التبصرة في أصول الفقه مسَائِل الْقيَاس
مَسْأَلَة 1
الْقيَاس وَالِاسْتِدْلَال طَرِيق لإِثْبَات الْأَحْكَام فِي
العقليات
وَذهب بعض النَّاس إِلَى إبِْطَال ذَلِك
لنا أَنا نرى فِي مسَائِل الْأُصُول مَذَاهِب مُخْتَلفَة
وأقاويل متكافئة لَا طَرِيق إِلَى معرفَة الصَّحِيح مِنْهَا من
الْفَاسِد إِلَّا بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال فَدلَّ على أَن
ذَلِك وَاجِب
(1/416)
فَإِن قيل يُقَلّد فِيهَا وَلَا يحْتَاج
إِلَى النّظر
قيل لَيْسَ تَقْلِيد أحد الْخَصْمَيْنِ بِأولى من الآخر
فَوَجَبَ الرُّجُوع فِيهِ إِلَى النّظر لِأَن الْمُقَلّد فِيهِ
يجوز أَن يكون صَادِقا وَيجوز أَن يكون كَاذِبًا فَلَا يُمكن
إِدْرَاك الْحق من جِهَته وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه لَو لم
يَصح النّظر وَالِاسْتِدْلَال لما علم النبوات لِأَن من جَاءَ
يَدعِي النُّبُوَّة يحْتَمل أَن يكون صَادِقا وَيحْتَمل أَن
يكون كَاذِبًا وَلَيْسَ لأحد الِاحْتِمَالَيْنِ على الآخر مزية
فَلَا بُد من الرُّجُوع إِلَى مَا يدل على صدقه وَلَا يعلم مَا
يدل على صدقه إِلَّا بِالنّظرِ فَدلَّ على صِحَّته
وَلِأَن من يَنْفِي ذَلِك لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَنْفِيه
بِالنّظرِ فقد اعْترف بِصِحَّة مَا أبْطلهُ أَو بالتقليد فَيجب
أَن يقلدنا فِي جَوَاز النّظر
وَلِأَن نَفْيه للنَّظَر لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون
بِالضَّرُورَةِ أَو بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال وَلَا يجوز أَن
يكون نَفْيه بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ لَو كَانَ قد علم ذَلِك
ضَرُورَة لعلمناه كَمَا علم وَإِن كَانَ يَنْفِيه بِالنّظرِ
وَالِاسْتِدْلَال فقد اعْترف بِصِحَّة مَا أنكرهُ
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو كَانَ النّظر طَرِيقا لمعْرِفَة
الْأَحْكَام لوَجَبَ أَن يتَقَدَّم عِنْد النّظر
وَالِاسْتِدْلَال قَول نعمل عَلَيْهِ وَمذهب نرْجِع إِلَيْهِ
أَلا ترى أَن الْمُقَابلَة فِي الأوزان والأعداد لما كَانَ
طَرِيقا لمعْرِفَة الْمَقَادِير تقدر بِهِ عِنْد الِاعْتِبَار
أَمر يَزُول مَعَه الْخَطَأ
قُلْنَا لَا نسلم فَإِن بِالنّظرِ يَتَقَرَّر الْحق وَيبْطل
الْبَاطِل وَلِهَذَا نرى كثيرا مِمَّن ينظر ويستدل يرجع عِنْد
النّظر وَالِاسْتِدْلَال عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ من قبل وَأما
من لَا يرجع فَلِأَنَّهُ لم يسْتَوْف النّظر وَلَو استوفى
ذَلِك لبان لَهُ وَرجع
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو كَانَ النّظر طَرِيقا للمعرفة
لوَجَبَ إِذا وَقع لَهُ شَيْء من ذَلِك عَن دَلِيل أَن لَا
ينْتَقل عَنهُ إِلَى غَيره وَقد رَأينَا من يكون على مَذْهَب
يعْتَقد صِحَّته ثمَّ ينْتَقل إِلَى غَيره ويعتقد بطلَان مَا
كَانَ عَلَيْهِ وَهَذَا يدل على أَن النّظر لَيْسَ بطرِيق
للإدراك
قُلْنَا الِانْتِقَال عَن الشَّيْء إِلَى غَيره لَا يدل على
أَن النّظر لَيْسَ بطرِيق لتميز
(1/417)
الْحق عَن الْبَاطِل كَمَا أَن الْإِنْسَان
يتخايل لَهُ السراب فيظن أَنه مَاء ثمَّ يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ
بِمَاء وَلَا يدل ذَلِك على أَن نظر الْعين لَيْسَ بطرِيق
لإدراك المرئيات كَذَلِك هَاهُنَا
قَالُوا وَلِأَن النّظر هُوَ رد الْفَرْع إِلَى الأَصْل
وَالِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب وَجعل
الضَّرُورِيّ أصلا للعقلي وَذَلِكَ لَا يجوز
قُلْنَا وَلم لَا يجوز أَن يَجْعَل الشَّاهِد أصلا للْغَائِب
والضروري أصلا للعقلي وَهل هَذَا إِلَّا دَعْوَى مُجَرّدَة
وعَلى أَنه يلْزمه أَن لَا تصح الْمُقَابلَة فِي الْحساب
فَإِنَّهُ حمل خَفِي على جلي ورد غامض إِلَى ظَاهر وَلما صَحَّ
ذَلِك بَطل مَا قَالُوهُ
وعَلى أَن جَمِيع مَا ذَكرُوهُ نظر واستدلال على إبِْطَال
النّظر وَالِاسْتِدْلَال وَهَذَا متناقض
(1/418)
مَسْأَلَة 2
يجوز وُرُود التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الشرعيات
وَقَالَ النظام لَا يجوز وُرُود التَّعَبُّد بِهِ وَهُوَ
مَذْهَب قوم من الْمُعْتَزلَة البغداديين وَهُوَ قَول الإمامية
والمغربي والقاساني
لنا هُوَ أَنه إِذا جَازَ فِي العقليات أَن يثبت الحكم فِي
الشَّيْء لعِلَّة وَيعرف ذَلِك الْعلَّة بِالدَّلِيلِ وَهُوَ
التَّقْسِيم والمقابلة ثمَّ يُقَاس عَلَيْهِ غَيره جَازَ أَن
يثبت الحكم فِي الشرعيات فِي عين من الْأَعْيَان لعِلَّة
وَينصب على تِلْكَ الْعلَّة دَلِيل يدل عَلَيْهَا ثمَّ يُقَاس
غَيره عَلَيْهِ
(1/419)
وَأَيْضًا هُوَ أَنه لَا خلاف أَنه يجوز
أَن يَقُول صَاحب الشَّرْع حرمت عَلَيْكُم الْخمر لِأَنَّهُ
شراب فِيهِ شدَّة مطربة فقيسوا عَلَيْهِ كل مَا كَانَ فِيهِ
هَذَا الْمَعْنى فَكَذَلِك يجوز أَن يحرم الْخمر لهَذِهِ
الْعلَّة وَينصب عَلَيْهَا دلَالَة ويأمرنا بِالْقِيَاسِ
عَلَيْهَا
يدل عَلَيْهِ أَنه لما جَازَ أَن يَأْمُرنَا بالتوجه إِلَى
الْجِهَة الَّتِي فِيهَا الْكَعْبَة لمن عاينها لِأَن فِيهَا
الْكَعْبَة جَازَ أَن ينصب عَلَيْهَا دلَالَة لمن غَابَ
عَنْهَا ويتعبد بالتوجه إِلَيْهَا بالاستدلال عَلَيْهَا
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو جَازَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ
فِي الْفُرُوع لجَاز التَّعَبُّد بِهِ فِي الْأُصُول حَتَّى
يعرف جَمِيع الْأَحْكَام بِالْقِيَاسِ
قُلْنَا يجوز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الْأُصُول إِذا
كَانَ هُنَاكَ أصل يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِ فَأَما إِذا لم يكن
هُنَاكَ أصل آخر فَلَا يجوز لِأَنَّهُ تعبد بِمَا لم يَجْعَل
إِلَى مَعْرفَته طَرِيقا وَلم ينصب عَلَيْهِ دَلِيلا وَهَذَا
كَمَا تَقول فِي الْبَصِير أَنه يجوز أَن يتعبد
بِالِاجْتِهَادِ فِي طلب الْقبْلَة حَيْثُ جعل لَهُ إِلَى
مَعْرفَتهَا طَرِيق وَلَا يجوز أَن يتعبد بِهِ الْأَعْمَى
حَيْثُ لم يَجْعَل لَهُ ذَلِك طَرِيق كَذَلِك هَاهُنَا
قَالُوا وَلِأَن التَّكْلِيف إِنَّمَا جعل لمصْلحَة الْمُكَلف
والمصالح لَا تعلم إِلَّا بِالنَّصِّ فَأَما الْقيَاس فَلَا
تعلم لِأَن الْقيَاس رُبمَا أَخطَأ الْمصلحَة
قُلْنَا الْمصَالح لَا تعرف بِالْقِيَاسِ وَلَكِن مَا عرف
بِالْقِيَاسِ فَهُوَ مَعْلُوم بِالنَّصِّ لِأَن النَّص هُوَ
الَّذِي دلّ على الْقيَاس فَمَا أدّى إِلَيْهِ مَأْخُوذ من
النَّص وَإِن كَانَ قد يتَوَصَّل إِلَى ذَلِك بِضَرْب من
الِاسْتِدْلَال
على أَنه لَو كَانَ هَذَا دَلِيلا على منع التَّعَبُّد
بِالْقِيَاسِ لوَجَبَ أَن يَجْعَل ذَلِك دَلِيلا على إبِْطَال
التَّعَبُّد بِالِاجْتِهَادِ فِي الظَّوَاهِر وترتيب
الْأَدِلَّة بَعْضهَا على بعض ولوجب أَن يبطل أَيْضا
الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة فَيُقَال إِن طَرِيق التَّكْلِيف
الْمصلحَة وَرُبمَا أَخطَأ الْمصلحَة فِي هَذَا كُله فَيجب أَن
لَا يجوز الِاجْتِهَاد وَلما جَازَ ذَلِك بِالْإِجْمَاع دلّ
على بطلَان مَا قَالُوهُ
قَالُوا لَو كَانَ فِي الشَّرْع عِلّة تَقْتَضِي الحكم لتَعلق
الحكم بِمَا قبل الشَّرْع
(1/420)
وَبعده كَمَا نقُول فِي العقليات وَلما
وجدنَا هَذِه الْمعَانِي مَوْجُودَة قبل الشَّرْع وَلَا توجب
الحكم دلّ على أَنه لَا توجب بعده
قُلْنَا هَذَا يبطل بِهِ إِذا نَص عَلَيْهَا وأمرنا
بِالْقِيَاسِ فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي الحكم قبل الشَّرْع
وتقتضيه بعد الشَّرْع
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي الشَّرْع علل توجب الحكم
لوَجَبَ أَن يُوجد الحكم بوجودها وَيَزُول بزوالها كَمَا نقُول
فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة وَلما ثَبت أَنه يجوز أَن ترْتَفع
الْعلَّة وَيبقى الحكم دلّ على أَنَّهَا لَا توجب
قُلْنَا علل الْعقل مُوجبَة للْأَحْكَام لأنفسها فَلَا يجوز
أَن ترْتَفع وَحكمهَا بَاقٍ وَعلل الشَّرْع إِنَّمَا صَارَت
عللا بِالْوَضْعِ فوزانها من العقليات مَا كَانَت عللا
بِالْوَضْعِ مثل أَن تَقول اضْرِب من كَانَ خَارج الدَّار
فَيجوز أَن ترْتَفع هَذِه الْعلَّة وَيبقى حكمهَا
وَلِأَن علل الْعقل مُوجبَة للْأَحْكَام بالكون فَلَا يجوز أَن
تفارق معلولاتها كالحياة فِي إِيجَاب كَون الشَّخْص حَيا وَعلل
الشَّرْع أَمَارَات على الْأَحْكَام فَجَاز أَن تفارق
أَحْكَامهَا كالنطق فِي الدّلَالَة على كَون الشَّخْص حَيا
فَإِنَّهُ لَو كَانَ أَمارَة جَازَ أَن يَزُول ذَلِك وَتبقى
الْحَيَاة
قَالُوا لَو جَازَ أَن تعلم الْأَحْكَام بِالْقِيَاسِ لجَاز
أَن يعلم مَا يكون بِالْقِيَاسِ فَلَمَّا لم يجز هَذَا لم يجز
ذَلِك
قُلْنَا لَو نصب على ذَلِك دَلِيل لجَاز أَن يعلم وَلِهَذَا
جَوَّزنَا الْعلم باقتراب السَّاعَة بِمَا نصب عَلَيْهَا من
الأمارات والدلائل وَإِن كَانَ ذَلِك على مَا يكون فِي
الْمُسْتَقْبل فَسقط مَا قَالُوهُ
قَالُوا الْقيَاس فعل القائس ومصالح الْعباد لَا يجوز أَن
تتَعَلَّق بِفعل القائس
قُلْنَا لَو كَانَ هَذَا دَلِيلا فِي إبِْطَال الْقيَاس فِي
الشَّرْع لوَجَبَ أَن يَجْعَل دَلِيلا فِي إبِْطَال الْقيَاس
فِي الْعقل فَيُقَال إِن الْقيَاس فعل الْإِنْسَان وحقائق
الْأُمُور لَا يجوز أَن تتَعَلَّق بِفعل الْإِنْسَان فَيجب أَن
يبطل ذَلِك وَلما صَحَّ ذَلِك بَطل مَا قَالُوهُ
(1/421)
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ هَذَا صَحِيحا
لوَجَبَ أَن لَا يجوز الِاجْتِهَاد فِي الظَّوَاهِر وَلَا فِي
طلب الْقبْلَة لِأَن ذَلِك فعل الْمُجْتَهد فَلَا يجوز أَن
تتَعَلَّق بِهِ مصَالح الْمُكَلّفين
قَالُوا وَلِأَن أَحْكَام الشَّرْع وأدلتها تتَعَلَّق بِقصد
المتعبد وَيجوز أَن يُخَالف المتعبد بَين الْأَحْكَام مَعَ
الِاتِّفَاق فِي الْمعَانِي ويوافق بَينهَا مَعَ الِاخْتِلَاف
فِي الْمعَانِي فَإِذا جَازَ هَذَا لم يجز أَن يُوَافق بَين
الْأَحْكَام لِاتِّفَاق الْمعَانِي إِلَّا بِأَن ينص لَهُ على
ذَلِك وَمَتى ورد النَّص اسْتغنى عَن الْقيَاس
قُلْنَا الْأَحْكَام تتَعَلَّق بِقصد المتعبد كَمَا قُلْتُمْ
وَلَكِن قَصده يعلم مرّة بالأسامي وَمرَّة بالمعاني
وَالظَّاهِر أَنه إِذا اتّفقت الْمعَانِي أَن تتفق الْأَحْكَام
كَمَا إِذا اتّفقت الْأَسَامِي اتّفقت الْأَحْكَام فَلَو كَانَ
جَوَاز اختلافها مَانِعا من الْجمع لمنع ذَلِك من التَّسْوِيَة
بَين الْأَسْمَاء المتفقة بِجَوَاز اختلافها فِي الحكم وَلما
بَطل أَن يُقَال هَذَا فِي الْأَسْمَاء بَطل ذَلِك فى
الْمعَانِي
قَالُوا وَلِأَن الْعلم بِالْقِيَاسِ يُؤَدِّي إِلَى مناقضة
الْأَحْكَام فَإِن الْفَرْع إِذا تجاذبه أصلان وَأخذ شبها من
كل وَاحِد مِنْهُمَا وَجب إِلْحَاقه بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا
بِحَق الشّبَه وَذَلِكَ متناقض
قُلْنَا فَيجب أَن لَا يجوز الْقيَاس فِي العقليات لِأَن فِي
أَحْكَام الْعقل مَا يتجاذبه أصلان فَيُؤَدِّي الْقيَاس إِلَى
التَّنَاقُض لِأَنَّهُ إِذا تجاذبه أصلان ألحقناه بأشبههما
وأقربهما إِلَيْهِ فَلَا يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاقُض
قَالُوا الْقيَاس أدنى البيانين فَلَا يجوز مَعَ إِمْكَان
أظهرهمَا أَن يقْتَصر على الْأَدْنَى
قُلْنَا يجوز أَن يفعل ذَلِك ليتوفر الْأجر فِي الِاجْتِهَاد
وَيكثر الثَّوَاب فِي الطّلب
ثمَّ هَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يكون فِي الشَّرْع مُجمل وَلَا
متشابه فَإِن الْمفصل الْمُحكم أظهر فِي الْبَيَان وَفِي
علمنَا بِجَوَاز ذَلِك دَلِيل على بطلَان مَا ذَكرُوهُ
(1/422)
وَاحْتج النظام بِأَن الشَّرْع ورد على
وُجُوه لَا يجوز الْقيَاس مَعهَا وَذَلِكَ أَنه ورد بالتفرقة
بَين المتساويين والتسوية بَين المتفرقين
أَلا ترى أَنه أَبَاحَ النّظر إِلَى وَجه الْمَرْأَة وَحرم
النّظر إِلَى صدرها مَعَ تساويهما
وَأسْقط الصَّلَاة عَن الْحَائِض وَأوجب عَلَيْهَا قَضَاء
الصَّوْم مَعَ اتقاقهما
وأجب الْغسْل من الْمَنِيّ وَهُوَ طَاهِر وأسقطه فِي الْبَوْل
وَهُوَ نجس
وَهَذَا كُله مُخَالف لموجب الْقيَاس
فَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذَا لَو كَانَ يُوجب إبِْطَال الْقيَاس
فِي الشرعيات لوَجَبَ أَن يُوجب بطلَان الْقيَاس فِي العقليات
فَيُقَال إِن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى الْجمع بَين المتفرقين
والتفرقة بَين المتساويين ثمَّ لم يمْنَع ذَلِك صِحَة الْقيَاس
فِيهَا
على أَنا لَا نسلم مَا ذَكرُوهُ فَإِنَّهُ مَا افترق حكم
متشابهين إِلَّا لافتراقهما فِي معنى يُوجب الْفرق بَينهمَا
