التحبير شرح التحرير في أصول الفقه ـ[التحبير شرح التحرير في أصول الفقه]ـ
المؤلف: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي
الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885هـ)
المحقق: د. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح
الناشر: مكتبة الرشد - السعودية / الرياض
الطبعة: الأولى، 1421هـ - 2000م
عدد الأجزاء: 8
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(1/2)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على
نَبينَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ، وَبعد: فَلَمَّا
كنت قد صنفت الْمُخْتَصر فِي الْأُصُول الْمُسَمّى تَحْرِير
الْمَنْقُول مُعْتَمدًا على الله وَحده فِي الْإِخْلَاص
وَالْقَبُول، فجَاء - بِحَمْد الله - وافياً بالمراد، كَافِيا
لمن فهم مَعْنَاهُ من الْعباد.
وَلما رَأَيْت الطّلبَة قد أَقبلُوا عَلَيْهِ، واعتنوا بِهِ
وتوجهوا إِلَيْهِ، أَحْبَبْت أَن أعلق عَلَيْهِ شرحاً وَاضحا،
يرجع إِلَيْهِ عِنْد حل المشكلات، ويعتمد عَلَيْهِ عِنْد وجود
المعضلات.
فَوَضَعْنَا هَذَا الشَّرْح محيطاً بجل أَطْرَافه، ومستوعباً
لمسائله من أكنافه.
فَنَذْكُر فِيهِ مَا ذهب إِلَيْهِ أَحْمد وَأَصْحَابه أَو
بَعضهم أَولا غَالِبا، ثمَّ مَذَاهِب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة
وأتباعهم إِن كَانُوا مُخْتَلفين، ونزيد هُنَا غَالب
(1/3)
مَذَاهِب الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين،
وَالْعُلَمَاء المعتبرين، وَطَرِيقَة الْمُتَكَلِّمين من
الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم من المناظرين، وطريقتي الرَّازِيّ،
والآمدي فَإِن الْعَمَل فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَقبلهَا على
طريقتهما.
فَنَذْكُر أُمَّهَات جميلَة، ودقائق جليلة، خلت عَنْهَا أَكثر
المطولات، وَلم تشْتَمل عَلَيْهَا جلّ المصنفات؛ وَذَلِكَ
لِأَنِّي أطلعت على كتب كَثِيرَة للْقَوْم من المختصرات
والمطولات، من الْمُتُون والشروح، من كتب أَصْحَابنَا
(1/4)
وَغَيرهم من أَرْبَاب الْمذَاهب
الثَّلَاثَة وَغَيرهَا، وَقد رَأَيْت أَن أذكرها بأسمائها
هُنَا؛ ليعلم من أشكل عَلَيْهِ شَيْء فِي الْمَتْن أَو فِي
هَذَا الشَّرْح، أَن يُرَاجع الْمَنْقُول من الْكتاب الَّذِي
نَقَلْنَاهُ مِنْهُ؛ لاحْتِمَال سَهْو أَو غَيره.
وَرُبمَا ذكرنَا بعض مسَائِل من كتب الْفِقْه وَغَيرهَا مِمَّا
هُوَ مُتَعَلق بِالْمحل فأذكره.
وَمن الْكتب كتب نقلت عَنْهَا لم أرها، مُقَلدًا فِي ذَلِك
النَّاقِل عَنْهَا أَو مِنْهَا.
وَفِي ذَلِك فَائِدَة أُخْرَى: وَهُوَ الْعلم بِمَعْرِِفَة
صَاحب الْكتاب عِنْد من لَا يُعلمهُ.
فَمن الْكتب الَّتِي للأصحاب مِمَّا نقلت عَنْهَا، وَمِنْهَا:
" الْكِفَايَة "، و " الْعدة " فِي / الْأُصُول، و "
الْمُعْتَمد " و " الْخلاف "، و " الْمُجَرّد "،
(1/5)
و " إبِْطَال التَّأْوِيل "، و " كتاب
الرِّوَايَتَيْنِ "، " الْمُخْتَصر "، كل ذَلِك للْقَاضِي أبي
يعلى.
(1/6)
و " التَّمْهِيد " فِي الْأُصُول مُجَلد
كَبِير، و " الِانْتِصَار " لأبي الْخطاب.
و" الْوَاضِح " فِي الْأُصُول، ثَلَاث مجلدات، و " مُخْتَصر
فِي الْأُصُول " - أَيْضا - مُجَلد، و " الْإِرْشَاد فِي أصُول
الدّين "، و " المنثور "، و " المناظرات "،
(1/7)
و " الْفُنُون "، و " الْفُصُول: فِي
الْفِقْه، لِابْنِ عقيل.
(1/8)
و " الرَّوْضَة " فِي الْأُصُول، و "
الْمُغنِي " فِي الْفِقْه، للشَّيْخ موفق الدّين ابْن قدامَة.
و" المسودة " لبني تَيْمِية، وهم: الشَّيْخ مجد الدّين، وَولده
الشَّيْخ عبد الْحَلِيم، وحفيده الشَّيْخ تَقِيّ الدّين،
وَهُوَ المُرَاد بِقَوْلِي فِي الْمَتْن:
(1/9)
(قَالَ الشَّيْخ) ، (وَعند الشَّيْخ) ،
وَنَحْوه.
و" مُخْتَصر الرَّوْضَة "، و " شَرحه "، ثَلَاث مجلدات،
للشَّيْخ سُلَيْمَان ابْن عبد الْقوي الطوفي.
و" شَرحه " للشَّيْخ عَلَاء الدّين الْكِنَانِي، مُجَلد.
(1/10)
و " التَّذْكِرَة " مُخْتَصر الرَّوْضَة -
أَيْضا - لولد الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي.
و" مختصرها " - أَيْضا - لِابْنِ أبي الْفَتْح.
(1/11)
و " الْمقنع " فِي الْأُصُول، و "
الرعايتان "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، و " نِهَايَة المبتدئين
"، لِابْنِ حمدَان.
(1/12)
و " مُخْتَصر الْمقنع "، و " شَرحه "،
مُجَلد، لأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الْحَرَّانِي.
ومجلد فِي أصُول الْفِقْه، للشَّيْخ عبد الْمُؤمن.
(1/13)
ومجلد فِي الْأُصُول، للشَّيْخ شمس الدّين
ابْن مُفْلِح الْمَقْدِسِي، وَهُوَ اصل كتَابنَا الْمَتْن؛
فَإِن غَالب استمدادنا فِيهِ مِنْهُ.
ومجلد فِي الْأُصُول، للشَّيْخ شرف الدّين ابْن قَاضِي
الْجَبَل الْمَقْدِسِي، وصل فِيهِ إِلَى أثْنَاء الْقيَاس،
وَلم يعاود النّظر حَتَّى اخترمته الْمنية.
و" الْإِيضَاح " فِي الجدل، للشَّيْخ أبي مُحَمَّد يُوسُف بن
الشَّيْخ الْحَافِظ
(1/14)
أبي الْفرج الْجَوْزِيّ، وَهُوَ المُرَاد
بِقَوْلِي فِي الْمَتْن: (وَقَالَ الْجَوْزِيّ) ، (وَعند
الْجَوْزِيّ) ، وَنَحْوه.
ومجلد لطيف فِي " الْأُصُول وَالْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة "،
للشَّيْخ عَلَاء الدّين البعلي.
وَمن كتب الْفِقْه غير مَا تقدم: " الْخرقِيّ "، و "
الْإِرْشَاد "، لِابْنِ أبي
(1/15)
مُوسَى، و " الْمُبْهِج "، / و "
الْإِيضَاح "، لأبي الْفرج الْمَقْدِسِي، وَله: " التَّبْصِرَة
"، و " جَامع الْأَنْوَار لتوحيد الْملك الْجَبَّار "، فِي
أصُول الدّين.
و" الْوَاضِح "، لِابْنِ الزَّاغُونِيّ، و " الْعُقُود والخصال
" لِابْنِ
(1/16)
الْبَنَّا، و " التَّلْخِيص "، و "
التَّرْغِيب "، و " الْبلْغَة " للشَّيْخ فَخر الدّين ابْن
تَيْمِية، و " الرَّوْضَة " فِي الْفِقْه، لَا نعلم مصنفها،
وَقيل: إِنَّهَا لأبي الْفَتْح نصر بن عَليّ الضَّرِير
الْحَرَّانِي، و " الحاويان "، للشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن أبي
(1/17)
الْقَاسِم مدرس المستنصرية، و "
الْقَوَاعِد الْفِقْهِيَّة " لِابْنِ رَجَب.
وَمن الْكتب الَّتِي لغير الْأَصْحَاب مِمَّا اطَّلَعت
عَلَيْهَا ونقلت مِنْهَا:
" الْمُسْتَصْفى "، و " شِفَاء الغليل "، للغزالي.
(1/18)
و " اللمع "، و " شرحها "، للشَّيْخ أبي
إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَهُوَ المُرَاد بِقَوْلِي فِي
الْمَتْن: (قَالَ الشِّيرَازِيّ) ، (وَعند الشِّيرَازِيّ) ،
وَنَحْوه.
و" الْبَزْدَوِيّ "، وشمس الائمة، ... .
(1/19)
و " الْمنَار "، و " الأخسيكثي "، و "
الوافي " شَرحه، للحنفية.
و" الورقات "، لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي، وَهُوَ
المُرَاد بِقَوْلِي فِي
(1/20)
الْمَتْن: (أَبُو الْمَعَالِي) لَا أَبُو
الْمَعَالِي ابْن المنجا الْحَنْبَلِيّ.
و" شرحها "، لِابْنِ الفركاح، و " شرحها " لغيره.
(1/21)
و " الْمَحْصُول "، و " منتخبه "، و "
المعالم، للفخر الرَّازِيّ.
و" شرح الْمَحْصُول " للقرافي، و " شَرحه " للأصفهاني.
(1/22)
و " الإحكام "، و " مُنْتَهى السول والأمل
"، للآمدي.
و" التَّوْقِيف على المعالم "، و " الْحَاصِل "، للأرموي.
و" المحصل "، و " شرح المحصل "، للكاتبي.
و" التَّنْقِيح "، و " شَرحه "، للقرافي.
(1/23)
و " الْمِنْهَاج "، للبيضاوي، و " شَرحه "
للإسنوي، و " شَرحه "، لِابْنِ الملقن، و " شَرحه "، للخنجي، و
" شَرحه "،
(1/24)
للاصفهاني، و " شَرحه "، للجاربردي، و "
شَرحه "، للتستري، و " شَرحه "، للتاج السُّبْكِيّ.
(1/25)
و " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب "، و "
الْكَبِير "، و " الصَّغِير "، و " شَرحه "، للقطب
الشِّيرَازِيّ، و " شَرحه "، للاصفهاني، و " شَرحه "،
للْقَاضِي عضد الدّين، ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... .
(1/26)
و " شَرحه "، لِابْنِ المطهر الرافضي، و "
شَرحه "، للسَّيِّد ركن الدّين، و " شَرحه "، للتاج
السُّبْكِيّ.
و" نِهَايَة الْوُصُول إِلَى علم الْأُصُول "، للصفي
الْهِنْدِيّ، أَربع مجلدات، و " جمع الْجَوَامِع "، للتاج
السُّبْكِيّ، و " منع
(1/27)
الْمَوَانِع "، لَهُ " أَيْضا -، و " شَرحه
"، للزركشي، و " شَرحه "، / لِابْنِ الْعِرَاقِيّ، و " شَرحه
"، ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
(1/28)
للمحلي، و " شَرحه "، للكوراني، و "
حَوَاشِي الْعَضُد "، للأبهري، و " حَوَاشِيه "، للتفتازاني، و
" منظومة الْبرمَاوِيّ "، و " شرحها "،
(1/29)
مجلدان، و " التَّحْرِير "، لِابْنِ
الْهمام، وَالله الْمَسْئُول لإتمامه بفضله وإنعامه.
فَأَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَهُوَ حَسبنَا وَنعم
الْوَكِيل، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي
الْعَظِيم، عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب.
(1/30)
شرح مُقَدّمَة الْكتاب
(1/31)
فارغة
(1/32)
قَوْله: {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
.
ابتدأنا بالبسملة تبركاً بهَا، وتأسياً بِكِتَاب الله،
واتباعاً لسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - حَيْثُ ابْتَدَأَ بهَا فِي [كِتَابَته] إِلَى الْمُلُوك
وَغَيرهم.
واقتداء بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعض
الرِّوَايَات: " كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم
الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أَبتر ".
(1/33)
فارغة
(1/34)
وبفعل سُلَيْمَان بن دَاوُد - عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام -، حَيْثُ كتب إِلَى بلقيس.
قَوْله: {الْحَمد لله} .
ثنينا بِالْحَمْد؛ مُوَافقَة لوضع الْكتاب الْعَزِيز،
وامتثالاً لقَوْل سيد الْمُرْسلين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَغَيره أَنه
قَالَ: " كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله
فَهُوَ أقطع ".
وَفِي رِوَايَة: " بِحَمْد الله "، وَفِي رِوَايَة: "
بِالْحَمْد "، وَفِي رِوَايَة: " بِبسْم الله الرَّحْمَن "
كَمَا تقدم، وَفِي رِوَايَة:: فَهُوَ أَجْذم "، وَفِي
رِوَايَة: " لَا يبْدَأ فِيهِ بِذكر الله ".
(1/35)
وَالْمَشْهُور حَدِيث أبي هُرَيْرَة،
وَهُوَ حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه،
وَالنَّسَائِيّ فِي " عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة "، وَابْن
حبَان فِي " صَحِيحه "،
(1/36)
والإسفراييني فِي " الْمخْرج على صَحِيح
مُسلم ".
وَمعنى ذِي بَال: أَي ذِي حَال يهتم بِهِ.
وَمعنى أقطع: نَاقص الْبركَة أَو قليلها ".
وَكَذَا معنى أَجْذم بِالْجِيم والذال الْمُعْجَمَة.
وَلَا شكّ أَن الْيمن وَالْبركَة فِي ذكر اسْم الله تَعَالَى
والابتداء بِهِ.
إِذا علم ذَلِك؛ فالألف وَاللَّام فِي الْحَمد اخْتلف فِيهَا:
(1/37)
فَذهب الزَّمَخْشَرِيّ وَمن تبعه إِلَى
أَنَّهَا لتعريف الْجِنْس، وَأَنَّهَا لَا تفِيد سوى
التَّعْرِيف، وَالِاسْم يدل على نفس الْمَاهِيّة الْمعبر
عَنْهَا بالجنسية، فَلَا يُسْتَفَاد الِاسْتِغْرَاق / من
اللَّام، لَكِن لَا شَيْء من الْجِنْس ثَابت لغيره وَإِلَّا
لَكِن الْجِنْس ثَابتا للْغَيْر، لِأَنَّهُ مَتى وجد فَرد
مِنْهُ وجد الجنسفي ضمنه فَيَنْتَفِي الِاخْتِصَاص، فَحصل
الِاسْتِغْرَاق حِينَئِذٍ لَكِن بِدلَالَة الِالْتِزَام،
وَذَلِكَ لِأَن الْجِنْس إِنَّمَا نظره إِلَى الْمَفْهُوم،
لدلَالَة الْحَيَوَان - مثلا - على جسم نَام حساس متحرك
بالإرادة مَعَ قطع النّظر عَن الْأَفْرَاد، فَهُوَ غير مركب
مِنْهَا وَلَا نظر لَهُ إِلَيْهَا إِلَّا من حَيْثُ إِنَّه لَا
يُوجد منفكاً عَنْهَا، فَكَمَا أَن السّقف لَا يُوجد بِدُونِ
حَامِل، كَذَلِك الْجِنْس لَا يُوجد بِدُونِ فَرد، بِخِلَاف
الِاسْتِغْرَاق فَإِنَّهُ لمجموع الْأَفْرَاد، فدلالته على كل
فَرد على انْفِرَاده بالتضمن؛ لِأَن الْمَجْمُوع تركب من
تِلْكَ الْأَفْرَاد، فَلَا خلاف بَينه وَبَين الِاسْتِغْرَاق
فِي الْمَآل حِينَئِذٍ.
(1/38)
وَقَالَ الْجُمْهُور: إِنَّهَا للْعُمُوم،
أَي: هُوَ الَّذِي يسْتَحق المحامد كلهَا على الْحَقِيقَة،
فَهِيَ للاستغراق، بِمَعْنى: أَن كل فَرد من الْحَمد ثَابت لله
تَعَالَى، فدلالته على ثُبُوت الْجَمِيع لَهُ من حَيْثُ هُوَ
مَجْمُوع بِدلَالَة الْمُطَابقَة، وعَلى الْبَعْض بالتضمن.
قَالَ السرمري من أَصْحَابنَا فِي " شرح الؤلؤة ": (الْألف،
(1/39)
وَاللَّام فِي الْحَمد للاستغراق، أَي:
هُوَ الْمُسْتَحق لجَمِيع الْحَمد من كل أحد على كل حَال فِي
كل زمَان) .
وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ": (الْحَمد لَفظه خبر،
كَأَنَّهُ يخبر أَن الْمُسْتَحق للحمد هُوَ الله) . قَالَ:
(وَفِيه تَعْلِيم لِلْخلقِ تَقْدِيره: قُولُوا الْحَمد لله) .
انْتهى.
وَقيل: الْألف وَاللَّام للْعهد، وَيكون الْمَعْهُود مَا ورد
فِي الشَّرَائِع الْمنزلَة، فَيكون أمرنَا بِمَا عهدناه من
ذَلِك مِمَّا هُوَ مُمكن.
قَالَ الواحدي: (الْألف وَاللَّام فِي الْحَمد يحْتَمل كَونهَا
للْجِنْس أَي: جَمِيع المحامد لله؛ لِأَنَّهُ الْمَوْصُوف
بِصِفَات الْكَمَال فِي نعوته وأفعاله الحميدة، وَيحْتَمل /
كَونهَا للْعهد، أَي: الْحَمد الَّذِي حمدته بنفسي وحمدته
أولياؤه) انْتهى.
(1/40)
وعَلى [كل] الْأَقْوَال: الْحَمد لُغَة:
هُوَ الثَّنَاء على الله تَعَالَى بجميل صِفَاته.
وَالثنَاء مَحَله اللِّسَان على قصد التَّعْظِيم سَوَاء تعلق
بالفضائل أَو الفواضل.
وَقَالَ كثير: هُوَ الْوَصْف بالجميل الِاخْتِيَارِيّ على وَجه
التَّعْظِيم.
وَالشُّكْر: فعل يُنبئ عَن تَعْظِيم الْمُنعم لكَونه منعماً
على الشاكر بِسَبَب إنعامه، سَوَاء كَانَ قولا بِاللِّسَانِ،
أَو فعلا بالأركان، أَو اعتقاداً أَو محبَّة بالجنان.
فنقيض الْحَمد الذَّم، ونقيض الشُّكْر الْكفْر.
فموروده الْحَمد اللِّسَان وَحده فَهُوَ مُخْتَصّ
بِالظَّاهِرِ، ومتعلقة النِّعْمَة عَلَيْهِ وَغَيرهَا من
الْأَفْعَال الجميلة كالكرم والشجاعة وَنَحْوهمَا، فمورد خَاص
ومتعلقة عَام.
(1/41)
ومورد الشُّكْر اللِّسَان وَغَيره،
فَشَمَلَ الظَّاهِر وَالْبَاطِن، ومتعلقة النِّعْمَة فَقَط،
فمورده عَام ومتعلقة خَاص، وَمن موارده الْقلب، وَهُوَ أشرف
الْمَوَارِد كلهَا؛ لِأَن فعله وَإِن كَانَ خفِيا يسْتَقلّ
بِكَوْنِهِ شكرا من غير أَن يَنْضَم إِلَيْهِ فعل غَيره،
بِخِلَاف الموردين الآخرين، إِذْ لَا يكون فعل شَيْء مِنْهُمَا
حمداً وَلَا شكرا حَقِيقَة مَا لم يَنْضَم إِلَيْهِ فعل
الْقلب.
قَالَ بَعضهم: (فَالْحَمْد أَعم بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقع
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَقع على الْأَفْعَال وَالصِّفَات، وأخص
بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقع بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا
بِاللِّسَانِ) .
وَالشُّكْر أَعم بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقع بِهِ، لِأَنَّهُ
يَقع بالاعتقاد وَاللِّسَان وَالْفِعْل، وأخص بِالنِّسْبَةِ
إِلَى مَا يَقع عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا فِي
مُقَابلَة الْإِحْسَان فَهُوَ جَزَاء.
فَالْحَمْد أَعم من الشُّكْر بِاعْتِبَار الْمُتَعَلّق، وأخص
بِاعْتِبَار المورد، وَالشُّكْر أَعم من الْحَمد بِاعْتِبَار
المورد وأخص بِاعْتِبَار الْمُتَعَلّق، فبينهما عُمُوم وخصوص /
من وَجه، وشأن الْعُمُوم وَالْخُصُوص من وَجه أَن يجتمعا فِي
صُورَة، وينفرد كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي صُورَة، فيجتمع
الْحَمد وَالشُّكْر فِي الثَّنَاء بِاللِّسَانِ، وينفرد
الْحَمد بالثناء على الصِّفَات الحميدة من غَيره، وينفرد
الشُّكْر بالثناء بالجنان والأركان) .
(1/42)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْحَمد
أَعم من جِهَة أَسبَابه، وَالشُّكْر أَعم من جِهَة أَنْوَاعه.
فَالْحَمْد أَعم؛ لكَونه هُوَ الثَّنَاء الْحسن مُطلقًا،
أَعنِي: فِي مُقَابلَة السَّرَّاء وَالضَّرَّاء على جِهَة
التَّعْظِيم.
وَالشُّكْر هُوَ الثَّنَاء الْحسن على حسن الصَّنِيع، فَمن
هَذَا الْوَجْه الشُّكْر أخص، وَمن جِهَة كَونه بالْقَوْل
وَالْفِعْل أَعم.
قَالَ الله تَعَالَى: {اعْمَلُوا ءال دَاوُد شكرا} [سبأ: 13] .
وَقَالَ الشَّاعِر:
(أفادتكم النعماء مني ثَلَاثَة ... يَدي ولساني وَالضَّمِير
المحجبا)
وَالْحَمْد لَا يكون إِلَّا بالْقَوْل، قَالَ الله تَعَالَى:
{وَقل الْحَمد لله الَّذِي لم يتَّخذ ولدا} [الْإِسْرَاء: 111]
، {وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن} [فاطر:
34] إِلَى غير ذَلِك، فَالْحَمْد وَالشُّكْر حِينَئِذٍ ضدهما
الْكفْر) ، انْتهى.
(1/43)
وَقَالَ ابْن الْقيم فِي " عدَّة الصابرين
": (الشُّكْر يتَعَلَّق بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان والجوارح،
فالقلب للمعرفة والمحبة، وَاللِّسَان للثناء وَالْحَمْد،
والجوارح لاستعمالها فِي طَاعَة المشكور وكفها عَن معاصية.
وَالشُّكْر أخص بالأفعال، وَالْحَمْد أخص بالأقوال.
وَسبب الْحَمد أَعم من سَبَب الشُّكْر، ومتعلق الشُّكْر وَمَا
بِهِ الشُّكْر أَعم مِمَّا بِهِ الْحَمد.
وَمَا يحمد الرب عَلَيْهِ أَعم مِمَّا يشْكر عَلَيْهِ؛
فَإِنَّهُ يحمد على أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وأفعاله ونعمه،
ويشكر على نعمه.
وَمَا يحمد بِهِ أخص مِمَّا يشْكر بِهِ؛ فَإِنَّهُ يشْكر
بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان والجوارح، ويحمد بِالْقَلْبِ
وَاللِّسَان) انْتهى.
وَلَقَد أَجَاد وأفصح عَن المُرَاد.
وَقَالَ أَيْضا: (الْحَمد الْإِخْبَار عَنهُ بِصِفَات كَمَاله
مَعَ محبته وَالرِّضَا وَعنهُ، فَإِن كرر المحامد شَيْئا بعد
شَيْء صَار ثَنَاء، فَإِن كَانَ الْمَدْح بِصِفَات / الْجلَال
وَالْعَظَمَة والكبرياء وَالْملك صَار مجلداً، وَيدل عَلَيْهِ
مَا رَوَاهُ مُسلم أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: " قَالَ الله تَعَالَى: قسمت الصَّلَاة
بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ
(1/44)
ولعبدي مَا سَأَلَ، فَإِذا قَالَ: الْحَمد
لله رب الْعَالمين، قَالَ الله: حمدني عَبدِي.
وَإِذا قَالَ: الرَّحْمَن الرَّحِيم، قَالَ الله: أثنى عَليّ
عَبدِي.
وَإِذا قَالَ: مَالك يَوْم الدّين، قَالَ الله تَعَالَى: مجدني
عَبدِي) فَفرق بَين الْحَمد وَالثنَاء، وَلَو كَانَ الْحَمد
هُوَ الثَّنَاء لما صَحَّ الْفرق) انْتهى.
وَذهب الْمبرد وَغَيره إِلَى أَن الْحَمد وَالشُّكْر بِمَعْنى
وَاحِد.
قلت: قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْحَمد: الشُّكْر وَالرِّضَا
وَالْجَزَاء وَقَضَاء الْحق، وَأحمد الله إِلَيْك وأشكره)
انْتهى.
(1/45)
وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس: " معنى الْحَمد
لله: الشُّكْر لله ".
وَسُئِلَ - أَيْضا - عَن الْحَمد فَقَالَ: " كلمة شكر لأهل
الْجنَّة ".
ورده جمع وَقَالُوا: (لَيْسَ بمرضي) ؛ فَإِن فِي الحَدِيث: "
الْحَمد رَأس الشُّكْر " رَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره
"، وَهُوَ دَال على الْفرق بَينهمَا.
(1/46)
وَقيل: الشُّكْر أَعم من الْحَمد؛
فَإِنَّهُ بِاللِّسَانِ والجوارح، وَالْحَمْد بِاللِّسَانِ
فَقَط، ذكره ابْن الملقن.
وَالْحَمْد لَا يكون إِلَّا عَن علم، وَالشُّكْر قد يكون عَن
ظن، نَقله ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " مُخْتَصر لَهُ على
الْمِنْهَاج ".
تَنْبِيهَات:
الأول: مَا ذكر من معنى الْحَمد وَالشُّكْر أَولا مَعْنَاهُمَا
لُغَة، وَأما مَعْنَاهُمَا فِي عرف الْأُصُولِيِّينَ وَغَيرهم
فَهُوَ: أَن الْحَمد لَيْسَ هُوَ قَول الْقَائِل: الْحَمد لله.
وَإِن كَانَ هَذَا القَوْل فَردا من أَفْرَاد الْمَاهِيّة، بل
هُوَ فعل يشْعر بتعظيم الْمُنعم بِسَبَب كَونه منعماً،
وَذَلِكَ الْفِعْل: إِمَّا فعل الْقلب. أَعنِي: اعْتِقَاد
اتصافه بِصِفَات الْكَمَال والجلال.
أَو فعل اللِّسَان. أَعنِي: ذكر مَا يذكرهُ بِقَلْبِه.
أَو فعل الْجَوَارِح. وَهُوَ الْإِتْيَان بِأَفْعَال دَالَّة
على ذَلِك.
(1/47)
وَالشُّكْر لَيْسَ هُوَ قَول الْقَائِل:
الشُّكْر لله، وَلَا القَوْل الْمُطلق الدَّال على تَعْظِيم
الله، وَإِن كَانَ الثَّانِي / جُزْءا مِنْهُ وَالْأول فَرد من
هَذَا الْجُزْء، بل هُوَ صرف العَبْد جَمِيع مَا أنعم الله
عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ إِلَى مَا خلق لأَجله من جَمِيع الْحَواس
والآلات والقوى، فَالْحَمْد هُنَا أَعم من الشُّكْر مُطلقًا،
فَكل شكر حمد وَلَا عكس.
إِذا علم ذَلِك؛ فقد يوضع الْحَمد مَوضِع الشُّكْر، فَيُقَال:
(حمدته على معروفه عِنْدِي) ، كَمَا يُقَال: (شكرته) وَلَا
عكس، فَلَا يُقَال: (شكرته على شجاعته وَكَرمه) .
فَائِدَة: اخْتلف فِي اشتقاق الْحَمد، فَقَالَ النَّضر بن
شُمَيْل: (هُوَ مُشْتَقّ من الحمدة، وَهِي شدَّة لَهب النَّار)
.
قلت: قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (حمدة النَّار بِالتَّحْرِيكِ،
صَوت التهابها، وَيَوْم محتمد شَدِيد الْحر) انْتهى.
(1/48)
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: (هُوَ مقلوب
من الْمَدْح، كَقَوْلِهِم: مَا أطيبه وأيطبه) وَيَأْتِي هَذَا.
الثَّانِي: قد تقدم أَن بَين الْحَمد وَالشُّكْر اللغويين
عُمُوما وخصوصاً من وَجه؛ لِأَن الْحَمد قد يَتَرَتَّب على
الْفَضَائِل وَهِي الصِّفَات الجميلة لَا يتَجَاوَز مِنْهَا
أثر وَلَا مَنْفَعَة إِلَى غير الممدوح كالشجاعة.
وَالشُّكْر يخْتَص بالفواضل وَهِي النعم، وَهِي الصِّفَات
والمزايا المتعدية الَّتِي يحصل مِنْهَا مَنْفَعَة لغير
الممدوح، كالإحسان والمواهب والعطايا.
وَبَين الْحَمد وَالشُّكْر العرفيين عُمُوم وخصوص مُطلقًا،
فَالْحَمْد أَعم مُطلقًا لعُمُوم النعم الْوَاصِلَة إِلَى
الحامد وَغَيره، واختصاص الشُّكْر بِمَا يصل إِلَى الشاكر.
وَذَلِكَ لِأَن الْمُنعم الْمَذْكُور فِي تَعْرِيف الْحَمد
مُطلق، لم يُقيد بِكَوْنِهِ منعماً على الحامد وَغَيره
فتناولهما.
(1/49)
بِخِلَاف الشُّكْر؛ إِذْ قد اعْتبر فِيهِ
منعم مَخْصُوص وَهُوَ الله تَعَالَى، ونعمه واصلة إِلَى
الشاكر.
وَالنِّسْبَة بَين الحمدين اللّغَوِيّ والعرفي عُمُوم وخصوص من
وَجه؛ لِأَن الْحَمد الْعرفِيّ هُوَ الشُّكْر اللّغَوِيّ.
وَبَين الشكرين الْعرفِيّ واللغوي عُمُوم مُطلق؛ لِأَن
الشُّكْر اللّغَوِيّ يعم النِّعْمَة إِلَى الْغَيْر دون
الْعرفِيّ فَهُوَ أَعم والعرفي أخص مُطلقًا، وَكَذَا بَين
الشُّكْر الْعرفِيّ / وَالْحَمْد اللّغَوِيّ؛ لِأَن الأول
مَخْصُوص بِالنعْمَةِ على الشاكر سَوَاء كَانَ بِاللِّسَانِ
أَو لَا، وَالثَّانِي - وَإِن خص بِاللِّسَانِ - فَهُوَ مشترط
فِيهِ مُطَابقَة الْأَركان والجنان؛ ليَكُون على جِهَة
التبجيل، وَقد لَا يكون فِي مُقَابلَة نعْمَة فَهُوَ أَعم
مُطلقًا فَكل شكر عرفي حمد لغَوِيّ وَلَا ينعكس، وَهَذَا
بِحَسب الْوُجُود، وَكَذَا بَين الْحَمد الْعرفِيّ وَالشُّكْر
اللّغَوِيّ عُمُوم مُطلق - أَيْضا - إِذا قيدت النِّعْمَة فِي
اللّغَوِيّ بوصلها إِلَى الشاكر، وَأما إِذا لم يتَقَيَّد فهما
متحدان.
(1/50)
وَأما الشُّكْر الْمُطلق فَهُوَ على قِيَاس
مَا مضى من تَعْظِيم الْمُنعم بِصَرْف نعْمَته إِلَى مَا
يرضيه.
الثَّالِث: الْحَمد والمدح أَخَوان فِي الِاشْتِقَاق
الْأَكْبَر لَا مُتَرَادِفَانِ، ويشتركان - أَيْضا - فِي
الْمَعْنى؛ لِأَن الْحَمد هُوَ الثَّنَاء على الْجَمِيل
الِاخْتِيَارِيّ من نعْمَة وَغَيرهَا.
والمدح هُوَ الثَّنَاء على الْجَمِيل مُطلقًا.
فاشتركا فِي الثَّنَاء، وَهُوَ الذّكر بِالْخَيرِ مُطلقًا،
لَكِن الْحَمد يخْتَص بِأَهْل الْعلم بِخِلَاف الْمَدْح.
وَلِأَنَّهُ شَامِل الْأَفْعَال الاختيارية وَغَيرهَا،
وَالْحَمْد لَا يكون إِلَّا على الْأَفْعَال الاختيارية من
الْإِحْسَان والفضائل.
تَقول: (حمدته على علمه وَكَرمه) ، وَلَا نقُول: (حمدته على
صباحة خَدّه ورشاقة قده) بل (مدحته) ، فالمدح أَعم، لِأَن كل
حمد مدح وَلَيْسَ كل مدح حمداً.
(1/51)
وَالشُّكْر على النِّعْمَة خَاصَّة لَكِن
بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان والجوارح، فبينه وَبَين الْحَمد
والمدح عُمُوم من وَجه، كَمَا تقدم فِي الْحَمد وَالشُّكْر.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ الرَّاغِب: (الْمَدْح أَعم من
الْحَمد؛ لِأَن الثَّنَاء على الشَّخْص بِمَا لَا اخْتِيَار
لَهُ [فِيهِ] كحسن الْوَجْه وَالْقد وَنَحْوهمَا يُطلق على
الْمَدْح دون الْحَمد، وَحِينَئِذٍ يكون مُتَعَلق الْمَدْح
هُوَ الممدوح عَلَيْهِ أَعم الثَّلَاثَة) انْتهى.
(1/52)
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: (الْحَمد
مقلوب / الْمَدْح) كَمَا تقدم ذكره.
تَنْبِيه: إِنَّمَا خص الْحَمد هُنَا دون الْمَدْح، ليؤذن
بِالْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيّ، وَدون الشُّكْر ليعم الْفَضَائِل
والفواضل، وَلِأَن الْحَمد رَأس الشُّكْر، واقتداء بِالْكتاب
الْعَزِيز كَمَا تقدم.
قَوْله: {لله} .
أَقُول: قرن الْحَمد بِاللَّه دون سَائِر أَسْمَائِهِ لفائدتين
جليلتين عظيمتين.
إِحْدَاهمَا: أَنه اسْم للذات مُخْتَصّ بِهِ على مَا يَأْتِي
قَرِيبا، فَيعم جَمِيع أَسْمَائِهِ الْحسنى.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: (وَاخْتِيَار الشَّافِعِي وَكثير من
الْمُحَقِّقين: أَنه
(1/53)
اسْم علم للذات المقدسة - وَسَيَأْتِي
ذَلِك وتعليله - وَالْألف وَاللَّام لَازِمَة لَهُ لَا للتعريف
وَلَا لغيره) انْتهى.
الثَّانِيَة: أَنه اسْم الله الْأَعْظَم عِنْد كثير من
الْعلمَاء.
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ: (قَالَ أَكثر أهل الْعلم: اسْم الله
الْأَعْظَم هُوَ الله) .
وَاللَّام فِيهِ للاستحقاق والاختصاص، أَي: الْحَمد يخْتَص
بِهِ الله تَعَالَى دون غَيره من الموجودات، أَي: أَنه
مَقْصُور عَلَيْهِ لَا يسْتَحقّهُ أحد سواهُ.
فَالله [يُقَال] اسْم للباري مُخْتَصّ لم يسم بِهِ غَيره.
(1/54)
ثمَّ قيل: بل هُوَ مُعرب من اللُّغَة
السريانية نقلته الْعَرَب إِلَى لغتها، وَأَصله: (لَاها)
فحذفوا الْألف من آخِره، وَأتوا بِالْألف وَاللَّام فِي أَوله.
وَنسب هَذَا القَوْل إِلَى الْبَلْخِي، وَهُوَ وَجه لأَصْحَاب
الشَّافِعِي، حَكَاهُ ابْن الملقن فِي الإشارات وَغَيره.
(1/55)
وَقَالَ الْجُمْهُور: بل هُوَ عَرَبِيّ.
ثمَّ قيل: هُوَ مرتجل لَيْسَ بمشتق كأسماء الْأَعْلَام كزيد
وَعمر، وَهُوَ محكي عَن الشَّافِعِي وَجمع من الْعلمَاء، وَنقل
عَن أبي حنيفَة، والخليل بن أَحْمد، وَنَقله الْبَغَوِيّ عَن
الْخَلِيل وَجَمَاعَة غَيره.
(1/56)
وَقيل: مُشْتَقّ، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر،
وَحَكَاهُ سِيبَوَيْهٍ عَن الْخَلِيل.
ثمَّ قيل: هُوَ صفة لَا علم، فَهُوَ وصف فِي أَصله، لَكِن لما
غلب عَلَيْهِ بِحَيْثُ إِنَّه لَا يسْتَعْمل فِي غَيره وَصَارَ
كَالْعلمِ / مثل الثريا والصعق أجري مجْرَاه فِي إِجْرَاء
الْوَصْف عَلَيْهِ، وَامْتِنَاع الْوَصْف بِهِ، وَعدم تطرق
احْتِمَال الشّركَة؛ لِأَن ذَاته من حَيْثُ هُوَ هُوَ بِلَا
اعْتِبَار أَمر آخر حَقِيقِيّ أَو غَيره غير مَعْقُول للبشر،
وَهَذَا اخْتِيَار الْبَيْضَاوِيّ.
وَقيل: علم لذاته الْمَخْصُوصَة، وَهُوَ الْأَصَح، وَتقدم
اخْتِيَار الشَّافِعِي وَغَيره، لِأَنَّهُ يُوصف وَلَا يُوصف
بِهِ، وَلِأَنَّهُ لابد من اسْم تجرى عَلَيْهِ
(1/57)
صِفَاته، وَلَا يصلح لَهُ مِمَّا يُطلق
عَلَيْهِ سواهُ، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ وَصفا لم يكن قَول:
(لَا إِلَه إِلَّا الله) توحيداً، مثل قَول: (لَا إِلَه إِلَّا
الرَّحْمَن) ، فَإِنَّهُ لَا يمْنَع الشّركَة، قَالَه
الْبَيْضَاوِيّ.
ثمَّ اخْتلف فِي اشتقاقه.
فَقيل: أَصله (الْإِلَه) ، ألقينا حَرَكَة الْهمزَة على لَام
الْمعرفَة، ثمَّ سكنت أَو أدغمت فِي اللَّام الثَّانِيَة، ثمَّ
فخمت إِذا لم يكسر مَا قبلهَا فَإِن [كسر] رققت، وَمِنْهُم من
يرققها على كل حَال، وَمِنْهُم من يفخمها على كل حَال،
والتفخيم من خواصه.
قَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: (همزَة " إِلَه " حذفت من غير
إِلْقَاء، وَعوض عَنْهَا الْألف وَاللَّام، وَكَذَلِكَ قيل: "
يَا ألله " بِالْقطعِ) . ف " أل " فِي الِاسْم الْجَلِيل، قيل:
للتعريف تفخيماً وتعظيماً، ثمَّ صَار علما بالغلبة.
(1/58)
وَقيل: بل [هما] من أصل الْكَلِمَة،
وَلَعَلَّ قَائِله أَرَادَ: إِذا قُلْنَا: إِنَّه غير
مُشْتَقّ، وهمزة " إِلَه " أصل، وَهُوَ من أَله - بِكَسْر
اللَّام - يؤله إلاهة وألوهة وألوهية بِمَعْنى عبد، فإله مصدر
فِي مَوضِع الْمَفْعُول، أَي: المألوه وَهُوَ المعبود.
وَقيل: من أَله: إِذا تحير، إِذْ الْعُقُول تتحير فِي
مَعْرفَته.
وَقيل: أَله: إِذا فزع من أَمر نزل عَلَيْهِ، وألهه غَيره:
أجاره، إِذْ العابد يفزع إِلَيْهِ.
أومن ألهت إِلَى فلَان: سكنت إِلَيْهِ؛ لِأَن الْقُلُوب تطمئِن
بِذكرِهِ، والأرواح تسكن إِلَى مَعْرفَته، قَالَه الْمبرد.
أَو من أَله الفصيل: إِذا / ولع بِأُمِّهِ؛ إِذْ الْعباد
مولعون بالتضرع إِلَيْهِ فِي الشدائد.
وَقيل: من أَله - بِفَتْح اللَّام - بِمَعْنى عبد.
(1/59)
وَقيل: أصل الْهمزَة وَاو؛ لِأَنَّهُ من
الوله، فأبدلت الْوَاو همزَة، كَمَا فِي إشاح أَصله وشاح،
فالإله الَّتِي تتوله الْقُلُوب إِلَيْهِ، أَي: تتحير أَو
تطرب.
وَقيل: من وَله: إِذا تحير وتخبط عقله، وَكَانَ أَصله " ولاها
" فقلبت الْوَاو همزَة؛ لاستثقال الكسرة عَلَيْهَا، وَهُوَ
كَالَّذي قبله.
وَقيل: أَصله لَام، وياء، وهاء، مصدر من لاه يَلِيهِ ليهاً:
إِذا ارْتَفع، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُرْتَفع على كل شَيْء
وَعَما لَا يَلِيق بِهِ.
وَقَالُوا فِي مقلوبه: لهى أَبوك.
وَقيل: أَصله لَام، وواو، وهاء، من لاه يلوه: احتجب، لِأَنَّهُ
مَحْجُوب عَن الْأَبْصَار، ثمَّ أدخلت الْألف وَاللَّام.
وَحَاصِل مَا نقل فِي أصل الْجَلالَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: لاه، وَنقل عَن الْبَصرِيين.
وَالثَّانِي: إِلَه، وَنقل عَن الْكُوفِيّين.
(1/60)
فوزنه على الأول: " فعل " أَو " فعل " قلبت
الْوَاو وَالْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وأدخلت "
أل " وأدغمت اللَّام فِي اللَّام ولزمت، وَهِي زَائِدَة لم تفد
تعريفاً فتعريفه بالعلمية، وَتقدم ذَلِك، ويقصد حذفهَا فِي
قَوْلهم: لاه أَبوك، أَي: لله أَبوك.
ووزنه على الثَّانِي: " فعال "، وَمَعْنَاهُ: مفعول، كالكتاب
بِمَعْنى الْمَكْتُوب، وَقد تقدم أَيْضا.
قَوْله: {الَّذِي وفْق} ، أَي: سهل طَرِيق الْخَيْر
وَالطَّاعَة.
والموفق اسْم فَاعل، وَهُوَ صفة من صِفَات الله تَعَالَى، سمي
بِهِ؛ لِأَنَّهُ يوفق الْعباد، أَي: يرشدهم ويهديهم إِلَى
طَاعَته، مَأْخُوذ من الوفق والموافقة وَهِي الالتحام بَين
الشَّيْئَيْنِ.
والتوفيق مصدر وفْق، قَالَ ابْن الْقيم فِي " شرح منَازِل
السائرين ": (التَّوْفِيق إِرَادَة الله من نَفسه أَن يفعل
بِعَبْدِهِ مَا يصلح بِهِ العَبْد، بِأَن يَجعله قَادِرًا على
فعل مَا يرضيه، مرِيدا لَهُ محباً مؤثرا لَهُ على غَيره،
وَيبغض إِلَيْهِ مَا يسخطه ويكرهه، وَهَذَا مُجَرّد فعله،
وَالْعَبْد مَحل لَهُ. /
قَالَ: وفسرت الْقَدَرِيَّة التَّوْفِيق، بِأَنَّهُ خلق
الطَّاعَة، والخذلان: خلق الْمعْصِيَة) انْتهى.
(1/61)
وَقَالَ الْبَغَوِيّ: (هُوَ تسهيل سَبِيل
الْخَيْر وَالطَّاعَة) انْتهى.
وَقَالَ غَيره: (هُوَ خلق قدرَة الطَّاعَة وتسهيل سَبِيل
الْخَيْر، وَعَكسه الخذلان) .
وَهُوَ قريب من الَّذِي قبله، أَو هُوَ هُوَ، وَنسب إِلَى
الْمُتَكَلِّمين.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْإِرْشَاد ": (صرفت
الْمُعْتَزلَة التَّوْفِيق إِلَى خلق [لطف] يعلم الرب تَعَالَى
أَن العَبْد يُؤمن عِنْده، والخذلان مَحْمُول على امْتنَاع
اللطف) .
إِذا علم ذَلِك؛ فَهُوَ الَّذِي وفْق الْإِنْسَان لمراشد أمره،
وَلَوْلَا توفيقه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لما قدر العَبْد
على فعل شَيْء من الطَّاعَات، لَا من الْعلم وَلَا من غَيره،
وَلَا ترك شَيْء من الْمعاصِي، والأشياء إِنَّمَا تحصل وتوجد
بتوفيقه وتسديده، وَلكنه عَزِيز، وَلذَلِك يُقَال:
(التَّوْفِيق أعز الْأَشْيَاء) .
قَالَ بعض السّلف: (مَا نزل من السَّمَاء أعز من التَّوْفِيق،
وَلَا صعد من الأَرْض أعز من الْإِخْلَاص) انْتهى.
(1/62)
وَلِهَذَا لم يرد فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع.
أَحدهَا: قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة شُعَيْب عَلَيْهِ
السَّلَام: {وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت
وَإِلَيْهِ أنيب} [هود: 88] .
الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى عَن الْحكمَيْنِ: {وَإِن يريدا
إصلاحاً يوفق الله بَينهمَا} [النِّسَاء 35] الثَّالِث: قَوْله
تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين {ثمَّ جاءوك يحلفُونَ بِاللَّه إِن
أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا} [النِّسَاء: 62] .
قَوْله: {فَعلم} .
أَي: بتوفيقه علىعلم الْإِنْسَان، وَلَوْلَا توفيقه وهدايته
وتيسيره لما حصل الْعلم أحد وَلَا تعلمه، قَالَ الله تَعَالَى:
{الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} [العلق: 4 -
5] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وعلمك مَا لم تكن تعلم} [النِّسَاء:
113] ، وَقَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن خلق
الْإِنْسَان علمه الْبَيَان} [الرَّحْمَن: 1 - 4] وَقَالَ
تَعَالَى: {وَعلم ءادم الْأَسْمَاء كلهَا} [الْبَقَرَة: 31] ،
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقوا الله ويعلمكم [الله}
[الْبَقَرَة: 282] ، وَهُوَ وَارِد] فِي آي كَثِيرَة،
وَيَأْتِي قَرِيبا حد الْعلم.
قَوْله: {وأنعم فألهم وَفهم} . /
أنعم مصدره: إنعام، والإنعام: الْإِعْطَاء من غير مُقَابلَة.
قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (أنعمها الله وأنعم بهَا: عطيته) .
(1/63)
فَهُوَ الَّذِي أنعم على عَبده، بِأَن
ألهمه طَرِيق الْخَيْر والسعادة، وسهلها لَهُ، وفهمه مَعَاني
كِتَابه وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
والعلوم النافعة والأعمال الصَّالِحَة.
وَيَأْتِي معنى الإلهام عقب فصل الْأَعْيَان المنتفع بهَا،
وَمعنى الْفَهم قَرِيبا.
و" فهم " مضعف للفورية والتكثير.
قَوْله: {وَالصَّلَاة} .
ثلثنا بِذكر الصَّلَاة عَلَيْهِ - صلوَات لله وَسَلَامه
عَلَيْهِ تترى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة - لما قَامَ بِهِ
الدَّلِيل على ذَلِك عقلا ونقلاً.
أما النَّقْل: فقد قرن الله تَعَالَى ذكره بِذكرِهِ فِي
كِتَابه، فَهُوَ مَعَه فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَطيعُوا الله
وَأَطيعُوا الرَّسُول} [الْمَائِدَة: 92، والتغابن: 12] ،
{وَمن يطع الله وَرَسُوله} [النِّسَاء: 13، والأحزاب: 71،
وَالْفَتْح: 17] ، {وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه}
[التَّوْبَة: 62] ، {ألم يعلمُوا أَنه من يحادد الله
وَرَسُوله} [التَّوْبَة: 63] ، إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ورفعنا لَك ذكرك} [الشَّرْح: 4] ،
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: (لَا أذكر إِلَّا وتذكر معي) .
(1/64)
وَقد رُوِيَ هَذَا التَّفْسِير مُسْندًا
إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن
جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن رب الْعَالمين، ذكره
النَّوَوِيّ وَغَيره.
وَيدل على ذَلِك ذكره مَعَه فِي التَّشَهُّد، والخطب،
والتأذين، وَغَيرهَا.
وَأمر الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَام
عَلَيْهِ، وَأخْبر أَنه وَمَلَائِكَته يصلونَ عَلَيْهِ فِي
الْآيَة الْكَرِيمَة، وَأدنى مَرَاتِب الْأَمر الِاسْتِحْبَاب.
وَأما عقلا: فَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- هُوَ الَّذِي علمنَا شكر الْمُنعم، وَكَانَ سَببا فِي كَمَال
هَذَا النَّوْع، فَاسْتحقَّ أَن يقرن شكره بشكر الله تَعَالَى.
وَأما مَعْنَاهُ. فَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الصَّلَاة:
الدُّعَاء وَالرَّحْمَة وَالِاسْتِغْفَار وَحسن الثَّنَاء من
الله تَعَالَى على رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - ... وَصلى صَلَاة دَعَا) انْتهى.
قَالَ ابْن الْقيم فِي / " جلاء الأفهام ": (أصل الصَّلَاة
لُغَة يرجع إِلَى
(1/65)
الدُّعَاء والتبريك، لقَوْله تَعَالَى {وصل
عَلَيْهِم إِن صلواتك سكن لَهُم} [التَّوْبَة: 103] ، وَقَوله
تَعَالَى: {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا}
[التَّوْبَة: 84] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " إِذا دعِي أحدكُم إِلَى الطَّعَام فليجب فَإِن
كَانَ صَائِما فَليصل "، أَي: فَليدع، على الصَّحِيح) انْتهى.
وَقَالَ السُّهيْلي: (معنى الصَّلَاة حَيْثُ تصرفت يرجع إِلَى
الحنو
(1/66)
والعطف، فَيكون محسوساً ومعقولاً، فيضاف
إِلَى الله تَعَالَى مِنْهُ مَا يَلِيق بجلاله، وينفى عَنهُ
مَا يتقدس عَنهُ.
والحنو والعطف يتعديان بِحرف على كَمَا تعدت الصَّلَاة بِهِ،
وهما مخصوصان بِالْخَيرِ) انْتهى.
وَقَالَ بَعضهم: (لفظ الصَّلَاة يجمع أَنْوَاع الدُّعَاء
الصَّالح) .
وَقَالَ الزّجاج: (أَصْلهَا اللُّزُوم) .
إِذا علم ذَلِك، فقد قَالَ كثير من الْعلمَاء: (إِن الصَّلَاة
من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار، وَمن
العَبْد التضرع وَالدُّعَاء) .
(1/67)
قَالَ الضَّحَّاك، والمبرد، وَابْن
عَطِيَّة، والسخاوي: (الصَّلَاة من الله رَحمته) .
وَقَالَ الضَّحَّاك - أَيْضا -: (الصَّلَاة من الله
الْمَغْفِرَة) .
(1/68)
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: (صَلَاة الله
على رَسُوله: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْد الْمَلَائِكَة) ، ذكره
البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه ".
وَفِي رِوَايَة: (صَلَاة الله: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ، وَصَلَاة
الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ: الدُّعَاء) .
وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -:
" معنى يصلونَ يبركون ".
(1/69)
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي " تَفْسِيره ":
(فِي قَوْله تَعَالَى: " يصلونَ " أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: ثَنَاؤُهُ، ثَانِيهَا: كرامته، ثَالِثهَا: رَحمته،
رَابِعهَا: مغفرته.
وَفِي صَلَاة الْمَلَائِكَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: دعاؤهم، وَالثَّانِي: استغفارهم) انْتهى.
وَقد ورد فِي الحَدِيث صفةصلاة الْمَلَائِكَة على من جلس
ينْتَظر الصَّلَاة: " اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، اللَّهُمَّ
ارحمه " فَهَذَا دُعَاء.
(1/70)
وَاخْتَارَ ابْن الْقيم فِي " جلاء الأفهام
": (أَن صَلَاة الله عَلَيْهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ / وَإِرَادَة
(1/71)
فارغة
(1/72)
فارغة
(1/73)
فارغة
(1/74)
الْآفَات كلهَا.
قَالَ ابْن الْقيم فِي " بَدَائِع الْفَوَائِد ": (فِي معنى
السَّلَام الْمَطْلُوب عِنْد التَّحِيَّة قَولَانِ مشهوران.
أَحدهمَا: أَن الْمَعْنى: اسْم السَّلَام عَلَيْكُم،
وَالسَّلَام هُنَا هُوَ الله تَعَالَى، وَمعنى الْكَلَام: نزلت
بركَة الله عَلَيْكُم وحلت عَلَيْكُم وَنَحْوه.
وَالثَّانِي: أَن السَّلَام مصدر بِمَعْنى السَّلامَة، وَهُوَ
الْمَطْلُوب الْمَدْعُو عِنْد
(1/75)
التَّحِيَّة، وَهُوَ أولى، لِأَنَّهُ يُنكر
فَيُقَال: سَلام عَلَيْكُم، وَلَو كَانَ من أَسمَاء الله
تَعَالَى لم يُنكر، لِأَن التنكير لَا يصرف اللَّفْظ إِلَى
معنى، فضلا عَن أَن يصرفهُ إِلَى الله وَحده، بِخِلَاف
الْمُعَرّف فَإِنَّهُ يصرفهُ إِلَيْهِ تعييناً إِذا ذكرت
أسماؤه الْحسنى.
وَأَيْضًا: عطف الرَّحْمَة وَالْبركَة عَلَيْهِ، إِذا قَالَ:
السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، يدل على أَن
المُرَاد الْمصدر، وَلِهَذَا عطف عَلَيْهِ مصدرين مثله؟
وَلَو كَانَ من أَسْمَائِهِ لم يستقم الْكَلَام إِلَّا بإضمار،
وَتَقْدِيره: بركَة اسْم السَّلَام عَلَيْكُم، فَإِن الِاسْم
نَفسه لَيْسَ عَلَيْهِم، وَلَو قلت: اسْم الله عَلَيْكُم كَانَ
مَعْنَاهُ: بركَة هَذَا الِاسْم، وَالتَّقْدِير خلاف الأَصْل،
وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ.
ثمَّ اخْتَار قولا ثَالِثا جمع فِيهِ بَين قَوْلَيْنِ،
وَذَلِكَ أَن لفظ السَّلَام تضمن مَعْنيين: أَحدهمَا: ذكر
الله، وَالثَّانِي: طلب السَّلامَة، وَهُوَ مَقْصُود الْمُسلم،
فقد تضمن اسْما من أَسمَاء الله وَطلب السَّلامَة مِنْهُ)
انْتهى.
وَقَالَ فِي " الشفا ": (فِي معنى السَّلَام عَلَيْهِ ثَلَاثَة
وُجُوه:
أَحدهَا: السَّلامَة لَك ومعك، وَيكون [السَّلَام] مصدرا
كاللذاذ واللذاذة.
الثَّانِي: أَي: السَّلَام على حفظك ورعايتك متول لَهُ وكفيل
بِهِ، وَيكون السَّلَام هُنَا اسْم الله تَعَالَى.
(1/76)
الثَّالِث: أَن السَّلَام بِمَعْنى
المسالمة لَهُ والانقياد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبك
لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا
يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت يسلمُوا تَسْلِيمًا}
[النِّسَاء: 65] .
تَنْبِيه: أضفنا السَّلَام إِلَى الصَّلَاة / عَلَيْهِ -
صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - لنخرج من خلاف الْعلمَاء فِي
كَرَاهَة إِفْرَاد الصَّلَاة عَلَيْهِ.
لِأَن بعض أهل الْعلم كره إِفْرَاد الصَّلَاة عَلَيْهِ من غير
ذكر السَّلَام، لقَوْله تَعَالَى: {إِن الله وَمَلَائِكَته
يصلونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ
وسلموا تَسْلِيمًا} [الْأَحْزَاب: 56] .
وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي خطْبَة " شرح مُسلم ": (يكره
إِفْرَاد الصَّلَاة عَن التَّسْلِيم) انْتهى.
وَكَانَ يَنْبَغِي لمن يُصَلِّي عَلَيْهِ أَن يسلم، امتثالاً
لقَوْله تَعَالَى: {وسلموا تَسْلِيمًا} [الْأَحْزَاب: 56] .
وَقَالَ النَّوَوِيّ - أَيْضا - مَا مَعْنَاهُ: (إِن الْعلمَاء
كَرهُوا ذَلِك) ، وَظَاهره أَنه مُتَّفق عَلَيْهِ.
قَالَ بعض الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين - الَّذِي لم يطلع إِلَّا
على نقل النَّوَوِيّ وَكَأَنَّهُ سلمه إِلَيْهِ وَوَافَقَهُ
عَلَيْهِ -: (والعذر عَمَّن أفرد من الْعلمَاء الصَّلَاة، أَنه
قد يكون الْمَعْنى كَرَاهَة اتِّخَاذ الْإِفْرَاد عَادَة،
وعَلى هَذَا يَكْفِي جَمعهمَا مرّة.
(1/77)
وعَلى التنزل، فَيحْتَمل أَن يكون من فعل
ذَلِك مِنْهُم جَمعهمَا بِلِسَانِهِ وَاقْتصر على كِتَابَة
أَحدهمَا.
وعَلى التنزل، فَيحْتَمل أَن تكون الْكَرَاهَة بِمَعْنى خلاف
الأولى، فَلَا يشْتَد التحاشي من ارتكابه، أَو يحمل الْحَال
على الذهول.
وَقد علمت من طروق هَذِه الِاحْتِمَالَات أَن أفرد من أَفْرَاد
أَحدهمَا من الْعلمَاء لَا يدل على عدم الْكَرَاهَة) انْتهى.
قلت: مَا تقدم من ذَلِك كُله فِيهِ ضعف، وَبَعضه لَا يَنْبَغِي
نسبته إِلَى الْعلمَاء الراسخين فِي الْعلم، الَّذين تركُوا
السَّلَام، بل تَركهم لذَلِك يدل على عدم الْكَرَاهَة ظَاهرا،
ويرشحه مَا رَوَاهُ مُسلم وَغَيره أَنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من صلى عَليّ صَلَاة صلى الله
عَلَيْهِ عشرا) ، وَفِي غير مُسلم " سبعين "، وَظَاهره
الِاقْتِصَار على الصَّلَاة، وَهَذَا أظهر.
(1/78)
وَقد قَالَ الإِمَام الْحَافِظ شهَاب
الدّين ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ فِي الحَدِيث الَّتِي
قَالَت الصَّحَابَة فِيهِ: يَا رَسُول الله، هَذَا السَّلَام
عَلَيْك فقد عَرفْنَاهُ، فَكيف نصلي عَلَيْك؟ ... إِلَى آخِره
قَالَ: (وَاسْتدلَّ بِهَذَا
(1/79)
الحَدِيث على أَن إِفْرَاد الصَّلَاة عَن
التَّسْلِيم لَا يكره، وَكَذَا الْعَكْس، لِأَن تَعْلِيم
التَّسْلِيم / تقدم قبل تَعْلِيم الصَّلَاة، وأفرد التَّسْلِيم
مُدَّة فِي التَّشَهُّد قبل الصَّلَاة عَلَيْهِ.
وَقد صرح النَّوَوِيّ بِالْكَرَاهَةِ، وَاسْتدلَّ بورود
الْأَمر بهما مَعًا فِي الْآيَة.
قَالَ: وَفِيه نظر؛ نعم يكره أَن يفرد الصَّلَاة وَلَا يسلم
أصلا، أما لَو صلى فِي وَقت، وَسلم فِي وَقت آخر، فَإِنَّهُ
يكون ممتثلاً) انْتهى.
قلت: لَو قيل إِن الْآيَة لم تَشْمَل مَا إِذا صنف الْإِنْسَان
كتابا أَو كتب رِسَالَة وَنَحْوهمَا لَكَانَ قَوِيا، لِأَن
الْآيَة إِنَّمَا وَردت فِي القَوْل إِذا قَالَه، فَإِذا صلى
على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بِلِسَانِهِ فيردفه بِالتَّسْلِيمِ، هَذَا مَحل الْخلاف فِي
الْكَرَاهَة - فِيمَا يظْهر لي - وَهُوَ ظَاهر الْآيَة.
فَإِن قيل: قَوْله تَعَالَى: {صلوا عَلَيْهِ وسلموا
تَسْلِيمًا} [الْأَحْزَاب: 56] ، يَشْمَل الْفِعْل أَيْضا.
قلت: أصل وضع الْأَمر لِلْقَوْلِ، وإطلاقه على الْفِعْل مجَاز،
وَأَيْضًا إِطْلَاقه على التَّسْلِيم يكون قد جمع فِيهِ بَين
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بِلَفْظ، وَفِي الْمَسْأَلَة خلاف
يَأْتِي، وَمَا الَّذِي اضْطر إِلَى ارْتِكَاب ذَلِك كُله؟ !
قَوْله: {على أفضل خلق الله} .
(1/80)
هَذَا مِمَّا لَا يشك فِيهِ مُسلم، وَقد
ورد فِي معنى ذَلِك أَحَادِيث تدل عَلَيْهِ، مِنْهَا: قَوْله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنا سيد ولد آدم
وَلَا فَخر ".
وَمِنْهَا: مَا خصّه الله تَعَالَى بِهِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة.
فَفِي الدُّنْيَا: كَونه بعث إِلَى النَّاس كَافَّة، وَغَيره
مِمَّا لَا يُحْصى.
وَفِي الْآخِرَة: اخْتِصَاصه بالشفاعة، والأنبياء تَحت لوائه.
(1/81)
وَمَا أعطي ذَلِك واختص بِهِ، إِلَّا لشرفه
وفضله وعظمه عِنْد الله تَعَالَى.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُوتيت
فواتح الْكَلم وخواتمه وجوامعه " رَوَاهُ أَحْمد، وَفِي
رِوَايَة: " وَاخْتصرَ لي الحَدِيث اختصاراً ".
فَبَعثه الله تَعَالَى بجوامع الْكَلم، وَخَصه ببدائع الحكم.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " بعثت
بجوامع الْكَلم ".
قَالَ الزُّهْرِيّ: (جَوَامِع الْكَلم فِيمَا بلغنَا: أَن الله
تَعَالَى يجمع لَهُ
(1/82)
الْأُمُور / الْكَثِيرَة الَّتِي كَانَت
تكْتب فِي الْكتب قبله فِي الْأَمر الْوَاحِد والأمرين وَنَحْو
ذَلِك) .
وَرُوِيَ عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه
قَالَ: " فضلت على من قبلي بست وَلَا فَخر "، فَذكر مِنْهَا "
وَأُوتِيت جَوَامِع الْكَلم "، وَهَذَا مِمَّا لَا يحْتَاج
إِلَى إطالة وَلَا تَقْرِير.
قَوْله: {وَأعلم} .
كَونه أعلم خلق الله من الْمُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْأمة من
غير توقف، لِأَن من تتبع مجاري أَحْوَاله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وطالع جَوَامِع كَلمه، وَعلمه بِمَا
فِي الْكتب الْمنزلَة، وَحكم الْحُكَمَاء، وسير الْأُمَم
الْمَاضِيَة وأيامها، وَضرب الْأَمْثَال، وسياسة الْأَنَام،
وَتَقْرِير الشَّرَائِع، وتأصيل الْآدَاب النفسية، والشيم
الحميدة، إِلَى فنون الْعلم، وَغير ذَلِك، دون تَعْلِيم وَلَا
مدارسة وَلَا مطالعة كتب، تحقق أَنه أعلم الْعلمَاء، وأعقل
الْعُقَلَاء، وَالْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة قبل تدل على ذَلِك.
(1/83)
قَالَ وهب بن مُنَبّه: (قَرَأت فِي أحد
وَسبعين كتابا، فَوجدت فِي جَمِيعهَا: أَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرجح النَّاس عقلا وأفضلهم
رَأيا) .
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: فَوجدت فِي جَمِيعهَا: (أَن الله
تَعَالَى لم يُعْط جَمِيع الْخلق من بَدْء الدُّنْيَا إِلَى
انْقِضَائِهَا من الْعقل فِي جنب عقله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، إِلَّا كحبة رمل بَين رمال الدُّنْيَا)
.
فَائِدَة: سمي نَبينَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لِكَثْرَة خصاله المحمودة.
أَي: ألهم الله تَعَالَى أَهله ذَلِك لما علم من خالصه
المحمودة، قَالَه ابْن فَارس.
وَقَالَت أمة: (سَمَّاهُ الله بذلك) .
(1/84)
وَقيل: (إِن جده سَمَّاهُ فِي سابعه) .
قَالَ أهل اللُّغَة: (يُقَال رجل مُحَمَّد ومحمود أَي: كثير
الْخِصَال المحمودة) .
وَأنْشد الْجَوْهَرِي وَغَيره:
(إِلَيْك أَبيت اللَّعْن كَانَ كلالها ... إِلَى الْمَاجِد
القرم الْجواد المحمد)
(1/85)
وَهُوَ علم مَنْقُول من التَّحْمِيد،
مُشْتَقّ من الحميد اسْم الله تَعَالَى، لمبالغة ليحمده / أهل
السَّمَوَات وَالْأَرْض.
قَالَ الْبَغَوِيّ: (مُحَمَّد هُوَ الْمُسْتَغْرق لجَمِيع
المحامد، لِأَن الْحَمد لَا يستوجبه إِلَّا الْكَامِل،
والتحميد فَوق الْحَمد، فَلَا يسْتَحقّهُ إِلَّا المستولي على
الْأَمر فِي الْكَمَال، وَأكْرم الله نبيه وَصفيه باسمين
مشتقين من أَسْمَائِهِ - جلّ جَلَاله -: مُحَمَّد وَأحمد)
انْتهى.
وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ حسان بقوله:
(وشق لَهُ من اسْمه ليجله ... فذو الْعَرْش مَحْمُود وَهَذَا
مُحَمَّد)
(1/86)
قَالَ السُّهيْلي: (الْمَحْمُود الَّذِي
حمد مرّة بعد مرّة، كَمَا قَالُوا فِي المكرم والممدح) .
وَلما شاع قبل وِلَادَته أَن نَبينَا يظْهر يبْعَث من الْعَرَب
واسْمه مُحَمَّد، سمى جمَاعَة أَبْنَاءَهُم الَّذين ولدُوا فِي
تِلْكَ الْأَيَّام مُحَمَّدًا رَجَاء أَن يكون هُوَ، وَالله
أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته.
فَذكر أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن حبيب: أَن الَّذين سموا
أَوْلَادهم بِمُحَمد سِتَّة، وهم: مُحَمَّد بن سُفْيَان بن
مجاشع، جد الفرزدق.
(1/87)
وَمُحَمّد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي،
وَهُوَ أَخُو عبد الْمطلب لأمه، وَمُحَمّد بن بحران
الْجعْفِيّ، مُحَمَّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ، وَمُحَمّد
(1/88)
ابْن الْبكْرِيّ، وَمُحَمّد بن
الْخُزَاعِيّ السّلمِيّ.
وَقيل: أول من تسمى بِمُحَمد، مُحَمَّد بن سُفْيَان.
واليمن تَقول: بل مُحَمَّد بن اليحمد من الأزد، وَهَذَا
سَابِع.
وَسبب تسميتهم بذلك: أَن آبَاء هَؤُلَاءِ كَانُوا قد وفدوا على
بعض الْمُلُوك، وَكَانَ عِنْده علم بِالْكتاب الأول،
فَأخْبرهُم بمبعث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - وباسمه، وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُم قد خلف امْرَأَته
حَامِلا، فَنَذر كل وَاحِد مِنْهُم إِن ولد لَهُ ولد أَن
يُسَمِّيه مُحَمَّدًا، فَفَعَلُوا ذَلِك.
(1/89)
وَمِنْهُم من زَاد على مَا سلف: مُحَمَّد
بن عتوارة الْكِنَانِي، وَمُحَمّد بن حرماز بن مَالك
التَّمِيمِي، فيكمل تِسْعَة، وَالله أعلم.
قَالَ ابْن الهائم: وَقد بَلغهُمْ بعض الْحفاظ سَبْعَة عشر
شخصا.
وَأما أَحْمد فَلم يسلم بِهِ أحد قبل النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَكِن لم يكن / مُحَمَّدًا
حَتَّى كَانَ أَحْمد، حمد ربه فنبأه وشرفه، فَلذَلِك تقدم اسْم
أَحْمد على اسْم مُحَمَّد،
(1/90)
فَذكر عِيسَى فَقَالَ: {اسْمه أَحْمد}
[الصَّفّ: 6] ، وَذكره مُوسَى حِين قَالَ ربه: " تِلْكَ أمة
أَحْمد "، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من أمة أَحْمد ".
فبأحمد ذكر قبل أَن يذكر بِمُحَمد، لِأَن حَمده لرَبه كَانَ
قبل حمد النَّاس لَهُ، فَلَمَّا وجد وَبعث كَانَ مُحَمَّدًا
بِالْفِعْلِ. قَالَه بَعضهم. {وعَلى آله} .
الْآل جمع لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه.
(1/91)
وَأَصله فِي قَول النّحاس: (أهل) ، فأبدل
من الْهَاء همزَة وَمن الْهمزَة ألف.
وَفِي قَول يُونُس وَالْكسَائِيّ: (أول) فأبدلت الْوَاو ألفا
لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا.
وعزى بَعضهم الأول لسيبويه أَيْضا.
ثمَّ اخْتلف النُّحَاة فِي جَوَاز إِضَافَة (آل) إِلَى
الضَّمِير، فجوزه الْأَكْثَر كالمظهر، وَعمل أَكثر المصنفين
عَلَيْهِ، وَمنعه جمع مِنْهُم الْكسَائي والنحاس
(1/92)
والزبيدي، وَقَالُوا: لَا تصح إِضَافَته
إِلَى مُضْمر.
وَاخْتلف الْعلمَاء أَيْضا فِي الْآل من هُوَ؟ على أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنهم أَتْبَاعه على دينه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح من
الْمذَاهب، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَعَلِيهِ أَكثر
الْأَصْحَاب، قَالَه الْمجد فِي " شرح الْهِدَايَة " [و] هُوَ
قَول القَاضِي وَغَيره من الْأَصْحَاب، وقدنه فِي
(1/93)
" الْمُغنِي "، و " الشَّرْح "، و " شرح
الْمجد "، وَابْن منجا، وَابْن عبد الْقوي، وَابْن عُبَيْدَان،
وَابْن ... ... ... ... ... ... ... . .
