَنه تقبل مراسيلهم لأَنهم
لَا يرسلون إِلَّا عَن الصَّحَابَة وَقد ثبتَتْ عدالتهم فَلَا
يحْتَاج إِلَى النّظر فِي أَحْوَالهم والتابعون يروي بَعضهم
عَن بعض وعدالتهم غير ثَابِتَة فَوَجَبَ الْكَشْف عَن حَالهم
قَالُوا وَلِأَنَّهُ إرْسَال فَأشبه إرْسَال ابْن الْمسيب
قُلْنَا من أَصْحَابنَا من قَالَ مراسيله ومراسيل غَيره سَوَاء
وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ اسْتحْسنَ مراسيله فِي
التَّرْجِيح بهَا وَمِنْهُم من سلم لِأَنَّهَا تتبعت فَوجدت
مسانيدا عَن الصَّحَابَة وَهَذَا الْمَعْنى لم يثبت فِي
مَرَاسِيل غَيره فَافْتَرقَا
قَالُوا لَو لم يكن الْمُرْسل حجَّة لما اشْتغل النَّاس
بروايته وَكتبه
(1/329)
قُلْنَا يجوز أَن يكون قد اشتغلوا بروايته
وَكتبه للترجيح بِهِ أَو ليعرف كَمَا كتب أَخْبَار الْفُسَّاق
وَمن لَا يثبت بروايته حَدِيث وَلِهَذَا قَالَ الشّعبِيّ
حَدثنِي الْحَارِث الْأَعْوَر وَكَانَ وَالله كذابا
ولأنا نشتغل بِرِوَايَة النسوخ من الْأَحْكَام وَإِن لم
يتَعَلَّق بهَا حكم
(1/330)
مَسْأَلَة 15
إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ أمرنَا بِكَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا
أَو من السّنة كَذَا فَهُوَ كالمسند إِلَى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ أَبُو بكر الصَّيْرَفِي لَا حجَّة فِي ذَلِك وَهُوَ
قَول بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة
لنا هُوَ أَن إِطْلَاق الْأَمر وَالنَّهْي وَالسّنة يرجع إِلَى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أنس بن مَالك كَانَ يَقُول أَمر
بِلَال أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة وَلم يقل لَهُ
أحد من الْآمِر بذلك فَدلَّ على أَن إِطْلَاق الْأَمر
يَقْتَضِي مَا ذَكرْنَاهُ
وَلِأَنَّهُ لَا خلاف أَنه لَو قَالَ أرخص لنا فِي كَذَا لرجع
ذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَذَلِك
إِذا قَالَ أمرنَا بِكَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا وَلَا فرق
بَينهمَا
وَاحْتَجُّوا بِأَن السّنة قد تطلق وَالْمرَاد بهَا سنة رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتطلق وَالْمرَاد بهَا سنة
غَيره وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي
الْخمر جلد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخمر
أَرْبَعِينَ وَجلد أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَرْبَعِينَ
وَجلد عمر
(1/331)
ثَمَانِينَ وكل سنة فَأطلق السّنة على مَا
فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى مَا فعله
أَبُو بكر وعَلى مَا فعله عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة
الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدين أبي بكر وَعمر
وَالْجَوَاب أَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ بِالسنةِ سنة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الزِّيَادَة على
الْأَرْبَعين كَانَت تعزيرا وَالضَّرْب بالتعزير ثَبت بِالسنةِ
وَأما قَوْله عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين
من بعدِي فَهِيَ سنة مُقَيّدَة منسوبة إِلَى أبي بكر وَعمر
وكلامنا فِي السّنة الْمُطلقَة وَحكم الْمُطلق مُخَالف لحكم
