التبصرة في أصول الفقه مسَائِل الْإِجْمَاع
مَسْأَلَة 1
إِجْمَاع الْعلمَاء على حكم الْحَادِثَة حجَّة مَقْطُوع بهَا
وَقَالَ النظام والإمامية لَيْسَ بِحجَّة غير أَن الإمامية
قَالَت إِن الْمُسلمين إِذا أَجمعُوا على حكم وَجب الْمصير
إِلَيْهِ لِأَن فيهم من قَوْله حجَّة وَهُوَ الإِمَام
وَالْإِجْمَاع عِنْدهم لَيْسَ بِحجَّة وَلَكِن فِيهِ حجَّة
لنا مَا احْتج بِهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَهُوَ قَوْله
تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى
وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم
وَسَاءَتْ مصيرا} فتواعد على مُخَالفَة سَبِيل الْمُؤمنِينَ
فَدلَّ على أَن اتباعهم وَاجِب ومخالفتهم حرَام وَأَن مَا
عداهُ بَاطِل
(1/349)
فَإِن قيل إِنَّمَا علق الْوَعيد على
مُخَالفَة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَترك سَبِيل
الْمُؤمنِينَ وَنحن نقُول إِن الْوَعيد يتَعَلَّق بذلك
قيل لَو لم يحرم كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد لما علق
الْوَعيد عَلَيْهِمَا على الِاجْتِمَاع فَلَمَّا علق الْوَعيد
عَلَيْهِمَا دلّ على تَحْرِيم كل وَاحِد مِنْهُمَا على
الِانْفِرَاد
أَلا ترى أَنه لما قَالَ {وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم
الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون وَمن يفعل ذَلِك يلق
أثاما} رَجَعَ هَذَا الْوَعيد إِلَى الْأَمريْنِ جَمِيعًا
الْقَتْل وَالزِّنَا وكل وَاحِد مِنْهُمَا مُنْفَرد عَن الآخر
فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَلِأَنَّهُ لَا خلاف أَن الْوَعيد يتَعَلَّق بمشاقة الرَّسُول
على الِانْفِرَاد وَإِن لم يكن هُنَاكَ مُؤمن فَدلَّ على أَن
الْوَعيد مُعَلّق بترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ على الِانْفِرَاد
فَإِن قيل المُرَاد بِهِ ترك اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ فِي مشاقة
الرَّسُول فَيكون الْوَعيد على مشاقة الرَّسُول عَلَيْهِ
السَّلَام فَقَط
قيل هَذَا تَخْصِيص من غير دَلِيل فَإِنَّهُ لم يقل وَيتبع غير
سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي أَمر دون أَمر فَوَجَبَ أَن يحمل على
الْعُمُوم
وَلِأَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى حمل اللَّفْظ على التّكْرَار
وَذَلِكَ أَن اسْتِحْقَاق الْوَعيد بمشاقة الرَّسُول قد عرف من
قَوْله {وَمن يُشَاقق الرَّسُول} فَيجب أَن يكون الْوَعيد فِي
ترك اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ يتَعَلَّق بِمَعْنى آخر
فَإِن قيل الْوَعيد إِنَّمَا لحقه بترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ
بَعْدَمَا علمُوا الدَّلِيل
أَلا ترى أَنه قَالَ {من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى} وَبعد قيام
الدَّلِيل وَبَيَان الْهدى يسْتَحق الْوَعيد على ترك سبيلهم
وَالْجَوَاب أَنه لَا يجوز أَن يكون المُرَاد ترك سبيلهم
فِيمَا أَقَامُوا عَلَيْهِ الدَّلِيل لِأَنَّهُ إِذا قَامَ
الدَّلِيل على الحكم ثَبت الْوَعيد بمخالفته وَإِن لم يكن ترك
سَبِيل الْمُؤمنِينَ
(1/350)
وَقَوْلهمْ إِنَّه شَرط فِيهِ تبين الْهدى
غلط لِأَن ذَلِك إِنَّمَا شَرط فِي مشاقة النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام وَاسْتِحْقَاق الْوَعيد بمشاقته مَوْقُوف على تبين
الْهدى وَقيام الدَّلِيل على ثُبُوته وَأما فِي ترك سَبِيل
الْمُؤمنِينَ فقد أطلق الْوَعيد فَوَجَبَ أَن يتَعَلَّق ذَلِك
بمخالفتهم بِكُل حَال
قَالُوا وَلِأَن هَذَا اسْتِدْلَال بِدَلِيل الْخطاب وَذَلِكَ
أَنه لما علق الْوَعيد على اتِّبَاع غير سبيلهم وَحرمه
استدللتم من ذَلِك على أَن اتباعهم وَاجِب وَمثل هَذِه
الْمَسْأَلَة لَا يجوز إِثْبَاتهَا بِدَلِيل الْخطاب وَهِي من
مسَائِل الِاجْتِهَاد
وَالْجَوَاب هُوَ أَنا نتعلق من الْآيَة بالنطق لَا
بِالدَّلِيلِ وَذَلِكَ أَنه ألحق الْوَعيد بِمن يتبع غير
سبيلهم وَعند الْمُخَالف أَنه لَا يلْحق الْوَعيد بِاتِّبَاع
غير سبيلهم فَكَانَ مَذْهَبهم مُخَالفا لنطق الْآيَة
وَجَوَاب آخر وَهُوَ أَنا استدللنا من الْآيَة بتقسيم عَقْلِي
لَا محيد عَنهُ وَلَا محيص مِنْهُ وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ
هَاهُنَا أَكثر من سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَغير سبيلهم فَلَمَّا
تواعد على اتِّبَاع غير سبيلهم تعين وجوب اتِّبَاع سبيلهم
وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه لَو نَص على حكم وَاحِد فِي
الْقسمَيْنِ لم يجز فَإِنَّهُ لَا يجوز أَن يُقَال وَمن ترك
سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَغير سبيلهم فَهُوَ فِي النَّار إِذْ
لَيْسَ هَا هُنَا إِلَّا سبيلهم وَغير سبيلهم وَلَو نَص على
دَلِيل الْخطاب فِي الشَّيْء وضده على حكم وَاحِد بِأَن قَالَ
فِي سَائِمَة الْغنم ومعلوفتها الزَّكَاة جَازَ فَدلَّ على مَا
قُلْنَاهُ
فَإِن قيل المُرَاد بِالْآيَةِ ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي
مَا صَارُوا بِهِ مُؤمنين وَهُوَ الْإِيمَان يدل عَلَيْهِ أَنه
لَو قَالَ للقائل اتبع سَبِيل أهل الْخَيْر وَالدّين كَانَ
مَعْنَاهُ اتباعهم فِيمَا صَارُوا بِهِ من أهل الْخَيْر
وَالدّين فَصَارَ تَقْدِير الْآيَة وَيتبع سَبِيل الْكفَّار
وَهَذَا مُسْتَحقّ الْوَعيد عَلَيْهِ
قيل هَذَا لَا يَصح بل هِيَ عَامَّة فِي كل مَا هُوَ سَبِيل
لَهُم
أَلا ترى أَنه لَو قَالَ افْعَل أَفعَال الْعلمَاء اقْتضى
ذَلِك اتباعهم فِي جَمِيع أفعالهم مِمَّا صَارُوا بِهِ
عُلَمَاء وَمِمَّا لم يصيروا بِهِ من أفعالهم وعاداتهم
(1/351)
وَلِأَن تَحْرِيم الْكفْر وَترك اتِّبَاع
الْمُؤمنِينَ فِيهِ قد علم من مشاقة الرَّسُول فَإِن من شاقه
كَانَ كَافِرًا مُسْتَحقّا للعقوبة فَيجب أَن يكون مَحْمُولا
على ترك اتباعهم فِي غير الْإِيمَان
فَإِن قيل الْآيَة تَقْتَضِي سَبِيلا وَاحِدًا وَفِي سَبِيل
الْمُؤمنِينَ مَا يحرم تَركه
قُلْنَا هَذَا جهل من قَائِله فَإِن السَّبِيل معرف
بِالْإِضَافَة فَاقْتضى جَمِيع سبيلهم وَإِنَّمَا الَّذِي
يَقْتَضِي وَاحِدًا هُوَ السَّبِيل الْمُنكر فَأَما إِذا عرفه
بِالْإِضَافَة كَانَ بِمَنْزِلَة الْمُعَرّف بِالْألف
وَاللَّام
فَإِن قيل السَّبِيل حَقِيقَة فِي الطَّرِيق فَأَما فِي
الْأَقْوَال فمجاز فَلَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ فِي أَحْكَام
الْحَوَادِث
قيل السَّبِيل حَقِيقَة فيهمَا
أَلا ترى أَن الله تَعَالَى قَالَ {قل هَذِه سبيلي} وَالْمرَاد
بِهِ الْقُرْآن وَقَالَ {ادْع إِلَى سَبِيل رَبك بالحكمة}
وَالْمرَاد بِهِ الدَّين
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ مجَازًا لَكَانَ فِي معنى الْحَقِيقَة
لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال فِيهِ وَكَثْرَة الِاسْتِعْمَال
تجْعَل اللَّفْظ كالحقيقة فِي الِاسْتِعْمَال وَرُبمَا صَار
الْمجَاز أَحَق بِهِ كالغائط اسْم للمكان المنخفض ثمَّ
لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال فِي النجو صَار كالحقيقة حَتَّى إِذا
ورد اللَّفْظ بِهِ حمل على النجو دون الْمَكَان
قَالُوا إِنَّمَا علق الْوَعيد على ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ
وَنحن لَا نعلم أَن أهل الْإِجْمَاع مُؤمنُونَ فَلَا يلْزمنَا
حكم الْوَعيد على مخالفتهم
قُلْنَا الْمُؤمن فِي حكم الشَّرْع هُوَ الَّذِي الْتزم
أَحْكَام الشَّرْع وآمن بهَا وَهَذَا مَعْرُوف مَعْلُوم
فَوَجَبَ أَن يلْحق الْوَعيد بترك اتِّبَاعه
(1/352)
وَجَوَاب آخر وَهُوَ أَنه إِذا اجْتمع أهل
الْقبْلَة من أهل الْعَصْر على حكم قَطعنَا بِأَن فيهم مُؤمن
فَيجب أَن يلْحق الْوَعيد بمخالفتهم لِأَنَّهُ ترك سَبِيل
الْمُؤمنِينَ قطعا ويقينا
فَإِن قيل عندنَا إِذا ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ قطعا ألحقنا
بِهِ الْوَعيد فَإِن فِي جُمْلَتهمْ الإِمَام الْمَعْصُوم
فَيلْحق الْوَعيد بمخالفته
قُلْنَا الظَّاهِر يَقْتَضِي اسْتِحْقَاق الْوَعيد بمخالفة
الْمُؤمنِينَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَمَاعَة وَعِنْدهم إِذا
خَالف أهل الْقبْلَة كلهم اسْتحق الْوَعيد على ترك سَبِيل
مُؤمن وَاحِد دون البَاقِينَ
قَالُوا هَذَا يَقْتَضِي أَن يتْرك سَبِيل جَمِيع الْمُؤمنِينَ
إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَيسْتَحق الْوَعيد وَهَذَا لَا
يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع
وَالْجَوَاب أَن المُرَاد بِالْآيَةِ بعض الْمُؤمنِينَ يدل
عَلَيْهِ هُوَ أَنه يَقْتَضِي تَابعا ومتبوعا وَلَو كَانَ
المُرَاد بِهِ جَمِيع الْمُؤمنِينَ لم يكن فِي الْمُؤمنِينَ
تَابع
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد بِهِ جَمِيع الْمُؤمنِينَ
لتأخر التَّكْلِيف إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَيجب أَن يكون
المُرَاد بِهِ بعض الْمُؤمنِينَ
وَلِأَن الْآيَة تَقْتَضِي ترك اتِّبَاع من هُوَ مُؤمن فِي
الْحَقِيقَة وَالَّذِي هُوَ مُؤمن فِي الْحَقِيقَة هم أهل
الْعَصْر فَأَما من مَاتَ مِنْهُم أَو لم يخلق مِنْهُم فَلَا
يُطلق عَلَيْهِ اسْم الْمُؤمنِينَ فَدلَّ على أَن المُرَاد
بِهِ الْبَعْض
فَإِن قيل لَو كَانَ المُرَاد بِهِ من هُوَ مُؤمن فِي