وَلَا اسْتَوَى حكم مفترقين إِلَّا لتساويهما فِي معنى يُوجب
التَّسْوِيَة بَينهمَا
فَأَما إِبَاحَة النّظر إِلَى وَجه الْمَرْأَة فَلِأَن
الْحَاجة تَدْعُو إِلَى ذَلِك فِي الْمُعَامَلَات والشهادات
وَغير ذَلِك وَهَذِه الْحَاجة لَا تُوجد فِي الصَّدْر وَغَيره
وَأما إِسْقَاط الصَّلَاة عَن الْحَائِض فَإِنَّمَا تسْقط
لِأَن الصَّلَوَات تكْثر فَلَو أَوجَبْنَا عَلَيْهَا الْقَضَاء
إِذا طهرت أدّى إِلَى الْمَشَقَّة وَالصَّوْم فِي السّنة مرّة
فَلَا يشق إِيجَاب قَضَائِهِ
وَأما إِيجَاب الْغسْل من الْمَنِيّ فَلِأَنَّهُ يلتذ بِهِ
جَمِيع الْبدن وَهَذَا الْمَعْنى لَا يُوجد فِي الْبَوْل
وَغَيره
وعَلى هَذَا الْمِثَال يجْرِي حَال كل متشابهين فرق بَينهمَا
الشَّرْع وكل مُتَفَرّقين سوى بَينهمَا فَسقط مَا قَالُوهُ
(1/423)
مَسْأَلَة 3
الْقيَاس طَرِيق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
وَذهب دَاوُد وَأهل الظَّاهِر إِلَى أَن الْقيَاس لَا يجوز فِي
الشَّرْع وَهُوَ قَول النظام والإمامية
(1/424)
لنا مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن قَالَ لَهُ بِمَ
تحكم قَالَ بِكِتَاب الله قَالَ فَإِن لم تَجِد فِي كتاب الله
قَالَ بِسنة رَسُول الله قَالَ فَإِن لم تَجِد فِي سنة رَسُول
الله قَالَ أجتهد رَأْيِي وَلَا آلو فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُول الله لما يرضاه
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدلَّ على جَوَاز
الِاجْتِهَاد وَصِحَّة الرَّأْي
فَإِن قيل هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يجوز أَن يثبت
بِهِ أصل من الْأُصُول
قيل هُوَ وَإِن كَانَ من أَخْبَار الْآحَاد إِلَّا أَن الْأمة
تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ فبعضهم يعْمل بِهِ وَبَعْضهمْ يتأوله
فَهُوَ كالخبر الْمُتَوَاتر
وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ إِثْبَات أَحْكَام الشَّرْع كلهَا من
تَحْلِيل وَتَحْرِيم وَإِيجَاب وَإِسْقَاط وَتَصْحِيح
وَإِبْطَال وَإِقَامَة الْحُدُود وَضرب الرّقاب بِخَبَر
الْوَاحِد فَلِأَن يثبت بِهِ الْقيَاس وَالْمَقْصُود بِهِ
إِثْبَات هَذِه الْأَحْكَام أولى
وَأَيْضًا إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
فَروِيَ عَن مَيْمُون بن مهْرَان أَنه قَالَ كَانَ أَبُو بكر
الصّديق رَضِي الله
(1/425)
عَنهُ إِذا ورد عَلَيْهِ حكم نظر فِي كتاب
الله فَإِن وجد فِيهِ مَا يقْضِي بِهِ قضى بِهِ وَإِن لم يجد
فِي كتاب الله نظر فِي سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَإِن وجد فِيهَا مَا يقْضِي بِهِ قضى بِهِ فَإِن أعياه
ذَلِك سَأَلَ النَّاس هَل علمْتُم أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قضى فِيهِ بِقَضَاء وَرُبمَا قَامَ إِلَيْهِ
الْقَوْم فَيَقُولُونَ قضى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا فَإِن لم يجد
سنة من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام جمع رُؤَسَاء النَّاس
وعلماءهم واستشارهم فَإِذا أجمع رَأْيهمْ على شَيْء قضى بِهِ
قَالَ وَكَانَ عمر يفعل ذَلِك
وَرُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه كتب إِلَى أبي مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ الْفَهم الْفَهم فِيمَا أدلي إِلَيْك مِمَّا
لَيْسَ فِي قُرْآن وَلَا سنة ثمَّ قس الْأُمُور عِنْد ذَلِك
واعرف الْأَمْثَال والأشباه ثمَّ اعمد فِيهَا إِلَى أحبها
إِلَى الله تَعَالَى وأشبهها بِالْحَقِّ وَهَذَا الْكتاب
تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ
وَرُوِيَ أَنه قَالَ لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إِنِّي
رَأَيْت فِي الْجد رَأيا فَاتبعُوني فَقَالَ لَهُ عُثْمَان أَن
نتبعك فرأيك سديد وَإِن نتبع رَأْي من كَانَ قبلك فَنعم ذُو
الرَّأْي الَّذِي كَانَ
وروى زَاذَان عَن عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ
سَأَلَني أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر عَن المخيرة فَقلت إِن
اخْتَارَتْ زَوجهَا فَهِيَ وَاحِدَة وَزوجهَا أَحَق بهَا وَإِن
اخْتَارَتْ نَفسهَا فَهِيَ وَاحِدَة بَائِنَة فَقَالَ لَيْسَ
كَذَلِك وَلَكِن إِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَهِيَ وَاحِدَة
وَهُوَ أَحَق بهَا فَبَايَعته على ذَلِك فَلَمَّا خلص الْأَمر
إِلَيّ وَعرفت أَنِّي
(1/426)
أسأَل عَن الْفروج عدت إِلَى مَا كنت أرى
فَقلت وَالله لأمر جامعت عَلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَتركت
رَأْيك لَهُ أحب إِلَيْنَا من رَأْي انْفَرَدت بِهِ فَضَحِك
وَقَالَ أما إِنَّه قد أرسل إِلَى زيد بن ثَابت وخالفني وإياه
وَقَالَ إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَهِيَ وَاحِدَة وَزوجهَا
أَحَق بهَا وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَهِيَ ثَلَاث
وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ كَانَ رَأْيِي ورأي أَمِير
الْمُؤمنِينَ عمر أَن لَا يُبَاع أُمَّهَات الْأَوْلَاد ثمَّ
رَأَيْت بعد بيعهنَّ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَة السَّلمَانِي
رَأْيك مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ أحب إِلَيْنَا من رَأْيك
وَحدك
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ فِي قصَّة بروع بنت
وأشق الأشجعية أَقُول فِيهَا برأيي فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن
الله تَعَالَى وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ فِي ديات الْأَسْنَان
لما قسمهَا عمر رَضِي الله عَنهُ على الْمَنَافِع فَقَالَ هلا
اعتبرتها بالأصابع عقلهَا سَوَاء وَإِن اخْتلفت مَنَافِعهَا
وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ أَلا لَا يَتَّقِي الله زيد بن
ثَابت يَجْعَل ابْن الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الْأَب
أَبَا
وَهَذَا كُله يدل على صِحَة الْقيَاس
فَإِن قيل يحْتَمل أَن يَكُونُوا أَرَادوا بِالرَّأْيِ
الِاجْتِهَاد وَالنَّظَر فِي مُوجب الْكتاب وَالسّنة
(1/427)
قيل هَذَا لَا يَصح لأَنا قد روينَا أَنهم
كَانُوا يجتهدون إِذا لم يَجدوا ذَلِك فِي الْكتاب وَالسّنة
وَلِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ صرح بِالْقِيَاسِ فِي كتاب أبي
مُوسَى الْأَشْعَرِيّ
وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود صرحا بِمَا لَا يحْتَمل غير
الْقيَاس وَالِاسْتِدْلَال
وَطَرِيقَة أُخْرَى جِهَة الْإِجْمَاع وَهُوَ أَن الصَّحَابَة
رَضِي الله عَنْهُم اخْتلفُوا فِي مسَائِل كَثِيرَة كالجد
والأخوة والخرقاء والمشتركة وَالْحرَام وَالْخيَار وَكَثُرت
أقاويلهم فِيهَا وسلكوا كلهم فِيهَا طَرِيق الْقيَاس
وَالِاجْتِهَاد حَتَّى إِن بَعضهم فِي مَسْأَلَة الْجد شبه
بِغُصْن شَجَرَة وَبَعْضهمْ شبه بالساقية وَهَذَا يدل على مَا
ذَكرْنَاهُ من صِحَة الْقيَاس
فَإِن قيل يجوز أَن يَكُونُوا قد حكمُوا فِيهَا بنصوص وَقعت
إِلَيْهِم واستصحبوا فِيهَا مُوجب الْعقل قبل وُرُود الشَّرْع
قيل لَا يجوز أَن يكون مَعَهم نُصُوص لِأَنَّهُ لَو كَانَ
مَعَهم فِي ذَلِك نَص لأظهروه عِنْد الْخلاف
وَأَيْضًا فَإنَّا روينَا أَنهم سلكوا فِيهَا طرق الِاجْتِهَاد
وَالْقِيَاس وَلَا يجوز أَن يَكُونُوا قضوا فِيهَا بِمُوجب
الْعقل لِأَن مَا قضوا فِيهِ لَيْسَ بِمُوجب الْعقل قبل وُرُود
الشَّرْع
(1/428)
ولأنا بَينا أَنهم تعلقوا فِيهِ
بِالْقِيَاسِ وَالرُّجُوع إِلَى النَّظَائِر
فَإِن قيل إِن كَانَ قد نقل عَنْهُم الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فقد
نقل عَنْهُم رد الْقيَاس والرأي
رُوِيَ عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ أَي سَمَاء
تُظِلنِي وَأي أَرض تُقِلني إِذا قلت فِي كتاب الله برأيي
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي
فَإِنَّهُم أَعدَاء السّنَن أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يعوها
فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فضلوا وأضلوا
وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام لَو كَانَ الدَّين
بِالْقِيَاسِ لَكَانَ بَاطِن الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من
ظَاهره
وَقَالَ ابْن سِيرِين أول من قَاس إِبْلِيس وَمَا عبدت
الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بالمقاييس
وَقَالَ مَسْرُوق إِنِّي لَا أَقيس شَيْئا بِشَيْء إِنِّي
أَخَاف أَن نزل قدمي
وَقَالَ أَبُو وَائِل لَا تجالسوا أهل الرَّأْي فَلَيْسَ لكم
أَن تتعلقوا بِمَا رويتم إِلَّا وَلنَا أَن نتعلق بِمَا روينَا
قُلْنَا إِنَّمَا ذموا الرَّأْي الْمُخَالف للسّنة وَيجب
عندنَا أَن ذَلِك مَذْمُوم يدل
(1/429)
عَلَيْهِ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله
عَنهُ قَالَ إِذا قلت فِي كتاب الله وَهَذَا يدل على أَن فِي
كتاب الله تَعَالَى حكم الْمَسْأَلَة
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يعوها
فَدلَّ على أَنهم عمِلُوا بِالْقِيَاسِ مَعَ وجود الْأَحَادِيث
وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام لكني رَأَيْت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمسح ظَاهره
وَابْن سِيرِين ذمّ قِيَاس إِبْلِيس وَكَانَ قِيَاسه مَعَ وجود
النَّص فَسقط مَا قَالُوهُ
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ
علم} وَقَوله تَعَالَى {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا
تعلمُونَ}
وَالْجَوَاب أَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ عمل بِمَا علمناه لِأَن
الدَّلِيل قد دلّ على صِحَّته وَصَارَ كالعمل بِشَهَادَة
الشَّاهِدين وَخبر الْوَاحِد وتقويم الْمُقَوّم فَإِن ذَلِك
كُله لما دلّ الدَّلِيل عَلَيْهِ كَانَ حكما لما علم فَكَذَلِك
هَاهُنَا
وعَلى أَن هَذَا نجعله حجَّة عَلَيْهِم فِي رد الْقيَاس
فَإِنَّهُم ردوا ذَلِك فأبطلوه من غير علم فَوَجَبَ أَن لَا
يجوز
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {إِن الظَّن لَا يُغني من الْحق
شَيْئا} وَالْقِيَاس ظن
(1/430)
وَالْجَوَاب أَن المُرَاد بذلك الظَّن
الَّذِي لَا يسْتَند إِلَى أَمارَة وَهُوَ الحدس والتخمين
وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَنا حكمنَا بِالظَّنِّ فِي
الشَّهَادَة والتقويم وَغير ذَلِك فَدلَّ على أَن المُرَاد مَا
قُلْنَاهُ
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء}
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} وَهَذَا
يدل على أَن الْأَحْكَام كلهَا مبينَة فِي الْكتاب وَلَيْسَ
فِيهَا مَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْقيَاس
وَالْجَوَاب هُوَ أَنا نقُول بِمُوجب الْآيَة وَأَنه أكمل
الدَّين وَلم يفرط فِي الْكتاب من شَيْء وَلَكِن الْقيَاس دلّ
عَلَيْهِ الْكتاب وأكمل بِهِ الدَّين كَمَا أَن مَا بَين
بالأخبار وَالْإِجْمَاع مِمَّا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وأكمل
بِهِ الدَّين
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء
فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَبِقَوْلِهِ {لَا تقدمُوا
بَين يَدي الله وَرَسُوله}
وَالْجَوَاب أَن الرُّجُوع إِلَى الْقيَاس رد إِلَى الله
وَإِلَى الرَّسُول فَإِن الْكتاب وَالسّنة دلا على وجوب
الْعَمَل بِهِ
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى أَبُو هُرَيْرَة أَن النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ تعْمل هَذِه الْأمة بُرْهَة بِكِتَاب
الله وبرهة بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبرهة
بِالرَّأْيِ فَإِذا فعلوا ذَلِك فقد ضلوا وَهَذَا نَص فِي
إبِْطَال الرَّأْي
وَالْجَوَاب أَن المُرَاد بِهِ الرَّأْي الْمُخَالف للنَّص
وَذَلِكَ عندنَا ضَلَالَة
(1/431)
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رُوِيَ عَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ سَتَفْتَرِقُ أمتِي
فرقا أعظمهم فتْنَة قوم يقيسون الْأُمُور بِالرَّأْيِ
وَالْجَوَاب عَنهُ مَا بَيناهُ من الرَّأْي الْمُخَالف لنَصّ
الْكتاب وَالسّنة
قَالُوا وَلِأَن إِثْبَات الْقيَاس لَا يَخْلُو إِمَّا أَن
يكون بِالْعقلِ أَو بِالنَّقْلِ وَلَا يجوز أَن يكون بِالْعقلِ
لِأَنَّهُ لَا مجَال لَهُ فِيهِ وَلَا يجوز أَن يكون
بِالنَّقْلِ لِأَن النَّقْل لَا يَخْلُو من أَن يكون تواترا
أَو آحادا وَلَا يجوز أَن يكون تواترا لِأَنَّهُ لَو كَانَ
فِيهِ تَوَاتر لعلمناه كَمَا علمْتُم وَلَا يجوز أَن يكون