الْمُقَيد
قَالُوا وَلِأَن الصَّحَابِيّ قد يجْتَهد فِي الْحَادِثَة
فيؤديه اجْتِهَاده إِلَى حكم ويضيف ذَلِك إِلَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ يقيس على مَا سمع مِنْهُ
ويستنبط مِمَّا أَخذ عَنهُ وَإِذا احْتمل هَذَا لم يجز أَن
يَجْعَل ذَلِك سنة مُسندَة كَمَا لَو قَالَ هَذَا حكم الله
تَعَالَى لم يجز أَن يصير ذَلِك كآية من الْقُرْآن
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه وَإِن جَازَ أَن يُسمى مَا عرف
بِالْقِيَاسِ سنة إِلَّا أَن الظَّاهِر من السّنة مَا حفظ عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاللَّفْظ يجب أَن يحمل
على الظَّاهِر فَبَطل مَا قَالُوهُ وَالله أعلم
(1/332)
مَسْأَلَة 16
إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ كُنَّا نَفْعل على عهد رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا وَكَذَا فَهُوَ كالمسند إِلَى
رَسُول الله
وَقَالَ بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة لَيْسَ كالمسند
لنا أَن الظَّاهِر من حَال الصَّحَابَة أَن لَا يقدموا على
أَمر من أُمُور الدَّين وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بَين أظهرهم إِلَّا عَن أمره فَصَارَ ذَلِك كالمسند إِلَيْهِ
وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يُضَاف ذَلِك إِلَى عهد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لفائدة وَهُوَ أَن يبين أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم علم بذلك وَلم يُنكره فَوَجَبَ أَن يصير
كالمسند
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُم كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي عهد النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام مَالا يكون مُسْندًا أَلا ترى أَنهم لما
اخْتلفُوا فِي التقاء الختانين قَالَ بَعضهم كُنَّا نجامع على
عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونكسل فَلَا نغتسل
فَقَالَ لَهُ عمر أَو علم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ذَلِك فأقركم عَلَيْهِ فَقَالَ لَا فَقَالَ فَمه
وَقَالَ جَابر كُنَّا نبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد على عهد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/333)
قُلْنَا أما التقاء الختانين فَمَا كَانَ
يجب بِهِ الْغسْل فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام وَكَانُوا
يُجَامِعُونَ وَلَا يغتسلون ثمَّ نسخ ذَلِك فَكَانَ ذَلِك
مَفْعُولا فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا
نسخ لم يعلم بَعضهم بالنسخ وَاسْتمرّ على ذَلِك وَحَال
الاستدامة والاستمرار يجوز أَن يخفى أمره
فَأَما الْإِقْدَام على ابْتِدَاء الشَّيْء فَلَا يفعل إِلَّا
عَن إِذن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
وَأما حَدِيث جَابر فَالْمُرَاد بِهِ أُمَّهَات الْأَوْلَاد
فِي غير ملك الْيَمين وَهُوَ أَن يتَزَوَّج جَارِيَة لَهُم
وَذَلِكَ جَائِز
(1/334)
مَسْأَلَة 17
إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَهُوَ كالمسند إِلَيْهِ سَمَاعا مِنْهُ
وَذهب بعض النَّاس إِلَى أَنه لَيْسَ كالمسند إِلَيْهِ سَمَاعا
وَهُوَ قَول الأشعرية
