التحبير شرح التحرير في أصول الفقه

قَوْله: {فصل}

{الِاشْتِقَاق}

قَالَ أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن: (الِاشْتِقَاق من أشرف عُلُوم الْعَرَبيَّة، وأدقها وأنفعها، وأكثرها ردا إِلَى أَبْوَابهَا، أَلا ترى أَن مدَار علم التصريف فِي معرفَة الزَّائِد من الْأَصْلِيّ عَلَيْهِ) .
قَالَ السراج: (لَو [جمدت] المصادر وارتفع الِاشْتِقَاق من كل

(2/540)


كَلَام، لم تُوجد صفة لموصوف وَلَا فعل لفاعل.
قَالَ: وَجَمِيع النُّحَاة إِذا أَرَادوا أَن يعلمُوا الزَّائِد من الْأَصْلِيّ فِي الْكَلَام، نظرُوا فِي الِاشْتِقَاق) انْتهى.
وَهُوَ مَأْخُوذ من الشق، وَهُوَ الْقطع، وَهُوَ افتعال من قَوْلك: اشتققت كَذَا من كَذَا، أَي: اقتطعته مِنْهُ، وَمِنْه قَول الفرزدق:
(مُشْتَقَّة من رَسُول الله نبعته ... )

وَحكى ابْن الخشاب من أَصْحَابنَا وَغَيره فِي جَوَاز الِاشْتِقَاق فِي اللُّغَة ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن اللَّفْظ يَنْقَسِم إِلَى جامد ومشتق، وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر مِنْهُم: الْخَلِيل، وسيبويه،

(2/541)


والأصمعي، وَأَبُو عبيد، وقطرب، وَغَيرهم، وَالْعَمَل عَلَيْهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْأَلْفَاظ كلهَا جامدة، وَلَيْسَ [شَيْء] مِنْهَا مشتقاً من شَيْء، بل كلهَا مَوْضُوعَات، وَبِه قَالَ نفطويه، واسْمه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم.

(2/542)


لِأَنَّهُ كَانَ ظاهرياً من أَصْحَاب دَاوُد، فَلذَلِك جنح إِلَيْهِ وَاخْتَارَهُ، وَأَبُو بكر بن مقسم، نَقله عَنهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل، لكَون فِيهِ زَعَمُوا عُمُوما، فيشتق مَا يجوز اشتقاقه ويتجاوز إِلَى أَشْيَاء يبعد اشتقاقها أَو يَسْتَحِيل، فعلى هَذَا / التَّعْلِيل كَأَنَّهُمْ إِنَّمَا [منعُوا] من ذَلِك لِئَلَّا يتَجَاوَز الْحَد، حسماً للمادة، مَعَ جَوَازه وَعدم امْتِنَاعه.

(2/543)


وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْكل مُشْتَقّ، وتكلفوا للجامد اشتقاقاً، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن درسْتوَيْه والزجاج، وصنف كتاب ذكر فِيهِ اشتقاق جَمِيع الْأَشْيَاء، حَتَّى قَالَ ابْن جني: (الِاشْتِقَاق يَقع فِي الْحُرُوف، فَإِن نعم حرف جَوَاب، وَنعم وَالنَّعِيم والنعماء وَنَحْوهَا مُشْتَقَّة مِنْهُ) .
إِذا علم ذَلِك؛ فالاشتقاق ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَصْغَر، وأوسط، وأكبر، وسمى القَاضِي عضد الدّين الِاشْتِقَاق الْأَوْسَط مِنْهَا بالصغير، وَسَماهُ الكوراني بالكبير، وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح، وَيَأْتِي تفصيلها وأحكامها قَرِيبا.
قَوْله: {رد فرع إِلَى أصل لِمَعْنى جَمعهمَا خَاص فِي أصل الْوَضع بِالْأَصْلِ، قَالَه ابْن الخشاب، وَأولى مِنْهُ: رد لفظ إِلَى آخر لموافقته لَهُ [فِي] الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، ومناسبته فِي الْمَعْنى} .