الْحَقِيقَة وَجب أَن يعْتَبر اتِّفَاق الْعلمَاء والعامة
قُلْنَا قد بَينا أَنه جعل الْبَعْض تَابعا وَالْبَعْض متبوعا
فَيجب أَن يكون المُرَاد بِهِ عُلَمَاء الْعَصْر
وَمِمَّا يدل على أَن الْإِجْمَاع حجَّة قَوْله تَعَالَى
{كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون
عَن الْمُنكر} فَيجب أَن يكون مَا يأمرون بِهِ مَعْرُوفا
(1/353)
وَمَا ينهون عَنهُ مُنْكرا وَعند
الْمُخَالفين أَنهم يأمرون بِمَا لَيْسَ بِمَعْرُوف
وَينْهَوْنَ عَمَّا لَيْسَ بمنكر
وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا
لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} وَالْوسط الْعدْل قَالَ
الشَّاعِر
هم وسط يرضى الْأَنَام بحكمهم ... إِذا نزلت إِحْدَى
اللَّيَالِي بمعظم
فعدلهم وجعلهم شُهَدَاء فَدلَّ على أَن قبُول قَوْلهم وَاجِب
إِذْ لَا يجوز أَن يعدلهم ويجعلهم شُهَدَاء على النَّاس ثمَّ
لَا يكون قَوْلهم حجَّة عَلَيْهِم
فَإِن قيل إِثْبَات الْعَدَالَة لَهُم لَا يدل على أَنه لَا
يجوز عَلَيْهِم الْخَطَأ كَمَا لَا يدل على انه لَا يجوز
عَلَيْهِم الصَّغَائِر
قُلْنَا لم عد لَهُم وجعلهم شُهَدَاء دلّ على انى قَوْلهم
مَقْبُول عَلَيْهِم كَمَا أَنه لما عدل الشَّاهِد فِي
الْحُقُوق وَجعله شَاهدا على الْمُدعى عَلَيْهِ كَانَ قَوْله
حجَّة عَلَيْهِم وَإِن لم يقتض تعديله رفع الصَّغَائِر عَنهُ
فَإِن قيل المُرَاد بهَا شَهَادَة هَذِه الْأمة على سَائِر
الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة
قيل هَذِه عَامَّة فِي الْجَمِيع فنحملها عَلَيْهِ
وَيدل عَلَيْهِ من السّنة مَا روى أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة
وروى لَا تَجْتَمِع أمتِي على الْخَطَأ
وَقَالَ لم يكن الله ليجمع هَذِه الْأمة على الْخَطَأ
(1/354)
وَقَالَ مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا
فَهُوَ عِنْد الله حسن وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ قبيحا فَهُوَ
عِنْد الله قَبِيح
وَقَالَ من فَارق الْجَمَاعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة
وَقَالَ من فَارق الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربقة
الْإِسْلَام من عُنُقه
وروى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن الشذوذ وَقَالَ من شَذَّ
شَذَّ فِي النَّار
وَقَالَ عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة فَإِن الذِّئْب يَأْكُل
القاصية من الْغنم
وَقَالَ عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم
وَقَالَ عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من
بعدِي
وَهَذَا كُله يدل على صِحَة الْإِجْمَاع وَنفي الْخَطَأ عَنهُ
فَإِن قيل هَذِه أَحَادِيث آحَاد فَلَا يَصح إِثْبَات
الْإِجْمَاع بهَا وَهُوَ من مسَائِل الْأُصُول
قيل هَذَا تَوَاتر من طَرِيق الْمَعْنى فَإِن ألفاظها وَإِن
اخْتلفت فقد
(1/355)
اتّفق الْجَمِيع على إِيجَاب الْمصير إِلَى
الْإِجْمَاع وعصمة الْأمة من الْخَطَأ وَصَارَ ذَلِك مُوجبا
للْعلم وَبِهَذَا الطَّرِيق علمنَا شجاعة عَليّ عَلَيْهِ
السَّلَام وسخاء حَاتِم وفصاحة الجاحظ فَإِن الْأَخْبَار قد
كثرت عَنْهُم فِي الدّلَالَة على هَذِه الْمعَانِي فَأوجب لنا
الْعلم بِتِلْكَ كَذَلِك هَاهُنَا
وَلِأَنَّهُ لَا يجوز أَن تكون هَذِه الْأَخْبَار على كثرتها
كلهَا كذبا كَمَا أَن الْخلق الْعَظِيم إِذا أخبروا عَن
اعْتِقَاد الْإِسْلَام لم يجز أَن يَكُونُوا كلهم كفَّارًا قد
أبطنوا الْكفْر وأظهروا الْإِسْلَام بل يجب أَن يكون فيهم من
يصدق فِي خَبره وَكَذَلِكَ هَاهُنَا يجب أَن يكون فِي جمَاعَة
هَذِه الْأَخْبَار الْكَثِيرَة خبر وَاحِد صَحِيح وَإِذا ثَبت
صِحَة خبر مِنْهَا وَجب الْمصير إِلَيْهِ وَالْعَمَل بِهِ
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء
فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَلم يَأْمر بِالرَّدِّ
إِلَى الْإِجْمَاع وعندكم يرد إِلَى إِجْمَاع من تقدم
قُلْنَا الْآيَة دلَالَة لنا لِأَنَّهُ شَرط فِي الرَّد إِلَى
الْكتاب وَالسّنة وجود الشَّارِع فَدلَّ على أَن دَلِيل الحكم
عِنْد عدم الشَّارِع هُوَ الْإِجْمَاع إِذْ لَا بُد للْحكم من
دلَالَة
وَلِأَن الرُّجُوع إِلَى الْإِجْمَاع رد إِلَى الْكتاب
وَالسّنة وَقد بَيناهُ
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن قَالَ لَهُ بِمَ تقضي قَالَ
بِكِتَاب الله قَالَ فَإِن لم تَجِد قَالَ بِسنة رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَإِن لم تَجِد قَالَ أجتهد
رَأْيِي وَلم يذكر الْإِجْمَاع
وَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذَا كَانَ فِي زمَان النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام وَلَا إِجْمَاع فِي زَمَانه فَلهَذَا لم يذكرهُ
(1/356)
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا
يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض وَهَذَا يدل على جَوَاز الضلال
عَلَيْهِم
وَالْجَوَاب أَنا لَا نَعْرِف هَذَا الْخَبَر فَيجب أَن يثبتوه
ليعْمَل بِهِ
وَلِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون خطابا لقوم بأعيانهم وَيجوز
الْخَطَأ والضلالة عَلَيْهِم
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتركبن
سنَن من كَانَ قبلكُمْ حَذْو القذة بالقذة
وَالْجَوَاب أَنا نحمله على مَا ذَكرْنَاهُ
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ اتِّفَاق أمة فَلم يكن حجَّة دَلِيله
اتِّفَاق الْأُمَم السَّابِقَة
وَالْجَوَاب أَن من أَصْحَابنَا من لم يسلم هَذَا الأَصْل
وَقَالَ إِجْمَاع الْأمة وَسَائِر الْأُمَم السالفة سَوَاء
وَهُوَ اخْتِيَار أبي إِسْحَق الإِسْفِرَايِينِيّ رَحمَه الله
وَإِن سلمنَا على قَول غَيره فَالْفرق بَينهمَا هُوَ أَن عصمَة
الْأُمَم طريقها الشَّرْع وَالشَّرْع لم يرد بعصمة سَائِر
الْأُمَم وَورد الشَّرْع بعصمة هَذِه الْأمة وَنفي الْخَطَأ
عَنْهَا على مَا بَيناهُ
وَلِأَن النّسخ فِي سَائِر الْأَدْيَان يجوز فَلم يحْتَج
فِيهَا إِلَى عصمَة وَلَا يجوز ذَلِك فِي شريعتنا فَإِنَّهَا
مُؤَبّدَة فعصمت أمتها ليرْجع إِلَيْهَا عِنْد الْخَطَأ
وَالنِّسْيَان وليحفظ بِهِ الشَّرْع
قَالُوا وَلِأَن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر انْعِقَاده
لِأَنَّهُ لَا يُمكن ضبط أقاويل الْعلمَاء على تبَاعد
الْبِلَاد وَكَثْرَة الْعلمَاء فَإِذا لم يتَصَوَّر لم يجز
الرُّجُوع إِلَيْهِ
(1/357)
قُلْنَا يُمكن تصور ذَلِك بِسَمَاع أقاويل
الْحَاضِرين وَالنَّقْل عَن الغائبين كَمَا يعرف اتِّفَاق
الْمُسلمين على الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَغير ذَلِك
فِي سَائِر الْبِلَاد على كَثْرَة الْمُسلمين وتباعد الْبِلَاد
وَلِأَن الِاعْتِبَار فِي الْإِجْمَاع بعلماء الْعَصْر وَأهل
الِاجْتِهَاد وهم كالأعلام فِي الاشتهار فَيمكن معرفَة
أقاويلهم
وَلِأَن عِنْدهم إِجْمَاع الصَّحَابَة لَيْسَ بِحجَّة وَقد
كَانَ عَددهمْ محصورا ومواضعهم مَعْرُوفَة وَضبط أقاويلهم
مُمكن فَدلَّ على بطلَان مَا قَالُوهُ
قَالُوا وَلِأَن مَا وَجب الحكم فِيهِ بِالدَّلِيلِ لم يجز
الرُّجُوع فِيهِ إِلَى مُجَرّد قَول أهل الْعَصْر كالتوحيد
قُلْنَا التَّوْحِيد لم يثبت عَن أصل قبله وَالْإِجْمَاع عرف
ثُبُوته بِأَصْل قبله فشابه النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
(1/358)
مَسْأَلَة 2
إِجْمَاع أهل كل عصر حجَّة
وَقَالَ دَاوُد إِجْمَاع غير الصَّحَابَة لَيْسَ بِحجَّة
لنا قَوْله تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين
لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَلم يفصل
وَأَيْضًا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَجْتَمِع أمتِي على
الضَّلَالَة وَلم يفصل
وَلِأَنَّهُ اتِّفَاق عُلَمَاء الْعَصْر على حكم النَّازِلَة
فَكَانَ حجَّة قِيَاسا على اتِّفَاق الصَّحَابَة
وَلِأَنَّهُ لما كَانَ الْعَصْر الأول وَالثَّانِي فِيمَا
ينْقل من الْأَخْبَار سَوَاء وَجب أَن يَكُونُوا فِيمَا يتفقون
عَلَيْهِ من الْأَحْكَام سَوَاء
(1/359)
وَاحْتج الْمُخَالف بقوله تَعَالَى
{كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون
عَن الْمُنكر} فَخص الصَّحَابَة بذلك
وَالْجَوَاب أَنا لَا نسلم أَن ذَلِك خطاب لَهُم خَاصَّة بل
هُوَ خطاب لسَائِر الْمُؤمنِينَ كَمَا كَانَ قَوْله عز وَجل
{وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وَسَائِر مَا ورد
بِهِ الشَّرْع من هَذَا الْجِنْس خطابا لجَمِيع الْمُؤمنِينَ
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه لَا خلاف أَن من لم يكن بلغ من
الصَّحَابَة عِنْد هَذَا الْخطاب إِذا بلغ تنَاوله الْخطاب
وَإِن لم يكن مَوْجُودا عِنْد وُرُوده
وَاحْتج أَيْضا بِأَن عصمَة الْأمة طريقها الشَّرْع لِأَن
الْعقل يجوز الْخَطَأ عَلَيْهِم وَقد ورد الشَّرْع بعصمة
الصَّحَابَة فبقى من عَداهَا على الأَصْل
وَالْجَوَاب هُوَ أَن الدَّلِيل الَّذِي اقْتضى عصمَة
الصَّحَابَة اقْتضى عصمَة عُلَمَاء سَائِر الْأَعْصَار وَقد
بَيناهُ
وَاحْتج أَيْضا بِأَن إِجْمَاع غير الصَّحَابَة لَا يتَصَوَّر
لِكَثْرَة الْعلمَاء وتباعد هم وَتعذر ضبط أقاويل الْجَمِيع
فَيجب أَن لَا يكون ذَلِك حجَّة
وَالْجَوَاب مَا بَيناهُ فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا
(1/360)
مَسْأَلَة 3
إِذا قَالَت الصَّحَابَة قولا وَخَالفهُم وَاحِد أَو اثْنَان
لم يكن ذَلِك إِجْمَاعًا
وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير هُوَ إِجْمَاع
(1/361)
لنا قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي
شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَقد تنازعوا
هَاهُنَا فَيجب الرَّد إِلَى الْكتاب وَالسّنة
وَلِأَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ خَالف سَائِر
الصَّحَابَة فِي قتال الْمُرْتَدين فأقروه على ذَلِك وَلم
يَقُولُوا أَن قَوْلنَا حجَّة عَلَيْك بل ناظروه
وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِالسنةِ
وَعبد الله بن الْعَبَّاس خَالف الصَّحَابَة فِي خمس مسَائِل
من الْفَرَائِض تفرد بهَا
وَكَذَلِكَ عبد الله بن مَسْعُود وَلم يُنكر عَلَيْهِ بَقِيَّة
الصَّحَابَة فَدلَّ على مَا قُلْنَاهُ
وَلِأَنَّهُ لم يحصل اتِّفَاق عُلَمَاء الْعَصْر على حكم
الْحَادِثَة فَلم يكن إِجْمَاعًا دَلِيله إِذا خَالف جمَاعَة
كَبِيرَة
وَلِأَن الْإِجْمَاع طَرِيقه الشَّرْع وَالشَّرْع ورد بعصمة
جَمِيع الْأمة دون معظمها فَوَجَبَ أَن يجوز الْخَطَأ
عَلَيْهِم
وَلِأَن من قَالَ إِن خلاف الْوَاحِد والاثنين لَا يعْتد بِهِ
لَا ينْفَصل عَمَّن قَالَ خلاف الْخَمْسَة وَالْعشرَة لَا
يعْتد بِهِ حَتَّى يبلغ حد الْمُسَاوَاة وَإِذا لم ينْفَصل
بَعْضهَا عَن بعض بَطل الْجَمِيع
فَإِن قيل فَيجب على مُقْتَضى هَذَا الدَّلِيل أَن لَا يقدم
الْخَبَر الْمُتَوَاتر على خبر الْوَاحِد وَيُقَال إِن خبر
الْوَاحِد والاثنين وَمَا زَاد إِلَى أَن يبلغ حد التَّوَاتُر
كلهَا وَاحِد لَا ينْفَصل بَعْضهَا عَن بعض وَلما أجمعنا على
فَسَاد هَذَا دلّ على بطلَان مَا ذَكرُوهُ
قيل فِيمَا ألزمتم معنى يُوجب الْفَصْل بَين العددين وَهُوَ
أَن مَا بلغ حد التَّوَاتُر يَقع الْعلم عِنْد سَمَاعه
ضَرُورَة وَأما دونه لَا يَقع الْعلم عِنْد سَمَاعه ضَرُورَة
وَلَيْسَ كَذَلِك فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ لِأَن جَوَاز
الْخَطَأ على كل وَاحِد من هَذِه الْأَعْدَاد سَوَاء فَكَانَ
حكم الْجَمِيع وَاحِدًا
(1/362)
وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام
الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَام الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ
أبعد
وَالْجَوَاب أَن الْخَبَر الأول إِنَّمَا ورد فِي جمَاعَة
الصَّلَاة وَيدل عَلَيْهِ أَن أحدا لَا يَقُول إِن إِجْمَاع
الِاثْنَيْنِ حجَّة
وَالْخَبَر الثَّانِي ورد فِي الْأَسْفَار بِدَلِيل أَن أحدا
كَانَ لَا يَقُول إِن إِجْمَاع الِاثْنَيْنِ حجَّة فَدلَّ على
أَن المُرَاد بِهِ مَا قُلْنَاهُ
وَاحْتج أَيْضا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم
بِالْجَمَاعَة وَعَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم
وَالْجَوَاب هُوَ أَن المُرَاد بذلك الْأمة كلهَا فنحمله
عَلَيْهِ بِدَلِيل مَا ذَكرْنَاهُ
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن النَّاس عولوا فِي خلَافَة أبي بكر
الصّديق رَضِي الله عَنهُ على الْإِجْمَاع وَقد خالفوه فِي
ذَلِك عَليّ وَسعد وَلم يلْتَفت إِلَى خلافهما
وَالْجَوَاب أَنا لَا نسلم أَن عليا خَالف فِي ذَلِك وَأنكر
مَا قيل عَنهُ إِنَّه لم يحضر فِي الِابْتِدَاء وَلَيْسَ من
شَرط الْإِجْمَاع الْحُضُور بل يَكْفِي أَن يسكت فَيدل على
الرِّضَا
وَأما سعد فَإِنَّهُ مَا خَالف وَلكنه كَانَ ظن أَنه يعْقد
لَهُ الْأَمر فَلَمَّا روى أَبُو
(1/363)
بكر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْأَئِمَّة من قُرَيْش سكت فَأَما
أَن يكون قد خَالف فِي ذَلِك فَلَا
وَاحْتج بِأَن خبر الْجَمَاعَة مقدم على خبر الْوَاحِد
فَكَذَلِك قَول الْجَمَاعَة مقدم على قَول الْوَاحِد
وَالْجَوَاب أَنه إِن أردتم فِي ذَلِك الْخَبَر الْمُتَوَاتر
فَذَلِك يُوجب الْعلم ضَرُورَة فَكَانَ مقدما على خبر
الْوَاحِد وَهَاهُنَا الْخَطَأ يجوز على كلا الفرقين على وَجه
وَاحِد فَلَا يجوز تَقْدِيم أَحدهمَا على الآخر
وَإِن أَرَادوا بِهِ أَنه تعَارض خبران من أَخْبَار الْآحَاد
فَمن أَصْحَابنَا من لم يرجح لِكَثْرَة الْعدَد وَإِن سلمنَا
لم يمْنَع أَن يرجح الْخَبَر بِمَا لَا ترجح بِهِ أقاويل
الْمُجْتَهدين
أَلا ترى أَن رِوَايَة الِاثْنَيْنِ وَالْأَقْرَب إِلَى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقدم وَقَول الِاثْنَيْنِ
وَالْأَقْرَب لَا يقدم فِي الِاجْتِهَاد
وَلِأَن الْأَخْبَار طريقها الظَّن فَمَا كَانَ أقوى فِي
الظَّن كَانَ أولى وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِن طَرِيق
الْإِجْمَاع عصمَة الْأمة عَن الْخَطَأ وَالْخَطَأ يجوز على
الْفَرِيقَيْنِ فاستويا يدلك عَلَيْهِ إِن رِوَايَة الْخَمْسَة
وَرِوَايَة الْعشْرَة إِذا تَعَارَضَتَا قدمت رِوَايَة
الْعشْرَة على الْخَمْسَة وَفِي الْإِجْمَاع لَا يقدم قَول
الْعشْرَة على الْخَمْسَة فَافْتَرقَا
(1/364)
مَسْأَلَة 4
إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة لَيْسَ بِحجَّة
وروى عَن مَالك رَحمَه الله أَنه قَالَ إِجْمَاعهم حجَّة
لنا جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا
وَلِأَن الِاعْتِبَار بِالْعلمِ وَمَعْرِفَة الْأُصُول وَقد
اسْتَوَى فِيهِ أهل الْمَدِينَة وَغَيرهم
وَلِأَنَّهُ أحد الْحَرَمَيْنِ فَلم يقدم إِجْمَاع أَهله
كإجماع أهل مَكَّة
(1/365)
وَأَيْضًا هُوَ أَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى
أَمر محَال وَهُوَ أَن يكون قَوْلهم حجَّة مَا داموا
بِالْمَدِينَةِ فَإِذا خَرجُوا مِنْهَا لم يكن حجَّة وَهَذَا
محَال لِأَن من كَانَ قَوْله حجَّة فِي مَكَان كَانَ فِي
سَائِر الْأَمْكِنَة حجَّة كالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام الْمَدِينَة تَنْفِي
خبثها كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد وَالْخَطَأ من
الْخبث فَكَانَ منفيا عَن أهل الْمَدِينَة
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام إِن الْإِسْلَام يأرز إِلَى
الْمَدِينَة كَمَا تأرز الْحَيَّة إِلَى جحرها
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يكايد أحد أهل الْمَدِينَة
إِلَّا أنماع كَمَا ينماع الْملح فِي المَاء
وَالْجَوَاب أَن هَذِه الْأَخْبَار آحَاد فَلَا يثبت بهَا أصل
من أصُول الدَّين
على أَن قَوْله الْمَدِينَة تَنْفِي خبثها عَام فِي الْخَطَأ
وَغَيره ونحمله على غير الْخَطَأ
على أَن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِن الْإِسْلَام يأرز إِلَى
الْمَدِينَة يَقْتَضِي جَمِيع الْإِسْلَام وَإِذا حصل فِيهَا
جَمِيع الْإِسْلَام صَار إِجْمَاع أَهلهَا حجَّة
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يكايد أحد أهل الْمَدِينَة
الْخَبَر فَلَا حجَّة فِيهِ لِأَن المكايدة والمغايرة لَا
تسْتَعْمل فِي الْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف فَلَا يدْخل فِي
الْخَبَر مَا نَحن فِيهِ
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْمَدِينَة مهَاجر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَمَوْضِع الْقَبْر وَالْوَحي ومستقر
الْإِسْلَام وَمجمع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَلَا يجوز
أَن يخرج الْحق عَن قَول أَهلهَا
(1/366)
وَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذِه دَعْوَى
لِأَنَّهُ يجوز مَعَ وجود هَذِه الْمعَانِي أَن يخرج الْحق من
أَهلهَا
وعَلى أَن هَذَا يبطل بِمَكَّة فَإِنَّهَا مَوضِع الْمَنَاسِك
ومولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومبعثه ومولد
إِسْمَاعِيل ومنزل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا يدل
ذَلِك على أَن قَول أَهلهَا حجَّة
وَاحْتَجُّوا بِأَن رِوَايَة أهل الْمَدِينَة تقدم على
رِوَايَة غَيرهم فَكَذَلِك قَوْلهم يقدم على قَول غَيرهم
قُلْنَا هَذَا أَيْضا دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَلَا
عِلّة تجمع بَينهمَا
ثمَّ التَّرْجِيح فِي الْأَخْبَار لَا يُوجب التَّرْجِيح فِي
أَقْوَال الْمُجْتَهدين
أَلا ترى أَن رِوَايَة الْجَمَاعَة تقدم على رِوَايَة
الْوَاحِد والجميع فِي الِاجْتِهَاد سَوَاء
وَلِأَن الْأَخْبَار تدْرك بحاسة السّمع فَمن قرب مِنْهُم
وَشَاهده كَانَ أضبط وَأهل الْمَدِينَة أقرب مِنْهُم لما
سَمِعُوهُ وشاهدوه وأضبط وَالِاجْتِهَاد نظر الْقلب فَلَا يقدم
فِيهِ الْأَقْرَب وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فَرب
حَامِل فقه الى من هُوَ أفقه مِنْهُ فَلَا يقدم فِيهِ قَول
الْأَقْرَب
(1/367)
مَسْأَلَة 5
اتِّفَاق أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ
بِحجَّة
وَقَالَت الرافضة هُوَ حجَّة
لنا قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} فعلق
الْوَعيد على ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَدلَّ على أَنه لَا
يتَعَلَّق ذَلِك بترك سَبِيل بَعضهم
وَأَيْضًا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ
بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَهَذَا يدل على أَنه
إِذا ترك عليا عَلَيْهِ السَّلَام وقلد غَيره يكون مهتديا
فَإِن قيل هَذَا خبر وَاحِد وَنحن لَا نقُول بِهِ