آحادا لِأَنَّهُ من مسَائِل الْأُصُول وَلَا يجوز إثْبَاته
بِخَبَر الْوَاحِد كإثبات الصِّفَات وَغَيرهَا
قُلْنَا نقلب عَلَيْهِم هَذَا فِي إبِْطَال الْقيَاس فَنَقُول
لَا يَخْلُو إِبْطَاله إِمَّا أَن يكون بِالْعقلِ أَو
بِالنَّقْلِ وكل جَوَاب لَهُم عَن ذَلِك فَهُوَ جَوَابنَا
عَمَّا ألزمونا
ولأنا لَا نسلم أَن ذَلِك لَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد بل يجوز
إِثْبَات جَمِيع الْأَحْكَام الْمَقْصُودَة بِالْقِيَاسِ
بِخَبَر الْوَاحِد وَخَالف مَا ذَكرُوهُ من الصِّفَات لِأَن
هُنَاكَ أَدِلَّة تقطعه فَلم نعمل فِيهَا بِخَبَر الْوَاحِد
وَلَيْسَ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَّا مثل مَا فِي سَائِر
الْمسَائِل من الطّرق فَافْتَرقَا
وعَلى أَنا روينَا فِي ذَلِك أَخْبَارًا مُتَلَقَّاة
بِالْقبُولِ وَالْأَخْبَار المتلقاة بِالْقبُولِ بِمَنْزِلَة
التَّوَاتُر
قَالُوا وَلِأَن الْقيَاس إِنَّمَا يَصح إِذا ثبتَتْ عِلّة
الأَصْل وَأَنْتُم تقيسون الْفَرْع على الأَصْل من غير أَن
تثبت لكم عِلّة الأَصْل وَهَذَا لَا يجوز
قُلْنَا نَحن لَا نقيس حَتَّى تثبت عِلّة الأَصْل وَيقوم
الدَّلِيل على صِحَّتهَا
قَالُوا الْقيَاس عنْدكُمْ حمل الْفَرْع على الأَصْل بِضَرْب
من الشّبَه وَمَا من شَيْئَيْنِ يتفقان فِي وَجه من الشّبَه
إِلَّا ويفترقان فِي غَيره فَإِن وَجب إِلْحَاق أَحدهمَا
بِالْآخرِ لما بَينهمَا من الشّبَه وَجب الْفرق بَينهمَا لما
بَينهمَا من الْفرق وَلَيْسَ أحد الْأَمريْنِ بِأولى من الآخر
فَوَجَبَ التَّوَقُّف عَن الْقيَاس
(1/432)
وَالْجَوَاب أَنا نحمل الْفَرْع على
الأَصْل إِذا اتفقَا على عِلّة الحكم وَمَتى حصل الِاتِّفَاق
فِي الْعلَّة لم يُؤثر افتراقهما فِي غَيرهَا كَمَا إِذا اتّفق
شَيْئَانِ فِي العقليات فِي عِلّة الحكم وَجب الْجمع بَينهمَا
وَإِن افْتَرقَا فِي كثير من الْأَشْيَاء
قَالُوا وَلِأَن أَكثر مَا تدعون أَن تثبت لكم الْعلَّة
الَّتِي تعلق بهَا الحكم فِي الْمَنْصُوص وَثُبُوت ذَلِك لَا
يُوجب قِيَاس غَيره عَلَيْهِ حَتَّى يرد الدَّلِيل
بِالْقِيَاسِ
أَلا ترى أَن رجلا لَو قَالَ أعتقت فلَانا لِأَنَّهُ أسود لم
يجب عتق كل عبد لَهُ أسود
قُلْنَا إِذا ثَبت وجوب الْقيَاس فِي الْجُمْلَة وَعرف عِلّة
الحكم لم يفْتَقر فِي كل مَسْأَلَة إِلَى دَلِيل يدل على
الْقيَاس كَمَا إِذا ثَبت وجود الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد لم
يفْتَقر فِي كل مَسْأَلَة إِلَى دَلِيل يدل على وجوب الْعَمَل
بِهِ
وَيُخَالف هَذَا مَا ذَكرُوهُ من قَول الرجل أعتقت فلَانا
لِأَنَّهُ أسود لِأَنَّهُ تجوز عَلَيْهِ المناقضة فَجَاز أَن
يُنَاقض فِي علته وَصَاحب الشَّرْع لَا تجوز عَلَيْهِ المناقضة
فَإِذا وجدت علته وَجب أَن تطرد
قَالُوا وَلِأَن الْأَحْكَام مَأْخُوذَة من صَاحب الشَّرْع
وَهُوَ إِنَّمَا خاطبنا بلغَة الْعَرَب وَالْعرب لَا تعقل من
الْخطاب إِلَّا مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ فَأَما الْمعَانِي
والعلل فَلَا تعقلها فَيجب أَن يكون الحكم مَقْصُورا على مَا
يَقْتَضِيهِ الْخطاب
قُلْنَا لعمري إِن الْأَحْكَام مَأْخُوذَة من صَاحب الشَّرْع
وَأَنه خاطبنا بلغَة الْعَرَب غير أَنا لَا نسلم أَن الْعَرَب
لَا تعرف من اللَّفْظ إِلَّا مَا دلّ عَلَيْهِ صَرِيحه بل تعرف
مَا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ مرّة بِالصَّرِيحِ وَمرَّة بالتنبيه
وكل ذَلِك تعرفه وَلِهَذَا إِذا قَالَ لغيره إياك أَن تكلم
فلَانا عقل مِنْهُ الْمَنْع من ضربه
قَالُوا الْقيَاس إِنَّمَا يُرَاد عنْدكُمْ ليعلم بِهِ حكم مَا
لَا يعلم بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ عندنَا مَسْأَلَة إِلَّا
وَحكمهَا مَعْلُوم من جِهَة النَّص فَلَا يحْتَاج إِلَى
الْقيَاس
(1/433)
قُلْنَا هَذَا غلط فَإِن هَاهُنَا مسَائِل
لَا نَص فِيهَا وَلَا نَعْرِف حكمهَا إِلَّا من جِهَة الْقيَاس
من ذَلِك
أَن قتل الزنبور يجوز فِي الْحل وَالْحرم وَلَيْسَ فِيهِ نَص
وَإِنَّمَا عرف بِالْقِيَاسِ على الْعَقْرَب
وَمن ترك الصَّلَاة عَامِدًا وَجب عَلَيْهِ الْقَضَاء وَلَيْسَ
فِيهَا نَص وَإِنَّمَا عرف ذَلِك بِالْقِيَاسِ على النَّاسِي
والنائم
وَإِذا مَاتَت الْفَأْرَة فِي غير السّمن أَو مَاتَ السنور
ألقِي وَمَا حولهَا إِن كَانَ جَامِدا وأريق إِن كَانَ مَائِعا
وَلَيْسَ فِي ذَلِك نَص وَإِنَّمَا قيس على الْفَأْرَة تقع فِي
السّمن
وأمثال ذَلِك لَا يُحْصى كَثْرَة
فَإِن قيل إِنَّمَا حرمنا ذَلِك بِالْإِجْمَاع
قيل الْإِجْمَاع لَا يجوز أَن ينْعَقد من غير دَلِيل وَلَيْسَ
فِي هَذِه الْمسَائِل دَلِيل غير الْقيَاس فَدلَّ على أَن
الْإِجْمَاع انْعَقَد فِيهَا على الْقيَاس
قَالُوا لَو كَانَ الْقيَاس دَلِيلا لوَجَبَ أَن لَا يتْرك
لخَبر الْوَاحِد لِأَنَّهُمَا فِي إِيجَاب الظَّن وَاحْتِمَال
الشّبَه سَوَاء
قُلْنَا هما وَإِن اسْتَويَا فِيمَا ذكرْتُمْ إِلَّا أَن
الْقيَاس أدنى رُتْبَة مِنْهُ من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَنه مَأْخُوذ من وَجه فِيهِ من الشّبَه مثل مَا فِي
الَّذِي عَارضه
وَالثَّانِي أَن الْقيَاس فرع للمنصوص فِي الْجُمْلَة ولإثبات
الْفُرُوع مَعَ وجود الْأُصُول كَمَا لإِثْبَات النّظر
الْعقلِيّ مَعَ الضَّرُورِيّ
قَالُوا وَلِأَن القَوْل بِالْقِيَاسِ يُؤَدِّي إِلَى نَفْيه
وَذَلِكَ أَنه إِذا قَالَ لم يثبت
(1/434)
الحكم فِي الأَصْل وَجب أَن يكون الْفَرْع
مثله اعْتِبَارا بِالْأَصْلِ لم ينْفَصل عَمَّن قَالَ لَهُ لما
لم يثبت الحكم فِي الأَصْل إِلَّا من جِهَة النَّص وَجب أَن
يكون فِي الْفَرْع مثله اعْتِبَارا بِالْأَصْلِ فتكافأ
الْقَوْلَانِ فِي ذَلِك فَوَجَبَ أَن يبطل الْجَمِيع
وَالْجَوَاب هُوَ أَنه لَو كَانَ هَذَا طَرِيقا فِي إبِْطَال
إِثْبَات الْقيَاس فِي الشرعيات لوَجَبَ أَن يكون طَرِيقا فِي
إبِْطَال الْقيَاس فِي العقليات فَيُقَال لمن اسْتدلَّ بِهِ
إِذا كَانَ الْعقلِيّ كالضروري ثمَّ كَانَ الحكم فِي
الضَّرُورِيّ مستفادا بالحس وَجب أَن يكون فِي مَوضِع الْخلاف
مستفادا بالحس وَذَلِكَ يُوجب بطلَان الْقيَاس وَلما بَطل
هَذَا فِي الْقيَاس فِي العقليات بَطل ذَلِك فِي الْقيَاس فِي
الشرعيات
(1/435)
مَسْأَلَة 4
إِذا حكم صَاحب الشَّرْع بِحكم فِي عين وَنَصّ على علته وَجب
إِثْبَات الحكم فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ الْعلَّة وَهُوَ قَول
النظام والقاشاني والنهرواني وَغَيره من نفاة الْقيَاس وَهُوَ
مَذْهَب الْكَرْخِي
(1/436)
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز
إِجْرَاء الْعلَّة فِي كل مَوضِع وجدت حَتَّى يدل الدَّلِيل
على ذَلِك وَهُوَ قَول الْبَصْرِيّ من أَصْحَاب أبي حنيفَة
لنا هُوَ أَنه إِذا قَالَ لَا تَأْكُل السكر لِأَنَّهُ حُلْو
عقل مِنْهُ تَحْرِيم كل مَا هُوَ حُلْو وَإِذا قَالَ لَا
تَأْكُل الْعَسَل لِأَنَّهُ حَار عقل مِنْهُ تَحْرِيم كل مَا
كَانَ حارا وَلِهَذَا إِذا سمع النَّاس ذَلِك من رجل ثمَّ لم
يطردوه أَسْرعُوا إِلَى مناقضته فَدلَّ على أَن مُقْتَضَاهُ
الطَّرْد والجريان
وَلِأَنَّهُ لَو لم يقْصد إِثْبَات الحكم فِي كل مَوضِع وجدت
فِيهِ الْعلَّة لم يفد ذكر التَّعْدِيل شَيْئا وَصَارَ لَغوا
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْأَحْكَام إِنَّمَا شرعت لمصْلحَة
الْمُكَلّفين فَيجوز أَن تكون حلاوة السكر تَدْعُو الْإِنْسَان
إِلَى تنَاوله وحلاوة غَيره لَا تَدْعُو إِلَى تنَاوله لِأَن
الدَّاعِي إِذا دَعَا إِلَى شَيْء لَا يجب أَن يَدْعُو إِلَى
كل مَا شَاركهُ فِي ذَلِك الْمَعْنى وَلِهَذَا يجوز أَن
تَدعُوهُ الشَّهْوَة إِلَى أكل السكر وَلَا تَدعُوهُ إِلَى أكل
الْعَسَل وَإِن اشْتَركَا فِي الْحَلَاوَة فَإِذا كَانَ ذَلِك
كَذَلِك جَازَ أَن يُعلل تَحْرِيم السكر فِي الْحَلَاوَة لما
فِي تَحْرِيمه من
(1/437)
الْمصلحَة إِلَّا أَنه جعله أَمارَة على
التَّحْرِيم حَيْثُ وجدت فَلَا يجوز قِيَاس غَيره عَلَيْهِ
إِلَّا بِدَلِيل
قُلْنَا لَو كَانَ الْقَصْد بِهِ مَا ذكرْتُمْ لاقتصر على
بَيَان الحكم وَلما ذكر الحكم وعلته دلّ على أَنه قصد إجراءها
حَيْثُ وجدت
قَالُوا لَو كَانَ ذكر التَّعْلِيل فِي شَيْء يَقْتَضِي
الطَّرْد والجريان لوَجَبَ إِذا قَالَ الرجل أعتقت عَبدِي
فلَانا لِأَنَّهُ أسود أَن يعْتق عَلَيْهِ كل عبد أسود وَلما
بَطل أَن يُقَال هَذَا دلّ على أَن ذكر الْعلَّة لَا يَقْتَضِي
الطَّرْد والجريان
وَلِأَنَّهُ لَو لم يقْصد إِثْبَات الحكم فِي كل مَوضِع وجدت
فِيهِ الْعلَّة لم يفد ذكر التَّعْدِيل شَيْئا وَصَارَ لَغوا
قُلْنَا إِنَّمَا لم يلْزم من ذَلِك فِي حق الْوَاحِد منا
لِأَنَّهُ تجوز عَلَيْهِ المناقضة فِي أَقْوَاله وأفعاله
فَأَما صَاحب الشَّرْع فَلِأَنَّهُ لَا تجوز عَلَيْهِ المناقضة
فِي أَقْوَاله وأفعاله فَإِذا علل بعلة وَجب طردها
قَالُوا وَلَكِن مَا جعل عِلّة فِي الحكم غير مُوجب للْحكم
بِنَفسِهِ لِأَنَّهُ قد كَانَ مَوْجُودا قبل ذَلِك وَلم يُوجد
الحكم
وَأَيْضًا صَار مُوجبا بِجعْل جَاعل فَيجب أَن لَا يكون عِلّة
إِلَّا حَيْثُ جعلهَا عِلّة
قُلْنَا لَو كَانَ هَذَا صَحِيحا لوَجَبَ أَن لَا يكون عِلّة
إِلَّا فِي الزَّمَان الَّذِي جعله فِيهِ عِلّة لِأَنَّهُ صَار
عِلّة بجعله فَيجب أَن يكون مَقْصُورا على الزَّمَان الَّذِي
جعله فِيهِ عِلّة وَلما لم يَصح أَن يُقَال هَذَا فِي
الزَّمَان لم يَصح أَن يُقَال ذَلِك فِي الْأَعْيَان
قَالُوا لَو كَانَ ذكر الْعلَّة فِي عين يُوجب ثُبُوت الحكم
فِي كل عين لوَجَبَ إِذا قَالَ حرمت السكر لحلاوته وأحللت
الْعَسَل أَن يكون ذَلِك مناقضة فَلَمَّا جَازَ أَن يَقُول
ذَلِك وَلم يقبح دلّ على أَن الْعلَّة لَا تَقْتَضِي الطَّرْد
(1/438)
قُلْنَا إِذا قَالَ حرمت السكر لِأَنَّهُ
حُلْو فَالظَّاهِر أَن ذَلِك جَمِيع الْعلَّة فَإِذا قَالَ بعد
ذَلِك وأحللت الْعَسَل علمنَا أَنه ذكر بعض الْعلَّة وَأَنه
أَرَادَ الْحَلَاوَة مَعَ الْجِنْس وَلَيْسَ إِذا حمل اللَّفْظ
على غير الظَّاهِر بِدلَالَة اقترنت بِهِ دلّ على بطلَان
ظَاهره إِذا تجرد
(1/439)
مَسْأَلَة 5
يجوز إِثْبَات الْحُدُود وَالْكَفَّارَات والمقدرات
بِالْقِيَاسِ
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة لَا يجوز
لنا مَا رُوِيَ عَن معَاذ أَنه قَالَ للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم حِين بَعثه إِلَى الْيمن أجتهد رَأْيِي فصوبه
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك وَلم يفرق بَين
هَذِه الْأَحْكَام وَبَين غَيرهَا
(1/440)
وَلِأَنَّهُ حكم لَيْسَ فِيهِ دَلِيل قَاطع
فَجَاز إثْبَاته بِالْقِيَاسِ أَصله سَائِر الْأَحْكَام
وَلِأَن كل دَلِيل ثَبت فِيهِ غير هَذِه الْأَحْكَام ثَبت
فِيهِ هَذِه الْأَحْكَام كَخَبَر الْوَاحِد
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن الْقيَاس فِي معنى خبر الْوَاحِد أَلا
ترى أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يَقْتَضِي الحكم من طَرِيق الظَّن
وَيجوز السَّهْو وَالْخَطَأ فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا وَإِذا
جَازَ إِثْبَات هَذِه الْأَحْكَام بِخَبَر الْوَاحِد جَازَ
إِثْبَاتهَا بِالْقِيَاسِ
وَلِأَنَّهُم أوجبوا الْكَفَّارَة على الْأكل فِي رَمَضَان
قِيَاسا على المجامع
وأوجبوا الْحَد فِي الْمُحَاربَة قِيَاسا على الردء فِي
اسْتِحْقَاق الْغَنِيمَة فَدلَّ على جَوَاز ذَلِك
فَإِن قيل الْكَفَّارَة فِي رَمَضَان وَاجِبَة بِالْإِجْمَاع
وَكَذَلِكَ الْحَد فِي الْمُحَاربَة وَإِنَّمَا أثبتنا موضعهَا
بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ جَائِز وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يجوز
إِيجَاب ذَلِك فِي غير الْبَاب الَّذِي ثَبت فِيهِ كإيجاب
الْقطع على المختلس وَالْحَد على اللائط
قيل هُوَ وَإِن كَانَ إِيجَابا فِي الْبَاب الَّذِي وَجب فِيهِ
إِلَّا أَن الْمَانِع عِنْدهم من إِيجَاب ذَلِك بِالْقِيَاسِ
هُوَ أَن مِقْدَار المأثم وَمَا يفْتَقر إِلَى الْحَد فِي
الردع لَا يدْرك بِالْقِيَاسِ وَلَا يُعلمهُ إِلَّا الله
تَعَالَى وَهَذَا مَوْجُود فِيمَا ألزمناهم فَيجب أَن لَا
يُقَاس فِيهِ
فَإِن قيل نَحن لم نوجب ذَلِك بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا أوجبناه
بالتنبيه وَالِاسْتِدْلَال بِالْأولَى فَإِن مأثم الْأكل أَكثر
من مأثم الْجِمَاع فَإِذا وَجَبت الْكَفَّارَة فِي الْجِمَاع
فَفِي الْأكل أولى
(1/441)
قيل الِاسْتِدْلَال بِالْأولَى لَا يُوجد
فِي إِيجَاب الْحَد على الردء لِأَن الردء لَيْسَ بِأَكْثَرَ