(2/544)


اخْتلفت عباراتهم فِي حد الِاشْتِقَاق الْأَصْغَر فَإِنَّهُ هُوَ الْمَحْدُود على مَا يَأْتِي.
فَقَالَ ابْن الخشاب من أَصْحَابنَا: (هُوَ رد فرع إِلَى أصل لِمَعْنى جَمعهمَا، هُوَ خَاص فِي أصل الْوَضع بِالْأَصْلِ) .
وَقَالَ الرماني: (هُوَ اقتطاع فرع من أصل يَدُور مَعَه فِي تصاريفه) .
وَقَالَ الميداني: (هُوَ أَن تَجِد بَين اللَّفْظَيْنِ تنَاسبا فِي الْمَعْنى والتركيب، فَترد أَحدهمَا إِلَى الآخر) ، وَنَقله الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه، وارتضوه.

(2/545)


وَلَا شكّ أَن معنى الثَّلَاثَة [مُتَقَارب] ، لَكِن حد الميداني أولى لما سَنذكرُهُ، وَقد نقحه الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره، وَهُوَ الَّذِي ارتضيناه بعد تنقيحه.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (الِاشْتِقَاق يحد تَارَة بِاعْتِبَار الْعلم كَحَد الميداني، وَتارَة بِاعْتِبَار الْعَمَل، بِأَن نَأْخُذ من اللَّفْظ مَا يُنَاسِبه فِي التَّرْكِيب فنجعله دَالا على معنى يُنَاسب مَعْنَاهُ) انْتهى.
فَإِن قيل: إِطْلَاق اللَّفْظ يدْخل فِيهِ الْحَرْف، وَلَيْسَ بمشتق وَلَا مُشْتَقّ مِنْهُ.
قيل: لم يرد كل لفظ بل مُطلق لفظين، فَيحمل على الْمُمكن، فَهُوَ مُطلق لَا عَام، وَفِيه نظر؛ فَإِن مقَام الشَّرْح والتعريف يُنَافِي الْإِبْهَام.
وَالْمرَاد بالتناسب فِي التَّرْكِيب: الْمُوَافقَة فِي الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، احْتِرَاز من الزَّوَائِد، فَإِن التخالف فِيهَا لَا / يضر كنصر وناصر، وَخرج بِهَذَا الْقَيْد: اللفظان المترادفان، فَإِن أَحدهمَا وَإِن وَافق الآخر فِي الْمَعْنى، لكنه لم يُوَافقهُ فِي الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، كالبر والقمح، وَسَوَاء كَانَت الْأُصُول مَوْجُودَة لفظا أَو تَقْديرا، ليدْخل نَحْو: خف، من الْخَوْف، وكل، من الْأكل.

(2/546)


فقولنا: (رد لفظ إِلَى آخر) ، دخل فِيهِ الِاسْم وَالْفِعْل على كل مَذْهَب، فَإِن النُّحَاة اخْتلفُوا فِي الأَصْل، هَل هُوَ الْمصدر، أَو الْفِعْل، أَو كل وَاحِد مِنْهُمَا أصل بِنَفسِهِ؟
فَذهب البصريون: إِلَى أَن الْفِعْل وَالْوَصْف مُشْتَقّ من الْمصدر.
وَذهب الْكُوفِيُّونَ: إِلَى أَن الْمصدر وَالْوَصْف مُشْتَقّ من الْفِعْل.
وَذهب [ابْن] طَلْحَة: إِلَى أَن كلا من الْمصدر وَالْفِعْل أصل بِنَفسِهِ.
وَقيل غير ذَلِك، فقولنا: (رد لفظ إِلَى آخر) يَشْمَل كل مَذْهَب.
وَقَوْلنَا: (ومناسبته فِي الْمَعْنى) ، احْتِرَاز عَن مثل: اللَّحْم وَالْملح والحلم، فَإِن كلا [مِنْهَا] يُوَافق الآخر فِي حُرُوفه الْأَصْلِيَّة، وَمَعَ ذَلِك فَلَا اشتقاق [بَينهَا] ، لانْتِفَاء الْمُنَاسبَة فِي الْمَعْنى لقياس مدلولاتها.
وَأورد على هَذَا الْحَد أموراً:

(2/547)