لنا هُوَ أَن الظَّاهِر أَنه مَا قطع بِأَنَّهُ قَالَ النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا وَقد سمع مِنْهُ فَوَجَبَ أَن يحمل
الْأَمر على السماع
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ يجوز أَن تكون بَينهمَا وَاسِطَة فيضيف
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جهتهم وَلِهَذَا
قَالَ أنس مَا كل مَا نحدثكم بِهِ سمعناه من رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقيل إِنَّه لَيْسَ مِمَّا يرويهِ ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَرْبَعَة أَحَادِيث
وَالْجَوَاب أَنه يحْتَمل مَا ذكرْتُمْ وَلَكِن الظَّاهِر مَا
ذَكرْنَاهُ
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أنسا قَالَ لَيْسَ كل مَا نحدثكم
بِهِ سمعناه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا
يدل على أَن ظَاهر الرِّوَايَة يَقْتَضِي السماع وَلَوْلَا
ذَلِك مَا احْتَاجَ إِلَى هَذَا الْبَيَان فَإِذا كَانَ هَذَا
هُوَ الظَّاهِر وَجب أَن يحمل الْخَبَر عَلَيْهِ
(1/335)
مَسْأَلَة 18
إِذا قَالَ حَدثنِي فلَان عَن فلَان فَالظَّاهِر أَنه مُتَّصِل
وَمن النَّاس من قَالَ حكمه حكم الْمُرْسل
لنا هُوَ أَن الظَّاهِر أَنه سمع كل وَاحِد مِنْهُم مِمَّن
يرْوى عَنهُ لِأَنَّهُ لَو كَانَ بَينهمَا وَاسِطَة لبين ذَلِك
وَاحْتَجُّوا أَن الرِّوَايَة عَنهُ لَا تَقْتَضِي السماع
مِنْهُ أَلا ترى أَنه يُقَال روى فلَان عَن فلَان وَإِن كَانَ
بَينهمَا وَاسِطَة كَمَا يُقَال روى عَنهُ وَإِن لم يكن
بَينهمَا وَاسِطَة وَإِذا كَانَ اللَّفْظ يُطلق على
الْأَمريْنِ لم يكن حمله على الِاتِّصَال بِأولى من حمله على
الْإِرْسَال
قُلْنَا اللَّفْظ وَإِن كَانَ يسْتَعْمل فِي فِي الْأَمريْنِ
جَمِيعًا إِلَّا أَن الظَّاهِر مِنْهُ السماع والاتصال لِأَن
الأَصْل عدم الوسائط فَوَجَبَ أَن يحمل الْأَمر عَلَيْهِ
(1/336)
مَسْأَلَة 19
لَا يقبل الْخَبَر إِلَّا مِمَّن تعرف عَدَالَته
وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِذا عرف إِسْلَامه جَازَ قبُول
رِوَايَته
لنا هُوَ أَن كل خبر لَا يقبل من الْفَاسِق لم يقبل من
مَجْهُول الْحَال كَالشَّهَادَةِ
ولأنا لَو جَوَّزنَا قبُول الْأَخْبَار مِمَّن جهلت عَدَالَته
لم يبْق أحد من أهل الْبدع إِلَّا روى مَا يُوَافق بدعته فتتسع
الْبدع وَيكثر الْفساد وَهَذَا لَا يجوز
وَاحْتَجُّوا بِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ
للأعرابي الَّذِي شهد عِنْده بالهلال أَتَشهد أَن لَا إِلَه
إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله قَالَ نعم وَأمر بِالصَّوْمِ
وَلم يسْأَل عَن الْعَدَالَة
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه يحْتَمل أَن يكون قد عرف عَدَالَته فَلم
يسْأَل عَنْهَا
قَالُوا وَلِأَن الأَصْل فِي الْمُسلم الْعَدَالَة فَوَجَبَ
أَن يحمل الْأَمر عَلَيْهِ
(1/337)
قُلْنَا لَا نسلم بل الأَصْل فِي الصّبيان
عدم الْعَدَالَة لَعَلَّه التَّحْصِيل وَالْعقل وَبعد الْبلُوغ
يحْتَمل أَن يكون عدلا وَيحْتَمل أَن يكون فَاسِقًا فَوَجَبَ
التَّوَقُّف فِيهِ حَتَّى نعلم بَاطِن الْحَال
وَلِأَن هَذَا يبطل بِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَا تقبل من
الْمَجْهُول وَإِن كَانَ الأَصْل فِي النَّاس الْعَدَالَة