إِثْمًا من الْمُبَاشرَة وَقد أوجبتموه
وعَلى أَن مثل هَذَا مَوْجُود فِي اللواط فَإِن إثمه أعظم من
مأثم الزِّنَا لِأَنَّهُ لَا يستباح بِحَال وَقد منعتم من
إِيجَاب الْحَد فِيهِ بِالْقِيَاسِ على الزِّنَا
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْحَد شرع للزجر والردع عَن الْمعاصِي
وَالْكَفَّارَة وضعت لتكفير المأثم وَمَا يَقع بِهِ الردع
والزجر من الْمعاصِي وَيتَعَلَّق بِهِ التَّكْفِير عَن المأثم
لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى فَكَذَلِك اخْتِصَاص الحكم
بِقدر دون قدر لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى وَلَا يجوز
إِثْبَات شَيْء من ذَلِك بِالْقِيَاسِ
الْجَواب هُوَ أَن هَذَا لَو كَانَ طَرِيقا فِي نفي الْقيَاس
فِي هَذِه الْأَحْكَام لوَجَبَ أَن يَجْعَل مثل ذَلِك طَرِيقا
فِي نفي الْقيَاس فِي سَائِر الْأَحْكَام كَمَا فعله نفاة
الْقيَاس فَقَالُوا إِن الْأَحْكَام شرعت لمصْلحَة
الْمُكَلّفين والمصلحة لَا يعلمهَا إِلَّا الله تَعَالَى فَيجب
أَن لَا يعْمل فِيهَا بِالْقِيَاسِ وَلما بَطل هَذَا فِي نفي
الْقيَاس فِي سَائِر الْأَحْكَام بَطل فِي نفي الْقيَاس فِي
هَذِه الْأَحْكَام
على أَنا إِنَّمَا نقيس إِذا علمنَا معنى الأَصْل بِدَلِيل
وَإِذا ثَبت ذَلِك بِالدَّلِيلِ صَار بِمَنْزِلَة التَّوْقِيف
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْقيَاس مَوضِع شُبْهَة لِأَنَّهُ
إِلْحَاق فرع بأشبه الْأَصْلَيْنِ فَيكون الأَصْل الآخر
شُبْهَة فَلَا يجوز إِيجَاب الْحَد مَعَ الشُّبُهَات
وَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذَا يبطل بِخَبَر الْوَاحِد وَشَهَادَة
الشُّهُود فَإِنَّهَا لموْضِع شُبْهَة لِأَنَّهُ يجوز الْخَطَأ
والسهو فِيهَا ثمَّ يجوز إِثْبَات الْحُدُود بهما
وعَلى أَنا إِنَّمَا نوجب إِذا ترجح أحد الْأَصْلَيْنِ فَيبْطل
الأَصْل الآخر وَيصير وجوده كَعَدَمِهِ
ثمَّ هَذَا يبطل بِإِيجَاب ذَلِك فِي الْبَاب الَّذِي وضع
فِيهِ فَإِنَّهُم جوزوه بِالْقِيَاسِ وَإِن كَانَ مَوضِع
شُبْهَة
(1/442)
مَسْأَلَة 6
يجوز ابْتِدَاء الْأَحْكَام بِالْقِيَاسِ وَإِن لم يكن
عَلَيْهَا نقل فِي الْجُمْلَة
وَقَالَ أَبُو هَاشم لَا يجوز أَن يثبت بِالْقِيَاسِ إِلَّا
مَا نَص عَلَيْهِ بِالْجُمْلَةِ ثمَّ يثبت تَفْصِيله
بِالْقِيَاسِ
لنا قَول معَاذ بن جبل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجتهد
رَأْيِي وَلم يفصل بَين إِثْبَات الْجُمْلَة وَبَين إِثْبَات
التَّفْصِيل
وَلِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم ابتدؤوا الحكم فِي
قَوْلهم أَنْت حرَام بِالْقِيَاسِ وَإِن لم يكن مَنْصُوصا
عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة وَلِأَن كل حكم جَازَ إثْبَاته
بِخَبَر الْوَاحِد جَازَ إثْبَاته بِالْقِيَاسِ كَالْحكمِ فِي
التَّفْصِيل
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو كَانَ إِثْبَات الْجمل
بِالْقِيَاسِ لجَاز إِثْبَات صَلَاة سادسة بِالْقِيَاسِ
فَلَمَّا لم يجز ذَلِك بِالْإِجْمَاع دلّ على أَنه لَا يجوز
إِثْبَات الْجمل بِالْقِيَاسِ
وَالْجَوَاب أَن الْقيَاس فِيمَا ذَكرُوهُ إِنَّمَا لم يَصح
لِأَنَّهُ يُخَالف النَّص وَالْإِجْمَاع وَلَيْسَ إِذا لم يَصح
الْقيَاس عِنْد مُخَالفَة النَّص وَالْإِجْمَاع لم يَصح مَعَ
عدم مخالفتهما
أَلا ترى أَن الْقيَاس فِي أَحْكَام التَّفْصِيل إِذا خَالف
النَّص وَالْإِجْمَاع لم يَصح ثمَّ لَا يدل على أَنه لَا يَصح
مَعَ عدم الْمُخَالفَة فَكَذَلِك هَاهُنَا
(1/443)
مَسْأَلَة 7
يجوز إِثْبَات الْأَسَامِي بِالْقِيَاسِ فِي قَول كثير من
أَصْحَابنَا
وَمِنْهُم من قَالَ لَا يجوز وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَكثير
من الْمُتَكَلِّمين
لنا أَنا رَأينَا الْعَرَب قد سموا أعيانا بأسامي كالإنسان
وَالْفرس وَالْحمار وَغير ذَلِك ثمَّ انقرضوا وانقرضت تِلْكَ
الْأَعْيَان واتفقت النَّاس على تَسْمِيَة أَمْثَالهَا
بِتِلْكَ الْأَسْمَاء فَدلَّ على أَنهم قاسوا على المسموع
(1/444)
فَإِن قيل لَيْسَ هَذَا من جِهَة الْقيَاس
وَإِنَّمَا هُوَ من جِهَة الْوَضع فَإِنَّهُم وضعُوا هَذِه
الْأَسْمَاء لهَذِهِ الْأَجْنَاس
قُلْنَا لم يحفظ عَنْهُم أَنهم قَالُوا إِن هَذِه الْأَسْمَاء
لهَذِهِ الْأَجْنَاس وَلَا سَبِيل لأحد إِلَى نقل ذَلِك
عَنْهُم فَسقط مَا قَالُوهُ
وَأَيْضًا هُوَ أَن أهل النَّحْو أَجمعُوا على أَن كل فَاعل
مَرْفُوع وكل مفعول بِهِ مَنْصُوب وَلم يسمع ذَلِك من الْعَرَب
وَإِنَّمَا عرف ذَلِك بِالْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَال وَذَلِكَ
أَنهم لما استمروا فِي كل فَاعل ذَكرُوهُ على الرّفْع وَفِي كل
مفعول على النصب علم أَنهم إِنَّمَا رفعوا فِي مَوضِع الرّفْع
لكَونه فَاعِلا ونصبوا فِي مَوضِع النصب لكَونه مَفْعُولا
فحملوا عَلَيْهِ كل فَاعل وكل مفعول قِيَاسا فَهَكَذَا فعلوا
فِي جَمِيع وُجُوه الْإِعْرَاب فَدلَّ على مَا ذَكرْنَاهُ
وَلِأَن الطَّرِيق الَّذِي يعلم بِهِ الحكم من جِهَة الْقيَاس
هُوَ أَن ينظر القائس فِيمَا تعلق بِهِ الحكم من النُّصُوص
ويستدل عَلَيْهِ بالسلب والوجود ثمَّ يجد ذَلِك فِي غَيره
فَيحمل عَلَيْهِ وَهَذَا مَوْجُود فِي الِاسْم فَإنَّا إِذا
رَأينَا عصير الْعِنَب قبل الشدَّة لَا نُسَمِّيه خمرًا ثمَّ
تحدث الشدَّة فيسمى خمرًا ثمَّ تَزُول الشدَّة فَلَا يُسمى
خمرًا علمنَا أَن الْمُوجب لهَذِهِ التَّسْمِيَة وجود الشدَّة
المطربة وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي النَّبِيذ فَيجب أَن
يُسمى خمرًا
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا}
وَقيل فِي الْخَبَر أَنه علمه حَتَّى الْقَصعَة والقصيعة
فَدلَّ على أَن الرُّجُوع فِي الْأَسْمَاء إِلَى التَّوْقِيف
قُلْنَا لَيْسَ فِيهِ أَنه علمه كلهَا بِالنَّصِّ وَيجوز أَن
يكون قد علمه الْبَعْض بِالنَّصِّ وَالْبَعْض بالتنبيه
وَالْقِيَاس
وعَلى أَن هَذَا خَاص لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام وَيجوز أَن
يكون قد علمه ذَلِك كُله نصا وَنحن نعرفه قِيَاسا
قَالُوا وَلِأَنَّهُ مَا من شَيْء إِلَّا وَله اسْم فِي
اللُّغَة فَلَا يجوز أَن يثبت لَهُ اسْم آخر
(1/445)
بِالْقِيَاسِ كَمَا إِذا ثَبت للشَّيْء حكم
بِالنَّصِّ لَا يجوز أَن يثبت لَهُ حكم آخر بِالْقِيَاسِ
قُلْنَا الْأَحْكَام تتنافى فَإِذا ثَبت للشَّيْء حكم لم يجز
أَن يثبت لَهُ حكم آخر يُخَالِفهُ والأسماء لَا تتنافى فَيكون
للشَّيْء اسْم وَيجْعَل لَهُ اسْم آخر يدلك عَلَيْهِ أَنه يجوز
أَن يكون للشَّيْء الْوَاحِد اسمان وَثَلَاثَة وَأكْثر من
طَرِيق التَّوْقِيف وَلَا يجوز أَن يكون للشَّيْء الْوَاحِد
حكمان متضادان من طَرِيق النَّص فَافْتَرقَا
قَالُوا الْقيَاس إِنَّمَا يَصح فِي اللُّغَة إِذا ثَبت أَنهم
وضعُوا ذَلِك على الْمَعْنى ثمَّ أذنوا فِي الْقيَاس عَلَيْهِ
وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَى إثْبَاته فَيجب أَن لَا يَصح
الْقيَاس فِيهَا
قُلْنَا نَحن إِنَّمَا نقيس فِيمَا وضعُوا على الْمَعْنى
وَذَلِكَ يعلم باستقراء كَلَامهم واستمرارهم فِي الشَّيْء على
طَريقَة وَاحِدَة فَيعلم بذلك قصدهم كَمَا يعلم قصد صَاحب
الشَّرْع
وَأما الْإِذْن فَلَا يحْتَاج إِلَيْهِ مَعَ الْعلم
بِالْمَعْنَى إِذْ لَا فرق بَين أَن يَقُول سميتها خمرًا للشدة
المطربة وَبَين أَن يَقُول كل شَدِيد مطرب فَهُوَ خمر
قَالُوا وَلِأَن الِاسْم لم يوضع على الْقيَاس أَلا ترى أَنهم
خالفوا بَين المتشاكلين فِي الِاسْم فسموا الْفرس الْأسود أدهم
وَلم يسموا الْحمار الْأسود أدهم ويسمون الْفرس الْأَبْيَض
أَشهب وَلم يسموا الْحمار الْأَبْيَض أَشهب فَدلَّ على أَنه
لَا مجَال للْقِيَاس فِيهِ
قُلْنَا لَو كَانَ هَذَا طَرِيقا فِي إبِْطَال الْقيَاس فِي
الْأَسَامِي فِي اللُّغَة لَكَانَ طَرِيقا فِي إبِْطَال
الْقيَاس فِي الشرعيات فَيُقَال إِنَّهَا وضعت على غير
الْقيَاس أَلا ترى أَنه فرق بَين المتشاكلين وَهُوَ الْمَذْي
والمني فَأوجب الْغسْل بِأَحَدِهِمَا دون الآخر فَيجب أَن يبطل
الْقيَاس وَلما بَطل هَذَا فِي الشرعيات بَطل مَا قَالُوهُ فِي
الْأَسْمَاء واللغات
قَالُوا لَو جَازَ إِثْبَات الْأَسْمَاء المشتبهة بِالْقِيَاسِ
لجَاز إِثْبَات الألقاب وَلما لم يجز ذَلِك لم يجز هَذَا
قُلْنَا الألقاب لم تُوضَع على الْمَعْنى وَلَا يُمكن قِيَاس
غَيرهَا عَلَيْهَا والمشتقة وضعت على الْمَعْنى فَأمكن قِيَاس
غَيرهَا عَلَيْهَا فَافْتَرقَا
(1/446)
مَسْأَلَة 8
يجوز إِثْبَات الْقيَاس على مَا ثَبت بِالْإِجْمَاع
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا لَا يجوز إِلَّا على مَا ثَبت
بِالْكتاب وَالسّنة
لنا هُوَ أَن الْإِجْمَاع أصل فِي إِثْبَات الْأَحْكَام فَجَاز
الْقيَاس على مَا ثَبت بِهِ كالنص
وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ الْقيَاس على مَا ثَبت بِخَبَر
الْوَاحِد وَهُوَ مظنون فَلِأَن يجوز على مَا ثَبت
بِالْإِجْمَاع وَهُوَ مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ أولى
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْأمة لَا تشرع وَإِنَّمَا تجمع عَن
دَلِيل فَيجب طلب ذَلِك الدَّلِيل فَإِنَّهُ رُبمَا يكون لفظا
يتَنَاوَل الْفَرْع فيغني عَن الْقيَاس وَرُبمَا كَانَ معنى
لَا يتَعَدَّى مَوضِع الْإِجْمَاع فَيمْنَع الْقيَاس
قُلْنَا لَا حَاجَة بِنَا إِلَى النّظر فِي الدَّلِيل
لِأَنَّهُ إِن كَانَ الدَّلِيل نطقا بَينا بتناول الْفَرْع لم
يمْنَع ذَلِك من الْقيَاس لِأَن أَكثر مَا فِيهِ أَن يكون قد
اسْتدلَّ فِي الْمَسْأَلَة بِالْقِيَاسِ مَعَ إِمْكَان
الِاسْتِدْلَال بِالنَّصِّ وَذَلِكَ جَائِز وَإِن كَانَ
الدَّلِيل معنى لَا يتَعَدَّى مَوضِع الْإِجْمَاع لم يمْنَع
أَيْضا الْقيَاس لِأَن الْإِجْمَاع عَن معنى لَا يتَعَدَّى لَا
يمْنَع أَن يكون هُنَاكَ معنى آخر يتَعَدَّى إِلَى الْفَرْع
فيقاس عَلَيْهِ وَإِذا لم يكن فِي وَاحِد من الْحَالين مَا
يمْنَع الْقيَاس لم يجب طلب الدَّلِيل
(1/447)
مَسْأَلَة 9
يجوز الْقيَاس على مَا ورد بِهِ الْخَبَر مُخَالفا للْقِيَاس
وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه أَصْحَاب أبي حنيفَة مَوضِع
الِاسْتِحْسَان
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة لَا يجوز إِلَّا أَن يرد الْخَبَر
مُعَللا أَو مجمعا على تَعْلِيله أَو هُنَاكَ أصل آخر
يُوَافقهُ فَيجوز الْقيَاس
لنا هُوَ مَا ورد بِهِ الْخَبَر أصل يجوز الْعَمَل بِهِ فَجَاز
أَن يستنبط مِنْهُ معنى وَيُقَاس
الدَّلِيل عَلَيْهِ إِذا لم يكن مُخَالفا للْقِيَاس
وَلِأَنَّهُ لَا خلاف أَن الْمَخْصُوص من الْعُمُوم يجوز
الْقيَاس عَلَيْهِ وَلَا يمْنَع مِنْهُ الْعُمُوم فَكَذَلِك
الْمَخْصُوص من الْأُصُول يجب أَن يجوز الْقيَاس عَلَيْهِ
وَلَا تمنع مِنْهُ الْأُصُول
(1/448)
وَلِأَن مَا ورد بِهِ الْخَبَر لَو نَص على
تَعْلِيله جَازَ الْقيَاس عَلَيْهِ فَإِذا ثَبت تَعْلِيله
بِدَلِيل من جِهَة الاستنباط وَجب أَن يجوز الْقيَاس عَلَيْهِ
لِأَن مَا ثَبت بِالدَّلِيلِ بِمَنْزِلَة الْمَنْصُوص عَلَيْهِ
وَأَيْضًا فَإِن مَا ورد بِهِ الْخَبَر أصل كَمَا أَن مَا ثَبت
بِالْقِيَاسِ أصل وَلَيْسَ رد هَذَا الأَصْل لمُخَالفَته ذَلِك
الأَصْل بِأولى من رد ذَلِك الأَصْل لمُخَالفَته هَذَا الأَصْل
فَوَجَبَ إِجْرَاء كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْقيَاس عَلَيْهِ
على مَا يَقْتَضِيهِ
وَاحْتَجُّوا بِأَن مَا ثَبت بِقِيَاس الْأُصُول مَقْطُوع بِهِ
وَمَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْقيَاس مظنون فَلَا يجوز إبِْطَال
الْمَقْطُوع بِهِ بِأَمْر مظنون
قُلْنَا هَذَا يبطل الْمَخْصُوص من عُمُوم الْقُرْآن بِخَبَر
الْوَاحِد فَإِنَّهُ يجوز الْقيَاس عَلَيْهِ وَإِن كَانَ فِيهِ
إبِْطَال مَقْطُوع بِهِ بِأَمْر مظنون وَيبْطل أَيْضا بالْخبر
إِذا ورد مُخَالفا لِلْأُصُولِ وَهُوَ مُعَلل فَإِنَّهُ يثبت
من طَرِيق الظَّن ثمَّ يُقَاس غَيره عَلَيْهِ وَيتْرك لَهُ
قِيَاس الْأُصُول الَّذِي طَرِيقه الْقطع
(1/449)
مَسْأَلَة 10
إِذا ثَبت الحكم فِي الْفَرْع بِالْقِيَاسِ على أصل جَازَ أَن
يَجْعَل هَذَا الْفَرْع أصلا لفرع آخر يُقَاس عَلَيْهِ بعلة
أُخْرَى فِي أحد الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَول أبي عبد الله
الْبَصْرِيّ من أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز وَهُوَ قَول أبي الْحسن
الْكَرْخِي
لنا هُوَ أَن الْفَرْع لما ثَبت الحكم بِهِ بِالْقِيَاسِ صَار
أصلا بِنَفسِهِ فَجَاز أَن يستنبط مِنْهُ معنى وَيُقَاس