(1/94)
رزين، فِي شروحهم، وَابْن تَمِيم، وَابْن
حمدَان فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، و " صَاحب المطلع "،
وَغَيرهم، وَاخْتَارَهُ الْأَزْهَرِي
(1/95)
وَغَيره من الْمُحَقِّقين.
وَقيل: هم وأزواجه وعشيرته مِمَّن آمن بِهِ.
وَقيل: بَنو هَاشم.
وَقيل: وَبَنُو الْمطلب - أَيْضا - وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي
وَأكْثر أَصْحَابه.
وَقيل: أَهله.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هم أهل بَيته. - وَقَالَ -
نَص عَلَيْهِ أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَاخْتِيَار الشريف أبي
جَعْفَر وَغَيره وَصَححهُ، فَمنهمْ بَنو هَاشم، وَفِي بني
الْمطلب روايتا الزَّكَاة.
(1/96)
- وَاخْتَارَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين
أَيْضا -: دُخُول أَزوَاجه وَأهل بَيته. وَأَن أفضل أهل بَيته:
عَليّ، وَفَاطِمَة، وَحسن وحسين، الَّذين أدَار عَلَيْهِم
الكساء وخصهم بِالدُّعَاءِ) .
(1/97)
وَظَاهر / كَلَامه فِي مَوضِع آخر: أَن
حَمْزَة أفضل من حسن وحسين، وَاخْتَارَهُ بَعضهم.
وَقَالَ ابْن الْقيم فِي " جلاء الأفهام ": (فِي الْآل
أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهمَا: هم الَّذين حرمت عَلَيْهِم الزَّكَاة، نَص عَلَيْهِ
أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَأكْثر أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، فعلى
هَذَا القَوْل فيهم ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهمَا: بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَهُوَ مَذْهَب أبي
حنيفَة.
(1/98)
وَالثَّانِي: هم بَنو هَاشم خَاصَّة،
وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد، وَقَول ابْن الْقَاسِم.
وَالثَّالِث: بَنو هَاشم وَمن فَوْقهم إِلَى غَالب، فَدخل بَنو
الْمطلب وَبَنُو أُميَّة وَبَنُو نَوْفَل وَمن فَوْقهم،
اخْتَارَهُ أَشهب وإصبغ.
(1/99)
وَالْقَوْل الثَّانِي: آله أَزوَاجه
وَذريته، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي " التَّمْهِيد ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن آله أَتْبَاعه إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن بعض أهل الْعلم،
وأقدم من قَالَه جَابر بن عبد الله، ذكره الْبَيْهَقِيّ عَنهُ،
وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، حَكَاهُ عَنهُ أَبُو
الطّيب
(1/100)
الطَّبَرِيّ، وَرجحه النَّوَوِيّ فِي " شرح
مُسلم "، وَاخْتَارَهُ الْأَزْهَرِي.
وَالْقَوْل الرَّابِع: آله: الأتقياء من أمته، حَكَاهُ
القَاضِي حُسَيْن والراغب وجماعته) انْتهى نقل ابْن الْقيم،
وَذكر لكل قَول من هَذِه أَدِلَّة وحججاً، فليعاودها من
أرادها.
نُكْتَة:
قد جرت عَادَة غَالب المصنفين وَغَيرهم بِتَقْدِيم الْآل على
الْأَصْحَاب، فعلى قَول من قَالَ: إِن الْآل أَتْبَاعه، وَاضح،
وَيكون من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام.
(1/101)
وَأما على قَول غَيرهم، فقدموهم لِلْأَمْرِ
بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِم، وَلِهَذَا وَجَبت فِي التَّشَهُّد على
قَول، وهم - أَيْضا - أشرف نسبا وَإِن كَانَ فِي الصَّحَابَة
من هُوَ أفضل كَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم
أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ بَعضهم: (لما كَانَت الصَّلَاة على النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تالية لحمد الله، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ
الَّذِي علمنَا شكر الْمُنعم، وَكَانَ سَببا فِي كَمَال هَذَا
النَّوْع، فَاسْتحقَّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن يقرن
شكره بشكره) ، كَمَا تقدم.
قَالَ: (ولهذه الْعلَّة بِعَينهَا ثلث بالآل) .
قَوْله: {وَأَصْحَابه} . أَصْحَاب جمع صَاحب، وَسَيَأْتِي
مَعْرفَته فِي معرفَة الصَّحَابَة مُبينًا.
(1/102)
قَوْله {أولي / الْعُلُوم وَالْحكم} .
اخْتصَّ الله تَعَالَى الصَّحَابَة بعلوم وَحكم لم يلْحقهَا
أحد مِمَّن مضى، وَلَا مِمَّن أَتَى بعدهمْ، منحة من الله فضلا
ونعمة، وَلِهَذَا قَالَ عبد الله ابْن مَسْعُود: " من كَانَ
مِنْكُم مستناً فَليَسْتَنَّ بِمن قد مَاتَ، فَإِن الْحَيّ لَا
يُؤمن عَلَيْهِ الْفِتْنَة، أُولَئِكَ أَصْحَاب مُحَمَّد،
كَانُوا أفضل هَذِه الْأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علما،
وأقلها تكلفاً، قوم اخْتَارَهُمْ الله لصحبة نبيه، وَإِقَامَة
دينه، فاعرفوا لَهُم فَضلهمْ، واتبعوهم فِي آثَارهم، وتمسكوا
مَا اسْتَطَعْتُم من أَخْلَاقهم وَدينهمْ، فَإِنَّهُم كَانُوا
على الْهدى الْمُسْتَقيم "، رَوَاهُ غير وَاحِد مِنْهُم ابْن
بطة عَن قَتَادَة.
(1/103)
فسبحان من أَعْطَاهُم واختصهم بِهَذِهِ
المزايا، وبصحبة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
رزقنا الله محبتهم وَاتِّبَاع آثَارهم، وَلَا جعل فِي
قُلُوبنَا غلاً للَّذين آمنُوا.
نُكْتَة: إِنَّمَا جَمعنَا بَين الْآل وَالْأَصْحَاب مُخَالفَة
للمبتدعة؛ لأَنهم يوالون الْآل فَقَط، وَأهل السّنة يوالون
الْآل وَالْأَصْحَاب.
وجمعنا الْعلم بقولنَا: الْعُلُوم، وَإِن كَانَ الْعلم جِنْسا،
لاخْتِلَاف أَنْوَاعه.
فَائِدَة: يجوز الصَّلَاة على غير الْأَنْبِيَاء - صلوَات الله
وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ - مُنْفَردا من غير ذكر
الرَّسُول مَعَه على الصَّحِيح من الْمَذْهَب،
(1/104)
نَص عَلَيْهِ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد
وَغَيره، وَاخْتَارَهُ أَكثر الْأَصْحَاب، مِنْهُم: القَاضِي،
وَابْن عقيل، وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر، وَقدمه فِي "
الْفُرُوع " وَغَيره.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْخرقِيّ " فِي الْخطْبَة:
(وَلَا يخْتَص بالأنبياء عندنَا، لقَوْل عَليّ لعمر - رَضِي
الله عَنْهُمَا -: " صلى الله عَلَيْك ") .
(1/105)
وَقيل: لَا يصلى على غير الْأَنْبِيَاء
إِلَّا تبعا، جزم بِهِ الْمجد والناظم، وَقدمه ابْن تَمِيم،
وَابْن حمدَان فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، وَابْن مُفْلِح
فِي " الْآدَاب "، وَغَيرهم، وَقَالَ ابْن مُفْلِح: (وكرهها
جمَاعَة) ، وَقيل: يحرم، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين
مَعَ الشعار، فَإِنَّهُ ورد عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: "
لَا تصلح الصَّلَاة إِلَّا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
(1/106)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (إِنَّمَا
قَالَه ابْن عَبَّاس لما صَارَت الشِّيعَة تخص بِالصَّلَاةِ
عليا دون غَيره) .
قَوْله: {أما بعد} .
أَي: بعد مَا ذكر من حمد الله وَالصَّلَاة على رَسُوله.
وَهَذِه الْكَلِمَة يَأْتِي بهَا الْمُتَكَلّم / إِذا أَرَادَ
الِانْتِقَال من أسلوب إِلَى غَيره.
قَالَ: أما بعد) . وَيسْتَحب الْإِتْيَان بهَا فِي الْخطب
والمكاتبات اقتدار بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-، فَإِن كَانَ يَقُولهَا فِي خطبه وَشبههَا، رَوَاهُ عَنهُ
الْخَمْسَة وَثَلَاثُونَ صحابياً، ذكر الْحَافِظ الرهاوي
اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فِي كِتَابه " الْأَرْبَعين "، وَذكر
رِوَايَة كل وَاحِد مِنْهُم بِالْأَسَانِيدِ.
وَزَاد ابْن مَنْدَه فِي مستخرجه ثَلَاثَة.
(1/107)
فَالَّذِي ذكرهم الرهاوي: سعد بن أبي
وَقاص، وَعبد الله ابْن مَسْعُود، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ،
وَعبد الله بن ... ... . .
(1/108)
عمر، وَالْفضل بن الْعَبَّاس.
وَعبد الله بن عَبَّاس، وَجَابِر بن عبد الله، وَعقبَة بن ...
... ... ... ... .
(1/109)
عَامر، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَسمرَة بن
جُنْدُب، وعدي بن حَاتِم، وَأَبُو حميد السَّاعِدِيّ، والطفيل
بن ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
(1/110)
سَخْبَرَة، وَجَرِير بن عبد الله، وَأَبُو
سُفْيَان بن حَرْب، وَزيد
(1/111)
ابْن أَرقم، وَأَبُو بكرَة، وَأنس ابْن
مَالك، وَزيد بن
(1/112)
خَالِد، وقرة بن دعموص النميري، والمسور بن
مخرمَة، وَجَابِر بن سَمُرَة، وَعمر بن تغلب، وزر بن أنس
السّلمِيّ،
(1/113)
وَالْأسود ابْن سريع، وَأَبُو شُرَيْح بن
عَمْرو الْخُزَاعِيّ، وَعَمْرو ابْن حزم، وَعبد الله بن عكيم،
وَعقبَة بن ... ... ... ... ... ... . .
(1/114)
مَالك، وَعَائِشَة، وَأَسْمَاء ابنتا
الصّديق، - رَضِي الله عَنْهُم
(1/115)
أَجْمَعِينَ - وَالَّذِي زادهم ابْن مندة
فِي " مستخرجه ": الْبَراء بن عَازِب، وَأَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ، وَأَبُو شَدَّاد رجل من أهل (ذمار) قَرْيَة من
قرى عمان.
(1/116)
فَأَما (أما) فحرف تَفْصِيل، وأصل وَضعهَا:
أَن تذكر لتفصيل شَيْئَيْنِ فَأكْثر، فَيكون بعْدهَا (أما)
أُخْرَى.
تَقول إِذا أردْت تَفْصِيل أَحْوَال جمَاعَة: أما زيد فكريم،
وَأما عَمْرو ففاضل.
وَقد تذكر وَحدهَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَأَما الَّذين فِي
قُلُوبهم زيغ ... .} الْآيَة [آل عمرَان: 7]
وَهِي متضمنة معنى الشَّرْط، لارتباط الحكم الْمَذْكُور
بعْدهَا بالمحكوم عَلَيْهِ ولزومه لَهُ.
وَقد قَالَ سِيبَوَيْهٍ: (مَعْنَاهَا: مهما يكن من شَيْء) .
وَفِي " الْمُحكم ": (مَعْنَاهَا: أما بعد دعائي إِلَيْك) .
وَفِي " الْجَامِع " للقزاز: / (يَعْنِي: بعد الْكَلَام
الْمُتَقَدّم، أَو بعد مَا
(1/117)
يبلغنِي من الْخَبَر، ثمَّ حذفوا هَذَا
كُله) .
وَقَالَ بَعضهم: (هِيَ حرف إِخْبَار مضمن معنى الشَّرْط) .
فَالْأَصْل على قَول سِيبَوَيْهٍ فِي قَوْلك: أما يزِيد
فمنطلق: مهما يكن من شَيْء فزيد منطلق، فَحذف فعل الشَّرْط
وأداته وأقيمت (أما) مقامهما، فَكَانَ الأَصْل أَن يُقَال: أما
فزيد منطلق، فتجعل فِي صدر الْجَواب، وَإِنَّمَا أخرت لضرب من
اصْطِلَاح اللَّفْظ.
و (بعد) من الظروف المبنية المنقطعة من الْإِضَافَة،
وَالْعَامِل لَهَا (أما) لنيابتها عَن الْفِعْل، وَالْأَصْل:
مهما يكن من شَيْء بعد الْحَمد وَالثنَاء، كَمَا تقدم، و
(مهما) هُنَا مُبْتَدأ، والاسمية لَازِمَة للمبتدأ، و (يكن)
شَرط، و (الْفَاء) لَازِمَة لَهُ غَالِبا، فحين تَضَمَّنت
(أما) معنى الِابْتِدَاء وَالشّرط لزمتها (الْفَاء) ، ولصوق
الِاسْم إِقَامَة اللَّازِم مقَام الْمَلْزُوم وإبقاء لأثره
فِي الْجُمْلَة.
وَالْمَشْهُور ضم الدَّال، وَأَجَازَ الْفراء نصبها ورفعها
بِالتَّنْوِينِ
(1/118)
فيهمَا، وَأَجَازَ هِشَام فتح الدَّال،
وَأنْكرهُ النّحاس.
فَائِدَة: اخْتلف فِي أول من قَالَهَا.
فَقيل: دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -، وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا من
(1/119)
حَدِيث أبي مُوسَى، وَعَن الشّعبِيّ أَنه
فصل الْخطاب الَّذِي أوتيه دَاوُد على أحد التأويلات فِي
الْآيَة.
وَقيل: يَعْقُوب - عَلَيْهِ السَّلَام -[رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي غَرَائِبه بِسَنَد ضَعِيف: " لما جَاءَ
ملك الْمَوْت إِلَى يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام] فَقَالَ من
جملَة
(1/120)
كَلَامه: أما بعد فَإنَّا أهل بَيت مُوكل
بِنَا الْبلَاء ... " الحَدِيث.
وَقيل: يعرب بن قحطان، حَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم "
فِي كتاب الْجُمُعَة.
وَقيل: كَعْب بن لؤَي، قَالَه أَبُو سَلمَة بن ... ... ... ...
... ... .
(1/121)
عبد الرَّحْمَن حَكَاهُ أَبُو جَعْفَر
النّحاس.
وَقيل: قس بن سَاعِدَة، قَالَه الْكَلْبِيّ، حَكَاهُ عَنهُ
النّحاس فِي كِتَابه " صناعَة الْكتاب ".
(1/122)
وَقيل: سحبان بن وَائِل - بِفَتْح السِّين
وَسُكُون الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة
-، رجل من وَائِل وَكَانَ لسناً بليغاً يضْرب بِهِ الْمثل فِي
الْبَيَان / وَهُوَ الْقَائِل:
(لقد علم الْحَيّ اليمانون أنني ... إِذا قلت أما بعد أَنِّي
خطيبها)
وَالْأول أشبه، قَالَه الْحَافِظ ابْن حجر. قَالَ: (وَيجمع
بَينه وَبَينه غَيره بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأولية
الْمَحْضَة، والبقية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعرف خَاصَّة، ثمَّ
يجمع بَينهمَا النِّسْبَة إِلَى الْقَبَائِل) انْتهى.
قَوْله: {فَهَذَا} .
إِشَارَة منا إِلَى مَا تصورناه فِي الذِّهْن وأقمناه مقَام
الْمَكْتُوب المقروء الْمَوْجُود بالعيان.
وَقَوله: {مُخْتَصر} .
أَي: موجز، فالمختصر مَا قل لَفظه وَكَثُرت مَعَانِيه.
والاختصار: إيجاز اللَّفْظ وَاسْتِيفَاء الْمَعْنى.
وَقيل: رد الْكَلَام الْكثير إِلَى قَلِيل فِيهِ معنى الْكثير.
(1/123)
وَسمي اختصاراً لاجتماعه، وَمِنْه المخصرة،
وخصر الْإِنْسَان.
والاختصار فِي الْكَلَام مَحْمُود للْحَدِيث الْآتِي قَرِيبا،
وَقَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " خير الْكَلَام مَا قل
وَدلّ وَلم يطلّ فيمل "، فقربته وقللت أَلْفَاظه حجماً.
والاختصار تقليل الشَّيْء، فقد يكون بتقليل مسَائِله، وَقد
يكون بتقليل أَلْفَاظه مَعَ تأدية الْمَعْنى، وَمِنْه قَوْله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُوتيت جَوَامِع
الْكَلم وَاخْتصرَ لي الْكَلَام اختصاراً "، وَهُوَ مرادنا.
واختصاره مشَاهد بالعيان كَذَلِك، إِذْ لَو كَانَ مطولا
لَكَانَ أوسع وأكبر حجماً، وَإِنَّمَا اختصرناه لمعان.
مِنْهَا: لِئَلَّا يحصل الْملَل بالإطالة.
وَمِنْهَا: ليحفظ، فَإِن حفظ الْمُخْتَصر أيسر وأسهل وأهون على
النُّفُوس، فَإِن الْكتاب المطول فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَلَا
سِيمَا فِي أصُول الْفِقْه لَا يرغب فِيهِ وَلَا يقْرَأ، فضلا
عَن أَن يحفظ، فَإِن الهمم قد قصرت والبواعث قد فترت.
وَمِنْهَا: قلَّة الْأَلْفَاظ وَكَثْرَة الْمعَانِي الَّتِي
بحثها لَو جازة لَفظه، فيكثر علمه ويقل حجمه.
(1/124)
قَوْله: {فِي أصُول الْفِقْه}
أَي: لَا فِي علم غَيره، وَهُوَ الْعلم الْآتِي حَده وتفصيله
وَحكمه.
قَوْله: {جَامع لمعظم أَحْكَامه} .
أَي: يؤلف المتفرق من غَالب أَحْكَامه، إِذْ لم أر فِي /
الْغَالِب مَسْأَلَة فِي أصُول الْفِقْه إِلَّا ذكرتها فِيهِ،
خُصُوصا فِي الْمَذْهَب.
وَمَعَ هَذَا لم أستوعبه، إِذْ جَمِيعهَا لَا يُحِيط بهَا بشر،
بل ذكرت المتداول بَين الْعلمَاء الْأَعْيَان غَالِبا، وَفَوق
كل ذِي علم عليم.
قَوْله: {حاو لقواعده وضوابطه وأقسامه} .
أَي: جَامع ومحرز لقواعده ... إِلَى آخِره.
فَمَعْنَى حاو: جَامع، وَإِنَّمَا أتيت بهما لمُخَالفَة
اللَّفْظ، وَإِن كَانَ الْمَعْنى وَاحِدًا.
وَالْقَوَاعِد جمع قَاعِدَة، والضوابط جمع ضَابِط.
وَالْقَاعِدَة: هِيَ الْأَمر الْكُلِّي الَّتِي تنطبق على
جزئيات كَثِيرَة تفهم أَحْكَامهَا مِنْهَا.
فَمِنْهَا: مَا لَا يخْتَص، بِبَاب كَقَوْلِنَا (الْيَقِين لَا
يرفع بِالشَّكِّ) . وَمِنْهَا: مَا يخْتَص، كَقَوْلِنَا: (كل
كَفَّارَة سَببهَا مَعْصِيّة فَهِيَ على الْفَوْر) .
(1/125)
وَالْغَالِب فِيمَا يخْتَص بِبَاب وَقصد
بِهِ نظم صور متشابهة يُسمى ضابطاً
وَإِن شِئْت قلت: مَا عَم صوراً، فَإِن كَانَ الْمَقْصُود من
ذكر الْقدر الْمُشْتَرك الَّذِي بِهِ اشتركت الصُّور فِي الحكم
فَهُوَ الْمدْرك.
وَإِلَّا فَإِن كَانَ الْقَصْد ضبط تِلْكَ الصُّور بِنَوْع من
أَنْوَاع الضَّبْط من غير نظر فِي مأخذها فَهُوَ الضَّابِط
وَإِلَّا فَهُوَ الْقَاعِدَة.
وَمن الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة وَهِي الْمَقْصُودَة هُنَا
قَوْلنَا: الْأَمر للْوُجُوب، وللفور، وَدَلِيل الْخطاب حجَّة،
وَقِيَاس الشّبَه دَلِيل صَحِيح، والْحَدِيث الْمُرْسل يحْتَج
بِهِ، وَنَحْو ذَلِك من مسَائِل أصُول الْفِقْه هِيَ قَوَاعِد
للمسائل الْفِقْهِيَّة، وَيَأْتِي الْإِلْمَام بذلك فِي
التَّكَلُّم على حد أصُول الْفِقْه لقباً إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
والأقسام جمع قسم، وَهُوَ الْجُزْء من الشَّيْء.
قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (هَذَا يَنْقَسِم قسمَيْنِ،
بِالْفَتْح إِذا أُرِيد الْمصدر، وبالكسر إِذا أُرِيد
النَّصِيب أَو الْجُزْء من الشَّيْء الْمَقْسُوم) انْتهى.
فَهُوَ هُنَا كالجزء المفروز، كالأبواب الْمَذْكُورَة فِي
الْكتاب. / قَوْله: {مُشْتَمل على مَذَاهِب الْأَئِمَّة
الْأَرْبَعَة الْأَعْلَام} .
مُشْتَمل، أَي: محتو أَو مُحِيط، وَهُوَ اسْم فَاعل من
اشْتَمَل، يُقَال: اشْتَمَل على كَذَا، أَي: أحَاط بِهِ،
قَالَه فِي " الْقَامُوس ".
(1/126)
وَقَالَ: (شملهم الْأَمر كفرح وَنصر: عمهم،
أَو شملهم خير أَو شَرّ: أَصَابَهُم ذَلِك، وأشملهم شرا: عمهم
بِهِ، واشتمل بِالثَّوْبِ: أداره على جسده كُله حَتَّى لَا
تخرج مِنْهُ يَده، واشتمل عَلَيْهِ الْأَمر: أحَاط بِهِ)
انْتهى.
والمذاهب: جمع مَذْهَب، وَالْمذهب: الطَّرِيق الْوَاضِح.
[يُقَال] : ذهب مذهبا حَقًا، وذهاباً وذهوباً.
وَالْمرَاد هُنَا على طَرِيق الْأَئِمَّة، أَي: آراؤهم
واختيارهم، وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من الْأَدِلَّة
وَالْأَحْكَام.
قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْمَذْهَب المعتقد الَّذِي يذهب
إِلَيْهِ والطريقة وَالْأَصْل) انْتهى.
وَالْأَئِمَّة: جمع إِمَام، وَالْإِمَام: الْكَبِير المقتدى
بِهِ، الْجَامِع للخير والمتبع.
وَالْأَرْبَعَة: هم الإِمَام أَبُو حنيفَة النُّعْمَان بن
ثَابت، وَالْإِمَام أَبُو عبد الله مَالك بن أنس الأصبحي،
وَالْإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس،
(1/127)
وَالْإِمَام أَبُو عبد الله أَحْمد بن
حَنْبَل الشَّيْبَانِيّ، قدس الله أَرْوَاحهم، وَنور ضرائحهم،
وَرَضي عَنْهُم وأرضاهم، وَجَعَلنَا من محبيهم وأتباعهم،
وَهُوَ مرادي فِي الْمَتْن بِقَوْلِي: (الْأَرْبَعَة) ، وَأما
قولي: (الثَّلَاثَة) ، أَو (عِنْد الثَّلَاثَة) ؛ فَإِنِّي لَا
أطلق ذَلِك إِلَّا صرحت باسم الرَّابِع، فَيعلم حِينَئِذٍ
الثَّلَاثَة.
قَوْله: {وأتباعهم} .
أَعنِي: ومشتمل على أَقْوَال أتباعهم، أَي: أَتبَاع
الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة غَالِبا، أَي الَّذين اتَّبَعُوهُمْ
على مذاهبهم وأقوالهم وَمَشوا خَلفهم، وَرُبمَا ذكرتهم
بِأَسْمَائِهِمْ، وَهَذَا هُوَ مُعظم الْمَقْصُود من هَذَا
التصنيف، فَإِن مدَار الْإِسْلَام واعتماد أَهله قد بَقِي على
هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وأتباعهم، وَقد ضبطت مذاهبهم وأقوالهم
وأفعالهم، وحررت ونقلت من غير شكّ فِي ذَلِك.
بِخِلَاف مَذْهَب غَيرهم، وَإِن كَانَ من الْأَئِمَّة
الْمُعْتَمد عَلَيْهِم، لَكِن لم تضبط الضَّبْط الْكَامِل،
وَإِن كَانَ صَحَّ بَعْضهَا فَهُوَ يسير، فَلَا يَكْتَفِي بِهِ
وَذَلِكَ لعدم الِاتِّبَاع، و - أَيْضا - فَإِن أَقْوَالهم
إِمَّا أَن تكون مُوَافقَة لقَوْل أحد من هَؤُلَاءِ
الْأَئِمَّة وأتباعهم، أَو خَارِجَة / عَن ذَلِك، فَإِن كَانَت
مُوَافقَة فقد حصل الْمَقْصُود، وَيحصل بهَا التقوية، وَإِن
كَانَت غير مُوَافقَة كَانَت فِي الْغَالِب شَاذَّة لَا يعول
عَلَيْهَا، وَقد أذكرهم فَإِنَّهُم أهل لذَلِك.
وَأما غَيرهم من أَرْبَاب الْبدع، كالجهمية والرافضة والخوارج
والمعتزلة وَنَحْوهم، فَلَا اعْتِبَار بقَوْلهمْ الْمُخَالف
لأقوال الْأَئِمَّة وأتباعهم، وَلَا اعْتِمَاد عَلَيْهَا،
لَكِن إِن ذكرتها فعلى سَبِيل الْإِعْلَام والتبعية، وَقد
(1/128)
يذكرهَا الْعلمَاء؛ ليردوا على قَائِلهَا
وينفروا عَنهُ، ويعلموا مَا فِيهِ من الدسائس، وَقد ذكر
الأصوليون ذَلِك حَتَّى بالغوا، فَذكرُوا بعض مَذَاهِب
الْيَهُود وَالنَّصَارَى والسوفسطائية، والسمنية فرقة من عَبدة
الْأَصْنَام، والبراهمة وهم الَّذين لَا يجوزون على الله بعث
الرُّسُل، والملاحدة وَغَيرهم.
وَكَانَ شيخ الْإِسْلَام سراج الدّين البُلْقِينِيّ يعيب على
من يذكر ذَلِك فِي أصُول الْفِقْه، وَيَقُول: (إِنَّمَا مَحل
ذَلِك أصُول الدّين) ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
(1/129)
قَوْله: {اجتهدت} .
أَي: بذلت الوسع. {فِي تَحْرِير نقُوله} .
أَي: فِي تقويمها، لما فِيهِ من الْخبط وَالِاخْتِلَاف
وَالِاضْطِرَاب الَّذِي لَا يُوجد فِي علم غَيره، حَتَّى
رُبمَا وجد عَن عَالم فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة نقُول كَثِيرَة
مُخْتَلفَة، فَلهَذَا تحريت النَّقْل الصَّحِيح عَن صَاحبه،
وتنكبت عَن غَيره حَيْثُ حصل الِاضْطِرَاب، جهد الطَّاقَة.
وَقد أنتقد على كثير من المصنفين عزوهم أقوالاً إِلَى أشخاص
وَالْمَنْقُول الصَّحِيح عَنْهُم خِلَافه، أَو قَوْلهم مؤول
وَمَا أشبهه.
وَنحن نسْأَل الله السّتْر والسلامة والتوفيق للصَّوَاب
وَالْهِدَايَة ,
وَقد يكون لأَحَدهم الْقَوْلَانِ وَالثَّلَاثَة فَرُبمَا
ذكرتها.
قَوْله: {وتهذيب أُصُوله} .
أَي: تَخْلِيصهَا وتسهيلها بعبارات وَاضِحَة مقربة إِلَى
الْفَهم، مَعَ الْإِتْيَان بِالْمَعْنَى الْجَلِيّ الْوَاضِح.
قَوْله: {مُجَردا عَن الدَّلِيل / وَالتَّعْلِيل} .
أَي: خَالِيا عَنْهُمَا، وَالْأَمر كَذَلِك، وَذَلِكَ للفوائد
الَّتِي ذَكرنَاهَا قبل،
(1/130)
فَإِن الدَّلِيل وَالتَّعْلِيل يطول بِهِ
الْكتاب، وَمحله الْكتب المطولة، وَإِن ذكر فِي المختصرات قل
علمهَا.
وَيَأْتِي حد الدَّلِيل.
وَالْعلَّة: حِكْمَة الحكم، أَي: مَا يثبت الحكم لأَجله فِي
مَحَله، وَهِي أخص من الدَّلِيل، إِذْ كل تَعْلِيل دَلِيل،
وَلَيْسَ كل دَلِيل تعليلاً، لجَوَاز أَن يكون نصا أَو
إِجْمَاعًا.
وَيَأْتِي معنى الدَّلِيل قَرِيبا، وَتَأْتِي الْعلَّة فِي
خطاب الْوَضع، وَفِي الْقيَاس أَيْضا.
قَوْله: {وَالله المسؤول لبلوغ المأمول} .
هُوَ المسؤول وَالْمَقْصُود والمرجو فِي جَمِيع الْأُمُور،
وَفِي بُلُوغ مَا نؤمله من تَكْمِيل الْكتاب وَغَيره، وَقد كمل
بِحَمْد الله تَعَالَى، ونرجوا من كرم الله تَعَالَى تَكْمِيل
الشَّرْح.
قَوْله: {وأقدم الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وأقوال
أَصْحَابه} .
وَهَذَا فِي الْغَالِب، لِأَن الْكتاب للحنابلة، ومصنفه حنبلي
الْمَذْهَب، وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ تَقْدِيم مَذْهَب
إِمَامه الَّذِي هُوَ مقلد لَهُ، وأقوال أَصْحَابه، وَكَذَا
سَائِر المصنفين من أَتبَاع الْأَئِمَّة يَفْعَلُونَ ذَلِك.
(1/131)
وَفِيه فَائِدَة أُخْرَى وَهِي
الْمَقْصُودَة: وَهِي معرفَة الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام
أَحْمد وَأَصْحَابه، وَهُوَ من أعظم الْمُهِمَّات وأجلها.
قَوْله: {ومرادي بِالْقَاضِي: أَبُو يعلى} .
وَهُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْفراء، من أعظم أَئِمَّة
الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ الْمُعْتَمد فِي نقُوله وتصانيفه، وَله
الْيَد الطُّولى فِي الْمَذْهَب من الْأُصُول وَالْفُرُوع
وَغَيرهمَا، بل هُوَ الَّذِي جمع أشتاته وشوارده وهذبه وحرره
بعد الْخلال.
وَلما كَانَ إِطْلَاق القَاضِي فِي غَالب المختصرات والمطولات
فِي أصُول الْفِقْه ينْصَرف إِلَى القَاضِي أبي بكر الباقلاني؛
لِأَن مُرَادهم مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب وَغَيره.
(1/132)
وَعند الْمُعْتَزلَة فِي كتبهمْ ينْصَرف /
إِلَى القَاضِي عبد الْجَبَّار، احتجت أَن أبين مَا اصطلحت
عَلَيْهِ، لِئَلَّا يشْتَبه بِغَيْرِهِ فَيحصل لبس وَشك، وَقد
يكون اختيارهم مُخْتَلفا، فَيحصل الْخبط، عِنْد من لَا يعرف
المصطلح.
قَوْله: {وبأبي الْفرج: الْمَقْدِسِي} .
وَأَيْضًا لما كَانَ ذكر أبي الْفرج بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْأَصْحَاب يَشْمَل: أَبَا الْفرج الْمَقْدِسِي الشِّيرَازِيّ
الإِمَام الْجَلِيل المستجاب الدُّعَاء صَاحب القَاضِي أبي
يعلى.
ويشمل أَبَا الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ الْحَافِظ الْكَبِير،
وَيشْتَبه بِإِطْلَاقِهِ على السَّامع فَلَا يعرف من هُوَ
مِنْهُمَا، احتجت أَن أبين أَن مرادي بِهِ الشِّيرَازِيّ
الْمَقْدِسِي صَاحب " الْمُبْهِج "، و " الْإِيضَاح "، و "
الْإِشَارَة "، و " التَّبْصِرَة "، و " جَامع الْأَنْوَار
لتوحيد الْملك الْجَبَّار " فِي الْأُصُول، وَغير ذَلِك،
وَلِأَن أَقْوَاله فِي أصُول الْفِقْه أَكثر من أَقْوَال ابْن
الْجَوْزِيّ.
(1/133)
وَإِذا كَانَ لِابْنِ الْجَوْزِيّ قَول فِي
الْمَسْأَلَة ذكرته بِقَوْلِي: (قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ) ، و
(عِنْد ابْن الْجَوْزِيّ) وَنَحْوه.
وَإِذا أردْت وَلَده أَبَا مُحَمَّد يُوسُف، صَاحب "
الْإِيضَاح " فِي الجدل، قلت: (الْجَوْزِيّ) ، بِإِسْقَاط
ابْن، ليحصل التَّمْيِيز بَينهمَا أَيْضا.
قَوْله: {وبالفخر: إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ}
.
لما كَانَ أَيْضا الْفَخر يشْتَبه بالفخر الرَّازِيّ، بل أَكثر
النَّاس إِنَّمَا يسري وهمهم إِلَى الرَّازِيّ، بيّنت مصطلحي
فِي ذَلِك لأجل الِاشْتِبَاه.
فَإِن هَذَا اسْمه إِسْمَاعِيل بن عَليّ، وَيعرف بِابْن الرفا،
وبابن الماشطة، واشتهر بِغُلَام ابْن المنى، أَبُو مُحَمَّد
الْبَغْدَادِيّ، حنبلي الْمَذْهَب، لَهُ الْيَد الطُّولى فِي
الْأَصْلَيْنِ وَعلم الجدل وَغَيرهَا من الْعُلُوم.
وَالْفَخْر الرَّازِيّ أشعري الْمَذْهَب.
قَوْله: {ورتبته على مُقَدّمَة} .
تشْتَمل على سِتَّة وَأَرْبَعين فصلا، وعَلى ثَلَاثِينَ
فَائِدَة، وعَلى ثَلَاثَة عشر تَنْبِيها، وخاتمة، وَفرع،
وتتمة.
{وأبواب} .
عدتهَا ثَمَانِيَة عشر بَابا، وَهِي: بَاب الْكتاب، بَاب
السّنة، / بَاب
(1/134)
الْإِجْمَاع، بَاب الْأَمر، بَاب النَّهْي،
بَاب الْعَام وَالْخَاص، بَاب التَّخْصِيص، بَاب الْمُطلق
والمقيد، بَاب الْمُجْمل، بَاب الْمُبين، بَاب الظَّاهِر
والتأويل، بَاب الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم، بَاب النّسخ، بَاب
الْقيَاس، بَاب الِاسْتِدْلَال، بَاب الِاجْتِهَاد، بَاب
التَّقْلِيد، بَاب تَرْتِيب الْأَدِلَّة والتعادل والتعارض
وَالتَّرْجِيح.
وَهَذِه الْأَبْوَاب {مُشْتَمِلَة على فُصُول وفوائد} وتنابيه
وَفِي بَعْضهَا خَاتِمَة وتذنيب.
وَيَأْتِي حد التذنيب آخر الْكتاب.
والفصول جمع فصل، كفروع جمع فرع، وأصول جمع أصل، وَهُوَ لُغَة:
الحجز بَين شَيْئَيْنِ، وَمِنْه: فصل الرّبيع؛ لِأَنَّهُ يحجز
بَين الشتَاء والصيف، وَهُوَ فِي كتب الْعلم كَذَلِك؛
لِأَنَّهُ يحجز بَين أَجنَاس الْمسَائِل وأنواعها، لكنه فِي
كتَابنَا: الحجز بَين أَنْوَاع الْمسَائِل.
والفوائد: جمع فَائِدَة، وَهِي فِي الأَصْل: الزِّيَادَة تحصل
للْإنْسَان، وَهِي اسْم فَاعل من قَوْلك: فادت لَهُ فَائِدَة
فيداً من بَاب بَاعَ، وأفدته مَالا إِفَادَة: أَعْطيته، وأفدت
مِنْهُ مَالا: أَخَذته، وَفَائِدَة الْعلم وَالْأَدب من هَذَا.
قَوْله: {وتنابيه} .
جمع تَنْبِيه، مثل: تَعْلِيل وتعاليل، وَهُوَ تذكير شَيْء غفل
عَنهُ الْمُخَاطب
(1/135)
أَو السَّامع أَو الْقَارئ أَو الْمطَالع.
والخاتمة: وَهِي آخر الشَّيْء، وَهِي فِي كتب الْفِقْه
وَالْأُصُول وَنَحْوه: آخِرَة الشَّيْء الَّذِي قبلهَا من
الْأَبْوَاب وَنَحْوهَا.
والتذنيب يَأْتِي بَيَانه آخر بَاب التَّقْلِيد، فَإِنِّي
ذكرته هُنَاكَ.
فالمقدمة فِي تَعْرِيف هَذَا الْعلم، وَفَائِدَته، واستمداده،
وَمَا يتَّصل بذلك من مُقَدمَات ولواحق، كالدليل، وَالنَّظَر،
والإدراك، وَالْعلم، وَالْعقل، وَالْحَد، واللغة ومسائلها
وأحكامها، وَأَحْكَام خطاب الشَّرْع، وخطاب الْوَضع، وَمَا
يتَعَلَّق بهما، وَغير ذَلِك.
فمقدمة الْكتاب فِي غير الْمنطق: مَا يذكر فِيهِ قبل /
الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود لارتباطها بِهِ.
قَالَ التَّفْتَازَانِيّ: (يُقَال: مُقَدّمَة الْعلم: لما
يتَوَقَّف عَلَيْهِ مسَائِله، - كمعرفة حُدُوده وغايته وموضوعه
- ومقدمة الْكتاب: لطائفة من كَلَامه قدمت أَمَام الْمَقْصُود؛
لارتباط لَهُ بهَا وانتفاع بهَا فِيهِ - سَوَاء توقف عَلَيْهَا
أم لَا -.
قَالَ: وَالْفرق بَينهمَا مِمَّا خَفِي على كثير من النَّاس)
انْتهى.
وَهِي بِكَسْر الدَّال - على الْمَشْهُور -: كَلَام مقدم
أَمَام الْمَقْصُود لتوقفه
(1/136)
عَلَيْهِ وانتفاعه بِهِ بِوَجْه، كمقدمة
الْجَيْش وَهِي طَائِفَة تتقدمه، وَهِي من قدم بِمَعْنى تقدم،
لقَوْله تَعَالَى: {لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله}
[الحجرات: 1] ، أَي: لَا تتقدموا.
وَقد تفتح الدَّال؛ لِأَن صَاحب الْكَلَام أَو أَمِير الْجَيْش
قدمهَا، أَو لِأَنَّهَا مشبهة لمقدمة الرحل، وَهِي أَمَام
الرَّاكِب، مُقَابلَة لمؤخره، وَهِي مَا وَرَاءه.
قَالَ السُّبْكِيّ: (وَهِي أشهر) ، وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّان
الْفَتْح وَمنع الْكسر.
(1/137)
وَاقْتصر جمَاعَة على الْكسر، وَالْحق
جَوَاز الْوَجْهَيْنِ بالاعتبارين.
وَهَذِه الْمَادَّة ترجع تراكيبها إِلَى معنى الأولية، فمقدمة
الْكتاب أَوله، وَهِي فِي الأَصْل صفة ثمَّ استعملوها اسْما
لكل مَا وجد فِيهِ التَّقْدِيم، كمقدمة الْجَيْش، وَالْكتاب،
ومقدمة الدَّلِيل، وَالْقِيَاس، وَهِي الْقَضِيَّة الَّتِي
تنْتج ذَلِك مَعَ قَضِيَّة أُخْرَى، نَحْو: كل مُسكر خمر وكل
خمر حرَام، وَنَحْو ذَلِك: كل وضوء عبَادَة وكل عبَادَة
تشْتَرط لَهَا النِّيَّة، والعالم مؤلف وكل مؤلف مُحدث،
وَنَحْو ذَلِك.
(1/138)
{الْكَلَام على الْمُقدمَة}
{أَقُول وَمن الله أَسْتَمدّ المعونة: مَوْضُوع كل علم مَا
يبْحَث فِيهِ عَن عوارضه الذاتية} .
مَوْضُوع: اسْم مفعول، من وضع الشَّيْء، - مَبْنِيّ
للْمَفْعُول -، يوضع فَهُوَ مَوْضُوع، أَي: محطوط.
قد علمت أَن الْعلم لَا يتَمَيَّز عِنْد الْعقل إِلَّا بعد
الْعلم بموضوعه، / فَكل علم يتَمَيَّز عَن غَيره من الْعُلُوم
بموضوعه كَمَا يتَمَيَّز برسمه.
وَلما كَانَ مَوْضُوع أصُول الْفِقْه أخص من مُطلق
الْمَوْضُوع، وَالْعلم بالخاص مَسْبُوق بِالْعلمِ بِالْعَام،
وَجب أَولا تَعْرِيف مَوْضُوع الْعلم حَتَّى تحصل معرفَة
مَوْضُوع أصُول الْفِقْه، إِذْ كل علم لَهُ مَوْضُوع ومسائل.
فموضوع كل علم: مَا يبْحَث فِي ذَلِك الْعلم عَن الْأَحْوَال
الْعَارِضَة لَهُ، الذاتية. ومسائله: هِيَ معرفَة تِلْكَ
الْأَحْوَال.
فموضوع علم الطِّبّ مثلا: هُوَ بدن الْإِنْسَان، لِأَنَّهُ
يبْحَث فِيهِ عَن الْأَمْرَاض اللاحقة لَهُ ومسائل: هِيَ
معرفَة تِلْكَ الْأَمْرَاض.
(1/139)
وموضوع علم النَّحْو: الْكَلِمَات،
فَإِنَّهُ يبْحَث عَن أحوالها من حَيْثُ الْإِعْرَاب
وَالْبناء.
وَالْعلم بالموضوع لَيْسَ دَاخِلا فِي حَقِيقَة ذَلِك الْعلم،
كَمَا قُلْنَا فِي بدن الْإِنْسَان والكلمات؟
وموضوع علم الْفَرَائِض: التركات، لَا الْعدَد على الْأَصَح.
إِذا علم ذَلِك؛ فَلَا يبْحَث فِي الْعُلُوم إِلَّا عَن
الْأَعْرَاض الذاتية لموضوعاتها، أَي: الَّتِي منشؤها الذَّات
بِأَن لحقته لذاته، وَلِهَذَا قُلْنَا: عَن عوارضه الذاتية.
والعوارض الذاتية هِيَ الَّتِي تلْحق الشَّيْء لما هُوَ هُوَ،
أَي: لذاته، كالتعجب اللَّاحِق لذات الْإِنْسَان، أَو تلْحق
الشَّيْء لجزئه كالحركة بالإرادة اللاحقة للْإنْسَان
بِوَاسِطَة أَنه حَيَوَان، أَو تلْحقهُ بِوَاسِطَة أَمر خَارج
عَنهُ مسَاوٍ لَهُ كالضحك الْعَارِض للْإنْسَان بِوَاسِطَة
التَّعَجُّب.
وتفصيل ذَلِك أَن الْعَوَارِض سِتَّة: [لِأَن مَا يعرض]
للشَّيْء إِمَّا أَن يكون عروضه لذاته، أَو لجزئه، أَو لأمر
خَارج عَنهُ، وَالْأَمر الْخَارِج عَن المعروض: إِمَّا مسَاوٍ
لَهُ، أَو أَعم مِنْهُ، أَو أخص مِنْهُ، أَو مباين.
(1/140)
فالثلاثة الأول وَهِي: الْعَارِض لذات
المعروض، والعارض لجزئه، والعارض الْمسَاوِي، تسمى أعراضاً
ذاتية لاستنادها إِلَى ذَات المعروض.
أما الْعَارِض / للذات فَظَاهر، وَأما الْعَارِض للجزء؛
فَلِأَن الْجُزْء دَاخل فِي الذَّات، والمستند إِلَى مَا فِي
الذَّات مُسْتَند إِلَى الذَّات فِي الْجُمْلَة.
وَأما الْعَارِض لِلْأَمْرِ الْمسَاوِي؛ فَلِأَن الْمسَاوِي
يكون مُسْتَندا إِلَى ذَات المعروض، والعارض مُسْتَند إِلَى
الْمسَاوِي، والمستند إِلَى الْمُسْتَند إِلَى الشَّيْء
مُسْتَند إِلَى ذَلِك الشَّيْء، فَيكون الْعَارِض - أَيْضا -
مُسْتَندا إِلَى الذَّات.
وَالثَّلَاثَة الْأَخِيرَة هِيَ:
الْعَارِض لأمر خَارج أَعم من المعروض، كالحركة اللاحقة للأبيض
بِوَاسِطَة أَنه جسم، وَهُوَ أَعم من الْأَبْيَض وَغَيره.
والعارض للْخَارِج الْأَخَص، كالضحك الْعَارِض للحيوان
بِوَاسِطَة أَنه إِنْسَان، وَهُوَ أخص من الْحَيَوَان.
والعارض لسَبَب المباين، كالحرارة الْعَارِضَة للْمَاء
بِوَاسِطَة النَّار وَهِي مباينة للْمَاء، تسمى أعراضاً
غَرِيبَة لما فِيهَا من الغرابة بِالْقِيَاسِ إِلَى ذَات
المعروض، وَفِي الْعُلُوم إِنَّمَا يبْحَث عَن الْأَعْرَاض
الذاتية لموضوعاتها، قَالَه القطب
(1/141)
فِي " شرح الشمسية ".
قَالَ التَّفْتَازَانِيّ فِي " شرح الشمسية ": (الثَّالِث:
بَيَان مَوْضُوعه، أَعنِي: تعْيين مَا بِهِ يتَمَيَّز هَذَا
الْعلم فِي نَفسه عَن الْعُلُوم الْأُخَر حَتَّى يحصل لَهُ
اسْم [وَاحِد] على الِانْفِرَاد، فَإِن تمايز الْعُلُوم فِي
[ذواتها] لَيْسَ إِلَّا بِحَسب تمايز الموضوعات، حَتَّى لَو لم
يكن لهَذَا مَوْضُوع مُغَاير لموضوع ذَلِك بِالذَّاتِ أَو
بِالِاعْتِبَارِ لم يَكُونَا علمين، وَلم يَصح تعريفهما
بِوَجْهَيْنِ مُخْتَلفين، لِأَن الْعلم عبارَة عَن جَمِيع مَا
يبْحَث فِيهِ عَن الْأَعْرَاض الذاتية للموضوع بِاعْتِبَار
وَاحِد) انْتهى.
قَوْله: {فموضوع أصُول الْفِقْه: الْأَدِلَّة الموصلة إِلَى
الْفِقْه} .
يحْتَمل أَن تكون الْفَاء هُنَا فِي جَوَاب شَرط مُقَدّر،
وَتَقْدِير الشَّرْط: إِذا علمت أَن مَوْضُوع كل علم مَا
يبْحَث فِيهِ عَن عوارضه الذاتية، فموضوع أصُول الْفِقْه
كَذَا، فَجَاءَت الْفَاء جَوَاب / هَذَا الشَّرْط الْمَحْذُوف.
وَيحْتَمل أَن تكون فَاء التَّفْرِيع.
(1/142)
إِذا علم بذلك؛ فموضوع أصُول الْفِقْه:
أدلته من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس
وَنَحْوهَا، لِأَنَّهُ يبْحَث فِيهَا عَن الْعَوَارِض اللاحقة
لَهَا، من كَونهَا عَامَّة أَو خَاصَّة، أَو مُطلقَة أَو
مُقَيّدَة، أَو مجملة أَو مبينَة، أَو ظَاهِرَة أَو نصا، أَو
منطوقة أَو مفهومة، وَكَون اللَّفْظ أمرا أَو نهيا، وَنَحْو
ذَلِك، وَهَذِه الْأَشْيَاء هِيَ مسَائِله.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (مَوْضُوع أصُول الْفِقْه:
الْأَدِلَّة الموصلة إِلَى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة،
وَاخْتِلَاف مراتبها، وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا) .
قَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (مَوْضُوعه: مَا يبْحَث فِي
علم أصُول الْفِقْه عَن أَحْوَاله على وَجه كلي، وَهُوَ
الْأَدِلَّة الْمَذْكُورَة) .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ: (مَوْضُوع علم الْأُصُول: أَدِلَّة
الْفِقْه؛ لِأَنَّهُ يبْحَث فِيهَا عَن الْعَوَارِض اللاحقة
لَهَا من كَونهَا، عَامَّة وخاصة، وأمراً ونهياً، وَهَذِه
الْأَشْيَاء هِيَ الْمسَائِل) انْتهى.
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ أَيْضا وَغَيره: (وَإِذا كَانَت
الْأَدِلَّة هِيَ مَوْضُوع هَذَا الْعلم فَلَا تكون من ماهيته)
كَمَا تقدم.
وموضوع الْفِقْه: أَفعَال الْعباد من حَيْثُ تعلق الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة بهَا، ومسائله مَا يذكر فِي كل بَاب.
(1/143)
قَوْله: {ولابد لكل من طلب علما أَن يتصوره
بِوَجْه مَا، وَيعرف غَايَته، وَمَا يستمد مِنْهُ} .
قَوْله: لابد، أَي: لَا فِرَاق كل من حاول علما من الْعُلُوم
وَطلب مَعْرفَته أَن يعرف ثَلَاثَة أُمُور:
أَحدهَا: معرفَة ذَلِك الْعلم، أَي: تصَوره بِوَجْه مَا، لِأَن
طلب الْإِنْسَان مَا لَا يعرفهُ، محَال ببديهة الْعقل،
وَذَلِكَ الْوَجْه الَّذِي يعرفهُ بِهِ هُوَ الْمَعْنى الَّذِي
يُحِيط بكثرته، ثمَّ يَطْلُبهُ فِي جِهَة تَفْصِيله؟
فَإِن عرفه من جِهَة التَّفْصِيل كَانَ طلبه لَهُ محالاً،
لِأَنَّهُ تَحْصِيل / الْحَاصِل، ثمَّ الْجِهَة الَّتِي يعرفهُ
بهَا إِن كَانَت ذاتية فالمنبئ عَنْهَا الْحَد، وَإِلَّا
الرَّسْم، على مَا يَأْتِي.
الثَّانِي: معرفَة غَايَة ذَلِك الْعلم؛ لِئَلَّا يكون سَعْيه
عَبَثا، لِأَنَّهُ تَضْييع للعمر فِيمَا لَا يعلم لَهُ
فَائِدَة.
الثَّالِث: أَن يعرف مَا يستمد مِنْهُ؛ ليرْجع فِي تِلْكَ
الْجُزْئِيَّة إِلَى محلهَا مِنْهُ.
وَاعْلَم أَن أصل هَذِه الْقَاعِدَة: أَن كل مَعْدُوم يُوجد،
مُتَوَقف وجوده على أَربع علل:
صورية: وَهِي الَّتِي تقوم بهَا الصُّورَة وتتميز بهَا عَن
غَيرهَا، فتصور الْمركب مُتَوَقف على تصور أَرْكَانه وانتظامها
على الْوَجْه الْمَقْصُود.
(1/144)
وغائية: وَهِي الباعثة على إيجاده، وَهِي
الأولى فِي الْفِكر، مُقَدّمَة على سَائِر الْعِلَل وَإِن
كَانَت آخرا فِي الْوُجُود الْخَارِجِي، وَلِهَذَا يُقَال:
مبدأ الْعلم مُنْتَهى الْعَمَل، وَيُقَال أَيْضا: هِيَ عِلّة
فِي الذِّهْن معلولة فِي الْخَارِج.
ومادية: وَهِي الَّتِي مِنْهَا يستمد المركبات أَو مَا فِي
حكمهَا.
وفاعلية: وَهِي المؤثرة فِي إِيجَاد ذَلِك وإخراجه من الْعَدَم
إِلَى الْوُجُود.
وَيَأْتِي الْإِلْمَام بِهَذِهِ الْفَائِدَة فِي الْعلَّة
الشَّرْعِيَّة فِي خطاب الْوَضع.
قَوْله: {فالأصول جمع أصل} .
الْفَاء هُنَا كالفاء فِي قَوْلنَا: (فموضوع) ، وَهَذَا بَيَان
لَهَا من حَيْثُ جمعهَا وإفرادها، وَمَا كَانَ من الْأَسْمَاء
على (فعل) سَاكن الْعين، فبابه فِي جمع الْقلَّة (أفعل) ،
نَحْو: (أفلس) و (أكلب) ، وَفِي الْكَثْرَة على (فعال) نَحْو:
(حَبل وحبال) و (كلب وكلاب) و (كَعْب وكعاب) ، وعَلى (فعول)
نَحْو: فصل وفصول) و (أصل وأصول) و (فرع وفروع) .
وَلما قدمنَا: أَن كل طَالب علم لابد لَهُ من معرفَة ثَلَاثَة
أُمُور، شرعنا فِي بَيَانهَا، فَفِيمَا نَحن بصدده علم أصُول
الْفِقْه، فَلَا بُد من مَعْرفَته / من حَيْثُ الْمَعْنى
الْجَامِع لجزئياته كلهَا، وَمَعْرِفَة غَايَته، ومعرة
استمداده، فَيعرف حَقِيقَته من أَرَادَ الِاشْتِغَال بِهِ،
فَإِن عرف مَا يطْلب هان عَلَيْهِ مَا يبْذل.
(1/145)
فأصول الْفِقْه: مركب من مُضَاف ومضاف
إِلَيْهِ، ثمَّ صَار بِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال فِي عرف
الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء لَهُ معنى آخر غير الأول
وَهُوَ العلمية، فَصَارَ علما عَلَيْهِ بالغلبة، لقباً مشعراً
برفعته، فَيَنْبَغِي أَن يعرف من حَيْثُ مَعْنَاهُ الإضافي،
وَمن حَيْثُ مَعْنَاهُ اللقبي.
إِذا علم ذَلِك؛ فبعض المصنفين بَدَأَ بِمَعْرِِفَة كَونه
مُضَافا، فَتكلم على الْمُضَاف أَولا، ثمَّ على الْمُضَاف
إِلَيْهِ ثَانِيًا، ثمَّ على كَونه مركبا، وتابعناهم على ذَلِك
فِي الْمَتْن، لِأَن معرفَة الْمُفْرد تكون قبل معرفَة
الْمركب.
وَمن بَدَأَ بِكَوْنِهِ علما قَالَ: صَار ذَلِك كالمفرد،
وَهُوَ أظهر وَأولى؛ لِأَن الأول فِيمَا تركيبه ملحوظ، وَهَذَا
لَيْسَ كَذَلِك.
(1/146)
فعلى الأول: كل مركب لَا يعرف إِلَّا
بِمَعْرِِفَة أَجْزَائِهِ، فأصول الْفِقْه، مركب من مُضَاف
ومضاف إِلَيْهِ، فالمضاف أصُول، وَهِي جمع أصل.
{وَهُوَ} أَي: الأَصْل، {لُغَة} : أَي: فِي اللُّغَة: {مَا
يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره} .
اخْتلفت عباراتهم فِي الأَصْل فِي اللُّغَة، فَقيل: هُوَ مَا
يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره، {قَالَه القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب،
وَابْن عقيل} ، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ
(1/147)
فِي شرح الْعُمْدَة "، وَأَبُو إِسْحَاق
الشِّيرَازِيّ، {وَالْأَكْثَر} .
{وَقَالَ جمع: مَا مِنْهُ الشَّيْء} . مِنْهُم الأرموي فِي "
الْحَاصِل ".
وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول " و " الْمُنْتَخب " و "
التَّحْصِيل ": (الْمُحْتَاج إِلَيْهِ) .
وَقيل: مَا يتَفَرَّع عَنهُ غَيره. وَقَالَ بَعضهم: (هَذِه
الْعبارَة أحسن من قَول أبي الْحُسَيْن: " مَا يَنْبَنِي
عَلَيْهِ غَيره "؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَال: إِن الْوَلَد /
يَنْبَنِي على الْوَالِد، وَيُقَال: إِنَّه فَرعه، وَأحسن من
قَول صَاحب " الْحَاصِل "
(1/148)
وَجَمَاعَة: " مَا مِنْهُ الشَّيْء "؛
لاشتراك " من " بَين الِابْتِدَاء والتبعيض، وَأحسن من قَول
الإِمَام: " الْمُحْتَاج إِلَيْهِ "؛ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد
بالاحتياج: مَا يعرف فِي علم الْكَلَام من احْتِيَاج الْأَثر
إِلَى الْمُؤثر وَالْمَوْجُود إِلَى الموجد، لزم إِطْلَاق
الأَصْل على الله تَعَالَى، وَإِن أُرِيد: مَا يتَوَقَّف
عَلَيْهِ الشَّيْء، لزم إِطْلَاقه على الْجُزْء وَالشّرط
وَانْتِفَاء الْمَانِع، وَإِن أُرِيد: مَا يفهمهُ أهل الْعرف
من الِاحْتِيَاج، لزم إِطْلَاقه على الْأكل واللبس
وَنَحْوهمَا، وكل هَذِه اللوازم مستنكرة) انْتهى.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (و " من " فِي قَوْله: مَا مِنْهُ
الشَّيْء للتَّبْعِيض، أَي: مَا بعضه الشَّيْء، وَالْفرع بعض
أَصله، كَالْوَلَدِ من الْوَالِد، والغصن من الشَّجَرَة، لِأَن
الْفِقْه مقتطع من أدلته اقتطاع الْوَلَد من الْوَالِد والغصن
من الشَّجَرَة وَنَحْوه، وَيجوز أَن تكون " من " لابتداء
الْغَايَة، على معنى: أَن أَدِلَّة الْفِقْه من الْكتاب
وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَنَحْوهَا [هِيَ] مبدأ ظُهُوره،
وَمِنْهَا ابْتِدَاء بَيَانه، وَهُوَ أظهر الْمَعْنيين فِي "
من ".) انْتهى.
وَقَالَ أَيْضا: (وَزعم بَعضهم أَن تَعْرِيف الشَّيْء ب " مَا
" كَانَ فِي التعريفين قَبِيح؛ لِأَن المُرَاد من التَّعْرِيف
الْإِيضَاح والإفهام، وَلَفظ " مَا " شَدِيد الْإِبْهَام،
فالتعريف بِهِ يُنَافِي الْمَقْصُود.
ورده بِأَن " مَا " وَإِن كَانَت شَدِيدَة الْإِبْهَام غير أَن
التَّعْرِيف لَيْسَ بهَا وَحدهَا، بل بهَا وَبِمَا بعْدهَا،
وبمجموعهما يحصل الْكَشْف عَن حَقِيقَة الْمَحْدُود.
(1/149)
- ثمَّ قَالَ -: نعم المناقشة على ذَلِك من
وَجه آخر، وَهُوَ: أَن شَأْن الْحُدُود والتعريفات أَن يَأْتِي
فِيهَا بِالْجِنْسِ الْقَرِيب ثمَّ يُمَيّز بِالْفَصْلِ،
وَلَفظ " مَا " عَام فِي الْجِنْس الْقَرِيب والبعيد، فَلَا
يعلم مَا المُرَاد.
قَالَ: وَالْجَوَاب: / أَن الحذاق لَا يطلقون لفظ " مَا " فِي
التَّعْرِيف إِلَّا مَعَ قرينَة تدل على الْجِنْس الْقَرِيب،
والقرائن فِي المخاطبات كالألفاظ بل أبلغ فِي الإفهام) انْتهى.
وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي " الإحكام " و " مُنْتَهى السول ":
(هُوَ مَا يسْتَند تحقق الشَّيْء إِلَيْهِ) .
وَقيل: (منشأ الشَّيْء) ، وَلَا طائل تَحت هَذِه الْعبارَات،
فَلذَلِك لم نذْكر فِي الْمَتْن مِنْهَا إِلَّا قَوْلَيْنِ،
وَإِن كَانَ أهل اللُّغَة لم يذكرُوا هَذِه الْأَقْوَال فِي
كتبهمْ، لِأَن الْأُصُولِيِّينَ يتعرضون لِأَشْيَاء لم
يتَعَرَّض لَهَا أهل اللُّغَة، وَأما فِي الْعرف فَالْأَصْل
مُسْتَعْمل فِي ذَلِك.
فَائِدَة: قَوْلنَا مثلا: الأَصْل لُغَة، أَو الْفِقْه لُغَة،
أَو الدَّلِيل لُغَة، وَنَحْو ذَلِك، وَاصْطِلَاحا أَو شرعا
وَنَحْوه.
(1/150)
اخْتلفُوا فِي الناصب لَهُ.
قيل: هُوَ مَنْصُوب بِنَزْع حرف الصّفة، وَتَقْدِيره: أَي: فِي
اللُّغَة، وَهَكَذَا أعربه الطوفي فِي " شَرحه " وَغَيره.
وَقَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ":
(وَقَوله: الدَّلِيل لُغَة: المرشد، وَالْإِجْمَاع لُغَة
كَذَا، وَشبهه، مَنْصُوب على الْمصدر، من بَاب الْمصدر
الْمُؤَكّد لغيره، لِأَن مَعْنَاهُ: أَي: [مَدْلُول] الدَّلِيل
لُغَة: المرشد.
لِأَن الدّلَالَة تَنْقَسِم إِلَى: دلَالَة شرع، وَإِلَى
دلَالَة عرف، وَإِلَى دلَالَة لُغَة، فَلَمَّا كَانَت
مُحْتَملَة وَذكر أحد المحتملات كَانَ من بَاب الْمصدر
الْمُؤَكّد، وَكَانَ الْقيَاس أَن يذكر بعد [الْجُمْلَة]
وَلكنهَا قدمت للقصد إِلَى أَنَّهَا لبَيَان دلَالَة
الدَّلِيل، لِأَنَّهَا لَو أخرت لكَانَتْ صَالِحَة لكل وَاحِد
مِنْهَا، وَلَيْسَت تمييزاً عَن النِّسْبَة، إِذْ لَا إِبْهَام
فِي حمل المرشد على الدَّلِيل، وَلَا عَن [الْمُفْرد] وَهُوَ
الدَّلِيل [إِذْ الْإِبْهَام فِي غير مستو] لكَونه مُشْتَركا)
انْتهى.
(1/151)
وَقَوْلنَا مثلا: خلافًا لفُلَان، مَنْصُوب
على الْمصدر أَو الْحَال، أَي: أَقُول ذَلِك وَأَنا أخالفهم
مُخَالفَة وَخِلَافًا.
أَو أَقُول ذَلِك / فِي حَال كوني مُخَالفا لَهُم، وَهُوَ
أحسن.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} .
أَي: معنى الأَصْل فِي الِاصْطِلَاح. {مَا لَهُ فرع} .
قَالَه ابْن حمدَان فِي " مقنعه " وَغَيره، وَهُوَ كَذَلِك؛
لِأَن الْفَرْع إِنَّمَا ينشأ دَائِما عَن أصل، وَالْأَصْل لَا
يُطلق غَالِبا إِلَّا على مَا لَهُ فرع.
قَوْله: {وَيُطلق على الدَّلِيل} .
اعْلَم أَن للْأَصْل أَرْبَعَة إطلاقات إطلاقاً متعارفاً.
أَحدهَا: الدَّلِيل، وَيُطلق عَلَيْهِ غَالِبا، صرح بِهِ جمع
من الْعلمَاء، كَقَوْلِهِم: أصل هَذِه الْمَسْأَلَة الْكتاب
وَالسّنة، أَي: دليلها.
فَإِذا وصلته بالفقه وَقلت: دَلِيل الْفِقْه، كَانَ تَفْسِيرا
لأصل الْفِقْه من حَيْثُ الْإِضَافَة، وَهُوَ المُرَاد هُنَا.
(1/152)
وَالثَّانِي: يُطلق على الرجحان، أَي: على
الرَّاجِح من الْأَمريْنِ، كَقَوْلِك: الأَصْل فِي الْكَلَام
الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز، أَي: الرَّاجِح عِنْد السَّامع هُوَ
الْحَقِيقَة، وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة، وَبَقَاء مَا
كَانَ على مَا كَانَ.
وَالثَّالِث: الْقَاعِدَة المستمرة، أَو الْأَمر المستمر،
كَقَوْلِك: أكل الْميتَة على خلاف الأَصْل، أَي: على خلاف
الْحَالة المستمرة فِي الحكم.
وَالرَّابِع: الْمَقِيس عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يُقَابل الْفَرْع
فِي بَاب الْقيَاس على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: {الْفِقْه لُغَة: الْفَهم، عِنْد الْأَكْثَر} .
الْفِقْه: مصدر فقه، يُقَال: فقه بِكَسْر الْقَاف وَضمّهَا
وَفتحهَا.
فَالْأول لمُطلق الْفَهم، وَالثَّانِي إِذا كَانَ لَهُ سجية،
وَالثَّالِث إِذا ظهر على غَيره، قَالَه الْقَرَافِيّ
وَجَمَاعَة. قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (فقه ككرم وَفَرح
فَهُوَ فَقِيه، وَفقه كندس) .
(1/153)
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ":
(الْفِقْه: فهم الشَّيْء) .
قَالَ ابْن فَارس: (وكل علم بِشَيْء فَهُوَ فقه) .
وَالْفِقْه على لِسَان حَملَة الشَّرْع: علم خَاص.
وَفقه فقهاً من بَاب تَعب: إِذا علم، وَفقه - بِالضَّمِّ -
مثله، وَقيل: الضَّم: إِذا صَار الْفِقْه لَهُ سجية.
قَالَ أَبُو زيد: " رجل فقه - بِضَم الْقَاف وَكسرهَا -،
وَامْرَأَة فقهة بِالضَّمِّ ".) انْتهى. /
إِذا علم ذَلِك؛ فَلهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى
فِي الِاصْطِلَاح.
فَأَما مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة فَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيره
على أَقْوَال.
أَحدهَا: أَنه الْفَهم، قَالَه الْأَكْثَر؛ لِأَن الْعلم يكون
عَنهُ.
(1/154)
قَالَ الطوفي: (وَمِمَّا يدل على تغايرهما؛
أَن الْفِقْه يتَعَلَّق بالمعاني دون الْأَعْيَان، وَالْعلم
يتَعَلَّق بهما، فَيصح أَن يُقَال: علمت معنى كلامك وفهمته) .
قَالَ الْجَوْهَرِي: (الْفِقْه لُغَة: الْفَهم) .
قَالَ أَبُو الْفرج فِي " الْإِيضَاح ": (يُقَال فِي اللُّغَة:
فلَان فَقِيه، أَي: فهم، وَفُلَان يفقه عني مَا أَقُول، أَي:
يفهم عني مَا أَقُول، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {فَمَال
هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا} [النِّسَاء:
78] ، {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} [الْإِسْرَاء: 44] ، {مَا
نفقه كثيرا مِمَّا تَقول} [هود: 91] ، أَي: لَا يكادون يفهمون،
وَلَكِن لَا تفهمون، وَمَا نفهم كثيرا مِمَّا تَقول، وَنَحْوه
قَوْله: {وَهُوَ إِدْرَاك معنى الْكَلَام} .
يَعْنِي: معنى الْفَهم: إِدْرَاك معنى الْكَلَام، زَاد ابْن
عقيل فِي " الْوَاضِح ": (بِسُرْعَة) ، وَلَا حَاجَة
إِلَيْهَا؛ لِأَن من يفهم بعد حِين يُقَال: فهم.
قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ - أَي: فِي " شرح الْمُخْتَصر " -:
(المُرَاد بالفهم الدَّرك لَا جودة الذِّهْن من جِهَة تهيئه
[لاقتناص] مَا يرد عَلَيْهِ من المطالب.
(1/155)
والذهن: قُوَّة النَّفس المستعدة
لِاكْتِسَابِ الْحُدُود والآراء) .
وَالثَّانِي قَالَه القَاضِي فِي " الْعدة "، وَابْن فَارس فِي
" الْمُجْمل "، وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " التخليص "، والكيا،
والقشيري، وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهم، وَحكي عَن الْأَصْحَاب:
الْعلم.
(1/156)
لم أعلم من أَيْن نقلت أَن هَذَا القَوْل
حُكيَ عَن الْأَصْحَاب الْآن.
قَالَ ابْن فَارس فِي " الْمُجْمل ": (الْفِقْه الْعلم، وكل
علم بِشَيْء فَهُوَ فقه) .
وَالثَّالِث قَالَه ابْن الصيقل، وَصَاحب " رَوْضَة فقهنا "،
وَالْغَزالِيّ، والآمدي: هما، أَي: الْفِقْه لُغَة: الْفَهم
وَالْعلم.
قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْفِقْه بِالْكَسْرِ الْعلم
بالشَّيْء والفهم) ، وَلم يحك خلافًا.
يُقَال: فلَان يفقه الْخَيْر وَالشَّر، ويفقه كَلَام فلَان،
أَي: يفهمهُ ويعلمه.
(1/157)
وَالرَّابِع قَالَه القَاضِي فِي "
الْكِفَايَة ": (معرفَة قصد الْمُتَكَلّم) .
قَالَ الرَّازِيّ / فِي " الْمَحْصُول " و " الْمُنْتَخب ":
(هُوَ فهم غَرَض الْمُتَكَلّم من كَلَامه) .
قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع " عَن كَلَام القَاضِي فِي "
الْكِفَايَة ": (يبطل بِكَلَام من لَا قصد لَهُ كالنائم
وَالصَّبِيّ وَالْمَجْنُون) .
وَالْخَامِس، قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ":
(الْكل) .
أَي: يُطلق على الْكل الَّذِي تقدم.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (يُقَال " فهمت كلامك، إِذا عَرفته
وفهمته وعلمته، كل ذَلِك بِمَثَابَة وَاحِدَة) انْتهى.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (الْفِقْه هُوَ الْفَهم وَالْعلم وَالشعر
والطب لُغَة، وَإِنَّمَا اخْتصّت بعض الْأَلْفَاظ بِبَعْض
الْعُلُوم بِسَبَب الْعرف) ، وَحَكَاهُ عَن الْمَازرِيّ
(1/158)
فِي " شرح الْبُرْهَان ".
وَالسَّادِس قَالَه الشِّيرَازِيّ وَغَيره: (فهم مَا يدق) .
قَالَه أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع "، وَصَاحب "
اللّبَاب " من الْحَنَفِيَّة، وَمَعْنَاهُ لبَعض أَصْحَابنَا.