قُلْنَا نَحن نَبْنِي على أصلنَا فَإِن خبر الْوَاحِد حجَّة
وَإِذا ثَبت ذَلِك صَحَّ استدلالنا بِهِ
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن عليا خالفته الصَّحَابَة فِي مسَائِل
مَشْهُورَة لَا تحصى كَثِيرَة وَلم يقل لأحد مِنْهُم إِن قولي
عَلَيْكُم حجَّة فَدلَّ على مَا ذَكرْنَاهُ
(1/368)
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {إِنَّمَا
يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ
تَطْهِيرا} وَالْخَطَأ من الرجس فَيجب أَن يَكُونُوا مطهرين
مِنْهُ
وَالْجَوَاب وَهُوَ أَن أهل الْبَيْت يتناولون كل من فِي
الْبَيْت من الْأزْوَاج وَلَا يَقُول أحد أَن اتِّفَاق
الْأزْوَاج حجَّة فَثَبت أَنه أَرَادَ نفي الْعَار والقباحة
عَنْهُم دون الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد
فَإِن قيل المُرَاد بِأَهْل الْبَيْت عَليّ وَفَاطِمَة
وَالْحسن وَالْحُسَيْن
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا روى أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة
أدَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كسَاء على هَؤُلَاءِ
وَقَالَ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي
وَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد وَعِنْدهم
لَا يقبل كَيفَ وَهُوَ مُخَالف لظَاهِر الْقُرْآن وَذَلِكَ أَن
الله تَعَالَى قَالَ فِي أول الْآيَة {يَا نسَاء النَّبِي}
ثمَّ قَالَ {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل
الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} وَالظَّاهِر أَن المُرَاد
بِهِ من تقدم ذكره من الْأزْوَاج
وَلِأَنَّهُ لَو صَحَّ مَا ذَكرُوهُ لَكَانَ تَأْوِيل الْآيَة
مَا قدمْنَاهُ من نفي الْقبْح عَنْهُم
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي تَارِك
فِيكُم الثقلَيْن فَإِن تمسكتم بهما لم تضلوا كتاب الله وعترتي
(1/369)
وَالْجَوَاب مَا بَيناهُ أَن هَذَا من
أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يحْتَج بِهِ فِي مسَائِل الْأُصُول
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن أهل الْبَيْت اختصهم بِأَنَّهُم من
أهل بَيت الرسَالَة ومعدن النُّبُوَّة فاختصوا بالعصمة
قُلْنَا لَيْسَ فِيمَا ذكرْتُمْ مَا يُوجب لَهُم الْعِصْمَة
فبكم حَاجَة إِلَى إِقَامَة الدَّلِيل على ذَلِك
ثمَّ يبطل هَذَا بِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِنَّهُنَّ اختصصن بِمَا ذَكرُوهُ واختصصن بِتَضْعِيف
الثَّوَاب على الطَّاعَة وتضعيف الْعقُوبَة على الْمعاصِي
وسمعن من الْعلم مَا لم يسمع غَيْرهنَّ وَلَا يُوجب ذَلِك
عصمتهن فِي الْأَحْكَام فَبَطل مَا قَالُوهُ
(1/370)
مَسْأَلَة 6
لَا يعْتَبر فِي صِحَة الْإِجْمَاع اتِّفَاق الْعَامَّة
وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين اتِّفَاق الْعَامَّة مَعَ
الْعلمَاء شَرط فِي صِحَة الْإِجْمَاع وَهُوَ قَول أبي بكر
الْأَشْعَرِيّ
وَقَالَ بَعضهم يعْتَبر اتِّفَاق الْأُصُولِيِّينَ
لنا هُوَ أَنه لَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد فَلَا يعْتَبر
رِضَاهُ فِي صِحَة الْإِجْمَاع كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُون
وَلِأَنَّهُ لَا يجوز تَقْلِيده فِي الْحَوَادِث فَلَا يعْتد
بِخِلَافِهِ دَلِيله الصَّبِي وَالْمَجْنُون
وَمن قَالَ إِنَّه يعْتَبر اتِّفَاق الْأُصُولِيِّينَ فالدليل
عَلَيْهِ هُوَ أَن الْأُصُولِيِّينَ لَيْسَ هم من أهل
الِاجْتِهَاد لأَنهم لَا يعْرفُونَ أَحْكَام الْفِقْه ومعانيها
فهم كالعامة
وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَجْتَمِع أمتِي
على خطأ عَن جَمِيع الْأمة والعامة من الْأَئِمَّة
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه عَام فنخصه بِمَا خصصنا بِهِ الصَّبِي
وَالْمَجْنُون
(1/371)
مَسْأَلَة 7
يَصح انْعِقَاد الْإِجْمَاع عَن الْقيَاس
وَقَالَ ابْن جرير وَدَاوُد لَا يجوز
فَأَما دَاوُد فقد بنى ذَلِك على أَصله وَأَن الْقيَاس لَيْسَ
بِدَلِيل وَالْكَلَام مَعَه يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما ابْن جرير فالدليل على فَسَاد قَوْله هُوَ أَن الْقيَاس
علم على الْأَحْكَام فَجَاز أَن ينْعَقد الْإِجْمَاع من جِهَته
كالكتاب وَالسّنة
فَإِن قيل الْكتاب وَالسّنة طريقهما السّمع فَجَاز اتِّفَاق
الْجَمِيع عَلَيْهِ وَالْقِيَاس طَرِيقه الرَّأْي ورأي
الْجَمَاعَة لَا يتَّفق على معنى وَاحِد فَلم ينْعَقد
الْإِجْمَاع من جِهَته
قيل الْقيَاس وَإِن كَانَ طَرِيقه الرَّأْي إِلَّا أَن على
مَعَانِيه أَمَارَات تدل عَلَيْهِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ
أَمَارَات يجوز اتِّفَاق الْكل عَلَيْهِ وَإِن كَانَ طَرِيقه
الرَّأْي
أَلا ترى أَن طلب الْقبْلَة طَرِيقه الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد
ثمَّ يجوز اتِّفَاق الْجَمِيع عَلَيْهَا لما كَانَت عَلَيْهَا
أَمَارَات تدل عَلَيْهَا كَذَلِك هَاهُنَا
(1/372)
وَيدل عَلَيْهِ أَن النَّاس اجْمَعُوا على
مسَائِل من جِهَة الْقيَاس فِيمَن ذَلِك أَن الصَّحَابَة رَضِي
الله عَنْهُم أَجمعُوا على قتال مانعي الزَّكَاة قِيَاسا على
الصَّلَاة ومثلا أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ وَالله
لَا فرقت بَين مَا جمع الله قَالَ تَعَالَى {وَأقِيمُوا
الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة}
وَأَجْمعُوا على إِمَامَة أبي بكر قِيَاسا على تَقْدِيم
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِيَّاه فِي الصَّلَاة أَلا ترى
أَن عمر قَالَ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدمه فِي
الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد الدَّين فارضوه لدنياكم مَا رضيه
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لدينكم
وأجمعت الْأمة على تَحْرِيم شَحم الْخِنْزِير قِيَاسا على
لَحْمه
وَأَجْمعُوا على تَقْوِيم الْأمة فِي الْعتْق قِيَاسا على
العَبْد
وَأَجْمعُوا أَيْضا على إِرَاقَة الشيرج إِذا وَقعت فِيهِ
الْفَأْرَة وَكَانَ مَائِعا وإلقائها وَمَا حولهَا إِذا كَانَ
جَامِدا قِيَاسا على السّمن وَغير ذَلِك مِمَّا لَا تحصى كثرته
فَإِن قيل يجوز أَن يَكُونُوا وجدوا فِيهِ نصا
قُلْنَا فِيمَا روينَاهُ عَن الصَّحَابَة لم يحيلوا بالحكم
إِلَّا على الْقيَاس وَقد بَيناهُ وَلَو كَانَ فِيهِ نَص لظهر
وَعرف وَلما لم يظْهر دلّ على أَنه لَا نَص فِيهِ
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ مَا من عصر إِلَّا وَفِيه قوم من نفاة
الْقيَاس فَلَا يتَصَوَّر إِجْمَاعهم من جِهَة الْقيَاس
قُلْنَا نَحن لَا نسلم ذَلِك فَإِنَّهُ لم يكن فِي عصر
الصَّحَابَة من يَنْفِي الْقيَاس وَإِنَّمَا حدث هَذَا الْخلاف
بعد ذَلِك
وَلِأَن هَذَا يبطل بأخبار الْآحَاد فَإِن الْخلاف فِي ردهَا
ظَاهر والمخالف فِيهَا يرجع إِلَى شُبْهَة يَرْوِيهَا عَن
السّلف ثمَّ ينْعَقد الْإِجْمَاع من جِهَتهَا
وَاحْتَجُّوا بِأَن مَا طَرِيقه الظَّن لَا يجوز أَن تتفق
الخواطر الْمُخْتَلفَة والآراء المشتبهة عَلَيْهِ كَمَا لَا
يجوز أَن يتَّفق الْجَمِيع على شَهْوَة وَاحِدَة وغرض وَاحِد
(1/373)
وَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذَا يبطل بِخَبَر
الْوَاحِد فَإِن تَعْدِيل الرَّاوِي وتزكيته طَرِيقه الظَّن
ثمَّ يجوز اتِّفَاق الْجَمِيع عَلَيْهِ
وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ اتِّفَاق الجم الْغَفِير وَالْعدَد
الْكثير من جِهَة شُبْهَة وهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى على
كثرتهم على دين استحسنوه فَلِأَن يجوز اتِّفَاق الْجَمَاعَة من
جِهَة الأمارة أولى
وَيُفَارق هَذَا مَا قَالُوهُ من الْأَغْرَاض والشهوة
لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يجمعهُمْ على وَاحِد لِأَن طباع
النَّاس مُخْتَلفَة وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِن على الحكم
أَمارَة تجمعهم عَلَيْهِ وَدلَالَة تدلهم إِلَيْهِ فَهُوَ
بِمَنْزِلَة جَوَاز اتِّفَاقهم على حُضُور الأعياد وَالْجمع
وتجهيز الجيوش فِي وَقت بِعَيْنِه إِلَى جِهَة بِعَينهَا
قَالُوا الْقيَاس تغمض طَرِيقه وتدق فَلَا يجوز أَن يتَّفق
الْكل على إِدْرَاكه
قيل إِدْرَاك الحكم من جِهَة الْقيَاس أسهل من إِدْرَاكه من
جِهَة النَّص لِأَن الْمعول فِيهِ على مَا يَقْتَضِيهِ الْفَهم
أقرب إِلَى الْإِدْرَاك مِمَّا يَقْتَضِيهِ النَّص
ثمَّ هَذَا يبطل بالأخبار واستعمالها وترتيب بَعْضهَا على بعض
فَإِنَّهَا تغمض وتدق ثمَّ يجوز اتِّفَاق الْإِجْمَاع من
جِهَتهَا وَالله الْمُوفق للصَّوَاب
(1/374)
مَسْأَلَة 8
انْقِرَاض الْعَصْر لَيْسَ بِشَرْط فِي صِحَة الْإِجْمَاع فِي
أصح الْوُجُوه
وَمن اصحابنا من قَالَ هُوَ شَرط
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ إِن كَانَ قولا من الْجَمِيع لم
يشْتَرط فِيهِ انْقِرَاض الْعَصْر وَإِن كَانَ قولا من بَعضهم
وسكوتا من البَاقِينَ اشْترط فِيهِ انْقِرَاض الْعَصْر
فَوجه الأول قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ
نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم} وَلم يفرق بَين أَن ينقرض
الْعَصْر عَلَيْهِ وَبَين أَن لَا ينقرض
(1/375)
وَأَيْضًا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أمتِي