عَلَيْهِ غَيره كالأصل الثَّابِت بِالنَّصِّ
(1/450)
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْعلَّة الَّتِي ثَبت
بهَا الحكم فِي الْفَرْع هُوَ الْمَعْنى الَّذِي انتزع من
الأَصْل وَقيس عَلَيْهِ الْفَرْع وَهَذَا الْمَعْنى غير
مَوْجُود فِي الْفَرْع الثَّانِي فَلَا يجوز إِثْبَات الحكم
فِيهِ بِالْقِيَاسِ
قُلْنَا لَيْسَ إِذا لم يُوجد فِي الْفَرْع الثَّانِي مَا ثَبت
بِهِ الحكم فِي الْفَرْع الأول لم يجز قِيَاسه عَلَيْهِ أَلا
ترى أَن مَا ثَبت بِهِ الحكم فِي الأَصْل من النَّص غير
مَوْجُود فِيمَا يُقَاس عَلَيْهِ وَلَا يمْنَع ذَلِك صِحَة
الْقيَاس عَلَيْهِ فَكَذَلِك هَاهُنَا يجوز أَن لَا يُوجد فِي
الْفَرْع الثَّانِي معنى الْفَرْع الأول ثمَّ يَصح الْقيَاس
عَلَيْهِ
قَالُوا ولأنكم إِذا عللتم السكر بِأَنَّهُ مطعوم فَيحرم فِيهِ
الرِّبَا كالبر ثمَّ عللتم السكر بِأَنَّهُ مَوْزُون وقستم
عَلَيْهِ الرصاص خَرجْتُمْ عَن أَن تكون الْعلَّة فِي السكر
أَنه مطعوم
قُلْنَا لَا يخرج عَن أَن يكون الطّعْم عِلّة فِيهِ بل الطّعْم
عِلّة فِيهِ وَالْوَزْن عِلّة وَيجوز أَن يثبت الحكم فِي
الْعين الْوَاحِدَة بعلتين
(1/451)
مَسْأَلَة 11
الْعلَّة الواقفة صَحِيحَة
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة هِيَ بَاطِلَة وَهُوَ قَول بعض
أَصْحَابنَا
لنا هُوَ أَن الْقيَاس أَمارَة شَرْعِيَّة فَجَاز أَن تكون
خَاصَّة وَعَامة
دَلِيله النَّص
وَلِأَن كل عِلّة جَازَ أَن تكون متعدية جَازَ أَن تكون واقفة
كَمَا لَو نَص عَلَيْهَا صَاحب الشَّرْع
وَلِأَن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة آكِد من الْعِلَل
الشَّرْعِيَّة بِدَلِيل أَن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة يعْتَبر
فِيهَا الطَّرْد وَالْعَكْس وَلَا تعْتَبر فِي الشَّرْعِيَّة
فَإِذا جَازَ أَن تكون الْعَقْلِيَّة واقفة فالشرعية بذلك أولى
(1/452)
وَاحْتَجُّوا بِأَن الواقفة لَا تفِيد
شَيْئا لِأَن حكمهَا ثَابت بِالنَّصِّ وَمَا لَا فَائِدَة
فِيهِ لم يكن لانتزاعه معنى
قُلْنَا يبطل بالواقفة إِذا نَص عَلَيْهَا فَإِنَّهَا لَا
تفِيد شَيْئا وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهَا تصح
وعَلى أَنَّهَا وَإِن لم تفد فِي فرع يلْحق بِأَصْل أفادت
بَيَان عِلّة الأَصْل وَوجه الْحِكْمَة وَالْمعْنَى الَّذِي
تتَعَلَّق بِهِ الْمصلحَة
وَأَيْضًا رُبمَا حدث فرع يُوجد فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى فَيلْحق
بِهِ
وَلِأَنَّهُ إِذا عرف أَن الْعلَّة واقفة على الأَصْل منع من
قِيَاس غَيره عَلَيْهِ كَمَا إِذا عرف أَنَّهَا متعدية
اسْتُفِيدَ بِهِ قِيَاس غَيره وَهَذِه فَائِدَة صَحِيحَة
(1/453)
مَسْأَلَة 12
يجوز أَن يَجْعَل الِاسْم عِلّة للْحكم
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز
وَمِنْهُم من قَالَ يجوز أَن يَجْعَل الِاسْم الْمُشْتَقّ
عِلّة وَلَا يجوز أَن يَجْعَل الِاسْم اللقب عِلّة
لنا هُوَ أَنه إِن مَا جَازَ أَن يعلق الحكم عَلَيْهِ نطقا
جَازَ أَن يستنبط ويعلق الحكم عَلَيْهِ كالصفات والمعاني
وَلِأَن بالاستنباط يتَوَصَّل إِلَى معرفَة قصد صَاحب
الشَّرِيعَة وَإِذا جَازَ أَن ينص صَاحب الشَّرِيعَة على
تَعْلِيق الحكم بِالِاسْمِ جَازَ أَن يستنبط ذَلِك
بِالدَّلِيلِ ويعلق عَلَيْهِ الحكم
وَاحْتَجُّوا بِأَن الِاسْم لَا يحْتَاج إِلَى الاستنباط فَلَا
يجوز أَن يَجْعَل عِلّة الحكم
(1/454)
وَالْجَوَاب أَن هَذَا خطأ لِأَن تَعْلِيق
الحكم على الِاسْم وجعلة عِلّة للْحكم يفْتَقر إِلَى الاستنباط
كَمَا تفْتَقر سَائِر الصِّفَات فَسقط مَا قَالُوهُ
وَرُبمَا قَالُوا إِن الحكم إِنَّمَا يتَعَلَّق بالمعاني
والأسماء لَيست بمعان
وَالْجَوَاب أَن هَذِه دَعْوَى لَا برهَان عَلَيْهَا
قَالُوا وَلِأَن الْعِلَل لَا تكون إِلَّا حَقِيقَة والأسماء
تدْخلهَا الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَلَا يجوز أَن تجْعَل عِلّة
قُلْنَا هَذَا يبطل بِهِ إِذا نَص عَلَيْهِ صَاحب الشَّرْع
فَإِنَّهُ يَجْعَل عِلّة ويعلق الحكم عَلَيْهِ وَإِن دخله
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَسقط مَا قَالُوهُ
(1/455)
مَسْأَلَة 13
يجوز أَن يَجْعَل نفي صفة عِلّة الحكم
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز وَحكى ذَلِك عَن القَاضِي
أبي حَامِد رَحمَه الله
لنا هُوَ أَن مَا جَازَ أَن ينص عَلَيْهِ فِي التَّعْلِيل
جَازَ أَن يستنبط بِالدَّلِيلِ ويعلق الحكم عَلَيْهِ كالإثبات
وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يكون الحكم مرّة إِثْبَاتًا
وَمرَّة نفيا جَازَ أَن تكون الْعلَّة مرّة إِثْبَاتًا وَمرَّة
نفيا
وَاحْتَجُّوا بِأَن الَّذِي يُوجب الحكم وجود معنى فَأَما إِذا
عدم الْمَعْنى فَلَا يجوز أَن يُوجب الحكم وَالنَّفْي عدم معنى
فَلَا يجوز أَن يُوجب الحكم
(1/456)
وَالْجَوَاب هُوَ أَن هَذَا مُجَرّد
الدَّعْوَى فَلَا يقبل من غير دَلِيل
قَالُوا وَلِأَن من شَرط الْعلَّة أَن يشْتَرك فِيهَا الأَصْل
وَالْفرع والاشتراك فِي النَّفْي لَا يَصح
قُلْنَا لَا نسلم فَإِن الِاشْتِرَاك يَصح فِي النَّفْي كَمَا
يَصح فِي الْإِثْبَات على أَن النَّفْي يتَضَمَّن الْإِثْبَات
والاشتراك فِيهِ فصح
(1/457)
مَسْأَلَة 14
لَا يَصح رد الْفَرْع إِلَّا الأَصْل إِلَى بعلة مقتضية للْحكم
أَو شبه يدل عَلَيْهِ
وَقَالَ بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة يَصح رد الْفَرْع إِلَى
الأَصْل بِضَرْب من الشّبَه
لنا هُوَ أَنه إِثْبَات حكم من جِهَة الْقيَاس فَاعْتبر فِيهِ
معنى مَخْصُوصًا كالقياس فِي العقليات
وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ رد الْفَرْع إِلَى الأَصْل من غير عِلّة
مَخْصُوصَة لما احْتِيجَ إِلَى النّظر والفكر وَلَو كَانَ
كَذَلِك لاشترك الْعلمَاء والعامة فِي الْقيَاس وَهَذَا لَا
يَقُوله أحد فَدلَّ على أَنه لَا بُد من شبه مَخْصُوص للْحكم
بِهِ يعلق
وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ رد الْفَرْع إِلَى الأَصْل بِمُجَرَّد
الشّبَه لم يكن حمل الْفَرْع على بعض الْأُصُول بِأولى من حمله
على الْبَعْض لِأَنَّهُ مَا من فرع تردد بَين أصلين إِلَّا
وَفِيه شبه من كل وَاحِد من الْأَصْلَيْنِ
(1/458)
وَاحْتَجُّوا بِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله
عَنْهُم لم يعتبروا فِيمَا نقل عَنْهُم من الْقيَاس أَكثر من
مُجَرّد الشّبَه فَدلَّ على أَن هَذَا الْقدر يَكْفِي
وَالْجَوَاب أَن هَذَا غير مُسلم بل اعتبروا الْمعَانِي والعلل
أَلا ترى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لأبي بكر عَلَيْهِمَا
السَّلَام رضيك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لديننا
أَفلا نرضاك لدنيانا
وَقَالَ عَليّ فِي شَارِب الْخمر إِذا شرب سكر وَإِذا سكر هذى
وَإِذا هذى افترى فَأرى أَن يحد حد المفتري فَدلَّ على أَنهم
اعتبروا الْمَعْنى الْمُقْتَضِي للْحكم والشبه الْمُؤثر فِيهِ
(1/459)
مَسْأَلَة 15
الطَّرْد والجريان شَرط فِي صِحَة الْعلَّة وَلَيْسَ بِدَلِيل
على صِحَّتهَا
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ طردها وجريانها يدل على صِحَّتهَا
وَهُوَ قَول أبي بكر الصَّيْرَفِي
(1/460)
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا إِذا لم يردهَا
نَص وَلَا أصل دلّ على صِحَّتهَا
لنا هُوَ أَن الْعلَّة هُوَ الْمَعْنى الْمُقْتَضى للْحكم فِي
الشَّرْع مَأْخُوذ من قَوْلهم فِي الْمَرَض إِنَّه عِلّة
لِأَنَّهَا تَقْتَضِي تغير حَال الْمَرِيض وَلَا نعلم كَونهَا
مقتضية للْحكم بِمُجَرَّد الطَّرْد لِأَنَّهُ قد يطرد مَعَ
الحكم وَيجْرِي مَعَه مَا لَيْسَ بعلة فَلم يكن ذَلِك دَلِيلا
على كَونه عِلّة
وَلِأَن الطَّرْد فعل القائس لِأَنَّهُ يزْعم أَنه يطرد ذَلِك
حَيْثُ وجد وَلَا يتناقض وَفعله لَا يدل على أَحْكَام الشَّرْع
وَلِأَن الجريان فرع الْعلَّة وموجبها فَلَا يجوز أَن يَجْعَل
دَلِيلا على صِحَّتهَا لِأَن الدَّلِيل يجب أَن يتَقَدَّم
الْمَدْلُول عَلَيْهِ
ويعبر عَن هَذَا بِعِبَارَة أُخْرَى وَهُوَ أَن الجريان فِي
الْفُرُوع إِنَّمَا ثَبت بِالْعِلَّةِ إِذا صَحَّ أَنَّهَا
عِلّة فِي الأَصْل وَلِهَذَا إِذا قيل لَهُ لم جعلت ذَلِك
عِلّة فِي هَذَا الْفَرْع قَالَ لِأَنَّهُ تعلق الحكم بهَا فِي
الأَصْل فَثَبت كَونهَا عِلّة فِي الْفَرْع بِثُبُوتِهِ فِي
الأَصْل وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يجزه أَن يَجْعَل الدَّلِيل
على صِحَّتهَا فِي الأَصْل ثُبُوتهَا فِي الْفَرْع فَيكون
الدَّلِيل على صِحَّتهَا فِي الْفَرْع ثُبُوتهَا فِي الأَصْل
وَالدَّلِيل على صِحَّتهَا فِي الأَصْل ثُبُوتهَا فِي الْفَرْع
وَالدَّلِيل على صِحَّتهَا فِي الأَصْل ثُبُوتهَا فِي الْفَرْع
كَمَا أَن شَهَادَة الشَّاهِدين لما ثبتَتْ بتزكية المزكين لم
يجز إِذا جهل الْحَاكِم حَال المزكين أَن يثبت عدالتهما بتزكية
الشَّاهِدين وَيثبت عَدَالَة الشَّاهِدين بالمزكين وعدالة
المزكين بالشاهدين فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَلِأَن الطَّرْد زِيَادَة فِي الدَّعْوَى لِأَنَّهُ ادّعى
الْعلَّة فِي الأَصْل فَلَمَّا طُولِبَ بِصِحَّتِهَا دلّ
عَلَيْهَا بِأَنَّهَا عِلّة فِي الأَصْل وَحَيْثُ وجدت فَلم
ترد إِلَّا دَعْوَى على دَعْوَى
(1/461)
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الطَّرْد دَلِيلا
على صِحَة الْعلَّة لتكافأت الْأَدِلَّة لِأَنَّهُ مَا من أحد
يذكر عِلّة مطردَة إِلَّا وَيُمكن مُقَابلَته بِمِثْلِهَا
فَلَا يكون مَا ذَكرُوهُ أولى مِمَّا قابله بِهِ الْخصم
وَلِأَن أدنى أَحْوَال الدَّلِيل أَن يُوجب الظَّن وَقد
رَأينَا الطَّرْد فِي علل لَا يغلب على الظَّن تعلق الحكم بهَا
واتباعه لَهَا كَقَوْل من قَالَ فِي إِزَالَة النَّجَاسَة
إِنَّه مَائِع لَا تبنى عَلَيْهِ القناطر وَلَا يصاد فِيهِ
السّمك فَأشبه الدّهن والمرقة
وكقول من قَالَ من أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي مس الذّكر إِنَّه
طَوِيل مشقوق فاشبه البوق أَو مُعَلّق منكوس فَأشبه الدبوس
وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يحسن الِاشْتِغَال بِذكرِهِ فَدلَّ على
أَن الطَّرْد لَيْسَ بِدَلِيل على الصِّحَّة
وَاحْتج الْمُخَالف بقوله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير
الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَدلَّ على أَن مَا
لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَاف فَهُوَ من عِنْد الله وَالْعلَّة إِذا
اطردت فَهِيَ متفقة لَا اخْتِلَاف فِيهَا فَوَجَبَ أَن تكون من
عِنْد الله
قُلْنَا إِن الْآيَة تدل على أَن مَا فِيهِ اخْتِلَاف فَلَيْسَ
من عِنْد الله وَنحن نقُول بِهِ فَإِن الِاخْتِلَاف فِي
الْعِلَل هُوَ الناقض وَذَلِكَ يدل على أَنه لَيْسَ من عِنْد
الله وَلَيْسَ فِيهِ أَن مَا لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَاف فَهُوَ من
عِنْد الله فَلَا حجَّة فِيهَا
قَالُوا عدم الطَّرْد يدل على فَسَادهَا وَهُوَ النَّقْض
فَوَجَبَ أَن يكون وجود الطَّرْد يدل على صِحَّتهَا
قُلْنَا عَدمه إِنَّمَا يدل على فَسَاد الْعلَّة لِأَن وجوده
شَرط فِي صِحَّتهَا وَهَذَا لَا يدل على أَن وجوده يدل على
الصِّحَّة أَلا ترى أَن الطَّهَارَة لما كَانَت شرطا فِي صِحَة
الصَّلَاة دلّ عدمهَا على فَسَاد الصَّلَاة ثمَّ لَا يدل
وجودهَا على صِحَة الصَّلَاة حَتَّى يَنْضَم إِلَيْهَا غَيرهَا
فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَلِأَن الشَّيْء يجوز أَن يثبت بِمَعْنى وَلَا يثبت ضِدّه
بِعَدَمِ ذَلِك الْمَعْنى
(1/462)
أَلا ترى أَن الحكم تثبت صِحَّته
بِالْإِجْمَاع ثمَّ لَا يثبت فَسَاده بِعَدَمِهِ فَكَذَلِك
يجوز أَن يثبت فَسَاد الْعلَّة لعدم الطَّرْد وَلَا تثبت
صِحَّتهَا لوُجُوده
قَالُوا وَلِأَن الطَّرْد والجريان هُوَ الِاسْتِمْرَار على
الْأُصُول من غير أَن يردهُ أصل وَهَذَا شَهَادَة من الْأُصُول
لَهَا بِالصِّحَّةِ فَوَجَبَ أَن يدل على صِحَّتهَا
قُلْنَا بِهَذَا الْقدر لَا يعلم كَونه عِلّة لِأَنَّهُ قد
يجْرِي وَيسْتَمر مَعَ الحكم مَا لَيْسَ بعلة
أَلا ترى أَن الْعلم يكون المتحرك متحركا يجْرِي مَعَ التحرك
وَيسْتَمر مَعَه ثمَّ لَا يدل على أَن ذَلِك عِلّة فِي كَونه
متحركا
قَالُوا وَلِأَنَّهَا إِذا اطردت فقد عدم مَا يُفْسِدهَا
وَإِذا علم مَا يُوجب فَسَادهَا وَجب أَن يحكم بِصِحَّتِهَا
لِأَنَّهُ لَيْسَ بَين الصَّحِيح وَالْفَاسِد قسم آخر
قُلْنَا لَا نسلم أَنه عدم مَا يُفْسِدهَا فَإِن عدم مَا
