التحبير شرح التحرير في أصول الفقه فصل
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: الْمجَاز وَاقع، وَخَالف الإستاذ،
وَالشَّيْخ [وَجمع] ، وردوه إِلَى المتواطئ} .
الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء: أَن الْمجَاز
وَاقع فِي اللُّغَة، وَمِمَّنْ نقل أَن الْأَئِمَّة
الْأَرْبَعَة قَالُوا بِأَن الْمجَاز وَاقع: ابْن مُفْلِح فِي
" أُصُوله "، وَاحْتج لذَلِك، بالأسد للشجاع، وَالْحمار
للبليد، وَقَامَت الْحَرْب على سَاق، وشابت لمة اللَّيْل،
وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى وَلَا يحصر.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: (كتب اللُّغَة مَمْلُوءَة
بهما) .
(2/457)
قَالَ الْآمِدِيّ: (لم تزل أهل الْأَعْصَار
تنقل عَن أهل الْوَضع تَسْمِيَة هَذَا حَقِيقَة وَهَذَا
مجَازًا) .
وَخَالف فِي ذَلِك الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني،
وَأَتْبَاعه، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وردوه إِلَى المتواطئ) .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين كَمَا تقدم عَنهُ:
(الْمَشْهُور أَن الْحَقِيقَة وَالْمجَاز من عوراض
الْأَلْفَاظ، وَهَذَا التَّقْسِيم اصْطِلَاح حَادث بعد
الْقُرُون الثَّلَاثَة، وَأول من عرف أَنه تكلم بالمجاز [أَبُو
عُبَيْدَة] ، وَلم يعن بالمجاز: مَا هُوَ قسيم الْحَقِيقَة،
وَإِنَّمَا عَنى بمجاز الْآيَة: مَا يعبر بِهِ عَنْهَا، وَلم
يتَكَلَّم الشَّافِعِي، وَمُحَمّد بن الْحسن. .
(2/458)
/ بِلَفْظ الْحَقِيقَة وَالْمجَاز) .
وَقَالَت هَذِه الطَّائِفَة: هَذَا الْمُدعى أَنه مجَاز حقائق.
رد: يلْزم الِاشْتِرَاك، وَلَو كَانَت مُشْتَركَة لم يسْبق
مِنْهَا مَا يسْبق عِنْد إِطْلَاقهَا، ضَرُورَة التَّسَاوِي.
قَوْلهم: هِيَ مَعَ الْقَرِينَة حَقِيقَة.
رد: فالنزاع لَفْظِي، زَاد بعض أَصْحَابنَا والآمدي: (كَيفَ
والحقيقة وَالْمجَاز صفتا اللَّفْظ دون الْقَرَائِن المعنوية،
فَلَا تكون الْحَقِيقَة صفة للمجموع) .
قَوْلهم: فِيهِ عدُول عَن الْحَقِيقَة بِلَا حَاجَة.
رد: لفوائد فِي علم الْبَيَان، سبق ذكرهَا.
قَوْلهم: يخل بالتفاهم.
مَمْنُوع، ثمَّ استبعاد لوُقُوعه.
قَوْله: {وعَلى الأول: لَيْسَ الْمجَاز بأغلب فِي الْأَصَح} .
(2/459)
أَكثر الْعلمَاء ذَهَبُوا إِلَى أَن
الْمجَاز لَيْسَ بأغلب فِي اللُّغَة من الْحَقِيقَة.
وَذهب ابْن جني: أَنه أغلب، وَنَقله السَّمْعَانِيّ عَن أبي
زيد الدبوسي الْحَنَفِيّ، وَظَاهر كَلَام ابْن الْحَاجِب،
وَابْن مُفْلِح، وَجمع: تَرْجِيح كَلَام ابْن جني فِي بحثهم
فِي اللَّفْظ إِذا دَار بَين الْمجَاز والاشتراك.
قَوْله: {وَهُوَ فِي الْقُرْآن عِنْد أَحْمد، وَأكْثر
أَصْحَابه، وَالْأَكْثَر، وَعنهُ: لَا؛ [اخْتَارَهُ ابْن
حَامِد] ، والتميمي،
(2/460)
والخرزي، [وَجمع] ، وَقيل: وَلَا فِي
الحَدِيث أَيْضا} .
قَالَ القَاضِي: (نَص الإِمَام أَحْمد على أَن الْمجَاز فِي
الْقُرْآن، فَقَالَ فِي
(2/461)
قَوْله: {إِنَّا نَحن نحي ونميت} [ق: 43] ،
و " نعلم "، و " منتقمون ": هَذَا من مجَاز اللُّغَة، يَقُول
الرجل: إِنَّا سنجري عَلَيْك رزقك) .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (مَقْصُوده: مَعْنَاهُ: أَنه
يجوز فِي اللُّغَة) .
احْتج الْقَائِلُونَ بِوُقُوعِهِ فِي الْقُرْآن بقوله
تَعَالَى: {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} ، {الْحَج أشهر
مَعْلُومَات} [الْبَقَرَة: 197] ، {واخفض لَهما جنَاح الذل}
[الْإِسْرَاء: 24] ، {واشتعل الرَّأْس شيباً} [مَرْيَم: 4] ،
{وجزاؤا سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} [الشورى: 40] ، {الله
يستهزئ بهم} [الْبَقَرَة: 15] ، وَغير ذَلِك كثير.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] ،
{يُرِيد أَن ينْقض} [الْكَهْف: 77] .
فَقيل: الْقرْيَة: مجمع النَّاس كَمَا تقدم، ثمَّ إنطاق
الْجِدَار وَخلق الْإِرَادَة فِيهِ مُمكن.
(2/462)
رد: بِأَن الْقرْيَة مَكَان الِاجْتِمَاع،
لَا نفس المجتمعين.
وَعَن الثَّانِي: / بِأَنَّهُ معْجزَة يسْتَلْزم التحدي؛
وَفِيه نظر.
وَقَوله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} [الشورى: 11] ، تقدم الْكَلَام
فِيهِ فِي مجَاز الزِّيَادَة.
وَعَن أَحْمد: لَيْسَ فِي الْقُرْآن مِنْهُ شَيْء، حَكَاهَا
الْفَخر إِسْمَاعِيل، وَاخْتَارَهُ ابْن حَامِد.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَمنع ابْن حَامِد، والتميمي،
والخرزي) .
وَحَكَاهُ أَبُو الْفضل بن أبي الْحسن التَّمِيمِي عَن
أَصْحَابنَا.
اخْتَارَهُ ابْن الْقَاص من الشَّافِعِيَّة على مَا يَأْتِي،
وَمن الْمَالِكِيَّة مُحَمَّد
(2/463)
ابْن خويز منداد وَغَيره، وَحَكَاهُ ابْن
برهَان عَن الظَّاهِرِيَّة، والإمامية، وَأبي بكر
الْأَصْفَهَانِي.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وللتابعين قَولَانِ) .
(2/464)
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي الْإِضَافَة من
" شرح الْمفصل ": (ذهب القَاضِي إِلَى أَنه لَا مجَاز فِي
الْقُرْآن) .
وَقيل: (إِنَّمَا أنْكرت الظَّاهِرِيَّة مجَاز الِاسْتِعَارَة،
لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا فِي الضّيق، وَهُوَ منزه عَن
ذَلِك) .
وَقيل: وَلَا فِي الحَدِيث أَيْضا -، وَحكي عَن ابْن دَاوُد
الظَّاهِرِيّ.
وَفِي " الْمَحْصُول ": (منعت الظَّاهِرِيَّة من وُقُوعه فِي
الْكتاب وَالسّنة) .
وَفِي " الإحكام " لِابْنِ حزم: (عَن قوم مَنعه فِي الْقُرْآن
وَالسّنة) .
وَفِي " طَبَقَات الْعَبَّادِيّ ": (عَن أبي الْعَبَّاس ابْن
الْقَاص مَنعه فِي الْقُرْآن والْحَدِيث) .
(2/465)
قَالَ المانعون: لَو جَوَّزنَا لزم
تَسْمِيَته متجوزاً.
رد: بِأَن أسماءه توقيفية، وَلِهَذَا لم يسم [مُحَقّق] ، ويوهم
التسمح فِي الْقَبِيح، وَالْتَزَمَهُ بعض أَصْحَابنَا.
قَوْله: {وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا عَرَبِيّ، [عِنْد الْأَكْثَر
من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم] ، وَعَن ابْن عَبَّاس وَغَيره:
فِيهِ من غَيره، قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ، والموفق، وَابْن
برهَان: فِيهِ المعرب، وَهُوَ: مَا استعملته الْعَرَب فِي معنى
[وضع] لَهُ فِي غير لغتهم، [وَمحل الْخلاف فِي مُفْرد] غير
علم} .
الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر: أَنه لَيْسَ فِيهِ
إِلَّا عَرَبِيّ، اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو بكر عبد
الْعَزِيز، وَالْقَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل،
(2/466)
وَالْمجد، وَأكْثر الْعلمَاء، مِنْهُم:
الشَّافِعِي، [وَأَبُو عُبَيْدَة] ، وَابْن جرير، والباقلاني،
وَابْن فَارس، / وَغَيرهم، للآيات الْكَثِيرَة الْوَارِدَة فِي
الْقُرْآن مِمَّا يدل على ذَلِك، وَذكره القَاضِي، وَابْن
عقيل، قَول عَامَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين.
وَذهب ابْن عَبَّاس، وَعِكْرِمَة، وَمُجاهد، وَسَعِيد بن
(2/467)
جُبَير، وَعَطَاء، وَغَيرهم: إِلَى أَن
فِيهِ ألفاظاً بِغَيْر الْعَرَبيَّة.
قَالَ أَبُو ميسرَة: (فِي الْقُرْآن من كل لِسَان) ، وَمثله
عَن سعيد بن جُبَير ووهب بن مُنَبّه.
قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ، والموفق: (فِيهِ المعرب) ، وَنَصره
ابْن
(2/468)
برهَان، وَجَمَاعَة، وَذكره أَبُو عبيد
قَول أهل الْعلم من الْفُقَهَاء، وَأَن الأول قَول أهل
الْعَرَبيَّة، وَجمع بَينهمَا بتعريب لَهَا فَصَارَت
عَرَبِيَّة فَقَالَ: (وَالصَّوَاب عِنْدِي مَذْهَب فِيهِ
تَصْدِيق الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ أَن هَذِه
أُصُولهَا أَعْجَمِيَّة كَمَا قَالَ الْفُقَهَاء، لَكِنَّهَا
وَقعت للْعَرَب فعربت بألسنتها، وحولتها عَن أَلْفَاظ الْعَجم
إِلَى ألفاظها، فَصَارَت عَرَبِيَّة، ثمَّ نزل الْقُرْآن وَقد
اخْتلطت هَذِه الْحُرُوف بِكَلَام الْعَرَب، فَمن قَالَ:
إِنَّهَا عَرَبِيَّة، فَهُوَ صَادِق) .
وَمَال إِلَى هَذَا القَوْل الجواليقي، وَابْن الْجَوْزِيّ،
وَآخَرُونَ.
(2/469)
اسْتدلَّ الْمُثبت على أَن فِيهِ غير
الْعَرَبِيّ: بِأَن مشكاة هندية، وقسطاساً رُومِية واستبرقاً
وسجيلاً فارسية.
رد ذَلِك: بِأَنَّهُ مِمَّا اتّفق فِيهِ اللغتان، كالدواة
والمنارة والصابون والتنور.
رد ذَلِك: بِأَنَّهُ بعيد، وَالْأَصْل عَدمه؛ وَفِيه نظر.
وَاسْتدلَّ الْمَانِع بِمَا سبق فِي الشَّرْعِيَّة،
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ءأعجمي وعربي} [فصلت: 44] ، فنفى
تنوعه.
رد: بِمَنْع نَفْيه، فَإِن الْمَفْهُوم إِنْكَار كَون
الْقُرْآن أعجمياً مَعَ كَون الْمُخَاطب بِهِ عَرَبيا لَا
يفهمهُ، وَإِن كَانَ الأعجمي والعربي صِفَتي الْكَلَام لم
يلْزم نَفْيه مُطلقًا، لجَوَاز كَون بعضه أعجمياً يفهم.
قَالُوا: لَا يتحداهم بِغَيْر لسانهم كَغَيْرِهِ.
رد: بالمتشابه.
رد: هَذَا مجَاز لصرفه عَن ظَاهره، فَهُوَ عَرَبِيّ.
وَبِأَنَّهُ إِنَّمَا تحداهم بلغتهم، وَصَارَ لَهَا حكم
الْعَرَبيَّة بتعريبها.