فَسقط مَا قَالُوهُ
(1/338)
مَسْأَلَة 20
إِذا روى الثِّقَة عَن الْمَجْهُول لم يدل ذَلِك على عَدَالَته
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يدل على عَدَالَته
لنا هُوَ أَن شَهَادَة الْفَرْع لَا تدل على شَهَادَة الأَصْل
فَكَذَلِك رِوَايَة الْعدْل لَا تدل على عَدَالَة الْمَرْوِيّ
عَنهُ
وَلِأَن الْعدْل قد يروي عَن الثِّقَة وَعَن غير الثِّقَة
وَلِهَذَا قَالَ الشّعبِيّ حَدثنِي الْحَارِث الْأَعْوَر
وَكَانَ وَالله كذابا فَلم يجز أَن يسْتَدلّ بالرواية على
الْعَدَالَة
وَاحْتَجُّوا لَو كَانَ هَذَا الْمَجْهُول غير ثِقَة لبين
الْعدْل ذَلِك فِي رِوَايَته حَتَّى لَا يغتر بروايته كَمَا
بَين الشّعبِيّ وَلما لم يبين ذَلِك دلّ على عَدَالَته
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه يجوز أَن يتْرك الْبَيَان ثِقَة بعدالته
وَيحْتَمل أَنه تَركه لِأَنَّهُ لَا يعرفهُ وَهُوَ مِمَّن يرى
النَّاس أَنه على الْعَدَالَة وَيحْتَمل أَن يتْرك الْبَيَان
ليجتهد الْفَقِيه الَّذِي يعْمل بحَديثه فِي حَاله فَإِذا
احْتمل أَنه ترك الْبَيَان من هَذِه الْوُجُوه لم يدل ذَلِك
على الْعَدَالَة
وَجَوَاب آخر وَهُوَ أَن أَكثر مَا فِي ذَلِك أَن يدل على
عَدَالَته عِنْده وَهَذَا لَا يَكْفِي فِي ثُبُوت الْعَدَالَة
حَتَّى نَنْظُر فِي حَاله كَمَا نظر ونعرفه كَمَا عرف
وَلِأَن هَذَا يبطل بِشَاهِد الْفَرْع إِذا شهد على شَهَادَة
مَجْهُول فَإِنَّهُ لَا يدل على عَدَالَته وَلَا يُقَال أَنه
لَو كَانَ غير ثِقَة لبين ذَلِك حَتَّى لَا تعْتَبر شَهَادَته
فَسقط مَا قَالُوهُ
(1/339)
مَسْأَلَة 21
إِذا روى الصَّحَابِيّ لغيره شَيْئا عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رأى الْمَرْوِيّ لَهُ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لم يلْزمه أَن يسْأَله عَمَّا حدث عَنهُ
وَقَالَ بعض النَّاس يلْزمه أَن يسْأَل عَن ذَلِك
لنا هُوَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يبْعَث السعاة والقضاة إِلَى أهل الْبِلَاد لتبليغ الشَّرْع
وَبَيَان الْأَحْكَام ثمَّ يقدمُونَ أُولَئِكَ على رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يسألونه عَمَّا حدثوا عَنهُ
فَدلَّ على أَنه لَا يجب
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ إِذا لقى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
أمكنه معرفَة الحكم من جِهَة الْقطع فَلَا يجوز أَن يعول على
الظَّن كَمَا أَن الْمَكِّيّ إِذا أمكنه التَّوَجُّه إِلَى
الْقبْلَة لم يجز أَن يجْتَهد
قُلْنَا فَيجب على هَذَا إِذا كَانَ على بَحر أَن لَا يجوز
لَهُ الْوضُوء بِمَا مَعَه من المَاء لِأَنَّهُ يقدر على مَا
يقطع بِطَهَارَتِهِ وَهُوَ مَاء الْبَحْر وَلما أَجمعُوا على
جَوَاز ذَلِك دلّ على بطلَان مَا قَالُوهُ
وَأما الْقبْلَة فَهُوَ حجَّة لنا عَلَيْهِم لِأَن الْغَائِب
عَنْهَا إِذا علم الْجِهَة بِدَلِيل فصلى إِلَيْهَا لم يلْزمه
إِذا قدم مَكَّة اعْتِبَار الْجِهَات المتيقنة وَكَذَلِكَ
هَاهُنَا إِذا علم بقول الْعدْل ثمَّ لَقِي النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام يجب أَن لَا يلْزمه سُؤَاله
(1/340)
مَسْأَلَة 22
إِذا نسي الْمَرْوِيّ عَنهُ الحَدِيث والراوي عَنهُ ثِقَة لم