يصححها أحد مَا يُفْسِدهَا ثمَّ نقلب عَلَيْهِم ذَلِك فَنَقُول
إِذا لم يدل على صِحَّتهَا فقد عدم مَا يُوجب صِحَّتهَا وَإِذا
عدم مَا يُوجب صِحَّتهَا دلّ على فَسَادهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ
بَين الصَّحِيح وَبَين الْفَاسِد قسم
وعَلى أَنه لَو كَانَ هَذَا دَلِيلا على صِحَة الْعلَّة
لوَجَبَ إِذا ادّعى رجل النُّبُوَّة من غير دَلِيل أَن يحكم
بِصِحَّة نبوته فَيُقَال أَنه عدم مَا يفْسد دَعْوَاهُ
فَوَجَبَ أَن يحكم بِصِحَّتِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَين
الصَّحِيح وَبَين الْفَاسِد قسم آخر وَلما بَطل هَذَا
بِالْإِجْمَاع بَطل مَا قَالُوهُ أَيْضا
(1/463)
مَسْأَلَة 16
إِذا أثرت الْعلَّة فِي مَوضِع من الْأُصُول دلّ على صِحَّتهَا
وَإِن لم يكن ذَلِك أصل الْعلَّة
(1/464)
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يعْتَبر تأثيرها
فِي الأَصْل
لنا هُوَ أَن الْعلَّة هِيَ الْمَعْنى الْمُقْتَضِي للْحكم
فَفِي أَي مَوضِع من الْأُصُول أثرت علم أَنَّهَا مقتضية
للْحكم
وَلِأَنَّهُ إِذا علم تأثيرها فِي مَوضِع من الْأُصُول علمنَا
أَنَّهَا مُؤثرَة فِي الأَصْل حَيْثُ وجدت لِأَنَّهُ يجوز أَن
تكون عِلّة فِي مَوضِع وَلَا تكون عِلّة فِي مَوضِع آخر
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ إِذا لم تُؤثر فِي الأَصْل لم
يكن ذَلِك عِلّة فِي الأَصْل ورد الْفَرْع إِلَى الأَصْل
بِغَيْر عِلّة الأَصْل لَا يجوز
قُلْنَا لَا نسلم أَنَّهَا إِذا لم تُؤثر فِي الأَصْل لم يكن
ذَلِك عِلّة فِي الأَصْل بل إِذا أثرت فِي مَوضِع من الْأُصُول
دلّ على أَنَّهَا عِلّة فِي الأَصْل وَفِي كل مَوضِع وجدت
وَلَكِن رُبمَا لم يظْهر تأثيرها فِي الأَصْل لاجتماعها مَعَ
عِلّة أُخْرَى وَهَذَا لَا يدل على أَنه لَيْسَ بعلة
أَلا ترى أَن الْحيض إِذا صَادف الْإِحْرَام أَو الرِّدَّة أَو
الْعدة وَلم يظْهر تَأْثِيره فِي إِثْبَات التَّحْرِيم لَا يدل
على أَنه لَيْسَ بعلة
قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِذا ذكر وصفين لم يُؤثر أَحدهمَا فِي
الأَصْل صَار ذَلِك حَشْوًا فِي الأَصْل وَزِيَادَة فِي علته
فَيجب إِسْقَاطه وَإِذا سقط انتقضت الْعلَّة
قُلْنَا إِذا أثر فِي مَوضِع من الْأُصُول وَدلّ الدَّلِيل على
تَأْثِيره بَان بِأَنَّهُ لَيْسَ بحشو فِي الأَصْل وَحَيْثُ
وجد فَلَا يجب إِسْقَاطه من الْعلَّة يدلك عَلَيْهِ أَن الْحيض
لما ثَبت تَأْثِيره فِي تَحْرِيم الْوَطْء كَانَ عِلّة فِي
تَحْرِيمه حَيْثُ وجد فَلَا يجب أَن يظْهر ذَلِك فِي بعض
الْمَوَاضِع كَذَلِك هَاهُنَا إِذا ثَبت الْوَصْف فِي الحكم
وَجب أَن يكون مؤثرا حَيْثُ وجد وَإِن لم يظْهر الأَصْل
(1/465)
مَسْأَلَة 17
لَا يجوز تَخْصِيص الْعلَّة المستنبطة وتخصيصها نقض لَهَا
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة وَبَعض أَصْحَاب مَالك يجوز
وتخصيصها لَيْسَ بِنَقْض لَهَا وَهُوَ قَول أَكثر
الْمُتَكَلِّمين
(1/466)
لنا قَوْله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد
غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَجعل وجود
الِاخْتِلَاف دَلِيلا على أَنه لَيْسَ من عِنْد الله وَإِذا
وجدت الْعلَّة من غير حكم فقد وجد الِاخْتِلَاف فَدلَّ على
أَنه لَيْسَ من عِنْد الله
وَلِأَنَّهُ عِلّة مستنبطة فَكَانَ تخصيصها نقضا لَهَا كالعلل
العقليات
فَإِن قيل الْعِلَل الْعَقْلِيَّة توجب الحكم بِنَفسِهَا فَلم
يجز وجودهَا غير مُوجبَة للْحكم وَعلل الشَّرْع غير مُوجبَة
للْحكم بِنَفسِهَا أَلا ترى أَنَّهَا مَوْجُودَة قبل الشَّرْع
غير مُوجبَة للْحكم وَإِنَّمَا صَارَت بِالشَّرْعِ عللا فَجَاز
أَن توجب فِي مَوضِع دون مَوضِع
قُلْنَا هِيَ وَإِن صَارَت عللا بِالشَّرْعِ إِلَّا أَنَّهَا
قد صَارَت عللا بِمَنْزِلَة الْعَقْلِيَّة فِي إِيجَاب الحكم
بوجودها فَوَجَبَ أَن تكون بمنزلتها فِي ان تخصيصها يُوجب
فَسَادهَا
وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ وجود الْعلَّة من غير حكم لَكَانَ تعلق
الحكم فِي الْعلَّة فِي الأَصْل لَا يُوجب تعلقه بهَا فِي
الْفَرْع إِلَّا بِدَلِيل مُسْتَأْنف يدل على تعلقه بهَا
لِأَنَّهُ مَا من فرع نُرِيد أَن نثبت فِيهِ حكم الْعلَّة
إِلَّا وَيجوز أَن يكون مَخْصُوصًا وَإِذا افْتقر ذَلِك إِلَى
دَلِيل خرج عَن أَن يكون عِلّة
وَلِأَن وجود التَّخْصِيص فِي الْعلَّة يدل على أَن
الْمُسْتَدلّ لما لم يذكر الدّلَالَة على الصّفة تعلق الحكم
بهَا فِي الشَّرْع وَمَتى لم يذكر الدّلَالَة على الْوَجْه
الَّذِي علق الحكم
(1/467)
عَلَيْهِ فِي الشَّرْع لم يجب الْعَمَل
بِهِ لِأَنَّهُ لم يذكر دَلِيل الحكم فَلَا يجوز أَن يثبت
الْمَدْلُول
وَلِأَن القَوْل بتخصيص الْعلَّة يُؤَدِّي إِلَى تكافؤ
الْأَدِلَّة وَأَن يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَة حكمان
متضادان وَذَلِكَ أَنه إِذا وجدت الْعلَّة فِي أصلين واقتضت
التَّحْلِيل فِي أَحدهمَا دون الآخر لم ينْفَصل من علق
عَلَيْهَا التَّحْلِيل فِي الْفَرْع اعْتِبَارا بِأحد
الْأَصْلَيْنِ مِمَّن علق عَلَيْهَا التَّحْرِيم فِي ذَلِك
الْفَرْع اعْتِبَارا بِالْأَصْلِ الآخر فيتكافأ الدليلان
وَيَسْتَوِي الْقَوْلَانِ وَهَذَا لَا يجوز
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن هَذِه أَمارَة شَرْعِيَّة فَجَاز
تخصيصها كالعموم
قُلْنَا الْعُمُوم لَا تسْقط دلَالَته بالتخصيص لِأَنَّهُ
إِنَّمَا كَانَ دَلِيلا لِأَنَّهُ قَول صَاحب الشَّرْع فَإِذا
خص بعضه بَقِي الْبَاقِي على ظَاهره وَلَيْسَ كَذَلِك الْعلَّة
فَإِن تخصيصها يسْقط دلالتها لِأَنَّهَا تعرف من جِهَة
الْمُسْتَدلّ فَإِذا وجدت مَعَ عدم الحكم علمنَا أَنه لم
يسْتَوْف الأمارة الَّتِي يتَعَلَّق الحكم بهَا فِي الشَّرْع
فَسقط الِاحْتِجَاج بهَا
وَلِأَن صَاحب الشَّرْع لَا يُطلق اللَّفْظ الْعَام إِلَّا
وَقد دلّ على مَا يُوجب التَّخْصِيص وَالْبَيَان فَأمكن
التَّعَلُّق بِظَاهِرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك الْمُجْتَهد
فَإِنَّهُ قد يُطلق لفظ الْعلَّة وَقد أخل بِمَا يقف ثُبُوت
الحكم عَلَيْهِ وَلَعَلَّ ذَلِك يمْنَع دُخُول الْفَرْع فِيمَا
أطلق من الْعلَّة فَلم يَصح التَّعَلُّق بِهِ
قَالُوا وَلِأَنَّهُ عِلّة شَرْعِيَّة فَجَاز تخصيصها كالعلة
الْمَنْصُوص عَلَيْهَا
قُلْنَا من أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز تَخْصِيص الْعلَّة
الْمَنْصُوص عَلَيْهَا وَمَتى وجدناها مَعَ عدم الحكم علمنَا
أَنه بعض الْعلَّة غير أَن إِطْلَاقهَا يجوز لِأَن صَاحب
الشَّرْع قد ثبتَتْ حكمته أَنه لَا يتناقض بِإِطْلَاقِهِ
فَإِذا أطلق وَصفا علمنَا أَنه أَرَادَ مَا يَقْتَضِي
التَّخْصِيص والمعلل مَتى لم تثبت حكمته وَيجوز أَن يتناقض
فَإِذا أطلق وَصفا ودخله التَّخْصِيص علمنَا أَنه لم يسْتَوْف
دلَالَة الحكم
وَمن أَصْحَابنَا من أجَاز تَخْصِيص الْعِلَل المنصوصة وَفرق
بَينهَا وَبَين الْعِلَل المستنبطة بِمَا ذَكرْنَاهُ فِي
الْعُمُوم فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَته
(1/468)
قَالُوا الْعِلَل الشَّرْعِيَّة غير
مُوجبَة للْحكم بأنفسها وَإِنَّمَا صَارَت أَمَارَات على
الْأَحْكَام بِجعْل جَاعل وَقصد قَاصد فَجَاز أَن يَجْعَلهَا
أَمارَة للْحكم فِي عين دون عين كَمَا جَازَ أَن يَجْعَلهَا
أَمارَة للْحكم فِي وَقت دون وَقت
قُلْنَا هَذَا هُوَ الْحجَّة عَلَيْكُم وَذَلِكَ أَنه إِذا
صَارَت أَمارَة بِقصد قَاصد لم يجز التَّعَلُّق بهَا إِلَّا
على الْوَجْه الَّذِي جعله أَمارَة وَمَتى أخل بِبَعْض
الْأَوْصَاف لم يَأْتِ بِمَا جعله أَمارَة عَن الحكم فَيجب أَن
لَا يَصح
وعَلى أَنه إِذا تعلق الحكم بالعلل بِقصد القاصد وَهُوَ يخص
مرّة ويعم أُخْرَى لم يَأْمَن أَن يكون مَوضِع الْخلاف
مَخْصُوصًا من الْعلَّة فَلَا يجوز أَن يتَعَلَّق الحكم بهَا
على الْإِطْلَاق
قَالُوا إِذا جَازَ أَن يصل بِالْمَعْنَى مَا يمْنَع الْبَعْض
جَازَ أَيْضا أَن يُؤَخِّرهُ عَنهُ كبيان الْمدَّة الَّتِي
تتَعَلَّق بهَا الْعِبَادَة
قُلْنَا بَيَان الْمدَّة إِنَّمَا يُرَاد لإِسْقَاط الحكم
فَلَا حَاجَة إِلَى بَيَانه عِنْد الْإِيجَاب وَلَيْسَ كَذَلِك
الْوَصْف المضموم إِلَى الْوَصْف لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا
شَرط لإِيجَاب الحكم فَلَا يجوز تَأْخِير أَحدهمَا عَن الآخر
قَالُوا لما جَازَ تَأْخِير الحكم من غير عِلّة جَازَ وجود
الْعلَّة أَيْضا من غير حكم
أَلا ترى أَن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة لما لم يجز وجود الْعلَّة
من غير حكم لم يجز وجود الحكم من غير عِلّة وَلما جَازَ
هَاهُنَا أَحدهمَا وَجب أَن يجوز الآخر
قُلْنَا وجود الحكم من غير عِلّة لَا يمْنَع كَون الْعلَّة
عِلّة فِي الْموضع الَّذِي جعله عِلّة وَوُجُود الْعلَّة من
غير حكم يمْنَع أَن يكون مَا ذكره عِلّة حَتَّى يُضَاف
إِلَيْهِ وصف آخر لِأَن وجود الحكم من غير عِلّة يدل على أَن
للْحكم عِلّة أُخْرَى وَثُبُوت عِلّة لَا يمْنَع ثُبُوت عِلّة
أُخْرَى لِأَن الْعلَّة تخلف الْعلَّة فِي إِثْبَات الحكم
ووجودها من غير الحكم يدل على أَنه ذكر بعض الْعلَّة وَبَعض
الْعلَّة لَا يخلف جَمِيعهَا فِي إِثْبَات الحكم فَافْتَرقَا
(1/469)
مَسْأَلَة 18
التَّسْوِيَة بَين الأَصْل وَالْفرع فِي مَسْأَلَة النَّقْض
لَا يدْفع النَّقْض
وَقَالَ بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة يدْفع النَّقْض
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ إِن كَانَ قد صرح بالحكم لم يدْفع
النَّقْض وَإِن كَانَ جعل حكم الْعلَّة التَّشْبِيه دفعت من
النَّقْض
لنا هُوَ أَن النَّقْض وجود الْعلَّة وَلَا حكم وَهَذَا العنى
يُوجد وَإِن اسْتَوَى الْفَرْع وَالْأَصْل فِيهِ فَوَجَبَ أَن
تنْتَقض الْعلَّة
وَلِأَن مَا أفسد الْعلَّة إِذا لم يستو فِيهِ الأَصْل
وَالْفرع أفسدها وَإِن اسْتَويَا فِيهِ الأَصْل وَالْفرع
كالممانعة وَعدم التَّأْثِير
وَلِأَن التَّسْوِيَة بَين الأَصْل وَالْفرع زِيَادَة نقض على
نقض وَهَذَا يَقْتَضِي تَأْكِيد الْفساد
وَاحْتج أَصْحَاب أبي حنيفَة إِن من أصلنَا أَن تَخْصِيص
الْعلَّة جَائِز وَأَن وجود الْعلَّة وَلَا حكم لَا يُفْسِدهَا
إِلَّا فِي الْقدر الَّذِي التزمنا فِيهِ الِاحْتِرَاز وَمَا
لم نلتزمه يجب أَن يبْقى على الأَصْل فِي جَوَاز التَّخْصِيص
(1/470)
قُلْنَا أما هَذَا الأَصْل فقد دللنا على
بُطْلَانه فَلَا وَجه لإعادته
وعَلى أَنكُمْ قد تركْتُم هَذِه الطَّرِيقَة ودخلتم مَعنا فِي
اعْتِبَار الطَّرْد والاحتراز من النَّقْض وَلِهَذَا احترزتم
من كثير من النقوض فَلَا يجوز الرُّجُوع إِلَى التَّخْصِيص بعد
القَوْل بالطرد والجريان
قَالُوا وَلِأَن قصد الْمُعَلل هُوَ التَّسْوِيَة بَين
الْفَرْع وَالْأَصْل وإجراء أَحدهمَا مجْرى الآخر وَقد سوى
بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِيمَا الْتزم فَلَا يلْزمه شَيْء
قُلْنَا الَّذِي نقصد إِيجَاب الحكم بِوُجُود الْعلَّة دون
التَّسْوِيَة بَين الأَصْل وَالْفرع وَقد وجدت الْعلَّة وَلم
يُوجد الحكم فَبَطل مَا قَالُوهُ
وَلِأَنَّهُ إِذا كَانَ قَصده التَّسْوِيَة بَين الأَصْل
وَالْفرع افْتقر إِلَى أصل آخر يَسْتَوِي فِيهِ حكم
الْمَوْضِعَيْنِ
وَاحْتج الْقَائِل الآخر بِأَن النَّقْض وجود الْعلَّة وَلَا
حكم وَإِذا كَانَ حكم الْعلَّة الشّبَه بِالْأَصْلِ فقد وجدت
الْعلَّة مَعَ الحكم فِي مَسْأَلَة النَّقْض فَإِن الْفَرْع قد
شابهه الأَصْل فِي ذَلِك وَلم تُوجد حَقِيقَة النَّقْض
قُلْنَا إِن كَانَ حكم الْعلَّة تَشْبِيه الْفَرْع بِالْأَصْلِ
فقد صَار الأَصْل عَن تَمام الحكم ونقيض الْعلَّة من غير أصل
وَهَذَا لَا يجوز
(1/471)
مَسْأَلَة 19
لَا يجوز للمستدل أَن ينْقض عِلّة السَّائِل بِأَصْل نَفسه
وَمن أَصْحَابنَا من أجَاز ذَلِك وَهُوَ قَول الْجِرْجَانِيّ
من أَصْحَاب أبي حنيفَة
لنا هُوَ أَن الْعلَّة حجَّة على الْمُسْتَدلّ فِي الْموضع
الَّذِي ينْقض بِهِ الْعلَّة فَلَا يجوز نقض الْحجَّة
بِالدَّعْوَى
وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ نقض الْعلَّة بمذهبه لجَاز أَن ينقضها
بِموضع الْخلاف وَلما لم يجز هَذَا لم يجز ذَلِك
وَلِأَن قَوْله إِن هَذِه الْعلَّة تنْتَقض بأصلي مَعْنَاهُ
إِنِّي لَا أَقُول بِهَذِهِ الْعلَّة فِي هَذَا الْموضع وَفِي
مَوضِع آخر وَهَذَا لَا يسْقط الدَّلِيل كَمَا لَو اسْتدلَّ
عَلَيْهِ بِخَبَر فَقَالَ أَنا لَا أَقُول بِهَذَا الْخَبَر
فِي هَذَا الْموضع وَلَا فِي مَوضِع آخر