(2/470)
تَنْبِيهَانِ:
أَحدهمَا: / على القَوْل بِأَن فِيهِ المعرب، تتبع التَّاج
السُّبْكِيّ مَا وَقع فِي الْقُرْآن من ذَلِك، فَوَجَدَهَا
سبعا وَعشْرين لَفْظَة، ذكرهَا فِي " شرح مُخْتَصر ابْن
الْحَاجِب " ونظمها، وَزَاد عَلَيْهَا الْحَافِظ شهَاب الدّين
ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": أَرْبعا وَعشْرين لَفْظَة،
ونظمها على زنة نظمه، فَذكر أَولا بَيْتا لنَفسِهِ تَوْطِئَة،
ثمَّ ثنى بِأَبْيَات السُّبْكِيّ وَهِي خَمْسَة، ثمَّ كملها
بأبياته، فَقَالَ:
(من المعرب عد التَّاج (كز) وَقد ... ألحقت (كد) وضمتها
الأساطير)
(السلسبيل وطه كورت بيع ... استبرق صلوَات سندس طور)
(الزنجبيل ومشكاة سرادق مَعَ ... روم وطوبى وسجيل وكافور)
(كَذَا قَرَاطِيس ربانيهم [وغساق] ... ثمَّ دِينَار القسطاس
مَشْهُور)
(كَذَاك قسورة واليم ناشئة ... وَيُؤْت كِفْلَيْنِ مَذْكُور
[ومنظور] )
(لَهُ مقاليد فردوس [فعد] كَذَا ... فِيمَا حكى ابْن دُرَيْد
مِنْهُ تنور)
(2/471)
(وزدت حرم ومهل والسجل كَذَا ... السّري
وَالْأَب ثمَّ الجبت مَذْكُور)
(وقطنا وإناه ثمَّ متكأ ... دارست يصهر مِنْهُ فَهُوَ مصهور)
(وهيت وَالسكر والأواه مَعَ حصب ... وأوبي مَعَه والطاغوت
مَنْظُور)
(صرهن إصري غيض المَاء مَعَ وزر ... ثمَّ الرقيم مناص والسنا
النُّور)
وَالْمرَاد بقوله: (كز) بالجمل سَبْعَة وَعِشْرُونَ موضعا، و
(كد) بالجمل أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ موضعا؛ لِأَن الْكَاف
بِعشْرين وَالزَّاي بسبعة، وَالدَّال فِي الثَّانِي بأَرْبعَة،
وَلَا اعْتِبَار هُنَا بالتضعيف فِي الزَّاي وَالدَّال، فيكمل
أحدا وَخمسين موضعا.
قَالَ الْحَافِظ: (وَأَنا معترف أَنِّي مَا استوعبت مَا
يسْتَدرك عَلَيْهِ، فقد ظَفرت بعد نظمي بأَشْيَاء، مِنْهَا:
الرَّحْمَن، وراعنا، وَقد عزمت على أَنِّي إِذا أتيت على آخر
شرح التَّفْسِير ألحق مَا وقفت عَلَيْهِ من / الزِّيَادَة فِي
ذَلِك منظوماً) انْتهى.
وَلم يفعل بعد ذَلِك شَيْئا، إِمَّا نِسْيَانا، وَإِمَّا مَا
ظفر بِشَيْء، فيكمل مَا ذكره ثَلَاثَة وَخَمْسُونَ موضعا.
قلت: وَقد ظَفرت بِبَعْض زِيَادَة عَلَيْهِمَا، مِنْهَا:
مرجان، ذكره الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ".
وَمِنْهَا: السراط، ذكره الطوفي فِي شرح مُخْتَصره فِي
الْأُصُول.
(2/472)
وَمِنْهَا: الِاسْم الْجَلِيل - وَهُوَ
الله - على أحد الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيَّة، فقد ذكر ابْن
الملقن فِي [الإشارات] أَنهم اخْتلفُوا فِيهِ، (هَل هُوَ اسْم
عَرَبِيّ ابتدأت بِهِ الْعَرَب، أَو عبراني نقلته الْعَرَب
إِلَى لغتها؟ على وَجْهَيْن) انْتهى.
وَقد تقدم ذَلِك فِي الْخطْبَة.
وَمِنْهَا: يَأْجُوج وَمَأْجُوج، فَإِن الْأَصَح الَّذِي
عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء: أَنه غير عَرَبِيّ، [ذكره]
الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " الشَّرْح "، اللَّهُمَّ
إِلَّا أَن يُقَال: إِن الِاسْم الْجَلِيل كإبراهيم وَغَيره من
الْأَسْمَاء الأعجمية الْأَعْلَام، وَقد تقدم ذَلِك وَأَن
الصَّحِيح: أَنه علم فِي أثْنَاء الْكَلَام على الْخطْبَة،
فيكمل الْأَسْمَاء ثَمَانِيَة وَخمسين اسْما، وَلَيْسَ كل
هَذِه الْأَسْمَاء على الصَّحِيح مِنْهَا، فَإِن فِيهَا
خلافًا، وَرُبمَا كَانَ الصَّحِيح فِي بَعْضهَا: أَنَّهَا
عَرَبِيَّة.
وَقَول الْحَافِظ فِي الْبَيْت الَّذِي قبل الْأَخير: وَالسكر،
هُوَ مَا فِي سُورَة النَّحْل فِي قَوْله: {تَتَّخِذُونَ
مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} [النَّحْل: 67] فِيمَا يظْهر لَا
قَوْله {اعْمَلُوا ءال دَاوُد شكرا} [سبأ: 13] .
(2/473)
قلت: ثمَّ ظَفرت بتصنيف لعلامة زَمَانه،
الشَّيْخ جلال الدّين عبد الرَّحْمَن بن السُّيُوطِيّ، ناظم "
جمع الْجَوَامِع "، فَإِنَّهُ شَرحه، وَذكر كَلَام
السُّبْكِيّ، وَابْن حجر، ثمَّ زَاد على ذَلِك تِسْعَة
وَعشْرين لفظا، أَو ثَلَاثِينَ، ونظمه على زنة النظمين،
فَقَالَ:
(وزدت [يس] والرحمن مَعَ ملكوت ... ثمَّ سينين شطر الْبَيْت
مَشْهُور)
(ثمَّ الصِّرَاط ودري يحور ومرجان ... [اليم] مَعَ القنطار
مَذْكُور)
(وراعنا طفقا [هدنا] أبلعي وورا ... والأرائك والأكواب مأثور)
(هود وقسط وَكفر زمرة سقر ... هونا يصدون والمنساة مسطور)
(شهر مجوس / وأقفال يهود حواريون ... وكنز وسجين وتتبير)
(بعير آزر حوب وردة عرم ... إل وَمن تحتهَا عبدت والصور)
(ولينة فومها [رهو] وأخلد مزجاة ... وسيدها القيوم موفور)
(وقمل ثمَّ أسفار عني كتابا ... وَسجدا ثمَّ ربيون [تَكْثِير]
)
(وحطة وطوى والرس نون كَذَا ... عدن ومنفطر الأسباط مَذْكُور)
(مسك أَبَارِيق ياقوت رووا فَهُنَا ... مَا فَاتَ عَن عدد
الْأَلْفَاظ مَحْصُور)
(وَبَعْضهمْ عد الأولى مَعَ بطائنها ... وَالْآخِرَة لمعاني
الضِّدّ مَقْصُور)
انْتهى.
(2/474)
ثمَّ صنف كتابا سَمَّاهُ " الإتقان فِي
عُلُوم الْقُرْآن "، وَزَاد على الأبيات، وأوصلها إِلَى ربعين،
أَو أَزِيد، وَهِي الَّتِي ذَكرنَاهَا هُنَا آخرا، وَنسب فِيهِ
كل قَول إِلَى قَائِله، وَمن نَقله عَنهُ، وَلَقَد أَجَاد
وَأفَاد وروى الأكباد بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
الثَّانِي: قد عني جمَاعَة بِجمع مَا فِي لُغَة الْعَرَب
مُطلقًا، من ذَلِك ابْن الجواليقي.
رُبمَا جعل بعض اللغويين وَغَيرهم لكثير من المعرب ضوابط،
كَقَوْل ابْن جني، وَغَيره من النُّحَاة: (مَتى خلا اسْم رباعي
الْأُصُول أَو خماسيها عَن بعض حُرُوف الذلاقة السِّتَّة
الْمَجْمُوعَة فِي: " فر من لب "، يكون أعجمياً) .
وَقَالَ الْجَوْهَرِي وَغَيره: (مَتى اجْتمع جِيم وقاف فِي
كلمة فَهِيَ أَعْجَمِيَّة كنجنيق وجردق وَنَحْوهمَا) ، إِلَى
غير ذَلِك من الضوابط.
وَقَوله: المعرب مَا استعملته الْعَرَب فِي معنى وضع لَهُ فِي
غير لغتهم.
(2/475)
وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": (لفظ غير
علم. .) إِلَى آخِره، فانتقد عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا
يخرج من الْخلاف فِي وُقُوعه، لَا من تَسْمِيَته معرباً،
لِأَنَّهُ أعجمي استعملته الْعَرَب، وَهَذَا معنى التعريب.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَعِنْدِي أَنَّهَا خَارِجَة من المعرب،
وَذَلِكَ [أَنه] حِكَايَة أَلْفَاظ الْأَعْلَام كَمَا هِيَ،
[كَمَا] أَن الْعَجم إِذا / حكت أعلاماً، عندنَا كمحمد وَأحمد
لَا يصير بذلك وضعا أعجمياً؛ إِذْ لَا سَبِيل إِلَى أَن [يعبر]
فِي الْأَعْلَام عَن مدلولها إِلَّا بهَا، بِخِلَاف أَسمَاء
الْأَجْنَاس، لكَون الْعلم وضع لِمَعْنى لَا يتَنَاوَل غَيره)
.
وَقَوله: وَمحل الْخلاف فِي مُفْرد غير علم.
اتّفق الْعلمَاء على أَنه لَيْسَ فِي الْقُرْآن كَلَام مركب
على أساليب غير الْعَرَبيَّة، وَأَن فِيهِ أعلاماً بِغَيْر
الْعَرَبيَّة، وَإِنَّمَا مَحل الْخلاف فِي أَلْفَاظ مُفْردَة
غير أَعْلَام، وَهِي أَسمَاء الْأَجْنَاس، كاللجام، والفرند،
والفيروزج، والياقوت، والسمور، والسنجاب، والإبريق، والطست،
(2/476)
والخوان، والفلفل، والقرفة، والخولنجان،
والياسمين، والكافور، وَنَحْوه.
(2/477)
قَوْله: {فصل}
أَبُو يُوسُف، والقرافي، وَابْن حمدَان، وَابْن قَاضِي
الْجَبَل: مجَاز رَاجع أولى من حَقِيقَة مرجوحة، وَأَبُو
حنيفَة، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح: هِيَ مَا لم تهجر،
والرازي، والبيضاوي: مُجمل، والأصفهاني: مَحَله إِن منع حمله
على حَقِيقَته ومجازه مَعًا، وَابْن الرّفْعَة: مَحَله فِي
إِثْبَات، وَفِي نفي يعْمل بالمجاز قطعا} .
(2/478)
إِذا تَعَارَضَت الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
فالحقيقة أولى فِي الْجُمْلَة؛ لِأَنَّهَا الأَصْل، وَإِنَّمَا
مَحل الْخلاف: إِذا ترجح الْمجَاز حَتَّى يصير معادلاً
للْحَقِيقَة لاشتهاره، فَيصير حَقِيقَة شَرْعِيَّة أَو عرفية،
أَو تدل قَرَائِن على ضعف الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة بِحَيْثُ
لَا تمات أصلا وَإِنَّمَا تتساوى مَعَ الْمجَاز، وَهِي
الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة هُنَا، وفيهَا مَذَاهِب:
أَحدهَا: تقدم الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة المرجوحة لِأَنَّهَا
الأَصْل، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمن تبعه، وَذَلِكَ كَمَا
لَو حلف ليشربن من هَذَا النَّهر، فَإِن
(2/479)
حَقِيقَته: أَن يكرع مِنْهُ، ومجازه
الرَّاجِح المعادل للْحَقِيقَة: أَن يغترف بِإِنَاء مِنْهُ
وَيشْرب، فالحقيقة لَيست مماتة أصلا، لِأَن كثيرا من الرُّعَاة
وَغَيرهم يكرع بِفِيهِ.
وَالْمذهب الثَّانِي: يقدم الْمجَاز؛ لغلبته، وَهُوَ قَول أبي
يُوسُف وَمن تبعه، لِأَنَّهُ الظَّاهِر، والتكليف إِنَّمَا
هُوَ بالظهور، وَهُوَ قَول أبي / الْخطاب فِي الْحلف على أكل
الرؤوس وَالْبيض، ذكره ابْن حمدَان فِي " مقنعه "، وَنسبه
صَاحب " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة " إِلَى الْأَصْحَاب،
فِيمَا إِذا حلف لَا يشرب من دجلة أَو من الْفُرَات، فَقَالَ:
(من قدم الْمجَاز الرَّاجِح يَقُول: يَحْنَث باغترافه مِنْهُ
بِإِنَاء وَنَحْوه وشربه مِنْهُ) . - قَالَ وَهَذَا قَول
أَصْحَابنَا، وَقَول أبي يُوسُف.
وَمن قَالَ: تقدم الْحَقِيقَة المرجوحة، قَالَ: لَا يَحْنَث
إِلَّا بِأَن يكرع مِنْهُ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة) انْتهى.
وَالْمذهب الثَّالِث: أَنه مُجمل، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي
المعالم،
(2/480)
والبيضاوي وَجمع وعزي إِلَى الشَّافِعِي،
للتعارض؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا رَاجِح من وَجه.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (مَحل الْخلاف إِذا لم يحمل اللَّفْظ
على حَقِيقَته ومجازه عِنْد عدم الْقَرِينَة، أما إِذا
جَوَّزنَا الْحمل حمل عَلَيْهِمَا مَعًا وَهُوَ الظَّاهِر
والأقوى "، وَحَكَاهُ الْبرمَاوِيّ قولا فِي الْمَسْأَلَة:
وَالْأولَى: أَن يكون ذَلِك مُقَيّدا لمحل الْخلاف.