(1/159)
قَالَ ابْن هُبَيْرَة: (هُوَ اسْتِخْرَاج
الغوامض والاطلاع عَلَيْهَا) ، وَهُوَ أظهر؛ فَإِنَّهُ لَا
يُقَال: فقهت أَن السَّمَاء فَوْقنَا، وَلَا أَن النَّار حارة،
وَنَحْو ذَلِك، وَيُقَال: فقهت كلامك، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن
الْفِقْه أخص من الْعلم.
قَالَ ابْن مُفْلِح - من أَصْحَابنَا - عَن كَلَام ابْن
هُبَيْرَة: (وَلَعَلَّه مُرَاد من أطلق) .
وَالسَّابِع: (التَّوَصُّل إِلَى علم غَائِب بِعلم شَاهد) ،
قَالَه الرَّاغِب.
قَالَ الْعَسْقَلَانِي فِي " شرح مُخْتَصر الطوفي ": (الْفَهم
هَيْئَة للنَّفس بهَا يتَحَقَّق مَعَاني مَا يحس، فالعلم إِذن
عَنهُ، وَمن ثمَّ قيل: الْفِقْه التَّوَصُّل إِلَى علم غَائِب
بِعلم شَاهد، فَهُوَ أخص من الْعلم) انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا} .
(1/160)
أَي: فِي اصْطِلَاح فُقَهَاء الشَّرْع.
لَهُم فِي تَفْسِيره وَحده عِبَارَات لَا تَخْلُو من إيرادات.
أَحدهَا - قَالَه أَكثر أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين -:
(معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية بِالْفِعْلِ أَو
الْقُوَّة الْقَرِيبَة) .
نَقله عَنْهُم ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
وَيرد عَلَيْهِ: كَونهم حكمُوا بِأَنَّهُ معرفَة الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة الفرعية بِالْفِعْلِ، وَهَذَا لَا يقدر عَلَيْهِ
بشر، أَو الْقُوَّة، وَهُوَ مُشكل، إِذْ لَا بُد للفقيه / من
معرفَة بعض الْأَحْكَام بِالْفِعْلِ، فلعلهم أَرَادوا (أَو)
بِمَعْنى (الْوَاو) ، فَيكون معرفَة الْأَحْكَام بَعْضهَا
بِالْفِعْلِ وَبَعضهَا بِالْقُوَّةِ، فَيقرب الْأَمر، بل هَذَا
هُوَ الْفَقِيه الْمُجْتَهد يعرف بعض الْأَحْكَام بِالْفِعْلِ،
وَبَعضهَا بِالْقُوَّةِ، لتهيوئه لَهَا.
وَقَالَ أَبُو الْفرج فِي مُقَدّمَة " الْإِيضَاح ": (حَده فِي
الشَّرِيعَة: الْعلم بِأَفْعَال الْمُكَلّفين الشَّرْعِيَّة
دون الْعَقْلِيَّة من تَحْلِيل أَو تَحْرِيم وحظر إِبَاحَة) .
(1/161)
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (حد
الْفِقْه: الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة) .
وَقيل: (معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة) انْتهى.
وَقَالَ ابْن حمدَان وَغَيره: (معرفَة كثير من الْأَحْكَام
عرفا) .
فَقَالَ فِي " الْمقنع ": (الْفِقْه شرعا: معرفَة أَحْكَام جمل
كَثِيرَة عرفا من مسَائِل الْفُرُوع العلمية من أدلتها
الْحَاصِلَة بهَا) ، وَهُوَ حسن.
وَمرَاده بالمعرفة: الْفِعْل؛ لِأَن الْفَقِيه لابد لَهُ من
معرفَة كثير من الْأَحْكَام بِالْفِعْلِ.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": (الْعلم بِأَحْكَام
الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة كالحل وَالْحُرْمَة وَالصِّحَّة
وَالْفساد وَنَحْوهَا.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": (وَأكْثر الْمُتَقَدِّمين
قَالُوا: معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الثَّابِتَة لأفعال
الْمُكَلّفين، وَقيل النَّاس) .
قَالَ فِي " شَرحه ": (لم يقصدوا تَحْرِير الْمُتَأَخِّرين، بل
أَرَادوا الْإِشَارَة إِلَى حَقِيقَة الْفِقْه) .
(1/162)
وَيرد عَلَيْهِ أَشْيَاء كَثِيرَة،
ومؤاخذات لَا طائل تحتهَا وَلَا فَائِدَة، وتعرف
بِالتَّأَمُّلِ.
وَقيل: - هَذَا القَوْل الثَّانِي -:
إِنَّه نفس الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية، وَهُوَ أظهر،
وَاخْتَارَهُ ابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل،
والعسقلاني شَارِح " الطوفي "، وَجمع كثير، لَا مَعْرفَتهَا
وَلَا الْعلم بهَا، إِذْ الْعلم أَو الْمعرفَة بالفقه غير
الْفِقْه، فَلَا يكون دَاخِلا فِي مَا هيته، وَمَا لَيْسَ
دَاخِلا فِي الْمَاهِيّة لَا يكون جِنْسا فِي حَده، وَيَأْتِي
لذَلِك مزِيد بَيَان / فِي حد أصُول الْفِقْه لقباً.
وَقيل - هَذَا القَوْل الثَّالِث -:
إِنَّه الْعلم بهَا عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال.
اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي والطوفي فِي " مُخْتَصره
"، وَغَيرهم.
فبعضهم قَالَ: الْعلم، وَبَعْضهمْ قَالَ: الْمعرفَة.
(1/163)
وعَلى هَذَا الْحَد - أَيْضا - إيرادات
ومؤاخذات كَثِيرَة، وأجوبة عَن ذَلِك، ذكروها فِي الشُّرُوح
والمتون - أَيْضا - يطول الْكتاب بذكرها.
وَهَذَا الْحَد مُوَافق لقَوْل أَصْحَابنَا: (معرفَة
الْأَحْكَام لَا نفس الْأَحْكَام) ، وَيَأْتِي مَأْخَذ الْخلاف
فِي حد أصُول الْفِقْه لقباً؛ فَإِن الْخلاف هُنَا كالخلاف
هُنَاكَ عِنْد [كثير] مِنْهُم.
فَائِدَة: عدي الْعلم بِالْبَاء، وَالْعلم يتَعَدَّى
بِنَفسِهِ، فَلَا بُد من تَأْوِيل، وَلَهُم فِي تَأْوِيله
وَجْهَان أَو ثَلَاثَة:
أَحدهَا: تضمن الْعلم معنى الْإِحَاطَة بِالْأَحْكَامِ،
والإحاطة تتعدى بِالْبَاء.
الثَّانِي: تكون مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف تَقْدِيره: الْعلم
الْمُتَعَلّق بِالْأَحْكَامِ، فَتكون الْبَاء مُتَعَلقَة بِصفة
الْعلم وَهُوَ: الْمُتَعَلّق.
لَكِن قد جَاءَت الْبَاء فِي قَوْله تَعَالَى: {ألم يعلم بِأَن
الله يرى} [العلق: 14] ، فَيحْتَمل زيادتها، وَيحْتَمل أَن
يكون (علم) متضمناً معنى (أحَاط) .
فدخول الْبَاء فِي قَوْله: (الْعلم بِالْأَحْكَامِ) أما على
طَرِيق التَّضْمِين فِي الْفِعْل فَظَاهر، وَأما على طَرِيق
الزِّيَادَة فِي الْفِعْل؛ فَلِأَن الْمصدر الْمَعْرُوف
بِالْألف وَاللَّام ضَعِيف الْعَمَل جدا، وَإِذا ضعف تقوى
بالحرف، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن كُنْتُم للرءيا تعبرون}
[يُوسُف: 43] ، {ومصدقاً لما بَين يَدَيْهِ} [الْمَائِدَة: 46]
، وعَلى كل تَقْدِير: هِيَ مُتَعَلقَة بِالْعلمِ، وَأما
تَقْدِير مَحْذُوف
(1/164)
كَقَوْلِنَا: الْعلم الْمُتَعَلّق
بِالْأَحْكَامِ، فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ، إِلَّا إِذا فسرنا
الْعلم بالصناعة فَيظْهر تَقْدِيره. انْتهى.
فَائِدَة: الحكم الفرعي: مَا لَا يتَعَلَّق بالْخَطَأ فِي
اعْتِقَاد مُقْتَضَاهُ وَالْعلم بِهِ قدح فِي الدّين وَلَا
وَعِيد فِي الْآخِرَة، كالنية فِي الْوضُوء، وَالنِّكَاح /
بِلَا ولي.
قَوْله: {والفقيه: من عرف جملَة غالبة مِنْهَا كَذَلِك، وأبدل
الْمجد وَابْن حمدَان غالبة بكثيرة} .
هَذَا تَعْرِيف الْفَقِيه، لما ذكرنَا حد الْفِقْه، أردنَا أَن
نَعْرِف الْفَقِيه.
وَقَوله كَذَلِك.
أَي: يعرفهَا عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، فَلَا يكون
فَقِيها حَتَّى يعرفهَا على هَذِه الصّفة وَإِلَّا لَكَانَ
مُقَلدًا. وأبدل الْمجد وَابْن حمدَان غالبة بكثيرة.
فَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": (الْفَقِيه حَقِيقَة: من لَهُ
أَهْلِيَّة تَامَّة يعرف الحكم بهَا إِذا شَاءَ، مَعَ
مَعْرفَته جملا كَثِيرَة من الْأَحْكَام الفروعية وحضورها
عِنْده بأدلتها الْخَاصَّة والعامة) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْمقنع ": (الْفِقْه شرعا: معرفَة أَحْكَام جمل
كَثِيرَة عرفا من مسَائِل الْفُرُوع العلمية بأدلتها
الْحَاصِلَة بهَا) .
(1/165)
فالفقيه حَقِيقَة من عرفهما معرفَة،
وَيُمكن من معرفتهما معرفَة غَيرهمَا بطريقه) انْتهى.
فَكَلَام الْمجد وَابْن حمدَان وَكَلَام غَيرهمَا مُتَقَارب،
لَكِن ظَاهر قَوْلهم: جملَة غالبة، الْغَالِبَة لابد وَأَن
تكون فَوق النّصْف، حَتَّى تكون غالبة على مَا يقابلها،
بِخِلَاف الْكَثِيرَة؛ فَإِنَّهَا تطلق حَيْثُ وجدت
الْكَثْرَة.
وَحَيْثُ حملنَا الْعبارَة الأولى على أَكثر من النّصْف فيشكل؛
لِأَن الْفِقْه جَمِيعه لَا يُحِيط بِهِ بشر، فَكيف يعرف من
ذَلِك النّصْف أَو أَكثر مِنْهُ، فَيبقى فِي الْعبارَة شَيْء.
وَإِن حملناها على أَكْثَره سهل الْأَمر، فَيكون المُرَاد:
كَثِيرَة غالبة، فَهِيَ أخص من الْكَثْرَة الْمُطلقَة،
وَيَأْتِي فِي تَعْرِيف الْمُجْتَهد: أَنه لَا يشْتَرط فِيهِ
معرفَة أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر، والمجتهد هُوَ
الْفَقِيه.
فعلى هَذَا يكون قَوْلهمَا: كَثِيرَة، أولى من قَول من قَالَ:
غالبة، إِذا فسرناها بِأَكْثَرَ من النّصْف، وَهُوَ كَذَلِك.
إِذا علم ذَلِك؛ فَلَا يُطلق الْفَقِيه على مُحدث وَلَا
مُفَسّر وَلَا مُتَكَلم
(1/166)
وَلَا نحوي وَنَحْوهم، / قَالَه الشَّيْخ
الْمُوفق وَغَيره، وَهُوَ وَاضح
قَوْله: {فَخرج بالأدلة: علم الله وَرُسُله غير الْمُجْتَهد
فِيهِ} .
أردْت أَن أنبه هُنَا على بعض نكيتات فِي قيود حد ابْن
الْحَاجِب وَغَيره مِمَّا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن.
فَخرج بقوله: الْعلم بِالْأَحْكَامِ: الْعلم بالذوات
وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال.
قَالَ الْعلمَاء: (لَا بُد للْعلم من مَعْلُوم، وَذَلِكَ
الْمَعْلُوم إِن لم يكن مُحْتَاجا إِلَى مَحل يقوم بِهِ فَهُوَ
الْجَوْهَر كالجسم، وَإِن احْتَاجَ؛ فَإِن كَانَ سَببا بَين
الْأَفْعَال والذوات فَهُوَ الحكم، وَإِلَّا فَهُوَ الصّفة
كالحمرة والسواد) .
وَخرج بقوله: عَن أدلتها: علم الله [وَرُسُله] من
الْآدَمِيّين، فِيمَا لَيْسَ من اجتهادهم، فَإِنَّهُ لَيْسَ
عَن دَلِيل بل هُوَ [متلقى] عَن جِبْرَائِيل، وَمَا كَانَ من
اجتهادهم فَهُوَ عَن دَلِيل.
وَقد صرح بِهَذَا الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته، وَغَيره،
وَهُوَ وَاضح.
(1/167)
وَالصَّحِيح جَوَاز اجتهادهم ووقوعه
مِنْهُم، على مَا يَأْتِي بَيَانه فِي أَحْكَام الْمُجْتَهد.
وَخرج - أَيْضا - مَا علم من الدّين بِالضَّرُورَةِ، كإيجاب
الصَّلَوَات الْخمس وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج،
وَتَحْرِيم الزِّنَا والربا وَالسَّرِقَة وَنَحْوهَا؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْفِقْه، لكَونه مستخرجاً من دَلِيل
تفصيلي، وَالْعلم بِهَذِهِ الْأَشْيَاء لَا يُسمى فقهاً فِي
الِاصْطِلَاح، وَإِن سمي فروعاً بِالنِّسْبَةِ إِلَى أصُول
الدّين، كَمَا يُقَال فِي تَكْلِيف الْكَافِر بالفروع،
مُرَادهم بذلك الصَّلَاة وَنَحْوهَا.
{وَقيل: علم الله عَنْهَا} .
أَي: قيل: إِن علم الله عَن الْأَدِلَّة، ذكره ابْن مُفْلِح
فِي " أُصُوله "؛ لِأَن الْعلم بِالْعِلَّةِ وَهُوَ الدَّلِيل،
لَازم للْعلم بالمعلول وَهُوَ الحكم.
(1/168)
قَالَ الاصفهاني فِي " شرح الْمُخْتَصر ":
وَمَا قيل: (إِن علم الله بِالْأَحْكَامِ عَن الْأَدِلَّة
التفصيلية؛ لِأَن الْعلم بِالْعِلَّةِ مُسْتَلْزم للعلوم
بالمعلول، فَبَاطِل؛ لِأَن الْأَدِلَّة لَا تكون عِلّة
للْأَحْكَام، بل تكون إمارات) انْتهى. فَدلَّ أَنه قد قيل،
وَلِهَذَا رده. / {وَقيل: الاستدلالي} .
أَي: وَقيل: خرج علم الله وَرُسُله بالإستدلال لَا بالأدلة؛
لِأَن علمهمْ غير حَاصِل بالاستدلال؛ لِأَن علم الله ذاتي عَام
التَّعَلُّق بالأشياء مُخَالف لعلومنا الضرورية والنظرية،
وَعلم جِبْرَائِيل وَحي يتلَقَّى من الْبَارِي تَعَالَى، وَعلم
مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتلَقَّى من
جِبْرَائِيل، فَلَا حَاجَة فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَال.
{وَقيل: بالاستدلالي} . أَي: أَن علمهمْ استدلالي.
قَالَ بعض الْأُصُولِيِّينَ: (علمهمْ استدلالي؛ لِأَنَّهُ
يعلمُونَ الشَّيْء على حَقِيقَته، أَي: على مَا هُوَ بِهِ،
وحقائق الْأَحْكَام تَابِعَة لأدلتها وعللها، فَكَمَا يعلمُونَ
حَقِيقَة الحكم يعلمُونَ كَونه تَابعا لدليله وعلته،
وَأَنَّهَا كَذَا، فَكَمَا يعلم سُبْحَانَهُ تَحْرِيم الْخمر
يعلم أَن عِلّة التَّحْرِيم الْإِسْكَار مثلا، وكمل يعلم -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَهَارَة الهر يعلم أَن
علتها الطوف) .
ورده الطوفي ثمَّ قَالَ: (وَالتَّحْقِيق: أَن علم الله
تَعَالَى لَيْسَ عَن
(1/169)
اسْتِدْلَال، وَعلم رسله عَن اسْتِدْلَال،
غير أَن الِاسْتِدْلَال فِي علمهمْ بِالْأَحْكَامِ أظهر مِنْهُ
فِي غَيرهم، لقلَّة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من الْمُقدمَات) .
قَوْله {و [خرج] بالأدلة التفصيلية: الْأَدِلَّة الإجمالية،
كعلم الْخلاف} .
وَهُوَ مَا يسْتَعْمل فِي فن الْخلاف، نَحْو: ثَبت الحكم
بالمقتضى، وانتفى [بِوُجُود النَّافِي] ، فَإِن هَذِه قَوَاعِد
كُلية إجمالية تسْتَعْمل فِي غَالب الْأَحْكَام.
إِذْ يُقَال مثلا: وجود النِّيَّة فِي الطَّهَارَة حكم ثَبت
بالمقتضي، وَهُوَ تَمْيِيز الْعِبَادَة عَن الْعَادة.
وَيَقُول الْحَنَفِيّ: عدم وُجُوبهَا والاقتصار على مسنونيتها
حكم ثَبت بالمقتضي، وَهُوَ أَن الْوضُوء مِفْتَاح الصَّلَاة،
وَذَلِكَ مُتَحَقق بِدُونِ النِّيَّة.
(1/170)
وَيُقَال - أَيْضا -: سُقُوط الْقصاص عَن
الْمُسلم الْقَاتِل للذِّمِّيّ حكم ثَبت لوُجُود مقتضيه،
وَهُوَ شرف الْإِسْلَام وصيانته أَن يَجْعَل الْكَافِر كفوا
لَهُ.
وَيُقَال: قتل الْمُسلم بالذمي حكم انْتَفَى بِوُجُود نافيه،
وَهُوَ تحقق التَّفَاوُت بَينهمَا، أَو بِانْتِفَاء شَرطه،
وَهُوَ الْمُكَافَأَة.
وَيَقُول الْحَنَفِيّ: هُوَ حكم ثَبت بِوُجُود مقتضيه، /
وَهُوَ عصمَة الْإِسْلَام المستفادة من قَوْله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا أَدّوا الْجِزْيَة
فَلهم مَا لنا وَعَلَيْهِم مَا علينا ".
(1/171)
وغالب مسَائِل الْفُرُوع يُمكن إِثْبَاتهَا
بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْوهمَا، فَهِيَ أَدِلَّة
إجمالية بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل مَسْأَلَة.
وَاعْلَم أَن الْمَطْلُوب: إِمَّا إِثْبَات الحكم فَهُوَ
بِالدَّلِيلِ الْمُثبت، أَو نَفْيه فَهُوَ بِالدَّلِيلِ
النَّافِي، أَو بِانْتِفَاء الدَّلِيل الْمُثبت، أَو بِوُجُود
الْمَانِع، أَو بِانْتِفَاء الشَّرْط فَهَذِهِ أَربع قَوَاعِد
ضابطة لمجاري الْكَلَام على تعدد جريانها وَكَثْرَة مسائلها.
قَوْله: {والمقلد فِي الْأَصَح} .
اخْتلف الشُّرَّاح: بِمَا خرج الْمُقَلّد من حد الْفِقْه.
فَقيل - وَهُوَ الْأَصَح -: إِنَّه خرج بِقَيْد الْأَدِلَّة
التفصيلية؛ لِأَن مَعْرفَته لبَعض الْأَحْكَام لَيست على
دَلِيل أصلا لَا إجمالي وَلَا تفصيلي، فَلَا يكون علمه فقهاً
وَلَا هُوَ فَقِيه؛ لِأَن شَرط الْفَقِيه: أَن يكون علمه عَن
دَلِيل تفصيلي، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك.
وَقيل: خرج بِقَيْد الِاسْتِدْلَال؛ لِأَنَّهُ يعلم بعض
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَمَعَ ذَلِك لَا يُسمى علمه فقهاً؛
لِأَن عمله بهَا بِالْعقلِ الْمُجَرّد لَا عَن نظر واستدلال.
قَوْله: {فأصول الْفِقْه علما} .
(1/172)
مَا مضى من الْكَلَام كَانَ على معرفَة
أصُول الْفِقْه من حَيْثُ التَّفْصِيل، فتكلمنا على الأَصْل
لُغَة وَاصْطِلَاحا وعَلى الْفِقْه لُغَة وَاصْطِلَاحا،
وَذكرنَا فِي ضمن ذَلِك: من الْفَقِيه؟
وَالْكَلَام الْآن على أصُول الْفِقْه من حَيْثُ كَونهَا قد
صَارَت علما، أَي: لقباً على هَذَا الْعلم.
وَلَهُم فِي تَعْرِيفه عِبَارَات مُخْتَلفَة.
أَحدهَا مَا قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " والعسقلاني
شَارِح " الطوفي "، وَجمع كثير: هُوَ {الْقَوَاعِد الَّتِي
يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة
الفرعية} .
قَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (هِيَ أدلته الْكُلية
الَّتِي تفيده بِالنّظرِ على وَجه كلي) انْتهى.
فَجعلُوا أصُول الْفِقْه: هِيَ الْقَوَاعِد نَفسهَا، لَا
الْعلم بهَا.
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى وَأَصْحَابه: (أصُول الْفِقْه مَا
تبنى عَلَيْهِ مسَائِل الْفِقْه / وَتعلم أَحْكَامهَا بِهِ) .
قَالَ ابْن مُفْلِح - بعد كَلَام القَاضِي وَأَصْحَابه: فَهِيَ
الْقَوَاعِد ... إِلَى آخِره قَالَ -: (وَزِيَادَة " عَن " أَو
" من أدلتها التفصيلية " ضائع، لِأَن المُرَاد
(1/173)
بِالْأَحْكَامِ: " الْفِقْهِيَّة "، وَلَا
تكون إِلَّا كَذَلِك) .
إِذا علم ذَلِك؛ فالقواعد: جمع قَاعِدَة، وَهِي هُنَا: عبارَة
عَن صور كُلية تنطبق كل وَاحِدَة مِنْهَا على جزئياتها الَّتِي
تحتهَا، وَلذَلِك لم يحْتَج إِلَى تقييدها بِالْكُلِّيَّةِ،
لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا كَذَلِك، وَتقدم ذَلِك أَيْضا.
وَذَلِكَ كَقَوْلِنَا مثلا: حُقُوق العقد تتَعَلَّق بالموكل
دون الْوَكِيل.
وَقَوْلنَا: الْحِيَل فِي الشَّرْع بَاطِلَة.
فَكل وَاحِدَة من هَاتين القضيتين يعرف بِالنّظرِ فِيهَا قضايا
مُتعَدِّدَة كَقَوْلِنَا: عُهْدَة المُشْتَرِي على الْمُوكل،
وَلَو حلف لَا يفعل شَيْئا فَوكل فِي
(1/174)
فعله حنث، وَلَو وكل مُسلم ذِمِّيا فِي
شِرَاء خمر أَو خِنْزِير لم يَصح، لِأَن أَحْكَام العقد
تتَعَلَّق بالموكل.
وَقَوْلنَا: لَا يَصح نِكَاح الْمُحَلّل، وَلَا تَخْلِيل
الْخمر علاجاً، وَلَا بيع الْعينَة، وَلَا الْحِيلَة على
إبِْطَال الشُّفْعَة؛ لِأَن الْحِيَل بَاطِلَة.
وَهَكَذَا قَوْلنَا - وَهُوَ المُرَاد هُنَا -: الْأَمر
للْوُجُوب، وللفور، وَنَحْوه على مَا تقدم.
وَذَلِكَ كُله قَوَاعِد للمسائل الْفِقْهِيَّة.
وَقد صنف بعض متأخري أَصْحَابنَا وَغَيره قَوَاعِد فِي أصُول
(1/175)
الْفِقْه، وَبنى عَلَيْهَا مسَائِل فقهية.
والتوصل هُوَ: قصد الْوُصُول إِلَى الْمَطْلُوب بِوَاسِطَة،
فَهُوَ كالتوسل. وَاحْترز بالتوصيل بهَا إِلَى استنباط
الْأَحْكَام: عَن الْقَوَاعِد الَّتِي لَا يتَوَصَّل بهَا
إِلَى استنباط شَيْء، كقواعد الْبَيْت، أَو يستنبط مِنْهَا غير
الْأَحْكَام من الصَّنَائِع وَالْعلم بالهيئات وَالصِّفَات.
وَالْمرَاد بِالْأَحْكَامِ: الْأَحْكَام الْخَمْسَة وَمَا فِي
مَعْنَاهَا، فَلذَلِك وصفت بالشرعية؛ لِأَن تِلْكَ الْقَوَاعِد
هِيَ الْأَدِلَّة السمعية من الْكتاب وَالسّنة وَمَا يتَوَصَّل
بهما، وَالْأَحْكَام المستنبطة من الْأَدِلَّة السمعية لَا
تكون إِلَّا شَرْعِيَّة، من حَيْثُ أَن / وجودهَا إِنَّمَا عرف
من جِهَة الشَّرْع.
وَقيل: يحْتَرز بهَا عَن الاصطلاحية والعقلية، كقواعد علم
الْحساب والهندسة.
وَاحْترز بالفرعية: عَن الْأَحْكَام الَّتِي تكون من جنس
الْأُصُول، كمعرفة وجوب التَّوْحِيد من أمره تَعَالَى لنَبيه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَوْله تَعَالَى:
{فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} [مُحَمَّد: 19] ،
وَقيل: ككون الْإِجْمَاع دَلِيلا، وَالْقِيَاس حجَّة، وَمن
ثمَّ لَا حَاجَة إِلَى زِيَادَة مَا تقدم.
(1/176)
القَوْل الثَّانِي مَا قَالَه ابْن
الْحَاجِب والطوفي وَجمع: أَن أصُول الْفِقْه: (الْعلم
بالقواعد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة الفرعية عَن أدلتها التفصيلية) .
ورد: بِأَن أصُول الْفِقْه، الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
الفرعية، لَا الْعلم بهَا وَلَا مَعْرفَتهَا؛ إِذْ الْعلم
والمعرفة بأصول الْفِقْه غير أصُول الْفِقْه، فَلَا يكون
دَاخِلا فِي ماهيتها، وَمَا لَيْسَ دَاخِلا فِي الْمَاهِيّة
لَا يكون جِنْسا فِي حَده، كَمَا قُلْنَا فِي حد الْفِقْه،
وَلِأَن هَذَا الْحَد، وَهُوَ الْعلم بالقواعد بِعلم أصُول
الْفِقْه أشبه مِنْهُ بأصول الْفِقْه، لِأَن أصُول الْفِقْه
أدلته، وَالْعلم بالأدلة غير الْأَدِلَّة.
وَظهر من هَذَا أَن الأجود أَن يُقَال: أصُول الْفِقْه
الْقَوَاعِد ... إِلَى آخِره كَمَا قدمْنَاهُ.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (وَلَو كَانَ هُوَ معرفَة الْأَدِلَّة؛
لَكَانَ يلْزم من فقدان الْعَارِف بأصول الْفِقْه فقدان أصُول
الْفِقْه، وَلَيْسَ كَذَلِك) انْتهى.
(1/177)
قلت: هَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّا اخْتلف
فِيهَا الْعلمَاء، فَذهب القَاضِي أَبُو يعلى - من أَصْحَابنَا
- وَأَصْحَابه، وَالْقَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني، وَأَبُو
الْمَعَالِي، والرازي، والآمدي، وَابْن حمدَان، وَابْن
مُفْلِح، والإسنوي، وَابْن دَقِيق الْعِيد، وَغَيرهم، إِلَى
أَن أصُول الْفِقْه: الْقَوَاعِد، وَهُوَ أظهر.
(1/178)
وَذهب ابْن الْحَاجِب، والأرموي،
والبيضاوي، والطوفي، وَجمع، إِلَى أَن أصُول الْفِقْه: الْعلم
بالقواعد.
قَالُوا: كَمَا أَن الْفِقْه متفرع عَن أدلته، هُوَ متفرع عَن
الْعلم / بأدلته.
قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ ":
(هَذِه الْأَدِلَّة الْكُلية لَهَا حقائق فِي [أَنْفسهَا] من
حَيْثُ دلالتها وَتعلق الْعلم بهَا، فَهَل وضع أصُول الْفِقْه
لتِلْك الْحَقَائِق فِي [أَنْفسهَا] أَو [للْعلم] بهَا؟
[قَولَانِ] ، وَلكُل مِنْهُمَا وَجه، فَإِن الْفِقْه كَمَا
يتَوَقَّف على الْأَدِلَّة يتَوَقَّف على الْعلم بهَا.
(1/179)
قَالَ: وَقد يرجح مَا قَالَه
الْبَيْضَاوِيّ؛ بِأَن الْعلم بالأدلة [يُوصل إِلَى
الْمَدْلُول، والأدلة] لَا توصل إِلَى الْمَدْلُول إِلَّا
بِوَاسِطَة الْعلم بهَا؛ لِأَن الْفِقْه علم.
لَكِن أهل الْعرف يسمون الْمَعْلُوم أصولاً، ويسمون
الْمَعْلُوم فقهاً، وَتقول: هَذَا كتاب أصُول، وَكتاب فقه،
وَالْأولَى: جعل الْأُصُول [للأدلة] ، وَالْفِقْه للْعلم؛
لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الِاسْتِعْمَال اللّغَوِيّ) انْتهى.
قلت: وَهَذَا التَّعْرِيف قَالَه جمع من الْعلمَاء، وَهُوَ أَن
الْفِقْه: الْعلم بِالْأَحْكَامِ، وأصول الْفِقْه:
الْقَوَاعِد، لَا الْعلم بهَا، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ،
وَالله أعلم.
القَوْل الثَّالِث قَالَه الأرموي، والبيضاوي، وَغَيرهمَا،
وَهُوَ قَوْلنَا: {وَقيل: معرفَة [دَلَائِل الْفِقْه]
إِجْمَالا، وَكَيْفِيَّة الاستفادة مِنْهَا، وَحَال المستفيد}
.
وكل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة وَهِي: معرفَة الْأَدِلَّة،
وَمَعْرِفَة كَيْفيَّة الاستفادة، وَمَعْرِفَة حَال المستفيد،
من أصُول الْفِقْه.
(1/180)
فأصول الْفِقْه عِنْد هَؤُلَاءِ: معرفَة
هَذِه الثَّلَاثَة.
فمعرفة دلائله إِجْمَالا، وَاضح، ويحترز بِهِ عَن ثَلَاثَة
أَشْيَاء أَحدهَا: عَن غير الْأَدِلَّة، كمعرفة الْفِقْه
وَنَحْوه.
وَالثَّانِي: عَن معرفَة أَدِلَّة غير الْفِقْه، كأدلة
النَّحْو وَالْكَلَام.
وَالثَّالِث: عَن معرفَة بعض أَدِلَّة الْفِقْه، كباب وَاحِد
من أصُول الْفِقْه، فَإِنَّهُ جُزْء من أصُول الْفِقْه، فَلَا
يكون أصُول الْفِقْه، وَلَا يُسمى الْعَارِف بِهِ أصولياً؛
لِأَن بعض الشَّيْء لَا يكون نفس الشَّيْء.
لَكِن جمع فِي " الْمِنْهَاج " وَغَيره، الدَّلِيل على
دَلَائِل، وَهَذَا لَا يعرف.
قَالَ ابْن مَالك فِي " شرح الكافية ": (لم يَأْتِ " فعائل "
جمعا لاسم جنس على وزن " فعيل " - فِيمَا أعلم - لكنه
بِمُقْتَضى الْقيَاس جَائِز / فِي الْعلم الْمُؤَنَّث، ك "
سعائد " جمع " سعيد " اسْم امْرَأَة) .
وَقَوْلهمْ: (وَكَيْفِيَّة الاستفادة مِنْهَا) مجرور بالْعَطْف
على دَلَائِل.
أَي: معرفَة دَلَائِل الْفِقْه، وَمَعْرِفَة كَيْفيَّة
الاستفادة من تِلْكَ الدَّلَائِل،
(1/181)
أَي: استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
مِنْهَا، وَذَلِكَ يرجع إِلَى معرفَة شَرَائِط الِاسْتِدْلَال،
كتقديم النَّص على الظَّاهِر، والمتواتر على الْآحَاد، وَنَحْو
مِمَّا سَيَأْتِي فِي التعادل وَالتَّرْجِيح، فَلَا بُد من
معرفَة تعَارض الْأَدِلَّة، وَمَعْرِفَة الْأَسْبَاب الَّتِي
يرجح بهَا بعض الْأَدِلَّة على بعض، وَإِنَّمَا جعل ذَلِك من
أصُول الْفِقْه؛ لِأَن الْمَقْصُود من معرفَة أَدِلَّة
الْفِقْه: استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا، وَلَا يُمكن الاستنباط
مِنْهَا إِلَّا بعد معرفَة التَّعَارُض وَالتَّرْجِيح؛ لِأَن
دَلَائِل الْفِقْه مفيدة للظن غَالِبا، والمظنونات قَابِلَة
للتعارض محتاجه إِلَى التَّرْجِيح، فَصَارَ معرفَة ذَلِك من
أصُول الْفِقْه، قَالَه الْإِسْنَوِيّ.
وَقَوله: (وَحَال المستفيد) مجرور أَيْضا بالْعَطْف على
دَلَائِل، أَي: وَمَعْرِفَة حَال المستفيد، وَهُوَ طَالب حكم
الله تَعَالَى.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (فَيدْخل الْمُجْتَهد والمقلد - كَمَا
قَالَ فِي " الْحَاصِل " - لِأَن الْمُجْتَهد يَسْتَفِيد
الْأَحْكَام من الْأَدِلَّة، والمقلد يستفيدها من الْمُجْتَهد.
وَإِنَّمَا كَانَ معرفَة تِلْكَ الشُّرُوط من أصُول الْفِقْه؛
لأَنا بَينا أَن الْأَدِلَّة قد تكون ظنية، وَلَيْسَ بَين
الظني ومدلوله ارتباط عَقْلِي، لجَوَاز عدم دلَالَته عَلَيْهِ،
فاحتيج إِلَى رابط وَهُوَ الِاجْتِهَاد.
(1/182)
فتلخص أَن معرفَة كل وَاحِد من هَذِه
الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة من أصُول الْفِقْه) .
وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: (المُرَاد بالمستفيد:
الْمُجْتَهد؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَسْتَفِيد الْأَحْكَام من
أدلتها، [وَلَا يدْخل الْمُقَلّد؛ لِأَن الْفِقْه / لَيْسَ
مَوْقُوفا على التَّقْلِيد بِوَجْه أصلا، فَلَا] يجوز أَن يكون
جُزْءا من أصُول الْفِقْه، بِخِلَاف الِاجْتِهَاد؛ فَإِن
الْفِقْه مَوْقُوف عَلَيْهِ، نعم إِذا عرف الْمُجْتَهد عرف أَن
مَا سواهُ مقلد) انْتهى.
وَهُوَ أقعد من الَّذِي قبله.
القَوْل الرَّابِع قَالَه الرَّازِيّ وَمن تبعه: أَن أصُول
الْفِقْه لقباً: (مَجْمُوع طرق الْفِقْه إِجْمَالا،
وَكَيْفِيَّة الاستفادة مِنْهَا، وَحَال المستفيد) .
وَهُوَ أولى من [غَيره] لأوجه:
أَحدهَا: أَنه قَالَ: مَجْمُوع طرق الْفِقْه، وَلم يقل: معرفَة
ذَلِك، وَقد تقدم أَن الْأَصَح أَن أصُول الْفِقْه:
الْأَدِلَّة، لَا مَعْرفَتهَا.
(1/183)
الثَّانِي: أَن ذَلِك يَشْمَل الْقطعِي
والظني، وَأما معرفَة الْأَدِلَّة فَلَا تَشْمَل إِلَّا الظني،
إِلَّا على رَأْي يَأْتِي.
الثَّالِث: أَنه يَشْمَل كَيْفيَّة الإستفادة، وَحَال
المستفيد، فَهُوَ أجمع من الْحَد الأول.
وَالْمرَاد بطرق الْفِقْه: أدلته، فَهِيَ موصلة إِلَيْهِ،
وجمعت طرق لتنوع الْأَدِلَّة، ولإفادة أَن أصُول الْفِقْه
أَنْوَاع يصدق على كل نوع مِنْهَا أَنه أصُول الْفِقْه؛ لِأَن
طرق الْفِقْه إِذا كَانَت أنواعاً، وكل نوع مِنْهَا أصُول فقه،
كَانَ كل من الْأُمُور الثَّلَاثَة كَذَلِك، فَكل من علم
الطّرق، وَعلم الاستفادة، وَعلم حَال المستفيد، تَحْتَهُ
أَنْوَاع.
إِذا علم ذَلِك، فانقسام أصُول الْفِقْه إِلَى كل أَنْوَاعه من
قسْمَة الْكُلِّي إِلَى جزئياته، لَا من قسْمَة الْكل إِلَى
أَجْزَائِهِ، وَلِهَذَا لم يصر علما بالغلبة إِلَّا جمعا
مُلَاحظَة لهَذَا الْمَعْنى، فَتَأَمّله فَإِنَّهُ نَفِيس،
قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {والأصولي: من عرفهَا} .
هَذَا تَعْرِيف الأصولي من هُوَ؟ وَهُوَ نِسْبَة إِلَى
الْأُصُول، وَهُوَ من قَامَ بِهِ
(1/184)
الْأُصُول، وَقيام الْأُصُول بِهِ
مَعْنَاهُ: مَعْرفَته إِيَّاه، وَهُوَ الْجمع، لِأَنَّهُ
مُسَمّى بِهِ كالأنصاري وَنَحْوه، وَلَو لم يسم بِهِ لم تجز
النِّسْبَة إِلَّا إِلَى الْمُفْرد / فَيُقَال: أُصَلِّي.
إِذا علم ذَلِك؛ ونسبناه إِلَيْهَا، فَلَا بُد أَن يكون قد
عرفهَا وحررها وأتقنها، فبذلك يُسمى أصولياً، كَمَا أَن من
أتقن الْفِقْه وحرره يُسمى فَقِيها، وَمن أتقن الطِّبّ يُسمى
طَبِيبا، وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ وَاضح.
قَوْله: {وغايتها: معرفَة أَحْكَام الله تَعَالَى وَالْعَمَل
بهَا} .
قد تقدم أَنه لابد لكل من طلب علما أَن يتصوره بِوَجْه مَا،
وَيعرف غَايَته، وَمَا يستمد مِنْهُ، فَذَكرنَا تصور أصُول
الْفِقْه قبل، وَهُوَ مَا ذكر من حَده مُضَافا ومضافاً
إِلَيْهِ، وَحَال كَونه مركبا لقباً.
وَأما معرفَة غَايَة أصُول الْفِقْه فَهُوَ فَائِدَته، وَهُوَ
التَّوَصُّل إِلَى استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، أَو
معرفَة كَيفَ استنبطت إِذا تعذر إِمْكَان الاستنباط
وَالِاجْتِهَاد، وليستند الْعلم إِلَى اصله، وَذَلِكَ موصل
إِلَى الْعَمَل، وَالْعَمَل موصل إِلَى خيري الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة.
(1/185)
قَوْله: {فَيجب [تَقْدِيم] مَعْرفَتهَا
[على الْفُرُوع] عِنْد ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا [وَجمع] }
.
مِنْهُم: القَاضِي عبد الْجَبَّار المعتزلي، وَغَيرهم،
ليتَمَكَّن بهَا من معرفَة الْفُرُوع.
قَوْله: {وَهُوَ ظَاهر كَلَام أبي بكر، وَابْن أبي
(1/186)
مُوسَى، وَأبي الْبَقَاء} .
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتى " لما ذكر هَذَا القَوْل:
(وَلِهَذَا ذكره القَاضِي، وَابْن أبي مُوسَى، وَابْن
الْبَنَّا، وَأَبُو بكر عبد الْعَزِيز، فِي أَوَائِل كتبهمْ
الفروعية) .
قَالَ أَبُو الْبَقَاء العكبري: (أبلغ مَا توصل بِهِ إِلَى
إحكام الْأَحْكَام إتقان أصُول الْفِقْه وطرف من أصُول الدّين)
انْتهى.
(1/187)
قَوْله: {وَعكس القَاضِي، وَابْن حمدَان،
وَجمع} . فَذَهَبُوا إِلَى تَقْدِيم الْفُرُوع؛ ليتَمَكَّن
الأصولي بهَا، ولتحصل لَهُ الدربة والملكة.
قلت: الَّذِي يظْهر أَنه لَا بُد للأصولي من معرفَة بعض
الْفِقْه، وَلَا يُمكن معرفَة الْفِقْه على الْحَقِيقَة إِلَّا
بِمَعْرِِفَة الْأُصُول.
قَوْله: {وَحكى ابْن حمدَان، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، /
وَابْن قَاضِي الْجَبَل، الْخلاف فِي الْأَوْلَوِيَّة،
[وَهُوَ] أولى، أَو يحمل الأول عَلَيْهِ} .
اخْتلف الْأَصْحَاب فِي مَحل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة:
هَل هُوَ الْوُجُوب، أَو الْأَوْلَوِيَّة؟
فَفِي " مسودة بني تَيْمِية "، وَقَالَهُ ابْن حمدَان فِي "
رعايته "، وَابْن قَاضِي الْجَبَل: (أَن الْخلاف فِي
الْأَوْلَوِيَّة لَا فِي الْوُجُوب) ، وَهُوَ أظهر؛ لِأَن
غَالب طلبة الْعلم من أَرْبَاب الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، لم نر
أحدا مِنْهُم، وَلَا سمعنَا انه اشْتغل أَولا إِلَّا فِي
الْفِقْه من غير نَكِير من الْعلمَاء، ثمَّ يشتغلون بعد ذَلِك
فِي الْأُصُول وَفِي غَيرهَا.
قَالَ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي "، وَابْن مُفْلِح
فِي " أُصُوله " وَغَيرهمَا: (إِن مَحل الْخلاف فِي الْوُجُوب)
، ونقلوا ذَلِك عَمَّن اخْتَارَهُ قبل.
(1/188)
فَإِن أبقينا الْوُجُوب على ظَاهره،
فَالْقَوْل بالأولوية أقوى وَأظْهر، وَإِن حملنَا كَلَامهم فِي
الْوُجُوب على الْأَوْلَوِيَّة ارْتَفع الْخلاف، وَيصِح حمله
على ذَلِك على مَا يَأْتِي، وَإِن كَانَ ظَاهره خلاف ذَلِك،
وَإِنَّمَا أولنا ذَلِك ليُوَافق عمل النَّاس قَدِيما وحديثاً،
وَالله أعلم.
قَوْله: {ومعرفتها فرض كِفَايَة} .
يَعْنِي: معرفَة أصُول الْفِقْه، وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ
أَكثر الْأَصْحَاب.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": (وَالْمذهب أَنه فرض كِفَايَة
كالفقه) . {وَقيل: فرض عين} .
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": (وَقد ذكر ابْن عقيل: أَنه
فرض عين،
(1/189)
وَقَالَ العالمي الْحَنَفِيّ: هُوَ فرض عين
على من أَرَادَ الِاجْتِهَاد وَالْفَتْوَى وَالْقَضَاء، فرض
كِفَايَة على غَيرهم، وَهُوَ أولى إِن شَاءَ الله تَعَالَى)
انْتهى.
وَاخْتَارَهُ أَيْضا ابْن الصقال من أَصْحَابنَا، وَالشَّيْخ
تَقِيّ الدّين.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما حكى هَذَا القَوْل:
(وَالْمرَاد للِاجْتِهَاد، وَهِي لفظية) .
وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِن من أَرَادَ الِاجْتِهَاد لابد من
معرفَة أصُول الْفِقْه، على مَا يَأْتِي فِي شُرُوط
الِاجْتِهَاد، فَالْخِلَاف لَفْظِي.
قَوْله: {وتستمد من أصُول الدّين - فَلهَذَا أذكر مِنْهَا بعض
الْمُتَعَلّق بهَا - والعربية، وتصور / الْأَحْكَام} .
(1/190)
يَعْنِي: تستمد أصُول الْفِقْه من ثَلَاثَة
أَشْيَاء، وَوجه الْحصْر الاستقراء، وَأَيْضًا؛ فالتوقف إِمَّا
أَن يكون من جِهَة ثُبُوت حجية [الْأَدِلَّة] فَهُوَ أصُول
الدّين، وَإِمَّا أَن يكون التَّوَقُّف من جِهَة دلَالَة
الْأَلْفَاظ على الْأَحْكَام فَهُوَ الْعَرَبيَّة بأنواعها،
وَإِمَّا أَن يتَوَقَّف من جِهَة تصور مَا يدل بهَا عَلَيْهِ
فَهُوَ الْأَحْكَام.
فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَشْيَاء تستمد مِنْهَا أصُول الْفِقْه.
أَحدهَا: استمداده من أصُول الدّين؛ وَذَلِكَ لتوقف معرفَة
كَون الْأَدِلَّة الْكُلية حجَّة شرعا على معرفَة الله
تَعَالَى بصفاته، وَصدق رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنهُ، ويتوقف صدقه على
دلَالَة المعجزة.
وَلِهَذَا ذكرت فِي هَذَا الْمُخْتَصر من أصُول الدّين بعض
الْمُتَعَلّق بأصول الْفِقْه، كل مَسْأَلَة فِي مَكَانهَا
الْمُتَعَلّق بهَا، وَقد ذكره الأصوليون ضمنا، لأجل
التَّعَلُّق الْمَذْكُور.
الثَّانِي: استمداده من الْعَرَبيَّة؛ وَذَلِكَ [لتوقف] فهم
مَا يتَعَلَّق بهَا من الْكتاب وَالسّنة وَغَيرهمَا عَلَيْهَا.
(1/191)
فَإِن كَانَ من حَيْثُ الْمَدْلُول: فَهُوَ
علم اللُّغَة، أَو من أَحْكَام تركيبها: فَعلم النَّحْو، أَو
من أَحْكَام أفرادها: فَعلم التصريف، أَو من جِهَة مطابقته
لمقْتَضى الْحَال وسلامته من التعقيد ووجوه الْحسن: فَعلم
الْبَيَان بأنواعه الثَّلَاثَة.
الثَّالِث: استمداده من تصور الْأَحْكَام.
أَعنِي: تصور أَحْكَام التَّكْلِيف؛ فَإِنَّهُ لابد من تصورها
ليتَمَكَّن من إِثْبَاتهَا ونفيها، ولتوقف معرفَة كَيْفيَّة
الاستنباط عَلَيْهِ، وَالْحكم على الشَّيْء فرع تصَوره، دون
إِثْبَات الْأَحْكَام فِي آحَاد الْمسَائِل، فَإِن ذَلِك من
الْفِقْه، وَهُوَ يتَوَقَّف على الْأُصُول، فيدور.
(1/192)
قَوْله: {فصل}
{الدَّال: الناصب للدليل، / قَالَه الإِمَام أَحْمد} .
فَقَالَ: (الدَّال الله، وَالدَّلِيل الْقُرْآن) .
{و} قَالَه {أَبُو الْخطاب} فِي " التَّمْهِيد "، فَقَالَ:
(الدَّال الناصب للدليل، وَهُوَ صَاحب الشَّرْع، وَلِأَن كل من
نصب الدَّلِيل يُسمى دَالا) .
{و} قَالَه أَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ} فِي " اللمع "
فَقَالَ: (الدَّلِيل المرشد إِلَى الْمَطْلُوب، وَأما الدَّال
فَهُوَ الناصب للدليل، وَهُوَ الله عز وَجل) .
{و} قَالَه {صَاحب رَوْضَة فقهنا} فَقَالَ: (الدَّال هُوَ
الناصب للدليل) . فَجعلُوا الدَّال غير الدَّلِيل.
(1/193)
قَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي فِي
مُقَدّمَة إِيضَاح الْفِقْه: (وَقيل: الدَّلِيل هُوَ الله؛
لِأَنَّهُ هُوَ الناصب للأدلة والمظهر لَهَا، وَالدَّال: هُوَ
الناصب للدليل) انْتهى.
{وَقَالَ كثير: الدَّلِيل} .
أَي: قَالَ كثير من الْعلمَاء: إِن الدَّال هُوَ الدَّلِيل،
وَعَلِيهِ أَكثر الْمُتَأَخِّرين، " فعيل " بِمَعْنى " فَاعل "
كعليم وعالم وَسميع وسامع وَنَحْوهمَا، فالدليل بِمَعْنى
الدَّال فهما بِمَعْنى وَاحِد، من دلّ دلَالَة، بِفَتْح
الدَّال على الْأَفْصَح، وبكسرها.
وَقيل: بِالْفَتْح فِي الْأَعْيَان، وبالكسر فِي الْمعَانِي.
تَقول: دلّ على الطَّرِيق دلَالَة، وَدلّ الدَّلِيل على الحكم
دلَالَة.
وَمعنى الدّلَالَة: الْإِرْشَاد إِلَى الشَّيْء.
{وَالدَّلِيل لُغَة} : إِمَّا {المرشد} حَقِيقَة، {و} إِمَّا
{مَا بِهِ الْإِرْشَاد} .
(1/194)
وَقد قسم الْآمِدِيّ وَمن تبعه الدَّلِيل
إِلَى قسمَيْنِ.
أَحدهمَا: المرشد، وَالثَّانِي: مَا بِهِ الْإِرْشَاد.
والمرشد: هُوَ الناصب للعلامة والذاكر لَهَا.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين بعد أَن ذكر كَلَام الْآمِدِيّ:
(وَلَا يبعد أَن يَجْعَل للمرشد " مَا بِهِ الْإِرْشَاد "
أَيْضا، وللمعاني الثَّلَاثَة، فَإِن " مَا بِهِ الْإِرْشَاد "
يُقَال لَهُ: المرشد، مجَازًا فَيُقَال: الدَّلِيل على
الصَّانِع: هُوَ الصَّانِع، أَو الْعَالم) .
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (الدَّلِيل المرشد، وَمَا بِهِ
الْإِرْشَاد، والمرشد: هُوَ الناصب للعلامة أَو الذاكر لَهَا،
وَمَا بِهِ الْإِرْشَاد: الْعَلامَة / الَّتِي نصبت للتعريف.
قَالَ: وَيُمكن أَن يكون " مَا بِهِ الْإِرْشَاد " فِي كَلَام
ابْن الْحَاجِب مَعْطُوفًا على الذاكر، لِأَن المرشد كَمَا
يُطلق على الناصب للعلامة، يُطلق على الْعَلامَة
(1/195)
المنصوبة، إِذْ الْفِعْل قد ينْسب إِلَى
الْآلَة - كَمَا يُقَال: السكين قَاطع) انْتهى.
وَالْمَقْصُود أَن المرشد: إِمَّا الناصب، أَو الَّذِي بِهِ
الْإِرْشَاد من العلامات مثلا، وَإِمَّا الذاكر لذَلِك.
فَفِيمَا نَحن فِيهِ: الناصب: هُوَ الله، والذاكر: هُوَ
الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا بِهِ
الْإِرْشَاد، هُوَ كتاب الله وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا نَشأ عَنْهُمَا من الْإِجْمَاع
وَالْقِيَاس وَغَيرهمَا.
تَنْبِيه: لما كَانَ أصُول الْفِقْه مستمداً من الْمَوَاضِع
الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّمَة، وَكَانَ مبادئه مِنْهَا، شرعنا
فِي ذكرهَا، وَهُوَ مِمَّا لَهُ تعلق بأصول الدّين وَمِنْه
الدَّلِيل، وَهَذِه هِيَ مبادئ أصُول الدّين.
ورده الْأَصْفَهَانِي وَقَالَ: (وَالْأولَى أَن يُقَال: لما
ذكر ابْن الْحَاجِب فِي حدي أصُول الْفِقْه الدَّلِيل، وَلم
يسْبق شَيْء يعرف مِنْهُ الدَّلِيل، أَرَادَ أَن يُشِير إِلَى
مَعْنَاهُ) انْتهى.
قلت: الأول أولى.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعة ": (قيل: يجب تَقْدِيم
الْعلم؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُود من الْكل.
وَقيل: بل الْحَد؛ لِأَن بِهِ يعرف الْمَحْدُود وَغَيره.
وَقيل: بل النّظر؛ لتوقفهما عَلَيْهِ.
وَقيل: بل الْعقل؛ لتوقف الثَّلَاثَة عَلَيْهِ.
وَقيل: بأيها بَدَأَ جَازَ؛ لتَعلق بَعْضهَا بِبَعْض.
(1/196)
وَالدَّلِيل يقف على الْعقل وَالْحَد
وَالنَّظَر، وَيقف عَلَيْهِ الْمَطْلُوب بِهِ وَهُوَ النتيجة)
انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا} .
أَي: الدَّلِيل عِنْد عُلَمَاء الشَّرِيعَة: {مَا يُمكن
التَّوَصُّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ إِلَى مَطْلُوب خبري، عِنْد
أَصْحَابنَا، وَغَيرهم} ، مِنْهُم: أَكثر الْفُقَهَاء
والأصوليين.
وَإِنَّمَا قَالُوا: مَا يُمكن، وَلم يَقُولُوا: مَا
يتَوَصَّل، للْإِشَارَة إِلَى أَن الْمُعْتَبر التَّوَصُّل
بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ؛ لِأَن الدَّلِيل قد لَا ينظر
فِيهِ / وَهُوَ دَلِيل.
وَخرج بقوله: (مَا يُمكن) ، مَا لَا يُمكن التَّوَصُّل بِهِ
إِلَى الْمَطْلُوب، كالمطلوب نَفسه؛ فَإِنَّهُ لَا يُمكن
التَّوَصُّل بِهِ إِلَيْهِ، أَو يُمكن التَّوَصُّل إِلَى
الْمَطْلُوب لَكِن لَا بِالنّظرِ كسلوك طَرِيق يُمكن أَن
يتَوَصَّل بهَا اتِّفَاقًا، أَو يُمكن لَا بِصَحِيح النّظر بل
بفاسده ككاذب الْمَادَّة فِي اعْتِقَاد النَّاظر، أَو
(1/197)
يُمكن التَّوَصُّل بصحيحه لَكِن لمطلوب
تصوري - لَا تصديقي خبري - وَهُوَ الْحَد والرسم، فَلَا يُسمى
شَيْء من ذَلِك دَلِيلا، لَكِن يدْخل فِيهِ مَا يُفِيد الْقطع
وَالظَّن، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا وَأكْثر الْفُقَهَاء
والأصوليين كَمَا تقدم؛ لِأَن مطلوبهم عمل، وَهُوَ لَا
يتَوَقَّف على الْيَقِين.
{وَقيل - وَجزم بِهِ} ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح " -: إِلَى
الْعلم بِهِ} .
أَي: مَا يُفِيد الظَّن لَا يُسمى دَلِيلا بل إِمَارَة، فَلَا
يُسمى دَلِيلا إِلَّا مَا يُفِيد الْعلم، وَهُوَ اصْطِلَاح
الْمُتَكَلِّمين، وَنَقله الْآمِدِيّ عَن الْأُصُولِيِّينَ،
لِأَن مطلوبهم يَقِين، فيزاد فِي الْحَد: إِلَى الْعلم
بالمطلوب.
فَيُقَال: مَا يُمكن التَّوَصُّل بِصَحِيح النّظر إِلَى الْعلم
بالمطلوب الخبري.
(1/198)
وَخرج من التَّعْرِيف بذلك: الدَّلِيل بعد
تَمَامه مُرَتبا صَحِيح الْمَادَّة وَالصُّورَة كَمَا تقدم،
فَإِنَّهُ قد حصل بِهِ الْمَطْلُوب، أَي: فَلَا يحصل مَا هُوَ
حَاصِل، وَلَا يُسمى دَلِيلا، وَلَا يتَوَصَّل بِهِ.
وَيدخل فِيهِ - أَيْضا -: مَا فسد فِيهِ الدَّلِيل لفساد
صورته، لَكِن مادته صَحِيحَة.
{وَقيل: قَولَانِ فَصَاعِدا عَنهُ قَول آخر} .
قَالَت المناطقة: الدَّلِيل تصديقان فَصَاعِدا يكون عَنهُ
تَصْدِيق آخر، فَالْمُرَاد بالتصديقين الْقَوْلَانِ.
(1/199)
وَقَوله: فَصَاعِدا؛ مَبْنِيّ على جَوَاز
الْقيَاس الْمركب، وَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ أَكثر من مقدمتين،
وعَلى ذَلِك جرى ابْن ابْن الْحَاجِب وَجمع.
وَأما من يرى أَن ذَلِك قياسان لَا قِيَاس وَاحِد لَا يحْتَاج
أَن يَقُول: فَصَاعِدا، بل يَقُول: تصديقان عَنْهُمَا تَصْدِيق
ثَالِث.
لَكِن لابد على الْقَوْلَيْنِ أَن يكون على وَجه ينْتج الحكم
الْمَطْلُوب؛ بِأَن يكون على القانون الْمُبين فِي الْمنطق
المبرهن / على صِحَّته، أَفَادَ الْقطع أَو الظَّن.
{وَقيل: يسْتَلْزم لنَفسِهِ} يَعْنِي: يسْتَلْزم قولا آخر
لنَفسِهِ، أَعم من أَن يكون الاستلزام بَينا أَو غَيره،
فَيتَنَاوَل الأشكال الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا.
وَيخرج بقوله: يسْتَلْزم لنَفسِهِ: الأمارة؛ فَإِنَّهَا لَا
تَسْتَلْزِم لنَفسهَا قولا أخر؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَين الأمارة
وَمَا تفيده ربط عَقْلِي يَقْتَضِي لُزُوم القَوْل الآخر
عَنْهَا.
(1/200)
وَيخرج قِيَاس الْمُسَاوَاة، نَحْو: " أ "
مساوٍ ل " ب " و " ب " مسَاوٍ ل " ج " فَيلْزم " أ " مسَاوٍ ل
" ج "، وَلَكِن لَا لنَفسِهِ بل بِوَاسِطَة مُقَدّمَة
أَجْنَبِيَّة، أَي: مُقَدّمَة غير لَازِمَة لإحدى مقدمتي
الْقيَاس، وَهُوَ قَوْلنَا: كل مَا هُوَ مسَاوٍ ل " ب " مسَاوٍ
ل " ج ".
{وَقيل: المُرَاد بالْقَوْل: تصور الْمَعْنى} .
يَعْنِي بالْقَوْل الَّذِي فِي قَوْله: قَولَانِ فَصَاعِدا
عَنهُ قَول آخر، قَالَ الْأَصْبَهَانِيّ فِي " شَرحه " - بعد
مَا شرح مَا تقدم وَقيل يسْتَلْزم لنَفسِهِ فَتخرج الأمارة -:
(وَقَول من قَالَ: إِن ذكر خُصُوصِيَّة القَوْل [ملغى] ؛ إِذْ
استحضار الْمَعْنى على وَجه يكون ملزوماً - وَلَو لم يتخيل
القَوْل، وَلم يتَلَفَّظ بِهِ - يكون دَلِيلا، إِلَّا إِذا
كَانَ فِي الِاصْطِلَاح مَخْصُوصًا بالْقَوْل، وَحِينَئِذٍ يجب
تَخْصِيص " مَا " فِي قَوْله " مَا يُمكن " أَيْضا بالْقَوْل
فِيهِ مَا فِيهِ، لجَوَاز أَن يصطلح قوم على تَخْصِيص
الدَّلِيل بالْقَوْل وَقوم على عدم [اخْتِصَاصه] بِهِ) انْتهى.
فَائِدَة: على القَوْل الأول للمناطقة سَوَاء قَالُوا:
قَولَانِ فَصَاعِدا، أَو قَولَانِ فَقَط، يسمون ذَلِك قِيَاسا،
أَفَادَ الْقطع أَو الظَّن وَالْقِيَاس نَوْعَانِ: اقتراني،
واستثنائي.
(1/201)
فالاقتراني مَا كَانَت [مقدمتاه] خبريتين،
نَحْو: (الْعَالم متغير، وكل متغير حَادث) ، ينْتج (الْعَالم
حَادث) ؛ لِأَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فِي الْمُقدمَة الأولى -
وَهُوَ الْمُسَمّى بالموضوع - قد اندرج فِي الْمَحْكُوم بِهِ
فِيهَا - وَهُوَ الْمُسَمّى الْمَحْمُول - وَهَذَا الْمَحْمُول
مندرج تَحت مَحْمُول الثَّانِيَة؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوع لَهُ،
فَلَزِمَ اندراج مَوْضُوع الأولى: تَحت مَحْمُول الثَّانِيَة،
وَسقط الْوسط المكرر. وَيُسمى مَوْضُوع الأول الْحَد
الْأَصْغَر، ومحمول الثَّانِيَة: الْحَد الْأَكْبَر، وَالْوسط
المكرر: الْحَد [الْأَوْسَط] .
وَتسَمى ذَات الْأَصْغَر: الصُّغْرَى، وَذَات الْأَكْبَر:
الْكُبْرَى.
وَهَذَا هُوَ الشكل الأول الَّذِي هُوَ عِنْدهم ضَرُورِيّ
الإنتاج بِشَرْطِهِ.
فَأَما إِذا كَانَ الْحَد المكرر مَوْضُوعا فِي الصُّغْرَى،
مَحْمُولا فِي الْكُبْرَى، - عكس مَا سبق - فَهُوَ الشكل
الرَّابِع، نَحْو: " أ " " ب " وكل [" ب " " أ "] أَو كَانَ
مَحْمُولا فِي المقدمتين، فَهُوَ الشكل الثَّانِي، نَحْو: كل "
أ " " ب " وكل " ج "
(1/202)
" ب "، أَو كَانَ مَوْضُوعا فِي المقدمتين،
فَهُوَ الشكل الثَّالِث، نَحْو: كل " ب " " أ " وكل " ب " " ج
".
وَلَا ينْتج شَيْء من هَذِه الثَّلَاثَة إِلَّا بعد الرَّد
إِلَى الأول الْمَلْزُوم غَالِبا على الْوَجْه الْمُبين فِي
الْفَنّ.
وَأما الاستثنائي فَهُوَ مَا كَانَ بِشَرْط أَو تَقْسِيم،
فَالْأول يُسمى الْمُتَّصِل نَحْو: إِن كَانَ هَذَا إنْسَانا
فَهُوَ حَيَوَان، وَيُسمى الشَّرْط مقدما وَالْجَزَاء تالياً،
ثمَّ يسْتَثْنى ب " لَكِن " فَيُقَال: لكنه لَيْسَ بحيوان
فَلَيْسَ إنْسَانا، أَو لكنه إِنْسَان فَهُوَ حَيَوَان، فَيحصل
الإنتاج باستثناء نقيض التَّالِي فينتج نقيض الْمُقدم،
وباستثناء عين الْمُقدم فينتج عين التَّالِي كَمَا مثلناه.
[لِأَنَّهُ يلْزم] من ثُبُوت الملوزم ثُبُوت اللَّازِم، وَمن
انْتِفَاء اللَّازِم انْتِفَاء الْمَلْزُوم غَالِبا، أما
اسْتثِْنَاء عين التَّالِي أَو نقيض عين الْمُقدم فَلَا
ينتجان؛ لجَوَاز أَن يكون اللَّازِم أَعم من الْمَلْزُوم، أما
إِذا اسْتَوَى الْمُقدم والتالي فِي التلازم فينتج فِي
الْأَرْبَعَة، نَحْو: لَو كَانَ بشرا لَكَانَ إنْسَانا.
وَالثَّانِي يُسمى الْمُنْفَصِل نَحْو: الْعدَد إِمَّا زوج أَو
فَرد لكنه زوج فَلَيْسَ بفرد، أَو فَرد فَلَيْسَ بِزَوْج، أَو
لكنه لَيْسَ بِزَوْج فَهُوَ فَرد، أَو لَيْسَ بفرد فَهُوَ زوج.
وَهَذَا مُبين فِي مَوْضِعه، وَإِنَّمَا ذكرته أنموذجاً، وَمن
أَرَادَ بَسطه فليطلبه فِي مظانه.
(1/203)
تَنْبِيهَانِ:
أَحدهمَا: الْحَاصِل من الْفرق بَين تَعْرِيف الدَّلِيل على
رَأْي الْفُقَهَاء، وتعريفه على رَأْي المناطقة: أَن الدَّلِيل
عِنْد المناطقة / هُوَ الْمَادَّة وَالصُّورَة وَعند غَيرهم
هُوَ الْمَادَّة فَقَط، فَإِذا أُرِيد الدَّلِيل على إِثْبَات
الصَّانِع بحدوث مصنوعه - وَهُوَ الْعَالم - كَانَ مَجْمُوع
قَوْلنَا: (الْعَالم حَادث وكل حَادث لَهُ صانع) هُوَ
الدَّلِيل على أَن الْعَالم لَهُ صانع عِنْد المناطقة،
وَالدَّلِيل عِنْد غَيرهم (الْعَالم) فَقَط؛ لِأَن النّظر
فِيهِ يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْمَطْلُوب، أما بعد أَن
يَتَرَتَّب وَيحصل الْمَطْلُوب [فَكيف] يكون دَلِيلا؟ وَرجح
رَأْي المناطقة؛ بِأَن النّظر إِلَى دلَالَة الشَّيْء
بِالْفِعْلِ أقوى من النّظر إِلَيْهِ بِاعْتِبَار دلَالَته
بِالْقُوَّةِ، وَالله أعلم.
الثَّانِي: إِذا كَانَ مُقَدمَات الدَّلِيل كلهَا قَطْعِيَّة
لم ينْتج إِلَّا [قَطْعِيا] ، وَيُسمى حِينَئِذٍ برهاناً،
كَمَا تقدم فِي: (الْعَالم حَادث) ، وَإِن كَانَت مقدماته
كلهَا أَو بَعْضهَا ظنية لم ينْتج إِلَّا ظنياً؛ لِأَن النتيجة
دَائِما تتبع أدون المقدمتين.
مِثَاله: الْوضُوء عبَادَة، وكل عبَادَة بنية، ينْتج: أَن
الْوضُوء بنية.
وَمِثَال مَا [إِحْدَى] مقدماته قَطْعِيَّة وَالْأُخْرَى ظنية:
قَوْلنَا: صَلَاة الظّهْر فرض، وكل فرض يشرع لَهُ الْأَذَان،
فَصَلَاة الظّهْر يشرع لَهَا الْأَذَان، فَالْأولى قَطْعِيَّة
وَالثَّانيَِة ظنية.
(1/204)
قَوْله: {وَيحصل الْمَطْلُوب عقبه عَادَة
[مكتسباً] ، وَقيل: ضَرُورَة} .
اخْتلف المتكلمون فِي حُصُول الْمَطْلُوب بعد الْإِتْيَان
بِالدَّلِيلِ، هَل هُوَ مكتسب أَو ضَرُورِيّ؟ على قَوْلَيْنِ:
ذهب أَكْثَرهم إِلَى أَنه مكتسب بقدرة حَادِثَة، وَعَلِيهِ
أَكثر الأشاعرة.
وَذهب الْأُسْتَاذ وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "
[إِلَى] أَنه وَاقع بقدرة الله اضراراً، إِذْ لَو لم يكن
كَذَلِك لأمكنه تَركه، وَلَا يُمكنهُ تَركه، فَدلَّ أَنه
اضطراري.
قلت: هَذِه الْمَسْأَلَة قريبَة من مَسْأَلَة التَّوَاتُر
وَحُصُول الْعلم بِهِ، وَالصَّحِيح هُنَاكَ أَن خبر
التَّوَاتُر لَا يُولد الْعلم، وَيَقَع عِنْده بِفعل الله
تَعَالَى عِنْد الْفُقَهَاء وَغَيرهم، على مَا يَأْتِي إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقد أَطَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " هُنَا،
وَذكر أَن فِي الْمَسْأَلَة
(1/205)
/ ثَلَاثَة أَقْوَال، قَول الأشاعرة،
وَقَول الْمُعْتَزلَة، وَقَول الفلاسفة، فَقَالَ: قَالَت
الأشاعرة: يجب عَادَة لَا عقلا، إِذْ لَا وجوب وَلَا إِيجَاب
على الله تَعَالَى، لَكِن جرت الْعَادة بِأَن يفِيض على نفس
الْمُسْتَدلّ - بعد النّظر الصَّحِيح مَادَّة وَصُورَة -
مَطْلُوبَة الَّذِي توجه إِلَى تَحْصِيله.
وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن حُصُوله بالتوليد، والتوليد
هُوَ: أَن يُوجد وجود شَيْء وجود شَيْء آخر، كالنظر هُنَا
فَإِنَّهُ وجد من النَّاظر بِلَا وَاسِطَة، وبواسطته تولد
مِنْهُ الْمَطْلُوب، فالنظر فعل النَّاظر من غير وَاسِطَة،
والنتيجة الْحَاصِلَة بعده فعله بِوَاسِطَة، فيسمى توليداً،
فعندهم كل فعل صدر عَن الْحَيَوَان بِلَا وَاسِطَة يُسمى:
مُبَاشرَة، وكل فعل احْتَاجَ فِي صدوره إِلَى وَاسِطَة:
توليداً.
وَذَهَبت الفلاسفة إِلَى اللُّزُوم الْعقلِيّ، أَي: بعد
اشْتِمَال النّظر على الشَّرَائِط الْمُعْتَبرَة لَا يجوز
التَّخَلُّف بِوَجْه، لما تقرر عِنْدهم من أَن المبدأ [تَمام]
الْفَيْض، وَالنَّفس بِوَاسِطَة الْمُقدمَات الْمرتبَة
الْمُشْتَملَة على شَرَائِط الصِّحَّة مَادَّة وَصُورَة [قد]
استعدت لقبُول الْفَيْض، فَلَا يجوز التَّخَلُّف، إِذْ لَا
مَانع من الطَّرفَيْنِ.
وَالْجَوَاب: أَن الْمُخْتَار لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء، وَقد
أثبتنا فِي مَحَله أَنه مُخْتَار سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَمِمَّا يجب التَّنْبِيه لَهُ: أَن الْمُعْتَزلَة وَإِن
قَالُوا بالتوليد لَكِن وافقوا الفلاسفة، إِذْ التوليد لَازم
للمباشرة، كحركة الْمِفْتَاح بحركة الْيَد) .
(1/206)
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: (لَا خلاف عِنْدهم
فِي أَن الْعلم الْحَاصِل - أَو الظَّن - بعد النّظر فِي
الدَّلِيل مكتسب، لِأَن كل استدلالي [كسبي] وَلَا عكس، وَمَا
نقل عَن بعض الْمَشَايِخ: أَن الْعلم الْحَاصِل بعد النّظر
ضَرُورِيّ، مَعْنَاهُ: انه لَا تَأْثِير لقدرة العَبْد فِيهِ،
لَا أَنه لَا يحْتَاج إِلَى [الْكسْب] ، إِذْ كل نَظَرِي كسبي
إِجْمَاعًا، / وَلَا عكس) انْتهى.