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ لَو جَازَ للمسؤول فِي
الِابْتِدَاء أَن يَبْنِي على أَصله فَيَقُول إِن سلمت هَذَا
الأَصْل ثبتَتْ علته وَإِلَّا دللت عَلَيْهِ جَازَ أَن ينْقض
على أَصله فَيَقُول إِن سلمت هَذَا انتقضت بِهِ الْعلَّة وَإِن
لم تسلم دللت عَلَيْهِ
قُلْنَا فِي الِابْتِدَاء يجوز ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يلْزم
الْكَلَام فِي مَوضِع بِعَيْنِه وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا
لِأَنَّهُ قد الْتزم الْكَلَام فِي مَوضِع بِعَيْنِه وَتعين
عَلَيْهِ نصرته فَلَا يجوز أَن ينْتَقل عَنهُ إِلَى غَيره يدلك
عَلَيْهِ أَن فِي الِابْتِدَاء يجوز لَهُ أَن يسْتَدلّ بِمَا
شَاءَ
(1/472)
وَلَو اسْتدلَّ بِشَيْء بِعَيْنِه ثمَّ
أَرَادَ أَن ينْتَقل بعد ذَلِك إِلَى دَلِيل آخر لم يجز فَدلَّ
على الْفرق بَينهمَا
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لما جَازَ أَن ينْقض على أصل السَّائِل
وَحده جَازَ أَن ينْقض على أصل المسؤول وَحده
قُلْنَا إِذا نقض على أصل السَّائِل بِأَن فَسَاد الدَّلِيل
على أَصله فَلَا يجوز أَن يحْتَج بِمَا يعْتَقد فَسَاده
وَهَاهُنَا لم يبن فَسَاد الدَّلِيل على أَصله فَلَزِمَ
الْعَمَل بِهِ يدلك عَلَيْهِ أَن السَّائِل لَو عَارضه بِخَبَر
لَا يَقُول بِهِ لم تصح معارضته وَلَو عَارضه بِخَبَر لَا
يَقُول بِهِ المسؤول لم يمْنَع ذَلِك معارضته فَافْتَرقَا
(1/473)
مَسْأَلَة 20
لَا يجوز للسَّائِل أَن يُعَارض المسؤول بعلة منتقضة على أَصله
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يجوز ذَلِك
لنا هُوَ أَنه إِذا انتقضت الْعلَّة على قَوْله فقد اعْتقد
بُطْلَانهَا وَمن اعْتقد بطلَان دَلِيل لم يجز أَن يُطَالب
الْخصم بِالْعَمَلِ بِهِ كالمسؤول إِذا ذكر عِلّة منتقضة على
أَصله
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ لما جَازَ أَن تنْتَقض علته
بِمَا لَا يَقُول بِهِ جَازَ أَن يُعَارضهُ بِمَا لَا يَقُول
بِهِ
قُلْنَا الناقض غير مُحْتَج بِالنَّقْضِ وَلَا يثبت الحكم من
جِهَته وَإِنَّمَا يبين فَسَاد دَلِيل على أصل من احْتج بِهِ
وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِنَّهُ يحْتَج بِالْقِيَاسِ
فَيثبت الحكم من جِهَته فَلَا يجوز أَن يثبت من جِهَة يعْتَقد
بُطْلَانه
قَالُوا السَّائِل لَا مَذْهَب لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ مسترشد
فَلَا يعْتَبر فَسَاده عِنْده
قُلْنَا هَذَا هُوَ الْحجَّة عَلَيْكُم فَإِنَّهُ إِذا كَانَ
مسترشدا يجب أَن لَا يسْأَل إِلَّا عَمَّا أشبه عَلَيْهِ
وَهُوَ يعلم فَسَاد هَذَا الدَّلِيل فَلَا يجوز أَن يلتزمه
وَلِأَنَّهُ قد جَاوز رُتْبَة المسترشد بالاستدلال والمعارضة
وَحصل فِي رُتْبَة الْمُسْتَدلّ فَلَا يجوز أَن يسْتَدلّ بِمَا
يعْتَقد فَسَاده
(1/474)
مَسْأَلَة 21
الْقلب مُعَارضَة صَحِيحَة
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يَصح
لنا هُوَ أَن الْمُسْتَدلّ لَا يُمكنهُ الْجمع بَين حكمته
وَحكم الْقلب فَصَارَ كَمَا لَو عَارضه من أصل آخر
وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يسْتَدلّ بِلَفْظ عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يُشَارِكهُ السَّائِل فِي
الِاحْتِجَاج بِهِ جَازَ أَن يسْتَدلّ بعلة ثمَّ يُشَارِكهُ
السَّائِل فِي الِاسْتِدْلَال بهَا
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الْقلب لَا يُمكن إِلَّا بِفَرْض
مَسْأَلَة على الْمُسْتَدلّ وَلَيْسَ للسَّائِل فرض مَسْأَلَة
على المسؤول لِأَنَّهُ تَابع لَهُ
قُلْنَا هَذَا يبطل بالمشاركة فِي الْخَبَر فَإِنَّهُ يجوز
وَإِن لم يُمكن ذَلِك إِلَّا بِفَرْض مَسْأَلَة على
الْمُسْتَدلّ
قَالَ وَلِأَن هَذَا وَإِن كَانَ فِي حكم آخر إِلَّا أَنه فِي
معنى الحكم الَّذِي فرض فِيهِ
(1/475)
الدّلَالَة أَلا ترى أَنه لَا يُمكن الْجمع
بَينه وَبَين حكمه كَمَا لَا يُمكن الْجمع بَينه وَبَين ضِدّه
وَلِأَن أَوْصَاف عِلّة الْمُسْتَدلّ لَا تصلح لحكم الْقلب
وَلَا تُؤثر فِيهِ فَيجب أَن لَا يَصح الْقلب
قُلْنَا إِنَّمَا يَصح الْقلب إِذا كَانَ صَلَاح الْوَصْف لأحد
الْحكمَيْنِ كصلاحه الآخر وتأثيره فِي أَحدهمَا كتأثيره فِي
الآخر وَأما إِذا لم يصلح الْوَصْف لحكم القالب وَلم يُؤثر
فِيهِ حكمنَا بِبُطْلَانِهِ
(1/476)
مَسْأَلَة 22
قلب التَّسْوِيَة صَحِيح وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول الْمُخَالف
فِي مَسْأَلَة النِّيَّة فِي الْوضُوء إِنَّهَا طَهَارَة بمائع
فَلم تفْتَقر إِلَى النِّيَّة كإزالة النَّجَاسَة فَيَقُول
الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أقلب علته فَأَقُول طَهَارَة
بمائع فَاسْتَوَى حكمهَا وَحكم الجامد فِي النِّيَّة كإزالة
النَّجَاسَة
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يَصح
لنا هُوَ أَن الْمُسْتَدلّ بِالْعِلَّةِ مِنْهُمَا لايمكنه
الْجمع بَين حكمه وَحكم القالب كَمَا لَو كَانَ مُصَرحًا بِهِ
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن الأَصْل وَالْفرع فِي الحكم الْمُعَلق
على الْعلَّة سَوَاء وَهُوَ التَّسْوِيَة وَإِنَّمَا
يَخْتَلِفَانِ فِي التَّفْصِيل وَمَتى اتّفق الأَصْل وَالْفرع
فِي حكم الْعلَّة صَحَّ الْجمع وَإِن اخْتلفَا فِي التَّفْصِيل
يدل عَلَيْهِ أَنه لَو صرح بالحكم لصَحَّ الْقيَاس وَإِن كَانَ
حكم الأَصْل مُخَالفا لحكم الْفَرْع فِي التَّفْصِيل فَكَذَلِك
هَاهُنَا
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن حكم الْفَرْع فِي مثل هَذَا مُخَالف
لحكم الأَصْل
(1/477)
أَلا ترى أَن فِيمَا ذكرنَا من الْمِثَال
نُرِيد التَّسْوِيَة بَين الجامد والمائع فِي الأَصْل فِي
إِسْقَاط النِّيَّة وَفِي الْفَرْع فِي إِيجَابهَا وَمن حكم
الْقيَاس أَن يتَعَدَّى حكم الأَصْل إِلَى الْفَرْع
قُلْنَا إِن حكم الأَصْل هُوَ التَّسْوِيَة وَقد تعدى ذَلِك
إِلَى الْفَرْع وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي كَيْفيَّة
التَّسْوِيَة وَكَيْفِيَّة التَّسْوِيَة حكم غير التَّسْوِيَة
يدلك عَلَيْهِ هُوَ أَنه يجوز أَن يرد الشَّرْع بِوُجُوب
التَّسْوِيَة ين الجامد والمائع فِي بَاب النِّيَّة
فَيَنْقَطِع فِيهِ حكم الِاجْتِهَاد ثمَّ يبْقى النّظر
وَالِاجْتِهَاد فِي كَيْفيَّة التَّسْوِيَة بَين الْإِيجَاب
والإسقاط وَإِذا ثَبت أَن كَيْفيَّة التَّسْوِيَة غير
التَّسْوِيَة لم يلْزم اسْتِوَاء الأَصْل وَالْفرع فيهمَا
قَالُوا وَلِأَن الْقَصْد من هَذَا الْقلب مُعَارضَة
الْمُسْتَدلّ ومساواته فِي الدَّلِيل وقلب التَّسْوِيَة لَا
يُسَاوِي عَلَيْهِ الْمُسْتَدلّ لِأَن حكم الْمُسْتَدلّ مُصَرح
بِهِ وَحكم القالب مُبْهَم يحْتَاج إِلَى الْبَيَان والمصرح
أبدا يقدم على الْمُبْهم كَمَا فعلنَا فِي أَلْفَاظ صَاحب
الشَّرْع
قُلْنَا التَّصْرِيح إِنَّمَا يعْتَبر فِي حكم الْمَطْلُوب
بِالدّلَالَةِ لَا فِي حكم آخر وَهَاهُنَا الدّلَالَة هُوَ
التَّسْوِيَة وَقد صرح بهَا فِي حكم الْعلَّة كَمَا صرح
الْمُعَلل بِحكمِهِ
وعَلى أَن الْمُصَرّح إِنَّمَا يقدم على الْمُبْهم إِذا احْتمل
الْمُبْهم الْأَمريْنِ والمصرح بِهِ أَمر وَاحِد فَيقْضى بِمَا
لَا يحْتَمل على مَا يحْتَمل كَمَا ذَكرُوهُ فِي أَلْفَاظ
صَاحب الشَّرْع وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فَإِن قلب التَّسْوِيَة
لَا يحْتَمل إِلَّا إبِْطَال مَذْهَب الْمُعَلل كَمَا لَا
يحْتَمل حكم الْمُعَلل إِلَّا إبِْطَال مَذْهَب القالب فَلم
يكن لأَحَدهمَا على الآخر مزية كاللفظين الصريحين إِذا
تَعَارضا
(1/478)
مَسْأَلَة 23
جعل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا لَا يمْنَع من صِحَة
الْعلَّة وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول الشَّافِعِي رَضِي الله
عَنهُ فِي ظِهَار الذِّمِّيّ من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره
كَالْمُسلمِ فَيَقُول الْحَنَفِيّ الْمُسلم لم يَصح ظِهَاره
لِأَنَّهُ يَصح طَلَاقه بل صَحَّ طَلَاقه لِأَنَّهُ يَصح
ظِهَاره
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة يمْنَع هَذَا صِحَة الْعلَّة
وَهُوَ مَذْهَب القَاضِي أبي بكر
لنا أَن علل الشَّرْع أَمَارَات على الْأَحْكَام بِجعْل جَاعل
وَنصب ناصب وَهُوَ صَاحب الشَّرْع وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم
يمْنَع أَن يَجْعَل صَاحب الشَّرْع كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ
أَمارَة للْحكم الآخر فَيَقُول مَتى رَأَيْتُمْ من صَحَّ
مِنْهُ الطَّلَاق فاحكموا لَهُ بِصِحَّة الظِّهَار وَإِذا
رَأَيْتُمْ من صَحَّ ظِهَاره فاحكموا لَهُ بِصِحَّة طَلَاقه
فَأَيّهمَا رَأينَا صَحِيحا استدللنا بِهِ على صِحَة الآخر
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن الشَّرْع قد ورد بِمثل هَذَا أَلا ترى
أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَمر من أعْطى أحد ولديه
شَيْئا أَن يُعْطي الآخر مثله فَجعل عَطِيَّة كل وَاحِد
مِنْهُمَا دلَالَة وأمارة لعطية الآخر فَأَيّهمَا بَدَأَ
بعطيته اقْتضى ذَلِك عَطِيَّة الآخر فَكَذَلِك هَاهُنَا يجوز
أَن يَجْعَل صِحَة كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ دَلِيلا على صِحَة
الآخر فَأَيّهمَا رَأَيْنَاهُ صَحِيحا دلنا على صِحَة الآخر
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ إِذا جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا
عِلّة للْآخر وقف ثُبُوت كل
(1/479)
وَاحِد مِنْهُمَا على ثُبُوت الآخر فَلَا
يثبت وَاحِد مِنْهُمَا كَمَا لَو قَالَ لَا يدْخل زيد الدَّار
حَتَّى يدْخل عَمْرو وَلَا يدْخل عَمْرو حَتَّى يدْخل زيد
فَلَا يُمكن دُخُول وَاحِد مِنْهُمَا كَذَلِك هَاهُنَا
قُلْنَ إِنَّمَا يقف ثُبُوت كل وَاحِد مِنْهُمَا على ثُبُوت
الآخر فِي العقليات لِأَن الحكم الْوَاحِد مِنْهُمَا لَا يجوز
أَن يثبت بِأَكْثَرَ من عِلّة وَاحِدَة فَإِذا جعل كل وَاحِد
مِنْهُمَا عِلّة للْآخر وقف كل وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر
فاستحال ثبوتهما وَأما فِي أَحْكَام الشَّرْع فَإِنَّهُ يجوز
أَن يثبت الحكم الْوَاحِد مِنْهُمَا بعلل فَإِذا جعل كل وَاحِد
مِنْهُمَا عِلّة للْآخر لم يقف ثُبُوت كل وَاحِد مِنْهُمَا على
ثُبُوت الآخر لجَوَاز أَن يثبت أَحدهمَا بطرِيق مستدل بِهِ على
الحكم الآخر وَيُخَالف هَذَا مَا ذَكرُوهُ من الدُّخُول فَإِن
هُنَاكَ منع أَن يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا طَرِيق غير دُخُول
الآخر فَوقف أَحدهمَا على الآخر وَفِي مَسْأَلَتنَا يجوز أَن
يكون لكل وَاحِد من الْحكمَيْنِ أَمارَة غير الآخر يثبت بهَا
ثمَّ يسْتَدلّ بِهِ على ثُبُوت الحكم الآخر فوزانه أَن نقُول
إِن دخل زيد الدَّار فَلْيدْخلْ عَمْرو وَإِن دخل عَمْرو
فَلْيدْخلْ زيد ثمَّ دخل أَحدهمَا بِسَبَب من الْأَسْبَاب
فَيصير دلَالَة على دُخُول الآخر فَكَذَلِك هَاهُنَا
قَالُوا إِذا جعلتم كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة للْآخر جعلتم
الْمُوجب مُوجبا وَذَلِكَ لَا يجوز
قُلْنَا إِنَّمَا لَا يجوز إِذا جعلنَا كل وَاحِد مِنْهُمَا
عِلّة مُوجبَة للْآخر فَيصير كل وَاحِد مِنْهُمَا مُوجبا وَنحن
لَا نَفْعل ذَلِك وَإِنَّمَا جعلنَا صِحَة كل وَاحِد من
الْحكمَيْنِ أَمارَة وَدلَالَة على صِحَة الآخر وَفِي
الدَّلَائِل يجوز أَن يَجْعَل كل وَاحِد من الْأَمريْنِ
دَلِيلا على الآخر إِذا كَانَ طَرِيق ثبوتهما وَاحِدًا
أَلا ترى أَنه إِذا كَانَ للرجل ولدان جَازَ أَن يسْتَدلّ
بِإِرْث كل وَاحِد مِنْهُمَا على إِرْث الآخر فَيكون كل وَاحِد
مِنْهُمَا دَلِيلا على الآخر حِين كَانَ طريقهما فِي
الِاسْتِحْقَاق وَاحِدًا فَكَذَلِك إِذا عرف من عَادَة
الْإِنْسَان أَنه إِذا وهب لأحد بنيه شَيْئا وهب للْآخر مثل
ذَلِك جَازَ أَن يسْتَدلّ بعطية كل وَاحِد مِنْهُمَا على
عَطِيَّة الآخر فَكَذَلِك هَاهُنَا لما كَانَ ثُبُوت طَرِيق
الطَّلَاق وَالظِّهَار النِّكَاح جَازَ أَن يَجْعَل صِحَة كل
وَاحِد مِنْهُمَا دَلِيلا على صِحَة الآخر
(1/480)
مَسْأَلَة 24
إِذا تَعَارَضَت فِي الأَصْل عِلَّتَانِ إِحْدَاهمَا تَقْتَضِي
حمل الْفَرْع عَلَيْهِ وَالْأُخْرَى لَا تَقْتَضِي حمل
الْفَرْع عَلَيْهِ جَازَ القَوْل بهما إِذا لم يتنافيا
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز
لنا هُوَ أَن الْعِلَل أَمَارَات وعلامات وأدلة فَجَاز أَن
يتَّفق إِثْبَات عَام وخاص على إِثْبَات حكم وَاحِد فِي عين
وَاحِدَة كالكتاب وَالسّنة
وَلِأَن الطري الَّتِي تدل على صِحَة الْعلَّة من النَّص