لَا تَجْتَمِع على الْخَطَأ وَلم يفصل
وَلِأَنَّهُ حصل اتِّفَاق عُلَمَاء الْعَصْر على حكم
الْحَادِثَة وَكَانَ ذَلِك جِهَة دَلِيله إِذا انقرض الْعَصْر
عَلَيْهِ
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن اعْتِبَار انْقِرَاض الْعَصْر
عَلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال الْإِجْمَاع لِأَن الْعَصْر
الأول لَا ينقرض حَتَّى يلْحق بِهِ قوم من أهل الْعَصْر
الثَّانِي وهم من أهل الِاجْتِهَاد فَيعْتَبر رضاهم فِيمَا
أَجمعُوا عَلَيْهِ ثمَّ لَا ينقرض هَؤُلَاءِ حَتَّى يلْحق بهم
آخَرُونَ من الْعَصْر الثَّالِث وعَلى هَذَا أبدا يتسلسل وَلَا
يسْتَقرّ الْإِجْمَاع فِي مَسْأَلَتنَا
وَلِأَن كل من جعل قَوْله حجَّة لم يشْتَرط مَوته فِي كَونه
حجَّة دَلِيله النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
وَاحْتج من قَالَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي بقوله تَعَالَى
{لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} فَلَو لم يشْتَرط فِيهِ
انْقِرَاض الْعَصْر لكانوا شُهَدَاء على أنفسهم وَهَذَا خلاف
الظَّاهِر
وَالْجَوَاب أَن هَذَا يَقْتَضِي أَن يَكُونُوا شُهَدَاء على
أنفسهم وعَلى غَيرهم لأَنهم من النَّاس كَمَا أَن غَيرهم من
النَّاس
وَلِأَنَّهُ قد قيل إِن المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة شَهَادَة
هَذِه الْأمة على سَائِر الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة فَلَا
تكون فِيهَا حجَّة
وَاحْتج أَيْضا بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ لَا يَخْلُو عصر من قَائِم لله بِحجَّة فَدلَّ على أَن
بعض الْعَصْر يَخْلُو عَن ذَلِك
وَالْجَوَاب هُوَ أَن لَا نَعْرِف هَذَا الحَدِيث فَيجب أَن
يثبتوه ليعْمَل بِهِ
وَجَوَاب آخر وَهُوَ أَنا نقُول بنطقه وَأَن الْعَصْر لَا
يَخْلُو من قَائِم لله تَعَالَى بِحجَّة وَيتْرك دَلِيله
بِبَعْض مَا ذَكرْنَاهُ فَإِنَّهُ أقوى مِنْهُ
(1/376)
وَاحْتج أَيْضا بِأَن الصَّحَابَة رَضِي
الله عَنْهُم رجعت عَن أقاويلها بعد اتِّفَاقهم
أَلا ترى أَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ اجْتمع رأبي ورأيي
الْجَمَاعَة أَن أُمَّهَات الْأَوْلَاد لَا يبعن ثمَّ إِنِّي
رَأَيْت أَن يبعن فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَة السَّلمَانِي رَأْيك
مَعَ الْجَمَاعَة أحب إِلَيْنَا من رَأْيك وَحدك
وَالْجَوَاب أَن الصَّحِيح من هَذَا الْخَبَر أَنه قَالَ كَانَ
رَأْيِي ورأي أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
أَن لَا يبعن أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَهَذَا لَيْسَ بِإِجْمَاع
قَالُوا وَلِأَن من جعل فِي قَوْله حجَّة لم يسْتَقرّ إِلَّا
بِمَوْتِهِ كالنبي عَلَيْهِ السَّلَام
قُلْنَا جعلنَا قَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حجَّة لنا
على مَا بَيناهُ وَإِنَّمَا لم يسْتَقرّ إِلَّا بِمَوْتِهِ
لِأَنَّهُ إِذا نسخ مَا قَالَه لم يؤد إِلَى الْخَطَأ فِيمَا
قَالَه وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِن رُجُوع المجمعين
عَمَّا قَالُوهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخَطَأ فِيمَا أَجمعُوا
عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يجوز
وَمن قَالَ بِالْوَجْهِ الثَّالِث احْتج بِأَن الْمُجْتَهد قد
سكت لِأَنَّهُ فِي رِوَايَة النّظر والفكر وَإِذا أظهر الْخلاف
علمنَا أَنه لم يكن إِجْمَاعًا وَإِذا مَاتَ قبل إِظْهَار
الْخلاف علمنَا أَنه رَاض بقَوْلهمْ فانعقد الْإِجْمَاع
قُلْنَا فَيجب على هَذَا إِذا مَاتَ فِي الْحَال أَن يجوز
لغيره الرُّجُوع عَمَّا أفتى بِهِ مَعَ الْجَهَالَة لأَنا لَا
نعلم حُصُول الْإِجْمَاع وَلما ثَبت أَنه لَا يجوز لأحد
الرُّجُوع عَمَّا أفتى بِهِ مَعَ الْجَمَاعَة دلّ على أَن
الْإِجْمَاع قد حصل بسكوته فَصَارَ بِمَنْزِلَة مَا لَو أفتى
مَعَه
(1/377)
مَسْأَلَة 9
إِذا اخْتلفت الصَّحَابَة فِي الْحَادِثَة على قَوْلَيْنِ ثمَّ
أجمع التابعون على أَحدهمَا لم تصر الْمَسْأَلَة إِجْمَاعًا
فِي قَول عَامَّة أَصْحَابنَا
وَقَالَ أَبُو عَليّ بن خيران وَأَبُو بكر الْقفال يصير
إِجْمَاعًا وَيسْقط القَوْل الآخر وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة
وَأَصْحَاب أبي حنيفَة
لنا قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى
الله وَالرَّسُول} وَلم يفرق بَين أَن يجمع التابعون بعد ذَلِك
أَو لم يجمعوا
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ
بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَلم يفرق
(1/378)
وَلِأَن اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي
الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ إِجْمَاع مِنْهُم على تسويغ
الِاجْتِهَاد وَجَوَاز تَقْلِيد كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ
وَإِقْرَاره عَلَيْهِ فَلم يجز للتابعين إبِْطَال هَذَا
الْإِجْمَاع كَمَا لَو أَجمعُوا فِي الْحَادِثَة على قَول
وَاحِد وَلَا يلْزم على هَذَا إِذا اخْتلف الصَّحَابَة فِي
الْحَادِثَة على قَوْلَيْنِ ثمَّ أَجمعُوا على أحد
الْقَوْلَيْنِ
فَأَما إِذا قُلْنَا إِن انْقِرَاض الْعَصْر شَرط فِي صِحَة
الْإِجْمَاع لم نسلم أَن هُنَاكَ إِجْمَاعًا
وَإِن قُلْنَا انْقِرَاض الْعَصْر لَيْسَ بِشَرْط لم نسلم
جَوَاز الِاتِّفَاق على أحد الْقَوْلَيْنِ بعد الِاخْتِلَاف
فَإِن قيل لَا يمْتَنع أَن يتفقوا على تسويغ الِاجْتِهَاد
بِشَرْط أَن لَا يظْهر إِجْمَاع فَإِذا ظهر إِجْمَاع سقط ذَلِك
الِاتِّفَاق كَمَا أَنهم اتَّفقُوا على أَن فرض العادم للْمَاء
التَّيَمُّم مَا لم يجد المَاء فَإِذا وجد المَاء زَالَ ذَلِك
الِاتِّفَاق
قُلْنَا هَذَا لَا يشبه مَا ذَكرْنَاهُ وَذَلِكَ أَن
إِجْمَاعهم فِيمَا ذَكرُوهُ مَشْرُوط بِعَدَمِ المَاء فَلهَذَا
زَالَ بِوُجُودِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِنَّهُم
أَجمعُوا على تسويغ النّظر على الْإِطْلَاق من غير شَرط فَهُوَ
بِمَنْزِلَة إِجْمَاعهم على قَول وَاحِد فَلَا يجوز أَن يَزُول
ذَلِك بإجماعهم بعده وَلَا بِخِلَاف بعده
وَلِأَن زَوَال الْإِجْمَاع بِرُؤْيَة المَاء لَا يُوجب بطلَان
مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ وَالْخَطَأ فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ
وَفِي مَسْأَلَتنَا إِجْمَاعهم على أحد الْقَوْلَيْنِ يُوجب
بطلَان مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ وَالْخَطَأ على أهل الْإِجْمَاع
لَا يجوز فَافْتَرقَا
وَأَيْضًا هُوَ أَنه لَا خلاف أَن الْإِجْمَاع إِذا حصل
وَاسْتقر لم يتَغَيَّر باخْتلَاف كَذَلِك إِذا حصل الْخلاف
وَاسْتقر وَجب أَن لَا يتَغَيَّر بِالْإِجْمَاع
فَإِن قيل إِنَّمَا لم يجز أَن يتَغَيَّر الْإِجْمَاع
باخْتلَاف لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال الْإِجْمَاع
(1/379)
قُلْنَا وَفِي مَسْأَلَتنَا مَتى جَوَّزنَا
أَن يتَغَيَّر مَا اخْتلفُوا فِيهِ بِالْإِجْمَاع أدّى إِلَى
إبِْطَال الْإِجْمَاع فَإِنَّهُم أَجمعُوا على تسويغ
الِاجْتِهَاد وَجَوَاز تَقْلِيد الْفَرِيقَيْنِ وَهَذَا
الْإِجْمَاع يبطل مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يجوز
وَلِأَن كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ كالأحياء البَاقِينَ فِي
كل عصر وَلِهَذَا تحفظ أَقْوَالهم وتنقل ويحتج لَهُم
وَعَلَيْهِم فَإِذا كَانُوا بِمَنْزِلَة الْأَحْيَاء وَجب أَن
لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع مَعَ اخْتلَافهمْ
فَإِن قيل لَو كَانُوا كالأحياء لوَجَبَ أَن لَا ينْعَقد
الْإِجْمَاع بعد مَوْتهمْ فِي شَيْء من الْحَوَادِث لِأَنَّهُ
لَا تعرف فِيهِ أَقْوَالهم ولوجب أَن يجوز تقليدهم كَمَا يجوز
تَقْلِيد الْأَحْيَاء
قيل هم كالأحياء فِيمَا أفتوا بِهِ فَأَما فِيمَا لم يفتوا
بِهِ وَحدث بعدهمْ فَلَا وَهَذَا كَمَا نقُول أَنهم أَجمعُوا
على قَول وَاحِد ثمَّ مَاتُوا عمل بأقوالهم بعد الْمَوْت
وَوَجَب الْمصير إِلَيْهِ كَمَا لَو كَانُوا أَحيَاء فأفتوا
بذلك لم يجْعَلُوا كالأحياء فِيمَا يحدث بعدهمْ من الْحَوَادِث
فَكَذَلِك فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ مثله
وَلِأَن هَذَا الحكم كَانَ يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد وَلَا يجوز
نقض الحكم على من حكم بِهِ من الْعَصْر الأول فَإِذا صَحَّ
الْإِجْمَاع بعد ذَلِك صَار مِمَّا لَا يسوغ فِيهِ
الِاجْتِهَاد وَوَجَب نقض الحكم على من حكم بِهِ بِخِلَاف
الْإِجْمَاع وَهَذَا نقض بعد انْقِطَاع الْوَحْي فَذَلِك لَا
يجوز
وَلِأَنَّهُ اخْتِلَاف حصل من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
فَلَا يَزُول ذَلِك بِإِجْمَاع التَّابِعين كَمَا لَو اخْتلفت
الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ وَأجْمع التابعون على قَول ثَالِث
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ إِجْمَاع التَّابِعين على أحد
الْقَوْلَيْنِ يسْقط مَا تقدم من الْخلاف
(1/380)
لوَجَبَ أَن ينْتَقض كل حكم حكم بِهِ فِي
عهد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بِخِلَافِهِ لأَنهم
مَقْطُوع بِبُطْلَانِهِ فَإِن ارتكبوا هَذَا وَقَالُوا إِنَّه