وَقيل: مَحل الْخلاف فِي الْإِثْبَات، أما فِي النَّفْي
فَيعْمل بالمجاز الرَّاجِح قطعا، قَالَه ابْن الرّفْعَة
الشَّافِعِي فِي الْمطلب، فِي بَاب الْإِيلَاء.
فَائِدَة: حرر الْحَنَفِيَّة فِي كتبهمْ مَحل النزاع فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة، فَإِن مرجعها إِلَيْهِم، فَقَالُوا: الْمجَاز
أَقسَام:
أَحدهَا: أَن يكون الْمجَاز مرجوحاً لَا يفهم إِلَّا
بِقَرِينَة، كالأسد للشجاع، فَتقدم الْحَقِيقَة.
الثَّانِي: أَن يغلب اسْتِعْمَاله حَتَّى يُسَاوِي
الْحَقِيقَة، فاتفق أَبُو حنيفَة،
(2/481)
وَأَبُو يُوسُف على تَقْدِيم الْحَقِيقَة،
وَجعل ابْن التلمساني فِي " شرح المعالم " هَذِه الصُّورَة
مَحل الْخلاف.
الثَّالِث: أَن يكون راجحاً والحقيقة مماتة لَا ترَاد فِي
الْعرف، فقد اتفقَا على تَقْدِيم الْمجَاز؛ لِأَنَّهُ إِمَّا
حَقِيقَة شَرْعِيَّة كَالصَّلَاةِ، أَو عرفية كالدابة، وَلَا
خلاف فِي تَقْدِيمهَا على الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة.
مِثَاله: لَو حلف لَا يَأْكُل من هَذِه النَّخْلَة فَأكل من
ثَمَرهَا، حنث، وَإِن أكل من خشبها لم يَحْنَث، وَإِن كَانَ /
الْخشب هُوَ الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهَا قد أميتت.
الرَّابِع: أَن يكون راجحاً والحقيقة تتعاهد فِي بعض
الْأَوْقَات، فَهَذِهِ مَحل الْخلاف عِنْد الْأَكْثَر، كَمَا
لَو حلف ليشربن من هَذَا النَّهر، فَهُوَ حَقِيقَة فِي الكرع
مِنْهُ بِفِيهِ، وَلَو اغترف بكوز وَشرب فَهُوَ مجَاز،
لِأَنَّهُ شرب من الْكوز لَا من النَّهر، لكنه مجَاز رَاجِح
متبادر إِلَى الْفَهم، والحقيقة قد ترَاد، لِأَن كثيرا من
الرعاء وَغَيرهم يكرع [بِفِيهِ] .
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمَحْصُول ": (مَحل
الْخلاف: أَن يكون
(2/482)
الْمجَاز راجحاً على الْحَقِيقَة، بِحَيْثُ
يكون هُوَ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن عِنْد الْإِطْلَاق،
كالمنقول الشَّرْعِيّ والعرفي، وَورد اللَّفْظ من غير الشَّرْع
وَالْعرْف، أما إِن ورد من أَحدهمَا فَإِنَّهُ يحمل على مَا
وضع [لَهُ] انْتهى؛ وَهُوَ أظهر، وَالظَّاهِر أَنه مُرَادهم،
وَلذَلِك يَقُولُونَ: اللَّفْظ يحمل على عرف الْمُتَكَلّم
بِهِ، وَيَأْتِي فِي التَّرْجِيح تَقْدِيم الْمجَاز على
الْمُشْتَرك فِي الْأَصَح.
قَوْله: {وَلَو لم يَنْتَظِم الْكَلَام إِلَّا بارتكاب [مجَاز]
زِيَادَة أَو نُقْصَان، فالنقصان أولى} .
وَذَلِكَ؛ لِأَن الْحَذف فِي كَلَام الْعَرَب أَكثر من
الزِّيَادَة، قَالَه كثير من الْعلمَاء.
وَيتَفَرَّع على ذَلِك: إِذا قَالَ لزوجتيه: إِن حضتما حَيْضَة
فأنتما طالقتان، إِذْ لَا شكّ فِي اسْتِحَالَة اشتراكهما فِي
حَيْضَة، وَتَصْحِيح الْكَلَام، هُنَا، إِمَّا بِدَعْوَى
الزِّيَادَة وَهُوَ قَوْله: حَيْضَة، وَإِمَّا بِدَعْوَى
الْإِضْمَار وَتَقْدِيره: إِن حَاضَت كل وَاحِدَة مِنْكُمَا
حَيْضَة.
وَفِي الْمَسْأَلَة لِأَصْحَابِنَا أَرْبَعَة أوجه:
(2/483)
أَحدهَا: سلوك الزِّيَادَة، وَيصير
التَّقْدِير: إِن حضتما فأنتما طالقتان، فَإِذا طعنتا فِي
الْحيض طلقتا، وَهُوَ قَول القَاضِي أبي يعلى وَغَيره، وَهُوَ
الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب.
وَالْوَجْه الثَّانِي: سلوك النَّقْص - وَهُوَ الْإِضْمَار -
فَلَا تطلق وَاحِدَة مِنْهُمَا، حَتَّى تحيض كل وَاحِدَة
حَيْضَة، وَيكون التَّقْدِير كَمَا تقدم: إِن حَاضَت كل
وَاحِدَة مِنْكُمَا / حَيْضَة فأنتما طالقتان نَظِيره قَوْله
تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} [النُّور: 4] ،
أَي: اجلدوا كل [وَاحِد] مِنْهُم ثَمَانِينَ جلدَة، وَهُوَ
قَول الْمُوفق، وَالْمجد، وَالشَّارِح، وَابْن حمدَان،
وَغَيرهم، وَهُوَ مُوَافق للقاعدة.
(2/484)
وَالْوَجْه الثَّالِث: تطلقان بِحَيْضَة من
إِحْدَاهمَا؛ لِأَنَّهُ لما تعذر وجود الْفِعْل مِنْهُمَا،
وَجب إِضَافَته إِلَى إِحْدَاهمَا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يخرج
مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} [الرَّحْمَن: 22] ، وَإِنَّمَا
يخرج من أَحدهمَا.
وَالْوَجْه الرَّابِع: لَا يطلقان بِحَال، بِنَاء على أَنه لَا
يَقع الطَّلَاق الْمُعَلق على الْمحَال.
قَوْله: {فَائِدَة: الْكِنَايَة حَقِيقَة إِن اسْتعْمل
اللَّفْظ فِي مَعْنَاهُ وَأُرِيد لَازم الْمَعْنى، ومجاز إِن
لم يرد الْمَعْنى وَإِنَّمَا عبر بالملزوم عَن اللَّازِم، و
[عِنْد الْأَكْثَر:] حَقِيقَة مُطلقًا، وَقيل: عَكسه، وَقيل:
بنفيهما} .
الْكَلَام على الْكِنَايَة والتعريض من وَظِيفَة عُلَمَاء
الْمعَانِي وَالْبَيَان لَا عُلَمَاء الْأُصُول، لَكِن لما
كَانَت مُخْتَلفا فِيهَا هَل هِيَ حَقِيقَة أَو مجَاز؟ ذكر [ا]
اسْتِطْرَادًا، وَأَيْضًا فقد يلتبسان على السَّامع، وَلذَلِك
لم يذكرهما إِلَّا الْقَلِيل من الْأُصُولِيِّينَ.
(2/485)
فَقَالَ عُلَمَاء هَذَا الْفَنّ: اللَّفْظ
يَنْقَسِم إِلَى: تَصْرِيح، وكناية، وتعريض، وَاخْتلف فِي
الْكِنَايَة هَل هِيَ حَقِيقِيَّة أم مجَاز، أَو لَا وَاحِد
مِنْهُمَا، أَو [فِيهَا] حَقِيقَة ومجاز؟ على أَقْوَال.
أَحدهَا: أَنَّهَا تَنْقَسِم إِلَى حَقِيقَة ومجاز، اخْتَارَهُ
السُّبْكِيّ، وَولده التَّاج، والبرماوي، وقبلهم جمَاعَة.
فالكناية: القَوْل الْمُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ الْمَوْضُوع
لَهُ حَقِيقَة، وَلَكِن أُرِيد بِإِطْلَاقِهِ لَازم الْمَعْنى،
كَقَوْلِهِم: كثير الرماد، يكنون عَن كرمه، فكثرة الرماد
مُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، وَلَكِن أُرِيد بِهِ
لَازمه وَهُوَ الْكَرم، وَإِن كَانَ بِوَاسِطَة لَازم آخر؛
لِأَن لَازم كَثْرَة الرماد كَثْرَة الطَّبْخ، ولازم كَثْرَة
الطَّبْخ كَثْرَة الضيفان، ولازم كَثْرَة الضيفان / الْكَرم،
فَكل ذَلِك عَادَة، فالدلالة على الْمَعْنى الْأَصْلِيّ
بِالْوَضْعِ، وعَلى اللَّازِم بانتقال الذِّهْن من الْمَلْزُوم
إِلَيْهِ.
وَمثله قَوْلهم: طَوِيل النجاد، كِنَايَة عَن طول الْقَامَة؛
لِأَن نجاد الطَّوِيل يكون طَويلا بِحَسب الْعَادة، وعَلى
هَذَا فَهُوَ حَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي مَعْنَاهُ
وَإِن أُرِيد بِهِ اللَّازِم، فَلَا تنَافِي بَينهمَا.
وَإِن لم يرد الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَإِنَّمَا عبر بالملزوم
عَن اللَّازِم، بِأَن يُطلق الْمُتَكَلّم كَثْرَة الرماد على
اللَّازِم وَهُوَ الْكَرم، وَطول النجاد على اللَّازِم وَهُوَ
طول الْقَامَة، من غير مُلَاحظَة الْحَقِيقَة أصلا، فَهُوَ
مجَاز؛ لِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي غير
(2/486)
مَعْنَاهُ، والعلاقة فِيهِ إِطْلَاق
الْمَلْزُوم على اللَّازِم.
ورده: الكوراني من وُجُوه: مِنْهَا: (أَن الْمَشْهُور: أَن
الْفرق بَين الْمجَاز وَالْكِنَايَة: إِنَّمَا هُوَ بِأَن
الِانْتِقَال فِي الْمجَاز من الْمَلْزُوم إِلَى اللَّازِم،
وَفِي الْكِنَايَة من اللَّازِم إِلَى الْمَلْزُوم، أطبق
عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَكَلَام المُصَنّف يُخَالِفهُ
صَرِيحًا) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: - وَهُوَ الْأَصَح -: أَنه حَقِيقَة
فِيهَا، وَإِلَيْهِ جنح كثير من البيانيين، بل قَالَ الكوراني:
(الْجُمْهُور أَنَّهَا من الْحَقِيقَة) ، وتبعهم ابْن عبد
السَّلَام فِي كتاب " الْمجَاز " فَقَالَ: (الظَّاهِر أَن
الْكِنَايَة لَيست من الْمجَاز، لِأَنَّهَا وَإِن اسْتعْملت
فِيمَا وضع لَهُ لَكِن أُرِيد بهَا الدّلَالَة على غَيره،
[كدليل الْخطاب] فِي قَوْله: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ}
[الْإِسْرَاء: 23] ، وَكَذَا
(2/487)
نَهْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - عَن التَّضْحِيَة بالعوراء والعرجاء) انْتهى.
وَنَحْوه: النَّهْي عَن الدُّبَّاء، والحنتم، والمقير،
فَإِنَّهُ ينصب إِلَى مَا يلْزم مِنْهُ، وَهُوَ النَّبِيذ.
(2/488)
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه مجَاز مُطلقًا،
نظرا إِلَى المُرَاد مِنْهُ، وَهُوَ مُقْتَضى قَول صَاحب "
الْكَشَّاف " عِنْد قَوْله: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا
عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء أَو أكننتم فِي أَنفسكُم}
[الْبَقَرَة: 235] ، حَيْثُ فسر الْكِنَايَة: (بِأَن يذكر
الشَّيْء بِغَيْر لَفظه الْمَوْضُوع لَهُ) .
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا لَيست بِحَقِيقَة وَلَا مجَاز،
وَهُوَ قَول السكاكي، / وَتَبعهُ فِي " التَّلْخِيص ".
قَوْله: {والتعريض حَقِيقَة وَهُوَ: لفظ مُسْتَعْمل فِي
مَعْنَاهُ مَعَ التَّلْوِيح بِغَيْرِهِ} .
قَالَ الكوراني: (التَّعْرِيض: اللَّفْظ الدَّال على معنى لَا
من جِهَة الْوَضع الْحَقِيقِيّ وَلَا الْمجَازِي، بل يفهم
الْمَعْنى من جَانب اللَّفْظ.