وَقَوْلنَا: (وَيحصل الْمَطْلُوب) ، أولى من قَول من قَالَ:
(وَيحصل الْعلم) ؛ لِأَن الْمَطْلُوب يَشْمَل الْعلم وَالظَّن،
لِأَن الدَّلِيل مُشْتَمل على كل مِنْهُمَا كَمَا تقدم،
بِخِلَاف من قَالَ: الْعلم، فَإِنَّهُ يخرج من ذَلِك الظَّن.
قَوْله: {والمستدل: الطَّالِب للدليل من سَائل ومسؤول، قَالَه}
القَاضِي {فِي " الْعدة " و} ، أَبُو الْخطاب فِي {"
التَّمْهِيد " و} ، ابْن عقيل فِي {" الْوَاضِح "} .
(1/207)
ذكرنَا هُنَا مسَائِل لَهَا تعلق
بِالدَّلِيلِ كالمستدل نَفسه، والمستدل بِهِ، والمستدل
عَلَيْهِ، والمستدل لَهُ، وَنَحْوهَا فَإِنَّهَا من مَادَّة
الدَّلِيل.
فالمستدل: اسْم فَاعل من اسْتدلَّ يسْتَدلّ فَهُوَ مستدل،
وَالْفِعْل مِنْهُ مَبْنِيّ للطلب غَالِبا، كاستغفر واستخرج
وَنَحْوهمَا، وَذَلِكَ لِأَن السَّائِل يطْلب الدَّلِيل من
المسؤول، والمسؤول يطْلب الدَّلِيل من الْأُصُول، قَالَ أَبُو
الْفرج الْمَقْدِسِي: (السَّائِل مستدل) .
قَوْله: {قَالَ الإِمَام أَحْمد: الدَّال: الله، وَالدَّلِيل:
الْقُرْآن، والمبين: الرَّسُول، الْمُسْتَدلّ: أولو الْعلم،
هَذِه قَوَاعِد الْإِسْلَام} .
إِنَّمَا أخرنا كَلَام الإِمَام إِلَى هَذَا الْمحل؛ لنستدل
بِهِ على مَا ذَكرْنَاهُ قبل ذَلِك من الدَّال وَالدَّلِيل
والمبين والمستدل.
وَقَوله: هَذِه قَوَاعِد الْإِسْلَام؛ الَّذِي يظْهر أَن
مَعْنَاهُ: أَن قَوَاعِد الْإِسْلَام ترجع إِلَى الله
تَعَالَى، وَإِلَى قَوْله وَهُوَ الْقُرْآن، وَإِلَى رَسُوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِلَى عُلَمَاء
الْأمة، لم يخرج شَيْء من أَحْكَام الْمُسلمين وَالْإِسْلَام
عَنْهَا.
قَوْله: وَالدَّلِيل: الْقُرْآن.
قَالَ الْفَخر أَبُو مُحَمَّد إِسْمَاعِيل الْبَغْدَادِيّ:
(هَذَا دَلِيل على أَن الدَّلِيل حَقِيقَة قَول الله تَعَالَى)
.
(1/208)
قَوْله: {والمستدل بِهِ: مَا يُوجب الحكم}
. الْمُسْتَدلّ بِهِ اسْم مفعول، لَكِن هَل هُوَ الدَّلِيل أَو
أَعم مِنْهُ؟
فَإِن كَانَ هُوَ الدَّلِيل حصل التّكْرَار فِي الْمُخْتَصر،
فَإِنَّهُ يُقَال مثلا: هَذِه الْآيَة دَلِيل كَذَا وَاسْتدلَّ
بهَا لكذا.
وَإِن كَانَ غَيره فَيكون / أَعم من الدَّلِيل، فَذكر
الْأَعَمّ بعد الْأَخَص، وَهُوَ كثير فِي كَلَامهم، وَعَكسه
وَهُوَ ذكر الْأَخَص بعد الْأَعَمّ.
وتابعت فِي " الْمُخْتَصر " صَاحب " الرَّوْضَة فِي الْفِقْه "
من أَصْحَابنَا؛ فَإِنَّهُ ذكر الدَّلِيل وَذكر الْمُسْتَدلّ
بِهِ، فَقَالَ: (الدَّلِيل: هُوَ الْموصل إِلَى الْمَقْصُود
والمرشد إِلَى الْمَطْلُوب، والمستدل بِهِ: هُوَ الْعلَّة
الْمُوجبَة للْحكم) انْتهى.
وَظَاهره: أَن الدَّلِيل أَعم من الْمُسْتَدلّ بِهِ، خلافًا
لما قُلْنَا أَولا.
وعَلى كل حَال حَيْثُ حصل التباين وَلَو بِوَجْه انْتَفَى
التّكْرَار، وَالله أعلم.
قَوْله: {والمستدل عَلَيْهِ: الحكم، فِي أَصَحهَا} .
الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ - أَيْضا - اسْم مفعول، وَاخْتلفُوا
فِيهِ، فَالْأَصَحّ أَنه الحكم، أَي: الحكم على الشَّيْء
بِكَوْنِهِ حَلَالا أَو حَرَامًا أَو مُسْتَحبا أَو وَاجِبا
وَنَحْوه، قطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيره.
وَحكى أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع " فِيهِ
ثَلَاثَة أَقْوَال فَقَالَ: (أَحدهَا: أَنه الحكم، فَقَالَ:
الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ: هُوَ الحكم الَّذِي هُوَ التَّحْلِيل
وَالتَّحْرِيم؛ لِأَن الدَّلِيل يطْلب لَهُ، وَقيل: هُوَ
الْخصم المناظر، وَقيل: هُوَ
(1/209)
مَذْهَب الْخصم الْمَطْلُوب فَسَاده)
انْتهى.
قَوْله: {والمستدل لَهُ: الْخصم، وَقيل: الحكم} .
حكى الْقَوْلَيْنِ ابْن مُفْلِح وَغَيره، وَالَّذِي يظْهر أَن
القَوْل الأول لَازم للثَّانِي، فَإِن الِاسْتِدْلَال فِي
الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ للْحكم الَّذِي يَقُول بِهِ الْخصم،
فالخصم يسْتَدلّ للْحكم الْقَائِل بِهِ وينصره، فَإِن
الِاسْتِدْلَال لتَحْصِيل الحكم، أَو لكَون الْخصم قَائِلا
بِهِ، فَهُوَ يسْتَدلّ لنَفسِهِ لَكِن لأجل الحكم الْقَائِل
بِهِ.
قَوْله: {وَتَأْتِي الدّلَالَة} .
قَرِيبا، بعد الْكَلَام على الْمُفْرد والمركب، فِي الْكَلَام
على اللُّغَة.
{وَالِاسْتِدْلَال} بعد الجدل.
(1/210)
{والمدلول} فِي التَّرْجِيح.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك: أَن مَادَّة (دلّ) و (اسْتدلَّ) لكل
مِنْهُمَا اسْم فَاعل وَاسم مفعول ومصدر.
فاسم الْفَاعِل من (دلّ) : (دَال) ، و (دَلِيل) - إِن قُلْنَا
بِمَعْنى فَاعل -، وَاسم / الْمَفْعُول: (مَدْلُول) ، والمصدر:
(دلَالَة) .
وَاسم الْفَاعِل من (اسْتدلَّ) : (مستدل) بِكَسْر الدَّال،
وَاسم الْمَفْعُول بِفَتْحِهَا، والمصدر: (اسْتِدْلَال) ،
لَكِن اسْم الْمَفْعُول مِنْهُ تَارَة يكون [مستدلاً] بِهِ و
[مستدلاً] عَلَيْهِ، و [مستدلاً] لَهُ.
قَوْله: {وَالنَّظَر - هُنَا -: فكر يطْلب بِهِ علم أَو ظن} .
النّظر يُطلق لُغَة على الِانْتِظَار، وعَلى رُؤْيَة الْعين،
وعَلى الْإِحْسَان، وعَلى الْمُقَابلَة، وعَلى الِاعْتِبَار.
(1/211)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد
على [الجشت] : (النّظر لَهُ معَان عدَّة.
مِنْهَا: نظر الْعين كَقَوْلِه تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ
ناضرة، إِلَى رَبهَا ناظرة} [الْقِيَامَة: 22 - 23] ، وَقَوله
تَعَالَى: {على الأرآئك ينظرُونَ} [المطففين: 23، و 35] .
وَمِنْهَا نظر الْقلب كَقَوْلِه تَعَالَى: {أولم ينْظرُوا فِي
ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الْآيَة [الْأَعْرَاف: 185] .
وَمِنْهَا: معنى الْعَطف وَالرَّحْمَة كَقَوْلِه: {وَلَا ينظر
إِلَيْهِم} [آل عمرَان: 77] .
وَمِنْهَا: معنى الِانْتِظَار كَقَوْلِه تَعَالَى: {هَل
ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة} [الزخرف: 66] ، {انظرونا نقتبس من
نوركم} [الْحَدِيد: 13] ، {فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ}
[النَّمْل: 35] .
وَمِنْهَا: معنى الْمُقَابلَة والمحاذاة، يُقَال: دَاري تناظر
دَارك، أَي: تقَابلهَا، والموضع الْفُلَانِيّ ينظر إِلَى جِهَة
كَذَا، أَي: يُقَابله ويحاذيه.
وَمِنْه النّظر: لِأَنَّهُ يُقَابل الآخر ويناظره، وَيُسمى
المتحاجان: متناظرين؛ لِأَنَّهُمَا متقابلان تقَابل
الشَّيْئَيْنِ المتواجهين، وَلِأَنَّهُمَا متعاونان على النّظر
الَّذِي هُوَ التفكر وَالِاعْتِبَار، طلبا لإدراك الْعلم
وَبَيَانه.
(1/212)
وَالْمعْنَى الأول أظهر عِنْد أهل
الْعَرَبيَّة، وَإِلَى الْمَعْنى الثَّانِي صغو الجدليين)
انْتهى.
إِذا علم ذَلِك؛ فالنظر فِي الِاصْطِلَاح مَا ذكرنَا،
وَإِنَّمَا قُلْنَا: (هُنَا) ، لِأَن النّظر لَهُ معَان كَمَا
تقدم، وَهُوَ - هُنَا - فكر يطْلب بِهِ علم أَو ظن، وَهَذَا
التَّعْرِيف للْقَاضِي أبي بكر الباقلاني، وَتَبعهُ جمَاعَة.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": (النّظر تفكر وَتَأمل،
وَاعْتِبَار تَرْتِيب يعرف بِهِ الْمَطْلُوب من تصور وتصديق
وحد وَدَلِيل / وأمارة) ، ثمَّ ذكر حد الباقلاني قولا، وَذكر
أقوالاً غير ذَلِك.
وَنحن تابعنا الْجَمَاعَة، ونتكلم عَلَيْهِ.
فالفكر كالجنس، وَيُطلق على [ثَلَاثَة] معَان:
أَحدهَا: حَرَكَة النَّفس بِالْقُوَّةِ الَّتِي آلتها مقدم
الْبَطن الْأَوْسَط من الدِّمَاغ، إِذا كَانَت تِلْكَ
الْحَرَكَة فِي المعقولات، فَإِن كَانَت فِي المحسوسات سميت
تخييلاً.
الثَّانِي - وَهُوَ المُرَاد بِالْحَدِّ وَهُوَ أخص من الأول
-: حركتها من المطالب إِلَى المبادئ، ورجوعها من المبادئ إِلَى
المطالب، ويرسم الْفِكر بِهَذَا الْمَعْنى بترتيب أُمُور
حَاصِلَة فِي الذِّهْن، ليتوصل بهَا إِلَى تَحْصِيل غير
الْحَاصِل.
(1/213)
الثَّالِث: إِطْلَاقه على جُزْء الثَّانِي،
وَهُوَ الْحَرَكَة من المطالب إِلَى المبادئ، وَإِن كَانَ
الْغَرَض مِنْهَا الرُّجُوع، وَهَذَا الَّذِي يسْتَعْمل
[بإزائه] الحدس، وَهُوَ سرعَة الِانْتِقَال من المبادئ إِلَى
المطالب.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (النّظر - عرفا -: الْفِكر
الْمَطْلُوب بِهِ علم أَو ظن، فَينْتَقل من أُمُور حَاصِلَة
ذهناً إِلَى أُمُور مستحصلة.
وَقد يُطلق على حَرَكَة النَّفس الَّتِي يَليهَا الْبَطن
الْأَوْسَط من الدِّمَاغ، الْمُسَمّى بالدودة، أَي حَرَكَة
كَانَت فِي المعقولات، وَفِي المحسات يُسمى تخييلاً لَا فكراً)
انْتهى.
قَوْله: {والإدراك بِلَا حكم تصور، وبحكم تَصْدِيق} .
إِدْرَاك الْمَاهِيّة من غير حكم عَلَيْهَا يُسمى تصوراً،
وَهُوَ حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الذِّهْن، وَمَعَ الحكم
يُسمى تَصْدِيقًا.
فَالْأول ساذج، أَي: مَشْرُوط فِيهِ عدم الحكم، وَالثَّانِي
مَشْرُوط فِيهِ الحكم.
(1/214)
وَمعنى الحكم فِي التَّصْدِيق: إِسْنَاد
أَمر إِلَى آخر إِثْبَاتًا أَو نفيا، نَحْو: كَون زيد قَائِما
أَو لَيْسَ بقائم.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه: (إِدْرَاك الْحَقَائِق مُجَرّدَة
عَن الْأَحْكَام، وَقيل: حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الْعقل،
والتصديق: نِسْبَة حكمِيَّة بَين الْحَقَائِق بِالْإِيجَابِ
[أَو السَّلب] ، وَقيل: إِسْنَاد أَمر إِلَى آخر إِيجَابا أَو
سلباً) انْتهى.
وَالْمعْنَى وَاحِد، فَكل تَصْدِيق / مُتَضَمّن من مُطلق
التَّصَوُّر [ثَلَاثَة] تصورات: تصور الْمَحْكُوم عَلَيْهِ
والمحكوم بِهِ من حَيْثُ هما، ثمَّ تصور نِسْبَة أَحدهمَا
للْآخر، فَالْحكم يكون تصوراً رَابِعا على مَا قَالَه
الْمُحَقِّقُونَ من أَرْبَاب هَذَا الْفَنّ، لِأَنَّهُ تصور
تِلْكَ النِّسْبَة مُوجبَة، أَو تصورها منفية.
وَقَالَ ابْن سينا وَغَيره: (التَّصْدِيق: نفس الحكم كَيفَ
فرضته؟ وَتلك التصورات الثَّلَاثَة السَّابِقَة عَلَيْهِ شَرط
لَهُ) .
(1/215)
وَقَالَ الرَّازِيّ وَجمع: (الْمَجْمُوع
هُوَ التَّصْدِيق، فالتصورات السَّابِقَة على الحكم شطر من
التَّصْدِيق لَا شَرط) .
وَإِنَّمَا سمي التَّصَوُّر تصوراً لأَخذه من الصُّورَة،
لِأَنَّهُ حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الذِّهْن، وَسمي
التَّصْدِيق تَصْدِيقًا؛ لِأَن فِيهِ حكما يصدق فِيهِ أَو
يكذب، سمي بأشرف لازمي الحكم فِي النِّسْبَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَقسم المنطقيون الْعلم إِلَى: علم بمفرد
يُسمى تصوراً، كَالْعلمِ بِمَعْنى الْإِنْسَان وَالْكَاتِب،
وَعلم بِنِسْبَة يُسمى تَصْدِيقًا، وَهِي: إِسْنَاد شَيْء
إِلَى آخر بِالنَّفْيِ أَو الْإِثْبَات؛ بِمَعْنى إيقاعها أَو
انتزاعها، وَهُوَ الحكم. كَالْحكمِ بِأَن الإسان كَاتب أَو
لَا.
وَأما بِمَعْنى: حُصُول صُورَة النِّسْبَة فِي الْعقل،
فَإِنَّهُ من التَّصَوُّر.
- ثمَّ قَالَ -: وَلم يذكر أَصْحَابنَا هَذَا التَّقْسِيم،
وَاعْترض بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم عَلَيْهِ - وَالظَّاهِر
أَنه أَرَادَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - بِأَن الْعلم [من مقوله
أَن ينفعل، وَالْحكم وَهُوَ الْإِيقَاع أَو الانتزاع] من مقوله
أَو يفعل، فَكيف يَصح تَقْسِيم الْعلم إِلَى التَّصَوُّر
وَإِلَى التَّصْدِيق؟
وَأجِيب: لَا محيص عَنهُ إِلَّا بتقسيمه إِلَى التَّصَوُّر
الساذج، وَإِلَى التَّصَوُّر مَعَ التَّصْدِيق، كَمَا فعله
ابْن سينا فِي " الإشارات ".
(1/216)
أَو المُرَاد بِالْعلمِ: أَعم من
الْإِدْرَاك، وَهُوَ: الْأَمر الْمُشْتَرك بَين الْإِدْرَاك
والهيئة اللاحقة بِهِ المحتملة للصدق وَالْكذب، وَهُوَ
الْمَعْنى الذهْنِي الْمُقَيد بِعَدَمِ غَيرهَا، فَيصح تقسيمه
إِلَى الْإِدْرَاك الَّذِي هُوَ التَّصَوُّر، وَإِلَى
الْهَيْئَة الْمَذْكُورَة / الَّتِي هِيَ التَّصْدِيق، كَذَا
قيل؛ وَفِيه نظر) انْتهى.
فَائِدَة: على قَول المناطقة - وَعَلِيهِ الْعَمَل عِنْد
عُلَمَاء هَذَا الزَّمَان - كل من التَّصَوُّر والتصديق
ضَرُورِيّ ونظري، وَلَيْسَ كل مِنْهُمَا ضَرُورِيًّا وَإِلَّا
لما جهلنا شَيْئا، وَلَا نظرياً وَإِلَّا لما تحصلنا على
شَيْء، والنظري مِنْهُمَا يُسمى مَطْلُوبا.
(1/217)
قَوْله: {فصل}
{الْعلم يحد عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، فَفِي "
الْإِرْشَاد " معرفَة الشَّيْء، وَفِي " الْعدة "، و "
التَّمْهِيد "، والباقلاني: معرفَة [الْمَعْلُوم] ، وَفِي "
الْوَاضِح: إِدْرَاك الْأُمُور بحقائقها، وأصحها مَا فِي "
الْمقنع " وَغَيره: صفة يُمَيّز [المتصف] بهَا تمييزاً
جَازِمًا مطابقاً} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي الْعلم، هَل يحد أم لَا؟
(1/218)
فَذهب الْأَكْثَر إِلَى أَنه يحد، وَلَهُم
فِيهِ حُدُود كَثِيرَة لَا تحصر، وَلَا يسلم أَكْثَرهَا من خدش
وتزييف.
وَقد ذكر أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا، من ذَلِك
حدوداً كَثِيرَة وزيفوها.
وَمِمَّنْ قَالَ يحد: أَصْحَابنَا، والأشعرية، والمعتزلة،
وَغَيرهم.
وَذكرنَا هُنَا من حدودهم أَرْبَعَة.
الأول قَالَه ابْن أبي مُوسَى فِي " الْإِرْشَاد ": وَهِي:
(معرفَة الشَّيْء) ، وَفِيه إِيهَام وتعريف الشَّيْء بمرادفه
وَهِي الْمعرفَة، وَالشَّيْء أَيْضا لَا يكون إِلَّا للموجود،
فَخرج غَيره، فَلَيْسَ بِجَامِع.
الثَّانِي قَالَه القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني،
وَالْقَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْفرج فِي مُقَدّمَة "
الْإِيضَاح "، وَأَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْمَعَالِي فِي "
الورقات "، وَغَيرهم هُوَ: (معرفَة الْمَعْلُوم) .
(1/219)
ورد بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: بِكَوْن الْمعرفَة مرادفة للْعلم، وتعريف الشَّيْء
بمرادفه لَا يَصح.
وَالثَّانِي: أَن لفظ مَعْلُوم مُشْتَقّ من الْعلم، وَلَا بُد
من مَعْرفَته، فَيحْتَاج فِي معرفَة الْعلم إِلَى معرفَة
الْعلم، وَهُوَ دور.
وَلَكِن الْمَعْلُوم يَشْمَل الْمَوْجُود وَغَيره، فَكَانَ
أجمع من التَّعْرِيف الَّذِي قبله.
قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (فِيهِ دور يمْتَنع، وتعريف
بالأخفى، وَعلم الله لَا يُسمى معرفَة فَلَا يعمه) .
الثَّالِث قَالَه ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " فَقَالَ:
(الْعلم: وجدان النَّفس الناطقة للأمور بحقائقها) .
وَيرد عَلَيْهِ: / أَن وجدان مُشْتَرك أَو مُتَرَدّد، غير أَن
قرينَة التَّعْرِيف دلّت على أَن المُرَاد بِهِ الْإِدْرَاك
فَيقرب الْأَمر، فَلذَلِك قلت ذَلِك: (بِمَعْنَاهُ) .
وَيرد عَلَيْهِ أَيْضا: أَن علم الله يخرج مِنْهُ، لِأَنَّهُ
لَيْسَ نفسا ناطقة قَالَه
(1/220)
الطوفي، وَقَالَ: (لَو قَالَ: وجدان
النَّفس الْأُمُور بحقائقها لأمكن دُخُول علم الله، إِلَّا أَن
يكون ابْن عقيل عرف الْعلم الْمُحدث) .
الرَّابِع - وَهُوَ الأولى - قَالَه ابْن حمدَان فِي " مقنعه
"، فَقَالَ: (هُوَ صفة يُمَيّز بهَا الْإِنْسَان بَين
الْجَوَاهِر والأجسام والأعراض وَالْوَاجِب والممكن والممتنع
تمييزاً جَازِمًا مطابقاً) .
وَمَعْنَاهُ للآمدي، ونقحه ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "،
فَقَالَ: (هُوَ صفة توجب تمييزاً لَا يحْتَمل النقيض) .
فَقَوله فِي " الْمقنع ": (صفة، هُوَ كالجنس للحد يتَنَاوَل
جَمِيع الصِّفَات كالحياة وَالْقُدْرَة والإرادة.
وَقَوله: (يُمَيّز المتصف بهَا تمييزاً جَازِمًا " أخرج جَمِيع
الصِّفَات إِلَّا الصّفة الْمَذْكُورَة، لَكِن بَقِي الْحَد
متناولاً الظَّن وَالشَّكّ وَالوهم؛ لِأَنَّهَا جَمِيعًا
صِفَات توجب تمييزاً.
وَقَوله: (جَازِمًا) ، أخرج ذَلِك.
وَقَوله: (مطابقاً) ، المطابق الْمُوَافق لما فِي نفس الْأَمر،
وَبِه يخرج الْجَهْل الْمركب، فالتمييز المطابق هُوَ الَّذِي
لَا يحْتَمل النقيض، فَهُوَ بِمَعْنى حد ابْن الْحَاجِب.
(1/221)
فَائِدَة: (اعْترض على هَذَا الْحَد
بِالْعلمِ بالأمور العادية، ككون الْجَبَل حجرا، فَإِنَّهُ علم
وَيحْتَمل النقيض؛ لجَوَاز انقلاب الْجَبَل ذَهَبا مثلا،
لتجانس الْجَوَاهِر واستوائها فِي قبُول الصِّفَات مَعَ ثُبُوت
الْقَادِر الْمُخْتَار، وهما [يوجبان] جَوَاز ذَلِك.
وَأجِيب بِالْمَنْعِ، [وَأسْندَ] بِأَن الشَّيْء يمْتَنع أَن
يكون فِي الزَّمن الْوَاحِد حجرا وذهباً بِالضَّرُورَةِ،
فَإِذا علم بِالْعَادَةِ كَونه حجرا فِي وَقت، اسْتَحَالَ أَن
يكون فِي ذَلِك الْوَقْت ذَهَبا، [وَإِذا] علم كَونه حجرا
دَائِما، اسْتَحَالَ أَن يكون ذَهَبا فِي شَيْء من
الْأَوْقَات، وَنفي احْتِمَال النقيض فِي نفس الْأَمر فِي
جَمِيع الْعُلُوم ضَرُورِيّ.
نعم، إِنَّه يحْتَمل النقيض بِمَعْنى: أَنه لَو قدر بدله /
نقيصه لم يلْزم مِنْهُ محَال لنَفسِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجب
الِاحْتِمَال كَمَا فِي حُصُول الْجِسْم فِي حيزه واختصاصه
بحركته أَو سكونه إِذا علم بالحس، فَإِنَّهُ لَو قدر نقيضه فِي
ذَلِك الْوَقْت لم يلْزم مِنْهُ محَال، مَعَ أَن نقيضه فِي
ذَلِك الْوَقْت غير مُحْتَمل.
وَالتَّحْقِيق: أَن احْتِمَال مُتَعَلقَة لنقيض الحكم
الثَّابِت فِيهِ، لَا يسْتَلْزم أَن لَا يجْزم بِأَن الْوَاقِع
أَحدهمَا بِعَيْنِه جزما مطابقاً لأمر [يُوجِبهُ] من [حس]
وَغَيره) قَالَه الْعَضُد.
(1/222)
ثمَّ اخْتلفُوا بعد ذَلِك: هَل يدْخل
إِدْرَاك الْحَواس فِيمَا لَا يحْتَمل النقيض؟ وَهل هُوَ من
الْعلم أم لَا؟
وَالصَّحِيح عدم الدُّخُول، فَلذَلِك قُلْنَا: {فَلَا يدْخل
إِدْرَاك الْحَواس خلافًا للأشعري وَجمع} .
ذهب الْأَشْعَرِيّ وَمن تبعه إِلَى دُخُول إِدْرَاك الْحَواس
فِي الْحَد، إِلَّا أَن يُزَاد فِيهِ: فِي الْمعَانِي
الْكُلية، حَتَّى يخرج إِدْرَاك الْحَواس، وَفِيه نظر؛ لِأَن
المُرَاد بِالْعلمِ الْمَعْنى الْأَخَص الَّذِي هُوَ قسم من
التَّصْدِيق، وَإِلَّا [لورد مَا] يحْتَمل النقيض كالظن
والتصورات الساذجة، فَإِنَّهُ لَا يعْتَبر فِيهَا مُطَابقَة.
وَذهب جمع من أَصْحَابنَا كَابْن مُفْلِح وَغَيره: إِلَى عدم
دُخُولهَا فِيمَا
(1/223)
لَا يحْتَمل النقيض، وَهُوَ أظهر،
وَلِهَذَا قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن، لِأَنَّهَا تَمْيِيز بَين
المحسات الْجُزْئِيَّة لَا الْأُمُور الْكُلية، والتصديق
مُتَعَلق بِالنِّسْبَةِ وَلَا يحْتَاج إِلَى الزِّيَادَة
عَلَيْهِ فِي الْمعَانِي الْكُلية، لِأَن المُرَاد بِالْعلمِ:
الْمَعْنى الْأَخَص، الَّذِي هُوَ قسم من التَّصْدِيق.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (عِنْد الْأَشْعَرِيّ أَن
إِدْرَاك الْحَواس نوع من الْعلم) ، قَالَ: (وَفِيه نظر
لجَوَاز غلط الْحس) .
قَالَ الْأَصْفَهَانِي بعد كَلَام الْأَشْعَرِيّ: (وَلقَائِل
أَن يَقُول: هَذَا الْحَد إِمَّا أَن يكون للْعلم بِالْمَعْنَى
الْأَخَص الَّذِي هُوَ قسم من التَّصْدِيق، أَو يكون للْعلم
بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ، المنقسم إِلَى التَّصَوُّر والتصديق،
فَإِن كَانَ للثَّانِي فقيد: (لَا يحْتَمل النقيض) غير صَحِيح؛
لِأَن الظنون والاعتقادات علم بِهَذَا الْمَعْنى وهما يحتملان
النقيض، وَأَيْضًا التصورات / الساذجة -[وَهُوَ] حُصُول صُورَة
الشَّيْء [من غير كَون اعْتِبَاره] مطابقاً أَو غير مُطَابق -
علم بِهَذَا الْمَعْنى، وَلم يعْتَبر [عدم] احْتِمَال النقيض
فِيهِ.
(1/224)
وَإِن كَانَ الأول؛ فَلَا نسلم اندراج
إِدْرَاك الْحَواس تَحت الْحَد؛ لِأَن إِدْرَاك الْحسي من قبيل
التصورات) انْتهى.
وَقَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ": (فِي
دُخُوله نظر؛ لأَنا لَا نسلم أَن إِدْرَاك الْحَواس مِمَّا
يُوجب تمييزاً لَا يحْتَمل النقيض؛ لِأَن الْحس قد يدْرك
الشَّيْء لَا على مَا هُوَ عَلَيْهِ، كالمستدير مستوياً،
والمتحرك سَاكِنا، وَنَحْوهمَا) انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: لَا يُسمى علما} .
ذكره ابْن مُفْلِح، أَي: لَا يُسمى إِدْرَاك الْحَواس علما،
وَلذَلِك قَالَ الْأَصْفَهَانِي - لما قَالَ ابْن الْحَاجِب:
(وَإِلَّا زيد فِي الْأُمُور المعنوية) - (أَي: وَإِن لم يسم
إِدْرَاك الْحَواس علما، زيد على الْحَد) .
فَدلَّ على أَنه قيل: لَا يُسمى علما، وَهُوَ ظَاهر مَا قدمه
ابْن حمدَان فِي " الْمقنع "؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حد الْعلم:
(وَهُوَ صفة يُمَيّز بهَا بَين الْأُمُور الْكُلية تمييزاً)
جَازِمًا بدهياً، أَو ضَرُورِيًّا، أَو نظرياً، وَقيل: أَو
حسياً) .
فَمَا أَدخل الْحسي إِلَّا على قَول.
وَهُوَ الَّذِي مَال إِلَيْهِ القطب الشِّيرَازِيّ، وَابْن
قَاضِي الْجَبَل، وَتقدم لَفْظهمَا.
(1/225)
قَوْله: {وَقيل: لَا يحد، قَالَ أَبُو
الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ: لعسره، ويميز ببحث وتقسيم، و
[قَالَ] الرَّازِيّ: لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ، ثمَّ حَده فناقض.
وَقيل: الأول: لمُجَرّد الْإِدْرَاك، وَالثَّانِي، لليقيني،
وَهُوَ أولى} .
اخْتلف من قَالَ: الْعلم لَا يحد، فَذهب أَبُو الْمَعَالِي
وتلميذه الْغَزالِيّ إِلَى أَنه لَا يحد لعسره، لَكِن يُمَيّز
ببحث وَمِثَال وتقسيم.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (لَا يحد لعسره) ، وَمرَاده بِحَدّ
حَقِيقِيّ.
واستبعد مَا قَالَا، لِأَنَّهُمَا إِن أفادا تمييزاً فَيعرف
بهما، وَإِلَّا فَلَا يعرف بهما.
ورده القَاضِي عضد الدّين.
(1/226)
وَذهب الرَّازِيّ وَمن تبعه إِلَى إِنَّه
ضَرُورِيّ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن غير الْعلم / لَا يعلم إِلَّا بِالْعلمِ، فَلَو
علم الْعلم بِغَيْرِهِ كَانَ دوراً، لكنه مَعْلُوم، فَيكون لَا
بِالْغَيْر، وَهُوَ الضَّرُورِيّ.
وَالْجَوَاب - بعد تَسْلِيم كَونه مَعْلُوما -: أَن توقف تصور
غير الْعلم إِنَّمَا هُوَ على حُصُول الْعلم بِغَيْرِهِ،
أَعنِي علما ً جزئياً مُتَعَلقا بذلك الْغَيْر، لَا على تصور
حَقِيقَة الْعلم، وَالَّذِي يُرَاد حُصُوله بالغيرإنما هُوَ
تصور حَقِيقَة الْعلم لَا حُصُول جزئي مِنْهُ، فَلَا دور
للِاخْتِلَاف. الثَّانِي: أَن علم كل أحد بِأَنَّهُ مَوْجُود
ضَرُورِيّ، أَي: مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ، وَهَذَا علم خَاص،
وَهُوَ مَسْبُوق بِالْعلمِ الْمُطلق، وَالسَّابِق على
الضَّرُورِيّ ضَرُورِيّ، فالعلم الْمُطلق ضَرُورِيّ.
وَالْجَوَاب: أَن الضَّرُورِيّ حُصُول الْعلم، وَهُوَ غير تصور
الْعلم، الَّذِي هُوَ الْمُتَنَازع فِيهِ، وَذَلِكَ أَنه لَا
يلْزم من حُصُول أَمر تصَوره، حَتَّى يتبع تصَوره حُصُوله،
وَلَا تقدم تصَوره، حَتَّى يكون تصَوره شرطا لحصوله، وَإِذا
كَانَ كَذَلِك جَازَ الانفكاك مُطلقًا فتغايرا، فَلَا يلْزم من
كَون أَحدهمَا ضَرُورِيًّا كَون الآخر كَذَلِك.
مَعَ أَن الْفَخر الرَّازِيّ بعد كَلَامه هَذَا، حَده فِي
تَقْسِيم حصر فِيهِ الْعلم وأضداده، فعد ذَلِك من تناقضه.
(1/227)
وَاخْتَارَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته
": أَنه أَرَادَ بِالَّذِي لَا يحد لكَونه ضَرُورِيًّا هُوَ
الْعلم بِمُجَرَّد الْإِدْرَاك على مَا يَأْتِي، وَمَا ذكره
فِي التَّقْسِيم إِنَّمَا هُوَ التَّصْدِيق اليقيني.
وَلذَلِك قَالَ: (هُوَ حكم الذِّهْن الْجَازِم المطابق لموجب)
.
وَهُوَ أولى من نسبته إِلَى التَّنَاقُض.
قلت: وَيحْتَمل أَن يكون لَهُ فِيهِ قَولَانِ، وَلم يزل
الْعلمَاء على ذَلِك.
قَوْله: {تَنْبِيه: يُطلق الْعلم - أَيْضا - على مُجَرّد
الْإِدْرَاك، فَيشْمَل الْأَرْبَعَة، {مَا علمنَا عَلَيْهِ من
سوء} [يُوسُف: 51] ، [وعَلى التَّصْدِيق، فَيخْتَص] [الظني
والقطعي] } .
اعْلَم أَن للْعلم إطلاقات لُغَة وَعرفا.
أَحدهَا: اليقيني، وَهُوَ الَّذِي لَا يحْتَمل النقيض، /
وَهُوَ المُرَاد بِالْحَدِّ الأول، وَهُوَ الأَصْل.
الثَّانِي: مُجَرّد الْإِدْرَاك، سَوَاء كَانَ جَازِمًا، أَو
مَعَ احْتِمَال رَاجِح، أَو مَرْجُوح، أَو مسَاوٍ، مجَازًا،
وَمن هَذَا الْقَبِيل: قَوْله تَعَالَى: {مَا علمنَا عَلَيْهِ
من سوء} [يُوسُف: 51] ، إِذْ المُرَاد: نفي كل إِدْرَاك.
الثَّالِث: مُطلق التَّصْدِيق - قَطْعِيا أَو ظنياً - لَا
التَّصَوُّر، فَحِينَئِذٍ يكون
(1/228)
مُقَابلا للمعرفة الَّتِي هِيَ تصور ساذج
لَا حكم فِيهِ، وَمعنى مُقَابلَته: أَنَّك تَقول: إِمَّا
معرفَة وَإِمَّا علم، كَمَا تَقول: إِمَّا تصور وَإِمَّا
تَصْدِيق، وَيَأْتِي ذَلِك قَرِيبا فِي الْمَتْن.
وَمن أجل مَا قَرَّرْنَاهُ؛ كَانَ " عرف " وَمَا فِي مَعْنَاهُ
من مادته مُتَعَدِّيا إِلَى مفعول وَاحِد، تَقول: عرفت زيدا،
أَي: تصورته، بِلَا زِيَادَة على ذَلِك، بِخِلَاف الْعلم وَمَا
تصرف مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُتَعَدٍّ إِلَى مفعولين، تَقول: علمت
[زيدا] صَائِما، إِذْ الْمَقْصُود نِسْبَة الصّيام إِلَى زيد،
فَيتَوَقَّف على مُسْند ومسند إِلَيْهِ، فَمن الأول قَوْله
تَعَالَى: {فعرفهم وهم لَهُ منكرون} [يُوسُف: 58] وَمن
الثَّانِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِن علمتموهن مؤمنات}
[الممتحنة: 10] .
قَوْله: { [فَيَأْتِي] الْعلم بِمَعْنى الظَّن: {فَإِن
علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة: 10] ، [وَعَكسه] : {الَّذين يظنون
أَنهم ملاقوا رَبهم} [الْبَقَرَة: 46] ، وَبِمَعْنى الْمعرفَة:
{لَا تعلمهمْ} [التَّوْبَة: 101] } .
لما تقدم أَن الْعلم يُطلق على مُطلق التَّصْدِيق، فَيشْمَل
الْيَقِين وَالظَّن.
(1/229)
مِثَاله فِي الظَّن: قَوْله تَعَالَى:
{فَإِن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة: 10] ، أَي: ظننتموهن
مؤمنات؛ إِذْ الْيَقِين هُنَا مُتَعَذر؛ إِذْ لَا قدرَة إِلَى
الإطلاع عَلَيْهِ، لَكِن لما نزل ذَلِك منزلَة الْيَقِين،
لتعذر الْيَقِين، ولعظم كلمة التَّوْحِيد، أطلق عَلَيْهِ علما.
وَيَأْتِي الظَّن بِمَعْنى الْعلم اليقيني - عكس الأول -
وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لكبيرة إِلَّا على
الخاشعين الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا رَبهم وَأَنَّهُمْ
إِلَيْهِ رَاجِعُون} [الْبَقَرَة: 45 - 46] ، وَقَوله تَعَالَى
[فِي] / فصلت: 0 وظنوا مَا لَهُم من محيص} [الْآيَة: 48] .
وَقَوله تَعَالَى على الْأَصَح فِي بَرَاءَة: {وظنوا أَن لَا
ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ} [الْآيَة: 118] .
بِخِلَاف قَوْله تَعَالَى: (قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا
الله كم من
(1/230)
فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن
الله} [الْبَقَرَة: 249] ، وَقَوله تَعَالَى: {ورءا المجرمون
النَّار فظنوا أَنهم مواقعوها} [الْكَهْف: 53] ، فَإِنَّهَا
على بَابهَا على الْأَصَح فِي الثَّانِيَة.
وَيَأْتِي الْعلم بِمَعْنى الْمعرفَة، وَمِنْه: قَوْله
تَعَالَى: {لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ} [التَّوْبَة: 101] ،
أَي: لَا تعرفهم نَحن نعرفهم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: (قد جَاءَ علم بِمَعْنى عرف،
وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى: {يعلم السِّرّ وأخفى} [طه: 7] ،
{يعلم خَائِنَة الْأَعْين} [غَافِر: 19] ، {حَتَّى نعلم
الْمُجَاهدين مِنْكُم} [مُحَمَّد: 31] ، وَهُوَ كثير) .
(1/231)
قَوْله: { [وَعَكسه] }
يَعْنِي: تَأتي الْمعرفَة بِمَعْنى الْعلم، وَقد قَالَ فِي "
الْمِصْبَاح ": (عَلمته أعلمهُ: عَرفته، هَكَذَا يفسرون الْعلم
بالمعرفة، وَبِالْعَكْسِ، لتقارب الْمَعْنيين) انْتهى،
وَيَأْتِي.
قلت: وَفِي التَّنْزِيل: {مِمَّا عرفُوا من الْحق}
[الْمَائِدَة: 83] ، أَي: علمُوا.
قَوْله: {فَوَائِد. الأولى: أَحْمد، وَالشَّيْخ، وَالْأَكْثَر:
الْعلم يتَفَاوَت كالإيمان، وَعنهُ: تفاوته بِكَثْرَة
المتعلقات} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي الْعلم هَل يتَفَاوَت، أم تفاوته
بِكَثْرَة المتعلقات وَأما نَفسه فَلَا يتَفَاوَت؟ فِيهِ
قَولَانِ لَهُم، هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد.
أَحدهمَا: يتَفَاوَت، وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر،
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله "، فِي التَّوَاتُر
هَل يُفِيد الْعلم أم لَا؟ لما قَالَ من نفي إفادته للْعلم:
لِأَنَّهُ يحصل مِنْهُ التَّفَاوُت وَهُوَ منَاف لليقين،
وَأجَاب الرَّازِيّ عَن ذَلِك.
(1/232)
بِجَوَاب غير سديد -: قَالَ الأرموي:
(وَالْجَوَاب أَن هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب، بل الْحق أَن
المعلومات تَتَفَاوَت) . - قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل -:
(وَهِي مَسْأَلَة خلاف، وَعَن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَانِ،
الْأَصَح: التَّفَاوُت، فَإنَّا نجد بِالضَّرُورَةِ الْفرق
بَين كَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ، وَبَين مَا علمناه من
جِهَة التَّوَاتُر، مَعَ كَون الْيَقِين / حَاصِلا فيهمَا) .
وَيَأْتِي هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ - أَيْضا - ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي مَوضِع آخر قبل
قَوْله: الْأَنْبِيَاء معصومون: (وَاخْتلفُوا فِي المعلومات
هَل تَتَفَاوَت؟ وَفِيه رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد فِي الْمعرفَة
الإنسانية، ذكره أَبُو يعلى) انْتهى.
(1/233)
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي
الْكَلَام على الْوَاجِب: (قَالَ بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي
بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين -: وَالصَّوَاب أَن جَمِيع
الصِّفَات الْمَشْرُوطَة بِالْحَيَاةِ تقبل التزايد، وَعَن
أَحْمد فِي الْمعرفَة الْحَاصِلَة فِي الْقلب فِي الْإِيمَان
هَل تقبل التزايد وَالنَّقْص؟ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيح من
مَذْهَبنَا، وَمذهب جُمْهُور أهل السّنة: إِمْكَان الزِّيَادَة
فِي جَمِيع ذَلِك) انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - أَيْضا - فِي بحث مَعَ
القَاضِي أبي يعلى فِي مَسْأَلَة الإحساس وَمَا يدْرك بالحواس
هَل يخْتَلف؟ قَالَ: (والأصوب أَن القوى الَّتِي هِيَ
[الإحساس] وَسَائِر الْعُلُوم والقوى تخْتَلف) .
وَيَأْتِي هَذَا - أَيْضا - فَجعل سَائِر الْعُلُوم تخْتَلف،
وَقَالَ: (هَذِه الْمَسْأَلَة من جنس مَسْأَلَة الْإِيمَان) .
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (الْأَكْثَرُونَ على التَّفَاوُت،
أَي: يكون علم أجلى من علم، وَنَقله فِي " الْبُرْهَان " عَن
أَئِمَّتنَا، وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " الشَّامِل ":
أَنه لَا يتَفَاوَت عِنْد الْمُحَقِّقين، وَاخْتَارَهُ هُوَ،
والأبياري فِي شرح
(1/234)
البرها [ن] . - قلت: وَهُوَ الرِّوَايَة
الثَّانِيَة عَن أَحْمد - فعلى هَذَا تفاوته بِكَثْرَة
المتعلقات.
وَمن فَوَائِد الْخلاف: أَن الْإِيمَان هَل يزِيد وَينْقص؟
قِيَاسه على أَنه من قبيل الْعُلُوم لَا الْأَعْمَال، خلافًا
للمعتزلة) انْتهى.
قلت: أهل السّنة وَالسَّلَف على أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص،
وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة مَشْهُورَة، وَالْقُرْآن مَمْلُوء
من ذَلِك مِمَّا ذكر بَعْضهَا البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه "
وَغَيره من الْأَئِمَّة، وَتَأْتِي محررة فِي مَسْأَلَة
الْإِيمَان.
(1/235)
قَوْله " {الثَّانِيَة: علم الله
[تَعَالَى] قديم} ، / لِأَنَّهُ صفة من صِفَاته، وَصِفَاته
قديمَة، {لَيْسَ ضَرُورِيًّا وَلَا نظرياً} ، بِلَا نزاع بَين
الْأَئِمَّة، وَهُوَ وَاحِد لَيْسَ بِعرْض، فَيتَعَلَّق
بِجَمِيعِ المعلومات إِجْمَالا وتفصيلاً على مَا هِيَ بِهِ.
(1/236)
قَالَ فِي الْمقنع: (علم الله صفة ذاتية
وجودية وَاحِدَة، أحَاط الله بهَا - لم تزل وَلَا تزَال -
بِكُل كلي وجزئي مَوْجُود ومعدوم على مَا هُوَ عَلَيْهِ،
وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا وَلَا نظرياً) انْتهى.
قَوْله: {وَلَا يُوصف بِأَنَّهُ عَارِف} .
لَا يُوصف سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنَّهُ عَارِف؛ لِأَن
الْمعرفَة قد تكون علما مستحدثاً، وَالله تَعَالَى مُحِيط علمه
بِجَمِيعِ الْأَشْيَاء على حقائقها على مَا هِيَ عَلَيْهِ،
وَهُوَ صفة من صِفَاته، وَهُوَ قديم، وَحكي إِجْمَاعًا.
قَالَ ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (علم الله
تَعَالَى لَا يُسمى معرفَة، حَكَاهُ القَاضِي إِجْمَاعًا) .
وَخَالف الكرامية فَقَالُوا: يُوصف بِأَنَّهُ عَارِف
لِاتِّحَاد الْعلم والمعرفة.
(1/237)
وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا فِي "
الْمُعْتَمد ": (يجوز وَصفه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَارِف) .
قلت: ومرادهم - وَالله أعلم -: أَن الْمعرفَة كَالْعلمِ،
فَكَمَا أَنه يُوصف بِالْعلمِ يُوصف عِنْد هَؤُلَاءِ بالمعرفة،
وَلَيْسَ مُرَادهم بالمعرفة فِي حَقه: الَّتِي هِيَ مستحدثة
بعد أَن لم تكن، وَإِن هَذَا لَا يَقُوله أحد من أهل السّنة،
إِنَّمَا ينْسب إِلَى الرافضة، على مَا يَأْتِي فِي بَاب
النّسخ، وَهُوَ كفر.
وَحكي عَن ابْن الباقلاني: اتِّحَاد الْعلم والمعرفة، ثمَّ
وجدته فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير " قَالَه، فَإِنَّهُ قَالَ:
(قَالَ النيلي [ (لَا تَعْلَمُونَهُم الله
(1/238)
يعلمهُمْ} [الْأَنْفَال: 60] ، أَي: لَا
تعرفونهم الله يعرفهُمْ] ، قَالَ: فَإِن قلت: لَا تطلق
الْمعرفَة على الله؛ لِأَنَّهَا توهم سَابِقَة الْجَهْل، قلت:
سَابِقَة الْجَهْل إِنَّمَا تكون فِيمَن يَصح عَلَيْهِ
الْجَهْل) انْتهى.
وَهُوَ كَمَا قُلْنَا، وَقد تقدم عِنْد قَوْلنَا: (إِن الْعلم
يَأْتِي بِمَعْنى الْمعرفَة) : أَن الْبرمَاوِيّ وَغَيره
استدلوا لذَلِك بآيَات كَثِيرَة أَن الْعلم من الله بِمَعْنى
الْمعرفَة، فليعاود، ومرادهم مَا قُلْنَا، وَيَأْتِي - أَيْضا
- وَاضحا فِي الفروق بَين الْعلم والمعرفة، وَنقل الْعلمَاء
أَيْضا.
وَمِمَّا اسْتشْكل على ذَلِك قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: / " تعرف إِلَى الله فِي الرخَاء يعرفك فِي
الشدَّة ".
(1/239)
وَأجَاب عَنهُ ابْن خطيب الدهشة وَغَيره:
(بِأَن هَذَا من بَاب الْمُقَابلَة، مثل: {ومكروا ومكر الله}
[آل عمرَان: 54] ، وَلَا يجوز أَن يُقَال لله ماكر إِلَّا من
بَاب الْمُقَابلَة، وَأَن المُرَاد هُنَا: تقرب من الله
تَعَالَى فِي الرخَاء يتَقرَّب مِنْك فِي الشدَّة) انْتهى.
(1/240)
قَوْله: {وَعلم الْمَخْلُوق مُحدث
ضَرُورِيّ، وَهُوَ مَا يعلم من غير نظر، ونظري عَكسه، قَالَه
فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد " [وَجمع] ، وَقَالَ
الْأَكْثَر: الضَّرُورِيّ مَا لَا يتقدمه تَصْدِيق يتَوَقَّف
عَلَيْهِ، والنظري بِخِلَافِهِ} .
علم الْمَخْلُوق مُحدث بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء، وَهُوَ
ضَرُورِيّ، ونظري، فالضروري: مَا يعلم من غير نظر، كتصورنا
معنى النَّار، وَأَنَّهَا حارة، وَمعنى الْوَاحِد، وَأَنه نصف
الِاثْنَيْنِ، وَنَحْوهمَا.
(1/241)
والنظري عَكسه، وَهُوَ: مَا لَا يعلم
إِلَّا بِنَظَر، قَالَه القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو
الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (وَقَوْلنَا: ضَرُورَة: مَا يلْزم
الْعلم بِهِ ضَرُورَة، وَلَا يُمكنهُ دَفعه فِي نَفسه بِحَال،
وَلَا يُمكنهُ إِدْخَال الشَّك فِيهِ) .
وَقَالَ الْأَكْثَر: (الضَّرُورِيّ: مَا لَا يتقدمه تَصْدِيق
يتَوَقَّف عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ طرفاه أَو أَحدهمَا
بِالْكَسْبِ، والنظري - وَيُسمى الْمَطْلُوب - بِخِلَافِهِ،
أَي: يطْلب بِالدَّلِيلِ) .
وَالَّذِي يظْهر أَن معنى الْقَوْلَيْنِ مُتَقَارب؛ فَإِن
الَّذِي لَا يتقدمه تَصْدِيق يتَوَقَّف عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي
يعلم من غير نظر، إِلَّا أَن قَول الْأَكْثَر أَعم، لدُخُول
مَا
(1/242)
إِذا كَانَ أَحدهمَا بِالْكَسْبِ أَو
كِلَاهُمَا كَذَلِك.
فَائِدَة: قَالَ أَبُو الْفرج فِي مُقَدّمَة " الْإِيضَاح "
فِي الْفِقْه: (حد الْعلم الضَّرُورِيّ فِي اللُّغَة: الْحمل
على الشَّيْء والإلجاء إِلَيْهِ، وَحده فِي الشَّرِيعَة: مَا
لزم نفس الْمُكَلف لُزُوما لَا يُمكنهُ الْخُرُوج عَنهُ،
وَقيل: مَا لم يجز وُرُود الشَّك عَلَيْهِ) .
قَوْله: { [الثَّالِثَة] : الْمعرفَة أخص من الْعلم [من حَيْثُ
أَنَّهَا] علم مستحدث، [أَو] انكشاف بعد لبس، [وأعم من حَيْثُ
إِنَّهَا يَقِين وَظن] ، وَقَالَ القَاضِي: مرادفته} .
الْمعرفَة أخص / من الْعلم من وَجه، وأعم من آخر، فبالنظر
إِلَى أَنَّهَا علم مستحدث فالعلم أَعم؛ لكَونه يكون مستحدثاً
وَغير مستحدث كعلم الله تَعَالَى، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قد قيل:
الْمعرفَة علم الشَّيْء من حَيْثُ تَفْصِيله، وَالْعلم
مُتَعَلق بالشَّيْء مُجملا ومفصلاً فَهُوَ أَعم.
(1/243)
أَيْضا الْمعرفَة قيل: أَنَّهَا لَا تكون
إِلَّا بعد جهل، [بِخِلَاف الْعلم فقد يكون بعد الْجَهْل]
كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا
تعلمُونَ شَيْئا} [النَّحْل: 78] ، وَيكون من غير جهل
كَالْعلمِ الْقَدِيم فَهُوَ أَعم، وَفِي الْحَقِيقَة هَذَا
كَالْأولِ. وبالنظر إِلَى أَن الْمعرفَة تَشْمَل اليقيني
والظني، وَالْعلم لليقيني، [فَهِيَ] أَعم.
وَقَوله: فَهِيَ علم مستحدث.
هَذَا أصل وَضعهَا فِي الْغَالِب، وَتقدم ذَلِك.
وَقيل: انكشاف بعد لبس، فَهُوَ قريب من الَّذِي قبله، إِلَّا
أَن الأول لم يكن حصل فِيهِ لبس، بل استحدث من غير لبس.
وَقد ذكر الْعلمَاء فروقاً كَثِيرَة غير ذَلِك بَين الْعلم
والمعرفة.
فَمِنْهَا: أَن الْمعرفَة مَا نسي ثمَّ ذكر، بِخِلَاف الْعلم
فَإِنَّهُ أَعم.
وَمِنْهَا: أَن الْمعرفَة تتَعَلَّق بالجزيئات، وَالْعلم
بالكليات.
(1/244)
[قَالَه] السُّهيْلي فِي " نتائج الْفِكر
"، وَنقل عَن ابْن سينا.
وَقيل: الْعلم مَا كَانَ بِدَلِيل، والمعرفة مَا كَانَ [فِيهِ]
الْإِدْرَاك أولياً بِلَا اسْتِدْلَال، ذكره ابْن الخشاب.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى من أَصْحَابنَا، والطوفي، وَجمع:
الْمعرفَة مرادفة للْعلم.
فَإِنَّمَا أَن يكون مُرَادهم غير علم الله تَعَالَى، وَإِمَّا
أَن يكون مُرَادهم بالمعرفة بِأَنَّهَا تطلق على الْقَدِيم
وَلَا تطلق على المستحدث، وَالْأول أولى.
(1/245)
والناقل عَن القَاضِي ابْن حمدَان فِي "
نِهَايَة المبتدئين ".
فَقَالَ: (والمعرفة كَالْعلمِ عِنْد القَاضِي، وَقيل: هِيَ
أَعم، لِأَنَّهَا [تَشْمَل] الْعلم، وَالظَّن، فَكل بشر عَالم
عَارِف، وَلَيْسَ كل عَارِف عَالما، فَإِن الْبَارِي عَالم
وَلَا يُوصف بِأَنَّهُ عَارِف) انْتهى.
قلت: قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (عَلمته أعلمهُ وعرفته،
هَكَذَا يفسرون الْعلم بالمعرفة، وَبِالْعَكْسِ، لتقارب
الْمَعْنيين، وَهُوَ أَن كل وَاحِد لَا يكون إِلَّا بعد سبق
الْجَهْل.
قَالَ الواحدي: (وَالْعلم يكون معرفَة لقَوْله تَعَالَى: /
{لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ} [الْأَنْفَال: 60] ، وَقد
قيل فِي الْفرق: إِن الْعلم يكون بِالسَّبَبِ، والمعرفة
بالجبلة، وَلِهَذَا تكون الْمعرفَة فِي الْبَهَائِم دون
الْعلم) .
وَفِي التَّنْزِيل: {مِمَّا عرفُوا من الْحق} [الْمَائِدَة:
83] أَي: علمُوا قَالَ زُهَيْر:
(1/246)
(وَأعلم علم الْيَوْم والأمس قبله ...
ولكنني عَن علم مَا فِي غَد عمي)
انْتهى، وَتقدم كَلَام النيلي.
قَوْله: {وَتطلق على مُجَرّد التَّصَوُّر فتقابل الْعلم} .
قد تقدم أَن الْعلم يُطلق على مُجَرّد التَّصْدِيق فَيشْمَل
اليقيني والظني.
وَتطلق الْمعرفَة على مُجَرّد التَّصَوُّر الَّذِي لَا حكم
مَعَه، فعلى هَذَا تكون الْمعرفَة قسيم الْعلم. وَقيل:
الْمعرفَة فِيمَا يكون مشعوراً بالحواس، وَالْعلم غير ذَلِك،
فَهُوَ مباين لَهَا، وَهَذَانِ فرقان - أَيْضا - بَين
الْمعرفَة وَالْعلم.
فتلخص أَن الْعلم والمعرفة، هَل بَينهمَا عُمُوم وخصوص من
وَجه، أَو مُتَرَادِفَانِ، أَو متباينان، أَو الْمعرفَة أَعم،
أَو عَكسه؟ فِيهِ أَقْوَال.
(1/247)
قَوْله: {فصل}
{مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي، إِمَّا أَن يحْتَمل مُتَعَلّقه
النقيض بِوَجْه، أَو لَا، وَالثَّانِي: الْعلم، وَالْأول:
إِمَّا أَن يحْتَمل النقيض عِنْد الذاكر لَو قدره، أَولا،
وَالثَّانِي: الِاعْتِقَاد، فَإِن طابق فَصَحِيح، وَإِلَّا
ففاسد، وَالْأول: الرَّاجِح مِنْهُ ظن، والمرجوح وهم، والمساوي
شكّ، وَعلم بذلك حُدُودهَا} .
اعْلَم أَن الذّكر الْحكمِي هُوَ الْكَلَام الخبري تخيله أَو
تلفظ بِهِ، فَإِذا قلت: زيد قَائِم، أَو لَيْسَ بقائم، فقد
ذكرت حكما، وَهُوَ الذّكر الْحكمِي، وَمَا عَنهُ الذّكر
الْحكمِي: هُوَ مَفْهُوم الْكَلَام الخبري.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (الذّكر الْحكمِي يُنبئ عَن أَمر
فِي نَفسك، من إِثْبَات أَو نفي، وَهُوَ مَا عَنهُ الذّكر
الْحكمِي) .
وَإِنَّمَا لم يَجْعَل الحكم مورد الْقِسْمَة؛ لِئَلَّا يلْزم
خُرُوج الْوَهم وَالشَّكّ عَن موردها عِنْد من منع مقارنتهما
للْحكم.
(1/248)
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَإِنَّمَا
جعل المورد مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي دون الِاعْتِقَاد أَو
الحكم، / ليتناول الشَّك وَالوهم مِمَّا لَا اعْتِقَاد وَلَا
حكم للذهن فِيهِ.
وَأَشَارَ بقوله: (لَو قدره) إِلَى أَن الظَّن اعْتِقَاد بسيط،
وَقد لَا يخْطر نقيضه بالبال، وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يكون
بِحَيْثُ لَو أخطر نقيضه بالبال لجوز، وَلَا يكون تَمْيِيزه
فِي الْقُوَّة بِحَدّ لَو قدر نقيضه لمَنعه) انْتهى.
قَوْله: ومتعلقه. أَي: مُتَعَلق مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي،
وَهُوَ النِّسْبَة الْوَاقِعَة بَين طرفِي الْخَبَر فِي
الذِّهْن، فَإِن الحكم يتَعَلَّق بهَا.
فَمَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي: إِمَّا أَن يحْتَمل مُتَعَلّقه
النقيض بِوَجْه من الْوُجُوه، سَوَاء كَانَ فِي الْخَارِج، أَو
عِنْد الذاكر، إِمَّا بتقديره بِنَفسِهِ، أَو بتشكيك مشكك
إِيَّاه، أَو لَا يحْتَمل أصلا وَالثَّانِي: الْعلم.
وَالْأول: إِمَّا أَن يحْتَمل عِنْد الذاكر بتقديره فِي نَفسه،
أَولا.
وَالثَّانِي: الِاعْتِقَاد، فَإِن طابق فَصَحِيح، وَإِلَّا
ففاسد.
وَالْأول: إِمَّا أَن يكون الْمُتَعَلّق راجحاً عِنْد الذاكر
على احْتِمَال النقيض وَهُوَ الظَّن، ويتفاوت حَتَّى يُقَال
غَلَبَة الظَّن، أَولا.
وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن يكون مرجوحاً، أَو لَا، وَالْأول:
الْوَهم.
(1/249)
وَالثَّانِي: الشَّك.
إِذا علم ذَلِك فالعلم قسيمه الِاعْتِقَاد الصَّحِيح
وَالْفَاسِد.
وَالظَّن قسيمه الشَّك وَالوهم.
وَقَوله: وَعلم بذلك حُدُودهَا.
وَذَلِكَ [لما] ذكر الْمُشْتَرك الَّذِي هُوَ كالجنس، وَهُوَ
مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي، وَقيد كل قسم بِمَا يميزه عَمَّا
عداهُ، كَانَ ذَلِك حدا لكل وَاحِد من الْأَقْسَام، لِأَن
الْحَد عِنْد الْأُصُولِيِّينَ، كل لفظ مركب يتَمَيَّز
الْمَاهِيّة عَن أغيارها سَوَاء كَانَ بالذاتيات أَو بالعرضيات
أَو بالمركب مِنْهُمَا. (فحد الْعلم: مَا عَنهُ ذكر حكمي لَا
يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض بِوَجْه، لَا فِي الْوَاقِع، وَلَا
عِنْد الذاكر، وَلَا بالتشكيك.
(1/250)
والاعتقاد الصَّحِيح: مَا عَنهُ ذكر حكمي
يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض عِنْد الذاكر بتشكيك مشكك إِيَّاه
فَقَط.
وَالْفَاسِد: مَا عَنهُ ذكر حكمي يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض
عِنْد الذاكر بتشكيك مشكك، وَلَا يحْتَمل النقيض بتقديره،
وَيكون غير مُطَابق للْوَاقِع. وَالظَّن: مَا عَنهُ ذكر حكمي
يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض عِنْد الذاكر بتقديره، مَعَ كَونه
راجحاً.
وَالوهم: مَا عَنهُ ذكر حكمي يحْتَمل مُتَعَلّقه / النقيض
عِنْد الذاكر بتقديره، مَعَ كَونه مرجوحاً.
وَالشَّكّ: مَا عَنهُ ذكر حكمي يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض،
مَعَ تَسَاوِي طَرفَيْهِ عِنْد الذاكر) وَالله أعلم.
قَوْله: {فَائِدَة: الِاعْتِقَاد الْفَاسِد: الْجَهْل الْمركب،
وَهُوَ: تصور
(1/251)
الشَّيْء على غير هَيئته} ، وَذَلِكَ أَن
حكم الْعقل بِأَمْر على أَمر جازم غير مُطَابق فِي الْخَارِج،
هُوَ الِاعْتِقَاد الْفَاسِد. وَيُسمى الْجَهْل الْمركب؛
لِأَنَّهُ مركب من عدم الْعلم بالشَّيْء، واعتقاد غير مُطَابق.
قَوْله: {وَالْجهل الْبَسِيط: عدم الْعلم} .
الْجَهْل الْبَسِيط: هُوَ انْتِفَاء إِدْرَاك الشَّيْء
بِالْكُلِّيَّةِ، بِحَيْثُ لَا يخْطر بالبال أصلا من الْقَابِل
للْعلم.
فَإِذا قيل لشخص: هَل تجوز الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ عِنْد عدم
المَاء؟
فَإِن قَالَ: لَا أعلم، كَانَ ذَلِك جهلا بسيطاً، وَإِن قَالَ:
لَا تجوز، كَانَ جهلا مركبا، لِأَنَّهُ مركب من عدم الْفتيا
بالحكم الصَّحِيح، وَمن الْفتيا بالحكم الْبَاطِل.
قَوْله: {وَمِنْه:} - أَي من الْجَهْل الْبَسِيط - {سَهْو
وغفلة ونسيان، بِمَعْنى وَاحِد، وَهِي: ذُهُول الْقلب عَن
مَعْلُوم، قَالَه فِي التَّمْهِيد فِي السَّهْو، وَقيل: لَا
يُسمى نِسْيَانا إِلَّا إِذا طَال} .
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (حد السَّهْو: ذُهُول الْقلب عَن
النّظر فِي الْمَعْلُوم) انْتهى.
وَقَوْلنَا: (وَهِي) ، عَائِد إِلَى السَّهْو والغفلة
وَالنِّسْيَان.
وَاعْلَم أَن الْجَهْل الْبَسِيط يَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام:
سَهْو، وغفلة،
(1/252)
ونسيان، وَغَيرهَا، وَذَلِكَ: إِن سبقه
إِدْرَاك ثمَّ زَالَ سمي سَهوا، وَإِلَّا فَلَا، وَالْأول: إِن
قصر فِيهِ زمَان [ذهَاب] الْإِدْرَاك اشْتهر تَسْمِيَته سَهوا،
وَيُسمى - أَيْضا - غَفلَة.
قَالَ الْجَوْهَرِي: (السَّهْو: الْغَفْلَة) .
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (سَهَا فِي الْأَمر: نَسيَه، وغفل
عَنهُ، وَذهب قلبه إِلَى غَيره، فَهُوَ ساه، وسهوان) .
وَقَالَ: (غفل عَنهُ غفولاً: تَركه وسها عَنهُ) انْتهى.
وَإِن طَال زَمَانه سمي مَعَ كَونه سَهوا نِسْيَانا، فَهُوَ
أخص من مُطلق السَّهْو، وَمُطلق السَّهْو أخص من مُطلق
الْجَهْل الْبَسِيط، وَهَذَا قَول جمَاعَة من الْعلمَاء،
وَهُوَ أحسن [مَا فرق بِهِ بَينهمَا] إِذا قيل: هما متباينان.
وَقيل: النسْيَان: عدم ذكر مَا / كَانَ مَذْكُورا، والسهو:
غَفلَة عَمَّا كَانَ مَذْكُورا وَعَما لم يكن مَذْكُورا، فعلى
هَذَا النسْيَان أخص من السَّهْو مُطلقًا، فَهُوَ بِاعْتِبَار
آخر غير الأول.
وَمِنْهُم من فرق بِغَيْر ذَلِك، قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ":
(فرقوا بَين الساهي وَالنَّاسِي: بِأَن النَّاسِي إِذا ذكر
تذكر، والساهي بِخِلَافِهِ) انْتهى.
(1/253)
وَذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى أَن
مَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ وَقد تقدم
كَلَامه فِي " الْقَامُوس ".
قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي " الْمَشَارِق ": (السَّهْو فِي
الصَّلَاة: النسْيَان فِيهَا) .
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْعُمْدَة ": (الْفرق
بَينهمَا من حَيْثُ اللُّغَة بعيد، وَهَذَا أظهر) انْتهى.
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: (والسهو: الْغَفْلَة عَن
الشَّيْء، وَذَهَاب الْقلب إِلَى غَيره، وَفرق بَعضهم بَين
السَّهْو وَالنِّسْيَان وَلَيْسَ بِشَيْء) انْتهى.
(1/254)
قَوْله: {فصل}
{الْعقل: مَا يحصل بِهِ الميز} .
قَالَه صَاحب " رَوْضَة الْفِقْه " من أَصْحَابنَا، وَهُوَ
شَامِل لأكْثر الْأَقْوَال الْآتِيَة.
وَعَن الإِمَام الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ:
آلَة التَّمْيِيز.
قَوْله: {وَهُوَ بعض الْعُلُوم الضرورية عِنْد أَصْحَابنَا
وَالْأَكْثَر، [وغريزة نصا] البربهاري: لَيْسَ بجوهر وَلَا عرض
وَلَا اكْتِسَاب، وَإِنَّمَا هُوَ
(1/255)
فضل من الله، [وظاهرهما: أَنه الْقُوَّة
المدركة لَا الْإِدْرَاك] ، التَّمِيمِي وَابْن حمدَان: نور
فِي الْقلب كَالْعلمِ، أَبُو الْفرج: قُوَّة يفصل بهَا بَين
حقائق المعلومات، الْأَشْعَرِيّ وَجمع: الْعلم، الفلاسفة:
اكْتِسَاب، المتكلمون: كل الْعُلُوم الضرورية، وَبَعْضهمْ:
جَوْهَر بسيط، وَبَعْضهمْ: مَادَّة وطبيعة، وَبَعْضهمْ: عرض
يُخَالف سَائِر الْأَعْرَاض والعلوم} .
(1/256)
اعْلَم أَن عُلَمَاء هَذِه الْأمة وَغَيرهم
اخْتلفُوا فِي مَاهِيَّة الْعقل اخْتِلَافا كثيرا بِحَيْثُ
إِنَّه لَا ينْحَصر.
وَقد ذهب بعض أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر إِلَى أَنه: بعض
الْعُلُوم الضرورية، يستعد بهَا لفهم دَقِيق الْعُلُوم، وتدبير
الصَّنَائِع الفكرية.
وَمِمَّنْ قَالَ بذلك من غير أَصْحَابنَا: القَاضِي أَبُو بكر
الباقلاني، وَابْن الصّباغ وسليم الرَّازِيّ.
فَخرجت الْعُلُوم الكسبية؛ لِأَن / الْعَاقِل يَتَّصِف
بِكَوْنِهِ عَاقِلا مَعَ انْتِفَاء الْعُلُوم النظرية.
وَإِنَّمَا قَالُوا: بعض الْعُلُوم الضرورية، لِأَنَّهُ لَو
كَانَ جَمِيعهَا لوَجَبَ أَن يكون الفاقد للْعلم بالمدركات
لعدم الْإِدْرَاك الْمُعَلق عَلَيْهَا غير عَاقل.
(1/257)
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ":
(وَمِمَّا يدل على أَنه لَيْسَ بِجَمِيعِ الْعُلُوم، لأَنا
نقُول: الْعلم يشْتَمل على ضَرُورِيّ ومكتسب، وَمَعْلُوم أَن
الْإِنْسَان إِذا لم يكْتَسب وَلم يفكر فِي الدَّلَائِل يُسمى
عَاقِلا، فَإِذا خرج مِنْهُ الْعلم المكتسب لم يبْق إِلَّا
أَنه علم ضَرُورِيّ، وَلَيْسَ بِجَمِيعِ الْعُلُوم الضرورية،
لِأَن الْإِنْسَان لَو عدم الْحَواس الْخمس مَعَ أَنَّهَا يحصل
بهَا علم ضَرُورِيّ، وَلَو عدمت يُسمى عَاقِلا وَيكون عَاقِلا،
وَلِهَذَا لَو قيل لَهُ مَا يضرّهُ وَمَا يَنْفَعهُ اخْتَار
مَا يَنْفَعهُ، وَعكس هَذَا الصَّبِي والبهيمة، فَإِنَّهُ يحصل
لَهُم علم ضَرُورِيّ مثل حسهم بالألم وَغير ذَلِك، وَمَعَ
هَذَا لَا يكونُونَ عقلاء، فَثَبت - أَيْضا - أَنه لَيْسَ
بِجَمِيعِ الْعُلُوم الضرورية إِنَّمَا هُوَ بَعْضهَا، مثل:
أَن يعلم الْإِنْسَان اسْتِحَالَة جمع الضدين، وَكَون الْجِسْم
الْوَاحِد لَيْسَ فِي مكانين، وَعلمه أَن الْوَاحِد أقل من
الِاثْنَيْنِ) انْتهى.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الْعقل غريزة) .
(1/258)
وَقَالَهُ الْحَارِث المحاسبي فَقَالَ:
(الْعقل غريزة يَتَأَتَّى بهَا إِدْرَاك الْعُلُوم) ، نَقله
عَنهُ فِي " الْبُرْهَان ".
قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (الْعقل غريزة، لَيْسَ
مكتسباً، بل خلقه الله تَعَالَى يُفَارق بِهِ الْإِنْسَان
الْبَهِيمَة، ويستعد بِهِ لقبُول الْعلم وتدبير الصَّنَائِع
الفكرية، فَكَأَنَّهُ نور يقذف فِي الْقلب كَالْعلمِ
الضَّرُورِيّ، وَالصبَا وَنَحْوه حجاب لَهُ) .
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: (إِنَّه غير مكتسب كالضروري) .
وَقَالَ الْحسن بن عَليّ البربهاري - من أَئِمَّة أَصْحَابنَا
-: (لَيْسَ بجوهر وَلَا عرض وَلَا اكْتِسَاب، وَإِنَّمَا هُوَ
فضل من الله تَعَالَى) .
(1/259)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هَذَا
يَقْتَضِي أَنه الْقُوَّة المدركة - كَمَا دلّ عَلَيْهِ كَلَام
أَحْمد - لَا الْإِدْرَاك) .
وَقَالَ التَّمِيمِي، وَابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين
": (هُوَ نور فِي الْقلب كَالْعلمِ) .
وَقَالَ أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ / فِي " مُقَدّمَة
الْإِيضَاح ": (الْعقل قُوَّة يفصل بهَا بَين حقائق المعلومات)
.
وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: هُوَ الْعلم، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذ
أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني عَن أهل الْحق، وَأَنَّهُمْ
قَالُوا بترادف الْعلم وَالْعقل.
وَقَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (وَالْحق أَنه
مُغَاير للْعلم، وَهُوَ قُوَّة يدْرك بهَا المغيبات، كَمَا
يدْرك بالبصر المشاهدات، وإطلاقه على الْعلم تسَامح، أَو
أُرِيد بِهِ مصدر عقل يعقل عقلا، فَإِنَّهُ بِمَعْنى الْعلم
(1/260)
والإدراك، وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ، بل
الْكَلَام فِي تِلْكَ الْقُوَّة المودعة الَّتِي لَا تنفك عَن
الْإِنْسَان نوماً وَلَا يقظة، وَقيل: هُوَ الضَّرُورِيّ من
الْعلم، وَقيل: نور فِي بدن الْإِنْسَان مثله كَمثل الشَّمْس
فِي ملكوت الأَرْض) انْتهى.
وَاخْتَارَ الْمَاوَرْدِيّ: (أَنه الْعلم بالمدركات الضرورية)
.
وَقَالَت الفلاسفة: (هُوَ اكْتِسَاب) .
وَقَالَ المتكلمون: (هُوَ كل الْعُلُوم الضرورية) ، وَتقدم
رده.
وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ جَوْهَر بسيط) .
وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ مَادَّة وطبيعة) .
وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ عرض مُخَالف لسَائِر الْأَعْرَاض
والعلوم) .
وَقَالَ بَعضهم: (مَا حسن مَعَه التَّكْلِيف) .
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (وَهَذِه الْأَقْوَال الْعشْرَة
مُتَقَارِبَة الْمَعْنى) .
(1/261)
وَلم يذكر مَا قَالَه الْأَشْعَرِيّ
والكوراني.
وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ شَيْء تدْرك بِهِ الْعُلُوم وَلَيْسَ
علما كالمرآة) .
وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ عُلُوم بديهية وكلية) .
وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ عُلُوم ضَرُورِيَّة) .
وَقَالَ بَعضهم: (ملكة تدْرك بهَا الْعُلُوم، وَالْمرَاد
بالملكة: هَيْئَة راسخة فِي النَّفس) .
وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ غريزي وضروري وهما نظريان، وتجربي ونظري
وهما مكتسبان.
وَلَيْسَ كل الْعُلُوم الضرورية، وَلَا مَا حصل بالحواس
الْخمس، وَلَا الْعلم بِحسن الْحسن وَلَا بقبح الْقَبِيح) .
قلت: الْعقل وَالروح شَيْئَانِ لَا يطلع على كنه حقيقتهما
إِلَّا الله تَعَالَى.
{وَمحله الْقلب عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة،
والأطباء، وَله اتِّصَال بالدماغ، قَالَه التَّمِيمِي،
وَغَيره} .
(1/262)
[قَالَ] ابْن الْأَعرَابِي / وَغَيره:
الْعقل الْقلب، وَالْقلب الْعقل ,
وَاسْتدلَّ لذَلِك بقوله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن
كَانَ لَهُ قلب} [ق: 37] ، أَي عقل، فَعبر بِالْقَلْبِ عَن
الْعقل؛ لِأَنَّهُ مَحَله، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أفلم
يَسِيرُوا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا}
[الْحَج: 46] ، فَجعل الْعقل فِي الْقلب، وَبِقَوْلِهِ:
{فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب
الَّتِي فِي الصُّدُور} [الْحَج: 46] ، أَي: يتغطى على الْعقل
الَّذِي فِي الصَّدْر.
(1/263)
فالفقه والفهم والمعرفة وَهَذِه
الْأَشْيَاء هِيَ: الْعقل.
وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
أَلا إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله،
أَلا وَهِي الْقلب) .
وَقد دللنا - أَيْضا - على أَن الْعقل بعضالعلوم الضرورية،
والعلوم الضرورية لَا تكون إِلَّا فِي الْقلب، وَمَعَ هَذَا
لَهُ اتِّصَال بالدماغ، قَالَه التَّمِيمِي من أَصْحَابنَا،
وَغَيره من الْأَصْحَاب، وَغَيرهم.
قَوْله: {وَالْمَشْهُور عِنْد أَحْمد: [فِي] الدِّمَاغ،
وَقَالَهُ الطوفي، وَالْحَنَفِيَّة، والفلاسفة، وَقيل: إِن
قُلْنَا جَوْهَر وَإِلَّا فِي الْقلب، وَقيل: فِي كل الْبدن} .
الْمَشْهُور عَن الإِمَام أَحْمد: (أَن الْعقل فِي الدِّمَاغ)
نَقله ابْن حمدَان، لَكِن
(1/264)
أَكثر الْأَصْحَاب قطعُوا عَن أَحْمد: (فِي
الدِّمَاغ) وَلم يحكوا عَنهُ فِيهِ خلافًا، [وَهَذَا] القَوْل
اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا الطوفي، وَالْحَنَفِيَّة،
والفلاسفة.
وَاحْتَجُّوا لَهُ: بِأَن الْعُقَلَاء تراهم يضيفون الْعقل
إِلَى الرَّأْس، فَيَقُولُونَ: هَذَا ثقيل الرَّأْس، وَهَذَا
فِي دماغه عقل، وَعكس هَذَا يَقُولُونَ: هَذَا فارغ الدِّمَاغ،
وَهَذَا فِيمَا رَأسه دماغه عقل.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا: بِأَنَّهُ إِذا ضرب على رَأسه يَزُول
عقله، وَلَو ضرب على جَمِيع بدنه لم يزل عقله.
ورد: بِأَن الضَّرْب على غَيره يزِيل الْعقل أَيْضا.
وَقيل: إِن قُلْنَا: الْعقل جَوْهَر كَانَ فِي الرَّأْس،
وَإِلَّا كَانَ فِي الْقلب.
وَقيل: هُوَ فِي كل الْبدن، حَكَاهُ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع
".
وَقَالَ / ابْن السُّبْكِيّ فِي " قَوَاعِده ": (وَقيل: لكل
حاسة مِنْهُ نصيب) .
(1/265)
قَالَ الْأُسْتَاذ: (وَهُوَ أحد قولي
الْأَشْعَرِيّ) .
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ فِي بَاب أَسْنَان
إبل الْخَطَأ: (نقطع بِأَن الْعقل لَيْسَ مَحَله الْيَدَيْنِ)
. وَذكر - أَيْضا - فِي النِّهَايَة فِي الْبَاب الْمَذْكُور:
(أَنه لم يتَعَيَّن للشَّافِعِيّ مَحَله) .
تَنْبِيه: مَا نَقَلْنَاهُ عَن الْأَطِبَّاء، وَعَن الفلاسفة،
تابعنا فِيهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَالَّذِي قطع
بِهِ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " عَن الطَّائِفَتَيْنِ
خلاف ذَلِك، وَلَعَلَّه الْحق، فَليُحرر ذَلِك من خَارج.
قَوْله: {قَالَ الْأَصْحَاب: الْعقل يخْتَلف، فعقل بعض النَّاس
أَكثر} .
(1/266)
هَذَا الصَّحِيح؛ لِأَن كَمَال الشَّيْء
ونقصه يعرف بِكَمَال آثاره وأفعاله ونقصها، وَنحن نشاهد قطعا
تفَاوت آثَار الْعُقُول فِي الآراء وَالْحكم والحيل وَغَيرهَا،
وَذَلِكَ يدل على تفَاوت الْعُقُول فِي نَفسهَا، وَأجْمع
الْعُقَلَاء على صِحَة قَول الْقَائِل: فلَان أَعقل من فلَان،
أَو أكمل عقلا، وَذَلِكَ يدل على مَا قُلْنَا.
وَلِحَدِيث أبي سعيد أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ للنِّسَاء: " أَلَيْسَ شَهَادَة إحداكن مثل
[نصف شَهَادَة] الرجل؟ " قُلْنَ: بلَى، قَالَ: " فَذَلِك من
نُقْصَان عقلهَا ". { [وَخَالف ابْن] عقيل، والأشعرية،
والمعتزلة، [وَقَالَهُ] الْمَاوَرْدِيّ فِي الغريزي لَا
التجربي، وَحمل الطوفي الْخلاف على ذَلِك} .
(1/267)
قَالَ ابْن عقيل، والأشاعرة، والمعتزلة:
الْعقل لَا يخْتَلف؛ لِأَن الْعقل حجَّة عَامَّة يرجع
إِلَيْهَا النَّاس عِنْد اخْتلَافهمْ، وَلَو تفاوتت الْعُقُول
لما كَانَ كَذَلِك.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي: (الغريزي لَا
يخْتَلف والتجربي يخْتَلف) .
وَحمل الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره " الْخلاف على ذَلِك فَقَالَ
بعد أَن ذكر دَلِيل الْقَوْلَيْنِ: (وَهَذَا يَقْتَضِي أَن
النزاع [لَيْسَ مورده وَاحِدًا] ، وَوجه الْجمع بَين
الْقَوْلَيْنِ: أَن الْعقل على ضَرْبَيْنِ: طبيعي وَهُوَ
الَّذِي لَا يتَفَاوَت [عِنْد] الْعُقَلَاء، وكسبي تجربي
وَهُوَ الَّذِي يتفاوتون / فِيهِ، وَقد جَاءَ عَن عَليّ -
رَضِي الله عَنهُ -: (أَن الْعقل الطبيعي يتناهى إِلَى سبع
وَعشْرين سنة، والتجربي لَا يتناهى إِلَّا بِالْمَوْتِ) .
(1/268)
وَقيل: ضعفه وقوته بِحَسب شكله ومزاجه.
قَوْله: {فَائِدَة: قَالَ القَاضِي: الإحساس وَمَا يدْرك
بالحواس لَا يخْتَلف، [بِخِلَاف مَا يدْرك بِالْعقلِ] ،
وَقَالَ الشَّيْخ: يخْتَلف} .
قَالَ القَاضِي (الإحساس وَمَا يدْرك بالحواس لَا يخْتَلف،
بِخِلَاف مَا يدْرك بِالْعقلِ، فَإِنَّهُ يخْتَلف مَا يدْرك
بِهِ وَهُوَ التَّمْيِيز والفكر، فَلهَذَا يخْتَلف) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (يلْزم مِنْهُ: أَن الْعلم
الْحسي لَيْسَ من الْعقل) .
قَالَ: وَلنَا فِي الْمعرفَة الإيمانية فِي الْقلب هَل تزيد
وتنقص؟ رِوَايَتَانِ، فَإِذا قيل: (إِن النظري لَا يخْتَلف) ،
فالضروري أولى.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة من جنس مَسْأَلَة الْإِيمَان، وَأَن
الأصوب: أَن القوى الَّتِي هِيَ الإحساس وَسَائِر الْعُلُوم
والقوى تخْتَلف) انْتهى.
وَتقدم هَل يتَفَاوَت الْعلم أَو لَا؟
(1/269)
قَوْله: {فصل}
{الْحَد لُغَة: الْمَنْع، وَاصْطِلَاحا: الْوَصْف الْمُحِيط
بِمَعْنَاهُ الْمُمَيز لَهُ عَن غَيره} .
الْحَد لَهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي
الِاصْطِلَاح.
فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة: الْمَنْع، وَلذَلِك سمي البواب
حداداً؛ لِأَنَّهُ يمْنَع من دُخُول الدَّار، وَسمي السجان
حداداً؛ لمَنعه المعتقل من الْخُرُوج من السجْن، وَسميت
الْحُدُود حدوداً، لِأَنَّهَا تمنع من الْعود، وَمِنْه: إحداد
الْمَرْأَة فِي عدتهَا لِأَنَّهَا مَمْنُوعَة من الطّيب
والزينة، وَسمي الْحَدِيد حديداً؛ لما فِيهِ من الْمَنْع
(1/270)
لِامْتِنَاع حامله، ولابسه، وَسمي
التَّعْرِيف حدا؛ لمَنعه الدَّاخِل من الْخُرُوج، وَالْخَارِج
من الدُّخُول.
وَمَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاح - أَي: حَده فِي الِاصْطِلَاح -:
(الْوَصْف الْمُحِيط بِمَعْنَاهُ، الْمُمَيز لَهُ عَن غَيره) .
قَالَه العسقالني سارح الطوفي. قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي
" شرح الْمُخْتَصر ": (الْحَد عَن الْأُصُولِيِّينَ مَا يمييز
الشَّيْء عَن غَيره) قَالَ الْغَزالِيّ: (قيل: حد الشَّيْء
نَفسه وذاته، وَقيل: هُوَ اللَّفْظ الْمُفَسّر لمعناه على وَجه
يجمع وَيمْنَع) انْتهى.
وَقيل: (هُوَ شرح مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ بطرِيق
الْإِجْمَال) .
وَقدم فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (أَنه قَول يكْشف حَقِيقَة
الْمَحْدُود) وَذكر ثَمَانِيَة / أَقْوَال فِيهِ.
قَوْله: {وَهُوَ أصل كل علم، قَالَه الْفَخر} .
قَالَ الْفَخر إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ - من
أَصْحَابنَا -: (الْحَد على الْحَقِيقَة أصل كل علم، فَمن لَا
يُحِيط بِهِ علما لَا ثِقَة لَهُ بِمَا عِنْده) . انْتهى.
(1/271)
وَقَالَهُ غَيره، وَهُوَ صَحِيح.
قَوْله: {شَرطه: أَن يكون مطرداً، وَهُوَ الْمَانِع: كلما وجد
الْحَد وجد الْمَحْدُود، منعكساً، وَهُوَ الْجَامِع: كلما وجد
الْمَحْدُود وجد الْحَد، وَيلْزمهُ: كلما انْتَفَى الْحَد
انْتَفَى الْمَحْدُود} .
وَحَقِيقَة الانعكاس هُنَا: كلما وجد الْمَحْدُود وجد الْحَد،
فَإِنَّهُ عكس الاطراد، وَهُوَ: كلما وجد الْحَد وجد
الْمَحْدُود، وَيلْزمهُ: كلما انْتَفَى الْحَد انْتَفَى
الْمَحْدُود، فَإِنَّهُ إِذا وجد الْمَحْدُود وجد الْحَد،
فَإِذا انْتَفَى انْتَفَى، صرح بِهِ القَاضِي عضد الدّين،
وَغَيره، وَهُوَ وَاضح.
وَفَسرهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره بلازمه، فَقَالَ: (المنعكس
كلما انْتَفَى الْحَد انْتَفَى الْمَحْدُود) ، وَالتَّحْقِيق
الأول.
وَتجب مُسَاوَاة الْحَد للمحدود، لِأَنَّهُ إِن كَانَ أَعم
فَلَا دلَالَة لَهُ على الْأَخَص، وَلَا يُفِيد التَّمْيِيز،
وَإِن كَانَ أخص، فَلِأَنَّهُ أخْفى، لِأَنَّهُ أقل وجودا
مِنْهُ.
(1/272)
وَكَون الْمَانِع تَفْسِيرا للمطرد،
وَالْجَامِع تَفْسِيرا للمنعكس - كَمَا قُلْنَا - هُوَ
الصَّحِيح عِنْدهم، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا.
{وَعكس الْقَرَافِيّ، وَغَيره} .
وَهُوَ: أَبُو عَليّ التَّمِيمِي فِي " التَّذْكِرَة " فِي
أصُول الدّين، والطوفي فِي " شَرحه "، فَقَالُوا: (كَونه
مطرداً هُوَ الْجَامِع، وَكَونه منعكساً هُوَ الْمَانِع) .
قَوْله: {وَقيل: وَلَو مجَازًا ومشتركاً بِقَرِينَة} .
(1/273)
قَالَ الْأَكْثَر: لَا يجوز أَن يدْخل لفظ
الْحَد الْمجَاز، وَقَالَ الْغَزالِيّ: يجوز إِذا عرف
بالقرائن؛ لحُصُول الْبَيَان بهَا.
وَكَذَا لَا يجوز أَن يدْخل لفظ الْحَد الْمُشْتَرك عِنْد
الْأَكْثَر، وَاخْتَارَ الْقَرَافِيّ الْجَوَاز إِذا وجدت
قَرَائِن تدل عَلَيْهِ، وَمَا هما بِبَعِيد.
(1/274)
قَوْله: { [وَهُوَ حَقِيقِيّ تَامّ] : إِن
أنبأ عَن ذاتيات الْمَحْدُود الْكُلية المركبة / لَهُ حد
وَاحِد، وناقص: إِن كَانَ بفصل [قريب] أَو مَعَه جنس بعيد،
[ورسمي: إِن أنبأ عَنهُ بِلَازِم لَهُ، تَامّ، وناقص، [ولفظي:
إِن أنبأ عَنهُ بمرادف أظهر] } .
الْحَد يَنْقَسِم إِلَى خَمْسَة أَقسَام: أَحدهَا: حَقِيقِيّ
تَامّ - وَهُوَ الأَصْل - وَذَلِكَ إِن أنبأ عَن ذاتيات
الْمَحْدُود الْكُلية المركبة، كَقَوْلِنَا: مَا الْإِنْسَان؟
(1/275)
فَيُقَال: حَيَوَان نَاطِق، وَهَذَا وَشبهه
لَيْسَ لَهُ إِلَّا حد وَاحِد؛ لِأَن ذَات الشَّيْء لَا يكون
لَهُ حدان.
لَا يُقَال: جَمِيع ذاتيات الشَّيْء عين الشَّيْء، وَالشَّيْء
لَا يُفَسر نَفسه؟
لأَنا نقُول: دلَالَة الْمَحْدُود من حَيْثُ الْإِجْمَال،
وَدلَالَة الْحَد من حَيْثُ التَّفْصِيل، فَلَيْسَ عينه من كل
وَجه، فصح تَعْرِيفه بِهِ، وَلذَلِك لم يَجْعَل اللفظان
مترادفين - على الْمُرَجح، على مَا يَأْتِي - إِلَّا إِذا
كَانَ الْحَد لفظياً.
الثَّانِي: حَقِيقِيّ نَاقص لَهُ صُورَتَانِ:
الأولى: أَن يكون بفصل قريب فَقَط، كَقَوْلِنَا: مَا
الْإِنْسَان؟ فَيُقَال: النَّاطِق.
الثَّانِيَة: أَن يكون بفصل قريب مَعَ جنس بعيد، كَقَوْلِنَا
فِي جَوَاب مَا الْإِنْسَان؟ جسم نَاطِق.
الثَّالِث: رسمي تَامّ.
(1/276)
الرَّابِع: رسمي نَاقص.
وَذَلِكَ إِن أنبأ بِلَازِم مُخْتَصّ بِهِ؟
فالتام مِنْهُ: أَن يُؤْتى بذلك اللَّازِم مَعَ الْجِنْس
الْقَرِيب، ك (الْإِنْسَان حَيَوَان ضَاحِك) .
والناقص مِنْهُ: أَن يُؤْتِي بِتِلْكَ الْخَاصَّة وَحدهَا، أَو
مَعَ الْجِنْس الْبعيد، وَله صُورَتَانِ أَيْضا، كالإنسان
ضَاحِك، أَو جسم ضَاحِك.
الْخَامِس: اللَّفْظِيّ: أَن يُؤْتى بِلَفْظ مرادف لَكِن هُوَ
أشهر عِنْد السَّامع من الْمَحْدُود، كَقَوْلِه: مَا الخندريس؟
فَيُقَال: الْخمر أَو نَحْو ذَلِك.
قَوْله: {وَيرد عَلَيْهِ: النَّقْض، والمعارضة} .
يرد على الْحَد: النَّقْض، والمعارضة، عِنْد الْأَكْثَر.
(1/277)
قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح
": (فَإِن قلت: إِذا لم يُطَالب على صِحَة الْحَد بِالدَّلِيلِ
وَنحن نعتقد بُطْلَانه، فَكيف الْحِيلَة فِي ذَلِك؟
قلت: الطَّرِيق فِي ذَلِك أَمْرَانِ، أَحدهمَا: النقيض، كَمَا
لَو قَالَ: الْإِنْسَان عبارَة عَن الْحَيَوَان، فَيُقَال:
ينْتَقض عَلَيْك بالفرس، فَإِنَّهُ حَيَوَان مَعَ أَنه لَيْسَ
بِإِنْسَان.
وَثَانِيهمَا: الْمُعَارضَة كَمَا لَو قَالَ: الْغَاصِب من
الْغَاصِب / يضمن لِأَنَّهُ غَاصِب، أَو ولد الْمَغْصُوب
مَضْمُون لِأَنَّهُ مَغْصُوب، لِأَن حد الْغَاصِب: من وضع يَده
بِغَيْر حق، وَهَذَا وضع يَده بِغَيْر حق، فَيكون غَاصبا.
فَيَقُول الْخصم: أعارض هَذَا الْحَد بِحَدّ آخر، وَهُوَ: أَن
حد الْغَاصِب من رفع الْيَد المحقة وَوضع الْيَد المبطلة،
وَهَذَا لم يرفع الْيَد المحقة فَلَا يكون غَاصبا) انْتهى.
فقد ورد عَلَيْهِ النَّقْض والمعارضة.
وَقيل: لَا تقبل الْمُعَارضَة فِيهِ؛ لشعورها بِصِحَّة
الْمعَارض، وَلَيْسَ لوَاحِد حدان، فأحدهما حق، وَلم يبْق سوى
النَّقْض.
قَوْله: {لَا الْمَنْع فِي الْأَصَح} .
يَعْنِي: أَن الْمَنْع هَل يرد على الْحَد أم لَا؟ فِيهِ
قَولَانِ.
(1/278)
أَحدهمَا: يرد، لِأَن الْحَد دَعْوَى
فَيمْنَع كَغَيْرِهِ، وَالأَصَح عدم الْوُرُود، وَمَا قيل
بِالْجَوَازِ فخطأ، لعدم الْفَائِدَة غَالِبا، وَلِهَذَا لَا
يجوز منع النَّقْل لتكذيب النَّاقِل وَبعده من الْفَائِدَة،
وَلِأَنَّهُ لَا يُمكن إثْبَاته إِلَّا بالبرهان، وهما
[مقدمتان] كل مِنْهُمَا مفردان، فطالب الْحَد يطْلب تصور كل
مُفْرد، فَإِذا أَتَى المسؤول بحده وَمنع، احْتَاجَ فِي
إثْبَاته إِلَى مثل الأول، وتسلسل، ثمَّ الجدل اصْطِلَاح يجب
الرُّجُوع إِلَى أربابه.
(1/279)
قَوْله: {فصل}
أَي: فِي اللُّغَة، قد سبق أَن أصُول الْفِقْه يستمد من
اللُّغَة، وَذَلِكَ لما كَانَ الِاسْتِدْلَال من الْكتاب
وَالسّنة اللَّذين هما أصل الْإِجْمَاع بل وأصل الْقيَاس
مُحْتَاجا إِلَى معرفَة اللُّغَة - الَّتِي لَا تعرف دلالتهما
إِلَّا بمعرفتها؛ لِأَنَّهُمَا عربيان، وَفهم معانيهما
مُتَوَقف على معرفَة لُغَة الْعَرَب، بل هما أفْصح الْكَلَام
الْعَرَبِيّ - احْتِيجَ إِلَى مَعْرفَتهَا.
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قرءاناً عَرَبيا}
[يُوسُف: 2] ، {وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين} [النَّحْل:
103] ، {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه}
[إِبْرَاهِيم: 4] ، وَغير ذَلِك من الْآيَات.
فَإِن قيل: من سبق نَبينَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْأَنْبِيَاء الْمُرْسلين، /
إِنَّمَا كَانَ مَبْعُوثًا لِقَوْمِهِ خَاصَّة، فَهُوَ
مَبْعُوث بلسانهم، وَمُحَمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - مَبْعُوث لجَمِيع الْخلق، فَلم لم يبْعَث
بِجَمِيعِ الْأَلْسِنَة، وَلم يبْعَث إِلَّا بِلِسَان بَعضهم
وهم الْعَرَب؟
فَالْجَوَاب: أَنه لَو بعث بِلِسَان جَمِيعهم كَانَ كَلَامه
خَارِجا عَن الْمَعْهُود، وَيبعد بل يَسْتَحِيل أَن ترد كل
كلمة من الْقُرْآن مكررة بِكُل الْأَلْسِنَة، فَتعين الْبَعْض،
وَكَانَ لِسَان الْعَرَب أَحَق؛ لِأَنَّهُ أوسع وأفصح،
وَلِأَنَّهُ لِسَان المخاطبين وَإِن كَانَ الحكم عَلَيْهِم
وعَلى غَيرهم، كَذَا قرر
(1/280)
ابْن السَّمْعَانِيّ السُّؤَال
وَالْجَوَاب، وَهُوَ حسن.
قَوْله: {سَبَب اللُّغَة حَاجَة النَّاس [إِلَيْهَا] ،
ولخفتها، وَكَثْرَة فائدتها} .
وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى لما خلق النَّوْع الإنساني وَجعله
مُحْتَاجا لأمور لَا يسْتَقلّ بهَا، بل يحْتَاج فِيهَا إِلَى
المعاونة، ولابد للمعاون من الإطلاع على مَا فِي [نفس]
الْمُحْتَاج بِشَيْء يدل، وَذَلِكَ إِمَّا لفظ أَو إِشَارَة
أَو كِتَابَة أَو مِثَال أَو نَحوه، وَكَانَ اللَّفْظ أَكثر
إِفَادَة وأيسر.
فَأَما كَونه أَكثر إِفَادَة؛ فَلِأَن اللَّفْظ يَقع على
الْمَعْدُوم وَالْمَوْجُود وَالْغَائِب والحاضر الْحسي
والمعنوي، وَلَا شَيْء من [الْبَاقِي] يستوعب ذَلِك.
(1/281)
وَأما كَونه أيسر؛ فَلِأَنَّهُ مُوَافق
لِلْأَمْرِ الطبيعي؛ لِأَن الْحُرُوف كيفيات تعرض للنَّفس
الضَّرُورِيّ؟
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: (وَإِنَّمَا كَانَ نوع الْإِنْسَان
أَكثر حَاجَة من جَمِيع الْحَيَوَانَات، لِأَن غَيره قد
يسْتَقلّ بِنَفسِهِ عَن جنسه، وَأما الْإِنْسَان فمطبوع على
الافتقار إِلَى جنسه فِي الِاسْتِعَانَة، فَهُوَ صفة لَازِمَة
لطبعه، وخلقة قَائِمَة فِي جوهره) .
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (سَبَب وجودهَا: حَاجَة
الْإِنْسَان، ليعرف بَعضهم مُرَاد بعض، للتساعد والتعاضد بِمَا
لَا مُؤنَة فِيهِ، لخفتها وَكَثْرَة فائدتها، وَلَا مَحْذُور)
.
وَهَذِه من نعم الله تَعَالَى / على عباده، فَمن تَمام نعمه
علينا أَن جعل ذَلِك بالنطق دون غَيره.
قَوْله: {وَهِي: أَلْفَاظ وضعت لمعان} .
أَي: اللُّغَة أَلْفَاظ، وَقَوله: (أَلْفَاظ) يَشْمَل
الْمَوْضُوع والمهمل.
وَقَوله (وضعت لمعان) ليخرج المهمل؛ لِأَنَّهُ لم يوضع
لِمَعْنى، وَيَأْتِي قَرِيبا أَنه مَوْجُود، وَلَكِن لم تضعه
الْعَرَب قطعا.
(1/282)
قَوْله: {فَمَا احتاجه [الْإِنْسَان] لم
تخل من لفظ لَهُ} .
قد تقرر الِاحْتِيَاج إِلَى الْوَضع، فَكلما اشتدت الْحَاجة
إِلَيْهِ افْتقر إِلَى مَا يوضع لَهُ، فَلَا بُد لَهُم من
وَضعه.
قَوْله: {وَالظَّاهِر عدم خلوها مِمَّا كثرت حَاجته، وَعَكسه
[فيهمَا] يجوز [خلوها] } .
الظَّاهِر من اسْتِعْمَال الْعَرَب: عدم خلو اللُّغَة مِمَّا
كثرت الْحَاجة إِلَيْهِ، قَالَه الْعلمَاء، وَهُوَ وَاضح، لَا
سِيمَا وَهِي أوسع اللُّغَات وأفصحها.
وَعَكسه فيهمَا، يجوز خلوها عَنهُ، يَعْنِي: أَن مَا لَا
يحْتَاج أَلْبَتَّة، أَو يحْتَاج إِلَيْهِ فِي النَّادِر، يجوز
خلوها مِنْهُ، وَلَيْسَ بممتنع.
قَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (مَا احْتَاجَ النَّاس
إِلَيْهِ لم تخل اللُّغَة من لفظ يفِيدهُ، وَمَا لم يحتاجوا
إِلَيْهِ يجوز خلوها عَمَّا يدل عَلَيْهِ، وَمَا دعت الْحَاجة
إِلَيْهِ غَالِبا فَالظَّاهِر عدم خلوها عَنهُ، وَعَكسه بعكسه)
انْتهى.
وَحَاصِله: أَن مَعنا أَرْبَعَة أَقسَام:
أَحدهَا: احتاجه النَّاس واضطروا إِلَيْهِ، فَلَا بُد لَهُم من
وَضعه.
الثَّانِي: عَكسه، مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ أَلْبَتَّة، يجوز
خلوها، وخلوها - وَالله أعلم - أَكثر.
(1/283)
الثَّالِث: مَا كثرت الْحَاجة إِلَيْهِ
الظَّاهِر عدم خلوها، بل هُوَ كالمقطوع بِهِ.
الرَّابِع: عَكسه، مَا قلت الْحَاجة [إِلَيْهِ] ، يجوز خلوها
مِنْهُ، وَلَيْسَ بممتنع.
قَوْله: {فالصوت: عرض مسموع} .
شرعنا فِي تَبْيِين الملفوظ بِهِ، فَأول مَا يلفظ بِهِ
الصَّوْت، ورسمه: عرض مسموع يحصل عِنْد اصطكاك الأجرام،
وَسَببه: انضغاط / الْهَوَاء بَين الجرمين، فيتموج تموجاً
شَدِيدا، فَيخرج، فيقرع صماخ الآذان، فَتُدْرِكهُ قُوَّة
السّمع، وَلِهَذَا تخْتَلف الْأَصْوَات فِي الظُّهُور والخفاء؛
لاخْتِلَاف الْأَجْسَام المتصاككة فِي الصلابة والرخاوة، فصوت
الْمُتَكَلّم: عرض حَاصِل عَن
(1/284)
اصطكاك أجرام الْفَم - وَهِي مخارج
الْحُرُوف - وَرفع النَّفس للهواء حَتَّى أذن السَّامع متكيفاً
بِصُورَة كَلَام الْمُتَكَلّم.
وَقَوْلنَا: (الصَّوْت عرض) ، هُوَ جنس يتَنَاوَل جَمِيع
الْأَعْرَاض الحيوانية وَغَيرهَا، كالحركات، والألوان والطعوم.
وَقَوْلنَا: (مسموع) ، خرج جَمِيعهَا إِلَّا الْعرض الَّذِي
يدْرك بِالسَّمْعِ وَهُوَ الصَّوْت، وَإِنَّمَا بدأنا بالصوت؛
لِأَنَّهُ الْجِنْس الْأَعْلَى للْكَلَام الَّذِي نَحن بصدد
الْكَلَام عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَاللَّفْظ: صَوت مُعْتَمد على بعض مخارج الْحُرُوف}
.
اللَّفْظ لُغَة: الرَّمْي، يُقَال: لفظت النواة: إِذا رميتها،
ولفظت النخامة: إِذا نفثتها من فِيك، ثمَّ سمي بِهِ الصَّوْت
الْمُعْتَمد على مخرج الْحُرُوف؛ لِأَن الصَّوْت لِخُرُوجِهِ
من الْفَم صَار كالجوهر الملفوظ الْملقى، فَهُوَ ملفوظ
حَقِيقَة أَو مجَازًا فإطلاق اللَّفْظ عَلَيْهِ من بَاب
تَسْمِيَة الْمَفْعُول باسم الْمصدر، كَقَوْلِهِم: نسج الْيمن،
وَهَذَا الدِّرْهَم ضرب الْأَمِير، أَي: منسوج الْيمن، ومضروب
الْأَمِير.
إِذا عرفت ذَلِك؛ فاللفظ الاصطلاحي نوع للصوت؛ لِأَنَّهُ صَوت
مَخْصُوص؛ وَلِهَذَا أَخذ الصَّوْت فِي حد اللَّفْظ؛
وَإِنَّمَا يُؤْخَذ فِي الشَّيْء جنس ذَلِك الشَّيْء.
(1/285)
وَالْمرَاد بالمخرج: الْقدر الْمُشْتَرك
بَين الْمخْرج الْوَاحِد وَجَمِيع المخارج، وَهُوَ بعض
المخارج.
فَلَو قيل: (اللَّفْظ صَوت مُعْتَمد على بعض مخارج الْحُرُوف)
كَانَ أَجود وَأبين، قَالَه الطوفي فِي " شَرحه "؛ لِأَنَّهُ
قَالَ فِي الْمَتْن: (اللَّفْظ صَوت مُعْتَمد على مخرج من
مخارج الْحُرُوف) . /
فَلهَذَا قُلْنَا ذَلِك فِي الْمَتْن.
قَوْله: { [وَالْقَوْل: لفظ] وضع لِمَعْنى [ذهني، وَقَالَ
الشِّيرَازِيّ، وَابْن مَالك: لخارجي] ، والسبكي: للمعنى من
حَيْثُ هُوَ} .
تقدم الْكَلَام على الصَّوْت، وَهُوَ أَعم من اللَّفْظ، وعَلى
اللَّفْظ، وَهُوَ أَعم من القَوْل.
وَالْقَوْل فِي اللُّغَة: مصدر قَالَ يَقُول قولا، إِذا نطق،
ثمَّ نقل اصْطِلَاحا إِلَى الْمَقُول من اللَّفْظ
الْمُسْتَعْمل.
فَالْقَوْل فِي الِاصْطِلَاح: هُوَ اللَّفْظ الْمَوْضُوع
لِمَعْنى.
(1/286)
وَإِنَّمَا قُلْنَا: (لِمَعْنى) ليخرج
اللَّفْظ المهمل، فاللفظ أَعم من القَوْل - كَمَا تقدم -
مُطلقًا عِنْد الْأَكْثَر، وَقطع بِهِ أَكثر الْأُصُولِيِّينَ.
وَذهب بعض النُّحَاة إِلَى أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ، ذكره
الْمرَادِي فِي " شرح ألفية ابْن مَالك "، فيستعمل القَوْل فِي
المهمل - أَيْضا - على هَذَا.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي القَوْل إِذا وضع لِمَعْنى، هَل
هُوَ مَوْضُوع للمعنى الذهْنِي - وَهُوَ مَا يتصوره الْعقل -
سَوَاء طابق فِي الْخَارِج أَو لَا، أَو للمعنى الْخَارِجِي،
أَي: الْمَوْجُود فِي الْخَارِج، أَو للمعنى من حَيْثُ هُوَ من
غير مُلَاحظَة كَونه فِي الذِّهْن أَو فِي الْخَارِج؟ على
ثَلَاثَة أَقْوَال، أولاها القَوْل الأول، وَهُوَ: كَونه
مَوْضُوعا للمعنى الذهْنِي، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ،
(1/287)
وَأَتْبَاعه، وَابْن حمدَان، وَابْن قَاضِي
الْجَبَل من أَصْحَابنَا؛ لدوران الْأَلْفَاظ مَعَ الْمعَانِي
الذهنية وجودا وعدماً، فَإِن الْإِنْسَان إِذا رأى شخصا من
بعيد تخيله طللاً سَمَّاهُ بذلك، فَإِذا قرب مِنْهُ وظنه شَجرا
سَمَّاهُ بِهِ، فَإِذا دنا مِنْهُ وَرَآهُ رجلا سَمَّاهُ بِهِ.
ورد: بِأَن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ لاعتقاد مُطَابقَة الذهْنِي
للخارجي، فالمدار على الْخَارِجِي.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (لَكِن الْأُمُور الذهنية إِن
طابقت الخارجية دلّت الْأَلْفَاظ عَلَيْهَا بِوَاسِطَة تِلْكَ
الْمُطَابقَة) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: كَونه مَوْضُوعا للمعنى الْخَارِجِي،
وَبِه قطع أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع "؛
لِأَنَّهُ بِهِ تَسْتَقِر الْأَحْكَام، / وَنَصره ابْن مَالك
فِي كتاب " الفيصل "، وَاخْتَارَهُ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح
منظومته ".
(1/288)
وَالْقَوْل الثَّالِث: اخْتَارَهُ
السُّبْكِيّ الْكَبِير، وأفرد الْمَسْأَلَة بالتصنيف،
وَاخْتَارَهُ - أَيْضا - الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح منهاج
الْبَيْضَاوِيّ "، والجاربردي فِي " شَرحه ".
تنيبه: مَحل الْخلاف فِي الِاسْم النكرَة لَا الْمعرفَة.
قَوْله: {والوضع خَاص، وَهُوَ: جعل اللَّفْظ دَلِيلا على
الْمَعْنى [وَلَو مجَازًا، وعام، وَهُوَ: تَخْصِيص شَيْء
بِشَيْء يدل عَلَيْهِ كالمقادير} .
ذكرنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء تشتبه على السَّامع، وَهِي: الْوَضع،
والاستعمال، وَالْحمل، فَمن المهم معرفَة الْفرق بَينهَا.
(1/289)
إِذا علم ذَلِك؛ فللوضع إطلاقان:
خَاص: وَهُوَ جعل اللَّفْظ دَلِيلا على الْمَعْنى مُطلقًا،
وَالْمرَاد جعله متهيئاً لِأَن يُفِيد ذَلِك الْمَعْنى عِنْد
اسْتِعْمَال الْمُتَكَلّم لَهُ على وَجه مَخْصُوص.
وَقَوْلنَا: (وَلَو مجَازًا) ليشْمل الْمَنْقُول من شَرْعِي
وعرفي، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، أَعنِي: أَن الْمجَاز
مَوْضُوع.
وعام: وَهُوَ تَخْصِيص شَيْء بِشَيْء بِحَيْثُ يدل عَلَيْهِ،
كجعل الْمَقَادِير دَالَّة على مقدارتها من مَكِيل وموزون
ومزروع ومعدود وَغَيرهَا.
وَفِي كلا الْقسمَيْنِ الْوَضع أَمر مُتَعَلق بالواضع.
قَوْله: {والاستعمال: إِطْلَاق اللَّفْظ وَإِرَادَة الْمَعْنى،
وَالْحمل: اعْتِقَاد السَّامع مُرَاد الْمُتَكَلّم من لَفظه} .
تقدم الْكَلَام على الْوَضع، وَالْكَلَام الْآن على
الِاسْتِعْمَال وَالْحمل، وَذكرنَا أَن الْوَضع: جعل اللَّفْظ
دَلِيلا على الْمَعْنى مُطلقًا.
وَإِن شِئْت قلت: الْوَضع: اخْتِصَاص شَيْء بِشَيْء، بِحَيْثُ
إِذا أطلق الشَّيْء الأول فهم مِنْهُ الشَّيْء الثَّانِي،
كتسمية الْوَلَد زيدا، وَهَذَا أَمر مُتَعَلق بالواضع.
(1/290)
وَيُقَال - أَيْضا - على: غَلَبَة
اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي الْمَعْنى حَتَّى يصير أشهر فِيهِ من
غَيره، وَهَذَا هُوَ وضع المنقولات الثَّلَاثَة: الشَّرْعِيّ،
والعرفي الْعَام، والعرفي الْخَاص.
والاستعمال: إِطْلَاق اللَّفْظ وَإِرَادَة مُسَمَّاهُ بالحكم /
وَهُوَ الْحَقِيقَة، أَو غير مُسَمَّاهُ لعلاقة بَينهمَا
وَهُوَ الْمجَاز، وَهُوَ من صِفَات الْمُتَكَلّم. وَالْحمل:
اعْتِقَاد السَّامع مُرَاد الْمُتَكَلّم من لَفظه، أَو مَا
اشْتَمَل على مُرَاده.
فَالْمُرَاد كاعتقاد الْحَنْبَلِيّ والحنفي: أَن الله تَعَالَى
أَرَادَ بِلَفْظ الْقُرْء الْحيض، والمالكي وَالشَّافِعِيّ:
أَن الله تَعَالَى أَرَادَ الطُّهْر، وَهَذَا من صِفَات
السَّامع.
فالوضع سَابق، وَالْحمل لَاحق، والاستعمال متوسط.
قَوْله: {وَهِي: مُفْرد ومركب، فالمفرد: كلمة وَاحِدَة، وَقيل:
مَا وضع لِمَعْنى وَلَا جُزْء لَهُ، [أَوله وَلَا يدل فِيهِ] }
.
(1/291)
أَي: اللُّغَة: مُفْرد ومركب.
أما الْمُفْرد، فَلَا نزاع فِي وضع الْعَرَب لَهُ.
وَأما الْمركب، فَالصَّحِيح أَنه فِي اللُّغَة وَعَلِيهِ
الْأَكْثَر، وَيَأْتِي ذكر الْخلاف فِيهِ قَرِيبا، وَالْكَلَام
هُنَا فِي حد الْمُفْرد والمركب. فالمفرد عِنْد النُّحَاة:
كلمة وَاحِدَة.
[و] عِنْد المناطقة وَغَيرهم من الْأُصُولِيِّينَ: لفظ وضع
لِمَعْنى وَلَا جُزْء لذَلِك اللَّفْظ يدل على الْمَعْنى
الْمَوْضُوع لَهُ.
وَقَوْلنَا: (وَلَا جُزْء لَهُ أَوله وَلَا يدل فِيهِ) شَمل
أَرْبَعَة أَقسَام:
الأول: مَا لَا جُزْء لَهُ أَلْبَتَّة، كباء الْجَرّ
وَنَحْوهَا، فَإِنَّهَا مُفْرد وَإِن لم يسْتَقلّ بالنطق.
الثَّانِي: مَا لَهُ جُزْء وَلَكِن لَا يدل مُطلقًا، كزاي زيد
مثلا، فَإِن الزَّاي مِنْهُ لَا تدل على شَيْء مِنْهُ.
الثَّالِث: مَا لَهُ جُزْء وَيدل لَكَانَ لَا على جُزْء
الْمَعْنى كإنسان، فَإِن (إِن) فِي أَوله لَا تدل على بعض
الْإِنْسَان، وَإِن كَانَت بانفرادها تدل على الشَّرْط أَو
النَّفْي.
(1/292)
الرَّابِع: مَا لَهُ جُزْء وَيدل على جُزْء
الْمَعْنى لَكِن فِي وضع آخر لَا فِي ذَلِك الْوَضع،
كَقَوْلِنَا: حَيَوَان نَاطِق علما على شخص.
وَقَوْلنَا: (فِيهِ) أَي: يدل على شَيْء حِين هُوَ جزؤه وداخل
فِيهِ، فالجار وَالْمَجْرُور وَهُوَ (فِيهِ) مُتَعَلق
بِمَحْذُوف كَمَا قدرناه، ذكره فِي الْعَضُد على كَلَام ابْن
الْحَاجِب، وَذكر غَيره مَعْنَاهُ.
قَوْله: {والمركب بِخِلَافِهِ فيهمَا، / فعبد الله - علما -
مركب على الأول لَا الثَّانِي، و " يضْرب " عَكسه} .
عِنْد النُّحَاة الْمركب: مَا كَانَ أَكثر من كلمة، فَيشْمَل
تركيب المزج كبعلبك وسيبويه وَخَمْسَة عشر وَنَحْوهَا، والمضاف
- وَلَو علما وَنَحْوه - كَعبد الله وَغُلَام زيد.
وَعند المناطقة والأصوليين الْمركب: مَا دلّ جزؤه على جُزْء
مَعْنَاهُ الَّذِي وضع لَهُ، سَوَاء كَانَ تركيبه إسنادياً
كقام زيد وَزيد قَائِم، أَو إضافياً كغلام زيد، أَو تقييدياً
كزيد الْعَالم، أَو مُضَافا إِذا كَانَ علما كَعبد الله،
بِخِلَاف (يضْرب) فَإِن الْيَاء - وَهُوَ جزؤه - يدل على جُزْء
مَعْنَاهُ، لِأَنَّهَا تدل على المضارعة.
(1/293)
فَائِدَة: الْمُؤلف والمركب
مُتَرَادِفَانِ، فالمؤلف بِمَعْنى الْمركب، وَعَكسه.
وَبَعض النُّحَاة وَغَيرهم فرق بَينهمَا: بِأَن الْمُؤلف يكون
بَين جزئيه ألفة، بِخِلَاف الْمركب.
ورد: بِأَن المُرَاد بالتركيب إِنَّمَا هُوَ على الْوَجْه
الْمُعْتَبر فِي كَلَام الْعَرَب، لَا مُطلق انضمام لفظ إِلَى
آخر، فَحِينَئِذٍ لَا يُوجد مركب إِلَّا وَبَين جزئيه ألفة.
قَوْله: {ثمَّ الْمُفْرد [مهمل ومستعمل، فَإِن] اسْتَقل
بِمَعْنَاهُ وَدلّ بهيئته على أحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة
[فَهُوَ الْفِعْل] ، وَهُوَ مَاض، كقام، ويعرض لَهُ
الِاسْتِقْبَال بِالشّرطِ، وَلم يضْرب عَكسه، ومضارع كيقوم،
وَأمر [كقم] } .
الْمُفْرد يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: مهمل، ومستعمل.
فالمهمل كأسماء حُرُوف الهجاء، أَي: كمدلولاتها، فَإِن
مَدْلُول الْألف أَو مَدْلُول [الْبَاء] وَهَذِه المدلولات لم
تُوضَع بِإِزَاءِ شَيْء.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: (أَلا ترى أَن الصَّاد
مَوْضُوع لهَذَا
(1/294)
الْحَرْف، وَهُوَ مهمل لَا معنى لَهُ،
وَإِنَّمَا يتعلمه الصغار فِي الِابْتِدَاء للتوصل بِهِ إِلَى
معرفَة غَيره) .
والمستعمل يَنْقَسِم إِلَى: اسْم، وَفعل، وحرف، وَوجه الْحصْر
فِي ذَلِك أَن يُقَال: إِن اسْتَقل الْمُفْرد بِمَعْنَاهُ /
وَدلّ بهيئته على أحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة، وَهِي:
الْمَاضِي، وَالْحَال، والمستقبل، فَهُوَ الْفِعْل، وَهُوَ
ثَلَاثَة أَنْوَاع:
أَحدهَا: ماضي، كقام وَنَحْوه، ويعرض لَهُ الِاسْتِقْبَال
بِالشّرطِ، نَحْو: إِن قَامَ زيد قُمْت، فَأصل وَضعه للماضي،
وَقد يخرج عَن أَصله لعَارض، وَعَكسه (يضْرب) ، فَأصل (يضْرب)
للْحَال أَو للاستقبال، ويصرفه إِلَى الْمَاضِي دُخُول حرف
(لم) فيخرجه عَن أَصله وَيبقى للماضي، وَأحسن مِنْهُ مِثَالا
(لَو) فَإِنَّهَا شَرط للماضي، وَإِن دخلت على الْمُضَارع
صرفته إِلَيْهِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانه فِي معنى (لَو) .
وَالثَّانِي: مضارع كيقوم وَنَحْوه، وَفِيه مَذَاهِب: أَحدهَا:
أَنه للْحَال.
وَالثَّانِي: للاستقبال.
(1/295)
وَالثَّالِث - وَهُوَ الْأَشْهر هُوَ ظَاهر
كَلَامه فِي " التسهيل " -: أَنه حَقِيقَة فيهمَا، فَيكون
مُشْتَركا، فَمَتَى اسْتعْمل فِي الْمَاضِي كَانَ مجَازًا
قطعا، وَكَذَا لَو اسْتعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ عِنْد
الْقَائِل بِهِ.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (فِي الْمُضَارع
خَمْسَة مَذَاهِب: كَونه للْحَال لَا للاستقبال، عَكسه، كَونه
حَقِيقَة فِي الْحَال مجَازًا فِي الِاسْتِقْبَال، عَكسه،
حَقِيقَة فيهمَا) انْتهى.
وأفصح بهَا أَبُو حَيَّان فَقَالَ: (الْمَشْهُور أَنه مُشْتَرك
بَين الْحَال والاستقبال، قَالَ ابْن مَالك: إِلَّا أَن
الْحَال يتَرَجَّح عِنْد التجرد، وَفِيه نظر، وَقيل: حَقِيقَة
فِي الْحَال مجَاز فِي الِاسْتِقْبَال، وَقيل عَكسه، وَقيل:
حَقِيقَة فِي الْحَال وَلَا يسْتَعْمل فِي الِاسْتِقْبَال
أصلا، لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، وَقيل عَكسه) انْتهى.
وَالثَّالِث: أَمر ك (قُم) ، وَهُوَ وَاضح، وَأما ل (يقم)
فَإِنَّهُ مضارع دخلت لَام الْأَمر عَلَيْهِ.
وَقَوله: {وتجرده عَن الزَّمَان عَارض للإنشاء، وَقد يلْزمه ك
(عَسى) ، وَقد لَا [يلْزمه] ك (نعم) وَبئسَ} .
الأَصْل فِي الْأَفْعَال: أَن يكون لأحد الْأَزْمِنَة
الثَّلَاثَة، وَقد يتجرد عَن الزَّمَان، فَيكون للإنشاء
بِوَضْع الْعرف، وَقد يلْزم التجرد عَن الزَّمَان
(1/296)
ك (عَسى) ، فَإِنَّهُ وضع أَولا للماضي،
وَلم يسْتَعْمل / فِيهِ قطّ، بل فِي الْإِنْشَاء.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَكَذَا حبذا، فَإِنَّهُ لَا معنى
لَهَا فِي الْأَزْمِنَة) .
وَقد لَا يلْزم التجرد فيستعمل فِي الأَصْل وَهُوَ الْمَاضِي،
ويتجرد عَن الزَّمَان - أَيْضا - للإنشاء ك (نعم) و (بئس) ،
فَيُقَال: نعم زيد أمس، وَبئسَ زيد أمس، وَنعم زيد، وَبئسَ، من
غير نظر إِلَى زمَان.
قَوْله: {وَإِلَّا فالاسم} .
يَعْنِي: أَن الْمُفْرد إِن اسْتَقل بِمَعْنَاهُ لم يدل على
أحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة فَهُوَ الِاسْم، فصبوح أمس،
وغبوق غَد، وضارب أمس، وَنَحْوه يدل بِنَفسِهِ، لَكِن لم يدل
وضعا، بل لعَارض كاللفظ بِالِاسْمِ ومدلوله؛ فَإِنَّهَا لَازم
كالمكان.
وَنَحْو: (صه) دلّ على اسْكُتْ، وبواسطته على سكُوت مقترن
بالاستقبال.
والمضارع إِن قيل: مُشْتَرك بَين الْحَال والاستقبال، فَوَضعه
لأَحَدهمَا، واللبس عِنْد السَّامع.
قَوْله: {وَإِن لم يسْتَقلّ فالحرف، وَهُوَ: مَا دلّ على معنى
فِي غَيره: وَقيل: لَا يحْتَاج إِلَى حد، وَسكت [جمع] عَن
حَده} .
(1/297)
يَعْنِي: أَن الْمُفْرد إِذا لم يسْتَقلّ
بِنَفسِهِ بِالْمَعْنَى فَهُوَ الْحَرْف، وَالصَّحِيح أَنه
يحد، وَحده: مَا دلّ على معنى فِي غَيره؛ ليخرج الِاسْم
وَالْفِعْل.
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ لفظ لَا يدل على معنى فِي نَفسه.
وَقَالَ بَعضهم: لفظ لَا يسْتَقلّ بِالْمَعْنَى، ومعانيها
مُتَقَارِبَة.
وَقيل: لَا يحْتَاج إِلَى حد لَهُ؛ لِأَن ترك الْعَلامَة لَهُ
عَلامَة، وَهَذَا اخْتَارَهُ جمَاعَة مِنْهُم الحريري.
ورد: بِأَنَّهُ لتعريف حَقِيقَة الْمَحْدُود.
وَسكت جمَاعَة عَن حَده، فَيحْتَمل أَن لَهُ حدا عِنْدهم
وَلَكِن لم يذكروه، وَيحْتَمل أَنه كالقول الثَّانِي.
قَوْله: {والمركب: مهمل مَوْجُود، خلافًا للرازي وَغَيره} .
(1/298)
الصَّحِيح: أَن الْمركب يَنْقَسِم إِلَى:
مهمل، ومستعمل، وَأَن المهمل مَوْجُود، اخْتَارَهُ
الْبَيْضَاوِيّ، والتاج السُّبْكِيّ، ومثلوه بالهذيان،
فَإِنَّهُ لفظ مدوله لفظ مركب مهمل. /
قَالَ الكوراني: (وَهُوَ بعيد؛ لِأَن وجود مركب إسنادي لَا
يكون لَهُ معنى، فِي غَايَة الْبعد) .
وَقَالَ الرَّازِيّ وَصَاحب " التَّحْصِيل " و " الْحَاصِل ":
(الْأَشْبَه أَنه غير مَوْجُود؛ لِأَن الْغَرَض من التراكيب
للإفادة) ، وَهَذَا إِنَّمَا يدل على أَن المهمل غير مَوْضُوع،
لَا على أَنه لم يوضع لَهُ اسْم.
قَوْله: {وَلم تضعه الْعَرَب قطعا} .
قَالَ شرَّاح " جمع الْجَوَامِع ": (نفس ذَلِك اللَّفْظ المهمل
لم تضعه الْعَرَب، وَلَا تجوز نسبته إِلَيْهَا لَا حَقِيقَة
وَلَا مجَازًا، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ) .
قَوْله: {ومستعمل وَضعته الْعَرَب، خلافًا للرازي، وَابْن
مَالك، [وَجمع] } .
(1/299)
تقدم أَن الْمُفْردَات وَضَعتهَا الْعَرَب
بِلَا نزاع، وَأَن الْمركب قِسْمَانِ: مهمل تقدم حكمه.
ومستعمل اخْتلف الْعلمَاء: هَل وَضعته الْعَرَب كالمفرد، أم
لَا، واستغنوا بالمفردات؟
فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لم يضعوه، فَلَيْسَ بموضوع،
وَلِهَذَا لم يتَكَلَّم أهل اللُّغَة فِيهِ وَلَا فِي أَنْوَاع
تأليفه؛ لكَون الْأَمر موكولاً إِلَى الْمُتَكَلّم، وَاخْتَارَ
هَذَا الْفَخر الرَّازِيّ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن مَالك
حَيْثُ قَالَ: (إِن دلَالَة الْكَلَام عقلية) ، وَاحْتج لَهُ
فِي الفيصل على الْمفصل: (بِأَن من يعرف لفظين لَا يفْتَقر
عِنْد سماعهما مَعَ إِسْنَاد إِلَى معرف لِمَعْنى
الِاسْتِنَاد، بل يُدْرِكهُ ضَرُورَة؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ
الْمركب مَوْضُوعا لافتقر كل مركب إِلَى سَماع من الْعَرَب
كالمفردات) .
وَحكى ابْن إياز عَن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... .
(1/300)
شَيْخه نَحوه.
وَالصَّحِيح: أَنه مَوْضُوع، بِدَلِيل أَن لَهُ قوانين فِي
الْعَرَبيَّة لَا يجوز تغييرها، وَمَتى غيرت حكم عَلَيْهَا
بِأَنَّهَا لَيست عَرَبِيَّة، كتقديم الْمُضَاف إِلَيْهِ على
الْمُضَاف، وَإِن قدم فِي غير لُغَة الْعَرَب، وكتقديم
الصِّلَة أَو معمولها على الْمَوْصُول، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا
ينْحَصر، فحجروا فِي التَّرْكِيب كَمَا فِي الْمُفْردَات،
وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره / حَيْثُ قَالَ:
(وأقسامها مُفْرد ومركب) ، وَكَذَا ابْن مُفْلِح، وَابْن
قَاضِي الْجَبَل وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (وَهُوَ الصَّحِيح) ، وَعَزاهُ غَيره
إِلَى الْجُمْهُور.
(1/301)
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَالتَّحْقِيق أَن
يُقَال: إِن أُرِيد أَنْوَاع المركبات فَالْحق أَنَّهَا
مَوْضُوعَة، أَو جزيئات النَّوْع فَالْحق الْمَنْع،
وَيَنْبَغِي أَن ينزل المذهبان على ذَلِك) .
وَمِمَّا يتَفَرَّع على الْخلاف مَا سَيَأْتِي أَن الْمجَاز،
هَل يكون فِي التَّرْكِيب، وَأَن العلاقة هَل تشْتَرط فِي
آحاده؟ وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {وَمثله: الْمثنى وَالْجمع} .
الْمثنى وَالْجمع، هَل هما من قبيل الْمُفْرد فيكونان
مَوْضُوعَيْنِ، أَو من قبيل الْمركب لشبههما بِهِ فَلَا
يكونَانِ مَوْضُوعَيْنِ؟ على الْخلاف السَّابِق فِيهِ وَظَاهر
كَلَام ابْن مَالك فِي " التسهيل " الثَّانِي، حَيْثُ قَالَ:
(التَّثْنِيَة: جعل الِاسْم الْقَابِل دَلِيل اثْنَيْنِ
متفقين) إِلَى آخِره.
وَقَالَ فِي " الْجمع ": (جعله دَلِيل مَا فَوق اثْنَيْنِ)
إِلَى آخِره.
وَبَعْضهمْ يَقُول: الْمثنى: مَا وضع لاثْنَيْنِ، وَالْجمع:
مَا وضع لأكْثر، فَيَقْتَضِي أَنه مَوْضُوع؛ لِأَنَّهُ
[مُقَرر] على قوانين لَا يجوز الْإِخْلَال بهَا،
(1/302)
وَيَنْبَغِي أَن يجْرِي فِيهِ مَا سبق فِي
المركبات، وَهُوَ الْوَضع فِي الْأَنْوَاع لَا فِي الجزئيات،
وَيحمل كَلَام الْفَرِيقَيْنِ على ذَلِك، وَيَأْتِي هَل
الْمجَاز الْمركب مَوْضُوع فِي الْكَلَام على اشْتِرَاط
النَّقْل فِي الْآحَاد؟
قَوْله: {وَهُوَ جملَة: وَهِي مَا وضع لإِفَادَة نِسْبَة،
وَهُوَ الْكَلَام} .
يَعْنِي: أَن الْمركب يكون جملَة وَغير جملَة، وَالْجُمْلَة
[إِن أَفَادَ نِسْبَة فَهُوَ الْكَلَام] ، وَإِلَّا فَلَا،
وَلذَلِك قُلْنَا: وَهِي مَا وضع لإِفَادَة نِسْبَة، أَي: لفظ
وضع لإِفَادَة نِسْبَة، أَي: إِسْنَاد إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ
إِلَى الْأُخْرَى لإِفَادَة الْمُخَاطب معنى يَصح سُكُوته
عَلَيْهِ، مثل: زيد قَائِم، وَقَامَ زيد، فَيخرج الْمركب
الإضافي كغلام زيد وَنَحْوه؛ لِأَنَّهُ لم يفد الْمُخَاطب معنى
يَصح السُّكُوت عَلَيْهِ.
وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّان وَغَيره: أَن الْجُمْلَة وَالْكَلَام
مُتَرَادِفَانِ، وَالصَّوَاب: أَن الْجُمْلَة أَعم؛ لصدقها على
[مَا لَا يُفِيد] أَو لَا يُفِيد فَائِدَة / يحسن السُّكُوت
عَلَيْهَا، كجملة الصِّلَة، وَجُمْلَة الشَّرْط، وَجُمْلَة
الْجَزَاء وَنَحْوه.
(1/303)
قَوْله: {وَلَا يتألف إِلَّا من اسْمَيْنِ،
أَو اسْم وَفعل} .
وَذَلِكَ لِأَن الْجُمْلَة تَتَضَمَّن الْإِسْنَاد، والإسناد
يَقْتَضِي مُسْندًا وَمُسْندًا إِلَيْهِ، وَالِاسْم يصلح
لَهما، وَالْفِعْل يصلح أَن يكون مُسْندًا وَلَا يصلح أَن يكون
مُسْندًا إِلَيْهِ، والحرف لَا يصلح لشَيْء مِنْهُمَا.
والتركيب الْعقلِيّ من كَلِمَتَيْنِ يَشْمَل سِتّ صور:
اسْم مَعَ اسْم، وَاسم مَعَ فعل، وَاسم مَعَ حرف، وَفعل مَعَ
فعل، وَفعل مَعَ حرف، وحرف مَعَ حرف.
فالأربعة الْأَخِيرَة لَا تتأتى مِنْهَا الْجُمْلَة، إِمَّا
لعدم الْمسند، أَو لعدم الْمسند إِلَيْهِ، أَو [لعدمهما] .
لَكِن خَالف الْجِرْجَانِيّ وَغَيره فِي حرف اسْم ك " يَا زيد
"، وَقَالَهُ
(1/304)
الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره،
وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح عَن الْكُوفِيّين.
ورد: بِأَنَّهُ مفعول لفعل مَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ حرف النداء،
وَالتَّقْدِير: أَدْعُو، أَو أنادي زيدا.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": (وَيَا زيد، والشرطية نَحْو:
إِن تقم أقِم، فعليتان) .
فَلذَلِك لم أعرج على ذَلِك فِي الْمَتْن.
وَقَالَ ابْن الباقلاني وَأَبُو الْمَعَالِي: يتركب من حرف
وَفعل وتعلقا بإفادة نَحْو: قد قَامَ.
ورد: بِأَن فِيهِ ضميراً مستتراً.
ولضعف ذَلِك تَرَكْنَاهُ.
قَوْله: {من مُتَكَلم وَاحِد، قَالَه الباقلاني،
وَالْغَزالِيّ، وَابْن
(1/305)
مُفْلِح، وَغَيرهم، وَخَالف [جمع] } .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " - لما قَالَ: (وَلَا يتألف
عِنْد النُّحَاة إِلَّا من اسْمَيْنِ أَو فعل وَاسم) -:
(وَالْمرَاد من شخص وَاحِد، لِأَنَّهُ لابد من مُسْند ومسند
إِلَيْهِ) . وَقَالَ جمع: يجوز أَن يكون من متكلمين فَأكْثر
بِأَن يصطلح اثْنَان بِأَن يذكر هَذَا الْفِعْل وَهَذَا
الْفَاعِل، أَو أحدهماالمبتدأ وَالْآخر الْخَبَر وَقَالَهُ
ابْن مَالك، ورد الأول: (بِأَن الْخط لَا يَتَعَدَّد
بِتَعَدُّد الْكَاتِب مَعَ كَونه كِتَابَة فَكَذَلِك هُنَا) ،
وَكَذَلِكَ أَبُو حَيَّان فِي " الارتشاف ".
وَأجَاب ابْن مَالك بِجَوَاب آخر وَهُوَ التَّحْقِيق: (أَن
الْكَلَام لَا بُد لَهُ من إِسْنَاد، وَهُوَ لَا يكون إِلَّا
من وَاحِد، فَإِن وجد من كل وَاحِد مِنْهُمَا / إِسْنَاد
بالإرادة، فَكل وَاحِد مِنْهُمَا مُتَكَلم بِكَلَام مركب،
وَلَكِن حذف بعضه لدلَالَة الآخر عَلَيْهِ، فَلم يُوجد كَلَام
من متكلمين، بل كلامان من اثْنَيْنِ) انْتهى
(1/306)
قلت: قَالَ أَبُو حَيَّان فِي " الارتشاف
": (لَا يشْتَرط فثي كَلَام أَن يكون من نَاطِق وَاحِد على
الصَّحِيح) انْتهى. وَذكر أَصْحَابنَا فرعا مترتبا على ذَلِك
وَهُوَ مَا إِذا قَالَ رجل: امْرَأَة فلَان طَالِق، فَقَالَ
الزَّوْج: ثَلَاثًا وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هِيَ
تشبه مَا لَو قَالَ: لي عَلَيْك ألف، فَقَالَ: صِحَاح، وفيهَا
وَجْهَان، - قَالَ -: وَهَذَا أصل فِي الْكَلَام من اثْنَيْنِ
إِن أَتَى الثَّانِي بِالصّفةِ وَنَحْوهَا هَل يكون متمماً
[للْأولِ] أم لَا؟ انْتهى.
قَوْله: {وحيوان نَاطِق، و " كَاتب " فِي زيد كَاتب، [لم يفد]
نِسْبَة} .
هَذَا جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر تَقْدِيره: إِن الْحَد
الْمَذْكُور للجملة غير مطرد، ضَرُورَة صدقه على الْمركب
التقييدي، وعَلى نَحْو (كَاتب) فِي قَوْله: زيد كَاتب،
وَالْمرَاد بالمركب التقييدي: الْمركب من اسْمَيْنِ، أَو اسْم
وَفعل، يكون الثَّانِي قيدا فِي الأول، وَيقوم مقامهما لفظ
مُفْرد مثل: حَيَوَان نَاطِق، وَالَّذِي يكْتب، فَإِنَّهُ يقوم
مقَام الأول الْإِنْسَان، ومقام الثَّانِي الْكَاتِب.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: (الْحَد يصدق عَلَيْهِمَا) ؛ لِأَن الأول
لفظ وضع لإِفَادَة نِسْبَة تقييدية، وَالثَّانِي وضع لإِفَادَة
نِسْبَة اسْم الْفَاعِل إِلَى الضَّمِير الَّذِي هُوَ فَاعله.
(1/307)
وَالْجَوَاب أَن يُقَال: لَا نسلم أَن
الْحَد يصدق عَلَيْهِمَا؛ لِأَن المُرَاد بإفادة النِّسْبَة:
إِفَادَة نِسْبَة يحسن السُّكُوت عَلَيْهَا، وهما لم يوضعا
لإِفَادَة نِسْبَة كَذَلِك.
قَوْله: {وَغير جملَة بخلافة} .
أَي: الْمركب يَنْقَسِم إِلَى جملَة، وَغير جملَة، فَتقدم
الْكَلَام على الْجُمْلَة: وَهُوَ مَا وضع لإِفَادَة نِسْبَة،
وَالَّذِي لم يوضع [لإِفَادَة] نِسْبَة هُوَ غير جملَة، فيندرج
فِيهِ المركبات التقييدية، و (كَاتب) فِي زيد كَاتب،
وَنَحْوهمَا كغلام زيد وَنَحْوه.
قَوْله: {وَيُسمى مُفردا أَيْضا} .
وَإِنَّمَا قُلْنَا: (أَيْضا) ؛ لِأَن الْمُفْرد يصدق وَيُطلق
على مُقَابل الْجُمْلَة، / وعَلى مُقَابل الْمثنى وَالْجمع،
وعَلى مُقَابل الْمركب.
فَيُقَال: مُفْرد وَجُمْلَة، ومفرد ومثنى ومجموع، ومفرد ومركب،
إطلاقاً متعارفاً.
قَوْله: {وَيُرَاد بِالْكَلِمَةِ: الْكَلَام، [و] بالْكلَام:
الْكَلِمَة، والكلم الَّذِي لم يفد} .
(1/308)
ورد تَسْمِيَة الْكَلَام بِكَلِمَة فِي
الْكتاب، وَالسّنة، وَكَلَام الْعَرَب.
قَالَ تَعَالَى: {قَالَ رب ارْجِعُونِ لعَلي أعمل صلحا فِيمَا
تركت كلا أَنَّهَا كلمة هُوَ قَائِلهَا} [الْمُؤْمِنُونَ: 99 -
100] ، فَسمى ذَلِك كُله كلمة.
وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
أصدق كلمة قَالَهَا [شَاعِر] كلمة لبيد أَلا كل شَيْء مَا خلا
الله بَاطِل "، فَسمى ذَلِك كُله كلمة.
وَهُوَ مجَاز مهمل فِي عرف النُّحَاة، فَقيل: هُوَ من
تَسْمِيَة الشَّيْء باسم بعضه، وَقيل: لما ارْتبط أَجزَاء
الْكَلَام بَعْضهَا بِبَعْض حصل لَهُ بذلك وحدة، فشابه بهَا
الْكَلِمَة، فَأطلق عَلَيْهِ كلمة.
وَقَوله: (وبالكلام الْكَلِمَة) ، أَي: يُرَاد بالْكلَام
الْكَلِمَة، عكس الأول.
(1/309)
فَيُقَال: تكلم بِكَلَام، ومرادهم
بِكَلِمَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَقَالَ بَعضهم: يُرَاد بالْكلَام
الْكَلِمَة، قَالَ سِيبَوَيْهٍ فِي قَوْلهم: من أَنْت زيد؟ : "
مَعْنَاهُ: من أَنْت كلامك زيد؟ " وَقَالَهُ أَبُو الْحُسَيْن
وَغَيره) .
وَيُرَاد بالْكلَام - أَيْضا - الْكَلم الَّذِي لم يفد، فَلَو
أَفَادَ سمي كلَاما وَكلما، وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح قولا.
وَاعْلَم أَن للْكَلَام فِي اللُّغَة إطلاقات،
أَحدهَا: إِطْلَاق الْكَلَام على مُطلق التَّلَفُّظ وَلَو
بِكَلِمَة وَاحِدَة، وَمِنْه حَدِيث الْبَراء بن عَازِب -
رَضِي الله عَنهُ -: (أمرنَا بِالسُّكُوتِ ونهينا عَن
الْكَلَام) ، فَيشْمَل الْكَلِمَة الْوَاحِدَة.
(1/310)
وَحَدِيث ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ
-: " وَإِن مِمَّا أحدث أَن لَا تكلمُوا فِي الصَّلَاة ".