ينْتَقض فقد أبطلوا وَذَلِكَ أَن الصَّحَابَة أَجمعت على صِحَة
ذَلِك ونفوذه وكل حكم أَجمعت الصَّحَابَة عَلَيْهِ لم يجز
للتابعين الْإِجْمَاع على خِلَافه كَسَائِر الْأَحْكَام
الَّتِي أَجمعُوا عَلَيْهَا
وَأَيْضًا فَإِن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَن يكون قد ذهب أهل
الْعَصْر الأول إِلَى مَا نوجب فِي هَذَا الحكم من الْقطع
وَهَذَا لَا يجوز
وَاحْتَجُّوا بقوله {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا
تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} وَلم يفصل بَين أَن
يتَقَدَّم إِجْمَاعهم خلاف أَو لَا يتَقَدَّم
وَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذَا مُشْتَرك الدّلَالَة وَذَلِكَ أَن
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَجمعُوا على جَوَاز
الِاجْتِهَاد فِي الْحَادِثَة وَجَوَاز تَقْلِيد كل وَاحِد من
الْفَرِيقَيْنِ فَمن قطع الِاجْتِهَاد فِيهِ فقد ترك سَبِيل
الْمُؤمنِينَ وَكَانَ الْوَعيد لاحقا بِهِ
ثمَّ هِيَ عَامَّة فنخصها بِمَا ذَكرْنَاهُ
وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَجْتَمِع أمتِي
على الضَّلَالَة
وَالْجَوَاب عَنهُ مَا مضى على الْآيَة
قَالُوا وَلِأَنَّهُ اتِّفَاق من عُلَمَاء الْعَصْر على حكم
الْحَادِثَة فَوَجَبَ أَن يكون حجَّة مَقْطُوعًا بهَا
دَلِيله إِذا لم يتَقَدَّم خلاف
قُلْنَا لَا نجوز اعْتِبَار مَا يتقدمه الْخلاف بِمَا لَا
يتقدمه الْخلاف
أَلا ترى أَن الِاخْتِلَاف فِيمَا لم يتقدمه إِجْمَاع جَائِز
وَلَا يجوز ذَلِك فِيمَا يتقدمه
(1/381)
إِجْمَاع فَكَذَلِك لَا يمْتَنع أَن يجوز
الْإِجْمَاع فِيمَا لم يتقدمه خلاف وَلَا يجوز ذَلِك فِيمَا
تقدمه خلاف
وَلِأَن الْمَعْنى فِي الْإِجْمَاع الَّذِي لم يتقدمه خلاف
أَنه اتِّفَاق لَا يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال إِجْمَاع قبله
وَفِي مَسْأَلَتنَا اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي يُؤَدِّي
إِلَى إبِْطَال الْإِجْمَاع قبله فَصَارَ كَمَا لَو أجمع
الصَّحَابَة على قَول ثمَّ أجمع التابعون على غَيره
قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِجْمَاع تعقب خلافًا فأسقط حكم الْخلاف
كَمَا لَو اخْتلفت الصَّحَابَة ثمَّ أَجمعُوا وَذَلِكَ مثل
اخْتلَافهمْ فِي قتال مانعي الزَّكَاة ثمَّ إِجْمَاعهم
عَلَيْهِ
وَالْجَوَاب أَن على قَول من لم يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر
فِي صِحَة الْإِجْمَاع لَا نسلم الأَصْل فَإِنَّهُم إِذا
اخْتلفُوا لم يجز أَن يجمعوا على أحد الْقَوْلَيْنِ
وَأما قصَّة مانعي الزَّكَاة فَلم يحصل فِيهِ اخْتِلَاف فِي
الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا كَانُوا فِي طلب الدَّلِيل ومهلة
النّظر وَلم ينْقل بَينهم فِيهِ خلاف
وَمن قَالَ إِن انْقِرَاض الْعَصْر مُعْتَبر فِي صِحَة
الْإِجْمَاع أسقط الِاخْتِلَاف بِالْإِجْمَاع وَفرق بَين
الْمَوْضِعَيْنِ فَإِنَّهُم إِذا أَجمعُوا بعد الْخلاف صَارَت
الْمَسْأَلَة على قَول وَاحِد فَيسْقط القَوْل الآخر لِأَن
الْقَائِل بِهِ قد رَجَعَ عَنهُ وَأقر بِبُطْلَانِهِ وَلَيْسَ
كَذَلِك هَاهُنَا لأَنهم إِذا مَاتُوا على اخْتِلَاف كَانَ
قَول الْمُخَالف مِنْهُم بَاقِيا وَهُوَ كالحي الْقَائِم فَلم
يجز إِسْقَاطه بِالْإِجْمَاع بعده
وَلِأَن الصَّحَابَة لَو أَجمعت على أَمر جَازَ أَن
يَخْتَلِفُوا فِيهِ كَمَا قَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام
كَانَ رَأْيِي ورأي أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر ورأي الْجَمَاعَة
أَن لَا تبَاع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَأرى الْآن أَن يبعن
وَلَو أَجمعت الصَّحَابَة على قَول ثمَّ أَرَادَ التابعون
الِاتِّفَاق على خِلَافه لم يجز فَافْتَرقَا
قَالُوا وَلِأَن الْإِجْمَاع حجَّة وَالِاخْتِلَاف لَيْسَ
بِحجَّة فَلم يتْرك ماهو حجَّة بِمَا لَيْسَ بِحجَّة كالكتاب
وَالسّنة
(1/382)
قُلْنَا لَا نسلم أَن الْإِجْمَاع بعد
الْخلاف حجَّة وَإِنَّمَا يكون حجَّة إِذا لم يتَقَدَّم خلاف
وَهَذَا كَمَا نقُول فِي الْقيَاس أَنه حجَّة إِذا لم
يُعَارضهُ نَص فَأَما إِذا عَارضه نَص لم يكن حجَّة كَذَلِك
هَاهُنَا
على أَنه إِن كَانَ مَا حصل من الْإِجْمَاع حجَّة فَمَا تقدم
من الِاخْتِلَاف حجَّة فِي جَوَاز الِاجْتِهَاد وَالْأَخْذ
بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ وَلَيْسَ لَهُم مُرَاعَاة أحد
الإجماعين إِلَّا وَلنَا مُرَاعَاة الآخر وَمَا قُلْنَا أولى
لِأَن إِجْمَاع الْعَصْر الأول حجَّة على الْعَصْر الثَّانِي
وَالثَّانِي لَا يكون حجَّة على الْعَصْر الأول
قَالُوا وَلِأَن كل حكم لَا يجوز لعامة عصر التَّابِعين
الْعَمَل بِهِ لم يجز لمن بعدهمْ الْعَمَل بِهِ كالمنسوخ من
أَحْكَام الشَّرْع
قُلْنَا لَا نسلم الْوَصْف فَإِن من استفتى مِنْهُم
الصَّحَابَة يجوز لَهُ الْعَمَل بِهِ فِي عصر التَّابِعين ثمَّ
نعارضهم بِمثلِهِ فَنَقُول كل حكم جَازَ لعامة عصر الصَّحَابَة
الْعَمَل بِهِ جَازَ لعامة عصر التَّابِعين الْعَمَل بِهِ
دَلِيله إِذا لم يجمع التابعون على أحد الْقَوْلَيْنِ
قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِذا تعَارض خبران ثمَّ اتّفق أهل عصر على
ترك أَحدهمَا وَالْقَوْل بِالْآخرِ سقط الْمَتْرُوك مِنْهُمَا
وَكَذَلِكَ هَاهُنَا إِذا اتّفق أهل الْعَصْر الثَّانِي على
ترك أحد الْقَوْلَيْنِ وَالْعَمَل بِالْآخرِ وَجب أَن يسْقط
الْمَتْرُوك مِنْهُمَا
قُلْنَا إِنَّمَا يسْقط الْمَتْرُوك من الْخَبَرَيْنِ
لِأَنَّهُ لم يذهب إِلَيْهِ أحد من أهل الْعَصْر قبله وَلَيْسَ
كَذَلِك الْمَتْرُوك من الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ قد صَار
إِلَيْهِ أحد فريقي الصَّحَابَة فَجَاز الْأَخْذ بِهِ فوزانه
من الْخَبَر أَن يذهب إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا فريق من
النَّاس فَلَا يجوز إِسْقَاطه بِالْإِجْمَاع بعده
وَلِأَن الْخَبَرَيْنِ وردا مِمَّن يَصح مِنْهُ نسخ أَحدهمَا
بِالْآخرِ فَإِذا اجْتمع النَّاس على ترك أَحدهمَا علمنَا
بِأَنَّهُم علمُوا نسخه من جِهَته وَلَيْسَ كَذَلِك
الْقَوْلَانِ لِأَنَّهُمَا وردا من طائفتين لَا يَصح نسخ قَول
أَحدهمَا بِالْآخرِ فَلَا يَصح إِسْقَاط أَحدهمَا بِالْآخرِ
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
(1/383)
مَسْأَلَة 10
إِذا أدْرك التَّابِعِيّ عصر الصَّحَابَة وَهُوَ من أهل
الِاجْتِهَاد اعْتبر رِضَاهُ فِي صِحَة الْإِجْمَاع
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا اعْتِبَار بِهِ وَلَا يعْتد
بِخِلَافِهِ مَعَهم
لنا قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى
الله وَالرَّسُول} وَلم يَأْمُرنَا بِالرُّجُوعِ إِلَى أقاويل
الصَّحَابَة
وَلِأَنَّهُ من أهل الِاجْتِهَاد وَقت الْحَادِثَة فَاعْتبر
رِضَاهُ فِي صِحَة الْإِجْمَاع كأصاغر الصَّحَابَة رَضِي الله
عَنْهُم
وَلِأَن الِاعْتِبَار بِالْعلمِ لَا بالصحبة بِدَلِيل أَن من
لَيْسَ من أهل الْعلم لم يعْتَبر قَوْله فِي صِحَة الْإِجْمَاع
وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام نضر الله أمرا سمع
مَقَالَتي فوعاها ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سمع فَرب حَامِل فقه
غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه
(1/384)
مِنْهُ وَإِن كَانَ الِاعْتِبَار بِالْعلمِ
وَجب أَن يعْتد بِخِلَاف التَّابِعِيّ ووفاته لِأَنَّهُ عَالم
وَاحْتَجُّوا بِأَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام نقض الحكم على
شُرَيْح حِين قضى بَين ابْني عَم أَحدهمَا أَخ لأم وَجعل
المَال كُله لِابْنِ الْعم الَّذِي هُوَ أَخ لأم
وَلِأَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أنْكرت على أبي سَلمَة
حِين خَالف ابْن عَبَّاس فِي عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا
زَوجهَا وَقَالَت مثلك مثل الْفروج يسمع الديكة تصيح فصاح
لصياحها
وَالْجَوَاب أَن حَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام حجَّة
عَلَيْهِم فَإِنَّهُ ولاه الْقَضَاء وَرَضي بِهِ فِي
الِاجْتِهَاد فَدلَّ على أَنه من أَهله
وَأما نقض الحكم عَلَيْهِ فَيجوز أَن يكون لِأَنَّهُ انْعَقَد
عَلَيْهِ إِجْمَاع قبل أَن يصير شُرَيْح من أهل الِاجْتِهَاد
فَلَا يعْتد بقوله فِيهِ وَلِهَذَا لَا يخرج عَن كَونه
مُسَاوِيا لَهُم فِي الِاجْتِهَاد فِيمَا يحدث من الْحَوَادِث
(1/385)
وَأما عَائِشَة فقد خالفها أَبُو هُرَيْرَة
فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنه قَالَ فِي هَذِه الْقَضِيَّة قولي
فِيهَا مثل قَول ابْن أخي ابي سَلمَة فأقره على الْخلاف
وعَلى أَنه لَيْسَ فِي قَوْلهَا مَا يدل على أَنه لَا يعْتد
بِخِلَافِهِ وَيجوز أَن يكون قد رفع صَوته على ابْن عَبَّاس
وَادّعى مَنْزِلَته وَطلب مساواته فأنكرت عَائِشَة عَلَيْهِ
ذَلِك
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن الصَّحَابَة أعلم بِالْأَحْكَامِ من
التَّابِعين فَإِنَّهُم شاهدوا الْوَحْي والتنزيل وَعرفُوا
الْمَقَاصِد والأغراض فَكَانُوا مَعَ التَّابِعين بِمَنْزِلَة
الْعلمَاء مَعَ الْعَامَّة
وَالْجَوَاب هُوَ أَنا لَا نسلم أَنهم أعلم بِالْأَحْكَامِ
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أنسا كَانَ يحِيل بالمسائل على