و" الْعرض " بِالضَّمِّ - الْجَانِب، فَلَمَّا لم يسْتَعْمل
اللَّفْظ فِي الْمَعْنى المعرض بِهِ كَأَنَّهُ وَقع اللَّفْظ
منحرفاً عَنهُ، فَكل مِنْهُمَا فِي جَانب، بِخِلَاف مَا إِذا
اسْتعْمل فِيهِ حَقِيقَة أَو مجَازًا) وَهُوَ الْمَقْصُود،
كَقَوْل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام: {بل فعله كَبِيرهمْ
هَذَا} [الْأَنْبِيَاء: 63] ، غضب أَن عبدت هَذِه
(2/489)
الْأَصْنَام مَعَه فَكَسرهَا، وَإِنَّمَا
الْقَصْد: التَّلْوِيح بِأَن الله تَعَالَى يغْضب لعبادة غَيره
مِمَّن لَيْسَ بإله من طَرِيق الأولى مِمَّا ذكر.
وَبِذَلِك يعلم: أَن اللَّفْظ إِذا لم يُطَابق فِي الْخَارِج
مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ لَا يكون كذبا، إِذا كَانَ المُرَاد
بِهِ التَّوَصُّل إِلَى غَيره بكناية - كَمَا سبق - أَو
تَعْرِيض كَمَا هُنَا -، وَإِن سمي كذبا فمجاز بِاعْتِبَار
الصُّورَة، كَمَا جَاءَ: " لم يكذب إِبْرَاهِيم إِلَّا ثَلَاث
كذبات " المُرَاد: صُورَة ذَلِك، وَهُوَ نَفسه حق وَصدق، وَقد
علم من تَفْسِير التَّعْرِيض بذلك أَنه حَقِيقَة لَا مجَاز،
لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل فِيمَا وضع لَهُ أَولا.
وَالْفرق بَين التَّعْرِيض وَأحد قسمي الْكِنَايَة: أَن
الْمُلَازمَة هُنَاكَ وَاضِحَة بانتقال الذِّهْن إِلَيْهَا
سَرِيعا.
(2/490)
قَوْله: {فصل}
{الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر: الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة
وَاقعَة منقولة، [والمعتزلة: وَاقعَة بِلَا نقل، والدينية
عِنْدهم: مَا تعلق بأصول الدّين فِي الْأَصَح، وَقوم: وَقعت
إِلَّا الدِّينِيَّة، وَقيل: إِلَّا الْإِيمَان] وَالْقَاضِي،
وَأَبُو الْفرج، وَالْمجد، والباقلاني: اللُّغَوِيَّة بَاقِيَة
وزيدت شُرُوطًا، فَهِيَ حَقِيقَة لغوية ومجاز شَرْعِي،
[والآمدي وقف] ، [و] الشَّيْخ، وَغَيره: لم تنقل وَلم يزدْ
فِيهَا، بل الشَّارِع استعملها على وَجه اخْتصَّ بمراده} .
(2/491)
اعْلَم أَن اللَّفْظ إِذا وضع لِمَعْنى،
ثمَّ نقل / فِي الشَّرْع إِلَى معنى ثَان لمناسبة بَينهمَا،
وَغلب اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى الثَّانِي، يُسمى:
مَنْقُولًا شَرْعِيًّا.
إِذا علم ذَلِك؛ فَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْحَقِيقَة
الشَّرْعِيَّة، هَل هِيَ وَاقعَة منقولة أم لَا؟ على أَقْوَال.
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة،
وَأكْثر الْعلمَاء، - حَتَّى قَالَ ابْن برهَان: (قَالَ بِهِ
الْفُقَهَاء قاطبة) -: أَنَّهَا وَاقعَة، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ
لَا يمْتَنع وضع الشَّارِع اسْما لِمَعْنى، لِأَن دلَالَته
لَيست ذاتية، وَلَا يجب اسْم لمسمى؛ لجَوَاز إِبْدَاله أول
الْوَضع وانتفائه قبل التَّسْمِيَة، وَالْقطع أَن الصَّلَاة
لُغَة: الدُّعَاء أَو الِاتِّبَاع، وَالزَّكَاة: النَّمَاء،
وَالصَّوْم: إمْسَاك مُطلق، وَالْحج: قصد مُطلق، وَشرعا لأمور
مَعْرُوفَة.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: (تَارَة يُسَمِّي عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام اسْما لمعاني لَا تعرفها الْعَرَب،
وَتارَة لشبه من معنى الِاسْم لُغَة) .
(2/492)
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: وَقعت مُطلقًا،
يعنون: الشَّرْعِيَّة والدينية مَوْضُوعَات مبتدآت، ابتدأها
الشَّارِع وَلم ينقلها عَن الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة،
فَلَيْسَتْ حقائق لغوية وَلَا مجازات عَنْهَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (أثبتهما الْمُعْتَزلَة [مَعًا] ، لَكِن
على معنى أَن الشَّارِع اخترع أَسمَاء خَارِجَة عَن اللُّغَة
لمعان أثبتها شرعا، فمخالفتهم فِي إِثْبَات الشَّرْع للأمرين
على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَإِن أوهمت عبارَة ابْن الْحَاجِب
بعض شراحه: أَنهم يثبتون الدِّينِيَّة ومخالفون فِي
الشَّرْعِيَّة؛ فَالصَّوَاب: أَن خلافهم فِي الدِّينِيَّة،
وَإِنَّمَا لم يُصَرح ابْن الْحَاجِب فِي نصب الْأَدِلَّة
بذلك؛ لِأَنَّهُ مَحل وفَاق) .
قَوْله: (وَهِي مَا تعلق بأصول الدّين فِي الْأَصَح) .
اخْتلف النَّقْل عَن الْمُعْتَزلَة فِي تَفْسِير الدِّينِيَّة،
وَالأَصَح: أَنه مَا تعلق بأصول الدّين، كالإيمان، وَالْكفْر،
وَالْفِسْق، وَنَحْوهَا، بِخِلَاف نَحْو: الصَّلَاة،
وَالزَّكَاة، وَالصَّوْم، وَالْحج، وَنَحْوهَا، وَهُوَ الَّذِي
نَقله عَنْهُم ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَأَبُو
الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص "، و " الْبُرْهَان "،
(2/493)
والقشيري، وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهم.
وَنقل / الرَّازِيّ وَجمع عَنْهُم: أَن الديني: أَسمَاء
الفاعلين، كالمؤمن، وَالْفَاسِق، وَالْمُصَلي، والصائم،
بِخِلَاف الْإِيمَان، وَالْفِسْق، وَالصَّلَاة، وَالصَّوْم،
فَإِن ذَلِك شَرْعِي لَا ديني.
ورد: بِأَنَّهُ يلْزم تَسْمِيَة اللَّفْظ باسم لَا يجْرِي فِي
الْمُشْتَقّ مِنْهُ.
وَقيل: وَقعت إِلَّا الدِّينِيَّة، فالشرعية وَقعت، وَلم تقع
الدِّينِيَّة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (وَالْمُخْتَار
وفَاقا للشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن الصّباغ،
وَأكْثر أَصْحَابنَا: أَن النَّقْل إِنَّمَا وَقع فِي
الشَّرْعِيَّة لَا فِي الدِّينِيَّة، وَاخْتَارَهُ ابْن
الْحَاجِب وَغَيره، وَمِنْهُم من يَجْعَل الْخلاف فِي
الْإِيمَان فَقَط، لَا فِي كل ديني) انْتهى.
(2/494)
وَقَالَ الباقلاني، وَالْقَاضِي أَبُو
يعلى، وَأَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي، وَالْمجد ابْن تَيْمِية،
وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم: اللُّغَوِيَّة بَاقِيَة
وزيدت شُرُوطًا، فَهِيَ حَقِيقَة لغوية مجَاز شَرْعِي، حَكَاهُ
فِي " التَّمْهِيد " عَن الأشعرية، وَأَن للشَّافِعِيّ
قَوْلَيْنِ.
(2/495)
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْجَامِع
": (الْإِيمَان لُغَة: التَّصْدِيق وَأقرهُ الشَّارِع وَزَاد
عَلَيْهِ الطَّاعَات الظَّاهِرَة، كَصَلَاة وَغَيرهَا) .
وَنقل ابْن مَنْصُور عَن الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل أَنه
قَالَ: (كَانَ بَدْء الْإِيمَان نَاقِصا فَجعل يزِيد) ،
وَظَاهره: أَنه زيد عَلَيْهِ وَلم ينْقل عَنهُ.
قَالَ: ويفيد هَذَا: إِن ثَبت نَقله، زَالَ الِاسْم بِوُجُود
ضِدّه وَهُوَ الْمعاصِي، وَإِن لم ينْقل، لم يزل الِاسْم،
لِأَنَّهُ لم يُوجد ضِدّه، بل ينْقل اسْم الْكَمَال) انْتهى.
(2/496)
ووقف الْآمِدِيّ فِي " الْمُنْتَهى ".
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَجمع من الْعلمَاء: لم تنقل
وَلم يزدْ فِيهَا، بل الشَّارِع استعملها على وَجه اخْتصَّ
بمراده.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول بِمَا تقدم، وَبِأَنَّهُ لَا يلْزم
من ذَلِك محَال لذاته، وَالْقطع بالاستقراء، لِأَن
الْعِبَادَات الْمُتَقَدّمَة للمعلوم شرعا، وَهِي لُغَة لغير
ذَلِك.
فَإِن قيل: هِيَ بَاقِيَة، والزيادات شُرُوط.
قيل: إِطْلَاق الصَّلَوَات على الرَّكْعَات / يمنعهُ.
فَإِن قيل: إِطْلَاق هَذِه الْمعَانِي عَلَيْهَا مجَاز، لكَون
الدُّعَاء جُزْء مُسَمّى الصَّلَاة، وَالزَّكَاة سَبَب
النَّمَاء.
أُجِيب: إِن أردتم: أَن الشَّارِع استعملها فِي غير موضوعاتها
اللُّغَوِيَّة فَهِيَ الْمُدعى، وَإِن أردتم: أَن أهل اللُّغَة
استعملوها فِيهَا، فخلاف الظَّاهِر، لِأَن اسْتِعْمَالهَا فرع
تعقلها، وَلم يتعقلوها وَلَا عرفوها؛ وَلِأَن هَذِه الْمعَانِي
تفهم من هَذِه الْأَسْمَاء بِغَيْر قرينَة.
لَا يُقَال: الْفَهم بِغَيْر قرينَة لكَونه مجَازًا راجحاً،
لِأَن الْمجَاز الرَّاجِح لَا يَخْلُو عَن قرينَة عرفية، وَهِي
ممتنعة هُنَا، أَو شَرْعِيَّة، وَهُوَ الْمُدعى.
(2/497)
وَاسْتدلَّ للْمَنْع بِوُجُوه:
أَحدهَا: لَو وَقع ذَلِك لَكَانَ مُخَاطبا لَهُم بِغَيْر
لغتهم، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول
إِلَّا بِلِسَان قومه} [إِبْرَاهِيم: 4] .
الثَّانِي: لَو وَضعهَا الشَّارِع لزمَه تَعْرِيفهَا، لِئَلَّا
يلْزم مَا لَا يُطَاق، وَلَو عرفهَا لَكَانَ ذَلِك بالتواتر،
لعدم قيام الْحجَّة بالآحاد هُنَا، وَلَا تَوَاتر.
قيل: بعد تَسْلِيم مَا لَا يُطَاق، إِنَّهَا فهمت بالقرائن
كتعليم الْأَطْفَال اللُّغَات من غير أَن يُصَرح مَعَهم
بِوَضْع اللَّفْظ للمعنى، لامتناعه بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لَا
يعلم شَيْئا من الْأَلْفَاظ.
قَالَ الْعَضُد: (وَهُوَ طَرِيق قَطْعِيّ لَا يُنكر) ،
وَبَينهَا عَاما وَنقل خَاصّا كالأذان.
الثَّالِث: لَو كَانَت لكَانَتْ غير عَرَبِيَّة لعدم وَضعهَا
لُغَة، فَيلْزم: كَون الْقُرْآن غير عَرَبِيّ.
أُجِيب: عَرَبِيَّة بِوَضْع الشَّارِع لَهَا مجَازًا، و
(أَنزَلْنَاهُ) فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة يُوسُف:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قرءاناً عَرَبيا} [الْآيَة: 2] يجوز عود
الضَّمِير إِلَى السُّورَة، لِأَن الْقُرْآن يَصح إِطْلَاقه
على السُّورَة وَالْآيَة. لَو حلف لَا يقْرَأ الْقُرْآن حنث
بِقِرَاءَة آيَة.
(2/498)
وَصِحَّة الْإِطْلَاق لاشْتِرَاكهمَا فِي
الْمَعْنى، لِأَن جُزْء الشَّيْء إِذا شَارك كُله معنى صَحَّ
أَن يُقَال: هُوَ كَذَا، وَهُوَ بعضه، كَالْمَاءِ [وَالْعَسَل]
، وَاللَّحم، وَاللَّبن، وَنَحْوهَا.
وَإِن لم يُشَارك لم يَصح، كالمائة، والرغيف، وَنَحْوهمَا،
لعدم تَسْمِيَة الْأَجْزَاء بِالْمِائَةِ، والرغيف. /
قلت: عوده إِلَى السُّورَة ضَعِيف، مَعَ توارد
الْأُصُولِيِّينَ عَلَيْهِ، لكِنهمْ لَا يجزمون بِهِ إِنَّمَا
يَقُولُونَ: يجوز أَن يعود، وَقد اخْتَار هَذِه الزّجاج،
وَابْن الْقَاسِم، لَكِن مُعظم الْعلمَاء على أَنه عَائِد
إِلَى الْكتاب، حكى الْخلاف ابْن الْجَوْزِيّ فِي " زَاد
الْمسير ".