وَتقول: تكلم الصَّبِي، تُرِيدُ أصل التَّلَفُّظ وَإِن لم يفد.
وَلَو حلف أَن لَا يتَكَلَّم، حنث بِمُطلق اللَّفْظ.
(1/311)
وَهَذَا المُرَاد بقولنَا: (وبالكلام
الْكَلِمَة والكلم الَّذِي لم يفد) .
الثَّانِي: الْخط، وَمِنْه: قَوْلهم: مَا بَين دفتي الْمُصحف /
كَلَام الله.
الثَّالِث: الرَّمْز، وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى: {ءايتك أَلا
تكلم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رمزاً} [آل عمرَان: 41]
، فاستثنى الرَّمْز من الْكَلَام، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قلت: الْجُمْهُور قَالُوا: إِن الاستثاء مُنْقَطع، فَلَا يكون
مِمَّا نَحن فِيهِ.
الرَّابِع: مَا يفهم من حَال الشَّيْء كَقَوْل الشَّاعِر:
(امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... )
(مهلا رويداً قد مَلَأت بَطْني ... )
قَوْله: {قَالَ الشَّيْخ: [مُسَمّى] الْكَلَام وَالْقَوْل
عِنْد الْإِطْلَاق يتَنَاوَل اللَّفْظ وَالْمعْنَى جَمِيعًا،
[كتناول] الْإِنْسَان الرّوح وَالْبدن، عِنْد السّلف
والفققهاء، وَالْأَكْثَر، وَقَالَ كثير من أهل الْكَلَام:
مُسَمَّاهُ اللَّفْظ، وَالْمعْنَى [لَيْسَ
(1/312)
جزءه بل مَدْلُوله، وَقَالَهُ] النُّحَاة؛
لتَعلق صناعتهم بِاللَّفْظِ، وَقَالَ ابْن كلاب وَأَتْبَاعه:
مُسَمَّاهُ الْمَعْنى، وَبَعض أَصْحَابه: مُشْتَرك بَينهمَا،
وَعَن الْأَشْعَرِيّ وَغَيره، مجَاز فِي كَلَام الله تَعَالَى}
.
ذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين كَلَامه هَذَا فِي أَمَاكِن
كَثِيرَة من تصانيفه، كالرد على الرافضي، وَغَيره، وَقَالَ فِي
مَوضِع: (كَمَا أَن لفظ الْإِنْسَان قيل: هُوَ حَقِيقَة فِي
الْبدن فَقَط، وَقيل: فِي الرّوح فَقَط، وَالصَّوَاب: أَنه
حَقِيقَة فِي الْمَجْمُوع فالنزاع فِي النَّاطِق كالنزاع فِي
منْطقَة) انْتهى.
وَقَالَ كثير من أهل الْكَلَام: مُسَمّى الْكَلَام هُوَ
اللَّفْظ، وَأما الْمَعْنى فَلَيْسَ جزءه بل مَدْلُوله،
وَقَالَهُ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
(1/313)
النحاه وَغَيرهم وَذَلِكَ لتَعلق صناعتهم
بِاللَّفْظِ فَقَط.
وَعكس عبد الله بن كلاب وَأَتْبَاعه ذَلِك، فَقَالُوا: مُسَمّى
الْكَلَام الْمَعْنى فَقَط لَا اللَّفْظ.
وَقَالَ بعض أَصْحَاب ابْن كلاب: مُشْتَرك بَين اللَّفْظ
وَالْمعْنَى، فيسمى اللَّفْظ كلَاما حَقِيقَة، وَيُسمى
الْمَعْنى كلَاما حَقِيقَة.
وَرُوِيَ عَن الْأَشْعَرِيّ وَبَعض الْكلابِيَّة: مجَاز فِي
كَلَام الله تَعَالَى؛ لِأَن الْكَلَام الْعَرَبِيّ عِنْدهم
لَا يقوم بِهِ تَعَالَى، وَهُوَ حَقِيقَة فِي كَلَام
الْآدَمِيّين؛ لِأَن حُرُوف الْآدَمِيّين تقوم بهم.
قَالَ / الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن
الْقُرْآن كَلَام الله، فَإِن كَانَ كَلَامه هُوَ الْمَعْنى
فَقَط [وَالنّظم الْعَرَبِيّ الَّذِي] يدل على الْمَعْنى
لَيْسَ كَلَام الله، كَانَ مخلوقاً خلقه الله تَعَالَى فِي
غَيره، فَيكون كلَاما لذَلِك الْغَيْر، لِأَن الْكَلَام إِذا
خلق فِي مَحل كَانَ كلَاما لذَلِك الْمحل، فَيكون الْكَلَام
الْعَرَبِيّ لَيْسَ كَلَام الله بل كَلَام غَيره، وَمن
الْمَعْلُوم بالاضطرار من دين الْمُسلمين أَن الْكَلَام
الْعَرَبِيّ الَّذِي بلغه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - عَن الله تَعَالَى أعلم أمته أَنه كَلَام الله
تَعَالَى لَا كَلَام غَيره، وَهَذَا يبطل قَول من قَالَ من
الْمُتَأَخِّرين: إِن الْكَلَام يُقَال بالاشتراك على اللَّفْظ
وَالْمعْنَى، فَيُقَال لَهُم: إِذا كَانَ كل مِنْهُمَا يُسمى
كلَاما
(1/314)
حَقِيقَة امْتنع أَن يكون وَاحِد مِنْهُمَا
مخلوقاً، إِذْ لَو كَانَ مخلوقاً لَكَانَ كلَاما للمحل الَّذِي
خلق فِيهِ، وَلِهَذَا لم يكن قدماء الْكلابِيَّة يَقُولُونَ
بالاشتراك، لِأَنَّهُ يبطل حجتهم على الْمُعْتَزلَة وَيُوجب
عَلَيْهِم القَوْل بِأَن كَلَام الله مَخْلُوق، لَكِن
يَقُولُونَ: إِن إِطْلَاق الْكَلَام على اللَّفْظ بطرِيق
الْمجَاز، وعَلى الْمَعْنى بطرِيق الْحَقِيقَة، فَعلم متأخرهم
أَن هَذَا فَاسد بِالضَّرُورَةِ، وَأَن اسْم الْكَلَام
يتَنَاوَل اللَّفْظ حَقِيقَة فجعلوه مُشْتَركا، فلزمهم أَن
يكون كَلَام الله مخلوقاً، فهم بَين محذورين:
إِمَّا القَوْل بِأَن كَلَام [الله] مَخْلُوق، وَإِمَّا
القَوْل بِأَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ لَيْسَ [كَلَام] الله،
وكلا الْأَمريْنِ مَعْلُوم الْفساد.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بعد ذَلِك: (لَا نمْنَع
الْمَعْنى وَحده أَن يُسمى كلَاما كَمَا يُسمى اللَّفْظ وَحده
كلَاما، لَكِن الْكَلَام فِي الْقُرْآن الَّذِي هُوَ لفظ
وَمعنى، هَل جَمِيعه كَلَام الله؟ أَو لَفظه كَلَام الله دون
مَعْنَاهُ؟ أَو مَعْنَاهُ كَلَام الله دون لَفظه؟ وَمن
الْمَعْلُوم بالاضطرار من دين الْإِسْلَام أَن الْجَمِيع
كَلَام الله) انْتهى.
وَيَأْتِي الْكَلَام / على هَذَا وَغَيره فِي أَوَائِل
الْكَلَام على الْكتاب بأتم من هَذَا.
(1/315)
قَوْله: {فصل}
{الدّلَالَة: مصدر دلّ، وَهِي [مَا] يلْزم من فهمه فهم شَيْء
آخر [بِلَفْظ] أَو غَيره] ، [فاللفظية] : طبعية، وعقلية،
ووضعية، [وَهِي - أَي الوضعية -: كَون اللَّفْظ إِذا أطلق فهم
الْمَعْنى الَّذِي لَهُ بِالْوَضْعِ] ، فدلالته -[أَي
اللَّفْظ]- الوضعية على مُسَمَّاهُ: [مُطَابقَة] ، وعَلى جزئه:
تضمن، [وعَلى لَازمه الْخَارِج، وَقيل: الذهْنِي: الْتِزَام] }
. لَا شكّ أَن الدّلَالَة مصدر دلّ، إِذْ قد يُقَال: دلّ يدل
دلَالَة بِفَتْح الدَّال على الْأَفْصَح وبكسرها.
(1/316)
وَقيل: بِالْفَتْح فِي الْأَعْيَان،
وبالكسر فِي الْمعَانِي، كَمَا تقدم.
وَمعنى الدّلَالَة: الْإِرْشَاد إِلَى الشَّيْء، وَتقدم
مَعْنَاهُ فِي الدَّلِيل، فَإِنَّهُ من الْمَادَّة.
وَهِي هُنَا: كَون الشَّيْء بِحَيْثُ يلْزم من فهمه فهم شَيْء
آخر، فالشيء الأول هُوَ الدَّال، وَالثَّانِي هُوَ
الْمَدْلُول.
وَقَالَ بَعضهم: هِيَ كَون الشَّيْء بِحَالَة يلْزم من الْعلم
بِهِ الْعلم بِشَيْء آخر، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك بِلَفْظ أَو
غَيره؛ لِأَن الدّلَالَة تَارَة تكون لفظية، وَتارَة تكون غير
لفظية.
فاللفظية: هِيَ [المستندة] لوُجُود اللَّفْظ، إِذا ذكر وجدت،
وتنقسم ثَلَاثَة أَقسَام: طبعية، وعقلية، ووضعية.
فالطبعية: كدلالة (أح أح) على وجع فِي الصَّدْر.
والعقلية: كدلالة الصَّوْت على حَيَاة صَاحبه.
والوضعية: وَهِي كَون اللَّفْظ إِذا أطلق فهم الْمَعْنى
الَّذِي هُوَ لَهُ بِالْوَضْعِ، سَوَاء كَانَ بِوَضْع
اللُّغَة، أَو الشَّرْع، أَو الْعرف، لذَلِك اللَّفْظ، فَهِيَ
غير الوضعية الَّتِي هِيَ [قسيم] اللفظية.
(1/317)
فالوضعية هُنَا من الدلالات اللفظية، وَهِي
المرادة، وَهِي ثَلَاثَة أَقسَام، وَلذَلِك قُلْنَا: (ودلالته
الوضعية) ، أَي: وَدلَالَة اللَّفْظ الوضعية على مُسَمَّاهُ:
مُطَابقَة، أَي: دلَالَة مُطَابقَة، كدلالة الْإِنْسَان على
الْحَيَوَان النَّاطِق، وَيَقَع فِي عبارَة [كثير] من
الْعلمَاء كالرازي، والبيضاوي، وَابْن / الْحَاجِب، والهندي،
والأبهري، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم: على تَمام مُسَمَّاهُ،
وَهِي قَاصِرَة لخُرُوج مَا لَا جُزْء لَهُ كاسم الله، والجوهر
الْفَرد، وَسَائِر البسائط، فَلَا يُقَال فِيهِ: تَمام،
فَإِنَّهُ لَا جُزْء لَهُ.
(1/318)
وَإِنَّمَا سميت هَذِه الدّلَالَة
مُطَابقَة؛ لِأَن اللَّفْظ مُوَافق لتَمام مَا وضع لَهُ، من
قَوْلهم: طابق النَّعْل النَّعْل: إِذا توافقتا، فاللفظ
مُوَافق للمعنى لكَونه مَوْضُوعا بإزائه.
وَدلَالَة اللَّفْظ على جُزْء مُسَمَّاهُ: دلَالَة تضمن،
كدلالة الْإِنْسَان على حَيَوَان فَقَط، أَو نَاطِق فَقَط، سمي
بذلك لتَضَمّنه إِيَّاه؛ لِأَنَّهُ يدل على الْجُزْء الَّذِي
فِي ضمنه، فَيكون دَالا على مَا فِي ضمنه.
وَدلَالَة اللَّفْظ على لَازمه الْخَارِج - كدلالة الْإِنْسَان
على كَونه ضَاحِكا أَو قَابلا صَنْعَة الْكِتَابَة -: دلَالَة
الْتِزَام؛ لِأَنَّهَا دلّت على مَا هُوَ خَارج عَن الْمُسَمّى
لكنه لَازم لَهُ، كَمَا مثلناه، لِأَن اللَّفْظ لَا يدل على كل
أَمر خَارج عَنهُ بل على الْأَمر الْخَارِج اللَّازِم لَهُ.
وَقَوله: (وَقيل الذهْنِي) ، لم يشْتَرط أَكثر
الْأُصُولِيِّينَ وأرباب الْبَيَان اللُّزُوم الذهْنِي فِي
دلَالَة الِالْتِزَام؛ بل قَالُوا باللزوم مُطلقًا أَعم أَن
يكون ذهنياً أَو خارجياً، وَسَوَاء كَانَ الذهْنِي فِي ذهن كل
أحد كَمَا فِي الْعَدَم والملكة، أَو عِنْد الْعَالم
بِالْوَضْعِ، أَو غير ذَلِك، وَلِهَذَا يجْرِي فِيهَا الوضوح
والخفاء بِحَسب اخْتِلَاف الْأَشْخَاص وَالْأَحْوَال، وَذَلِكَ
كدلالة الْقَرِينَة على الْمَعْنى الْمجَازِي.
وَلَكِن عِنْد التَّحْقِيق؛ ترى أَرْبَاب هَذَا القَوْل
يرجعُونَ إِلَى لُزُوم ذهني وَلَو بِقَرِينَة تدل عَلَيْهِ
وَأَصله خارجي، وَذَلِكَ [ينْقل] الذِّهْن، وفَاقا لمن
(1/319)
قَالَه وهم المناطقة، فَإِنَّهُم هم وَقوم
من الْأُصُولِيِّينَ اشترطوا اللُّزُوم الذهْنِي ليحصل
الْفَهم، لَا الْخَارِجِي، فَقَوْلهم أخص، وَذَلِكَ لِأَن
اللَّفْظ غير مَوْضُوع للازم، فَلَو لم يكن كَانَ اللَّازِم
بِحَيْثُ يلْزم من تصور مُسَمّى اللَّفْظ تصَوره لما فهم. /
تَنْبِيه: اسْتشْكل انحصار الدّلَالَة فِي الثَّلَاثَة
بِدلَالَة الْعَام على جزئي مِنْهُ، كدلالة الْمُشْركين على
زيد مِنْهُم، فَإِنَّهُ لَيْسَ مُطَابقَة إِذْ لَيْسَ هُوَ
جَمِيع الْمُشْركين، وَلَا تضمناً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ جُزْءا
مِنْهُم بل جزئياً - وَسَيَأْتِي الْفرق بَينهمَا - وَلَا
التزاماً؛ لِأَنَّهُ دخل فِي لفظ الْمُشْركين [بِوَصْف]
الشّرك.
وَقد يُجَاب: بادعاء كَونه من الْمُطَابقَة: بِاعْتِبَار صدق
الْمُشرك عَلَيْهِ من حَيْثُ هُوَ، وَهُوَ مَوْضُوع اللَّفْظ،
والكمية فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ والجزئية خَارِجَة عَمَّا وضع
لَهُ اللَّفْظ الَّذِي هُوَ كلي.
وبادعاء كَونه من الِالْتِزَام: لِأَن لَازم هَذِه الْمَاهِيّة
الْمَوْضُوع لَهَا الْعُمُوم كل فَرد فَرد، فالفرد لَازم.
(1/320)
قَوْله: {وَهِي [- دلَالَة الِالْتِزَام -]
عقلية، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: والتضمن أَيْضا، وَقيل:
الثَّلَاثَة لفظية} .
هَذَا إِشَارَة إِلَى تَحْقِيق الْخلاف الْمَشْهُور فِي
الدلالات الثَّلَاث، هَل هِيَ كلهَا لفظية، أَو الْمُطَابقَة
فَقَط والأخريان عقليتان، أَو الْمُطَابقَة والتضمن لفظيتان
والالتزام عقلية؟
ثَلَاثَة مَذَاهِب:
الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ أَنَّهَا كلهَا لفظية - قَول
الْأَكْثَر، لِأَن الِاسْتِنَاد للفظ فِي كل من الثَّلَاث،
إِذْ هُوَ وَاسِطَة فِي الدّلَالَة على الْجُزْء وَاللَّازِم،
فَكَانَ كالمطابقة.
الْمَذْهَب الثَّانِي - وَهُوَ أَن الْمُطَابقَة فَقَط لفظية
والتضمن والالتزام عقليتان - قَول الرَّازِيّ، والتلمساني،
والهندي، وَغَيرهم، لِأَن اللَّفْظ الْمَوْضُوع للْكُلّ لم
يوضع للجزء وَلَا للازم، فَمَا دلّ إِلَّا بِوَاسِطَة تضمنه
لَهُ
(1/321)
عقلا ولازميته لَهُ عقلا، فَلذَلِك ينْتَقل
الذِّهْن من الْمُسَمّى إِلَيْهِمَا انتقالاً من الْمَلْزُوم
إِلَى اللَّازِم، فهما عقليتان تابعتان للوضع، وَلَا يعْتَبر
اللُّزُوم الْعقلِيّ، إِذْ يَصح إِطْلَاق الْمُطلق على
الْمُقَيد والجزء على الْكل، والأعم لَا يسْتَلْزم الْأَخَص
والجزء لَا يسْتَلْزم الْكل.
وَالْمذهب الثَّالِث / - وَهُوَ كَون الْمُطَابقَة والتضمن
لفظيتين والالتزام عقلية - قَول الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب،
وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَهُوَ الَّذِي
قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن؛ لِأَن الْجُزْء دَاخل فِيمَا وضع لَهُ
اللَّفْظ بِخِلَاف اللَّازِم فَإِنَّهُ خَارج عَنهُ.
وَقَالَ بَعضهم: (الْخلاف لَفْظِي وَإنَّهُ لَا خلاف فِي
الْمَعْنى، وَلأَجل ذَلِك كَانَ تَقْسِيم الدّلَالَة اللفظية
إِلَى الثَّلَاثَة، فاللفظ مُعْتَبر فِيهَا قطعا وَإِلَّا
فَكَانَ يلْزم أَن يدْخل فِي الْمقسم مَا لَيْسَ مِنْهُ) .
قَوْله: { [والمطابقة أَعم، وَيُوجد مَعهَا تضمن بِلَا
الْتِزَام، وَعَكسه، وَقَالَ الرَّازِيّ: الِالْتِزَام لَازم
لَهَا] ، وهما أَعم من التضمن} .
(1/322)
دلَالَة الْمُطَابقَة أَعم من دلَالَة
التضمن والالتزام، لجَوَاز كَون الْمُطَابقَة بسيطة لَا تضمن
فِيهَا وَلَا لَازم لَهَا ذهني، وَدلَالَة التضمن قد تُوجد
مَعَ الْمُطَابقَة وَلَا يُوجد الْتِزَام، وَعَكسه، وَهُوَ
وجود الْتِزَام مَعهَا وَلَا يُوجد تضمن، وَصرح بِهِ الشريف
الْجِرْجَانِيّ فِي مقدمته فِي " الْمنطق " فَقَالَ: (إِذا
كَانَ اللَّفْظ مَوْضُوعا لِمَعْنى بسيط وَلَيْسَ لَهُ لَازم
ذهني فتوجد الْمُطَابقَة بِدُونِ التضمن والالتزام، فَإِن
كَانَ لَهُ لَازم ذهني فتوجد مَعَ الْمُطَابقَة دلَالَة
الِالْتِزَام بِدُونِ دلَالَة التضمن، وَإِذا كَانَ اللَّفْظ
مَوْضُوعا لِمَعْنى مركب وَلَا يكون لَهُ لَازم ذهني فيوجد
مَعَ الْمُطَابقَة دلَالَة التضمن بِدُونِ دلَالَة
الِالْتِزَام) انْتهى.
وَلم يحضرني الْآن مِثَال للآخرين.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (بَين الدلالات الثَّلَاث عُمُوم وخصوص،
فالمطابقة أعلم مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ كلما وجدت دلَالَة التضمن
أَو الِالْتِزَام وجدت دلَالَة الْمُطَابقَة؛ لِأَن ثمَّ
مُسَمّى حِينَئِذٍ، فاللفظ يدل عَلَيْهِ مُطَابقَة، وَقد تُوجد
دلَالَة الْمُطَابقَة وَلَا يوجدان فِي اللَّفْظ الْمَوْضُوع
للبسائط الَّتِي لَيست لَهَا لَوَازِم بَيِّنَة.
(1/323)
وَأما هما؛ فَكل وَاحِد أعلم من الآخر واخص
من وَجه، فيوجد التضمن بِدُونِ الِالْتِزَام فِي اللَّفْظ
الْمَوْضُوع للمركبات الَّتِي لَيست لَهَا لَوَازِم /
بَيِّنَة، والإلتزام بِدُونِ التضمن فِي اللَّفْظ الْمَوْضُوع
للبسائط الَّتِي لَهَا لَوَازِم بَيِّنَة، ويجتمعان فِي
اللَّفْظ الْمَوْضُوع للمركبات الَّتِي لَهَا لَوَازِم
بَيِّنَة) انْتهى.
وَقَالَ الْقَرَافِيّ أَيْضا: (وَقع للْإِمَام وَغَيره: أَن
دلَالَة الْمُطَابقَة حَقِيقَة والأخريين مجازان، قَالَ:
وَهُوَ غير مُسْتَقِيم) ، وَبَين ذَلِك، ذكره الأسيوطي فِي "
شرح منظومة جمع الْجَوَامِع " لَهُ.
وَمَا قُلْنَا: (إِن دلَالَة الْمُطَابقَة أَعم من الدلالتين)
، هُوَ الصَّحِيح عِنْدهم، وَنَصره القطب الشِّيرَازِيّ
وَغَيره فَقَالَ: (لجَوَاز أَن يكون من الماهيات مَا لَا
يسْتَلْزم شَيْئا كَذَلِك، فَإِذا كَانَ لفظا مَوْضُوعا لتِلْك
الْمَاهِيّة كَانَ دلَالَته عَلَيْهَا مُطَابقَة وَلَا
الْتِزَام لانْتِفَاء شَرطه) .
(1/324)
وَزعم الرَّازِيّ - وَتَبعهُ ابْن قَاضِي
الْجَبَل، وَحَكَاهُ الْهِنْدِيّ عَن الْأَكْثَر -؛ أَن
الْمُطَابقَة مستلزمة للالتزام، لِأَن تصور كل مَاهِيَّة
يسْتَلْزم تصور لَازم من لوازمها، وَأقله أَنَّهَا لَيست
غَيرهَا، وَاللَّفْظ إِذا دلّ على الْمَلْزُوم بالمطابقة دلّ
على اللَّازِم فِي التَّصَوُّر بالالتزام.
وَجَوَابه: أَنا لَا نسلم أَن تصور كل مَا هية يسْتَلْزم تصور
أَنَّهَا لَيست غَيرهَا، فكثيراً مَا نتصور ماهيات وَلم يخْطر
ببالنا غَيرهَا فضلا عَن أَنَّهَا لَيست غَيرهَا، وَمن هُنَا
تبين عدم استلزام التضمن الِالْتِزَام؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا
يعلم وجود لَازم ذهني لكل مَا هية لم يعلم [أَيْضا] وجود لَازم
ذهني لكل مَاهِيَّة مركبة، فَجَاز أَن يكون فِي الماهيات
المركبة مَا لَا يكون لَهُ لَازم ذهني، فاللفظ الْمَوْضُوع
بإزائه دَال على أَجْزَائِهِ بالتضمن والالتزام) ، قَالَه
القطب.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (دلَالَة الِالْتِزَام مُسَاوِيَة
لدلَالَة الْمُطَابقَة، وهما أَعم من التضمن لجَوَاز كَون
الْمَدْلُول وَاللَّازِم بسيطاً لَا جُزْء لَهُ) انْتهى.
قَوْله: {وَغير اللفظية [وضعية وعقلية] } .
تقدم أَن الدّلَالَة تَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ / إِلَى لفظية،
وَإِلَى غير لفظية، وَتقدم الْكَلَام على الدّلَالَة اللفظية
وأنواعها وأحكامها.
(1/325)
وَأما الدّلَالَة غير اللفظية فَهِيَ
قِسْمَانِ: وضعية، وعقلية.
فالوضعية: كدلالة الأقدار على مقدوراتها، وَمِنْه دلَالَة
السَّبَب على الْمُسَبّب ك (الدلوك) على وجوب الصَّلَاة،
وكدلالة الْمَشْرُوط على وجود الشَّرْط كَالصَّلَاةِ على
الطَّهَارَة وَإِلَّا لما صحت.
قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الشمسية ": (
[الدّلَالَة] الوضعية غير اللفظية كدلالة الْخط وَالْعقد
وَالْإِشَارَة وَالنّصب) انْتهى.
والعقلية: كدلالة الْأَثر على الْمُؤثر، وَمِنْه دلَالَة
الْعَالم على موجده وَهُوَ الله تَعَالَى، وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ: اسْتِعْمَاله فِي
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز} .
الدّلَالَة اللفظية تَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ:
(1/326)
أَحدهمَا: دلَالَة اللَّفْظ، وَالثَّانِي:
الدّلَالَة بِاللَّفْظِ.
قَالَ الخسروشاهي: (وَقد خَفِي على ابْن الْخَطِيب الْفرق بَين
دلَالَة اللَّفْظ، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ) انْتهى.
فَمَا تقدم من الدلالات اللفظية هِيَ دلَالَة اللَّفْظ، وَأما
الدّلَالَة بِاللَّفْظِ، فَهُوَ: اسْتِعْمَاله إِمَّا فِي
مَوْضُوعه وَهُوَ الْحَقِيقَة، أَو فِي غير [مَوْضُوعه] لعلاقة
وَهُوَ الْمجَاز.
وَالْبَاء فِي قَوْله: (بِاللَّفْظِ) ، للاستعانة والسببية
لِأَن الْإِنْسَان يدلنا على مَا فِي بِإِطْلَاق لَفظه، فإطلاق
اللَّفْظ آلَة للدلالة، كالقلم للكتابة.
إِذا علم ذَلِك؛ فَالْفرق بَين دلَالَة اللَّفْظ وَالدّلَالَة
بِاللَّفْظِ من وُجُوه:
أَحدهَا: من الْمحل، فَمحل دلَالَة اللَّفْظ الْقلب، وَمحل
الدّلَالَة بِاللَّفْظِ وَاللِّسَان وَغَيره من المخارج.
(1/327)
الثَّانِي: من جِهَة الْمَوْصُوف، فدلالة
اللَّفْظ صفة السَّامع، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ صفة
الْمُتَكَلّم.
الثَّالِث: من جِهَة السَّبَب، فالدلالة بِاللَّفْظِ سَبَب،
وَدلَالَة اللَّفْظ مسبب عَنْهَا.
الرَّابِع: من جِهَة الْوُجُود، فَكلما وجدت دلَالَة اللَّفْظ
وجدت الدّلَالَة بِاللَّفْظِ، بِخِلَاف الْعَكْس.
الْخَامِس: من جِهَة / الْأَنْوَاع، فدلالة اللَّفْظ ثَلَاثَة
أَنْوَاع: مُطَابقَة وتضمن والتزام، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ
نَوْعَانِ: حَقِيقَة ومجاز.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (فدلالة اللَّفْظ: فهم السَّامع من كَلَام
الْمُتَكَلّم كَمَال الْمُسَمّى أَو جزءه أَو لَازمه، أَو
كَونه بِحَيْثُ إِذا أطلق فهم السَّامع مِنْهُ ذَلِك، عبارتان
للْمُتَقَدِّمين، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ، هِيَ اسْتِعْمَاله
فِي مَوْضُوعه أَو غَيره لعلاقة.
قَالَ: وَالْفرق بَينهمَا وَاقع من خَمْسَة عشر وَجها:
فَإِن الأولى صفة للسامع، وَالثَّانيَِة صفة للمتكلم.
وَالْأولَى محلهَا الْقلب؛ لِأَنَّهُ موطن الْعلم والظنون،
وَالْأُخْرَى محلهَا اللِّسَان وقصبة الرئة.
وَالْأولَى علم أَو ظن، وَالْأُخْرَى أصوات مقطعَة.
وَالْأولَى مَشْرُوط فِيهَا الْحَيَاة، وَالْأُخْرَى يَصح
قِيَامهَا بالجماد، فَإِن الْأَصْوَات لَا تشْتَرط فِيهَا
الْحَيَاة.
وَالْأولَى تتنوع إِلَى مُطَابقَة وتضمن والتزام، وَلَا تعرض
لِلْأُخْرَى.
وَالثَّانيَِة إِلَى حَقِيقَة ومجاز، وَلَا يعرضان لتِلْك.
(1/328)
وَالثَّانيَِة سَبَب، وَالْأولَى مسببة
عَنْهَا.
وَكلما وجدت الأولى وجدت الثَّانِيَة، لِأَن فهم مُسَمّى
اللَّفْظ مِنْهُ فرع النُّطْق بِهِ وَلَا عكس، فقد يُوجد
النُّطْق وَلَا يفهم الْمَدْلُول؛ لمَانع فِي السَّامع من
غَفلَة، أَو جهل باللغة، وَنَحْو ذَلِك.
وَالْأولَى حَقِيقَة وَاحِدَة لَا تخْتَلف فِي نَفسهَا؛
لِأَنَّهَا علم أَو ظن، وهما أَبَد الدَّهْر على حَالَة،
وَالثَّانيَِة تخْتَلف لاخْتِلَاف الِاسْتِعْمَال بِوُجُوب
التَّقْدِيم تَارَة وَمنعه أُخْرَى، إِلَى غير ذَلِك من
اخْتِلَاف أوضاع اللُّغَات الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا.
وَالْأولَى لَا تدْرك بالحس، وَالثَّانيَِة تسمع.
وَالثَّانيَِة بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء من المصادر السيالة
الَّتِي لَا تبقى زمانين، وَالْأولَى مُخْتَلف فِيهَا هَل تبقى
أَو لَا؟
وَالْأولَى دَائِما مُسَمّى وَاحِد وَهِي علم أَو ظن،
وَالثَّانيَِة [لَا تسمع غَالِبا إِلَّا من مسموعات عديدة] ،
والنطق بالحرف الْوَاحِد نَحْو (ق) و (ع) نَادِر.
وَالْأولَى تَأتي / من [الْأَخْرَس] ، بِخِلَاف الْأُخْرَى.
وَالْأولَى يُمكن قِيَامهَا بِغَيْر المتحيز، وَالثَّانيَِة
لَا تقوم إِلَّا بالمتحيز،
(1/329)
وَلذَلِك أحلنا الْأَصْوَات على الله، وَله
الْعلم الْمُتَعَلّق بِجَمِيعِ المعلومات؟
وَالْأولَى لَا تتَصَوَّر من غير سميع فَإِن فهم معنى اللَّفْظ
فرع سَمَاعه، بِخِلَاف الْأُخْرَى.
وَالْأولَى لَا تُوصَف بِشَيْء مِمَّا تُوصَف بِهِ الثَّانِيَة
من صِفَات الْكَلَام من الفصاحة واللكنة والتمتمة والجهورية
وَغير ذَلِك) انْتهى كَلَام الْقَرَافِيّ.
قَوْله: {والملازمة: عقلية، وشرعية، وعادية} .
فالعقلية: كالزوجية للاثنين، والشرعية: كالوجوب للمكلف،
والعادية كالسرير للارتفاع.
قَوْله: {وَتَكون قَطْعِيَّة، وضعيفة جدا، وكلية، وجزئية} .
فالقطعية: كالزوجية للاثنين أَيْضا، والضعيفة جدا: ككون عَادَة
زيد [إِذا أَتَى يَحْجُبهُ عَمْرو] ، والكلية، كالزوجية
للعشرة، والجزئية: كملازمة الْمُؤثر للأثر حَال حُدُوثه.
(1/330)
قَوْله {فصل}
{إِذا اتَّحد اللَّفْظ ومدلوله} - أَي: مَعْنَاهُ - {واشترك
فِي مَفْهُومه كثير} - يحملهُ عَلَيْهِم إِيجَابا لَا سلباً،
لِأَن الجزئي يشْتَرك بَين كثيرين بسلبه عَنْهَا فَالْمُعْتَبر
الْإِيجَاب - {وَلَو بِالْقُوَّةِ: فكلي، وَهُوَ ذاتي، وعرضي}
.
اعْلَم أَن معنى اللَّفْظ إِن لم يمْنَع تصَوره من وُقُوع
الشّركَة فكلي كإنسان.
والكلي لَهُ تقسيمات؛ لِأَنَّهُ: إِمَّا أَن يُوجد مِنْهُ فِي
الْخَارِج، أَو لَا يُوجد، فَإِن وجد: فَأَما أَن يُوجد وَاحِد
فَقَط، أَو كثير، وَمَا وجد مِنْهُ وَاحِد: إِمَّا أَن يكون
غَيره مُمْتَنعا وجوده، أَو جَائِزا، وَمَا وجد مِنْهُ كثير:
فإمَّا أَن يكون متناهياً، أَو غير متناه، وَالَّذِي لم يُوجد
مِنْهُ شَيْء: إِمَّا أَن يُمكن وجوده، أَو يَسْتَحِيل،
فَهَذِهِ سِتَّة أَقسَام.
وَبِهَذَا يعلم أَن التَّعْبِير بقولنَا: (إِن لم يمْنَع)
إِلَى آخِره /، أولى من نَحْو قَول ابْن الْحَاجِب: (إِن
اشْترك فِي مَفْهُومه [كَثِيرُونَ] ) ، لخُرُوج بعض
(1/331)
هَذِه الْأَقْسَام عَن تَعْبِيره، إِلَّا
أَن يحمل قَوْله (إِن اشْترك) على الْأَعَمّ من الِاشْتِرَاك
بِالْفِعْلِ أَو بِالْقُوَّةِ، لذَلِك قُلْنَا فِي الْمَتْن:
(وَلَو بِالْقُوَّةِ) ، لأجل مَا يرد عَلَيْهِ.
مِثَال مَا وجد مِنْهُ وَاحِد وَامْتنع غَيره: " إِلَه "،
فَإِن الله لَا إِلَه غَيره، وَلَا يُمكن وجود إِلَه غَيره،
لقَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله
لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] ، وَمعنى دُخُول " إِلَه " فِي
تَعْرِيف الْكُلِّي: أَنه لَا يمْنَع تصور مَعْنَاهُ من
الشّركَة فِي مَعْنَاهُ بِاعْتِبَار التَّصَوُّر فِي الذِّهْن،
لَا بِاعْتِبَار الْمُمكن فِي الْخَارِج، فَلهَذَا ضل من ضل
[بالإشتراك] .
وَمِثَال مَا وجد مِنْهُ وَاحِد وَلَا يمْتَنع وجود غَيره:
الشَّمْس.
وَمِثَال مَا وجد مِنْهُ كثير فِي الْخَارِج وَهُوَ متناه:
إِنْسَان، وَغير المتناهي مُتَعَذر على قَول أهل السّنة؛ إِذْ
لَا يُوجد فِي الْعَالم شَيْء من الموجودات إِلَّا وَهُوَ
متناه.
وَمِثَال مَا لَا يُوجد مِنْهُ شَيْء أصلا وَيُمكن وجوده: بَحر
من زئبق.
وَمِثَال مَا يَسْتَحِيل: شريك الْبَارِي سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ محَال، وَلَا يخفى مَا فِي التَّمْثِيل
بِهِ وَبِمَا قبله من إساءة الْأَدَب، وَهَذَا من اصْطِلَاحَات
المناطقة.
وَقَوله: وَهُوَ ذاتي، وعرضي، يَعْنِي: أَن الْكُلِّي
يَنْقَسِم إِلَى: ذاتي، وعرضي.
(1/332)
فالذاتي: هُوَ الَّذِي لم يخرج عَن
حَقِيقَة الشَّيْء، مثل: الْحَيَوَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْإِنْسَان، والعرضي: هُوَ الَّذِي يخرج عَن حَقِيقَته، مثل:
الضاحك.
قَوْله: {فَإِن تفَاوت فمشكك، وَإِلَّا فمتواط} .
إِذا تفَاوت أَفْرَاد الْكُلِّي فِي مَدْلُوله بأولوية
وَعدمهَا، أَو شدَّة وَضعف، أَو تقدم وَتَأَخر، - كالوجود
للخالق والمخلوق، فَإِنَّهُ يتَفَاوَت فيهمَا بالاعتبارات
[الثَّلَاثَة؛ فَإِنَّهُ] فِي الْخَالِق أَشد واقدم وَأولى -
فمشكك، فأفراد الْكُلِّي تَتَفَاوَت بِاعْتِبَار الْوُجُوب
والإمكان، كالوجود للقديم والحادث كَمَا مثلنَا، وَبِاعْتِبَار
الِاسْتِغْنَاء والافتقار، كالموجود الْمُمكن للجوهر المستغني
عَن مَحل وَالْعرض / المفتقر إِلَى مَحل يقوم بِهِ.
وَبِاعْتِبَار الشدَّة والضعف، كبياض الثَّلج وَبَيَاض العاج،
وكالنور لضوء الشَّمْس وضوء السراج.
وَسمي مشككاً: لما فِيهِ من تشكيك النَّاظر فِي مَعْنَاهُ، هَل
هُوَ متواط لوُجُود الْكُلِّي فِي أَفْرَاده، أَو مُشْتَرك
لتغاير أَفْرَاده؟
فَهُوَ اسْم فَاعل من (شكك) المضاعف من (شكّ) إِذا تردد.
(1/333)
وتمثيلنا بالوجود للخالق والمخلوق للمشكك،
ذكره بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، تبعا للآمدي، وَابْن
الْحَاجِب؛ لكَونه حَقِيقَة فيهمَا عِنْد أَصْحَابنَا
وَغَيرهم، وَذكره الْآمِدِيّ إِجْمَاعًا، وَذكر أَصْحَابنَا
فِي كتب الْفِقْه أَنه حَقِيقَة فِي الْخَالِق، مجَاز فِي
الْمَخْلُوق، وَقَالَهُ النَّاشِئ المعتزلي، وَعَن جهم وَمن
تبعه عكس ذَلِك، يَعْنِي: حَقِيقَة فِي الْمَخْلُوق، مجَاز فِي
الْخَالِق.
(1/334)
وَقَوله: وَإِلَّا فمتواط، يَعْنِي: وَإِن
لم تَتَفَاوَت أَفْرَاد الْكُلِّي فمتواط، لِأَنَّهُ الَّذِي
يتساوى أَفْرَاده بِاعْتِبَار ذَلِك الْكُلِّي الَّذِي تشاركت
فِيهِ، كالإنسان بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَفْرَاده؛ فَإِن
الْكُلِّي فِيهَا وَهُوَ الحيوانية والناطقية لَا تَتَفَاوَت
فِيهَا بِزِيَادَة وَلَا نقص.
وَسمي بذلك من التواطؤ وَهُوَ التوافق، قَالَ الله تَعَالَى:
{ليواطئوا عدَّة مَا حرم الله} [التَّوْبَة: 37] ، أَي:
ليوافقوا.
فإطلاق لفظ (المبدأ) على النقطة - أول خطّ - أَو على آن - أول
زمَان - متواط، وَقيل: مُشْتَرك، وَالْمرَاد: إِن أضيف إِلَى
الْخط.
وَإِطْلَاق لفظ (الخمري) على التَّمْر وَالْعِنَب والدواء
لعُمُوم النِّسْبَة إِلَى
(1/335)
الْخمر متواط، وباختلاف النّسَب مُشْتَرك،
وَلَفظ (أسود) لقار وزنجي متواط، ولرجل مُسَمّى بأسود وقار
مُشْتَرك.
تَنْبِيه: اشْتِرَاط عدم التَّفَاوُت فِي المتواطئ كَيفَ
يُجَامع قَوْلهم: سمي مشككاً لشك النَّاظر فِي كَونه متواطئاً؟
كَيفَ يَقع الشَّك وَالْفَرْض أَنه متفاوت وَقد شَرط فِي
المتواطئ عدم التَّفَاوُت؟
وَيُمكن الْجَواب عَنهُ: بِأَن تقَابل المتواطئ / والمشكك
تقَابل الْأَعَمّ والأخص، فالمتواطئ أَعم من المشكك، فَيكون
المُرَاد بقَوْلهمْ: (إِن تَسَاوَت أَفْرَاده) أَي: لم يشْتَرط
فِيهَا تفَاوت بل سَوَاء اتّفق فِيهَا وُقُوع تفَاوت، [أَو
لَا؛ لِأَن] النّظر إِلَى كَونه متواطئاً من حَيْثُ
الِاشْتِرَاك.
وَبِذَلِك يجمع بَين قَول ابْن الْحَاجِب: (فَإِن تفَاوت
كالوجود للخالق والمخلوق فمشكك وَإِلَّا فمتواط) ، وَقَوله فِي
مَسْأَلَة وُقُوع الْمُشْتَرك، فِي جَوَاب اسْتِدْلَال لَا
يرتضيه: (وَأجِيب بِأَن الْوُجُوب والإمكان لايمنع التواطؤ)
فَجعله متواطئاً مرّة، ومشككاً أُخْرَى، فَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا
لما ذكرنَا لَا تناقضاً.
(1/336)
وَمن هُنَا يعلم جَوَاب سُؤال ابْن
التلمساني الْمَشْهُور: أَنه لَا حَقِيقَة للمشكك، لِأَن مَا
حصل بِهِ الِاخْتِلَاف إِن دخل فِي التَّسْمِيَة كَانَ
اللَّفْظ مُشْتَركا، وَإِلَّا كَانَ متواطئاً؛ لأَنا نقُول:
[هُوَ دَاخل] فِي التَّسْمِيَة، وَلَا يلْزم أَن يكون
مُشْتَركا؛ لِأَن الْمُشْتَرك مَا لَيْسَ بَين معنييه قدر
مُشْتَرك سمي بذلك الِاسْم، وَلَا يكون خَارِجا من المتواطئ؛
لِأَن [المتواطئ] أَعم مِمَّا تَسَاوَت أَفْرَاده أَو تفاوتت،
إِلَّا أَنه إِذا كَانَ فِيهِ تفَاوت فَهُوَ مشكك، وَهَذَا
أحسن من جَوَاب الْقَرَافِيّ عَنهُ: بِأَن كلا من المتواطئ
والمشترك مَوْضُوع للقدر الْمُشْتَرك، وَلَكِن الِاخْتِلَاف
إِن كَانَ بِأُمُور من جنس الْمُسَمّى فمشكك أَو بِأَمْر خَارج
فمتواط؛ لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يمشي فِيمَا فِيهِ التَّفَاوُت
[بالشدة] والضعف فَقَط، لَا فِيمَا هُوَ مُخْتَلف بالإمكان
وَالْوُجُوب، أَو بالاستغناء والافتقار، وَنَحْو ذَلِك، وَالله
أعلم.
قَوْله: {وَإِن لم يشْتَرك فجزئي} .
أَي: وَإِن لم يشْتَرك فِي مَفْهُومه كثير فجزئي، مثل: زيد،
وَعَمْرو، وَهَذَا الْإِنْسَان.
والجزئي يُقَال على المندرج تَحت الْكُلِّي.
(1/337)
{وَيُسمى النَّوْع جزئياً إضافياً} ، مثل:
الْإِنْسَان، [جزئي] ، لِأَنَّهُ مندرج تَحت كلي، فَهُوَ
كالجنس، فَكل جنس وَنَوع عَال أَو وسط أَو سافل كلي لما
تَحْتَهُ جزئي لما فَوْقه، لَكِن لابد فِي الجزئي من مُلَاحظَة
قيد الشَّخْص وَالتَّعْيِين / فِي التَّصَوُّر، وَإِلَّا لصدق
أَنه لم يمْنَع تصَوره من وُقُوع الشّركَة فِيهِ، إِذْ لابد من
اشْتِرَاك وَلَو فِي أخص صِفَات النَّفس.
قَوْله: { [كمضمر فِي الْأَصَح] } .
اخْتلف فِي مُسَمّى لفظ الْمُضمر حَيْثُ وجد، هَل هُوَ كلي أَو
جزئي؟ قَالَ الْقَرَافِيّ: (فَرَأَيْت الْأَكْثَر على أَن
مُسَمَّاهُ جزئي، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِوَجْهَيْنِ.
الأول: أَن النُّحَاة أَجمعُوا على أَن الْمُضمر معرفَة،
وَالصَّحِيح: أَنه أعرف المعارف، فَلَو كَانَ مُسَمَّاهُ كلياً
لَكَانَ نكرَة فَإِن النكرَة إِنَّمَا كَانَت نكرَة؛ لِأَن
مسماها كلي مُشْتَرك فِيهِ بَين أَفْرَاد غير متناهية لَا
يخْتَص بِهِ وَاحِد مِنْهَا دون الآخر، والمضمر لَيْسَ
كَذَلِك.
(1/338)
الثَّانِي: أَن مُسَمّى الْمُضمر إِذا
كَانَ كلياً كَانَ دَالا على مَا هُوَ أَعم من الشَّخْص
الْمعِين، وَالْقَاعِدَة الْعَقْلِيَّة: أَن الدَّال على
الْأَعَمّ غير دَال على الْأَخَص، فَيلْزم أَن لَا يدل
الْمُضمر على شخص خَاص أَلْبَتَّة، وَلَيْسَ كَذَلِك.
قَالَ: وَالصَّحِيح خلاف هَذَا الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ الأقلون،
وَهُوَ الَّذِي أَجْزم بِصِحَّتِهِ، وَهُوَ أَن مُسَمَّاهُ
كلي، وَالدَّلِيل [عَلَيْهِ] أَنه لَو كَانَ مُسَمَّاهُ جزئياً
لما صدق على شخص آخر إِلَّا بِوَضْع آخر كالأعلام، فَإِنَّهَا
لما كَانَ مسماها جزئياً لم تصدق على غير من وضعت لَهُ إِلَّا
بِوَضْع ثَان)
وَأطَال فِي ذَلِك وَفِي الرَّد على القَوْل الأول.
تَنْبِيه: قد قسم الجزئي إِلَى: نكرَة، وَمَعْرِفَة؛ وَاعْترض:
إِذا كَانَت النكرَة فِيهَا شيوع كَانَت مِمَّا لَا يمْنَع
تصَوره من وُقُوع الشّركَة فِيهِ.
وَأجِيب: أَن المُرَاد بِالشّركَةِ فِي الْكُلِّي التَّعَدُّد
لمحاله، وَإِذا كَانَت النكرَة فَردا وَاحِدًا، وَاللَّفْظ
إِنَّمَا دلّ عَلَيْهِ من حَيْثُ هُوَ فَرد، فقد منع تصَوره من
وُقُوع الشّركَة فِيهِ من حَيْثُ فرديته، وَلِهَذَا كَانَ
دَاخِلا فِي الْجمع وَنَحْوه، وَفِي الْأَعْدَاد نَحْو
ثَلَاثَة وَعشرَة؛ لِأَن الْجمع لَيْسَ قَابلا لِأَن يكون
جمعين، وَلَا الْعشْرَة عشرتين، فَتَأمل ذَلِك فَإِنَّهُ
دَقِيق / وَالله أعلم.
{وَإِن تعددا فمتباينة} .
(1/339)
يَعْنِي: إِن تعدد اللَّفْظ وَالْمعْنَى
فأساه متباينة لتباينها، لكَون كل وَاحِد مِنْهَا مبايناً
للْآخر فِي مَعْنَاهُ.
سَوَاء { [تفاصلت] } .
أَي: لَيْسَ لأَحَدهمَا ارتباط بِالْآخرِ، كإنسان وَفرس، وَضرب
زيد عمرا.
{ [أَو تواصلت] } .
بِأَن كَانَ بعض الْمعَانِي صفة للْبَعْض الآخر، كالسيف
والصارم، فَإِن السَّيْف اسْم للحديدة الْمَعْرُوفَة وَلَو
مَعَ كَونهَا كالة، والصارم اسْم للقاطعة، وكالناطق والفصيح
والبليغ، وَالْمرَاد: أَنه يُمكن اجْتِمَاعهمَا فِي شَيْء
وَاحِد، وَنَحْوه لَو كَانَ أَحدهمَا جُزْءا من الآخر كالإنسان
وَالْحَيَوَان.
قَوْله: {وَإِن اتَّحد اللَّفْظ وتعدد الْمَعْنى: إِن كَانَ
حَقِيقَة [للمتعدد] فمشترك [مُطلقًا] ، وَإِلَّا فحقيقة ومجاز}
.
إِذا اتَّحد اللَّفْظ وتعدد الْمَعْنى يَنْقَسِم قسمَيْنِ: إِن
كَانَ اللَّفْظ حَقِيقَة للمتعدد فَهُوَ مُشْتَرك، سَوَاء
تباينت المسميات أَو لَا، على مَا يَأْتِي فِي الْمُشْتَرك:
مثل: الْعين والشفق والجون وَنَحْوهَا، وَلِهَذَا قُلْنَا:
(مُطلقًا) .
(1/340)
وَإِن لم يكن حَقِيقَة للمتعدد، أَي: لَا
يكون مَوْضُوعا بِإِزَاءِ كل وَاحِد مِنْهَا وضعا حَقِيقَة
أَولا، بل يكون مَوْضُوعا لأحدها ثمَّ نقل للْبَاقِي لمناسبة،
فَهُوَ حَقِيقَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَوْضُوع لَهُ، مجَاز
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنْقُول إِلَيْهِ، كالأسد فَإِنَّهُ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَان المفترس حَقِيقَة، وبالنسبة
إِلَى الرجل الشجاع مجَاز.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَهَذَا بِنَاء على أَن الْمجَاز
يسْتَلْزم الْحَقِيقَة، وَإِلَّا فقد يكون لَهما مجازين) .
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (إِذا
اتَّحد اللَّفْظ وتعدد الْمَعْنى وَوضع لأَحَدهمَا ثمَّ نقل
إِلَى الآخر لعلاقة سمي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأول مَنْقُولًا
عَنهُ، وبالنسبة إِلَى الثَّانِي مَنْقُولًا إِلَيْهِ.
وَمُقْتَضى هَذَا: أَنه لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الْحَقِيقَة
وَالْمجَاز، وَهُوَ مُخَالف لقَولهم: إِنَّه قد تكون
الْحَقِيقَة مرجوحة وَالْمجَاز راجحاً) .
قَوْله: / {وَعَكسه مترادفة} .
أَي: عكس الَّذِي قبله، وَالْعَكْس: إِذا تعدد اللَّفْظ واتحد
الْمَعْنى، تكون متردافة، كالأسد والغضنفر وَاللَّيْث
وَنَحْوه، وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا وضع للحيوان المفترس.
قَوْله: {وَكلهَا: مُشْتَقّ} : إِن دلّ على ذِي صفة مُعينَة،
كضارب وعالم
(1/341)
وَنَحْوهمَا، {وَغير مُشْتَقّ} : إِن لم
يكن كَذَلِك كالجسم وَالْإِنْسَان وَالرجل.
وَأَيْضًا كل وَاحِد مِنْهَا {صفة} : إِن دلّ على معنى قَائِم
بِذَات، كالضحك وَالْعلم وَالْكِتَابَة، وَقَالَ الْعَضُد
هُنَا: (الصّفة مَا يدل على ذَات غير مُعينَة بِاعْتِبَار معنى
معِين كضارب) .
{وَغير صفة} : كالجسم وَالْإِنْسَان وَالرجل وَنَحْوهَا.
قَوْله: {وَيكون اللَّفْظ الْوَاحِد: متواطئاً، ومشتركاً،
ومتبايناً، ومترادفاً، باعتبارات} .
يكون اللَّفْظ الْوَاحِد: متواطئاً، ومشتركاً، باعتبارين،
كَمَا تقدم فِي إِطْلَاق لفظ (الْخمر) على التَّمْر وَالْعِنَب
والدواء لعُمُوم النِّسْبَة إِلَى الْخمر متواط، وباختلاف
النّسَب مُشْتَرك، وَلَفظ (أسود) لقار وزنجي متواط، ولرجل
مُسَمّى بأسود وقار مُشْتَرك.
وَيكون - أَيْضا -: متبايناً، ومترادفاً، باعتبارين، قَالَه
ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله "، وَالظَّاهِر أَن
مُرَاده: مَا قَالَه ابْن حمدَان فِي مقنعه "، وَابْن مُفْلِح
فِي " أُصُوله "، وَغَيرهمَا، فِي صارم ومهند: (فَإِنَّهُمَا
مُتَرَادِفَانِ على الذَّات
(1/342)
كسيف، ومتباينان صفة، وناطق وفصيح
متباينان؛ لاختلافهما معنى، ومترادفان، على موصوفهما من لِسَان
أَو إِنْسَان) انْتهى.
قَوْله: فَائِدَة: {الْعلم: اسْم يعين مُسَمَّاهُ مُطلقًا} .
تقدم أَن الْعلم من أَقسَام الجزئي، فَهُوَ دَاخل فِي أَحْكَام
الجزئي، وَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ هُنَا لأحكام تخْتَص بِهِ، قد
عَرفْنَاهُ بِأَنَّهُ: اسْم يعين مُسَمَّاهُ مُطلقًا.
فقولنا: (اسْم) ، جنس.
و (يعين مُسَمَّاهُ) ، فصل مخرج للنكرات.
و (مُطلق) ، مخرج لما سوى الْعلم من المعارف، فَإِنَّهُ لَا
يُعينهُ إِلَّا بِقَرِينَة: إِمَّا لفظية / ك (أل) ، أَو
معنوية كالحضور والغيبة فِي (أَنْت) و (هُوَ) .
وَهَذَا الْحَد لِابْنِ مَالك فِي " ألفيته "، وَهُوَ أحسن من
حد ابْن الْحَاجِب فِي " الكافية "، وَمن تبعه، لقَوْله: (هُوَ
مَا وضع لمُعين لَا يتَنَاوَل غَيره) ، لما عَلَيْهِ من
الاعتراضات.
(1/343)
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره:
(وَاعْترض عَلَيْهِ فِي قَوْله: لَا يتَنَاوَل غَيره،
بِأَنَّهُ إِذا قصد بذلك إِخْرَاج الضَّمِير كَأَنْت مثلا،
فَإِنَّهُ يَصح أَن يُخَاطب بِهِ زيد وَعَمْرو وَغَيرهمَا،
يُقَال لَهُ: وَالْعلم كَذَلِك، فَكَمَا أَنه قد يعرض
الِاشْتِرَاك فِي لفظ الضَّمِير بِحَسب الْمُخَاطب، قد يعرض
للْعلم بِاعْتِبَار تعدد التَّسْمِيَة، لَكِن كل مِنْهُمَا لم
يوضع إِلَّا لوحد بِخِلَاف النكرات - قَالَ -: وَلَو تبع فِي "
جمع الْجَوَامِع " لِابْنِ مَالك فِي تَعْرِيفه كَانَ أحسن)
انْتهى.
قَوْله: {فَإِن كَانَ التَّعْيِين خارجياً فَعلم شخص، وَإِلَّا
فَعلم جنس، والموضوع للماهية من حَيْثُ هِيَ اسْم جنس} .
الْعلم يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ:
أَحدهمَا: علم شخص، كزيد وَنَحْوه.
الثَّانِي: علم جنس، كأسامة علم على الْأسد وَنَحْوه.
وَالْفرق بَينهمَا: بِأَن التَّعْيِين فِي الشخصي خارجي، وَفِي
الجنسي ذهني.
وَتَقْرِير الْفرق: أَن علم الشَّخْص مَوْضُوع للْحَقِيقَة
بِقَيْد الشَّخْص الْخَارِجِي، وَعلم الْجِنْس مَوْضُوع
للماهية بِقَيْد الشَّخْص الذهْنِي.
وَإِنَّمَا وضع علما لبَعض الْأَجْنَاس الَّتِي لَا تؤلف
غَالِبا كالسباع
(1/344)
والوحوش، وَقد يَأْتِي فِي بعض المألوفات
كَأبي المضا لجنس الْفرس.
وَعلم الْجِنْس يُسَاوِي علم الشَّخْص فِي أَحْكَامه اللفظية،
فَإِنَّهُ لَا يُضَاف، وَلَا يدْخل عَلَيْهِ حرف التَّعْرِيف،
وَلَا ينعَت بنكرة، وَلَا يقبح مَجِيئه مُبْتَدأ، وَلَا انتصاب
النكرَة بعده على الْحَال، وَلَا يصرف مِنْهُ مَا فِيهِ سَبَب
زَائِد على العلمية كأسامة.
ويفارقه من جِهَة الْمَعْنى لعمومه، إِذْ لَيْسَ بعض
الْأَشْخَاص أولى بِهِ من بعض، أَلا ترى أَن أُسَامَة صَالح
لكل أَسد بِخِلَاف الْعلم الشخصي.
فَإِن قلت: مَا الْفرق بَينه وَبَين اسْم الْجِنْس النكرَة من
جِهَة الْمَعْنى؟
قلت: ذهب ابْن مَالك، وَجمع: إِلَى أَن أُسَامَة / لَا يُخَالف
فِي مَعْنَاهُ دلَالَة أَسد، وَإِنَّمَا يُخَالِفهُ فِي أحاكم
لفظية، وَإِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ أَنه معرفَة مجَازًا.
قَالَ ابْن مَالك: (أُسَامَة نكرَة معنى، معرفَة لفظا،
وَإنَّهُ فِي [الشياع] كأسد) .
(1/345)
قَالَ الْمرَادِي فِي " شرح ألفيته ":
(وَأَقُول: تَفْرِقَة الْوَاضِع بَين " أُسَامَة " و " أَسد "
فِي الْأَحْكَام اللفظية، يُؤذن بفرق من جِهَة الْمَعْنى.
وَمِمَّا قيل فِي ذَلِك: إِن " أسداً " وضع ليدل على شخص
معِين، وَذَلِكَ الشَّخْص لَا يمْتَنع أَن يُوجد مِنْهُ
أَمْثَاله، فَوضع على [الشياع] فِي جُمْلَتهَا / وَوضع "
أُسَامَة " لَا بِالنّظرِ إِلَى شخص، بل على معنى الأَسدِية
المعقولة، الَّتِي [لَا يُمكن] أَن تُوجد خَارج الذِّهْن، بل
هِيَ مَوْجُودَة فِي النَّفس، وَلَا يُمكن أَن يُوجد مِنْهَا
اثْنَان أصلا فِي الذِّهْن، ثمَّ صَار أُسَامَة يَقع على
الْأَشْخَاص، لوُجُود مَاهِيَّة ذَلِك الْمَعْنى الْمُفْرد
الْكُلِّي فِي الْأَشْخَاص.
وَالتَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن نقُول: اسْم الْجِنْس: هُوَ
الْمَوْضُوع للْحَقِيقَة الذهنية من حَيْثُ هِيَ هِيَ، فاسم
أَسد مَوْضُوع للْحَقِيقَة من غير اعْتِبَار قيد مَعهَا أصلا،
وَعلم الْجِنْس كأسامة مَوْضُوع للْحَقِيقَة بِاعْتِبَار
حُضُورهَا الذهْنِي الَّذِي هُوَ نوع تشخيص لَهَا مَعَ قطع
النّظر عَن أفرادها، وَنَظِيره الْمُعَرّف بِاللَّامِ الَّتِي
للْحَقِيقَة والماهية.
وَبَيَان ذَلِك: أَن الْحَقِيقَة الْحَاضِرَة فِي الذِّهْن
وَإِن كَانَت عَامَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى أفرادها فَهِيَ
بِاعْتِبَار حُضُورهَا فِيهِ أخص من مُطلق الْحَقِيقَة، فَإِذا
استحضر الْوَاضِع صُورَة الْأسد فَإِن هَذِه الصُّورَة وَاقعَة
لهَذَا الشَّخْص فِي زمَان، وَمثلهَا يَقع فِي زمَان آخر وَفِي
ذهن آخر، والجميع يشْتَرك فِي مُطلق صُورَة
(1/346)
الْأسد، فَإِن وضع لَهَا من حَيْثُ خصوصها،
فَهُوَ علم الْجِنْس أَو من حَيْثُ عمومها، فَهُوَ اسْم
الْجِنْس) انْتهى.
وَالْفرق بَين علم الْجِنْس وَاسم الْجِنْس من أغمض مسَائِل
النَّحْو حَتَّى قَالَ الْقَرَافِيّ: (كَانَ الخسروشاهي يقرره،
وَلم أسمعهُ من أحد إِلَّا مِنْهُ، وَكَانَ يَقُول: مَا فِي
الْبِلَاد المصرية من يعرفهُ) انْتهى.
(1/347)
قَوْله: / {فصل}
{أَصْحَابنَا، وَالْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة: الْمُشْتَرك
وَاقع لُغَة جَوَازًا، تبايناً، أَو تواصلاً، [بِكَوْنِهِ
جُزْءا لآخر، أَو لَازمه] } .
قد تقدم: أَن الْمُشْتَرك مَا اتَّحد لَفظه وتعدد مَعْنَاهُ،
وَله أَنْوَاع:
الأول: أَن يوضع لكل وَاحِد من ذَلِك الْمَعْنى المتعدد، فيسمى
(1/348)
الْمُشْتَرك، وَأَصله أَن يُقَال:
الْمُشْتَرك فِيهِ، فحذفت لَفْظَة (فِيهِ) توسعاً لِكَثْرَة
دوره فِي الْكَلَام، أَو لكَونه صَار لقباً، كَمَا قَالَه ابْن
الْحَاجِب فِي " شرح الْمفصل ".
إِذا علم ذَلِك؛ فَهُوَ وَاقع لُغَة جَوَازًا، عندنَا، وَعند
الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر من طوائف
الْعلمَاء، فَيَقَع فِي الْأَسْمَاء كالقرء: للْحيض،
وَالطُّهْر، وَالْعين: للباصرة، وَالْجَارِيَة، وَالذَّهَب،
وَعين الشَّمْس، وَعين الْمِيزَان، [والربيئة] وَغير [هَا] ...
... ... ... ... ...
(1/349)
حَتَّى عدهَا ... ... ... ...
وَفِي الْأَفْعَال: كعسعس: لأقبل، وَأدبر، وَعَسَى: للترجي،
والإشفاق، والمضارع: للْحَال، والاستقبال، على أرجح الْمذَاهب
فِيهِ، كَمَا تقدم، وَوُقُوع الْمَاضِي: خَبرا، وَدُعَاء، كغفر
الله لنا، وإنشاء كبعت وَنَحْوه.
وَفِي الْحُرُوف على طَريقَة الْأَكْثَر، كَمَا يَأْتِي،
كالباء: للتَّبْعِيض، وَبَيَان الْجِنْس، والاستعانة،
والسببية، وَنَحْوهَا.
وَإِذا كَانَ وَاقعا فِي اللُّغَة، لزم مِنْهُ أَنه جَائِز
الْوُقُوع؛ لِأَن من لَوَازِم الْوُقُوع الْجَوَاز
بِالضَّرُورَةِ.
وَاسْتدلَّ للْجُوَاز: بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع وضع لفظ وَاحِد
لمعنيين مُخْتَلفين على الْبَدَل من وَاضع أَو أَكثر ويشتهر
الْوَضع.
(1/350)
وَلَفْظَة (عرض) فِي الْقُرْآن مُخْتَلفَة
الْمَعْنى فِي قَوْله فِي: {وجنة عرضهَا السَّمَوَات
وَالْأَرْض} [آل عمرَان: 133] ، {وعرضنا جَهَنَّم يَوْمئِذٍ
للْكَافِرِينَ عرضا} [الْكَهْف: 100] .
وَالْعرض وَاحِد الْعرُوض، [و] لِأَن الْمَوْجُود فِي
الْقَدِيم والحادث حَقِيقَة، فَإِن كَانَ مَدْلُول الْمَوْجُود
الذَّات فَهِيَ مُخَالفَة لما سواهَا من الْحَوَادِث، وَإِلَّا
لوَجَبَ الِاشْتِرَاك فِي الْوُجُوب للتساوي فِي مَفْهُوم
الذَّات.
وَإِن كَانَ مَدْلُوله صفة زَائِدَة، فَإِن اتَّحد الْمَفْهُوم
مِنْهَا وَمن / اسْم الْمَوْجُود فِي الْحَادِث، لزم مِنْهُ
كَون مُسَمّى الْمَوْجُود فِي الْحَادِث وَاجِبا لذاته، أَو
وجود الْقَدِيم مُمكنا.
وَإِن اخْتلف المفهومان، وَقع الْمُشْتَرك، احْتج بِهِ
الْآمِدِيّ، وَأَتْبَاعه، وَهُوَ معنى كَلَام القَاضِي فِي "
الْعدة "، وَأبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا من
أَصْحَابنَا فِي بَيَان الْكَلَام فِي عَالم للقديم والحادث،
لاخْتِلَاف مَعْنَاهُمَا.
ورد: بِأَن الْوُجُوب والإمكان لَا يمْنَع التواطؤ، وَدَعوى
لُزُوم التَّرْكِيب مِمَّا بِهِ الِاشْتِرَاك وَمَا بِهِ
الامتياز إِنَّمَا هُوَ فِي الذِّهْن.
(1/351)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (مَا وضع
لما بِهِ الِاشْتِرَاك فَقَط، وامتاز مَا بِهِ الامتياز بقرينه
تَعْرِيف أَو إِضَافَة وَنَحْو ذَلِك، لَا من نفس اللَّفْظ
الْمُفْرد، فَهُوَ حَقِيقَة فيهمَا كَمَا قُلْنَا فِي أَسمَاء
الله تَعَالَى الَّتِي يُسمى بهَا غَيره) .
وَقَالَ أَيْضا: (الْجُمْهُور أَنه متواط، قَالَ: فَقيل
بالتواطؤ للتساوي، وَالأَصَح للتفاضل) .
وَنقل الرَّازِيّ عَن الْأَشْعَرِيّ، وَأبي الْحُسَيْن
الْبَصْرِيّ: مُشْتَرك.
وَيَأْتِي الْكَلَام فِي آخر الْمَسْأَلَة على قَوْلنَا:
تبايناً، أَو تواصلاً.
قَوْله: {وَمنع ثَعْلَب، والباقلاني، والأبهري، والبلخي
(1/352)
وردوه إِلَى المتواطئ [أ] والحقيقة
وَالْمجَاز} .
فَقَالُوا: عسعس: متواط؛ لاختلاط الظلام بالضياء، وَفِي
الْعين: مَوْضُوعَة للصفاء وَقَالَ الرَّازِيّ فِي " تَفْسِيره
": (إِنَّه حَقِيقَة فِي الباصرة مجَاز فِي غَيرهَا) ،
وَقَالُوا فِي الْقُرْء للطهر وَالْحيض: إنَّهُمَا حَقِيقَة
ومجاز، وَاخْتلفُوا فِي أَيهمَا حَقِيقَة، فَقَالَ أَبُو
الْخطاب فِي " الِانْتِصَار ": مجَاز فِي الطُّهْر، لمجاورته
للْحيض؛ لِأَنَّهُ يَصح نَفْيه.
وَقَالَ ثَعْلَب: للْوَقْت.
وَقَالَ من منع الْوُقُوع: للانتقال.
(1/353)
وَقَالَ ابْن الباقلاني: (لَيْسَ فِي
اللُّغَة لفظ مَوْضُوع لحقيقتين على طَرِيق الْبَدَل،
اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون اللَّفْظ مَوْضُوعا لِمَعْنى
وَذَلِكَ الْمَعْنى يتَنَاوَل اسْمَيْنِ على طَرِيق التبع،
كاسم الْقُرْء مَوْضُوع للانتقال) .
قَالَ وَالِد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَيُسمى المتواطئ) /
{ [وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ:] } بَين النقيضين} .
يَعْنِي: لَا يحصل الِاشْتِرَاك بَين النقيضين { [فَقَط] } ،
لخلوه عَن الْفَائِدَة؛ لِأَن سَمَاعه لَا يُفِيد غير
التَّرَدُّد بَين الْأَمريْنِ، وَهُوَ حَاصِل بِالْعقلِ،
فالوضع لَهُ عَبث، لَكِن هَذَا إِنَّمَا يكون عِنْد اتِّحَاد
الْوَاضِع، أما إِذا تعدد، وَهُوَ السَّبَب الأكثري، وَذَلِكَ
كالسدفة، قَالَ فِي " الصِّحَاح ": (هِيَ لُغَة نجد الظلمَة،
وَفِي لُغَة غَيرهم الضَّوْء) .
وعَلى تَقْدِير أَن يكون الْوَاضِع وَاحِدًا لَا نسلم
انْتِفَاء الْفَائِدَة، بل لَهُ فَوَائِد هِيَ لأصل وضع
الْمُشْتَرك، مِنْهَا: غَرَض الْإِبْهَام على السَّامع حَيْثُ
يكون التَّصْرِيح سَببا لمفسدة، وَمِنْهَا: استعداد الْمُكَلف
للْبَيَان.
(1/354)
{و [قَالَ] الْمبرد وَابْن الْقيم من وَاضع
وَاحِد} .
منع الْمبرد وُقُوعه من وَاضع وَاحِد، وَاخْتَارَهُ ابْن
الْقيم فِي " جلاء الأفهام "، فَقَالَ: (لَا يُقَال: "
الصَّلَاة لفظ مُشْتَرك يجوز أَن يسْتَعْمل فِي معنييه مَعًا
"، لِأَن فِي ذَلِك محاذير مُتعَدِّدَة.
أَحدهَا: أَن الِاشْتِرَاك خلاف الأَصْل بل لَا نعلم أَنه وَقع
فِي اللُّغَة من وَاضع وَاحِد كَمَا نَص عَلَيْهِ أَئِمَّة
اللُّغَة، مِنْهُم: الْمبرد وَغَيره، وَإِنَّمَا يَقع وقوعاً
عارضاً اتفاقياً بِسَبَب تعدد الواضعين، ثمَّ تختلط اللُّغَة
فَيعرض الإشتراك) انْتهى.
{و} قَالَ { [قوم] : فِي الْقُرْآن، و} قَالَ { [قوم: وَفِي
الحَدِيث] } .
أَي: منع قوم الْمُشْتَرك فِي الْقُرْآن، وَهُوَ ابْن دَاوُد
الظَّاهِرِيّ، وَجَمَاعَة، ورد: بِنَحْوِ [الصريم] وعسعس
وَغَيرهمَا.
(1/355)
وَنقل عَن قوم مَنعه فِي الحَدِيث - أَيْضا
- ولعلهم المانعون فِي الْقُرْآن؛ لِأَن الشُّبْهَة فِي ذَلِك
وَاحِدَة.
إِذا علم ذَلِك؛ فالقائلون بالوقوع اخْتلفُوا.
{فَقَالَ بَعضهم: وَاجِب الْوُقُوع} ؛ لِأَن الْأَلْفَاظ
قَليلَة والمعاني كَثِيرَة، فَإِذا وزعت دخل الِاشْتِرَاك،
وَهُوَ ظَاهر الْفساد، بل نمْنَع ذَلِك، ثمَّ الْمَقْصُود
بِالْوَضْعِ منتهاه، وَلَا حَاجَة إِلَى الإطالة فِي رده.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَلَا يجب فِي اللُّغَة، وَقيل:
بلَى.