الْحسن الْبَصْرِيّ
وَابْن عمر كَانَ يحِيل بالمسائل على ابْن الْمسيب
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ فِي سعيد هُوَ وَالله أحد
الْمُفْتِينَ
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام رحم الله امْرأ
سمع مَقَالَتي فوعاها ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سمع فَرب حَامِل
فقه غير فَقِيه الْخَبَر
وَمَا ذَكرُوهُ من التَّرْجِيح لَا يمْنَع من مُسَاوَاة
التَّابِعين لَهُم فِي الِاجْتِهَاد
أَلا ترى أَن من طَالَتْ صحبته من أكَابِر الصَّحَابَة
وعلمائها لَهُم من المزية بطول الصُّحْبَة وَقُوَّة الآنسة
بكرم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مَا لَيْسَ لصغارها
ومتأخريها ثمَّ الْجَمِيع فِي الِاجْتِهَاد وَاحِد فَبَطل مَا
قَالُوهُ
وَلِأَن هَذَا التَّرْجِيح إِنَّمَا كَانَ يَصح أَن لَو كَانَت
الْأَحْكَام كلهَا مَأْخُوذَة من المسموع من رَسُول الله
عَلَيْهِ السَّلَام فَأَما إِذا كَانَ فِيهَا مَا يُؤْخَذ من
الْكتاب وَمَا يُؤْخَذ من الْأُصُول وَمَا يُؤْخَذ من رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن لمن شهد النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مزية على غَيره
(1/386)
مَسْأَلَة 11
إِذا اخْتلف الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ لم يجز للتابعين
إِحْدَاث قَول ثَالِث
وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين وَبَعض أَصْحَاب أبي حنيفَة يجوز
ذَلِك
لنا هُوَ أَن اخْتلَافهمْ على قَوْلَيْنِ إِجْمَاع على أَن كل
قَول سواهُمَا بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يفوتهُمْ الْحق
فَلَو جَوَّزنَا إِحْدَاث قَول ثَالِث لجوزنا الْخَطَأ
عَلَيْهِم فِي الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا لَا يجوز
(1/387)
وَأَيْضًا فَإِن التَّابِعين أَجمعُوا على
حصر الْأَقَاوِيل وَضبط الْمذَاهب وَلَو جَازَ إِحْدَاث
مَذْهَب آخر لم يكن لضبط الْأَقَاوِيل وَلَا حصر الْمذَاهب
معنى
وَاحْتَجُّوا بِأَن اخْتلَافهمْ فِيهَا على قَوْلَيْنِ يُوجب
جَوَاز الِاجْتِهَاد فَجَاز إِحْدَاث قَول ثَالِث كَمَا لَو لم
يسْتَقرّ الْخلاف
وَالْجَوَاب هُوَ أَن اخْتلَافهمْ فِي ذَلِك يُوجب جَوَاز
الِاجْتِهَاد فِي طلب الْحق من الْقَوْلَيْنِ فَأَما إِحْدَاث
قَول ثَالِث فَلَا وَهَذَا كَمَا لَو أَجمعُوا فِي حَادِثَة
على إبِْطَال حكم فِيهَا فَيَنْقَطِع الِاجْتِهَاد فِي ذَلِك
الحكم ثمَّ لَا يمْنَع ذَلِك من الِاجْتِهَاد فِيهَا على غير
مَا أَجمعُوا على بُطْلَانه كَذَلِك هَاهُنَا
وَيُخَالف هَذَا إِذا لم يسْتَقرّ الْخلاف لِأَن الْإِجْمَاع
قبل الِاسْتِقْرَار لَا يمْنَع من الْخلاف وَبعد
الِاسْتِقْرَار يمْنَع فَكَذَلِك الِاخْتِلَاف مثله
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَنَّهُ يجوز إِحْدَاث دَلِيل آخر لم
يذكرهُ الصَّحَابَة فَكَذَلِك يجوز إِحْدَاث قَول آخر لم يقلهُ
الصَّحَابَة
قُلْنَا لَيْسَ إِذا جَازَ إِحْدَاث دَلِيل آخر جَازَ إِحْدَاث
قَول آخر
أَلا ترى أَنهم لَو أَجمعُوا على دَلِيل وَاحِد جَازَ إِحْدَاث
دَلِيل ثَان وَلَا يجوز إِحْدَاث قَول ثَان
وَلِأَن إِحْدَاث دَلِيل ثَالِث يُؤَيّد مَا اسْتدلَّ بِهِ
الصَّحَابَة وإحداث قَول ثَالِث يُخَالف مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ
فَافْتَرقَا
وَاحْتَجُّوا بِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم اخْتلفُوا
فِي زوج وأبوين وَامْرَأَة وأبوين على قَوْلَيْنِ فجَاء ابْن
سِيرِين فأحدث قولا ثَالِثا فَقَالَ فِي امْرَأَة وأبوين
يَقُول ابْن عَبَّاس وَفِي زوج وأبوين بقول سَائِر الصَّحَابَة
وَأقرهُ النَّاس على هَذَا الْخلاف
(1/388)
وَالْجَوَاب هُوَ أَنا لَا نقره على ذَلِك
بل نجعله محجوجا بِإِجْمَاع الصَّحَابَة فَلَا يقبل مِنْهُ
هَذَا القَوْل
وَجَوَاب آخر وَهُوَ أَن ابْن سِيرِين عاصر الصَّحَابَة وَهُوَ
من أهل الِاجْتِهَاد وَخلاف التَّابِعين فِي قَول بعض
أَصْحَابنَا يعْتد بِهِ مَعَ الصَّحَابَة إِذا عاصرهم وَهُوَ
من أهل الِاجْتِهَاد وعَلى الْوَجْه الَّذِي يعْتَبر انْقِرَاض
الْعَصْر فِي صِحَة الْإِجْمَاع
(1/389)
مَسْأَلَة 12
إِذا اخْتلفت الصَّحَابَة فِي مَسْأَلَتَيْنِ على قَوْلَيْنِ
فَذَهَبت طَائِفَة مِنْهُمَا إِلَى حكم وَاحِد وصرحت بالتسوية
بَينهمَا وَذَهَبت الطَّائِفَة الْأُخْرَى إِلَى حكم آخر وصرحت
بالتسوية بَينهمَا فَهَل يجوز لمن بعدهمَا أَن يَأْخُذ بقول
أَحدهمَا فِي مَسْأَلَة وَبقول الآخر فِي الْمَسْأَلَة
الْأُخْرَى فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا يجوز
وَالثَّانِي يجوز
وَوجه الأول هُوَ أَن هَذَا إِحْدَاث قَول ثَالِث لِأَن
الْجَمِيع أَجمعُوا على التَّسْوِيَة بَينهمَا وَهَذَا
التَّفْصِيل يمْنَع من التَّسْوِيَة فَكَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة
مَا لَو أَجمعُوا على قَول وَاحِد فَلَا يجوز إِحْدَاث قَول
ثَان
وَوجه الآخر أَنهم لم يجمعوا على التَّسْوِيَة بَين
الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي حكم وَاحِد وَإِنَّمَا سووا بَينهمَا
فِي حكمين مُخْتَلفين فَجَاز لمن بعدهمَا الْأَخْذ بالتفصيل
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه وَإِن كَانَ ذَلِك فِي حكمين إِلَّا أَن
الْإِجْمَاع قد حصل على التَّسْوِيَة بَينهمَا فَكَانَ
التَّفْرِيق بَينهمَا مُخَالفا للْإِجْمَاع
(1/390)
مَسْأَلَة 13
إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ قولا وَظهر ذَلِك فِي عُلَمَاء
الصَّحَابَة وانتشر وَلم يعرف لَهُ مُخَالف كَانَ ذَلِك
إِجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ
(1/391)
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ هُوَ حجَّة
وَلَيْسَ بِإِجْمَاع
وَقَالَ أَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة إِن كَانَ ذَلِك حكما من
حَاكم مِنْهُم وَلم يكن ذَلِك إِجْمَاعًا
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الْأَشْعَرِيّ لَيْسَ بِحجَّة أصلا
وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد
لنا هُوَ أَن سكوتهم دَلِيل على الرِّضَا بِمَا قَالَه
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ هُوَ أَن الْعَادة أَن النَّازِلَة إِذا
نزلت فزع أهل الْعلم إِلَى الِاجْتِهَاد وَطلب الحكم
وَإِظْهَار مَا عِنْدهم فِيهَا فَلَمَّا لم يظْهر خلاف ذَلِك
مَعَ طول الزَّمَان وارتفاع الْمَوَانِع دلّ على أَنهم راضون
بذلك فَصَارَ بِمَنْزِلَة مَا لَو أظهرُوا الرِّضَا بالْقَوْل
وَالْفِعْل
(1/392)
وَأما الدَّلِيل على بطلَان قَول من قَالَ
إِنَّه حجَّة وَلَيْسَ بِإِجْمَاع فَهُوَ أَن سكوتهم لَا
يَخْلُو إِمَّا أَن يكون دَلِيلا على الرِّضَا فَيجب أَن يصير
إِجْمَاعًا أَو لَا يكون ذَلِك دَلِيلا على الرِّضَا فَيجب أَن
لَا يكون حجَّة وَإِمَّا أَن يكون حجَّة وَلَا يكون إِجْمَاعًا
فَلَا معنى لَهُ
وَاحْتَجُّوا بِأَن سكوتهم لَا يدل على الرِّضَا لِأَنَّهُ
يجوز أَن يَكُونُوا لم يجتهدوا أَو اجتهدوا وَلم ينْتَه نظرهم
أَو لم يظْهر الْخلاف لهيبة الْقَائِل كَمَا قَالَ ابْن
عَبَّاس فِي خلاف عمر فِي الْعَوْل هِبته وَكَانَ أمرا مهيبا
أَو لاعتقادهم بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب وَإِذا احْتمل هَذِه
الْوُجُوه لم يجز أَن يحمل سكوتهم على الرِّضَا والموافقة
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه لَا يجوز ترك الِاجْتِهَاد لِأَن
الْعَادة نظر النَّاس فِي الْحَادِثَة عِنْد حدوثها إِذْ لَا
مَانع لَهُم من ذَلِك فَلَا يجوز دَعْوَى خلاف الْعَادة وَلَا
ترك الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى محَال وَذَلِكَ
أَنه إِذا أَخطَأ الْمُجْتَهد مِنْهُم وَترك الْبَاقُونَ
الِاجْتِهَاد فقد أَخطَأ الْجَمِيع وخلا الْعَصْر عَن الْحق
وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَخْلُو
عصر من الْأَعْصَار من قَائِم لله تَعَالَى بِحَق
وَلَا يجوز أَن لَا يظهروا الْخلاف لِأَن ذَلِك أَيْضا خلاف
الْعَادة
وَلَا يجوز أَن يَكُونُوا فِي مهلة النّظر لِأَن ذَلِك لَا
يَمْتَد إِلَى أَن ينقرض الْعَصْر
وَلَا يجوز أَن لَا يظهروا الْخلاف للهيبة لِأَن الهيبة لَا
تمنع إِظْهَار الْخلاف فِي الْأَحْكَام وَلِهَذَا ردَّتْ
امْرَأَة على عمر رَضِي الله عَنهُ فِي المغالاة فِي الصَدَاق
فَقَالَت أيعطينا الله وتمنعنا يَا ابْن الْخطاب وَرُوِيَ انها
قَالَت يَا عمر قَالَ الله تَعَالَى {وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} فَقَالَ عمر رَضِي
الله عَنهُ امْرَأَة خَاصَمت عمر فَخَصمته
(1/393)
وَقَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي لعَلي
عَلَيْهِ السَّلَام رَأْيك مَعَ الْجَمَاعَة أحب إِلَيْنَا من
رَأْيك وَحدك وَغير ذَلِك من الْمَوَاضِع الَّتِي أظهرُوا
فِيهَا الْخلاف وَلم يحتشموا الْقَائِل
وَأما ابْن عَبَّاس فقد أغْلظ فِي الْإِنْكَار وشدد فِي
القَوْل فَروِيَ أَنه قَالَ أول من أعال الفرائص عمر رَضِي
الله عَنهُ وأيم الله لَو قدم من قدمه الله وَأخر من أَخّرهُ
الله لما عالت فَرِيضَة قطّ قَالَ لَهُ زفر بن قيس مَا مَنعك
أَن تُشِير بِهَذَا على عمر فَقَالَ هِبته وَكَانَ أمرا مهيبا