[وَلَو] سلم عوده إِلَى الْقُرْآن لجَاز تَسْمِيَته عَرَبيا
اعْتِبَارا بالغالب، كشعر عَرَبِيّ فِيهِ فارسية.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: (لكنه مجَاز لصِحَّة
الِاسْتِثْنَاء) انْتهى.
وَلما تَعَارَضَت الْأَدِلَّة عِنْد الْآمِدِيّ وقف.
(2/499)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَجمع من
الْعلمَاء: (لم تنقل وَلم يزدْ فِيهَا، بل الشَّارِع استعملها
على وَجه اخْتصَّ بمراده) ، وَهُوَ أظهر وَأولى.
قَوْله: {فَائِدَة: الْإِيمَان: [التَّصْدِيق بِمَا غَابَ،
لُغَة] ، وَشرعا: عقد بالجنان ونطق بِاللِّسَانِ وَعمل
بالأركان، عِنْد [الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة] ، وَالسَّلَف،
فَدخل كل الطَّاعَات، وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ، وَأكْثر
أَصْحَابه، وَهُوَ لُغَة وَشرعا: التَّصْدِيق، وَالْأَفْعَال
من شرائعه، وَلَا يدْخل فِيهِ عمل الْقلب، وَيجوز
الِاسْتِثْنَاء، وَأَبُو حنيفَة، والمرجئة، وَابْن كلاب،
وَغَيرهم: تَصْدِيق بِالْقَلْبِ وَعمل بِاللِّسَانِ، وَيدخل
بعض المرجئة عمل الْقلب فِيهِ، والجهمية وَغَيرهم: الْمعرفَة،
والكرامية، قَول بِاللِّسَانِ فَقَط، والمعتزلة: فعل
الْوَاجِبَات، [وَعند أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَغَيرهم، لَا
يزِيد وَلَا ينقص] ،
(2/500)
وَلَا اسْتثِْنَاء فِيهِ، [وَقَالَهُ]
[أَبُو الْمَعَالِي فِي الأولى] } .
إِنَّمَا ذكرت هَذِه الْمَسْأَلَة اسْتِطْرَادًا؛ لكَون لَهَا
مدْخل فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا، وَأَن بعض الْعلمَاء
قَالَ: وَقعت إِلَّا الْإِيمَان، فَإِنَّهُ بَاقٍ على
مَدْلُوله لُغَة.
إِذا علم ذَلِك؛ فَفِي ضمن هَذَا الْكَلَام أَربع مسَائِل،
مَسْأَلَة فِي معنى الْإِيمَان، وَمَسْأَلَة فِي زِيَادَته
ونقصانه، وَمَسْأَلَة فِي جَوَاز الِاسْتِثْنَاء فِيهِ،
وَمَسْأَلَة فِي الْخلاف فِي تباينه لِلْإِسْلَامِ وترادفه.
أما الْمَسْأَلَة الأولى وَهُوَ مَعْنَاهُ فالإيمان لَهُ
مَعْنيانِ:
معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي الشَّرْع.
فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة: التَّصْدِيق بِمَا غَابَ، قولا كَانَ
أَو فعلا، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا
وَلَو كُنَّا / صَادِقين} [يُوسُف: 17] .
[وَأما] مَعْنَاهُ فِي الشَّرْع [فَاخْتلف] الْعلمَاء فِيهِ
اخْتِلَافا كثيرا.
فَذهب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وهم الإِمَام أَحْمد،
وَالْإِمَام مَالك، وَالْإِمَام
(2/501)
الشَّافِعِي -، وَالسَّلَف، وجماهير
الْعلمَاء، وَأهل الحَدِيث، والقلانسي، وَابْن مُجَاهِد، من
الْمُتَكَلِّمين، وَغَيرهم، حَتَّى حَكَاهُ الإِمَام
الشَّافِعِي إِجْمَاع الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، وَمن
بعدهمْ مِمَّن أدركهم، نَقله عَنهُ ابْن رَجَب.
وَنقل حَرْب قَالَ: سُئِلَ الإِمَام أَحْمد عَن الْإِيمَان
فَقَالَ: (قَول وَعمل، وَيزِيد وَينْقص) ، قيل: وَيسْتَثْنى
مِنْهُ؟ قَالَ: (نعم) .
(2/502)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل ابْن حجر:
(السّلف قَالُوا: هُوَ اعْتِقَاد بِالْقَلْبِ، ونطق
بِاللِّسَانِ، وَعمل بالأركان، وَأَرَادُوا بذلك: أَن
الْأَعْمَال شَرط فِي كَمَاله، وَمن هُنَا نَشأ لَهُم القَوْل
بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان) .
قَالَ ابْن رَجَب: (وَأنكر السّلف على من أخرج الْأَعْمَال عَن
الْإِيمَان إنكاراً شَدِيدا، وَمِمَّنْ أنكرهُ على قَائِله
وَجعله قولا مُحدثا: سعيد بن جُبَير، وَمَيْمُون بن مهْرَان،
وَقَتَادَة وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، وَإِبْرَاهِيم
(2/503)
النَّخعِيّ، وَالزهْرِيّ، وَيحيى بن أبي
كثير وَغَيرهم.
قَالَ الثَّوْريّ: (هُوَ رَأْي مُحدث) .
(2/504)
وَكتاب عمر بن عبد الْعَزِيز فِي
البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ كتب إِلَى أهل الْأَمْصَار: (أما بعد،
فَإِن الْإِيمَان فَرَائض وَشَرَائِع فَمن استكملها اسْتكْمل
الْإِيمَان، وَمن لم يستكملها لم يستكمل الْإِيمَان) .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: (كَانَ من مضى مِمَّن سلف لَا يفرقون
بَين الْإِيمَان وَالْعَمَل) .
وَقد دلّ على دُخُول الْأَعْمَال فِي الْإِيمَان قَوْله
تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله
وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم ءاياته زادتهم إِيمَانًا
وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ أُولَئِكَ هم
الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} [الْأَنْفَال: 2 - 4] .
(2/505)
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن ابْن عَبَّاس
أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
لوفد عبد الْقَيْس: " آمركُم بِأَرْبَع: الْإِيمَان بِاللَّه،
وَهل تَدْرُونَ مَا الْإِيمَان بِاللَّه؟ شَهَادَة أَن لَا
إِلَه إِلَّا الله، وإقام الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة،
وَصَوْم رَمَضَان، وَأَن تعطوا من الْمَغَانِم الْخمس) .
وَفِيهِمَا / عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِيمَان بضع وَسِتُّونَ
شُعْبَة، فأفضلها قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَدْنَاهَا
إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق، وَالْحيَاء شُعْبَة من
الْإِيمَان ".
وَفِيهِمَا عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يَزْنِي الزَّانِي
حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن ... " الحَدِيث.
(2/506)
فلولا أَن ترك هَذِه الْكَبَائِر من
مُسَمّى الْإِيمَان لما انْتَفَى اسْم الْإِيمَان عَن مرتكب
شَيْء مِنْهَا؛ لِأَن الِاسْم لَا يَنْتَفِي إِلَّا
بِانْتِفَاء بعض أَرْكَان الْمُسَمّى أَو واجباته) انْتهى.
وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ وَأكْثر أَصْحَابه: هُوَ لُغَة وَشرعا:
التَّصْدِيق، وَالْأَفْعَال من شرائعه لَا من نَفسه، ونصروا
مَعَ ذَلِك أَنه يسْتَثْنى مِنْهُ، وَلَا تدخل أَعمال
الْقُلُوب عِنْدهم فِي الْإِيمَان.
وَاسْتَدَلُّوا على أَن الْأَعْمَال غير دَاخِلَة فِي
الْإِيمَان بِوُجُوه:
أَحدهَا: أَنه اسْم للتصديق، وَلَا دَلِيل على النَّقْل إِلَى
غَيره.
الثَّانِي: النَّص وَالْإِجْمَاع على أَنه لَا ينفع عِنْد
مُعَاينَة الْعَذَاب، وَيُسمى إِيمَان الْيَأْس، وَلَا خَفَاء
أَن ذَلِك التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار، [إِذْ لَا مجَال
للأعمال] .
الثَّالِث: النُّصُوص الدَّالَّة على الْأَوَامِر والنواهي بعد
إِثْبَات الْإِيمَان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام} [الْبَقَرَة: 183] .
الرَّابِع: النُّصُوص الدَّالَّة على أَن الْإِيمَان والأعمال
أَمْرَانِ يتفارقان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا
وَعمِلُوا الصَّالِحَات} [الْبَقَرَة: 277،
(2/507)
وَالْبَيِّنَة: 7] ، {وَمن يُؤمن بِاللَّه
وَيعْمل صَالحا} [التغابن: 9، وَالطَّلَاق: 11] ، {وَمن يَأْته
مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات} [طه: 75] ، {وَمن يعْمل من
الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن} [طه: 112] .
الْخَامِس: الْآيَات الدَّالَّة على أَن الْإِيمَان والمعاصي
قد يَجْتَمِعَانِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وَلم
يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} [الْأَنْعَام: 82] ، {وَالَّذين
أمنُوا وَلم يهاجروا} [الْأَنْفَال: 72] ، {وَإِن طَائِفَتَانِ
من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] .
السَّادِس: الْإِجْمَاع على أَن الْإِيمَان شَرط لصِحَّة
الْعِبَادَات.
وَخبر جِبْرِيل الَّذِي فِي مُسلم يدل على الْفرق، فَإِنَّهُ
قَالَ: يَا مُحَمَّد أَخْبرنِي عَن الْإِسْلَام، فَقَالَ: "
أَن تشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول
الله، / وتقيم الصَّلَاة، وتؤتي الزَّكَاة، وتصوم رَمَضَان،
وتحج الْبَيْت إِن اسْتَطَعْت إِلَيْهِ سَبِيلا) ، قَالَ:
صدقت، قَالَ: فَأَخْبرنِي عَن الْإِيمَان، قَالَ: " أَن تؤمن
بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر
وتؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره "، قَالَ: " صدقت ... " الحَدِيث.
فَفرق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين
الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، وَأدْخل الْأَعْمَال فِي مُسَمّى
الْإِسْلَام، دون مُسَمّى الْإِيمَان.
قَالَ الْعَلامَة ابْن رَجَب فِي " شرح النووية ": (وَجه
الْجمع بَين النُّصُوص الْمُتَقَدّمَة، وَبَين حَدِيث سُؤال
جِبْرِيل، يَتَّضِح بتقرير أصل، وَهُوَ:
(2/508)
أَن من الْأَسْمَاء مَا يكون شَامِلًا
لمسميات مُتعَدِّدَة عِنْد إِفْرَاده وإطلاقه، فَإِذا قرن
ذَلِك الِاسْم بِغَيْرِهِ صَار دَالا على بعض تِلْكَ المسميات،
وَالِاسْم المقرون بِهِ دَالا على بَاقِيهَا، وَهَذَا كاسم
الْفَقِير والمسكين، فَإِذا أفرد أَحدهمَا دخل فِيهِ كل من
هُوَ مُحْتَاج، فَإِذا قرن أَحدهمَا بِالْآخرِ، دلّ أحد
الاسمين على بعض أَنْوَاع ذَوي الْحَاجَات، وَالْآخر على
بَاقِيه، فَهَكَذَا اسْم الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، إِذا أفرد
أَحدهمَا دخل فِيهِ الآخر، وَدلّ بِانْفِرَادِهِ على مَا يدل
عَلَيْهِ الآخر بِانْفِرَادِهِ، فَإِذا قرن بَينهمَا، دلّ
أَحدهمَا على بعض مَا يدل عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ، وَدلّ
الآخر على الْبَاقِي.
وَقد صرح بِهَذَا الْمَعْنى جمَاعَة من الْأَئِمَّة، مِنْهُم
أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رسَالَته إِلَى أهل الْجَبَل،
وَمِنْهُم الْخطابِيّ فِي كِتَابه " معالم السّنَن " - وَذكر
ابْن رَجَب لَفْظهمَا وتبعهما عَلَيْهِ جمَاعَة من الْعلمَاء.
(2/509)
وَيدل على صِحَة ذَلِك: أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسر الْإِيمَان عِنْد
ذكره مُفردا فِي حَدِيث وَفد عبد الْقَيْس، بِمَا فسر بِهِ
الْإِسْلَام المقرون بِالْإِيمَان، فِي حَدِيث جِبْرِيل،
وَفسّر فِي حَدِيث آخر الْإِسْلَام بِمَا فسر بِهِ الْإِيمَان،
كَمَا فِي " الْمسند " عَن عَمْرو بن عبسة، قَالَ: جَاءَ رجل
إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَا الْإِسْلَام؟ قَالَ: " أَن تسلم
قَلْبك لله، وَأَن يسلم الْمُسلمُونَ من لسَانك ويدك "، قَالَ:
فَأَي الْإِسْلَام أفضل؟ قَالَ: " الْإِيمَان "، قَالَ: وَمَا
الْإِيمَان؟ قَالَ: أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه
وَرُسُله والبعث بعد الْمَوْت "، قَالَ: فَأَي الْإِيمَان
أفضل؟ قَالَ: " الْهِجْرَة "، قَالَ: فَمَا الْهِجْرَة؟ قَالَ:
" أَن تهجر / السوء " قَالَ: فَأَي الْهِجْرَة أفضل؟ قَالَ: "
الْجِهَاد ".
فَجعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْإِيمَان أفضل الْإِسْلَام وَأدْخل فِيهِ الْأَعْمَال. -
قَالَ ابْن رَجَب وَبِهَذَا التَّفْصِيل يظْهر تَحْقِيق
القَوْل فِي مَسْأَلَة الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، هَل هما
وَاحِد، أَو مُخْتَلِفَانِ؟) .
وَيَأْتِي ذَلِك فِي الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة.
(2/510)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَحَمَّاد بن أبي
سُلَيْمَان، والمرجئة، وَابْن كلاب، وَغَيرهم: هُوَ تَصْدِيق
بِالْقَلْبِ وَعمل بِاللِّسَانِ.
وَتبع أَبَا حنيفَة كثير من أَصْحَابه، وَعَزاهُ فِي " شرح
الْمَقَاصِد " إِلَى كثير من الْمُحَقِّقين.
وَمِنْهُم من يَقُول: الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ ركن زَائِد
لَيْسَ بأصلي، وَذهب إِلَيْهِ أَبُو مَنْصُور الماتريدي من
الْحَنَفِيَّة، ويروى عَن أبي حنيفَة، نَقله
(2/511)
ابْن الْعِزّ فِي " شرح عقيدة الطَّحَاوِيّ
"، وَقَالَ: (الِاخْتِلَاف بَين الْأَئِمَّة وَبَين أبي حنيفَة
وَأَصْحَابه اخْتِلَاف صوري، فَإِن كَون أَعمال الْجَوَارِح
لَازِمَة لإيمان الْقلب أَو جُزْءا من الْإِيمَان، مَعَ
الِاتِّفَاق على أَن مرتكب الْكَبِيرَة لَا يخرج عَن
الْإِيمَان، بل هُوَ فِي مَشِيئَة الله تَعَالَى، إِن شَاءَ
عذبه، وَإِن شَاءَ عَفا عَنهُ، نزاع لَفْظِي، لَا يَتَرَتَّب
عَلَيْهِ فَسَاد اعْتِقَاد) انْتهى.
وَيدخل أَكثر فرق المرجئة أَعمال الْقُلُوب فِي الْإِيمَان،
حَكَاهُ الْأَشْعَرِيّ عَنْهُم.
قَالَ بعض المرجئة: كَمَا لَا ينفع مَعَ الْكفْر طَاعَة، لَا
يضر مَعَ الْإِيمَان
(2/512)
مَعْصِيّة، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي "
تَارِيخه " عَن أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يضر مَعَه صَغِيرَة.
قَالَ الإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك:.
(2/513)
(المرجئة تَقول: حَسَنَاتنَا متقبلة
وسيئاتنا مغفورة) .
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (مَذْهَب المرجئة: تَصْدِيق
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كل أَمر
ديني علم مَجِيئه بِهِ ضَرُورَة، فَيكون من الْحَقَائِق
الشَّرْعِيَّة نَظِير الصَّوْم وَالصَّلَاة وَالْحج؛ لِأَنَّهُ
تَصْدِيق خَاص) انْتهى.
وَقَالَت الْجَهْمِية، والشيعة، أَبُو الْحُسَيْن الصَّالِحِي
/ من الْقَدَرِيَّة، وَغَيرهم: الْإِيمَان: الْمعرفَة، وَذكره
بعض أَصْحَابنَا عَن الْأَشْعَرِيّ وَأكْثر أَصْحَابه، نَقله
ابْن مُفْلِح.
(2/514)
قَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": (وَقد
يمِيل إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيّ) وَبَعْضهمْ فرق بَينهمَا،
وَفِيه نظر.
قَالَ ابْن الْعِزّ فِي " شرح عقيدة الطَّحَاوِيّ " وَغَيره:
(قَول الْجَهْمِية بَاطِل، فَإِن لَازمه: أَن فِرْعَوْن
وَقَومه كَانُوا مُؤمنين، فَإِنَّهُم عرفُوا صدق مُوسَى
وَهَارُون صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِمَا -، وَلم يُؤمنُوا
بهما، وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى لفرعون: {قَالَ لقد علمت مَا
أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَوَات وَالْأَرْض بصائر}
[الْإِسْرَاء: 102] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وجحدوا بهَا
واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة
المفسدين} [النَّمْل: 14] .
وَأهل الْكتاب كَانُوا يعْرفُونَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم، قَالَ
الله تَعَالَى: {الَّذين أتيناهم الْكتاب يعرفونه كَمَا
يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَإِن فريقاً مِنْهُم ليكتمون الْحق
وهم يعلمُونَ} [الْبَقَرَة: 146] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِن
الَّذين أُوتُوا الْكتاب ليعلمون أَنه الْحق من رَبهم}
[الْبَقَرَة: 144] ، وَلم يَكُونُوا مُؤمنين، بل كَانُوا
كَافِرين معاندين لَهُ.
وَكَذَلِكَ أَبُو طَالب يكون مُؤمنا عِنْدهم، فَإِنَّهُ قَالَ:
(2/515)
(وَلَقَد علمت بِأَن دين مُحَمَّد ... من
خير أَدْيَان الْبَريَّة دينا)
(لَوْلَا الْمَلَامَة أَو حذار مسَبَّة ... لَوَجَدْتنِي سَمحا
بِذَاكَ مُبينًا)
بل إِبْلِيس يكون عِنْد جهم مُؤمنا كَامِل الْإِيمَان،
فَإِنَّهُ لم يجهل ربه بل هُوَ عَارِف، {قَالَ رب فأنظرني
إِلَى يَوْم يبعثون} [الْحجر: 36، ص: 79] ، {قَالَ رب بِمَا
أغويتني} [الْحجر: 39] ، {قَالَ فبعزتك لأغوينهم} [ص: 82] .
وَالْكفْر عِنْد الجهم وشيعته هُوَ: الْجَهْل بالرب، وَلَا أحد
أَجْهَل مِنْهُ بربه، فَإِنَّهُ جعله الْوُجُود الْمُطلق، وسلب
عَنهُ جَمِيع صِفَاته، وَلَا جهل أَكثر من هَذَا، فَيكون
كَافِرًا بِشَهَادَتِهِ على نَفسه.
وَقَالَت الكرامية: الْإِيمَان هُوَ: القَوْل بِاللِّسَانِ
فَقَط، لتنَاوله الْمُنَافِقين فِي أَحْكَام الدُّنْيَا، فهم
عِنْدهم مُؤمنُونَ كاملو الْإِيمَان، ويستحقون الْوَعيد
الَّذِي وعدهم الله بِهِ.
قَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": / (فَمن أضمر الْكفْر وَأظْهر
الْإِيمَان يكون
(2/516)
مُؤمنا، إِلَّا أَنه يسْتَحق الخلود فِي
النَّار عِنْدهم، وَمن أضمر الْإِيمَان وَأظْهر الْكفْر لَا
يكون مُؤمنا، وَمن أضمر الْإِيمَان وَلم يتَّفق مِنْهُ
الْإِظْهَار وَالْإِقْرَار لم يسْتَحق الْجنَّة) .
فَائِدَة: يمتاز التَّصْدِيق عَن الْمعرفَة وَالْعلم بربط
الْقلب على الْمُؤمن بِهِ، وَلذَلِك يُثَاب عَلَيْهِ،
وَحَاصِله: أَنه لَا يُجَامع الْإِنْكَار، بِخِلَاف الْمعرفَة
وَالْعلم، قَالَ تَعَالَى: {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ
أَبْنَاءَهُم} [الْبَقَرَة: 146، والأنعام: 20] ، وَقَالَ
مُوسَى لفرعون: {لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب
السَّمَوَات وَالْأَرْض} [الْإِسْرَاء: 102] ، فَمن صدق
بِقَلْبِه وَلم يتَمَكَّن من التَّلَفُّظ فإيمانه منج عِنْد
الله، وَكَذَا الَّذِي بِهِ آفَة كالخرس، وَأما غَيرهمَا من
الْقَادِر المتمكن فَلَا يشْتَرط التَّلَفُّظ فِي حَقه إِلَّا
لإجراء أَحْكَام الْمُسلمين عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، من
الصَّلَاة عَلَيْهِ، وَدَفنه فِي مَقَابِر الْمُسلمين؛ قَالَه
فِي " شرح الْمَقَاصِد ".
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: الْإِيمَان هُوَ فعل الْوَاجِبَات.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل ابْن حجر: (قَالَت
الْمُعْتَزلَة: هُوَ الْعَمَل والنطق والاعتقاد) انْتهى.
وبسببه؛ ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَات مرتبَة لِلْفَاسِقِ الملي،
بَين مرتبَة الْكفْر وَالْإِيمَان.
(2/517)
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَالْفرق
بَين مَذْهَبهم وَمذهب السّلف من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن السّلف لَا يخرجُون الْفَاسِق عَن مُطلق
الْإِيمَان.
وَالثَّانِي: اندراج المندوبات فِي مُسَمّى الْإِيمَان)
انْتهى.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل: (والفارق بَينهم وَبَين السّلف:
أَنهم جعلُوا الْأَعْمَال شرطا فِي صِحَّته، وَالسَّلَف جعلوها
شرطا فِي كَمَاله. - قَالَ -: وَهَذَا كُله كَمَا قُلْنَا
بِالنّظرِ إِلَى مَا عِنْد الله، أما بِالنّظرِ إِلَى مَا
عندنَا، فالإيمان هُوَ: الْإِقْرَار فَقَط، فَمن أقرّ أجريت
عَلَيْهِ الْأَحْكَام فِي الدُّنْيَا، وَلم يحكم عَلَيْهِ
بِكفْر إِلَّا أَن اقْترن بِهِ فعل يدل على كفره / كالسجود
للصنم، فَإِن كَانَ الْفِعْل لَا يدل على الْكفْر كالفسق، فَمن
أطلق عَلَيْهِ الْإِيمَان فبالنظر إِلَى إِقْرَاره، وَمن نفى
عَنهُ الْإِيمَان فبالنظر إِلَى كَمَاله، وَمن أطلق عَلَيْهِ
الْكفْر فبالنظر إِلَى فعل الْكَافِر، وَمن نَفَاهُ عَنهُ
فبالنظر إِلَى حَقِيقَته، وأثبتت الْمُعْتَزلَة الْوَاسِطَة
فَقَالُوا: (الْفَاسِق لَا مُؤمن وَلَا كَافِر) انْتهى.
قَوْله: وَعند أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه، وَغَيرهم الْجَهْمِية،
والمرجئة، والكرامية -: إِيمَان النَّاس كلهم سَوَاء، لَا
يزِيد وَلَا ينقص، وَلَا اسْتثِْنَاء فِيهِ، وَقَالَهُ أَبُو
الْمَعَالِي فِي الأولى.
فِي ضمن هَذَا الْكَلَام مَسْأَلَتَانِ: مَسْأَلَة زِيَادَة
الْإِيمَان ونقصانه، وَمَسْأَلَة الِاسْتِثْنَاء فِيهِ،
فَالْكَلَام الْمُتَقَدّم على معنى الْإِيمَان وَهِي
الْمَسْأَلَة الأولى.
(2/518)
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من الْأَرْبَع،
وَهِي: مَسْأَلَة زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه: وَمذهب السّلف
قاطبة أَنه يزِيد وَينْقص، وَنَقله ابْن أبي حَاتِم،
واللالكائي، بِالْأَسَانِيدِ عَن جمع من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ، وَحَكَاهُ
(2/519)
الفضيل بن عِيَاض، ووركيع بن الْجراح، عَن
أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَنَقله عبد الرَّزَّاق عَن
سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك بن أنس
(2/520)
وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن جريج وَمعمر
وَغَيرهم، وَهَؤُلَاء فُقَهَاء الْأَمْصَار فِي عصرهم. وَنَقله
اللالكائي عَن الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه
(2/521)
وَأبي عبيد وَغَيرهم من الْأَئِمَّة.
وروى بِسَنَدِهِ الصَّحِيح عَن البُخَارِيّ قَالَ: (لقِيت
أَكثر من ألف رجل من الْعلمَاء بالأمصار، فَمَا رَأَيْت أحدا
مِنْهُم يخْتَلف فِي أَن الْإِيمَان قَول وَعمل يزِيد وَينْقص)
.
قَالَ النَّوَوِيّ: (وَالْأَظْهَر الْمُخْتَار: أَن
التَّصْدِيق يزِيد وَينْقص بِكَثْرَة النّظر ووضوح
الْأَدِلَّة، وَلِهَذَا كَانَ إِيمَان الصديقين أقوى من
إِيمَان غَيرهم، بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيه شُبْهَة،
وَيُؤَيِّدهُ: أَن كل أحد يعلم أَن مَا فِي قلبه [يتفاضل]
حَتَّى إِنَّه يكون فِي بعض الأحيان أعظم يَقِينا وإخلاصاً
وتوكلاً مِنْهُ فِي بَعْضهَا، وَكَذَلِكَ فِي التَّصْدِيق /
والمعرفة بِحَسب ظُهُور الْبَرَاهِين وَكَثْرَتهَا.