وَقَوْلنَا على الْمَذْهَب الأول: (تباينا، أَو تواصلاً
بِكَوْنِهِ جُزْءا لآخر أَو لَازمه) ، لِأَنَّهُ لابد للمشترك
من مفهومين / فَأكْثر، والمفهومان إِمَّا أَن يتباينا، أَو
يتواصلا.
فَإِن تباينا، لم يصدق أَحدهمَا على الآخر، فَإِن لم يَصح
اجْتِمَاعهمَا فهما متضادان، كالقرء الْمَوْضُوع للطهر
وَالْحيض عِنْد من يَقُول: إِنَّه مُشْتَرك، وَإِن صَحَّ
اجْتِمَاعهمَا فهما متخالفان.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (وَلم يظفر لَهما بمثال) .
وَإِن تواصلا، فقد يكون أَحدهمَا جُزْءا من الآخر، وَقد يكون
لَازِما لَهُ.
(1/356)
مِثَال الأول: لفظ الْمُمكن، فَإِنَّهُ
مَوْضُوع للممكن بالإمكان الْعَام، والممكن بالإمكان الْخَاص
فالإمكان الْخَاص: هُوَ سلب الضَّرُورَة عَن طرفِي الحكم،
أَعنِي: الطّرف الْمُوَافق لَهُ والمخالف.
وَمِثَال الثَّانِي: الشَّمْس، وَهُوَ تَمْثِيل للمشترك
ولازمه، فَإِنَّهَا تطلق على الْكَوْكَب المضيء، تَقول: طلعت
الشَّمْس، وعَلى ضوئه تَقول: جلسنا فِي الشَّمْس، مَعَ أَن
الضَّوْء لَازم لَهُ.
فَإِن توقف فِي هَذَا الْمِثَال مُتَوَقف، فليمثل بِهِ
بالرحيم، فَإِن الْجَوْهَرِي نَص على أَنه تَارَة يكون
بِمَعْنى المرحوم، وَتارَة بِمَعْنى الراحم، وكل مِنْهُمَا
مُسْتَلْزم للْآخر، قَالَه الْإِسْنَوِيّ، وَفِيه مَا فِيهِ.
(1/357)
قَوْله: {فصل}
{أَصْحَابنَا، وَالْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة: المترادف
وَاقع} .
فِي الْأَسْمَاء، وَالْأَفْعَال، والحروف، فَفِي الْأَسْمَاء:
كالأسد والسبع وَاللَّيْث والغضنفر [والضرغام] حَتَّى قيل:
إِنَّه لَهُ سِتّمائَة وَثَلَاثِينَ اسْما، وَالْجُلُوس
[وَالْقعُود] ، وصلهب وسلهب للطويل، وبحتر وحبتر وبهتر للقصير
وَغَيرهَا.
(1/358)
وَفِي الْأَفْعَال: كجلس وَقعد، وَحبس
وَمنع، وَمضى وَذهب، فِي الْمعَانِي وَشبههَا.
وَفِي الْحُرُوف: كإلى وَحَتَّى لانْتِهَاء الْغَايَة.
وَهَذَا أصح الْأَقْوَال فِي الْمَسْأَلَة، وَفِي " سنَن أبي
دَاوُد "، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، من حَدِيث
الْعَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالبطحاء
فمرت سَحَابَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " أَتَدْرُونَ مَا هَذِه؟ "، فَقُلْنَا:
السَّحَاب، فَقَالَ: " والمزن "، قُلْنَا: والمزن، قَالَ: "
والعنان "، قُلْنَا: والعنان ... . الحَدِيث.
(1/359)
وَلِأَنَّهُ لَا يمْتَنع من وَاضع، وَلَا
من واضعين لَا يشْعر أَحدهمَا بِالْآخرِ ويشتهر ذَلِك.
قَالَ ابْن الْقيم فِي " رَوْضَة المحبين ": (الْأَسْمَاء
الدَّالَّة على مُسَمّى وَاحِد نَوْعَانِ:
(1/360)
أَحدهمَا: أَن يدل / عَلَيْهِ بِاعْتِبَار
الذَّات فَقَط، فَهَذَا هُوَ المترادف ترادفاً مَحْضا، كالحنطة
وَالْبر والقمح، واللقب إِذا لم يكن فِيهِ مدح وَلَا ذمّ،
وَإِنَّمَا أَتَى لمُجَرّد التَّعْرِيف.
وَالنَّوْع الثَّانِي: أَن يدل على ذَات وَاحِدَة بِاعْتِبَار
تبَاين صفاتها، كأسماء الرب، وَأَسْمَاء كَلَامه، وَنبيه،
وَأَسْمَاء الْيَوْم الآخر، فَهَذَا النَّوْع مترادف
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّات، متباين بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الصِّفَات، فالرب والرحمن والعزيز والقدير وَنَحْوهَا تدل على
ذَات وَاحِدَة بِاعْتِبَار صِفَات مُتعَدِّدَة، وَكَذَلِكَ
البشير والنذير والحاشر وَالْعَاقِب وَنَحْوهَا، وَكَذَلِكَ
يَوْم الْقِيَامَة وَيَوْم الْبَعْث وَيَوْم الْجمع وَيَوْم
التغابن وَيَوْم الآزفة وَنَحْوهَا، وَكَذَلِكَ الْقُرْآن
وَالْفرْقَان وَالْكتاب وَالْهدى وَنَحْوهَا، وَكَذَلِكَ
أَسمَاء السَّيْف فَإِن تعددها بِحَسب [أَوْصَاف] وإضافات
مُخْتَلفَة كالمهند والعضب والصارم وَنَحْوهَا.
قَالَ: وَقد أنكر كثير من النَّاس الترادف فِي اللُّغَة،
وَكَأَنَّهُم أَرَادوا هَذَا الْمَعْنى، وَأَنه مَا من
اسْمَيْنِ لمسمى وَاحِد إِلَّا وَبَينهمَا فرق فِي صفة أَو
نِسْبَة أَو إِضَافَة، سَوَاء علمت لنا أَو لم تعلم، وَهَذَا
الَّذِي قَالُوهُ صَحِيح بِاعْتِبَار الْوَاضِع الْوَاحِد،
وَلَكِن قد يَقع الترادف بِاعْتِبَار واضعين مُخْتَلفين،
يُسَمِّي أَحدهمَا الْمُسَمّى باسم، ويسميه الْوَاضِع الآخر
باسم غَيره، ويشتهر الوضعان
(1/361)
عَن الْقَبِيلَة الْوَاحِدَة، وَهَذَا
كثير، وَمن هَذَا يَقع الِاشْتِرَاك أَيْضا، فَالْأَصْل فِي
اللُّغَة هُوَ التباين، وَهُوَ أَكثر اللُّغَة) انْتهى
كَلَامه، وَهُوَ كَلَام حسن.
قَوْله: { [وَمنع مِنْهُ] ثَعْلَب، والمبرد، وَابْن فَارس،
والزجاج مُطلقًا} .
وصنف فِي رده كتابا سَمَّاهُ الفروق، كجلوس وقعود، فالقعود مَا
كَانَ عَن قيام، وَالْجُلُوس مَا كَانَ عَن نوم، وَنَحْوه،
لدلَالَة الْمَادَّة على
(1/362)
معنى الِارْتفَاع، قَالَ: (وَذهب إِلَيْهِ
الْمُحَقِّقُونَ) .
ورد: بِأَن اللُّغَة طافحة بذلك، لكنه على خلاف الأَصْل،
وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل - أَيْضا -[الخويي] فِي
الْيَنَابِيع، وَقَالَ: (أَكثر مَا يظنّ أَنه مترادف مُخْتَلف،
لَكِن وَجه / الِاخْتِلَاف خَفِي) انْتهى.
قَالَ المانعون: لَا فَائِدَة فِي الترادف.
أُجِيب: فَائِدَة توسعه تَكْثِير طرق موصلة إِلَى الْغَرَض،
حَتَّى نقل عَن وَاصل بن عَطاء المعتزلي - وَكَانَ ألثغ
الرَّاء - أَنه كَانَ يجتنبها بالإتيان
(1/363)
بالمترادف الَّذِي لَا رَاء فِيهِ، حَتَّى
قيل لَهُ: قل: ارْمِ رمحك عَن فرسك، فَقَالَ: ألق قناتك عَن
جوادك، أَو مَا هَذَا مَعْنَاهُ.
وتيسير نظم ونثر للزنة والروي، وَهُوَ: الْحَرْف آخر القافية،
والقافية: الْكَلِمَة آخر الْبَيْت.
وتيسير تجنيس، وَهُوَ: تشابه لفظين، ومطابقة، وَهِي: جمع بَين
ضدين، وَالْمرَاد: بِحَيْثُ يوازن أَحدهمَا الآخر.
وَقَالُوا - أَيْضا -: لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيف للمعرف،
وَهُوَ بَاطِل.
أُجِيب: كل وَاحِد مِنْهُمَا عَلامَة، وتوارد العلامات جَائِز
اتِّفَاقًا.
{و [قَالَ] } الْفَخر {الرَّازِيّ} : إِنَّه مُمْتَنع {فِي}
الْأَسْمَاء {الشَّرْعِيَّة} .
(1/364)
وَهُوَ مُخَالف لقَوْله: (إِن الْفَرْض
وَالْوَاجِب مُتَرَادِفَانِ) ، وَالْمُعْتَمد مَا قَالَه فِي
الْأُصُول فِيمَا يظْهر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، ثمَّ وجدت
الكوراني: قَالَ: (وَمن ذهب إِلَى أَنه لم يَقع فِي
الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا أخبر عَن وجدانه، يدل على
ذَلِك عِبَارَته فِي " الْمَحْصُول " فِي آخر بحث الْحَقِيقَة
الشَّرْعِيَّة: (الْأَظْهر أَنه لم يُوجد [فَيقدر] بِقَدرِهِ.
وَمن رد عَلَيْهِ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِب، فقد اشْتبهَ
عَلَيْهِ اصْطِلَاح الْفُقَهَاء بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّة،
إِذْ المُرَاد بهَا: مَا وَضعه الشَّارِع كَالصَّلَاةِ
وَالزَّكَاة وَالْحج وَنَحْوهَا، على مَا يَأْتِي تَحْقِيقه)
انْتهى.
تَنْبِيه: من ذهب إِلَى الْمَنْع قَالَ: مَا يظنّ أَنه من
المترادف فَهُوَ من اخْتِلَاف الذَّات وَالصّفة كالإنسان
والناطق، أَو اخْتِلَاف الصِّفَات كالمنشئ وَالْكَاتِب، أَو
الصّفة وَصفَة الصّفة كالمتكلم والفصيح، أَو الذَّات وَصفَة
الصّفة كالإنسان والفصيح، وكل هَذَا تكلّف، لَكِن تقدم كَلَام
ابْن الْقيم وميله إِلَيْهِ.
(1/365)
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (أما مهند -
نِسْبَة إِلَى الْهِنْد - وصارم فمترادفان على الذَّات كسيف،
ومتباينان صفة، وناطق وفصيح مُتَرَادِفَانِ على موصوفهما من
لِسَان / وإنسان متباينان معنى) انْتهى، كَمَا تقدم.
{وَقيل: لم يَقع} .
ذكره الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته "، زِيَادَة على
الْأَقْوَال الْمُتَقَدّمَة، وَلَعَلَّ قَائِل ذَلِك عَنى:
أَنه يجوز وُقُوعه فَلَيْسَ بممتنع وَلكنه لم يَقع، وَعلل
ذَلِك: بِأَن وضع اللَّفْظَيْنِ لِمَعْنى وَاحِد غش يجل
الْوَاضِع عَنهُ، وَيصْلح أَن يكون تعليلاً للْمَنْع مُطلقًا
أَيْضا.
تَنْبِيه: مَحل الْخلاف فِي الْوُقُوع وَعَدَمه، فِي الْمَنْع
إِذا كَانَ من لُغَة وَاحِدَة أما من لغتين فَلَا يُنكره أحد،
قَالَه الْأَصْفَهَانِي، والعسكري، مَعَ أَنه مِمَّن يُنكر
المترادف.
(1/366)
قلت: هَذَا مِمَّا لَا يشك فِيهِ أحد، بل
هُوَ الْوَاقِع قطعا.
وَقَالَ الكوراني: (وَعلم أَن الْوَاضِع إِذا كَانَ وَاحِدًا
وَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فالفائدة مَا ذكر أَولا، وَأما إِذا
كَانَ الْوَاضِع مُتَعَددًا فَالْأَمْر فِيهِ وَاضح؛ لِأَنَّهُ
رُبمَا كَانَ أحد الواضعين، فِي الشرق وَالْآخر فِي الغرب،
وَلَا علم لأَحَدهمَا بِوَضْع الآخر) انْتهى.
وَتقدم كَلَام ابْن الْقيم فِي الواضعين، وَهُوَ أولى من
هَذَا.
قَوْله: {وَالْحَد [غير اللَّفْظِيّ] والمحدود، وَنَحْو شذر
مذر، غير متردافة فِي الْأَصَح، [كالتأكيد] } .
ذكر هُنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء مِمَّا يشبه المترادف وَلَيْسَ
مِنْهُ.
أَحدهَا: الْحَد والمحدود، كالإنسان حَيَوَان نَاطِق،
وَالصَّحِيح: أَنه غير مترادف، لِأَن المترادف من عوارض
الْمُفْردَات، لِأَنَّهَا الْمَوْضُوعَة، وَالْحَد مركب.
(1/367)
وَلَو سلم أَن الْمركب مَوْضُوع، فالمترادف
مَا اتَّحد فِيهِ الْمَعْنى، وَلَا اتِّحَاد فِي الْحَد
والمحدود؛ لِأَن دلالتهما باعتبارين: الْحَد يدل على
الْأَجْزَاء بالمطابقة، والمحدود يدل عَلَيْهَا بالتضمن.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (لِأَن الْمَحْدُود دلّ من حَيْثُ
الْجُمْلَة والوحدة المجتمعة، وَالْحَد دلّ من حَيْثُ
التَّفْصِيل بِذكر الْمَادَّة وَالصُّورَة من غير وحدة) .
وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " - وَتَبعهُ
الْقَرَافِيّ -: (الْحَد غير الْمَحْدُود إِن أُرِيد اللَّفْظ،
/ وَنَفسه إِن أُرِيد الْمَعْنى) ، وَلَيْسَ ذَلِك خلافًا، بل
من نظر إِلَى الْحَقِيقَة فِي الذِّهْن، قَالَ: إِنَّه نَفسه،
وَمن نظر إِلَى الْعبارَة عَنْهَا، قَالَ: إِنَّه غَيره.
وَقَوْلنَا: (غير اللَّفْظِيّ) ، أَعنِي: أَن الْحَد
اللَّفْظِيّ مرادف بِلَا نزاع، كَمَا تقدم فِي أَقسَام الْحَد:
(أَن اللَّفْظِيّ إِذا أنبأ عَنهُ بأظهر مرادف) فجعلوه
مرادفاً، وَهُوَ وَاضح، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال: إِن
اللَّفْظِيّ لَيْسَ بِحَدّ.
الثَّانِي مِمَّا يشبه أَنه مترادف وَهُوَ غير مترادف على
الصَّحِيح: التَّابِع على زنة متبوعه مثل: شذر مذر وَنَحْوه،
فَإِنَّهُ غير مترادف، لِأَن التَّابِع
(1/368)
وَحده لَا يُفِيد شَيْئا، وَلَو كَانَ
مترادفا وأفرد التابعى لأفاد، وَهُوَ لَا يُفِيد مَعَ
الْإِفْرَاد وَقيل: إِنَّه من المترادف، قَالَه بَعضهم، ورد،
وَله أَمْثِلَة كَثِيرَة جدا مثل: شذر مذر كَمَا تقدم، وَهُوَ
بِفَتْح الشين وَالْمِيم والذالين، وبكسر أَولهمَا، وَحسن بسن،
وعطشان نطشان، وشغر بغر، قَالَ الْجَوْهَرِي: (اسمان جعلا
وَاحِدًا وبنيا على الْفَتْح) ، وَشَيْطَان ليطان، وخاز باز،
وجائع نائع، وثقف لقف، وحياك الله ... ... ... ... . .
(1/369)
وبياك، وأسوان أتوان، أَي: حَزِين، وتافه
نافه، وَحل بل، وحقير نقير، وَعين حدرة بدرة أَي: عَظِيمَة،
وخضر مُضر، وخراب يباب، وسمج لمج، وسيغ ليغ، وشكس لكس وَيَوْم
(1/370)
عك [أك] ، إِذا كَانَ حاراً، وعفريت نفريت،
وَكثير بثير، [وشقيح لقيح] ، [وَفقه نقه] ، وَهُوَ أشق أمق
خبق: للطويل، وَفعلت ذَلِك على رغمه ودغمه، وَغير ذَلِك.
(1/371)
وَقد صنف فِيهِ ابْن خالويه كتابا سَمَّاهُ
(الإتباع والإلباع) وَكَذَا عبد الْوَاحِد اللّغَوِيّ وَابْن
فَارس وَقد ذكر مِنْهُ ابْن الْجَوْزِيّ جانبا كَبِيرا فِي
كِتَابه المدهش.
وَهُوَ كثير فِي ثَلَاثَة أَلْفَاظ: كحسن بسن قسن، وَلم يسمع
فِي أَكثر من
(1/372)
خَمْسَة أَلْفَاظ نَحْو: كثير [بثير] برير
بجير بذير، وَقيل: [مجير] .
الثَّالِث: / الْمُؤَكّد، وَلَيْسَ من المترادف أَيْضا، وَلم
أرهم حكوا فِيهِ خلافًا، لعدم استقلاله كَمَا قُلْنَا فِي
الَّذِي قبله، صرح بذلك الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته "
وَغَيره.
(1/373)
وَيَأْتِي - أَيْضا - فِي خَمْسَة
أَلْفَاظ، وَلَا يَأْتِي فِي أَكثر فَتَقول: قَامَ الْقَوْم
كلهم أَجْمَعُونَ أكتعون أبصعون أبتعون.
قَوْله: {وَأفَاد التَّابِع التقوية، خلافًا للآمدي، وَابْن
حمدَان، [وَجمع] } .
الْأَظْهر: أَن التَّابِع أَفَادَ التقوية؛ لِأَنَّهُ لم يوضع
عَبَثا، وَاخْتَارَهُ التَّاج السُّبْكِيّ، وَجمع كثير.
وَذهب الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، وَجمع: أَنه لَا فَائِدَة
للتابع، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْبَيْضَاوِيّ.
قَوْله: {وَهُوَ على رنة الْمَتْبُوع} .
وَهَذَا مَعْرُوف بالاستقراء، حَتَّى لَو وجد مَا لَيْسَ على
زنته، لم يحكم بِأَنَّهُ من هَذَا الْبَاب.
قَوْله: {و [الْمُؤَكّد] يُقَوي، وينفي احْتِمَال الْمجَاز} .
(1/374)
التوكيد هُوَ: التقوية بِاللَّفْظِ، وَأما
اللَّفْظ: فَهُوَ الْمُؤَكّد، فَلذَلِك قُلْنَا: (الْمُؤَكّد
يُفِيد التقوية بِلَا نزاع) ، وَيزِيد على ذَلِك بِكَوْنِهِ
يَنْفِي احْتِمَال الْمجَاز، فَإِن قَوْلك: قَامَ الْقَوْم،
يحْتَمل أَن بَعضهم قَامَ، أَو أَكْثَرهم، فَإِذا قلت: كلهم،
انْتَفَى ذَلِك، وَإِذا قلت: جَاءَ زيد، احْتمل أَنه قد جَاءَ
خَبره، أَو كِتَابه، فَإِذا قلت: جَاءَ زيد نَفسه، انْتَفَى
ذَلِك، وَهُوَ ظَاهر، وَصرح بذلك ابْن عقيل - على مَا يَأْتِي
- وَابْن الْعِرَاقِيّ، وَجمع، وَكَذَلِكَ النُّحَاة،
وَكَذَلِكَ الْمثنى وَالْمَجْمُوع.
قَوْله: {وأنكرته الْمَلَاحِدَة} .
[أنْكرت] الْمَلَاحِدَة التَّأْكِيد، وهم محجوجون بِالْكتاب
وَالسّنة وَكَلَام الْعَرَب، لَكِن الْمَلَاحِدَة طعنوا فِي
الْقُرْآن بِسَبَب وُقُوع التَّأْكِيد فِيهِ، قَالَه
الْهِنْدِيّ.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: (وُقُوع التَّأْكِيد
مَعْلُوم ضَرُورَة، خلافًا للملحدة) .
(1/375)
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: (وَأنْكرت
الْمَلَاحِدَة التَّأْكِيد، لعدم فَائِدَته.
رد: جَوَازه ضَرُورِيّ، وَمَعْلُوم وُقُوعه) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَظَاهر / نقل الْخلاف أَنهم
أَنْكَرُوا التَّأْكِيد مُطلقًا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل نازعوا
فِي كَون الْقُرْآن كَلَام الله بِسَبَب وُقُوع التَّأْكِيد
فِيهِ، لزعمهم الْقُصُور عَن تأدية مَا فِي النَّفس، وَالله
تَعَالَى منزه عَن ذَلِك، وجهلوا كَون الله تَعَالَى خَاطب
عبَادَة على نهج لُغَة الْعَرَب وَهُوَ فِيهَا) .
تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: الْمَلَاحِدَة هم الإسماعيلية من
الرافضة، قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على
الرافضي، وهم الباطنية.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (ملاحدة الشِّيعَة الَّذين
يَعْتَقِدُونَ إلهية عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَو نبوته،
أَو يَعْتَقِدُونَ: أَن بَاطِن الشَّرِيعَة يُخَالف ظَاهرهَا،
كَمَا يَقُوله ملاحدة الإسماعيلية والنصيرية وَغَيرهمَا: من
أَنهم تسْقط عَنْهُم أَو عَن خواصهم الصَّلَاة وَالزَّكَاة
وَالصَّوْم وَالْحج، وَيُنْكِرُونَ الْمعَاد؛ بل غلاتهم يجحدون
الصَّانِع، ويعتقدون فِي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أَنه أفضل من
مُحَمَّد بن
(1/376)
عبد الله، وَأَنه نسخ شَرِيعَته، ويعتقدون
فِي أئمتهم أَنهم معصومون) .
الثَّانِي: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (التَّأْكِيد والتوكيد
لُغَتَانِ، وَهُوَ: لَفْظِي، ومعنوي، فاللفظي يَجِيء؛ لخوف
النسْيَان، وَلَا يكون فِي الْإِنْشَاء قطعا، وَلَا مزِيد على
الأَصْل من حَيْثُ هُوَ توكيد، أَو لعدم الإصغاء، أَو
للاعتناء، وَتارَة يكون بِإِعَادَة اللَّفْظ، كَقَوْلِه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالله لأغزون
قُريْشًا " وكرره ثَلَاثًا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن
عِكْرِمَة مُرْسلا، ... ... ... ... ... . .
(1/377)
وَتارَة بِمَا يشبه الترادف.
والمعنوي يكون لإِطْلَاق اللَّفْظ على أَسبَابه ومقدماته،
فَيُقَال: جَاءَ الْبرد: إِذا جَاءَت أَسبَابه، وَجَاء زيد:
إِذا جَاءَ كِتَابه، وَيُطلق أَيْضا اسْم الْكل على الْبَعْض،
فَيُقَال: قبضت الدَّرَاهِم، وَالْمرَاد: بَعْضهَا) انْتهى.
وَمن التَّأْكِيد مَا يكون للجملة ك (إِن) كَقَوْلِه تَعَالَى:
{إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} [الْأَحْزَاب:
56] ، وَالْقسم، وَاللَّام، وَيكون بالحروف الزَّائِدَة فِي
الْقُرْآن وَغَيره.
قَالَ ابْن جني: (كل حرف زَائِد فِي كَلَام الْعَرَب /
فَإِنَّهُ للتَّأْكِيد) .
قَوْله: {وَيقوم كل مترادف مقَام الآخر فِي التَّرْكِيب،
خلافًا للرازي مُطلقًا، وللبيضاوي، والهندي، [وَجمع] : إِن
كَانَا من لغتين} .
(1/378)
الصَّحِيح: أَنه يقوم كل مترادف مقَام
الآخر فِي التَّرْكِيب، وَرُبمَا يعبر عَن ذَلِك باللزوم أَو
الْوُجُوب، كَمَا قَالَ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "،
وَأَتْبَاعه، وَابْن الْحَاجِب.
وَالْمرَاد: يلْزم أَن يَصح وُقُوع كل من الرديفين مَكَان
الآخر؛ لِأَن معنى كل وَاحِد معنى الآخر؛ لِأَن الْمَقْصُود من
التَّرْكِيب إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنى دون اللَّفْظ، فَإِذا
صَحَّ الْمَعْنى مَعَ أحد اللَّفْظَيْنِ وَجب أَن يَصح مَعَ
الآخر؛ لِاتِّحَاد مَعْنَاهُمَا.
وَمنعه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " فِي مَوضِع مُطلقًا،
وَتَبعهُ صَاحب " الْحَاصِل "، و " التَّحْصِيل ".
قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": (لِأَن صِحَة الضَّم قد تكون من
عوارض الْأَلْفَاظ أَيْضا، فَإِذا عقلنا ذَلِك فِي لغتين فَلم
لَا يجوز مثله فِي لُغَة؟) .
وَمنع الْهِنْدِيّ، والبيضاوي، وَجمع: إِن كَانَا من لغتين،
[لِأَن
(1/379)
اخْتِلَاط اللغتين يسْتَلْزم ضم مهمل إِلَى
مُسْتَعْمل، فَإِن إِحْدَى اللغتين] بِالنِّسْبَةِ إِلَى
اللُّغَة الْأُخْرَى بِمَثَابَة المهمل.
تَنْبِيه: قيد جمَاعَة الْمَسْأَلَة بقَوْلهمْ: (إِن لم يكن
تعبد بِلَفْظِهِ) ، احْتِرَاز من التَّكْبِير وَنَحْوه، فِي
أَنه لَا يقوم غَيره مقَامه قطعا.
وَفِي هَذَا الْقَيْد نظر؛ لِأَن الْمَنْع هُنَاكَ لعَارض
شَرْعِي، والبحث فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ من
حَيْثُ اللُّغَة، فَلذَلِك لم أذكرهُ فِي الْمَتْن، وَنبهَ
عَلَيْهِ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَقَالَ:
(وَهَذَا هُوَ الْفرق بَين هَذِه الْمَسْأَلَة وَمَسْأَلَة
الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، فَإِنَّهُمَا متشابهتان، وَالْفرق
بَينهمَا: أَن الْمُسْتَند هُنَا فِي الْجَوَاز أَو الْمَنْع
اللُّغَة، وَهُنَاكَ الشَّرْع) وَقَالَ: (فِي عبارَة
الْبَيْضَاوِيّ إِشَارَة إِلَى [أَن] الْخلاف فِي حَالَة
التَّرْكِيب، فَأَما فِي حَالَة الْإِفْرَاد كَمَا فِي تعديد
الْأَشْيَاء فَلَا خلاف فِي جَوَازه) انْتهى.
قلت: وَهُوَ الَّذِي قطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "،
تبعا للقطب الشِّيرَازِيّ، والأصفهاني / فِي " شرح مُخْتَصر
ابْن الْحَاجِب "،
(1/380)
والبيضاوي، والإسنوي، وتابعناهم على ذَلِك،
وَكلهمْ تبعوا الْآمِدِيّ فِي " الْمُنْتَهى "، فَإِنَّهُ
قَالَ: (يَصح إِطْلَاق كل من المترادفين مَكَان الآخر؛
لِأَنَّهُ لَازم معنى المترادفين) نَقله القطب.
وَأما فِي التَّرْكِيب فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَجعل مَحل
الْخلاف فِي التَّرْكِيب، وَظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء
الْإِطْلَاق، فَيشْمَل الْإِفْرَاد والتركيب، وَهُوَ بعيد جدا،
فالإفراد كَمَا فِي تعديد الْأَشْيَاء من غير عَامل ملفوظ بِهِ
وَلَا مُقَدّر، والمركب عَكسه.
(1/381)
قَوْله: {فصل}
{الْحَقِيقَة: قَول مُسْتَعْمل فِي وضع أول} .
لابد قبل [الشُّرُوع] فِي تَبْيِين احترازات الْحَد من تبين
مَا هية الْحَقِيقَة.
(1/382)
سَيَأْتِي فِي الْمَتْن: أَن إِطْلَاق لفظ
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على الْمَعْنى الْمَذْكُور حَقِيقَة
عرفية، لِأَنَّهُ من الاصطلاحي لَا من وضع اللُّغَة، نعم، هِيَ
منقولة مِنْهَا، وَاخْتلف فِي كَيْفيَّة النَّقْل.
فَقَالَ الرَّازِيّ وَجمع: الْحَقِيقَة: فعلية من الْحق،
بِمَعْنى: الثَّابِت، أَو الْمُثبت، اسْم فَاعل، أَو اسْم
مفعول، نقل إِلَى الِاعْتِقَاد المطابق، ثمَّ إِلَى القَوْل
المطابق، ثمَّ إِلَى الْمَعْنى الاصطلاحي.
يُرِيدُونَ بذلك: أَن فعيلا مِنْهُ إِن كَانَ بِمَعْنى فَاعل
فَمَعْنَاه: الثَّابِت، من حق الشَّيْء يحِق، بِالْكَسْرِ
وَالضَّم، بِمَعْنى: ثَبت، وَالتَّاء حِينَئِذٍ على بَابهَا
فِي إِفَادَة التَّأْنِيث.
أَو بِمَعْنى مفعول: من حققت الشَّيْء أثْبته، فَهَذَا وَإِن
كَانَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث كجريح، لَكِن التَّاء
فِيهِ لنقل اللَّفْظ من الوصفية إِلَى الاسمية، بِأَن
يسْتَعْمل بِدُونِ موصوفه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {والنطيحة}
[الْمَائِدَة: 3] ، أَي: والبهيمة النطيحة، وَلَوْلَا
إخْرَاجهَا للاسمية لقيل: الْبَهِيمَة النطيح، بِلَا تَاء.
ثمَّ نقل هَذَا اللَّفْظ - وَهُوَ الْحَقِيقَة سَوَاء كَانَت
بِمَعْنى الثَّابِت أَو الْمُثبت -
(1/383)
إِلَى العقيدة الْحق، ثمَّ نقل إِلَى
النِّسْبَة الصادقة، ثمَّ إِلَى الْكَلِمَة الْبَاقِيَة على
مدلولها الأول، قَالَه الْبرمَاوِيّ، وَقَالَ: (هَذَا أحسن مَا
يُقرر [بِهِ] كَلَامه - يَعْنِي الرَّازِيّ - / وَإِلَّا
فالعقيدة، وَالْقَوْل المطابق، وَاللَّفْظ الْمَوْضُوع أَولا،
لَا تَأْنِيث فِي شَيْء مِنْهَا، فَكيف أَتَى بِالتَّاءِ وَلَا
تَأْنِيث أصلا؟
نعم، تعقب على القَوْل بذلك: بِأَنَّهُ لم احْتِيجَ فِي
النَّقْل إِلَى هَذِه الوسائط؟ وَلم لَا يُقَال: إِنَّه نقل
إِلَى الاصطلاحي من الأول من غير ضَرُورَة إِلَى وسائط؟ بل
مُقْتَضى كَلَام ابْن سَيّده أَنه لَا نقل أصلا، فَإِنَّهُ
قَالَ فِي الْمُحكم: (الْحَقِيقَة فِي اللُّغَة: مَا أقرّ فِي
الِاسْتِعْمَال على أصل وَضعه، وَالْمجَاز بِخِلَافِهِ)
وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن ابْن جني، وَاعْتَرضهُ:
بِأَنَّهُ غير جَامع، لخُرُوج الشَّرْعِيَّة والعرفية، ورد:
بِأَن المُرَاد أَنه فِي اللُّغَة: مَا بَقِي على وضع أول
بِأَيّ وضع كَانَ لَا بِوَضْع اللَّفْظ، وَالله أعلم) انْتهى.
(1/384)
إِذا علم ذَلِك؛ فقولنا فِي الْحَد: (قَول)
، أولى من قَول من قَالَ: (لفظ) ؛ لِأَن القَوْل جنس قريب،
لكَونه لم يَشْمَل المهمل؛ بِخِلَاف اللَّفْظ.
وَخرج بقولنَا: (مُسْتَعْمل) ، اللَّفْظ قبل الِاسْتِعْمَال،
فَإِنَّهُ لَا حَقِيقَة وَلَا مجَاز على مَا يَأْتِي، إِذْ
الْمجَاز يعْتَبر لَهُ الِاسْتِعْمَال أَيْضا.
وَخرج بقولنَا: (فِي وضع أول) ، الْمجَاز؛ فَإِنَّهُ بِوَضْع
ثَان، بِنَاء على أَنه مَوْضُوع وَهُوَ الصَّحِيح على مَا
يَأْتِي، أما من يَقُول: إِنَّه غير مَوْضُوع، فَيخرج بِقَيْد
الْوَضع، وَلَا حَاجَة حِينَئِذٍ إِلَى التَّقْيِيد بِكَوْنِهِ
أَولا.
وَدخل فِي قَوْلنَا: (فِي وضع أول) مَا وضع لُغَة، أَو شرعا،
أَو عرفا، والألفاظ الشَّرْعِيَّة والعرفية، هِيَ بِالْوَضْعِ
الأول باصطلاح الشَّرْع وَالْعرْف، وَإِن كَانَت بِالْوَضْعِ
الثَّانِي بِاعْتِبَار اللُّغَة، فَإِن الْوَضع الأول أَعم من
الْوَضع بِاعْتِبَار اللُّغَة، فَحِينَئِذٍ تكون الْأَلْفَاظ
المنقولة شَرْعِيَّة أَو عرفية، بِالْوَضْعِ الأول باصطلاح
الشَّرْع وَالْعرْف، وَإِن كَانَت بِالْوَضْعِ الثَّانِي
بِاعْتِبَار اللُّغَة.
(1/385)
فَإِن قيل: يرد على التَّعْرِيف الْعلم،
فَإِنَّهُ يصدق على هَذَا التَّعْرِيف، وَلَيْسَ حَقِيقَة على
مَا يَأْتِي.
قيل: الَّذِي للْعلم تَعْلِيق اسْم يخص تِلْكَ الْحَقِيقَة
بِهِ، لَا من حَيْثُ وضع الْوَاضِع فِي اللُّغَة، / بل كل أحد
لَهُ جعل علم على مَا يُريدهُ، وَالَّذِي ذكر من الْوَضع
إِنَّمَا هُوَ من جِهَة من يعْتَبر وَضعه للغات، وَلَكِن فِيهِ
نظر؛ فَإِن الْأَعْلَام قد تكون بِوَضْع اللُّغَة.
تَنْبِيه: قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة فِي حد
الْحَقِيقَة: (فِيمَا وضع لَهُ ابْتِدَاء) ، وَلم يَقُولُوا:
فِي وضع أول.
قَالُوا: وَإِنَّمَا عدل عَن ذَلِك، للْخلاف فِي أَن الأول هَل
يسْتَلْزم ثَانِيًا؟ فَإِن قُلْنَا: يسْتَلْزم، لزم أَن
الْحَقِيقَة تَسْتَلْزِم الْمجَاز.
ورد ذَلِك الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " فَقَالَ:
(وَمَا قيل: إِن فِي الْحَد نظرا؛ لِأَن الأول من الْأُمُور
الإضافية الَّتِي لَا تعقل إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
شَيْئَيْنِ، وَحِينَئِذٍ يكون حد الْحَقِيقَة مستلزماً للمجاز،
لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الأول على تَقْدِير أَن يكون إضافياً
لَا يسْتَلْزم إِلَّا الْوَضع الثَّانِي، وَهُوَ جُزْء من
مَفْهُوم الْمجَاز إِن اعْتبر الْوَضع الثَّانِي فِي الْمجَاز،
وَلَا امْتنَاع فِي ذَلِك، لجَوَاز أَن يعْتَبر فِي حد
الشَّيْء جُزْء مُقَابِله) انْتهى.
(1/386)
قلت: الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد
وَأَصْحَابه: أَنه لَو قَالَ: أول مَمْلُوك اشتريه حر، وَلم
يشتر غير وَاحِد، أَنه يعْتق عَلَيْهِ، فَسَموهُ: (أول) ،
وَلَو لم يشتر غَيره.
وَلنَا قَول: إِنَّه لَا يعْتق، بِنَاء على أَنه لَا يُسمى
(أول) حَتَّى يُوجد ثَان.
{و} قَالَ ابْن حمدَان {فِي " الْمقنع "} ، وَمَعْنَاهُ
لِابْنِ عقيل، وَقَالَهُ الْقَرَافِيّ فِي " التَّنْقِيح ":
الْحَقِيقَة: {اسْتِعْمَال اللَّفْظ} ورد قَالَ {الْقَرَافِيّ}
فِي شرح التَّنْقِيح (الصَّوَاب: اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل،
وَفرق بَين اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل، وَبَين اسْتِعْمَال
اللَّفْظ، فَالْحق أَنَّهَا مَوْضُوعَة للفظ الْمُسْتَعْمل،
لَا لنَفس اسْتِعْمَال اللَّفْظ، إِذْ الْمقْضِي عَلَيْهِ
بِأَنَّهُ حَقِيقَة أَو مجَاز: هُوَ اللَّفْظ الْمَوْصُوف
بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَخْصُوص، لَا نفس الِاسْتِعْمَال)
انْتهى.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي
حدهما أولى من قَول من يَقُول " اسْتِعْمَال اللَّفْظ "، لِأَن
مَدْلُول الْحَقِيقَة وَالْمجَاز هِيَ الْأَلْفَاظ / لَا
اسْتِعْمَال الْأَلْفَاظ، وَإِنَّمَا [اسْتِعْمَال] اللَّفْظ
فِي مَوْضُوعه أَو غَيره يَنْبَغِي أَن يُقَال [لَهُ] :
تَحْقِيق وَتجوز، لَا حَقِيقَة ومجاز، تعريفاً للمصادر
بالمصادر، وللأسماء بالأسماء) انْتهى.
(1/387)
{و} قَالَ القَاضِي {فِي " الْعدة ": لفظ
مُسْتَعْمل [فِي] مَوْضُوعه} .
وَلَفظه: اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي مَوْضُوعه، وَهَذَا
الْحَد يتمشى على قَول من يَقُول: إِن الْمجَاز غير مَوْضُوع،
فيكتفي فِي حَدهَا بقوله: فِي مَوْضُوعه كَمَا تقدم، وَلَا
يحْتَاج إِلَى ذكر أول، وَمن يَقُول: إِنَّه مَوْضُوع، لَا
يَكْتَفِي بذلك، وَهُوَ الصَّحِيح.
{و} قَالَ أَبُو الْخطاب {فِي " التَّمْهِيد ": اللَّفْظ
الْبَاقِي على مَوْضُوعه} ، وَفِيه نظر؛ لدُخُوله الْمجَاز
إِذا قُلْنَا: إِنَّه مَوْضُوع.
قَوْله: {وَقد تصير مجَازًا وَبِالْعَكْسِ، ذكره أَصْحَابنَا
وَغَيرهم} .
يَأْتِي فِي الْمَتْن: أَن الدَّابَّة لمُطلق مَا دب، مجَاز
عرفا، وَهِي فِي
(1/388)
الأَصْل حَقِيقَة، وَأَن الصَّلَاة
للدُّعَاء، مجَاز شرعا، وَهِي فِي الأَصْل حَقِيقَة، وَأَن
الدَّابَّة لذوات الْأَرْبَع، حَقِيقَة عرفية، وَهِي مجَاز
لغَوِيّ، وَأَن الصَّلَاة للأقوال وَالْأَفْعَال
الْمَعْلُومَة، حَقِيقَة شَرْعِيَّة، وَهِي مجَاز لغَوِيّ،
وَالظَّاهِر أَن هَذَا مُرَادهم هُنَا.
قَوْله: {وَهِي لغوية كأسد، وعرفية مَا خص عرفا بِبَعْض
مسمياته، عَامَّة كدابة [للْفرس] ، وخاصة كمبتدأ وَنَحْوه،
وشرعية، مَا اسْتَعْملهُ الشَّرْع كَصَلَاة للأقوال
وَالْأَفْعَال} .
الْحَقِيقَة ثَلَاثَة أَنْوَاع:
أَحدهَا: اللُّغَوِيَّة، وَهِي الأَصْل، كالأسد على
الْحَيَوَان المفترس.
الثَّانِي: الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة، وَحدهَا: مَا خص عرفا
بِبَعْض مسمياته، يَعْنِي: أَن أهل الْعرف خصوا أَشْيَاء
كَثِيرَة بِبَعْض مسمياتها، وَإِن كَانَ وَضعهَا للْجَمِيع
حَقِيقَة، وَهِي قِسْمَانِ: عَامَّة، وخاصة.
فالعامة: مَا انْتَقَلت من مسماها اللّغَوِيّ إِلَى غَيره
للاستعمال الْعَام بِحَيْثُ هجر الأول، وَذَلِكَ إِمَّا بتخصيص
الِاسْم بِبَعْض مسمياته كالدابة /
(1/389)
بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَات الْحَافِر، فَإِن
الدَّابَّة وضعت فِي أصل اللُّغَة لكل مَا يدب على الأَرْض
[فخصصها] أهل الْعرف بِذَات الْحَافِر من الْخَيل وَالْبِغَال
وَالْحمير.
وَفِي " التَّمْهِيد " فِي الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة: أَن
الدَّابَّة اسْم للْفرس عرفا، عِنْد الْإِطْلَاق يصرف
إِلَيْهِ، ذكره فِي " الْفُنُون " عَن أصولي يَعْنِي نَفسه،
قَالَ: (لِأَن لَهَا نوع قُوَّة من الدبيب، وَلِأَنَّهُ ذُو
كروفر) ، وَلِهَذَا مثلنَا بهَا.
وَإِمَّا باشتهار الْمجَاز، كإضافتهم الْحُرْمَة إِلَى الْخمر،
وَإِنَّمَا الْمحرم الشّرْب، وَكَذَلِكَ مَا يشيع اسْتِعْمَاله
فِي غير مَوْضُوعه اللّغَوِيّ، كالغائط، والعذرة،
[وَالرِّوَايَة] ، وحقيقتها: المطمئن من الأَرْض، وفناء
الدَّار، والجمل الَّذِي يستقى عَلَيْهِ المَاء.
والخاصة: مَا لكل طَائِفَة من الْعلمَاء من الاصطلاحات الَّتِي
تخصهم، كاصطلاح النُّحَاة، والنظار، والأصوليين، وَغَيرهم على
أَسمَاء خصوها بِشَيْء من مصطلحاتهم، كالمبتدأ، وَالْخَبَر،
وَالْفَاعِل، وَالْمَفْعُول، والنقض،
(1/390)
وَالْكَسْر، وَالْقلب، وَغير ذَلِك مِمَّا
اصْطلحَ عَلَيْهِ أَرْبَاب كل فن.
{وَالْمجَاز: قَول مُسْتَعْمل بِوَضْع ثَان لعلاقة} .
لابد قبل الشُّرُوع فِي ذكر احترازات الْحَد أَن نحرر مَا هية
لفظ الْمجَاز وتصريفه، كَمَا تقدم فِي الْحَقِيقَة.
أما لفظ الْمجَاز فِي الأَصْل فمفعل من الْجَوَاز وَهُوَ:
العبور والانتقال، وَأَصله مجوز، نقلنا حَرَكَة الْوَاو إِلَى
مَا قبلهَا وَهِي الْجِيم، فَبَقيَ الْوَاو سَاكِنا وَمَا قبله
مَفْتُوح، قلبناه ألفا، فَبَقيَ مجَاز.
والمفعل يكون مصدرا، وَاسم الْمَكَان، وَاسم زمَان، فالمجاز
بِالْمَعْنَى الاصطلاحي: إِمَّا مَأْخُوذ من الأول، أَو من
الثَّانِي، لَا من الثَّالِث، لعدم العلاقة فِيهِ بخلافهما.
(1/391)
فَإِنَّهُ إِن كَانَ من الْمصدر فَهُوَ
متجوز بِهِ إِلَى الْفَاعِل للملابسة، كَعدْل بِمَعْنى عَادل،
أَو من الْمَكَان لَهُ فَهُوَ من إِطْلَاق الْمحل على الْحَال،
وَمَعَ ذَلِك / فَفِيهِ تجوز آخر؛ لِأَن الْجَوَاز حَقِيقَة
للجسم لَا للفظ، لِأَنَّهُ عرض لَا يقبل الِانْتِقَال، فَهُوَ
مجَاز باعتبارين، لَا أَنه مجَاز مَنْقُول من مجَاز آخر فَيكون
بمرتبتين كَمَا زَعمه الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، فالمجاز هُوَ:
اللَّفْظ الْجَائِز من شَيْء إِلَى آخر، تَشْبِيها بالجسم
الْمُنْتَقل من مَوضِع إِلَى آخر، فحقق ذَلِك.
إِذا علم ذَلِك؛ فقولنا فِي حَده: (قَول) ، جنس قريب، وَهُوَ
أحسن من قَول من قَالَ: (لفظ) ، لِأَنَّهُ جنس بعيد كَمَا
تقدم.
وَقَوْلنَا: (مُسْتَعْمل) ، احْتِرَاز من المهمل، وَمن
اللَّفْظ قبل الِاسْتِعْمَال، فَإِنَّهُ لَا حَقِيقَة وَلَا
مجَاز، كَمَا تقدم، وَيَأْتِي.
وَقَوْلنَا: (بِوَضْع ثَان) ، احْتِرَاز من الْحَقِيقَة،
فَإِنَّهَا بِوَضْع أول كَمَا تقدم، وَمن لم ير الْمجَاز
مَوْضُوعا يَقُول: فِي غير مَا وضع لَهُ، لَكِن الصَّحِيح:
أَنه مَوْضُوع.
وَقَوْلنَا: (لعلاقة) ، خرج بهَا الْأَعْلَام المنقولة كبكر
وكلب وَنَحْوهمَا، فَلَيْسَ بمجاز وَإِن كَانَ مَنْقُولًا؛
لكَونه لم ينْقل لعلاقة، وَلذَلِك خرج الْغَلَط.
(1/392)
تَنْبِيه: العلاقة هُنَا هِيَ المشابهة
الْحَاصِلَة بَين الْمَعْنى الأول وَالْمعْنَى الثَّانِي،
بِحَيْثُ ينْتَقل الذِّهْن بواسطتها عَن مَحل الْمجَاز إِلَى
الْحَقِيقَة، فَكَانَ الْقيَاس فتح عينهَا؛ لِأَن الْفَتْح فِي
الْمعَانِي، كَمَا يُقَال: علقت زَوْجَتي علاقَة، أَي: أحببتها
حبا [شَدِيدا] ، وَالْكَسْر فِي الْأَجْسَام، وَمِنْه: علاقَة
السَّوْط.
وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن تقْرَأ بِالْفَتْح على الأَصْل، أَو
بِالْكَسْرِ على التَّشْبِيه بالجسم.
قَوْله: {وَلَا يعْتَبر اللُّزُوم الذهْنِي بَين الْمَعْنيين،
خلافًا لقوم} .
لابد أَن يكون بَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي علاقَة
اعْتبرت فِي اصْطِلَاح التخاطب بِحَسب النَّوْع، وَإِلَّا
لجَاز اسْتِعْمَال كل لفظ لكل معنى بالمجاز، وَهُوَ بَاطِل
اتِّفَاقًا، وَلِأَنَّهُ لَو لم تكن العلاقة بَينهمَا، لَكَانَ
الْوَضع بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنى الثَّانِي [أَولا] ،
فَيكون حَقِيقَة فيهمَا، وَهُوَ بَاطِل / وَقد اشْترط قوم:
اللُّزُوم الذهْنِي بَين الْمَعْنيين، وَهُوَ بَاطِل، فَإِن
أَكثر المجازات الْمُعْتَبرَة عَارِية عَن اللُّزُوم الذهْنِي.
قَوْله: {ويتجوز بِسَبَب قابلي، وصوري، وفاعلي، وغائي، عَن
مسبب، وبعلة عَن مَعْلُول، ولازم عَن ملزوم، وَأثر عَن مُؤثر،
وَمحل عَن حَال، وَبِمَا بِالْقُوَّةِ على مَا بِالْفِعْلِ،
وَبِكُل عَن بعض، [ومتعلق عَن
(1/393)
مُتَعَلق] ، وَبِالْعَكْسِ فِي الْكل،
وَبِاعْتِبَار وصف زائل ف {وأورثكم أَرضهم} [الْأَحْزَاب: 27]
وَنَحْوه مجَاز خلافًا للشَّيْخ، بِشَرْط أَن لَا يكون متلبساً
الْآن بضده، أَو آيل قطعا أَو ظنا بِفعل أَو قُوَّة،
وَزِيَادَة، وَنقص، وشكل، وَصفَة ظَاهِرَة، وَاسم ضد، ومجاورة،
وَنَحْوه} .
ذكرنَا من أَنْوَاع العلاقة أَرْبَعَة وَعشْرين نوعا، وعدها
الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَجمع:
خَمْسَة.
قَالَ الْآمِدِيّ: (كل جِهَات التَّجَوُّز لَا تخرج عَن هَذَا)
.
وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول ": (الَّذِي يحضرنا مِنْهَا اثْنَا
عشر قسما) .
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل تبعا للقطب الشِّيرَازِيّ:
(حصروا العلاقة بِنَاء على الاستقراء فِي خَمْسَة وَعشْرين
نوعا) .
وأوصلها الصفي الْهِنْدِيّ إِلَى أحد وَثَلَاثِينَ نوعا،
وَزَاد غَيره
(1/394)
عَلَيْهِ.
قَالَ بَعضهم: (فِيهَا تدَاخل) .
وَنحن نذْكر مَا قُلْنَاهُ فِي الْمَتْن، ونزيد مَا قيل فِي
ذَلِك.
الأول: إِطْلَاق السَّبَب على الْمُسَبّب.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح الْمِنْهَاج ": (إِطْلَاق
السَّبَب على الْمُسَبّب، أَي: الْعلَّة على الْمَعْلُول) ،
فجعلهما إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول، وَسَيَأْتِي أَن
إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول نوع آخر، وَلَعَلَّه آراد
إِطْلَاق ذَلِك بِاعْتِبَار، وَإِطْلَاق غَيره بِاعْتِبَار
آخر.
وَإِطْلَاق السَّبَب على الْمُسَبّب أَرْبَعَة أَقسَام:
الأول: القابلي، كتسمية الشَّيْء باسم قابله كَقَوْلِهِم:
سَالَ الْوَادي، وَالْأَصْل: سَالَ المَاء فِي الْوَادي، لَكِن
لما كَانَ الْوَادي سَببا قَابلا لسيلان المَاء
(1/395)
فِيهِ، صَار المَاء من حَيْثُ القابلية
كالمسبب لَهُ، فَوضع لفظ وَادي مَوْضِعه، قَالَه /
الْبَيْضَاوِيّ والطوفي.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (ويعبر عَنهُ بالمادي) .
وَقَالَ - أَيْضا -: (فِي تَسْمِيَة هَذَا سَببا مَوضِع
الْمُسَبّب نظر؛ فَإِن المادي فِي اصطلاحهم: جنس مَاهِيَّة
الشَّيْء، كالخشب، مَعَ السرير، وَهنا لَيْسَ كَذَلِك، وَيظْهر
أَن هَذَا من جنس تَسْمِيَة الْحَال باسم الْمحل، أَو من مجَاز
النُّقْصَان، وَتَقْدِيره: سَالَ مَاء الْوَادي) انْتهى.
وَهُوَ مُحْتَمل.
الثَّانِي: الصُّورِي، كَقَوْلِهِم: هَذِه صُورَة الْأَمر
وَالْحَال، أَي: حَقِيقَته.
الثَّالِث: الفاعلي، كَقَوْلِهِم: نزل السَّحَاب، أَي:
الْمَطَر، لَكِن فاعليته بِاعْتِبَار الْعَادة، كَمَا تَقول:
أحرقت النَّار، وَقَوْلهمْ للمطر: سَمَاء، لِأَن السَّمَاء
فَاعل مجازي للمطر، بِدَلِيل قَوْلهم: أمْطرت السَّمَاء،
وَقَالَ الشَّاعِر:
(إِذا نزل السَّمَاء بِأَرْض قوم ... رعيناه وَإِن كَانُوا
غضاباً)
(1/396)
أَي: الْمَطَر.
الرَّابِع: الغائي، كتسميتهم الْعصير خمرًا، وَالْحَدِيد
خَاتمًا، وَالْعقد نِكَاحا، لِأَنَّهُ غَايَته، وَبَعْضهمْ
يردهُ إِلَى مجَاز مَا يؤول، لَكِن شَرط ذَلِك أَن يكون بِقطع
أَو غَلَبَة لَا بِاحْتِمَال، نعم، يشبه مَا سَيَأْتِي من
إِطْلَاق مَا بِالْفِعْلِ على مَا بِالْقُوَّةِ، على أَن فِيهِ
نظرا من حَيْثُ أَن الْعلَّة الغائية إِنَّمَا هِيَ فِي
الذِّهْن وَهِي معلولة فِي الْخَارِج، فَإِن روعي الْخَارِج
فَهُوَ من إِطْلَاق الْمَعْلُول على الْعلَّة كتسمية الْخشب
سريراً، أَو الذِّهْن فَهُوَ من إِطْلَاق الْعلَّة على
الْمَعْلُول؛ لِأَن الْعلَّة حِينَئِذٍ إِرَادَة خمريته
بالعصير، أَو إِرَادَة كَونه سريراً قبل عمله، لَكِن الْعلَّة
فِي الْحَقِيقَة هِيَ إِرَادَة ذَلِك.
الثَّانِي: إِطْلَاق الْمُسَبّب على السَّبَب، عكس الَّذِي
قبله، كإطلاق الْمَوْت على الْمَرَض الشَّديد، وَكَقَوْلِه
تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم
بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَة: 188] ، أَي: لَا تأخذوها، وَالْأكل
مسبب عَن الْأَخْذ،
(1/397)
وكقول الشَّاعِر:
(شربت الْإِثْم حَتَّى ضل عَقْلِي ... كَذَاك الْإِثْم يذهب
بالقعول)
سمي الْخمر إِثْمًا؛ لكَون الْإِثْم مسبباً عَنهُ.
الثَّالِث: إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول، / كَقَوْلِهِم:
رَأَيْت الله فِي كل شَيْء، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ موجد كل
شَيْء وعلته فَأطلق لَفظه عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ: رَأَيْت كل
شَيْء فاستدللت بِهِ على الله.
الرَّابِع: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْمَعْلُول على الْعلَّة،
كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِذا قضى أمرا} [آل عمرَان: 47] ، أَي:
إِذا أَرَادَ أَن يقْضِي أمرا، فالقضاء
(1/398)
مَعْلُول الْإِرَادَة، وَكَقَوْلِه
تَعَالَى: {وَإِن حكمت فاحكم} [الْمَائِدَة: 42] ، أَي: إِذا
أردْت أَن تحكم.
الْخَامِس: إِطْلَاق اللَّازِم على الْمَلْزُوم، كتسمية السّقف
جداراً، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(قوم إِذا حَاربُوا شدو مآزرهم ... دون النِّسَاء وَلَو باتت
بأظهار)
يُرِيد بشد الْإِزَار: الاعتزال عَن النِّسَاء، وَمِنْه:
إِطْلَاق الْمس على الْجِمَاع غَالِبا، وَإِلَّا فقد يكون
الْجِمَاع بِحَائِل.
السَّادِس: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْمَلْزُوم على
اللَّازِم، كتسمية الْعلم حَيَاة، وَمِنْه: {أم أنزلنَا
عَلَيْهِم سُلْطَانا فَهُوَ يتَكَلَّم} [الرّوم: 35] ، أَي:
برهاناً فَهُوَ يدلهم، سميت الدّلَالَة كلَاما؛ لِأَنَّهَا من
لوازمه، وَمِنْه قَول
(1/399)
الْحُكَمَاء: كل صَامت نَاطِق بموجده، أَي:
الصَّنْعَة فِيهِ تدل على محدثه فَكَأَنَّهُ ينْطق.
السَّابِع: إِطْلَاق الْأَثر على الْمُؤثر، كتسمية ملك
الْمَوْت موتا، وكقول الشَّاعِر يصف ظَبْيَة:
(فَإِنَّمَا هِيَ أقبال وإدبار ... .
لِأَن الإقبال والإدبار من فعلهَا.
الثَّامِن: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْمُؤثر على الْأَثر،
كَقَوْل الْقَائِل: رَأَيْت الله، أَو مَا أرى فِي الْوُجُود
إِلَّا الله، يُرِيد آثاره [الدَّالَّة] عَلَيْهِ فِي
الْعَالم، وكقولهم فِي الْأُمُور المهمة: هَذِه إِرَادَة الله،
أَي: مُرَاده النَّاشِئ عَن إِرَادَته.
التَّاسِع: إِطْلَاق الْمحل على الْحَال، كَقَوْلِه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للْعَبَّاس: " لَا يفضض الله
فَاك "، أَي: أسنانك؛ إِذْ الْفَم مَحل ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... .
(1/400)
الْأَسْنَان، وكتسمية المَال كيساً،
كَقَوْلِهِم: هَات الْكيس، وَالْمرَاد: المَال الَّذِي فِيهِ،
وكتسمية الْعصير كأساً.
الْعَاشِر: / عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْحَال على الْمحل،
كتسمية الْكيس مَالا، والكأس خمرًا، وَمِنْه: {وَأما الَّذين
ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله هم فِيهَا خَالدُونَ}
[آل عمرَان: 107] ، أَي: فِي الْجنَّة؛ لِأَنَّهَا مَحل
الرَّحْمَة.
الْحَادِي عشر: إِطْلَاق مَا بِالْقُوَّةِ على مَا
بِالْفِعْلِ، كتسمية الْخمر فِي الدن مُسكرا، وَقَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل مُسكر خمر "، لِأَن فِيهِ
قُوَّة الْإِسْكَار.
(1/401)
الثَّانِي عشر: عَكسه، إطلاقاً مَا
بِالْفِعْلِ على مَا بِالْقُوَّةِ. كتسمية الْإِنْسَان
الْحَقِيقِيّ نُطْفَة، وَهَذَا الْمِثَال من نوع التَّسْمِيَة
بِوَصْف زائل.
الثَّالِث عشر: إِطْلَاق الْكل على الْبَعْض، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي ءاذانهم} [الْبَقَرَة:
19] ، أَي: أناملهم.
الرَّابِع عشر: عَكسه إِطْلَاق الْبَعْض الْكل، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {فَتَحْرِير رَقَبَة} [النِّسَاء: 92، والمجادلة: 3]
، وَالْعِتْق إِنَّمَا هُوَ للْكُلّ لَا للرقبة، وَمِنْه:
قَوْله: " [على] الْيَد مَا أخذت حَتَّى تُؤَدِّيه "،
وَالْمرَاد: صَاحب
(1/402)
الْيَد بِكَمَالِهِ، وَقَوله تَعَالَى: {كل
شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه] } [الْقَصَص: 88] ، أَي: ذَاته.
الْخَامِس عشر: إِطْلَاق الْمُتَعَلّق - بِكَسْر اللَّام - على
الْمُتَعَلّق - بِفَتْحِهَا -، وَالْمرَاد: التَّعَلُّق
الْحَاصِل بَين الْمصدر وَاسم الْفَاعِل وَاسم الْمَفْعُول،
فَشَمَلَ سِتَّة أَقسَام:
أَحدهَا: إِطْلَاق الْمصدر على اسْم الْمَفْعُول، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {هَذَا خلق الله} [لُقْمَان: 11] ، أَي: مخلوقه.
الثَّانِي: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق اسْم الْمَفْعُول على
الْمصدر كَقَوْلِه تَعَالَى {بأييكم المتقون} {الْقَلَم: 6}
أَي الْفِتْنَة. الثَّالِث: إِطْلَاق الْمصدر على اسْم
الْفَاعِل، كَقَوْلِهِم: رجل عدل أَي عَادل. الرَّابِع: عَكسه،
وَهُوَ إِطْلَاق اسْم الْفَاعِل على الْمصدر، كَقَوْلِهِم: قُم
قَائِما، أَي: قيَاما، وكقولهم: يخْشَى اللائمة، يَعْنِي:
اللوم.
(1/403)
الْخَامِس: إِطْلَاق اسْم الْفَاعِل على
الْمَفْعُول، كَقَوْلِه تَعَالَى: {من مَاء دافق} [الطارق: 6]
، أَي: مدفوق، و: {عيشة راضية} [الحاقة: 21، وَالْقَارِعَة: 7]
، أَي: مرضية.
السَّادِس: عَكسه، إِطْلَاق اسْم الْمَفْعُول على الْفَاعِل،
كَقَوْلِه تَعَالَى: {حِجَابا مَسْتُورا} [الْإِسْرَاء: 45] ،
أَي: ساتراً، وَجعله ابْن هُبَيْرَة على بَابه.
السَّادِس عشر: عَكسه، إِطْلَاق الْمُتَعَلّق / - بِفَتْح
اللَّام - على الْمُتَعَلّق - بِالْكَسْرِ - كَقَوْلِه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تحيضي - فِي علم الله
- سِتا أَو سبعا "، فَإِن التَّقْدِير:
(1/404)
تحيضي سِتا أَو سبعا، وَهُوَ مَعْلُوم الله
تَعَالَى.
السَّابِع عشر: اعْتِبَار وصف زائل، كإطلاق العَبْد على
الْعَتِيق.
تَنْبِيه: قَوْله تَعَالَى: {وأورثكم أَرضهم وديارهم
وَأَمْوَالهمْ} [الْأَحْزَاب: 27] ، من هَذَا الْقَبِيل عِنْد
الْأَكْثَر، فَإِنَّهَا قبل إرثنا لَهَا كَانَت أَرضهم وديارهم
وَأَمْوَالهمْ، خلافًا للشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم}
[النِّسَاء: 12] ، فَإِنَّهَا زَوْجَة بِاعْتِبَار مَا كَانَ.
وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا
رجل وجد مَاله عِنْد رجل قد أفلس فَصَاحب الْمَتَاع أَحَق
بمتاعه "، قَالَ القَاضِي ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ...
(1/405)
وَغَيره: (أَي: الَّذِي كَانَ صَاحب
الْمَتَاع، [وَالَّتِي كَانَت] أَرضهم، واللاتي كن أَزْوَاجًا،
وَهُوَ مجَاز مُسْتَعْمل يجْرِي مجْرى الْحَقِيقَة، وَمِنْه
قَوْلهم: درب فلَان، وَقَطِيعَة فلَان، ونهر فلَان) انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَالصَّوَاب أَن هَذَا
حَقِيقَة؛ لِأَن الْإِضَافَة يَكْفِي فِيهَا أدنى مُلَابسَة،
لَكِن قد يكون عِنْد الْإِطْلَاق لَهُ معنى، وَعند الاقتران
بِلَفْظ آخر لَهُ معنى، فَيرجع [إِلَى أَن] الْقَرِينَة
اللفظية الدَّالَّة بِالْوَضْعِ، هَل يكون مَا اقْترن بهَا
دَالا بِالْحَقِيقَةِ أَو الْمجَاز؟ وَالصَّوَاب الْمَقْطُوع
بِهِ: أَنه حَقِيقَة، وَإِن كَانَ طَائِفَة من أَصْحَابنَا
وَغَيرهم قَالُوا: إِنَّه مجَاز) انْتهى.
قَوْله: بِشَرْط أَن لَا يكون متلبساً الْآن بضده.
فَلَا يُقَال للشَّيْخ: طِفْل بِاعْتِبَار مَا كَانَ، وَلَا
[للثوب] الْمَصْبُوغ: أَبيض بِاعْتِبَار مَا كَانَ، وَلَا لمن
أسلم: كَافِر بِاعْتِبَار مَا كَانَ، وَكَأَنَّهُم يُرِيدُونَ
بذلك: أَنه لَا يطْرَأ وصف وجودي محسوس قَائِم بِهِ، وَإِلَّا
فَمَا الْفرق بَين ذَلِك وَبَين تَسْمِيَة الْعَتِيق عبدا
بِاعْتِبَار مَا كَانَ؟ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَخْلُو ذَلِك
كُله من نظر قَالَه الْبرمَاوِيّ.
(1/406)
الثَّامِن عشر: إِطْلَاقه بِاعْتِبَار مَا
يؤول بِنَفسِهِ، ليخرج: أَن العَبْد لَا يُطلق عَلَيْهِ حر
بِاعْتِبَار مَا يؤول إِلَيْهِ.
وَقَوله: قطعا [أَو ظنا] .
إِشَارَة: إِلَى اعْتِبَار كَون الْمَآل مَقْطُوعًا
بِوُجُودِهِ، نَحْو: {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} [الزمر:
30] ، / أَو غَالِبا، كتسمية الْعصير خمرًا، فَإِن الْغَالِب
إِذا بَقِي أَن يَنْقَلِب خمرًا إِلَّا مَا كَانَ نَادرا، أَو
مُحْتملا على السوَاء، فَلذَلِك ضعف أَصْحَابنَا
وَالشَّافِعِيَّة حمل الْحَنَفِيَّة " فنكاحها بَاطِل "، على
أَن المُرَاد: يؤول إِلَى إِلَى الْبطلَان، لكَون الْوَلِيّ قد
يردهُ ويفسخه، فَإِن ذَلِك لَيْسَ قَطْعِيا وَلَا غَالِبا،
وَيَأْتِي.
(1/407)
وَقَوله: بِفعل أَو قُوَّة، فالفعل: كإطلاق
الْخمر على الْعِنَب، وَالْقُوَّة: كإطلاق الْمُسكر على
الْخمر.
التَّاسِع عشر: الزِّيَادَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَيْسَ
كمثله شَيْء} [الشورى: 11] ، فالكاف زَائِدَة: أَي: لَيْسَ
مثله شَيْء، وَقيل: الزَّائِد مثل، أَي: لَيْسَ كَهُوَ شَيْء،
وَإِنَّمَا حكم بِزِيَادَة أَحدهمَا؛ لِئَلَّا يلْزم أَن يكون
لله تَعَالَى مثل وَهُوَ منزه عَن ذَلِك، لِأَن نفي مثل الْمثل
يَقْتَضِي ثُبُوت مثل، وَهُوَ محَال، أَو يلْزم نفي الذَّات،
لِأَن مثل مثل الشَّيْء هُوَ ذَلِك الشَّيْء، وثبوته وَاجِب،
فَتعين أَن [المُرَاد نفي الْمثل] وَذَلِكَ: إِمَّا بِزِيَادَة
الْكَاف، أَو مثل.
وَقَالَ ابْن جني: (كل حرف زيد فِي الْكَلَام الْعَرَبِيّ،
فَهُوَ قَائِم مقَام إِعَادَة الْجُمْلَة مرّة أُخْرَى) .
فَيكون معنى الْآيَة: (لَيْسَ مثله شَيْء) مرَّتَيْنِ
للتَّأْكِيد.
وَقد ادّعى كثير من الْعلمَاء عدم الزِّيَادَة، والتخلص من
الْمَحْذُور بِغَيْر ذَلِك، وَلَا سِيمَا على القَوْل
بِأَنَّهُ لَا يُطلق فِي الْقرَان وَلَا فِي السّنة زَائِد،
وَذَلِكَ من وُجُوه:
(1/408)
أَحدهَا: أَن سلب الْمَعْنى عَن
الْمَعْدُوم جَائِز، كسلب الْكِتَابَة عَن ابْن فلَان الَّذِي
هُوَ مَعْدُوم، وَلَا يلْزم من نفي الْمثل عَن الْمثل ثُبُوت
الْمثل.
الثَّانِي: أَن المُرَاد هُنَا بِلَفْظ الْمثل: الصّفة، كالمثل
- بِفتْحَتَيْنِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مثل الْجنَّة
الَّتِي وعد المتقون} [الرَّعْد: 35، وَمُحَمّد: 15] ،
فالتقدير: لَيْسَ كصفته.
قَالَ الرَّاغِب: (الْمثل هُنَا بِمَعْنى الصّفة، وَمَعْنَاهُ:
لَيْسَ كصفته صفة) .
قَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (مثل يُوصف بِهِ الْمُذكر
والمؤنث وَالْجمع، وَخرج بَعضهم على هَذَا قَوْله تَعَالَى:
{لَيْسَ كمثله شَيْء} [الشورى: 11] ، أَي: لَيْسَ كوصفه،
وَقَالَ: هُوَ أولى من القَوْل بزيادتها، لِأَنَّهَا / على
خلاف الأَصْل) انْتهى.
الثَّالِث: أَن المُرَاد بِمثل: ذَات، كَقَوْلِك: مثلك لَا
يبخل، أَي: أَنْت لَا تبخل، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلم أقل مثلك أَعنِي بِهِ ... غَيْرك يَا فَردا بِلَا مشبه)
(1/409)
وَقَوله:
(أَيهَا العاذل دَعْنِي من عذلك ... مثلي لَا يصغى إِلَى مثلك}
وَقد قَالَ تَعَالَى: {فَإِن ءامنوا بِمثل مَا ءامنتم بِهِ فقد
اهتدوا} [الْبَقَرَة: 137] ، أَي: بِالَّذِي آمنتم بِهِ، لِأَن
إِيمَانهم لَا مثل لَهُ، وَهَذَا اخْتَارَهُ ابْن عبد
السَّلَام، فالتقدير فِي الْآيَة: لَيْسَ كذاته شَيْء، بل
هَذَا النَّوْع من الْكِنَايَة أبلغ من الصَّرِيح: لتَضَمّنه
إِثْبَات الشَّيْء بدليله.
قَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (وَقيل: الْمَعْنى لَيْسَ
كذاته شَيْء، كَمَا يُقَال: مثلك من يعرف الْجَمِيل، وَمثلك
لَا يفعل كَذَا، أَي: أَنْت تكون كَذَا، وَعَلِيهِ قَوْله
تَعَالَى: {كمن مثله فِي الظُّلُمَات} [الْأَنْعَام: 122] ) .
الرَّابِع: أَنه لَو فرض لشَيْء مثل، وَلذَلِك الْمثل مثل،
كَانَ كِلَاهُمَا مثلا
(1/410)
للْأَصْل، فَيلْزم من نفي مثل الْمثل،
نفيهما مَعًا، وَيبقى الْمَسْكُوت عَنهُ، وَذَلِكَ
بِالضَّرُورَةِ، لِأَنَّهُ الْمَوْضُوع، وكل مِنْهُمَا مُقَدّر
مثليته، وَقد نفيا عَنهُ.