أَحدهَا: المعدول والمصغر ليسَا مشتقين من المعدول عَنهُ والمكبر مَعَ صدق التَّعْرِيف عَلَيْهِمَا، فَلَا يكون الْحَد مَانِعا.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَنقض بتصغير المصادر وتثنيتها) انْتهى.
وَيرد هَذَا أَيْضا على الحدين الآخرين.
وَجَوَابه: أَن التناسب فِي الْمَعْنى يَقْتَضِي أَن مَعْنَاهُمَا لَيْسَ متحداً من كل وَجه، وَهَذَانِ متحدان فِي الْمَعْنى من كل وَجه.
الثَّانِي: أَن الْحَد يَقْتَضِي أَن الِاشْتِقَاق فعل الْمُتَكَلّم، لِأَنَّهُ قَالَ: رد أَحدهمَا إِلَى الآخر، وَلَكِن هَذَا إِنَّمَا هُوَ لواضع اللُّغَة، وَنحن إِنَّمَا نستدل بأمارات استقرائية على وُقُوع ذَلِك مِنْهُ.
وَيرد - أَيْضا ذَلِك على الحَدِيث.
وَجَوَابه يُؤْخَذ مِمَّا يَأْتِي فِي جَوَاب الَّذِي يعده.
الثَّالِث: أَن قَول الميداني: (أَن تَجِد) ، يَقْتَضِي أَن الِاشْتِقَاق هُوَ الوجدان، وَلَيْسَ كَذَلِك إِنَّمَا الِاشْتِقَاق الرَّد عِنْد الوجدان، لَا نفس الوجدان، وَبِهَذَا الِاعْتِبَار فحد الآخرين أولى لسلامتهما من ذَلِك. /
وَجَوَابه مُتَوَقف على معرفَة المُرَاد بِالرَّدِّ فِي قَوْله: (فَيرد) ، فَإِن أَرَادَ: اقتطاع لفظ من لفظ، فَالثَّانِي هُوَ الْمَرْدُود إِلَيْهِ، وَالْمعْنَى: أَنه حول من الأول إِلَى الثَّانِي حَتَّى صَار كَذَلِك، فالرد حِينَئِذٍ عَمَلي، وَحِينَئِذٍ فالإيراد مُتَوَجّه.
وَإِن أَرَادَ بِالرَّدِّ: الِاعْتِبَار وَالْعلم، فَيكون الثَّانِي مردوداً للْأولِ، بِمَعْنى اعْتِبَار أَنه قد أَخذ مِنْهُ، فالرد حِينَئِذٍ علمي لَا عَمَلي، وَلَا إِيرَاد حِينَئِذٍ عَلَيْهِ لَا بِهَذَا وَلَا بِالَّذِي قبله فِي الْإِيرَاد الثَّانِي، فَإِن وجدان التناسب الْمَذْكُور

(2/548)


وَهُوَ الِاشْتِقَاق، أَي: معرفَة أَن الثَّانِي مَأْخُوذ من الأول، لمعْرِفَة مَا بَينهمَا من التناسب المشروح.
وَيرد على حد ابْن الخشاب: كَون فِيهِ إِبْهَام فِي قَوْله: (رد فرع إِلَى أصل) ، وَكَذَا حد الرماني، لَكِن فِيهِ إِشَارَة إِلَى الْمَقْصُود فِي قَوْله: (فِي تصاريفه) ، وحد الميداني سَالم من ذَلِك من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
إِذا علم ذَلِك؛ فللاشتقاق أَرْبَعَة أَرْكَان: الأول: الْمُشْتَقّ، وَالثَّانِي: الْمُشْتَقّ مِنْهُ، وَالثَّالِث: الْمُوَافقَة فِي الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، وَتقدم الِاحْتِرَاز بِهِ، وَالرَّابِع: يُؤْخَذ من التناسب وَمن الْمُشْتَقّ مِنْهُ.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (قَوْله: ومناسبة الْمَعْنى، هُوَ من تَتِمَّة الرُّكْن الرَّابِع) .
وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: (يُؤْخَذ الرُّكْن الرَّابِع من الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الْمُشْتَقّ مِنْهُ وَهُوَ " التَّغْيِير "، لِأَنَّهُ لَو انْتَفَى التَّغْيِير بَينهمَا لم يصدق أَنه لفظ آخر بل هُوَ هُوَ، فعدوا الْأَركان: الْمُشْتَقّ، والمشتق مِنْهُ، والموافقة فِي الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، والمناسبة فِي الْمَعْنى، والتغيير) انْتهى.
لَكِن ذكر التَّغْيِير بعد تَمام الْحَد يدل على أَنه لَيْسَ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ

(2/549)


الْعَضُد: (وَلذَلِك لم يَجعله من ذكره قيدا فِي الْحَد بل قَالَ بعد تَمَامه: وَلَا بُد من تَغْيِير) انْتهى.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا وَأَظنهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين -: (إِذا قيل: هَذَا مُشْتَقّ من هَذَا، فَلهُ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: أَن بَينهمَا تنَاسبا لفظا وَمعنى، تكلم أهل اللُّغَة بِهَذَا بعد هَذَا وَقَبله فَكل / مِنْهُمَا مُشْتَقّ من الآخر، وَالْفِعْل مُشْتَقّ من الْمصدر وَعَكسه.
وَالْمعْنَى الثَّانِي: كَون أَحدهمَا أصلا للْآخر.
فَإِن عني بِهِ التَّكَلُّم بِأَحَدِهِمَا قبل الآخر، لم يقم على هَذَا دَلِيل فِي أَكثر الْمَوَاضِع، وَإِن عني بِهِ سبق أَحدهمَا عقلا لكَونه مُفردا وَهَذَا مركبا فالفعل مُشْتَقّ من الْمصدر) انْتهى.
قَوْله: {وَلَا بُد من تَغْيِير} .
هَذَا هُوَ الرُّكْن الرَّابِع على مَا قيل كَمَا تقدم، والتغيير خَمْسَة عشر نوعا، وَذَلِكَ إِمَّا بِزِيَادَة حرف، أَو حَرَكَة، أَو هما مَعًا، أَو نُقْصَان حرف،

(2/550)


أَو حَرَكَة، أَو هما مَعًا، أَو زِيَادَة حرف ونقصانه، أَو زِيَادَة حَرَكَة ونقصانها، أَو زِيَادَة حرف ونقصان حَرَكَة، أَو زِيَادَة حَرَكَة ونقصان حرف، عكس الَّذِي قبله، أَو زِيَادَة حرف مَعَ زِيَادَة حَرَكَة ونقصانها، أَو زِيَادَة حَرَكَة مَعَ زِيَادَة حرف ونقصانه، عكس الَّذِي قبله، أَو نُقْصَان حرف مَعَ زِيَادَة حَرَكَة ونقصانها، أَو نُقْصَان حَرَكَة مَعَ زِيَادَة حرف ونقصانه، أَو زِيَادَة حرف ونقصانه وَزِيَادَة حَرَكَة ونقصانها.
لِأَن التَّغْيِير؛ إِمَّا تَغْيِير وَاحِد، أَو تغييران، أَو ثَلَاثَة، أَو أَرْبَعَة.
فالتغيير الْوَاحِد فِي أَرْبَعَة أَمَاكِن:
فَالْأول: زِيَادَة حرف، نَحْو: كَاذِب، من الْكَذِب، زيدت الْألف بعد الْكَاف.
وَالثَّانِي: زِيَادَة حَرَكَة، نَحْو: نصر، مَاض من النَّصْر.
وَالثَّالِث: نُقْصَان حرف، كصهل من الصهيل، نقصت الْيَاء.
الرَّابِع: نُقْصَان الْحَرَكَة، كسفر بِسُكُون الْفَاء، جمع سَافر اسْم فَاعل من سفر.
وَفَسرهُ بَعضهم بِضَرْب مصدر.
قلت: يبْقى كالثاني بِاعْتِبَار.
وَأما التغييران فستة أَنْوَاع:
الأول: زِيَادَة حرف ونقصانه، كصاهل من الصهيل، زيدت الْألف وَنقص الْيَاء.