وَقد نقل مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي عَن جمَاعَة من
الْأَئِمَّة نَحْو
(2/522)
ذَلِك، قَالَه الْحَافِظ أَبُو الْفضل.
وَقَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": (هُوَ مَذْهَب الأشاعرة
والمعتزلة؛ لِأَن الْيَقِين يقبل التَّفَاوُت؛ لِأَنَّهُ
مَرَاتِب من أجلى البديهيات إِلَى خَفِي النظريات، وَكَون
التَّفَاوُت رَاجعا إِلَى مُجَرّد الْجلاء والخفاء غير مُسلم،
بل عِنْد الْحُضُور وَزَوَال التَّرَدُّد، التَّفَاوُت
[بِحَالهِ] ، وَكَفاك قَول الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام مَعَ مَا كَانَ لَهُ من التَّصْدِيق: {وَلَكِن
لِيَطمَئِن قلبِي} [الْبَقَرَة: 260] .
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: (لَو كشف الغطاء مَا ازدت
يَقِينا) . [وَلَو لم] يتَفَاوَت لَكَانَ إِيمَان آحَاد
الْأمة، بل المنهمكين فِي الْفسق، مُسَاوِيا لتصديق
الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة، وَاللَّازِم بَاطِل قطعا) .
وَقد وَردت النُّصُوص الْكَثِيرَة جدا بِزِيَادَة الْإِيمَان
ونقصانه، وَمَا قيل من الْأَجْوِبَة عَن ذَلِك فمردود، والأدلة
على ذَلِك كَثِيرَة، وَقد تقدم النَّقْل عَمَّن قَالَ بهَا.
(2/523)
وَذهب أَبُو حنيفَة، وَأَصْحَابه، وَكثير
من الْعلمَاء، وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: أَنه لَا
يزِيد وَلَا ينقص؛ لِأَنَّهُ اسْم للتصديق الْبَالِغ حد
الْجَزْم والإذعان، وَلَا تتَصَوَّر فِيهِ الزِّيَادَة
وَالنُّقْصَان، والمصدق إِذا ضم الطَّاعَات إِلَيْهِ، أَو
ارْتكب الْمعاصِي، فتصديقه بِحَالهِ لم يتَغَيَّر أصلا،
وَإِنَّمَا يتَفَاوَت إِذا كَانَ اسْما للطاعات المتفاوتة
قلَّة وَكَثْرَة، وَلِهَذَا قَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: (هَذَا
الْخلاف فرع تَفْسِير الْإِيمَان، فَإِن قُلْنَا: هُوَ
التَّصْدِيق فَلَا تفَاوت، وَإِن قُلْنَا: هُوَ الْأَعْمَال
فمتفاوت) .
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: (إِذا حملنَا الْإِيمَان على
التَّصْدِيق فَلَا يفضل تَصْدِيق تَصْدِيقًا، كَمَا لَا يفضل
علم علما، وَمن حمله على الطَّاعَة سرا وعلنا - وَقد مَال
إِلَيْهِ / القلانسي فَلَا يبعد إِطْلَاق القَوْل بِأَنَّهُ
يزِيد بِالطَّاعَةِ وَينْقص بالمعصية، وَنحن لَا نؤثر هَذَا) .
وَقَالَ الرَّازِيّ: (وَجه التَّوْفِيق: أَن مَا يدل على أَن
الْإِيمَان لَا يتَفَاوَت مَصْرُوف إِلَى أَصله، وَمَا يدل على
أَنه يتَفَاوَت مَصْرُوف إِلَى الْكَامِل مِنْهُ) .
فَائِدَة: قَالَ الإِمَام أَحْمد: (وَمن قَالَ: الْإِيمَان
مَخْلُوق، فقد كفر،
(2/524)
وَمن قَالَ: غير مَخْلُوق، ابتدع) .
وَقيل: بِالْوَقْفِ مُطلقًا، وَقيل: فِي الْأَفْعَال، وَقيل:
أَقْوَاله قديمَة وأفعاله مخلوقة، وَهُوَ أصح، ذكر ذَلِك كُله
ابْن أبي مُوسَى وَغَيره.
وَقيل: الْإِيمَان غير مَخْلُوق، وَفِي أَفعاله الْخلق،
وَعَدَمه، وَالْوَقْف عَنْهَا.
وَقيل: الْوَقْف فِي فعله، وتصديق الله نَفسه وَالْمُؤمنِينَ
بِكَلَام غير مَخْلُوق، وَكَذَا تِلَاوَة الْقُرْآن وَذكر الله
بِالتَّوْحِيدِ وَالثنَاء عَلَيْهِ غير مَخْلُوق،
وَالْأَفْعَال مخلوقة.
وَقيل: الْإِيمَان قديم من غير تَفْصِيل، وَلَيْسَ المُرَاد
الْعَمَل، نَقله ابْن حمدَان.
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: فِي الِاسْتِثْنَاء فِيهِ:
(2/525)
وَالصَّحِيح: أَنه يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء،
فَتَقول: أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله.
وَقد نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْأَئِمَّة،
كَالْإِمَامِ الشَّافِعِي، وَغَيره.
وَحكي عَن ابْن مَسْعُود: أَنه يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء،
فَيُقَال: أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَالَ ابْن عقيل: (يسْتَحبّ أَن يَقُول: أَنا مُؤمن إِن شَاءَ
الله، وَلَا يقطع لنَفسِهِ) .
(2/526)
وَمنعه كثير من الْعلمَاء، وَعَلِيهِ أَبُو
حنيفَة، وَأَصْحَابه.
قَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": (وَعَلِيهِ الْأَكْثَر؛ لِأَن
التَّصْدِيق أَمر مَعْلُوم لَا يتَرَدَّد فِيهِ عِنْد تحَققه،
وَمن تردد فِي تحَققه لم يكن مُؤمنا قطعا، وَإِذا لم يكن
الشَّك والتردد فَالْأولى أَن يتْرك، بل يَقُول: أَنا مُؤمن
حقاًدفعا للإيهام. قَالَ ابْن حمدَان: (وَلَا يكفر من قَالَ:
أَنا مُؤمن حَقًا، نَص عَلَيْهِ أَحْمد) .
وَقيل: يكره قَوْله ذَلِك.
وللقائلين بِالْأولِ وُجُوه.
الأول: أَنه للتبرك / بِذكر الله تَعَالَى، والتأدب بإحالة
الْأُمُور إِلَى مَشِيئَة الله تَعَالَى، والتبري من تَزْكِيَة
النَّفس والإعجاب بِحَالِهَا، والتردد فِي الْعَاقِبَة والمآل،
وَهَذَا يُفِيد مُجَرّد الصِّحَّة، لَا إِيثَار قَوْلهم: أَنا
مُؤمن إِن شَاءَ الله على أَنا مُؤمن حَقًا، وَلَا يدْفع مَا
ذكر من دفع الْإِيهَام، وَلَا يبين وَجه اخْتِصَاص التأدب
والتبرك بِالْإِيمَان دون غَيره من الطَّاعَات.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن التَّصْدِيق الإيماني المنوط بِهِ
النجَاة أَمر قلبِي خَفِي، لَهُ معارضات خُفْيَة كَثِيرَة من
الْهوى والشيطان والخذلان، فالمرء وَإِن كَانَ
(2/527)
جَازِمًا بحصوله، لَكِن لَا يُؤمن أَن
يشوبه شَيْء من منافيات النجَاة، وَلَا سِيمَا عِنْد تفاصيل
الْأَوَامِر والنواهي الصعبة، الْمُخَالفَة للهوى والمستلذات،
من غير علم لَهُ بذلك، فَلذَلِك يُفَوض حُصُوله إِلَى مَشِيئَة
الله.
وَهَذَا قريب، لَوْلَا مُخَالفَته لما يَدعِيهِ الْقَوْم من
الْإِجْمَاع، قَالَه فِي " شرح الْمَقَاصِد ".
الْوَجْه الثَّالِث: - مَا قَالَه إِمَام الْحَرَمَيْنِ -:
(أَن الْإِيمَان ثَابت فِي الْحَال قطعا من غير شكّ فِيهِ،
لَكِن الْإِيمَان الَّذِي هُوَ علم الْفَوْز وَآيَة النجَاة:
إِيمَان الموافاة، فاعتنى السّلف بِهِ وقرنوه بِالْمَشِيئَةِ،
وَلم يقصدوا الشَّك فِي الْإِيمَان الناجز) .
وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين: (النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
على ثَلَاثَة أَقْوَال، طرفان ووسط: مِنْهُم من يُوجِبهُ،
وَمِنْهُم من يحرمه، وَمِنْهُم من يُجِيزهُ بِاعْتِبَار ويمنعه
بِاعْتِبَار، وَهَذَا أصح الْأَقْوَال.
أما من يُوجِبهُ فَلهم مأخذان:
أَحدهمَا: أَن الْإِيمَان هُوَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ
الْإِنْسَان، وَالْإِنْسَان إِنَّمَا يكون عِنْد الله مُؤمنا
أَو كَافِرًا بِاعْتِبَار الموافاة، وَمَا سبق فِي علم الله
أَن يكون عَلَيْهِ، وَمَا قبل ذَلِك لَا عِبْرَة بِهِ،
وَالْإِيمَان الَّذِي يتعقبه الْكفْر فَيَمُوت صَاحبه كَافِرًا
لَيْسَ بِالْإِيمَان، كَالصَّلَاةِ الَّتِي أفسدها صَاحبهَا
قبل الْكَمَال، وَالصِّيَام الَّذِي يفْطر صَاحبه قبل
الْغُرُوب، وَهَذَا مَأْخَذ كثير من الْكلابِيَّة وَغَيرهم،
وَعند
(2/528)
هَؤُلَاءِ أَن الله يحب فِي الْأَزَل من
كَانَ كَافِرًا إِذا علم مِنْهُ أَن يَمُوت مُؤمنا، فالصحابة /
مازالوا محبوبين قبل إسْلَامهمْ، وإبليس وَمن ارْتَدَّ عَن
دينه مَا زَالَ الله يبغضه وَإِن كَانَ لم يكفر بعد.
[ورد] ذَلِك: بِأَن هَذَا لَيْسَ مُرَاد السّلف فِي
الِاسْتِثْنَاء.
ثمَّ صَار إِلَى هَذَا طَائِفَة غلوا فِيهِ، حَتَّى صَار الرجل
مِنْهُم يَسْتَثْنِي فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة يَقُول: صليت
إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَنَحْوه، يَعْنِي: الْقبُول، ثمَّ
صَار كثير يستثنون فِي كل شَيْء، فَيَقُول أحدهم: هَذَا ثوب
إِن شَاءَ الله تَعَالَى، هَذَا حَبل إِن شَاءَ الله، فَإِذا
قيل لَهُم: هَذَا لَا شكّ فِيهِ، يَقُولُونَ: نعم، لَكِن إِذا
شَاءَ الله أَن يُغَيِّرهُ غَيره.
المأخذ الثَّانِي: أَن الْإِيمَان الْمُطلق يتَضَمَّن فعل مَا
أَمر الله بِهِ عَبده كُله، وَترك مَا نَهَاهُ عَنهُ كُله،
فَإِذا قَالَ الرجل: أَنا مُؤمن بِهَذَا الإعتبار فقد شهد
لنَفسِهِ أَنه من الْأَبْرَار الْمُتَّقِينَ، القائمين
بِجَمِيعِ مَا أَمر بِهِ وَترك مَا نهى الله عَنهُ، فَيكون من
أَوْلِيَاء الله المقربين، وَهَذَا من تَزْكِيَة الْإِنْسَان
لنَفسِهِ وَلَو كَانَت هَذِه الشَّهَادَة صَحِيحَة؛ لَكَانَ
يَنْبَغِي أَن يشْهد لنَفسِهِ بِالْجنَّةِ إِن مَاتَ على هَذَا
الْحَال، وَهَذَا مَأْخَذ عَامَّة السّلف الَّذين كَانُوا
يستثنون، وَإِن جوزوا ترك الِاسْتِثْنَاء بِمَعْنى آخر.
ويحتجون أَيْضا -: بِجَوَاز الِاسْتِثْنَاء فِيمَا لَا شكّ
فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام
إِن شَاءَ الله} [الْفَتْح: 27] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين وقف على الْمَقَابِر: " وَإِنَّا
إِن شَاءَ الله بكم لاحقون ".
(2/529)
وَأما من يحرمه فَكل من جعل الْإِيمَان
شَيْئا وَاحِدًا، فَيَقُول: أَنا أعلم أَنِّي مُؤمن، كَمَا
أعلم أَنِّي تَكَلَّمت بِالشَّهَادَتَيْنِ، [فَقولِي: أَنا
مُؤمن] [كَقَوْلي] : أَنا مُسلم، فَمن اسْتثْنى فِي إيمَانه
فَهُوَ شَاك، فِيهِ، وَسموا الذيت يستثنون فِي إِيمَانهم:
الشكاكة.