قَالَ شرف الدّين ابْن أبي الْفضل: (اجْعَل الْكَاف أَصْلِيَّة
وَلَا يلْزم مَحْذُور، قَالَ: لِأَن نفي الْمثل لَهُ
طَرِيقَانِ: إِمَّا بِنَفْي الشَّيْء، أَو بِنَفْي لَازمه،
وَيلْزم من نفي اللَّازِم نفي الْمَلْزُوم، وَمن لَوَازِم
الْمثل أَن لَهُ مثلا، فَإِذا نَفينَا مثل الْمثل انْتَفَى
لَازم الْمثل، فَيَنْتَفِي الْمثل لنفي لَازمه) .
الْخَامِس: قَالَه يحيى بن إِبْرَاهِيم [السلماسي] فِي كتاب "
الْعدْل فِي
(1/411)
منَازِل الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة ": (إِن
الْكَاف لتسبيه الصِّفَات، وَمثل لتشبيه الذوات، فنفى الشبيهين
كليهمَا عَن نَفسه تَعَالَى، فَقَالَ " {لَيْسَ كمثله شَيْء}
[الشورى: 11] ، أَي: لَيْسَ لَهُ مثل، وَلَا كَهُوَ شَيْء)
انْتهى.
وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة من أَصْحَابنَا: (آلتا التَّشْبِيه فِي
كَلَام الْعَرَب: الْكَاف وَمثل، تَقول: هَذَا مثل هَذَا،
وَهَذَا كَهَذا، فَجمع الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى / آلتي
التَّشْبِيه، وَنفى عَنهُ بهما الشّبَه) .
تَنْبِيه: قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: (قَالَ
الْجُمْهُور: الْكَلَام يصير بِالزِّيَادَةِ مجَازًا، وَقيل:
إِن نفس الزِّيَادَة هِيَ الْمجَاز دون سَائِر الْكَلِمَات؛
لِأَن الْكَاف - مثلا - مستعملة فِي غير موضوعها، وَأما الْمثل
فمستعمل فِي مَوْضُوعه، وَالصَّحِيح الأول) .
(1/412)
الْعشْرُونَ: علاقَة النُّقْصَان، أَن ينقص
لفظ من الْمركب وَيكون كالموجود للافتقار، سَوَاء كَانَ مُفردا
أَو مركبا، جملَة أَو غَيرهَا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا
جزاؤا الَّذين يُحَاربُونَ الله} [الْمَائِدَة: 33] ، أَي:
يُحَاربُونَ عباد الله وَأهل دينه، وَمثله: {فقبضت قَبْضَة من
أثر الرَّسُول} طه: 96] ، أَي: من أثر حافر فرس الرَّسُول،
وَبِه قرئَ شاذاً، وَمثله: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو
على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] ، أَي:
فَأفْطر، وَمثل: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] ، واسأل
العير، و {وَاشْرَبُوا فِي قُلُوبهم الْعجل} [الْبَقَرَة: 93]
، أَي: حبه. فاسأل الْقرْيَة من مجَاز النُّقْصَان عِنْد
الْأَكْثَر، هَذَا إِذا لم نجْعَل الْقرْيَة اسْما للنَّاس
المجتمعين بهَا، من قَرَأت الشَّيْء: جمعته، أَو الْقرْيَة
مُشْتَركَة بَين الْأَبْنِيَة والمجتمعين بهَا وَأُرِيد
الثَّانِي، أَو أَن نجْعَل الْمجَاز فِيهِ من إِطْلَاق الْمحل
على الْحَال، أَو المُرَاد سُؤال الْأَبْنِيَة لتجيب وَيكون
ذَلِك معْجزَة، والأرجح الأول، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي
فِي " الرسَالَة ".
(1/413)
الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: علاقَة المشابهة
بالشكل، كالأسد على مَا هُوَ بشكله من مجسد أَو منقوش،
وَرُبمَا وجدت العلاقتان، {فَأخْرج لَهُم عجلاً جسداً لَهُ
خوار} [طه: 88] .
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: علاقَة المشابهة فِي معنى، كالأسد
للشجاع، بِشَرْط أَن يكون صفة ظَاهِرَة لَا خُفْيَة، ليخرج
إِطْلَاق الْأسد على الأبخر، لِأَن البخر فِيهِ خَفِي.
الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: علاقَة المضادة، بِأَن يُطلق اسْم
الضِّدّ على الضِّدّ، كإطلاق الْبَصِير على الْأَعْمَى،
وَأكْثر مَا تقع هَذِه العلاقة عِنْد التقابل، نَحْو: {وجزاؤا
سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} [الشورى: 40] ، {فاعتدوا عَلَيْهِ
بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} [الْبَقَرَة: 194] ، {ومكروا ومكر
الله} [آل عمرَان: 54] ، " لَا يمل الله حَتَّى تملوا ".
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (الأولى: التَّمْثِيل بالمفازة / للبرية
الْمهْلكَة) .
(1/414)
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: (كإطلاقهم
السَّلِيم على اللديغ، والمفازة على الْمهْلكَة) .
الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: علاقَة الْمُجَاورَة، وَهِي
تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا جاوره، كإطلاق لفظ الرِّوَايَة على
ظرف المَاء، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الأَصْل للبعير، وَمِنْه: جرى
النَّهر، وسال الْمِيزَاب، و {تجرى من تحتهَا الْأَنْهَار}
[الْبَقَرَة: 25، وَالْبَيِّنَة: 8] ، إِذا لم يَجْعَل من
مجَاز الْحَذف، أَي: مَاء الْمِيزَاب، أَو مَاء النَّهر.
قَوْله: (وَنَحْوه) .
أَي: وَنَحْو مَا ذكرنَا من العلاقة مِمَّا لم نذكرهُ، وَقد
ذكر غير ذَلِك أَشْيَاء كَثِيرَة، نَحن ذاكروا بَعْضهَا.
مِنْهَا: إِطْلَاق الْمُنكر وَإِرَادَة الْمُعَرّف، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة}
[الْبَقَرَة: 67] ، إِن كَانَ المُرَاد بهَا مُعينَة، وَقد
يُقَال: إِن الْمُعَرّف جزئي للْمُنكر، وَإِطْلَاق الْكُلِّي
على الجزئي حَقِيقَة لَا مجَاز.
وَمِنْهَا: عَكسه، وَهُوَ إِطْلَاق الْمُعَرّف وَإِرَادَة
الْمُنكر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ادخُلُوا الْبَاب سجدا}
[النِّسَاء: 154] ، إِن قُلْنَا: الْمَأْمُور دُخُول أَي بَاب
كَانَ،
(1/415)
وَقد يُقَال: إِذا كَانَت اللَّام فِيهِ
للْجِنْس، كَانَ المُرَاد ذَلِك، وَكَون اللَّام للْجِنْس
حَقِيقَة.
وَمِنْهَا: إِطْلَاق الِاسْم الْمُقَيد على الْمُطلق، كَقَوْل
القَاضِي شُرَيْح: (أَصبَحت وَنصف النَّاس عَليّ غَضْبَان) ،
المُرَاد: مُطلق الْبَعْض، لَا خُصُوص النّصْف، لِأَن النَّاس
بَين مَحْكُوم عَلَيْهِ ومحكوم لَهُ، وَنَحْوه قَول الشَّاعِر:
(إِذا مت كَانَ النَّاس صنفان ... )
(1/416)
وَمِنْهَا: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق
الْمُطلق على الْمُقَيد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَتَحْرِير
رَقَبَة} [المجادلة: 3] ، عِنْد من يرى أَن المُرَاد بهَا
مُؤمنَة، وَقد يُقَال: إِن التَّقْدِير: رَقَبَة مُؤمنَة،
فحذفت الصّفة، فَيكون من مجَاز الْحَذف.
وَمِنْهَا: تَسْمِيَة الْبَدَل باسم الْمُبدل، كتسمية الدِّيَة
دَمًا، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
أتحلفون وتستحقون دم صَاحبكُم "، وَقد يُقَال: إِنَّه من مجَاز
الْحَذف، أَي: بدل دَمه.
وَمِنْهَا: الْمَدْح فِي صُورَة / الذَّم، وَعَكسه، نَحْو:
(مَا أشعره قَاتله الله) ، وَنَحْو قَوْله تَعَالَى: {ذُقْ
إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} [الدُّخان: 49] ، وَيُمكن
دخولهما تَحت مجَاز المضادة تمليحاً أَو تهكماً.
وَمِنْهَا: الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع من غير الْجِنْس، وَقد
يُقَال: إِنَّه بتأويله بِدُخُولِهِ تَحت الْجِنْس يكون من
مجَاز المشابهة أَو نَحوه، وَيَأْتِي.
(1/417)
وَمِنْهَا: وُرُود الْأَمر بِصُورَة
الْخَبَر، وَعَكسه، نَحْو: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ}
[الْبَقَرَة: 233] ، وَقَوله تَعَالَى: {أسمع بهم وَأبْصر}
[مَرْيَم: 38] ، وَقد يُقَال: إِن ذَلِك من الْمُبَالغَة
والمضادة، بتنزيله منزلَة الَّذِي اسْتعْمل فِيهِ حَقِيقَة
بِسَبَب اعْتِقَاده.
وَمِنْهَا: وُرُود الْوَاجِب أَو الْمحَال فِي صُورَة
الْمُمكن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما
مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاء: 79] ، وَقد يُقَال: إِنَّه لَا يخرج
عَن إِطْلَاق الْمَلْزُوم [على] اللَّام لتعذر الْحَقِيقَة.
وَمِنْهَا: التَّقَدُّم والتأخر، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{وَالَّذِي أخرج المرعى فَجعله غثاء أحوى} [الْأَعْلَى: 4 - 5]
، والغثاء: مَا احتمله السَّيْل من الْحَشِيش، والأحوى:
الشَّديد الخضرة، وَذَلِكَ سَابق فِي الْوُجُود، ويكمن أَن
يدعى أَنه من التَّجَوُّز بِمَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: إِضَافَة الشَّيْء إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ، نَحْو:
{بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار} [سبأ: 33] ، وَقد يدعى أَن
الْإِضَافَة أدنى مُلَابسَة، فَلم تخرج عَن كَونهَا حَقِيقَة،
(1/418)
وَقد يُقَال: إِن هَذَا من بَاب التشكيك
على الْمُخَاطب، فَلم يخرج عَن كَونه حَقِيقَة.
وَمِنْهَا: إِيرَاد الْمَعْلُوم مساق الْمَجْهُول، وَرُبمَا
عبر عَنهُ: بتجاهل الْعَارِف، إِذا كَانَ فِي غير كَلَام الله،
ومثلوا بِنَحْوِ: {وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هدى أَو فِي
ضلال مُبين} [سبأ: 24] .
فَهَذِهِ اثْنَتَا عشرَة صُورَة ادعِي فِيهَا أَنَّهَا من
الْمجَاز، وفيهَا مِمَّا تقدم.
فَائِدَة: يتَفَاوَت الْمجَاز قُوَّة وضعفاً بِحَسب تفَاوت ربط
العلاقة بَين مَحل الْمجَاز والحقيقة، وَفِي ذَلِك
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: أَن الْمجَاز بالمجاورة قد / يكون بِدَرَجَة
وَاحِدَة، كالرواية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجمل، وَالْغَائِط
بِالنِّسْبَةِ إِلَى المطمئن من الأَرْض، وَقد يكون بِأَكْثَرَ
من دَرَجَة، كتسميتهم الْغَيْث سَمَاء فِي قَول الشَّاعِر:
(إِذا نزل السَّمَاء بِأَرْض قوم ... رعيناه وَإِن كَانُوا
غضاباً)
أَي: إِذا نزل الْغَيْث، وَفِيه مجازان:
(1/419)
أَحدهمَا: إفرادي بِأَكْثَرَ من دَرَجَة،
من جِهَة أَنه سمى الْغَيْث سَمَاء؛ لحصوله عَن المَاء
النَّازِل من السَّحَاب المجاور للسماء.
وَالثَّانِي: إسنادي، وَهُوَ وَصفه الْغَيْث بالنزول؛ لحصوله
عَن المَاء المتصف بالنزول من الْغَمَام.
الْفَائِدَة الثَّانِيَة: الْمجَاز السببي يكون - أَيْضا -
بمراتب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا بني ءادم قد أنزلنَا
عَلَيْكُم لباساً يواري سوءتكم} [الْأَعْرَاف: 26] ، وَنَفس
اللبَاس لم ينزل من السَّمَاء، وَإِنَّمَا أنزل المَاء الَّذِي
يكون عَنهُ اللبَاس بوسائط.
مِثَاله: ثِيَاب الْكَتَّان، حَاصِلَة عَن الْكَتَّان،
الْحَاصِل عَن بذره النَّابِت فِي الأَرْض، بِالْمَاءِ
النَّازِل من السَّمَاء، وَنَحْوه.
وَمن هَذَا قَول الراجز:
(الْحَمد لله المليك الديَّان ... [صَار] الثَّرِيد فِي رُؤُوس
العيدان)
يُرِيد بالثريد: السنبل الَّذِي فِي رُؤُوس الزَّرْع، وَهُوَ
مَادَّة الثَّرِيد؛ لِأَن النسبلة يحصد، ثمَّ يدرس، ثمَّ يذرا،
ويصفى، ثمَّ يطحن، ثمَّ يخبز، ثمَّ يطْبخ فَيصير ثريداً،
فَهَذَا مجَاز بست مَرَاتِب، فَهَذَا وَأَمْثَاله من محَاسِن
لُغَة الْعَرَب، وَيَنْبَغِي لمن حاول علم الشَّرِيعَة النّظر
والارتياض فِيهِ؛ ليعرف مواقع أَلْفَاظ الْكتاب وَالسّنة
وَكَلَام أهل الْعلم، وَالله أعلم.
(1/420)
قَوْله: {وَلَا يشْتَرط النَّقْل فِي
الْآحَاد، بل فِي النَّوْع فِي الْأَصَح} .
هَل يَكْتَفِي بِوُجُود العلاقة مُطلقًا، أم لَا بُد من
اعْتِبَار الْعَرَب لَهَا، أَي: بِأَن تستعملها فِيهِ؟ مذهبان،
حَكَاهُمَا الْآمِدِيّ من غير تَرْجِيح، ويعبر عَنْهَا: بِأَن
الْمجَاز هَل هُوَ مَوْضُوع أم لَا؟
أصَحهمَا عِنْد ابْن الْحَاجِب وَغَيره: أَنه لَا يشْتَرط؛ /
لِأَن أهل الْعَرَبيَّة لَا يتوقفون على ذَلِك، بل يستعملون
مجازات متجددة لم تسمع من أهل اللُّغَة وَلَا يخطئون صَاحبهَا،
وَلذَلِك لم يدونوا المجازات تدوينهم الْحَقَائِق.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْعَرَب وضعت الْمجَاز فِي
الْمُفْردَات، وَهل وضعت المركبات؟ على قَوْلَيْنِ:
الْجُمْهُور على الْوَضع) انْتهى.
وَاخْتَارَ الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه، وَأَبُو الْمَعَالِي فِي
" التَّلْخِيص ": أَنه يشْتَرط؛ لِأَن الْأسد لَهُ صِفَات،
وَهِي: الشجَاعَة، والحمى، والبخر،
(1/421)
والجذام، وَمَعَ ذَلِك لَا يجوز إِطْلَاقه
لغير الشجَاعَة، وَلَو كَانَت المشابهة كَافِيَة من غير نقل
لما امْتنع.
وللخصم أَن يَقُول: المشابهة كَافِيَة فِي صفة ظَاهِرَة،
وَهَذِه لَا يتَبَادَر الذِّهْن إِلَيْهَا.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (وَالْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي
الْأَنْوَاع، لَا فِي جزيئات النَّوْع الْوَاحِد، فالقائل
بالاشتراط يَقُول: لابد أَن تضع الْعَرَب نوع التَّجَوُّز) .
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (هَل يشْتَرط أَن يكون بَين
الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي علاقَة اعتبرتها الْعَرَب؟
اجْمَعُوا على أَنه لَا يعْتَبر شخص العلاقة وَأَنه لَا بُد من
جِنْسهَا، وَاخْتلفُوا فِي النَّوْع، اخْتَار جمَاعَة
اشْتِرَاطه، وَجَمَاعَة [مُقَابلَة] ، فعلى الأول لَا يحْتَاج
إِلَى اسْتِعْمَال الْعَرَب) انْتهى.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (أَقُول: بعد الِاتِّفَاق على وجوب
العلاقة فِي الْمجَاز، هَل [يشْتَرط] فِي آحَاد المجازات أَن
تنقل بِأَعْيَانِهَا عَن أهل اللُّغَة أم لَا؟ بل يَكْتَفِي
بالعلاقة، قد اخْتلف فِيهِ) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (إِطْلَاق اسْم على مُسَمَّاهُ
الْمجَازِي لَا يفْتَقر فِي الْآحَاد إِلَى النَّقْل عَن
الْعَرَب، بل الْمُعْتَبر ظُهُور العلاقة على الْأَصَح، وَأما
فِي الْأَنْوَاع فمعتبر وفَاقا) انْتهى.
(1/422)
وَقَالَ القطب: (هَل يفْتَقر فِي كل صُورَة
إِلَى كَونه مَنْقُولًا عَن الْعَرَب، أَو يَكْفِي فِيهِ
ظُهُور / العلاقة الْمُعْتَبرَة فِي التَّجَوُّز؟ - حكى
الْخلاف - قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ فِي " التَّلْخِيص ": فِي
الْآحَاد، لِأَن النَّقْل فِي غير آحَاد الصُّور، كنقل جَوَاز
إِطْلَاق اسْم الْمَلْزُوم على اللَّازِم مثلا، وَغَيره من
الْأَنْوَاع الْمَذْكُورَة، مُعْتَبر وفَاقا) وَعلله.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَلَا يشْتَرط النَّقْل فِي الْآحَاد
على الْأَصَح) .
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شَرحه ": (الْمَطْلُوب: أَنه لَا
يشْتَرط فِي اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي كل وَاحِدَة من الصُّور
الَّتِي يُوجد فِيهَا أحد أَنْوَاع العلاقة الْمُعْتَبرَة،
النَّقْل عَن أهل اللُّغَة باستعمالهم فِيهَا، بل يَكْفِي فِي
اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي كل صُورَة ظُهُور نوع من العلاقة
الْمُعْتَبرَة) انْتهى.
فتلخص أَن الْمُحَقق أَن مَحل الْخلاف فِي النَّوْع، وَإِن
كَانَ ظَاهر كَلَام بَعضهم أَن مَحَله فِي الْآحَاد، وَأَن
النَّوْع لَا خلاف فِيهِ كالجنس، وَصرح بِهِ بَعضهم.
(1/423)
قَوْله: {وَهُوَ لغَوِيّ: كأسد لشجاع،
{وعرفي عَام: كدابة] لمُطلق مَا دب، وخاص: كجوهر لنفيس، وشرعي:
كَصَلَاة لدعاء} .
يَنْقَسِم الْمجَاز بِحَسب جِهَة وَضعه إِلَى ثَلَاثَة
أَقسَام: لغَوِيّ، وعرفي، وشرعي، كَمَا انقسمت الْحَقِيقَة
إِلَى ذَلِك.
فاللغوي: كالأسد للشجاع، لعلاقة الْوَصْف الَّذِي هُوَ الجرأة،
فَكَأَن أهل اللُّغَة باعتبارهم النَّقْل لهَذِهِ
الْمُنَاسبَة، وضعُوا الِاسْم ثَانِيًا للمجاز.
والعرفي قِسْمَانِ: عَام، وخاص، فالعام: كالدابة لمُطلق مَا
دب، فَهُوَ حَقِيقَة لُغَة، مجَاز عرفا، لِأَن حَقِيقَة
الدَّابَّة فِي الْعرف لذات الْحَافِر، ولمطلق مَا دب مجَاز
عِنْدهم، وَالْخَاص: كالجوهر للنفيس، انتقالاً فِي الْعرف من
ذَات الْحَافِر للمعنى المضمن لَهَا من الدب فِي الأَرْض،
وَكَذَا فِي الْخَاص.
والشرعي: كَالصَّلَاةِ لمُطلق الدُّعَاء، انتقالاً من ذَات
الْأَركان للمعنى المضمن لَهَا من الخضوع وَالسُّؤَال
بِالْفِعْلِ أَو الْقُوَّة، فَكَأَن الشَّارِع بِهَذَا
الِاعْتِبَار وضع الِاسْم ثَانِيًا، لما كَانَ بَينه وَبَين
اللّغَوِيّ هَذِه الْمُنَاسبَة. /
فَكل معنى حَقِيقِيّ فِي وضع، هُوَ مجَاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى
وضع آخر، فَيكون حَقِيقَة ومجازاً باعتبارين، كَمَا تقدم، أَن
الْحَقِيقَة قد تصير مجَازًا، وَأَن الْمجَاز قد يصير
حَقِيقَة، عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
(1/424)
قَوْله: {وَيعرف بِصِحَّة النَّفْي، وَقيل:
دور، وبتبادر غَيره لَوْلَا الْقَرِينَة، وَعدم وجوب اطراده،
[قيل] : وَجمعه على خلاف جمع الْحَقِيقَة، وَقيل: لَا يجمع،
وبالتزام تَقْيِيده ك " جنَاح الذل " وَنَحْوه، وتوقفه على
مُقَابِله، وإضافته إِلَى غير قَابل، ك " اسْأَل الْقرْيَة "،
وَعدم الِاشْتِقَاق مِنْهُ بِلَا منع، عِنْد الباقلاني،
وَالْغَزالِيّ، والموفق، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَابْن
قَاضِي الْجَبَل، [وَأَجَازَهُ] الْأَكْثَر، [و] فِي "
الْفُنُون " [وَغَيره] : الْمجَاز لَا يُؤَكد} .
(1/425)
ذكرُوا أَشْيَاء يعرف بهَا الْمجَاز من
الْحَقِيقَة، وَالْمجَاز تَارَة يعرف بتصريح أهل اللُّغَة
بِهِ، وَهُوَ قَلِيل جدا، أَو بحده، أَو بِخَاصَّة من خواصه،
وَتارَة يعرف بالاستدلال، فتركوا الْأَقْسَام الأول؛ لوضوحها،
وَذكروا للأخير وُجُوهًا.
مِنْهَا: صِحَة النَّفْي، كَقَوْلِك للبليد: لَيْسَ بِحِمَار،
وللجد: لَيْسَ بأب، بِخِلَاف الْحَقِيقَة فَإِنَّهَا لَا تنفى،
فَلَا يُقَال للحمار: لَيْسَ بِحِمَار، وَلَا للبليد: لَيْسَ
بِإِنْسَان، وَلَا للْأَب: لَيْسَ بأب.
زَاد بَعضهم: فِي نفس الْأَمر، احْتِرَازًا عَمَّا إِذا كَانَ
ذَلِك لظن ظان، فَإِنَّهُ لَا يدل عَلَيْهِ.
قَالَ الْعَضُد: (ليندفع: مَا أَنْت بِإِنْسَان، لصِحَّته
لُغَة) .
وَقيل: دور؛ لِأَنَّهُ يلْزم سبق الْعلم بالمجاز، قَالَه ابْن
الْحَاجِب وَغَيره.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَذَلِكَ لِأَن صِحَة النَّفْي
وامتناعه تتَوَقَّف على معرفَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، فَلَو
عرفناهما بِصِحَّة النَّفْي وامتناعه لزم الدّور) ، وَإِنَّمَا
يلْزم الدّور إِن أُرِيد نفي الْمُسْتَعْمل لَا نفي الْوَاضِع.
(1/426)
وَقيل: هُوَ حكم نَقله ابْن مُفْلِح.
وَمِنْهَا: تبادر غَيره لَوْلَا الْقَرِينَة الْحَاضِرَة
هُنَاكَ، بِخِلَاف الْحَقِيقَة فَإِنَّهَا المتبادرة إِذا
كَانَت وَاحِدَة.
فَإِن قيل: الْمجَاز الرَّاجِع يتَبَادَر أَيْضا.
قيل: إِن رجح قرينَة، فَالْكَلَام حَيْثُ لَا قرينَة، أَو رجح
باشتهاره فقد صَار حَقِيقَة بِحَسب مَا اشْتهر فِيهِ من عرف
أَو شرع، فَمَا تبادر إِلَّا لكَونه حَقِيقَة، وَإِن كَانَ
مجَازًا بِاعْتِبَار / وضع آخر، فَلم يتَبَادَر من كَونه
مجَازًا.
وَأورد على (الْحَقِيقَة تتبادر عِنْد الْإِطْلَاق) : بِأَن
اللَّفْظ الْمُشْتَرك بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل وَاحِد من معنييه
حَقِيقَة، مَعَ أَنه إِذا أطلق على أَحدهمَا بِدُونِ
الْقَرِينَة لم تتبادر الْحَقِيقَة إِلَى الذِّهْن.
وَأجِيب: بِأَن اللَّفْظ الْمُشْتَرك حَقِيقَة بِالنِّسْبَةِ
إِلَى أحد معنييه، لَا على التَّعْيِين، وَقد يتَبَادَر
أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ بِدُونِ
الْقَرِينَة، فَلم يلْزم عدم انعكاس التَّعْرِيف، وَلزِمَ
حِينَئِذٍ أَن يكون اللَّفْظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل وَاحِد من
معنييه على التَّعْيِين مجَازًا؛ لِأَن غَيره تبادر إِلَى
الذِّهْن عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ بِدُونِ الْقَرِينَة، و -
أَيْضا - لزم أَن يكون إِطْلَاق اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي كل
(1/427)
وَاحِد من معنييه بالتواطؤ، ضَرُورَة كَون
اللَّفْظ مَوْضُوعا للقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا، وَهُوَ
أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين.
وَلقَائِل أَن يُجيب عَن أصل الْإِيرَاد: بِأَن مَا ذكرنَا
عَلامَة الْحَقِيقِيَّة لَا تَعْرِيفهَا الْحَقِيقِيّ،
والعلامة جَازَ أَن تكون خَاصَّة مُفَارقَة، فَلَا يجب
الْعَكْس فِيهَا، وَفِيه نظر.
وَمِنْهَا: عدم وجوب اضطراده، بل قد يطرد تَارَة كالأسد
للشجاع، وَلَا يطرد تَارَة أُخْرَى، نَحْو: {وَسُئِلَ
الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] ، أَي: أَهلهَا، فَلَا يُقَال: اسْأَل
الْبسَاط، أَي: أَهله، بِخِلَاف الْحَقِيقَة، فَإِنَّهَا
وَاجِبَة الاطراد.
وَقَول ابْن الْحَاجِب: الاطراد لَيْسَ دَلِيل الْحَقِيقَة؛
لِأَن الْمجَاز قد يطرد، فَمُسلم، لَكِن الَّذِي هُوَ عَلامَة
الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ وجوب الاطراد، عكس الْمجَاز،
فَإِنَّهُ لَا يجب، وَقد يطرد.
فَإِن قيل: فالحقيقة قد لَا تطرد، كالقارورة للزجاج مَعَ
كَونهَا من الْقَرار، والدبران لمنزلة الْقَمَر مَعَ كَونهَا
من الدبور، فَلَا يُسمى كل مَا فِيهِ
(1/428)
قَرَار قَارُورَة / وَلَا مَا فِيهِ دبور
[دبرانا] ، وَكَذَلِكَ السخي حَقِيقَة فِي الْكَرِيم، والفاضل
فِي الْعَالم، وهما موجودان فِي الله تَعَالَى، مَعَ عدم
إطلاقهما عَلَيْهِ.
قيل: عدم اطراده لكَون الْمحل الْمعِين قد اعْتبر فِي وضع
الِاسْم، فَلَا يُسمى مَا وجد أصل الْمَعْنى فِيهِ - غير هَذَا
- بذلك الِاسْم، لفقدان تَمام مُوجب التَّسْمِيَة.
وَالْحَاصِل: الْفرق بَين تَسْمِيَة غير ذَلِك، لوُجُود
الْمَعْنى، أَو بِوُجُود الْمَعْنى فِيهِ، وَالْمرَاد
الثَّانِي، فَلَا يتَعَدَّى.
وَنَظِيره: لَو علل فِي بَاب الْقيَاس بِالْمحل، أَو جزئه، أَو
لَازمه، لم يقس غَيره عَلَيْهِ، كجوهرة النقدية الْغَالِبَة
فِي الرِّبَا فِي الذَّهَب أَو الْفضة، وَإِنَّمَا لم تطرد،
وَلم تعد إِلَى شَيْء آخر؛ لتعذر وجود الْعلَّة فِيهِ.
وأَيْضا - أَسمَاء الله تَعَالَى توقيفية.
وَمِنْهَا على قَول: جمعه على خلاف جمع الْحَقِيقَة، كالأمر
يجمع إِذا كَانَ بِمَعْنى القَوْل الَّذِي هُوَ حَقِيقِيَّة،
على (أوَامِر) ، وَإِذا كَانَ بِمَعْنى الْفِعْل، على (أُمُور)
، وَهَذَا قَول الْجَوْهَرِي، وَلَا يعرف ذَلِك لغيره،
وَتَابعه على ذَلِك
(1/429)
كثير من الْأُصُولِيِّينَ تقليداً لَهُ،
وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة خلاف ذَلِك.
قَالَ الْأَزْهَرِي فِي " التَّهْذِيب ": (الْأَمر ضد النَّهْي
وَاحِد الْأُمُور) .
وَقَالَ ابْن سَيّده فِي " الْمُحكم ": (الْأَمر لَا يكسر على
غير الْأُمُور) .
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْأَمر ضد النَّهْي، جمعه
أُمُور) .
وَأما أَئِمَّة النَّحْو فَلم يقل أحد مِنْهُم: أَن " فعلا "
يجمع على " فواعل "، مَعَ ذكرهم الصِّيَغ الشاذة، وَمَعَ ذَلِك
لم يذكروه مِنْهَا.
وَمِمَّنْ نبه على أَن قَول الْجَوْهَرِي شَاذ، الأبياري فِي "
شرح الْبُرْهَان "، ثمَّ حكى عَن بَعضهم: أَن " أوَامِر " جمع
" آمُر " بِوَزْن فَاعل، قَالَ: (وَفِيه تجوز؛ لِأَن الْآمِر
هُوَ الْمُتَكَلّم، فإطلاقه على الْمصدر أَو الصِّيغَة مجَاز،
وَإِن كَانَت صِيغَة " فَاعل " أَو " فاعلة " تجمع على " فواعل
"، اسْما كَانَ كفواطم، أَو صفة ككواتب) انْتهى.
(1/430)
[وَتعقب على ابْن جني] فِي كتاب "
التَّعَاقُب " / ذكر مَا يَقْتَضِي أَن جمع " أَمر " و " نهي "
على " أوَامِر " و " نواهي " [سَائِغ] ، وَذكر لَهُ نظيراً.
وَأما جعل " أوَامِر " جمعا ل " آمُر " بِوَزْن فَاعل، وَإِن
كَانَ فِيهِ تجوز، إِلَّا أَنه عرف شَائِع، وَلِهَذَا يُقَال
فِي صِيغ الْقُرْآن وَالسّنة: إِنَّهَا آمرة بِكَذَا، أَو
ناهية عَن كَذَا.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (قَالَ بَعضهم: إِن " أوَامِر " جمع
الْجمع، فَجمع أَولا جمع قلَّة على " أفعل "، ثمَّ جمع " أفعل
" على " أفَاعِل "، كَمَا فعل فِي كلب وأكلب وأكالب) ، وَضعف:
بِأَن " أوَامِر " فواعل لَا أفَاعِل، فَلَيْسَ مثله، وَلَكِن
فِيهِ نظر؛ فقد يدعى أَنه أفَاعِل لَا فواعل، وَأما إِذا
قُلْنَا: إِنَّه جمع " آمُر "، فَهُوَ أفَاعِل والهمزة الَّتِي
هِيَ فَاء " آمُر "، هِيَ المبدلة واواً من " أوَامِر "،
فَهُوَ وزن أكالب سَوَاء، لَكِن هَذَا وَإِن كَانَ مُحْتملا
فَجعله على فواعل كضوارب أوضح. انْتهى.
(1/431)
وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (أَمر
بِكَذَا أمرا، وَجمع الْأَمر " أوَامِر "، هَكَذَا يتَكَلَّم
بِهِ النَّاس، وَمن الْأَئِمَّة من يُصَحِّحهُ، وَيَقُول فِي
تَأْوِيله: إِن الْأَمر مَأْمُور بِهِ، ثمَّ حول الْمَفْعُول
إِلَى فَاعل، كَمَا قيل: أَمر عَارِف، وَأَصله: مَعْرُوف،
وعيشة راضية، وَالْأَصْل: مرضية، إِلَى غير ذَلِك، ثمَّ جمع
فَاعل على فواعل فأوامر جمع مَأْمُور، وَبَعْضهمْ يَقُول: جمع
على " أوَامِر " فرقا بَينه وَبَين الْأَمر بِمَعْنى الْحَال،
فَإِنَّهُ يجمع على فعول) انْتهى.
قَوْله: وَقيل: لَا يجمع.
قَالَ بعض الْعلمَاء: إِن الْمجَاز لَا يجمع، وأبطله
الْآمِدِيّ، بِأَن لفظ الْحمار للبليد يثنى وَيجمع إِجْمَاعًا.
وَمِنْهَا: الْتِزَام تَقْيِيده ك " جنَاح الذل "، ونار
الْحَرْب، فَإِن الْجنَاح وَالنَّار يستعملان فِي مدلولهما
الْحَقِيقِيّ من غير قيد، وَإِنَّمَا قيل: بِالْتِزَام
تَقْيِيده، وَلم يقل: بتقييده، لِأَن الْمُشْتَرك قد يُقيد فِي
بعض الصُّور، كَقَوْلِك: عين جَارِيَة، لكنه لم يلْزم
التَّقْيِيد فِيهِ.
وَمِنْهَا: توقفه على مُقَابِله، يَعْنِي: توقف اسْتِعْمَاله
على الْمُسَمّى الآخر الْحَقِيقِيّ، سَوَاء كَانَ ملفوظاً /
بِهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: (ومكروا ومكر الله
(1/432)
وَالله} [آل عمرَان: 54] ، فَلَا يُقَال:
مكر الله ابْتِدَاء، أَو مُقَدرا كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل الله
أسْرع مكراً} [يُونُس: 21] ، وَلم يتَقَدَّم لمكرهم ذكر فِي
اللَّفْظ، لَكِن تضمنه الْمَعْنى، والعلاقة: المصاحبة فِي
الذّكر.
وَزعم بَعضهم: أَنه لابد من سبق الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ كَمَا
مثلنَا، وَهُوَ مَرْدُود بِنَحْوِ مَا فِي الحَدِيث: " فَإِن
الله لَا يمل حَتَّى تملوا " فَإِن الْمجَازِي فِيهِ مُتَقَدم
لمقابلة الْحَقِيقِيّ الْمُتَأَخر.
وَمِنْهَا: إِضَافَته إِلَى غير قَابل، ك " اسْأَل الْقرْيَة
"، واسأل العير، وَبَعْضهمْ يعبر عَنهُ بِالْإِطْلَاقِ على
المستحيل، فَإِن الإستحالة تَقْتَضِي أَنه غير مَوْضُوع لَهُ،
فَيكون مجَازًا.
وَأورد: أَن الْمجَاز الْعقلِيّ كَذَلِك، مَعَ أَنه حَقِيقَة
لغوية.
(1/433)
وَأجِيب: بِأَن المُرَاد معرفَة
اسْتِحَالَة ذَلِك بهديهية، والامتناع فِي الْمجَاز الْعقلِيّ
نَظَرِي.
وَمِنْهَا: عدم الِاشْتِقَاق مِنْهُ، بِلَا منع عِنْد القَاضِي
أبي بكر ابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، وَالشَّيْخ الْمُوفق،
والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم،
وَقَالَ أَكثر الْعلمَاء: يجوز الِاشْتِقَاق من الْمجَاز.
(1/434)
هَذَا الْمَسْأَلَة مِمَّا اخْتلف فِيهَا
الْعلمَاء، وَهِي أَن الْمجَاز هَل يشتق مِنْهُ، أَو لَا يكون
الِاشْتِقَاق إِلَّا من حَقِيقَة؟
فنحو: الصَّلَاة، إِذْ قُلْنَا: حَقِيقَتهَا الدُّعَاء،
ومجازها ذَات الرُّكُوع وَالسُّجُود، فَهَل يُقَال من
الثَّانِي: صلى وَيُصلي ومصل من حَيْثُ كَونه مجَازًا قبل أَن
يصير حَقِيقَة شَرْعِيَّة، أَو يقدر: أَن هَذَا أَخذ من
الصَّلَاة بِمَعْنى الدُّعَاء، ثمَّ تجوز بِهِ كَمَا تجوز
بِأَصْلِهِ؟ الْجُمْهُور على الأول، وَخَالف جمَاعَة مِنْهُم
القَاضِي ابْن الباقلاني، وَغَيره، فمنعوا الِاشْتِقَاق من
المجازات، وَأَنه لَا اشتقاق إِلَّا من الْحَقَائِق.
قَالَ الْغَزالِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَمر فِرْعَوْن
برشيد} [هود: 97] : بِمَعْنى الشَّأْن مجَازًا، فَلَا يشتق
مِنْهُ آمُر وَلَا مَأْمُور وَلَا غَيرهمَا.
وَيدل لِلْجُمْهُورِ: إِجْمَاع البيانيين على صِحَة
الِاسْتِعَارَة بالتبعية، وَهِي مُشْتَقَّة من الْمجَاز، لِأَن
الِاسْتِعَارَة تكون فِي الْمصدر، ثمَّ يشتق مِنْهُ.
قَالَ الكوراني: (وَالدَّلِيل على الِاشْتِقَاق / من الْمجَاز
قَوْلهم: نطقت الْحَال بِكَذَا، أَي: دلّت، لِأَن النُّطْق
مُسْتَعْمل فِي الدّلَالَة أَولا، ثمَّ اشتق مِنْهُ اسْم
الْفَاعِل على مَا هُوَ الْقَاعِدَة فِي الِاسْتِعَارَة
[التّبعِيَّة] فِي المشتقات) انْتهى.
(1/435)
وَمِنْهَا: مَا ذكره ابْن عقيل فِي "
الْفُنُون " وَغَيره: أَن الْمجَاز لَا يُؤَكد، وَرَأَيْت
ذَلِك فِي كَلَام ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع
"، وَالظَّاهِر أَنه تَابع أَصله وَهُوَ " شرح الزَّرْكَشِيّ
".
قلت: ثمَّ رَأَيْت ذَلِك فِي كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " فروعه
": أَن أهل اللُّغَة ذَكرُوهُ، مِنْهُم: ابْن قُتَيْبَة،
وَغَيره، وَتقدم ذَلِك فِي قَوْله: (التوكيد يُقَوي وينفي
احْتِمَال الْمجَاز) .
قَوْله: {تَنْبِيه: إِنَّمَا صير إِلَيْهِ: لبلاغته، أَو
ثقلهَا، [وَنَحْوهمَا] } .
قَالَ الْعلمَاء: إِنَّمَا عدل عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز
لفوائد كَثِيرَة حَسَنَة.
(1/436)
مِنْهَا: بلاغة لفظ الْمجَاز، لصلاحيته
للسجع والتجنيس، وَسَائِر أَنْوَاع البديع، دون الْحَقِيقَة،
وَفِيه نظر.
وَمِنْهَا: ثقل لفظ الْحَقِيقَة على اللِّسَان، كالخنفقيق -
بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْفَاء
وَكسر الْقَاف وَإِسْكَان الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَآخره
قَاف - اسْم للداهية، يعدل عَنهُ إِلَى النائبة، أَو
الْحَادِثَة، وَنَحْوهمَا.
وَمِنْهَا: بشاعة اللَّفْظ، كالتعبير بالغائط عَن الْخَارِج.
وَمِنْهَا: جهل الْمُتَكَلّم والمخاطب لفظ الْحَقِيقَة.
وَمِنْهَا: كَون الْمجَاز أشهر من الْحَقِيقَة.
وَمِنْهَا: أَن يكون مَعْلُوما عِنْد المتخاطبين، ويقصدان
إخفاءه عَن غَيرهمَا.
وَمِنْهَا: عظم مَعْنَاهُ، كَقَوْلِه: سَلام الله على الْمجْلس
العالي، فَهُوَ أرفع فِي الْمَعْنى من قَوْله: سَلام عَلَيْك.
وَمِنْهَا: كَونه أَدخل فِي التحقير ,
وَمِنْهَا: [أَلا] يكون للمعنى الَّذِي عبر عَنهُ [بالمجاز]
لفظ حَقِيقِيّ. فَهَذِهِ تسع فَوَائِد فِي الْعُدُول عَن
الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز.
(1/437)
قَوْله: {فصل}
{الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم: الْحَقِيقَة لَا تَسْتَلْزِم
الْمجَاز، وَالْمجَاز يستلزمها، [خلافًا للآمدي، وَجمع] } .
ذهب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وأتباعهم، إِلَى أَن
الْحَقِيقَة / لَا تَسْتَلْزِم الْمجَاز، وَحكي إِجْمَاعًا،
فتوجد الْحَقِيقَة وَلَا يُوجد لَهَا مجَاز.
وَحكى القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني عَن بعض الْقَدَرِيَّة
أَنَّهَا تستلزمه، وَأَنه مَا لَا مجَاز لَهُ لَا يُقَال لَهُ:
حَقِيقَة، وَهُوَ مَرْدُود بالواقع، واللغة طافحة بحقائق لَا
مجازات لَهَا.
وَأما الْعَكْس، وَهُوَ أَن الْمجَاز هَل يسْتَلْزم
الْحَقِيقَة أم لَا؟ اخْتلف فِي ذَلِك.
(1/438)
فَذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى أَنه
يستلزمها، وَأَنه مَتى وجد الْمجَاز وجدت الْحَقِيقَة،
اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل
فِي " الْوَاضِح "، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي "
مختصرها "، وَأَبُو الحيسن الْبَصْرِيّ، وَابْن
السَّمْعَانِيّ، وَالْفَخْر الرَّازِيّ فِي مَوضِع، وَغَيرهم.
وَاحْتَجُّوا على ذَلِك: بِأَن الْمجَاز فرع، والحقيقة أصل،
وَمَتى وجد الْفَرْع وجد الأَصْل.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَو لم يسْتَلْزم لعري الْوَضع عَن
الْفَائِدَة.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ: أَنه لَا يستلزمها، وَنَقله صَاحب "
البديع "
(1/439)
عَن الْمُحَقِّقين، وَاخْتَارَهُ
الرَّازِيّ فِي مَوضِع آخر من " الْمَحْصُول "، نظرا إِلَى
أَنه لَو استلزم الْمجَاز الْحَقِيقَة لَكَانَ لنَحْو: قَامَت
الْحَرْب على سَاق، وشابت لمة اللَّيْل، من المجازات الإسنادية
حَقِيقَة، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَنَّهَا لَيست مَوْضُوعَة
أَولا لمعان أخر، حَتَّى يدعى أَنَّهَا منقولة عَنْهَا.
ورد: بِأَنَّهُ مُشْتَرك الْإِلْزَام للُزُوم الْوَضع لَهما،
وَبِأَنَّهُ لَا مجَاز فِي التَّرْكِيب.
وَقَوْلهمْ: لَو لم يسْتَلْزم لعري الْوَضع عَن فَائِدَة، غير
مُسلم؛ فَإِن الْفَائِدَة لَا تَنْحَصِر فِي اسْتِعْمَاله
فِيمَا وضع لَهُ أَولا، وَقد يتجوز فَتحصل الْفَائِدَة
بالمجاز.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَقد يسْتَعْمل بعد الْمجَاز) .
وَقد حكى ابْن الْعِرَاقِيّ فِيهَا ثَلَاثَة أَقْوَال،
الثَّالِث: أَن الْمجَاز لَا يستلزمها فِي غير الْمصدر، قَالَ:
(اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ والتاج السُّبْكِيّ) .
ورد ذَلِك الكوراني ردا بليغاً، وَقَالَ: (هَذَا لَا يساعده
عَلَيْهِ عقل وَلَا نقل) .
(1/440)
قَوْله: { [وَلَفْظهمَا] حقيقتان / عرفا،
مجازان لُغَة} .
لَا شكّ أَن لَفْظهمَا حقيقتان عرفيتان، لِأَن استعمالهما فِي
ذَلِك باصطلاح أهل الْعرف، لَا من مَوضِع اللُّغَة، وهما
مجازان لُغَة؛ لِأَن الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة مجَاز لُغَة،
وَقد تقدم أَنَّهُمَا منقولتان، وَذكرنَا كَيْفيَّة نقلهما
وتصريفهما، فليعاود أول الْحَقِيقَة، وَأول الْمجَاز.
قَوْله: { [وهما] من عوارض الْأَلْفَاظ فِي الْأَشْهر} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين لما تكلم على أَن الْمجَاز هَل
هُوَ وَاقع أم لَا؟ : (الْمَشْهُور أَن الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
من عوارض الْأَلْفَاظ، وَهَذَا التَّقْسِيم حَادث بعد
الْقُرُون الثَّلَاثَة) .
يَعْنِي: تَقْسِيم اللَّفْظ إِلَى: حَقِيقَة، ومجاز، وَيَأْتِي
هَذَا هُنَاكَ.
قَوْله: {وَاللَّفْظ قبل اسْتِعْمَاله لَيْسَ حَقِيقَة وَلَا
مجَازًا} .
إِذا وضع اللَّفْظ لِمَعْنى، وَلم يتَّفق اسْتِعْمَاله لَا
فِيمَا وضع لَهُ أَولا وَلَا فِي غَيره، لم يكن حَقِيقَة وَلَا
مجَازًا، لعدم ركن تعريفهما وَهُوَ الِاسْتِعْمَال؛ لِأَن
الِاسْتِعْمَال جُزْء من مَفْهُوم كل مِنْهُمَا، وَانْتِفَاء
الْجُزْء يُوجب انْتِفَاء الْكل.
(1/441)
{زَاد ابْن حمدَان، وَالشَّيْخ} تَقِيّ
الدّين: {إِن قُلْنَا: اللُّغَة اصْطِلَاح} ، كأسماء
الْأَعْلَام وَالصِّفَات.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا: (إِنَّمَا يَصح إِن
كَانَت اللُّغَة اصطلاحية، وَإِن الْمَعْرُوف بالتواتر
اسْتِعْمَال هَذِه الْأَلْفَاظ فِيمَا عنوه بهَا من
الْمعَانِي، فَإِن ادّعى مُدع أَنه يعلم وضعا يتَقَدَّم ذَلِك
فَهُوَ مُبْطل، فَإِنَّهُ لم يَنْقُلهُ أحد) .
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: (لَو قَالَ الْوَاضِع:
سميت هَذَا حَائِطا، أَو قَالَ: سموا هَذَا حَائِطا، لَا يكون
قَوْله فِي تِلْكَ الْحَال حَقِيقَة وَلَا مجَازًا؛ لِأَنَّهُ
لم يتَقَدَّم ذَلِك مواضعة واصطلاح) .
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (وَهَذَا خطأ، لِأَن
الْكَلَام إِذا خلا عَن حَقِيقَة ومجاز مهمل، وَهَذَا كَلَام
مَفْهُوم غير مهمل) .
قَوْله: {وَكَذَا الْعلم المتجدد، وَقَالَ ابْن عقيل:
[حَقِيقَة] ، وَقيل: فِيهِ مجَاز، وَالْغَزالِيّ: فِي متلمح
الصّفة} .
(1/442)
الْعلم تَارَة يكون من وضع اللُّغَة،
وَتارَة يكون متجدداً.
فَإِن كَانَ من وضع اللُّغَة فحقيقة، صرح بِهِ بَعضهم،
واستثناء من عُمُوم / كَلَامهم.
وَإِن كَانَ الْعلم متجدداً، فَالْأَصَحّ لَيْسَ بِحَقِيقَة
وَلَا مجَاز، اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، لَا بِالْأَصَالَةِ وَلَا
بالتبعية، لِأَن الْأَعْلَام وضعت للْفرق بَين ذَات وَذَات،
فَلَو تجوز فِيهَا لبطل هَذَا الْغَرَض، و - أَيْضا - فتقلها
إِلَى مُسَمّى آخر إِنَّمَا هُوَ بِوَضْع مُسْتَقل، لَا
لعلاقة، وَشرط الْمجَاز العلاقة.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (أَسمَاء الألقاب لَا يدخلهَا
حَقِيقَة وَلَا مجَاز، لِأَنَّهَا لم تقع على [مسمياتها]
الْمعينَة بِوَضْع لغَوِيّ أَو شَرْعِي، فَلم يقل: إِن
مستعملها اتبع حَقِيقَتهَا أَو مجازها) .
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (أَسمَاء الْأَعْلَام
حَقِيقَة لَا مجَاز فِيهَا، وضعت للْفرق بَين الْأَشْخَاص لَا
فِي الصِّفَات، وإفادة معنى فِي الْمُسَمّى، حَتَّى إِذا
[أجري] على من لَيست لَهُ تِلْكَ الصّفة قيل: مجَاز) انْتهى.
وَقيل: يجْرِي فِيهَا الْمجَاز مُطلقًا، حَكَاهُ الأبياري،
كَمَا يُقَال قَرَأت
(1/443)
سِيبَوَيْهٍ: إِذا نقلت علم صَاحبه
إِلَيْهِ مجَازًا.
ورد: بِأَنَّهُ على حذف مُضَاف، فَهُوَ من مجَاز الْإِضْمَار.
وَقَالَ ابْن عقيل - أَيْضا -: (وَقد يجوز فِي مَوضِع أَن
يتجوز بِالِاسْمِ لمعناه [وَحَقِيقَته] ، كَقَوْلِك للنحوي:
هَذَا سِيبَوَيْهٍ زَمَانه، وللجواد: هَذَا حَاتِم، وللشجاع:
هَذَا عَليّ، وَهَذَا قِيَاس على الْوَضع اللّغَوِيّ
بِالْمَعْنَى الَّذِي سلكه أهل اللُّغَة) انْتهى.
وَحكى الْقَوْلَيْنِ فِيهِ عبد الْوَهَّاب فِي " الملخص "،
وَصَاحب " الْمِيزَان " من الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ:
(الْأَكْثَر على دُخُول الْمجَاز فِيهِ) ، لَكِن قَالَ
(1/444)
الْهِنْدِيّ: (إِن الْخلاف جَار فِي
الْأَعْلَام المنقولة) ، وَقَالَ غَيره: (الصَّوَاب جَرَيَانه
فِي الْأَعَمّ من الْمَنْقُول والمرتجل) ، وَنقل بعض
أَصْحَابنَا أَن الْآمِدِيّ قَالَ: (أَسمَاء الألقاب قد تصير
حَقِيقَة ومجازاً) .
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (وَهُوَ غَرِيب بعيد) .
وَقيل: بِالْفرقِ بَين مَا تلمح فِيهِ الصّفة، فَيجوز، كأسود
وحارث وَنَحْوهمَا، دون الْعلم الَّذِي وضع للْفرق الْمَحْض
بَين الذوات، كزيد وَعَمْرو / وَبِه قَالَ الْغَزالِيّ.
قَالَ الكوراني لما قدم التَّاج السُّبْكِيّ: أَن الْمجَاز لَا
يكون فِي الْأَعْلَام مُطلقًا: (مَا ذهب إِلَيْهِ المُصَنّف
خلاف مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ.
إِذْ قَالُوا: إِذا قلت: رَأَيْت حاتماً، وَأَرَدْت شخصا
معينا، وَإِنَّمَا أطلقت عَلَيْهِ لفظ حَاتِم بعد التَّشْبِيه
بِهِ فِي الْجُود مجَاز؛ لكَونه اسْتِعَارَة تصريحية، وَهِي
مجَاز لغَوِيّ عِنْد الْمُحَقِّقين، وَكَذَلِكَ إِذا قلت:
رَأَيْت الْيَوْم أَبَا لَهب،
(1/445)
وَأَرَدْت شخصا معينا، وقصدت كَافِرًا
مثله، يكون اسْتِعَارَة، فَمَا ذكره الْغَزالِيّ هُوَ كَلَام
فِي غَايَة الْحسن والدقة، فَلَا وَجه لعدم قبُوله) انْتهى.
قَوْله: {وَيكون فِي مُفْرد} .
بِلَا نزاع عِنْد الْقَائِل بالمجاز، كإطلاق لفظ الْأسد على
الشجاع، وَالْحمار على البليد، وَالْبَحْر على الْعَالم
والجواد، وَالْفرس [الشَّديد] الجري، فِي قَوْله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فرس أبي طَلْحَة لماركبه: "
وَجَدْنَاهُ بحراً "، وَنَحْوه.
قَوْله: { [وَفِي] إِسْنَاد، خلافًا لقوم} .
يكون الْمجَاز فِي الْإِسْنَاد على الصَّحِيح، وَعَلِيهِ
الْمُعظم، وَكثير من أَصْحَابنَا فَيجْرِي فِيهِ وَإِن لم يكن
فِي لَفْظِي الْمسند والمسند إِلَيْهِ تجوز، وَذَلِكَ بِأَن
يسند الشَّيْء إِلَى غير من هُوَ لَهُ بِضَرْب من التَّأْوِيل
بِلَا وَاسِطَة وضع، كَقَوْلِه:
(1/446)
(أشاب الصَّغِير وأفنى الْكَبِير ... كرّ
الْغَدَاة وَمر الْعشي)
فَلفظ الإشابة حَقِيقَة فِي مَدْلُوله وَهُوَ تبييض الشّعْر،
وَلَفظ الزَّمَان الَّذِي هُوَ مُرُور اللَّيْل وَالنَّهَار
حَقِيقَة فِي مَدْلُوله أَيْضا، لَكِن إِسْنَاد الإشابة إِلَى
الزَّمَان مجَاز، إِذْ المشيب للنَّاس فِي الْحَقِيقَة هُوَ
الله تَعَالَى، فَهَذَا مجَاز فِي التَّرْكِيب، أَي: فِي
إِسْنَاد [الْأَلْفَاظ] بَعْضهَا إِلَى بعض، لَا فِي نفس
مدلولات الْأَلْفَاظ، وَهَكَذَا كل لفظ كَانَ مَوْضُوعا فِي
اللُّغَة ليسند إِلَى لفظ آخر، فأسند إِلَى غير ذَلِك
اللَّفْظ، فإسناده مجَاز تركيبي، وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى:
{وَإِذا تليت [عَلَيْهِم] ءايته زادتهم إِيمَانًا}
[الْأَنْفَال: 2] ، {رب إنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس}
[إِبْرَاهِيم: 36] ، فَكل من طرفِي الْإِسْنَاد حَقِيقَة،
وَإِنَّمَا الْمجَاز / فِي الْإِسْنَاد الزِّيَادَة إِلَى
الْآيَات، والإضلال إِلَى الْأَصْنَام، وَكَذَلِكَ نَحْو:
{ينْزع عَنْهُمَا لباسهما} [الْأَعْرَاف: 27] ، وَالْفَاعِل
لذَلِك فِي الْكل هُوَ الله تَعَالَى.
وَيُسمى الْمجَاز الْعقلِيّ، والحكمي، ومجاز التَّرْكِيب؛
لِأَن النِّسْبَة إِلَى الْمركب أَمر عَقْلِي، بِخِلَاف
الْمجَاز فِي الْمُفْردَات فَإِنَّهُ وضعي فِي اللُّغَة.
(1/447)
وَأنكر السكاكي الْمجَاز الْعقلِيّ، ورده
إِلَى الِاسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ، فنحو: أنبت الرّبيع
البقل، اسْتِعَارَة عَن الْفَاعِل الْحَقِيقِيّ بِوَاسِطَة
الْمُبَالغَة فِي التَّشْبِيه على قَاعِدَة الِاسْتِعَارَة،
وَنسبَة الإنبات إِلَيْهِ قرينَة الِاسْتِعَارَة، وَهَكَذَا
تصنع فِي بَقِيَّة الْأَمْثِلَة، [وَقَالَهُ] ابْن الْحَاجِب
فِي " أَمَالِيهِ "، وَفِي مُخْتَصره الْكَبِير فِي أصُول
الْفِقْه، واستبعده فِي الصَّغِير.
وعَلى الْمَنْع فَقيل: الْمجَاز فِي الْمسند، فنحو: أنبت
الرّبيع البقل، (أنبت) فِيهِ بِمَعْنى: (تسبب) ، وَالْمرَاد:
التَّسَبُّب العادي، وَهُوَ رَأْي ابْن الْحَاجِب.
وَقيل: فِي الْمسند إِلَيْهِ، فَهُوَ فِي الرّبيع من
الْمِثَال، فَأطلق على الْفَاعِل الْحَقِيقِيّ مجَازًا، ثمَّ
وَقع الْإِسْنَاد، وَهُوَ رَأْي السكاكي إِذْ جعله من
الِاسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: الْمجَاز فِي التَّرْكِيب عَقْلِي،
نَحْو: {وأخرجت الأَرْض أثقالها} [الزلزلة: 2] ، أسْند
الْإِخْرَاج إِلَى الأَرْض، فَهُوَ فِي حكم الْعقل مُسْند
إِلَى الله تَعَالَى، فالنقل عَن ذَلِك نقل لحكم عَقْلِي.
(1/448)
وَقيل: بل لَفْظِي؛ لِأَن (أخرج) مَوْضُوع
لصدور الْخُرُوج عَن قَادر، فاستعماله فِي الأَرْض مجَاز.
قَالَ بَعضهم: هَل الْمُسَمّى بالمجاز فِي الْعقلِيّ، نفس
الْإِسْنَاد أَو الْكَلَام الْمُشْتَمل عَلَيْهِ.
قَالَ صَاحب " الْكَشَّاف " بِالْأولِ، وَنَقله ابْن الْحَاجِب
عَن عبد القاهر، لَكِن الْمَوْجُود فِي " دَلَائِل الإعجاز "
لَهُ: أَن الْمُسَمّى بالمجاز الْكَلَام لَا الْإِسْنَاد،
وَعَلِيهِ جرى السكاكي فِي " الْمِفْتَاح "، وَاخْتَارَ
الرَّازِيّ فِي " نِهَايَة الإيجاز " مذهبا رَابِعا: (أَن
هَذَا وَنَحْوه من بَاب التَّمْثِيل، فَلَا مجَاز فِيهِ وَلَا
فِي الْمُفْرد وَلَا فِي الْإِسْنَاد، بل هُوَ كَلَام أورد
ليتصور مَعْنَاهُ، فَينْتَقل الذِّهْن مِنْهُ / إِلَى إنبات
الله تَعَالَى فِي الْمِثَال الْمَذْكُور، وَيُقَاس عَلَيْهِ
غَيره) .
وَقَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَالْحق أَنَّهَا تَصَرُّفَات
عقلية، وَلَا حجر فِيهَا، وَالْكل مُمكن، وَالنَّظَر إِلَى قصد
الْمُتَكَلّم) .
قَوْله: {وَفِيهِمَا مَعًا} .
(1/449)
أَي: يكون الْمجَاز فِي الْمُفْردَات وَفِي
الْإِسْنَاد مَعًا، كَقَوْلِهِم: أحياني اكتحالي بطلعتك، إِذْ
حَقِيقَته: سرتني رؤيتك، لَكِن أطلق لفظ الْأَحْيَاء على
السرُور مجَازًا إفرادياً، لِأَن الْحَيَاة شَرط صِحَة
السرُور، وَهُوَ من آثارها، وَكَذَا لفظ الاكتحال على
[الرُّؤْيَة] مجَاز إفرادي، لِأَن الاكتحال جعل الْعين
مُشْتَمِلَة على الْكحل، كَمَا أَن الرُّؤْيَة جعل الْعين
مُشْتَمِلَة على صُورَة المرئي، فَلفظ الْإِحْيَاء والاكتحال
حَقِيقَة فِي مدلولهما، وَهُوَ سلوك الرّوح فِي الْجَسَد وَوضع
الْكحل فِي الْعين، واستعماله - أَي: لفظ الْإِحْيَاء
والاكتحال - فِي السرُور والرؤية مجَاز إفرادي، وَإسْنَاد
الْإِحْيَاء إِلَى الاكتحال مجَاز تركيبي، لِأَن لفظ
الْإِحْيَاء لم يوضع ليسند إِلَى الاكتحال، بل إِلَى الله
تَعَالَى، لِأَن الْإِحْيَاء والإماتة الحقيقيين من خَواص
قدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قَوْله: {وَفِي فعل، ومشتق، وحرف، وفَاقا للنقشواني، وَابْن
(1/450)
عبد السَّلَام، وَمَعَ الرَّازِيّ الْحَرْف
بِالْأَصَالَةِ، وَالْفِعْل والمشتق إِلَّا بالتبع} .
الصَّحِيح: أَن الْمجَاز يجْرِي فِي الْأَفْعَال وَمَا فِي
مَعْنَاهَا من المشتقات، كاسم الْفَاعِل، وَالْمَفْعُول،
وَالصّفة المشبهة، وَنَحْوهَا مِمَّا اشتق من الْمصدر، كَمَا
يجْرِي فِي الجوامد.
وَسَوَاء كَانَ الْمجَاز فِي الْأَفْعَال والمشتقات بطرِيق
التّبعِيَّة للمصدر، كَمَا يُقَال: صلى بِمَعْنى: دَعَا،
فَهُوَ مصل، بِمَعْنى: دَاع، تبعا لإِطْلَاق الصَّلَاة، وَقس
على ذَلِك، أَو لَا بطرِيق التّبعِيَّة، كإطلاق الْفِعْل
الْمَاضِي بِمَعْنى الِاسْتِقْبَال، نَحْو: {وَنفخ فِي
الصُّور} ، و {أَتَى أَمر الله} [النَّحْل: 1] ، {ونادى
أَصْحَاب / الْجنَّة} [الْأَعْرَاف: 44] ، أَي: وينفخ،
وَيَأْتِي، وينادي، وَإِطْلَاق الْمُضَارع بِمَعْنى الْمَاضِي،
نَحْو: {وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين} [الْبَقَرَة: 102]
، {فَلم تقتلون أَنْبيَاء الله} [الْبَقَرَة: 91] ، أَي: مَا
تلته، وَلم قَتَلْتُمُوهُمْ؟ وَالتَّعْبِير بالْخبر عَن
الْأَمر، نَحْو: {والوالدات يرضعن} [الْبَقَرَة: 233] ،
وَعَكسه: {فليمدد لَهُ الرَّحْمَن مدا} [مَرْيَم: 75] ، "
فَليَتَبَوَّأ
(1/451)
مَقْعَده من النَّار "، " وَإِذا لم
تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت " على أحد الْأَقْوَال،
وَالتَّعْبِير بالْخبر عَن النَّهْي: {لَا يمسهُ إِلَّا
الْمُطهرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79] .
قَالَ عُلَمَاء الْبَيَان: هُوَ أبلغ من صَرِيح الْأَمر
وَالنَّهْي؛ لِأَن الْمُتَكَلّم لشدَّة تَأَكد طلبه نزل
الْمَطْلُوب منزلَة الْوَاقِع لَا محَالة. وكإطلاق اسْم
الْفَاعِل بِمَعْنى الِاسْتِقْبَال، أَو الْمَاضِي، على
الرَّاجِح، كَمَا سَيَأْتِي فِي مسَائِل الِاشْتِقَاق.
وَمنع الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ": دُخُول الْمجَاز فِي
الْأَفْعَال والمشتقات إِلَّا بالتبع للمصدر الَّذِي هِيَ
مُشْتَقَّة مِنْهُ، قَالَ: (لِأَن الْمصدر فِي ضمن الْفِعْل
وكل مُشْتَقّ، فَيمْتَنع دُخُول الْمجَاز فِي ذَلِك إِلَّا بعد
دُخُوله فِيمَا هُوَ فِي ضمنه) .
(1/452)
وَضعف بِمَا سبق من التَّجَوُّز فِي
الْفِعْل بالاستقبال والمضي، وَكَذَا فِي الْأَوْصَاف، إِذْ
لَا مدْخل للمصدر فِي التَّجَوُّز بذلك.
وَقَوله: وَفِي حرف.
أَي: يجْرِي الْمجَاز فِي الْحُرُوف كَمَا يجْرِي فِي
الْأَفْعَال، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح كَمَا فِي (هَل) تجوزوا
بهَا عَن الْأَمر فِي قَوْله تَعَالَى: {فَهَل أَنْتُم
مُسلمُونَ} [هود: 14، والأنبياء: 108] ، {فَهَل أَنْتُم
مُنْتَهُونَ} [الْمَائِدَة: 91] ، أَي: فأسلموا وفانتهوا،
وَعَن النَّفْي، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَهَل ترى لَهُم من
بَاقِيَة} [الحاقة: 8] ، أَي: مَا ترى لَهُم من بَاقِيَة،
وَعَن التَّقْرِير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {هَل لكم من مَا ملكت
أَيْمَانكُم من شُرَكَاء فِي مارزقناكم} [الرّوم: 28] ، وَشبه
ذَلِك، لَا سِيمَا على القَوْل بِأَن كل حرف لَيْسَ لَهُ
إِلَّا معنى وَاحِد، وَإِذا اسْتعْمل فِي غَيره كَانَ مجَازًا،
وَخَالف فِي ذَلِك الرَّازِيّ - أَيْضا - فِي " الْمَحْصُول "،
وَقَالَ: لَا يجْرِي فِي الْحُرُوف إِلَّا بالتبع، كوقوع
الْمجَاز فِي مُتَعَلقَة، قَالَ: (لِأَن مَفْهُوم الْحَرْف غير
مُسْتَقل، فَإِن ضم إِلَى مَا يَنْبَغِي ضمه إِلَيْهِ كَانَ
حَقِيقَة، وَإِلَّا كَانَ / من مجَاز التَّرْكِيب، لَا من
مجَاز الْإِفْرَاد) .
قَوْله: {ويحتج بِهِ، ذكره القَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن
الزَّاغُونِيّ
(1/453)
وَحكي إِجْمَاعًا} .
حَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره إِجْمَاعًا، والناقل عَن
هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة بِأَنَّهُ يحْتَج بِهِ: الْمجد، وحفيده
فِي " المسودة "، وَقطع بِهِ ابْن عقيل.
قَالَ القَاضِي: (وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن الْمجَاز يُفِيد
معنى من طَرِيق الْوَضع، كَمَا أَن الْحَقِيقَة تفِيد معنى من
طَرِيق الْوَضع، أَلا ترى إِلَى قَوْله: {أَو جَاءَ أحد
مِنْكُم من الْغَائِط} [النِّسَاء: 43، والمائدة: 6] ،
فَإِنَّهُ يُفِيد الْمَعْنى وَإِن كَانَ مجَازًا، وَكَذَا
قَوْله تَعَالَى: {وجوهٌ يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة}
[الْقِيَامَة: 22 - 23] ، وَمَعْلُوم أَنه أَرَادَ: أعين
الْوُجُوه ناظرة، لِأَن الْوُجُوه لَا تنظر، وَقد احْتج
الإِمَام أَحْمد بِهَذِهِ الْآيَة على وجوب النّظر يَوْم
الْقِيَامَة.
وَأَيْضًا فَإِن الْمجَاز قد يكون أسبق إِلَى الْقلب، كَقَوْل
الرجل: لزيد عَليّ دِرْهَم، فَإِنَّهُ مجَاز، وَهُوَ أسبق
إِلَى الْفَهم من قَوْله: يلْزَمنِي لزيد دِرْهَم، وَإِذا
كَانَ يَقع الْمجَاز أَكثر مِمَّا يَقع بِالْحَقِيقَةِ، صَحَّ
الِاحْتِجَاج بِهِ) انْتهى.
قَوْله: {وَلَا يُقَاس عَلَيْهِ، فَلَا يُقَال: سل الْبسَاط
وَنَحْوه، ذكره
(1/454)
ابْن عقيل، وَابْن الزَّاغُونِيّ، وَحكي
إِجْمَاعًا، وَلنَا وَجه: يجوز} .
قَالَ أَبُو بكر الطرطوشي الْمَالِكِي: (أجمع الْعلمَاء أَن
الْمجَاز لَا يُقَاس عَلَيْهِ فِي مَوضِع الْقيَاس) ، وَكَذَا
قَالَ الْآمِدِيّ: (نسخت الْكتاب لَا يشبه الْإِزَالَة، فَهُوَ
من النَّقْل، فَهُوَ حَقِيقَة فِي النَّقْل، لِأَن الْمجَاز
لَا يتجوز بِهِ فِي غَيره بِإِجْمَاع أهل اللُّغَة) .
وَقَالَ القَاضِي فِي مَسْأَلَة ثُبُوت الْأَسْمَاء قِيَاسا:
(أهل اللُّغَة أجروا اسْم الشَّيْء على الشَّيْء؛ لوُجُود بعض
مَعْنَاهُ فِيهِ، كالشجاع سبعا، وَلما لم تُوجد كل مَعَانِيه
كَانَ مجَازًا، وَأما النَّبِيذ فتوجد فِي مَعَاني الْخمر
كلهَا، وَكَذَا النباش، فَلهَذَا كَانَ حَقِيقَة) .
(1/455)
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (هَذَا تَصْرِيح
بِثُبُوت الْأَسْمَاء حقائقها ومجازاتها قِيَاسا، لَكِن فِيهِ
قِيَاس الْمجَاز بِالْحَقِيقَةِ، وَقِيَاس الْمجَاز بالمجاز
مُقْتَضى كَلَامه إِن وجد فِيهِ مَعَاني الْمجَاز / المقاس
عَلَيْهِ كلهَا جَازَ) .
وَفِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره: (هَل تثبت اللُّغَة
قِيَاسا؟ أَقْوَال، ثَالِثهَا: تثبت الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز)
انْتهى.
وَحكى ابْن الزَّاغُونِيّ وَجها لنا بِثُبُوتِهِ، بِنَاء على
الثُّبُوت الْأَسْمَاء قِيَاسا.
احْتج من مَنعه بِلُزُوم جَوَاز نَخْلَة لطويل غير إِنْسَان،
وشبكة للصَّيْد، وَابْن للْأَب، وَبِالْعَكْسِ.
[أُجِيب] : لوُجُود مَانع هُنَا، وَأَيْضًا: هِيَ دَعْوَى
بِلَا دَلِيل.
قَوْله: لَو جَازَ لَكَانَ قِيَاسا لُغَة - وَفِيه خلاف -، أَو
اختراعاً، وَلَيْسَ بلغَة.
أُجِيب: بِأَن العلاقة مصححة كرفع الْفَاعِل، وَسبق كَلَام
أَصْحَابنَا ,
وَاحْتج من أجَازه بِعَدَمِ توقف أهل الْعَرَبيَّة،
وَبِأَنَّهُ لَو كَانَ نقلياً لما احْتِيجَ إِلَى النّظر فِي
علاقَة.
أُجِيب: بِنَظَر الْوَاضِع، وَإِن نظر الْمُسْتَعْمل فليعرف
الْحِكْمَة.،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(1/456)
|