يسْقط الحَدِيث
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة يسْقط الحَدِيث
لنا أَن سُهَيْل بن أبي صَالح روى عَن ربيعَة بن أبي عبد
الرَّحْمَن حَدِيث الشَّاهِد وَالْيَمِين ثمَّ نَسيَه فَكَانَ
يَقُول حَدثنِي ربيعَة عني أَنِّي حدثته عَن أبي هُرَيْرَة
وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من التَّابِعين
وصنف أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ جُزْءا فِيمَن نسي ثمَّ
روى عَمَّن روى عَنهُ وَهَذَا يدل على أَنه إِجْمَاع على
جَوَاز ذَلِك
(1/341)
وَلِأَن الْمَرْوِيّ عَنهُ لَا يعلم بطلَان
الحَدِيث والراوي عَنهُ ثِقَة فَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ كَمَا
لَو لم ينس
وَلِأَنَّهُ مَوته أعظم من نسيانه فَإِذا كَانَ مَوته لَا يبطل
رِوَايَة الثِّقَة عَنهُ فنسيانه أولى
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْخَبَر كَالشَّهَادَةِ ثمَّ إِنْكَار
شُهُود الأَصْل الشَّهَادَة يبطل الشَّهَادَة فَكَذَلِك
إِنْكَار الْمَرْوِيّ عَنهُ الْخَبَر يجب أَن يبطل الْخَبَر
وَالْجَوَاب هُوَ أَن بَاب الشَّهَادَة آكِد من بَاب الْخَبَر
أَلا ترى أَن شَهَادَة العبيد لَا تقبل وأخبارهم تقبل فَدلَّ
على الْفرق بَينهمَا
(1/342)
مَسْأَلَة 23
إِذا ترك الرَّاوِي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ وَأفْتى بِغَيْرِهِ
لم يسْقط الحَدِيث
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة يسْقط الحَدِيث
لنا هُوَ أَن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة
وَقَول الرَّاوِي لَيْسَ بِحجَّة فَلَا تعَارض الْحجَّة بِمَا
لَيْسَ بِحجَّة
وَاحْتَجُّوا بِأَن الصَّحَابِيّ مَعَ فَضله وَدينه لَا يجوز
أَن يتْرك الحَدِيث وَيعْمل بِخِلَافِهِ إِلَّا وَقد علم نسخ
الْخَبَر فَوَجَبَ أَن يسْقط الِاحْتِجَاج بِهِ
وَالْجَوَاب أَنه يحْتَمل أَن يكون علم نسخه وَيحْتَمل أَنه
نَسيَه أَو تَأَوَّلَه فَلَا تتْرك سنة ثَابِتَة بتجويز النّسخ
وَلِأَن الظَّاهِر أَنه لَيْسَ مَعَه مَا ينسخه لِأَنَّهُ لَو
كَانَ مَعَه نَاسخ لرواه فِي وَقت من الْأَوْقَات وَلما لم
يظْهر ذَلِك دلّ على أَنه نَسيَه
(1/343)
مَسْأَلَة 24
إِذا وجد سَمَاعه على كتاب وَلم يذكر أَنه سَمعه جَازَ لَهُ
أَن يرويهِ
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا لَا يجوز حَتَّى يذكرهُ وَهُوَ قَول
أبي حنيفَة
لنا هُوَ أَن الْأَخْبَار تحمل على الظَّاهِر وَحسن الظَّن
وَلِهَذَا قبلناها من العبيد وَالنِّسَاء وَمن لَا نَعْرِف
عَدَالَته فِي الْبَاطِن فَالظَّاهِر من هَذَا السماع
الصِّحَّة فَوَجَبَ أَن تجوز لَهُ الرِّوَايَة
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا يجوز الرُّجُوع إِلَى الْخط فِي
الشَّهَادَة فَكَذَلِك فِي الْخَبَر
وَالْجَوَاب أَن بَاب الشَّهَادَة آكِد من بَاب الْأَخْبَار
وَقد بَينا هَذَا بِمَا يُغني عَن الْإِعَادَة
(1/344)
مَسْأَلَة 25
إِذا كتب إِلَيْهِ رجل بِحَدِيث جَازَ أَن يرويهِ عَنهُ
فَيَقُول أَخْبرنِي فلَان بِهَذَا مُكَاتبَة
وَمن النَّاس من قَالَ لَا تجوز لَهُ الرِّوَايَة عَنهُ
لنا هُوَ أَن أَمر الْأَخْبَار مَبْنِيّ على الظَّاهِر وَحسن
الظَّن وَالظَّاهِر صِحَة مَا كتب إِلَيْهِ فَجَاز أَن يعول
عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَة
فَإِن احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو كتب إِلَيْهِ بِشَهَادَة لم
يجز أَن يشْهد عَلَيْهِ فَكَذَلِك إِذا كتب إِلَيْهِ بِخَبَر
وَالْجَوَاب أَن بَاب الشَّهَادَة آكِد من بَاب الْأَخْبَار
وَقد بَينا ذَلِك فِي غير مَوضِع فأغنى عَن الْإِعَادَة
(1/345)
مَسْأَلَة 26
تجوز رِوَايَة الحَدِيث على الْمَعْنى إِذا كَانَ عَالما
بِمَعْنى الحَدِيث
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا لَا يجوز ذَلِك
لنا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ
إِذا أُصِيب الْمَعْنى
وَلِأَن الْقَصْد هُوَ الْمَعْنى دون اللَّفْظ وَقد أَتَى
بِالْمَقْصُودِ فَوَجَبَ أَن يجوز كَمَا نقُول فِي نقل
الشَّهَادَة والأقارير
(1/346)
وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام رحم
الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها وحفظها وَأدّى كَمَا سمع فَرب
حَامِل فقه غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه
مِنْهُ وَهَذَا يَقْتَضِي حفظ الْأَلْفَاظ
وَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذَا يدل على الْفَضِيلَة والاستحباب
أَلا ترى أَنه رغب فِيهِ بِالدُّعَاءِ وَلم يتواعد على تَركه
قَالُوا ولأنا لَا نَأْمَن أَن يكون قد قصد النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام معنى فَاسْتعْمل فِيهِ لفظا على سَبِيل الْمجَاز
فينقل الرَّاوِي ذَلِك إِلَى لفظ لَا يُؤَدِّي معنى الأول
فيغير الْمَقْصُود
وَالْجَوَاب هُوَ أَنا إِنَّمَا نجيز ذَلِك لمن علم معنى
الحَدِيث وأحاط بِهِ علمه فَلَا يُغير الْمَقْصُود
قَالُوا وَلِأَن الْقُرْآن لَا يجوز أَن يقْرَأ على الْمَعْنى
فَكَذَلِك السّنة
قُلْنَا لِأَن اللَّفْظ مَقْصُود فِي الْقُرْآن أَلا ترى أَنه
يُثَاب على تِلَاوَته وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِن
الْقَصْد هُوَ الْمَعْنى دون اللَّفْظ فشابه مَا ذكرنَا من
الشَّهَادَة وَالْإِقْرَار
(1/347)
مَسْأَلَة 27
يرجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر بِكَثْرَة الروَاة فِي أحد
المذهبين وَلَا يرجح فِي الْمَذْهَب الآخر وَهُوَ مَذْهَب بعض
النَّاس
لنا هُوَ أَن رِوَايَة الِاثْنَيْنِ أقرب إِلَى الصِّحَّة
وَأبْعد من السَّهْو والغلط فَإِن الشَّيْء عِنْد الْجَمَاعَة
أحفظ مِنْهُ عِنْد الْوَاحِد وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى
{أَن تضل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى} وَقَالَ
عَلَيْهِ السَّلَام الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ مَعَ
الِاثْنَيْنِ أبعد فَوَجَبَ أَن يرجح مَا كثر رُوَاته
وَأَيْضًا فَإِن مَا كثر رُوَاته أقرب إِلَى التَّوَاتُر
فَوَجَبَ أَن يكون أولى من غَيره
وَاحْتَجُّوا بِأَن فِي الشَّهَادَات لَا يرجح بِكَثْرَة
الْعدَد فَكَذَلِك فِي الْأَخْبَار
وَالْجَوَاب هُوَ أَن الشَّهَادَات مقدرَة فِي الشَّرْع فَلم
يرجح بِكَثْرَة الْعدَد وَالْأَخْبَار غير مقدرَة فَرجع فِيهَا
إِلَى الْأَقْوَى فِي الظَّن يدلك عَلَيْهِ أَن الشَّهَادَات
لَا ترجح بِالسِّنِّ وَلَا بِالْقربِ وَلَا بِالْعلمِ
وَالْأَخْبَار ترجح بذلك كُله فَدلَّ على الْفرق بَينهمَا
(1/348)
|