وَأَجَابُوا عَن الِاسْتِثْنَاء الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى:
{لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين}
[الْفَتْح: 27] ، بِأَنَّهُ يعود إِلَى الْأَمْن وَالْخَوْف،
فَأَما الدُّخُول فَلَا شكّ فِيهِ، وَقيل: لتدخلن جميعكم أَو
بَعْضكُم؛ لِأَنَّهُ علم أَنه يَمُوت بَعضهم.
وَفِي الْجَواب نظر: فَإِنَّهُم وَقَعُوا فِيمَا فروا مِنْهُ،
فَأَما الْأَمْن وَالْخَوْف فقد أخبر أَنهم يدْخلُونَ آمِنين،
مَعَ علمه بذلك، فَلَا شكّ فِي الدُّخُول، وَلَا فِي الْأَمْن،
وَلَا فِي دُخُول الْجَمِيع أَو الْبَعْض، فَإِن الله تَعَالَى
قد علم من يدْخل، فَلَا شكّ فِيهِ أَيْضا، فَكَانَ قَول (إِن
شَاءَ الله) هُنَا / تَحْقِيقا للدخول، كَمَا
(2/530)
يَقُول الرجل فِيمَا عزم على أَن يَفْعَله
لَا محَالة: وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِن شَاءَ الله، لَا
يَقُولهَا لشك فِي إِرَادَته وعزمه.
وَأجِيب بِجَوَاب آخر لَا بَأْس بِهِ وَهُوَ: أَنه قَالَ ذَلِك
تَعْلِيما لنا كَيفَ نستثني إِذا أخبرنَا عَن مُسْتَقْبل،
وَكَون هَذَا مرَادا من النَّص فِيهِ نظر.
وَأما من يجوز الِاسْتِثْنَاء وَتَركه باعتبارين، فَهُوَ أسعد
بِالدَّلِيلِ من الْفَرِيقَيْنِ.
فَإِنَّهُ يَقُول: إِن أَرَادَ المستثني الشَّك فِي أصل
إيمَانه منع من الِاسْتِثْنَاء، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، وَإِن
أَرَادَ أَنه مُؤمن من الْمُؤمنِينَ الَّذين وَصفهم الله فِي
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر
الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم
إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ الَّذين يُقِيمُونَ
الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ أُولَئِكَ هم
الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} [الْأَنْفَال: 2 - 4] ، وَفِي قَوْله:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله
ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي
سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون} [الحجرات: 15] ،
فالاستثناء حِينَئِذٍ جَائِز، وَكَذَلِكَ من اسْتثْنى
وَأَرَادَ عدم علمه بالعاقبة، وَكَذَلِكَ من اسْتثْنى
تَعْلِيقا لِلْأَمْرِ بِمَشِيئَة الله تَعَالَى، لَا شكا فِي
إيمَانه) انْتهى.
قَالَ: وَهَذَا غَايَة مَا يكون من التَّحْقِيق.
تَنْبِيه: لَا يجوز الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِسْلَام، فَيَقُول:
أَنا مُسلم إِن شَاءَ الله
(2/531)
تَعَالَى، بل يجْزم بِهِ؛ قَالَه ابْن
حمدَان فِي " نِهَايَة الْمُبْتَدِئ ".
قَالَ: (وَقيل: يجوز إِن شرطنا فِيهِ الْعَمَل) انْتهى.
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة: الْإِيمَان هَل هُوَ مرادف
لِلْإِسْلَامِ، أَو مباين لَهُ، أَو بَينهمَا عُمُوم وخصوص من
وَجه؟
فِيهِ خلاف مَشْهُور، وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر
السّلف وَغَيرهم أَن بَينهمَا فرقا، وليسا بمتحدين، على مَا
يَأْتِي بَيَانه، وَيَأْتِي جمع ابْن رَجَب لذَلِك.
فَقَالَت الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم: هما مُتَرَادِفَانِ، وَقد
تقدم أَنهم قَالُوا: الْإِيمَان: فعل الْوَاجِبَات، لِأَنَّهَا
الدّين، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله
مُخلصين لَهُ الدّين} [الْبَيِّنَة: 5] ، وَالدّين:
الْإِسْلَام، لقَوْله تَعَالَى: {إِن الدّين عِنْد الله
الْإِسْلَام} [آل عمرَان: 19] ، وَالْإِسْلَام: الْإِيمَان،
لقبُول الْإِيمَان من مبتغيه، وَإِلَّا لم يقبل، لقَوْله الله
تَعَالَى: (وَمن يبتغ غير
(2/532)
الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} [آل
عمرَان: 85] ، ولصحة اسْتثِْنَاء الْمُسلم من الْمُؤمن فِي
قَوْله تَعَالَى: {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ
فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} [الذاريات: 35 -
36] .
وَأجِيب عَن ذَلِك: بالمعارضة بسلب الْإِيمَان وَإِثْبَات
الْإِسْلَام، فِي قَوْله تَعَالَى: {قل لم تؤمنوا وَلَكِن
قُولُوا أسلمنَا} [الحجرات: 14] ، وَقيل: كَانُوا منافقين،
وَالْإِسْلَام وَالدّين: الانقياد وَالْعَمَل الظَّاهِر،
وَالْإِيمَان شرعا: تَصْدِيق خَاص، وَبِأَن ذَلِك دين الْقيمَة
لَا يعود إِلَى مَا سبق، لِأَنَّهُ مُذَكّر وَمَا سبق كثير
مؤنث، وَالَّذِي ذَكرُوهُ فِي التَّفْسِير: وَذَلِكَ الَّذِي
أمروا بِهِ، أَو الدّين، وَبِأَنَّهُ لَا يلْزم من صدق
الْمُؤمن على الْمُسلم أَن الْإِسْلَام الْإِيمَان، وَإِنَّمَا
صَحَّ الِاسْتِثْنَاء؛ لِأَن الْبَيْت وَهُوَ لوط وابنتاه
كَانُوا مُؤمنين مُسلمين.
قَالَت الْمُعْتَزلَة: من دخل النَّار مخزى، لقَوْله تَعَالَى:
{إِنَّك من تدخل النَّار فقد أخزيته} [آل عمرَان: 192] ،
وَالْمُؤمن لَا يخزى لقَوْل الله تَعَالَى: {يَوْم لَا يخزي
الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه} [التَّحْرِيم: 8] .
رد: الخزي: [للمخلد] ، ثمَّ عَدمه للصحابة، أَو مُسْتَأْنف.
وَمن الدَّلِيل على أَن الْإِسْلَام غير الْإِيمَان سُؤال
جِبْرِيل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن
الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالْإِحْسَان، وَتَفْسِير كل وَاحِد
بِغَيْر مَا فسر بِهِ الآخر.
(2/533)
وَقد قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهُمَّ لَك أسلمت وَبِك آمَنت ".
وَقد قَالُوا فِيمَا تقدم: إِن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق
بِالْقَلْبِ، ثمَّ قَالُوا: الْإِيمَان وَالْإِسْلَام شَيْء
وَاحِد، فَيكون الْإِسْلَام هُوَ التَّصْدِيق، وَهَذَا لم
يقلهُ أحد من أهل اللُّغَة، وَإِنَّمَا هُوَ الانقياد
وَالطَّاعَة، وَفسّر الْإِسْلَام بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَة،
وَالْإِيمَان بالأصول الْخَمْسَة، فَلَيْسَ لنا إِذا جَمعنَا
بَينهمَا أَن نجيب بِغَيْر مَا أجَاب بِهِ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأما إِذا أفرد الْإِيمَان
فَإِنَّهُ يتَضَمَّن الْإِسْلَام، وَإِذا أفرد الْإِسْلَام
فَيكون مَعَ الْإِسْلَام مُؤمنا بِلَا نزاع، وَهل يكون مُسلما
وَلَا يُقَال لَهُ مُؤمن؟ فِيهِ خلاف.
قَالَ فِي: " نِهَايَة الْمُبْتَدِئ ": (كل مُؤمن مُسلم،
وَلَيْسَ كل مُسلم مُؤمنا) .
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الْإِيمَان غير الْإِسْلَام) .
(2/534)
وَقَالَ ابْن حَامِد: (عِنْدِي أَيْضا أَن
الْإِسْلَام شَرط القَوْل وَالْعَمَل وَالنِّيَّة، وَلَا يكون
بالْقَوْل دون الْعَمَل مُسلما) .
فَيكون كل مُسلم مُؤمنا عِنْده، وَأَقل الْعَمَل كَونه
مُصَليا. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ الْعَلامَة ابْن رَجَب كَمَا تقدم عَنهُ لما
ذكر التَّفْصِيل وَوجه الْجمع / بَين النُّصُوص الْوَارِدَة
فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، وَأَن السّلف قَالُوا:
الْإِيمَان عقد بالجنان ونطق بِاللِّسَانِ وَعمل بالأركان،
وَأَن أَحدهَا إِذا أطلق شَمل الآخر، وَإِذا قرن دلّ أَحدهمَا
على شَيْء من ذَلِك وَالْآخر على الْبَاقِي كَمَا تقدم قَالَ:
(وَبِهَذَا التَّفْصِيل يظْهر تَحْقِيق القَوْل فِي مَسْأَلَة
الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، هَل هما وَاحِد أَو مُخْتَلِفَانِ؟
فَإِن أهل السّنة والْحَدِيث مُخْتَلفُونَ فِي ذَلِك وصنفوا
فِيهِ.
فَمنهمْ من يَدعِي أَن جُمْهُور أهل السّنة على أَنَّهُمَا
شَيْء وَاحِد، مِنْهُم مُحَمَّد ابْن نصر الْمروزِي، وَابْن
عبد الْبر، وَرُوِيَ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ.
(2/535)
وَمِنْهُم من يَحْكِي عَن أهل السّنة
التَّفْرِيق بَينهمَا كَأبي بكر ابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيره.
وَنقل التَّفْرِيق بَينهمَا [عَن] كثير من السّلف مِنْهُم:
قَتَادَة، وَدَاوُد بن أبي هِنْد، وَأَبُو جَعْفَر الباقر،
وَالزهْرِيّ، وَحَمَّاد بن
(2/536)
زيد، وَابْن مهْدي، وَشريك، وَابْن أبي
ذِئْب،
(2/537)
وَأحمد بن حَنْبَل، وَأَبُو خَيْثَمَة،
وَيحيى بن معِين، على اخْتِلَاف بَينهم فِي صفة التَّفْرِيق.
قَالَ: وَبِهَذَا التَّفْصِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ يَزُول
الِاخْتِلَاف، فَيُقَال: إِذا أفرد كل مِنْهُمَا بِالذكر فَلَا
فرق بَينهمَا حِينَئِذٍ، وَإِن قرن بَين الإسمين فرق.
قَالَ: وَالتَّحْقِيق فِي الْفرق بَينهمَا: أَن الْإِيمَان:
هُوَ تَصْدِيق الْقلب وَإِقْرَاره ومعرفته، وَالْإِسْلَام:
هُوَ استسلام العَبْد لله وخضوعه وانقياده لَهُ، وَذَلِكَ يكون
بِالْعَمَلِ، وَهُوَ الدّين كَمَا سمى ذَلِك فِي كِتَابه "
الْإِسْلَام دينا "، وَفِي حَدِيث جِبْرِيل سمى الْإِسْلَام
وَالْإِيمَان وَالْإِحْسَان دينا، وَهَذَا أَيْضا مِمَّا يدل
على أَن الاسمين إِذا أفرد [أَحدهمَا] دخل فِيهِ الآخر،
وَإِنَّمَا
(2/538)
يفرق بَينهمَا حَيْثُ قرن أَحدهمَا
بِالْآخرِ.
فَيكون حِينَئِذٍ المُرَاد بِالْإِيمَان: جنس تَصْدِيق الْقلب،
وَبِالْإِسْلَامِ: جنس الْعَمَل، وَمن هُنَا قَالَ
الْمُحَقِّقُونَ: كل مُؤمن مُسلم، فَإِن من حقق الْإِيمَان
ورسخ فِي قلبه قَامَ بأعمال الْإِسْلَام، كَمَا قَالَ النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " [أَلا وَإِن] فِي
الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ
فسد الْجَسَد كُله أَلا وَهِي الْقلب "، فَلَا يتَحَقَّق
الْقلب / بِالْإِيمَان إِلَّا وسعت الْجَوَارِح فِي أَعمال
الْإِسْلَام، وَلَيْسَ كل مُسلم مُؤمنا، فَإِنَّهُ قد يكون
الْإِيمَان ضَعِيفا فَلَا يتَحَقَّق الْقلب بِهِ تحققاً تَاما
مَعَ عمل جوارحه بأعمال الْإِسْلَام، فَيكون مُسلما، وَلَيْسَ
بِمُؤْمِن الْإِيمَان التَّام، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن
الْأَعْرَاب.
وَكَذَلِكَ قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - لسعد بن أبي وَقاص لما قَالَ لَهُ: لم تعط فلَانا وَهُوَ
مُؤمن، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " أَو مُسلم ". انْتهى كَلَام ابْن رَجَب، وَقد أَجَاد
وأشفى الغصة، وَقد أطلنا الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
وَهِي أهل لذَلِك.
(2/539)
|