وَالْإِجْمَاع والتأثير قد وجد فِي العلتين جَمِيعًا فَدلَّ
على صحتهما
وَلِأَنَّهُ إِن كَانَت الْعلَّة هِيَ الْمَعْنى الَّتِي تعلق
بهَا الصّلاح فِي الحكم كَمَا قَالَ بعض النَّاس فَيجوز أَن
يتَعَلَّق الْعلَّة بِكُل وَاحِد من العلتين وَإِن كَانَت
أَمارَة على
(1/481)
الحكم كَمَا قَالَ آخَرُونَ فَيجوز أَيْضا
أَن تَجْتَمِع أَمَارَات فِي إِثْبَات الحكم فَوَجَبَ أَن يجوز
القَوْل بالعلتين
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُمَا يتنافيان فِي الْمَعْنى لِأَن
إِحْدَاهمَا تَقْتَضِي حمل الْفَرْع على الأَصْل وَالْأُخْرَى
تمنع من ذَلِك فصارتا كالعلتين المتنافيتين فِي الحكم
قُلْنَا لَا نسلم أَن بَينهمَا تنافيا
وَقَوْلهمْ إِن إِحْدَاهمَا تمنع حمل الْفَرْع على الأَصْل غير
حصحي لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يمْنَع حمل الْفَرْع على
الأَصْل وَإِنَّمَا لَا يتَعَدَّى إِحْدَاهمَا فَأَما أَن يكون
هُنَاكَ عِلّة أُخْرَى تَقْتَضِي حمل الْفَرْع على الأَصْل
فَلَا يجوز
قَالُوا وَلِأَن القَوْل بهما يُؤَدِّي إِلَى تنَافِي الحكم
فِي الْعلَّة لِأَنَّك إِذا عكست إِحْدَى العلتين فِي الْفَرْع
أوجبت ضد حكم الْمُعَلل فَصَارَ كالعلتين المتنافيتين
قُلْنَا إِن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا تَقْتَضِي وجود
الحكم لوجودها وَلَا تَقْتَضِي انتفاءه بانتفائها فَلَا
يُؤَدِّي إِلَى التَّنَافِي فِي الحكم فِي العلتين
(1/482)
مَسْأَلَة 25
إِذا تَعَارَضَت عِلَّتَانِ إِحْدَاهمَا ناقلة وَالْأُخْرَى
مبقية على الأَصْل فالناقلة أولى
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ هما سَوَاء
لنا هُوَ أَن الناقلة تفِيد حكما شَرْعِيًّا وَالْأُخْرَى لَا
تفِيد إِلَّا مَا كَانَ قبل ذَلِك فَكَانَ مَا تفِيد حكما
شَرْعِيًّا أولى لِأَنَّهُمَا دليلان تَعَارضا فَقدم النَّاقِل
مِنْهُمَا على المبقي كالخبرين
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الناقلة تفِيد تعلق الحكم بِمَعْنى
لم يكن مُتَعَلقا بِهِ قبل ذَلِك فَتعلق الحكم بِمَعْنى
مُخَالف لبَقَائه بِحكم الأَصْل واستصحاب الْحَال
أَلا ترى أَن بَقَاءَهُ بِحكم الأَصْل لَا يَقع بِهِ تَخْصِيص
وَلَا ترك دَلِيل وَنَقله بِالتَّعْلِيلِ يُوجب تَخْصِيص مَا
عَارضه من الْعُمُوم وَتَأْويل مَا عَارضه من الظَّوَاهِر
قُلْنَا يبطل بالخبرين إِذا تَعَارضا وَأَحَدهمَا ناقل
وَالْآخر مبق على الأَصْل فَإِن المبقي مِنْهُمَا يُفِيد
بَقَاء الحكم بِدَلِيل لَا يُوجب التَّخْصِيص والتأويل ثمَّ
يقدم النَّاقِل عَلَيْهِ
وَلِأَن الناقلة ساوتها فِي جَمِيع مَا ذَكرُوهُ وانفردت
بِأَنَّهَا تفِيد حكما شَرْعِيًّا لم يكن قبل ذَلِك فَوَجَبَ
أَن تقدم
(1/483)
مَسْأَلَة 26
إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين تَقْتَضِي الْحَظْر وَالْأُخْرَى
تَقْتَضِي الْإِبَاحَة فالتي تَقْتَضِي الْحَظْر أولى فِي قَول
بعض أَصْحَابنَا وَهُوَ قَول أبي الْحسن الْكَرْخِي
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ هما سَوَاء
لنا هُوَ أَن التَّعَارُض إِذا حصل اشْتبهَ الحكم عِنْده
وَمَتى اشْتبهَ الْمُبَاح بالمحظور غلب الْحَظْر كذكاة
الْمَجُوسِيّ وَالْمُسلم وَالْأُخْت والأجنبية وَيدل عَلَيْهِ
هُوَ أَن الْحَظْر وَالْإِبَاحَة إِذا اجْتمعَا غلب الْحَظْر
على الْإِبَاحَة كالجارية الْمُشْتَركَة بَين الرجلَيْن لَا
يحل لوَاحِد مِنْهُمَا وَطْؤُهَا كَذَلِك هَاهُنَا
وَلِأَن الْحَظْر أحوظ لِأَن فِي الْإِقْدَام على الْمَحْظُور
إِثْمًا وَلَيْسَ فِي ترك الْمُبَاح إِثْم
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن تَحْرِيم الْمُبَاح كإباحة
الْمَحْظُور فَلم يكن لأَحَدهمَا على الآخر مزية
قُلْنَا هما وَإِن اسْتَويَا فِيمَا ذَكرُوهُ إِلَّا أَن
للمحظور مزية وَهُوَ أَنه يَأْثَم بِفِعْلِهِ وَلَا يَأْثَم
بترك الْمُبَاح فَكَانَ الْحَظْر أولى
(1/484)
مَسْأَلَة 27
إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين توجب الْحَد وَالْأُخْرَى تسقطه
فهما سَوَاء
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ الْمسْقط للحد أولى
لنا هُوَ أَن الشهبة لَا تُؤثر فِي إِثْبَات الْحَد فِي
الشَّرْع وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه يجوز إثْبَاته بِخَبَر
الْوَاحِد وَالْقِيَاس مَعَ وجود الشُّبْهَة فَإِذا تعَارض
فِيهِ عِلَّتَانِ وَجب أَن يَكُونَا سَوَاء كَمَا تَقول فِي
سَائِر الْأَحْكَام
وَاحْتج الْمُخَالف بقوله عَلَيْهِ السَّلَام ادرؤوا الْحُدُود
بِالشُّبُهَاتِ وادرؤوا الْحَد مَا اسْتَطَعْتُم وَلِأَن يخطىء
الإِمَام فِي الْعَفو خير من أَن يخطىء فِي الْعقُوبَة
قُلْنَا إِن هَذَا إِنَّمَا ورد عِنْد الْقَضَاء والاستفتاء
وَلِهَذَا قَالَ فَإِن الإِمَام لِأَن يخطىء فِي الْعَفو خير
من أَن يخطىء فِي الْعقُوبَة
(1/485)
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو تعَارض بينتان فِي
ذَلِك سقطتا فَكَذَلِك إِذا تعَارض دليلان
قُلْنَا إِحْدَى البيئتين توجب الِاسْتِيفَاء وَالْأُخْرَى
توجب الْإِسْقَاط فَجعل ذَلِك شُبْهَة فأسقطتا وَهَاهُنَا
إِحْدَى الدَّلِيلَيْنِ دلّ على أَنه شرع وَالْآخر دلّ على
أَنه لَيْسَ بشرع والشبهة لَا تُؤثر فِي ذَلِك فَلم يكن
لأَحَدهمَا على الآخر مزية بذلك عَلَيْهِ إِذْ فِي الاتسيفاء
لَا تقبل شَهَادَة وَاحِد وَفِي إِثْبَات الْحُدُود يقبل خبر
الْوَاحِد وَالْقِيَاس فَافْتَرقَا
(1/486)
مَسْأَلَة 28
إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين تَقْتَضِي الْعتْق وَالْأُخْرَى
لَا تَقْتَضِيه فهما سَوَاء
وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين الَّتِي تَقْتَضِي الْعتْق أولى
لنا هُوَ أَنه لَا مزية لِلْعِتْقِ على الرّقّ فِي كَونه شرعا
فَكَانَ التَّعَارُض بَينهمَا كالتعارض فِي غَيرهمَا
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الْعتْق مبناه على الْقُوَّة أَلا
ترى أَنه يسري إِلَى غَيره وَإِذا وَقع لم يلْحقهُ الْفَسْخ
فَوَجَبَ أَن يقدم مَا يَقْتَضِي الْعتْق على مَا يَقْتَضِي
الرّقّ
قُلْنَا قُوَّة الْعتْق على الرّقّ فِي الْوُقُوع فَأَما فِي
كَونه شرعا فِي إِثْبَات حكم الشَّرْع فالعتق وَالرّق وَاحِد
فَلَا يقدم أَحدهمَا على الآخر
(1/487)
مَسْأَلَة 29
إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين أَكثر فروعا من الْأُخْرَى كَانَت
أكثرهما فروعا أولى
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ هما سَوَاء وَهُوَ قَول أَصْحَاب
أبي حنيفَة
لنا هُوَ أَن أكثرهما فروعا تفِيد من الْأَحْكَام مَالا تفِيد
الْأُخْرَى فَكَانَت أولى
وَلِأَن كَثْرَة الْفُرُوع تجْرِي مجْرى شَهَادَة الْأُصُول
فَيجب أَن تكون أولى
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ لَو تعَارض لفظان يدْخل فِي
أَحدهمَا من المسميات أَكثر مِمَّا يدْخل فِي الآخر لم يَقع
بذلك تَرْجِيح فَكَذَلِك العلتان
قُلْنَا لَو كَانَتَا كاللفظين لوَجَبَ أَن يكون مَا قل فروعه
أولى كَمَا كَانَ الْأَخَص من اللَّفْظَيْنِ أولى من الْأَعَمّ
مِنْهُمَا
وَلِأَن اللَّفْظ الْخَاص وَالْعَام إِذا تَعَارضا أمكن بِنَاء
أَحدهمَا على الآخر وَلَا يُمكن ذَلِك فِي العلتين فَقدم
أكثرهما فَائِدَة
(1/488)
مَسْأَلَة 30
إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين أقل أوصافا من الْأُخْرَى
فالقليلة الْأَوْصَاف أولى
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ هما سَوَاء
لنا هُوَ مَا قلت أوصافها أجْرى على الْأُصُول وَأسلم من
الْفساد فَكَانَت أولى
وَلِأَن مَا قلت أوصافها تشابه العقليات فَكَانَت أولى
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن ذَات الْأَوْصَاف وَذَات الْوَصْف
الْوَاحِد سَوَاء فِي إِثْبَات الحكم فكانتا سَوَاء عِنْد
التَّعَارُض
قُلْنَا ينكسر بالْخبر وَالْقِيَاس فَإِنَّهُمَا يتساويان فِي
إِثْبَات الحكم ثمَّ يقدم الْخَبَر على الْقيَاس عِنْد
التَّعَارُض
(1/489)
مَسْأَلَة 31
إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين منتزعة من أصلين وَالْأُخْرَى من
أصل وَاحِد قدمت من أصلين فِي قَول بعض أَصْحَابنَا
وَمِنْهُم من قَالَ هما سَوَاء
لنا هُوَ أَنه إِذا كثرت الْأُصُول كثرت شَوَاهِد الصِّحَّة
فَيجب أَن يكون أولى كَمَا لَو عاضد إِحْدَاهمَا ظَاهر وَلم
يعاضد الْأُخْرَى
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ إِذا كَانَت الْعلَّة وَاحِدَة
فكثرة الْأُصُول لَا تُؤثر أَلا ترى أَن الْعلَّة إِذا فَسدتْ
فَسدتْ فِي الْأُصُول كلهَا وَلم تَنْفَع كَثْرَة الْأُصُول
قُلْنَا هَذَا يبطل بِهِ إِذا عاضد إِحْدَى العلتين عُمُوم
فَإِنَّهَا إِذا فَسدتْ لم تَنْفَع معاضدة الْعُمُوم لَهَا
ثمَّ تقدم على الْأُخْرَى
(1/490)
مَسْأَلَة 32
إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين صفة ذاتية وَالْأُخْرَى حكمِيَّة
فالحكمية أولى وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ الذاتية أولى
لنا هُوَ أَن الْمَطْلُوب هُوَ الحكم وَالْحكم أخص بالحكم من
الصّفة الذاتية فَكَانَت الْحكمِيَّة أولى
وَلِأَن الصّفة الذاتية قد تُوجد وَلَا يتَعَلَّق بهَا الحكم
وَذَلِكَ قبل الشَّرْع وَلَا تُوجد الْحكمِيَّة إِلَّا
وَالْحكم مُتَعَلق بهَا فَكَانَت الْحكمِيَّة أولى
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الصِّفَات معَان لَا يفْتَقر وجودهَا
إِلَى مَا تفْتَقر إِلَيْهِ الْأَحْكَام فِي الشَّرْع فَكَانَ
تَعْلِيق الحكم على الصِّفَات أولى
قُلْنَا الْأَحْكَام وَإِن افْتقر ثُبُوتهَا إِلَى الشَّرْع
إِلَّا أَنَّهَا إِذا ثبتَتْ كَانَت كالصفات فِي الثُّبُوت
وَلَا مزية للصفات عَلَيْهَا من هَذَا الْوَجْه وَقد بَينا
تَرْجِيح الحكم على الصّفة فَوَجَبَ أَن يكون أولى
قَالُوا وَلِأَن الصِّفَات تشابه العقليات فَكَانَت أقوى
قُلْنَا فِي العقليات الْمَقْصُود طلب أَحْكَام الْعقل
وَالصِّفَات أخص بهَا وَهَاهُنَا الْمَقْصُود طلب حكم الشَّرْع
فَكَانَ الحكم أخص بِهِ
(1/491)
مَسْأَلَة 33
القَوْل بالاستحسان بَاطِل وَهُوَ ترك الْقيَاس لما يستحسن
الْإِنْسَان من غير دَلِيل
وَحكى الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَبشر المريسي القَوْل عَن
أبي حنيفَة بالاستحسان وَهُوَ ترك الْقيَاس لما استحسنه
الْإِنْسَان من غير دَلِيل
(1/492)
وَأنكر الْمُتَأَخّرُونَ ذَلِك من مذْهبه
فَقَالَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي الِاسْتِحْسَان الْعُدُول
بِحكم الْمَسْأَلَة عَن حكم نظائرها بِدَلِيل يَخُصهَا
(1/493)
وَقَالَ بَعضهم هُوَ القَوْل بأقوى
الدَّلِيلَيْنِ
وَقَالَ بَعضهم هُوَ تَخْصِيص الْعلَّة
فَإِن كَانَ الْمَذْهَب مَا حَكَاهُ الشَّافِعِي وَبشر المريسي
فدليلنا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم}
وَمَا يستحسن من غير دَلِيل لَا علم لَهُ بِهِ
وَلِأَن الْقيَاس دَلِيل من أَدِلَّة الشَّرْع فَلَا يجوز
تَركه لما يستحسنه الْإِنْسَان من غير دَلِيل كالكتاب وَالسّنة
وَلَو جَازَ الرُّجُوع إِلَى مَا يستحسنه الْإِنْسَان من غير
دَلِيل لوَجَبَ أَن يَسْتَوِي الْعلمَاء والعامة فِي ذَلِك
لأَنهم يستحسنون كَمَا يستحسن الْعلمَاء
وَإِن كَانَ الْأَمر على مَا فسره أَصْحَابه فَإِنَّهُ لَا
مُخَالفَة فِي مَعْنَاهُ فَإِن ترك أَضْعَف الدَّلِيلَيْنِ
لأقواهما وَاجِب وَترك الْقيَاس بِدَلِيل أقوى مِنْهُ وَاجِب
وَلَكنهُمْ لم يجروا على هَذَا الطَّرِيق فَإِنَّهُم تركُوا
الْقيَاس فِي مَوَاضِع لَيْسَ مَعَهم فِيهَا دَلِيل أقوى
مِمَّا تَرَكُوهُ وسموها مَوَاضِع الِاسْتِحْسَان فَمن ذَلِك
إِيجَاب الْحَد بِشُهُود الزوايا فَإِنَّهُ ترك اخْتِلَاف
الشَّهَادَات وألفاظها بِرَأْيهِ من غير دَلِيل وَأوجب فِيهَا
الْحَد فَدلَّ على بطلَان مَا قَالَه الْمُتَأَخّرُونَ
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {الله نزل أحسن الحَدِيث}
وَقَوله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من
ربكُم}
(1/494)
قُلْنَا هَذَا أَمر بالاتباع لما أنزل
وكلامنا فِيمَا يستحسنه الْإِنْسَان من تِلْقَاء نَفسه من غير
دَلِيل
فَإِن قيل روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ مَا رَآهُ
الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن
قُلْنَا المُرَاد بِهِ مَا أجمع النَّاس عَلَيْهِ أَلا ترى
أَنه علق ذَلِك على اسْتِحْسَان جَمِيع الْمُسلمين وعندما
استحسنه أهل الْإِجْمَاع فَهُوَ حسن عِنْد الله تَعَالَى فَيجب
الْمصير إِلَيْهِ وَالْعَمَل بِهِ
(1/495)
|