وَمثل هَذَا الْإِنْكَار إِنَّمَا هابه أَن يواجهه بِهِ لَا
سِيمَا وَابْن عَبَّاس كَانَ صَغِير السن وَهُوَ أَيْضا من
أَصْحَابه
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ لَا يظهره للهيبة لأظهره بعد ذَلِك
كَمَا أظهر ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ
وَلَا يجوز أَن يكون لاعْتِقَاده أَن كل مُجْتَهد مُصِيب
لِأَنَّهُ لم يكن فِي الصَّحَابَة من يذهب إِلَى هَذَا بل
كَانَ مَذْهَبهم أَن الْحق فِي وَاحِد وَلِهَذَا خطأ بَعضهم
بَعْضًا
وَلِأَن الْعَادة مَعَ هَذَا الِاعْتِقَاد إِظْهَار الْخلاف
فَدلَّ على بطلَان مَا قَالُوهُ
وَاحْتج أَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة بِأَنَّهُ إِذا كَانَ
ذَلِك قَضَاء من حَاكم لم يدل السُّكُوت على الرِّضَا لِأَن
فِي الْإِنْكَار افتياتا عَلَيْهِ
ولأنا نحضر مجَالِس الْحُكَّام فنراهم يقضون بِخِلَاف مذاهبنا
فَلَا ننكره وَلَا يدل ذَلِك على الرِّضَا
وَالْجَوَاب هُوَ أَن الْعَادة قد جرت عِنْد الْحُكَّام
إِظْهَار الْخلاف وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَن الصَّحَابَة قد
كَانَ يحضر بَعضهم بَعْضًا عِنْد الحكم فينكر مَا يحكم إِذا
كَانَ مُخَالفا لما يَعْتَقِدهُ
وَأما سكوتنا عَن إِظْهَار الْخلاف عِنْد الْحَاكِم فَلِأَن
الْخلاف قد ظهر وَعرف فَلَا يُعَاد اكْتِفَاء بِمَا تقدم
وَلِهَذَا نحضر مجَالِس الْفُقَهَاء أَيْضا فنراهم يفتون
بمذاهبهم فَلَا ننكر وَلَا يدل ذَلِك على أَن السُّكُوت عِنْد
الْفتيا يدل على الرِّضَا وَلَكنَّا نسكت عَن الْخلاف
اكْتِفَاء بِمَا عرف من الْخلاف الْمُتَقَدّم وَأما عِنْد
نزُول النَّوَازِل فَلَا بُد من إِظْهَار الْخلاف من طَرِيق
الْعَادة فَبَطل مَا قَالُوهُ
(1/394)
مَسْأَلَة 14
إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ قولا وَلم ينتشر لم يكن ذَلِك حجَّة
وَيقدم الْقيَاس عَلَيْهِ فِي قَوْله الْجَدِيد
وَقَالَ فِي الْقَدِيم هُوَ حجَّة يقدم على الْقيَاس ويخص
الْعُمُوم بِهِ وَهُوَ قَول مَالك وَأحمد وَإِسْحَق وَهُوَ
مَذْهَب أبي عَليّ الجبائي
لنا أَنه قَول مِمَّن يقر على الْخَطَأ فَلَا يجوز ترك
الْقيَاس لَهُ
دَلِيله قَوْله التَّابِعِيّ
وَلِأَن التَّابِعِيّ والصحابي متساويان فِي آلَة الِاجْتِهَاد
وَجَوَاز الْخَطَأ على كل وَاحِد مِنْهُمَا فَلَا يجوز
لأَحَدهمَا ترك اجْتِهَاده لقَوْل الآخر كالصحابيين والتابعيين
(1/395)
وَلِأَن الْقيَاس دَلِيل على الحكم من
جِهَة الشَّرْع فَكَانَ مقدما على قَول الصَّحَابِيّ دَلِيله
الْكتاب وَالسّنة
وَلِأَن مَا قضى بِهِ على عُمُوم الْقُرْآن كَانَ مقدما على
قَول الصَّحَابِيّ
دَلِيله خبر الْوَاحِد
وَلِأَنَّهُ قِيَاس فَقدم على قَول الصَّحَابِيّ كالقياس
الْجَلِيّ
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ قَوْله يقدم على الْقيَاس لوَجَبَ إِذا
عَارضه خبر أَن يتعارضا أَو ينْسَخ أَحدهمَا بِالْآخرِ كَمَا
يفعل فِي نصين متعارضين
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس
تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} فَإِذا كَانَ مَا
يأمرون بِهِ مَعْرُوفا وَجب الْمصير إِلَيْهِ
قُلْنَا هَذَا أَخْبَار عَن جَمَاعَتهمْ وَمَا تَأمر بِهِ
الْجَمَاعَة عندنَا يجب قبُوله وَإِنَّمَا الْخلاف فِيمَا
انْفَرد بِهِ الْوَاحِد مِنْهُم
وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام أَصْحَابِي
كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَقَوله
عَلَيْهِ السَّلَام اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر
وَالْجَوَاب أَنا نشاركهم فِي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا لِأَن
الِاقْتِدَاء بهم أَن نعمل بِمُقْتَضى الِاجْتِهَاد ونفزع فِي
الْحَوَادِث إِلَى الْقيَاس كَمَا فعلوا وَهَذَا يمْنَع من
التَّقْلِيد
وَلِأَن هَذَا خطاب للعامة لِأَن الْعلمَاء فِي زمن النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام أَصْحَابه وَلَا يجوز أَن يَأْمر أَصْحَابه
بتقليد غَيرهم فَيجب أَن يكون ذَلِك أمرا للعامة بتقليدهم
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن الصَّحَابِيّ إِن كَانَ قد أفتى عَن
تَوْقِيف كَانَ حجَّة
(1/396)
وَإِن كَانَ عَن اجْتِهَاد فاجتهاده أولى
لِأَنَّهُ شَاهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسمع
كَلَامه فَكَانَ أعرف بمعانيه وَمَا قَصده فَكَانَ بِمَنْزِلَة
الْعَالم مَعَ الْعَاميّ
قُلْنَا أما دَعْوَى التَّوْقِيف فَلَا تجوز من غير دَلِيل بل
الظَّاهِر أَنه أفتى من غير تَوْقِيف لِأَنَّهُ لَو كَانَ عَن
تَوْقِيف لرواه فِي هَذِه الْحَالة أَو فِي غَيرهَا من
الْأَحْوَال
وَأما دَعْوَى قُوَّة الِاجْتِهَاد فَلَا تصح لِأَنَّهُ يجوز
أَن يسمع من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَيكون غَيره أعلم
بمعانيه وقصده وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام نضر الله
أمرأ سمع مَقَالَتي فوعاها وأداها كَمَا سمع فَرب حَامِل فقه
إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ
وَلِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون أَخذ حكم الْحَادِثَة من
الْقُرْآن أَو سَمعه من غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَيكون هُوَ والتابعي فِيهِ وَاحِد فَلَا يكون من هُوَ
أقوى فِيهِ من غَيره
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ صَحِيحا لوَجَبَ أَن يجب على من لم تطل
صحبته أَن يُقَلّد من طَالَتْ صحبته لقُوَّة الْأنس بِكَلَام
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعْرِفَة قَصده وَلما لم يجب
ذَلِك دلّ على بطلَان مَا اعتمدوه
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ صَحَابِيّ فَجَاز تَقْلِيده دَلِيله
إِذا كَانَ مَعَ قَوْله قِيَاس ضَعِيف
وَالْجَوَاب هُوَ أَنا لَا نسلم هَذَا الأَصْل فَإِن الْقيَاس
مقدم عَلَيْهِ وَإِن عاضد قَوْله قِيَاس ضَعِيف
قَالُوا وَلِأَن قَوْله لَو انْتَشَر لوَجَبَ الْعَمَل بِهِ
فَقدم على الْقيَاس كَخَبَر الْوَاحِد
قُلْنَا هَذَا يبطل بقول التَّابِعِيّ فَإِنَّهُ لَو انْتَشَر
لوَجَبَ الْعَمَل بِهِ ثمَّ لَا يقدم من غير انتشار على
الْقيَاس
وعَلى أَنه لَو كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَة الْخَبَر لوَجَبَ إِذا
عَارضه خبر أَن يتعارضا أَو ينْسَخ أَحدهمَا بِالْآخرِ كالخبر
إِذا عَارضه خبر
(1/397)
وَلِأَن الْخَبَر إِذا قابله الْقيَاس
الْجَلِيّ قدم الْخَبَر عَلَيْهِ وَلَو قَابل قَول
الصَّحَابِيّ قِيَاس جلي قدم الْقيَاس عَلَيْهِ فَدلَّ على
الْفرق بَينهمَا
قَالُوا وَلِأَن قَول الصَّحَابِيّ وَالْقِيَاس جِنْسَانِ
يتْرك أقواهما لأقوى الآخر فَيتْرك أضعفهما لأضعف الآخر كالسنة
وَالْقِيَاس
قُلْنَا يبطل هَذَا بقول التَّابِعِيّ مَعَ الْقيَاس فَإِن
أقواهما يتْرك لأقوى الآخر وأضعفهما لَا يتْرك لأضعف الآخر
ثمَّ الْخَبَر لَو عَارضه أقوى القياسين لأسقطه وَلَو عَارض
قَول الصَّحَابِيّ أقوى القياسين قدم الْقيَاس عَلَيْهِ فَإِذا
عَارضه أضعفهما قدم عَلَيْهِ
(1/398)
مَسْأَلَة 15
إِذا قَالَ وَاحِد من الصَّحَابَة قولا يُخَالف الْقيَاس لم
يَجْعَل ذَلِك توقيفا وَيقدم الْقيَاس عَلَيْهِ
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة هُوَ حجَّة يصير كالسنة المستندة
إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَيقدم على الْقيَاس
لنا هُوَ أَن الصَّحَابِيّ غير مَعْصُوم فَيجوز أَن يكون قد
قَالَه عَن تَوْقِيف وَيجوز أَن يكون قد ذهب فِيهِ إِلَى
اجْتِهَاد بعيد فَلَا يجوز إِثْبَات السّنة بِالشَّكِّ
وَلِأَنَّهُ لَو ثَبت بقوله سنة لثبت ذَلِك بقول التَّابِعِيّ
وَلما لم يثبت بقول التَّابِعِيّ لم يثبت أَيْضا بقول
الصَّحَابِيّ
وَلِأَن الظَّاهِر أَنه لم يقل ذَلِك عَن سنة لِأَنَّهُ لَو
كَانَ قد قَالَه عَن سنة لأظهر ذَلِك عِنْد الْفتيا أَو فِي
وَقت من الْأَوْقَات وَلَو فعل ذَلِك لعرف وَلما لم يعرف ذَلِك
بِحَال دلّ على أَنه لَيْسَ عِنْده فِيهِ سنة
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ عَن سنة لوَجَبَ إِذا عَارضه خبر أَن
يتعارضا وَيصير كالخبرين المتعارضين وَلما قدم الْخَبَر
عَلَيْهِ دلّ على بطلَان مَا ذَكرُوهُ
وَاحْتَجُّوا بِأَن الظَّاهِر أَنه لم يعدل عَن الْقيَاس مَعَ
الثِّقَة بِهِ فِي معرفَة الْقيَاس وطرقه إِلَّا إِلَى سنة
فَوَجَبَ أَن يَجْعَل ذَلِك توقيفا عَن النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام
(1/399)
قُلْنَا إِنَّمَا يَصح هَذَا لَو كَانَ لَا
يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ فَأَما إِذا جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأ
احْتمل أَن يكون قد ذهب إِلَى سنة لَا تدل على الحكم أَو
أَخطَأ فِيهِ فَلَا يجوز أَن يَجْعَل قَوْله حجَّة
وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ هَذَا فِي حق الصَّحَابِيّ لجَاز فِي حق
التَّابِعين وَسَائِر الْفُقَهَاء إِذا رَأينَا الْوَاحِد
مِنْهُم قد ذهب إِلَى خلاف الْقيَاس لجَاز أَن يحمل أمره فِي
ذَلِك على أَنه ذهب إِلَى سنة عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
صحت عِنْده
وَلِأَنَّهُ يبطل بِهِ إِذا عَارضه نَص فَإِن قَوْله يسْقط
وَإِن كَانَ الظَّاهِر مَا ذَكرُوهُ وَالله أعلم
(1/400)
|