(2/551)


الثَّانِي: زِيَادَة الْحَرَكَة والحرف، كضارب من الضَّرْب، زيدت الْألف وحركة الرَّاء.
الثَّالِث: نُقْصَان الْحَرَكَة والحرف، كغلى من الغليان، نقصت الْألف وَالنُّون، ونقصت فَتْحة الْيَاء / وَفِي الِاعْتِدَاد بِسُكُون الْيَاء نظر، ومثلوه - أَيْضا بصب، من الصبابة.
الرَّابِع: زِيَادَة الْحَرَكَة ونقصانها، نَحْو: حذر، اسْم فَاعل من الحذر - بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة حذفت فَتْحة الذَّال وزيدت كسرتها.
الْخَامِس: زِيَادَة الْحَرْف ونقصان الْحَرَكَة، كعاد بتَشْديد الدَّال اسْم فَاعل من الْعدَد، زيدت الْألف، ونقصت حَرَكَة الدَّال.
السَّادِس: زِيَادَة حَرَكَة ونقصان حرف، كثبت من الثَّبَات، نقصت الْألف، وزيدت حَرَكَة وَهِي الْفَتْح على [التَّاء] ، وَلَا يَسْتَقِيم إِلَّا إِذا جعل الْبناء الطَّارِئ من سُكُون أَو حَرَكَة كزيادة على مَا كَانَ من الْمصدر، وَالْأولَى التَّمْثِيل برجع من الرَّجْعِيّ.
وَأما التغييرات [الثَّلَاثَة] فَفِي أَرْبَعَة أَنْوَاع:

(2/552)


الأول: زِيَادَة الْحَرْف مَعَ زِيَادَة الْحَرَكَة ونقصانها، كموعد من الْوَعْد زيدت الْمِيم وكسرة الْعين، وَنقص مِنْهُ فَتْحة الْوَاو.
الثَّانِي: زِيَادَة الْحَرَكَة مَعَ زِيَادَة الْحَرْف ونقصانه، كمكمل اسْم فَاعل أَو مفعول من الْكَمَال، زيدت فِيهِ الْمِيم [وضمتها] ونقصت الْألف.
الثَّالِث: نُقْصَان حرف مَعَ زِيَادَة حَرَكَة ونقصانها، كقنط اسْم فَاعل من الْقنُوط.
الرَّابِع: نُقْصَان الْحَرَكَة مَعَ زِيَادَة الْحَرْف ونقصانه، ك (كال) بتَشْديد اللَّام اسْم فَاعل من الكلال، نقصت حَرَكَة اللَّام الأولى للإدغام، ونقصت الْألف الَّتِي بَين اللامين، وزيدت الْألف قبل يَوْمَيْنِ.
وَأما التغييرات [الْأَرْبَعَة] فَفِي مَوضِع وَاحِد، وَهُوَ زِيَادَة الْحَرْف وَالْحَرَكَة مَعًا، [ونقصانهما] مَعًا، ككامل من الْكَمَال، ومثلوه أَيْضا بارم، أَمر من الرَّمْي وَالله أعلم.

(2/553)


قَوْله: {وَلَو تَقْديرا} .
التَّغْيِير تَارَة يكون ظَاهرا، وَتارَة يكون مُقَدرا لَا يظْهر، فَالظَّاهِر / تقدّمت أمثلته، والمقدر كفلك وجنب، مُفردا وجمعاً، فَإِذا أُرِيد الْجمع فِي الْفلك يؤنث، وَفِي الْوَاحِد يذكر.
فالواحد كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِذْ أبق إِلَى الْفلك المشحون} [الصافات: 140] ، وَالْجمع كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم} [يُونُس: 22] ، {والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر} [الْبَقَرَة: 164] ، وَطلب طلبا، وهرب هرباً، وجلب جلباً، وَنَحْوهَا، فالتغيير حَاصِل، وَلكنه تَقْديرا، فَيقدر حذف الفتحة الَّتِي فِي آخر الْمصدر والإتيان بفتحة أُخْرَى فِي آخر الْفِعْل، والفتحة غير الفتحة، وَيدل على التغاير: أَن أَحدهمَا لعامل، وَالْأُخْرَى لغير عَامل.
وَقد ذكر سِيبَوَيْهٍ ذَلِك فِي جنب، فَإِنَّهُ قدر زَوَال النُّون الَّتِي هِيَ حَال إِطْلَاقه على الْمُفْرد، كَقَوْلِك: رجل جنب، والإتيان بغَيْرهَا حَال [إِطْلَاقه] على الْجمع، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا} [الْمَائِدَة: 6] ، وَأَن ضمة النُّون فِي الْمُفْرد، غير ضمة النُّون فِي الْجمع تَقْديرا.

(2/554)


قَوْله: { [و] الْمُشْتَقّ: فرع وَافق أصلا بِحُرُوفِهِ الْأُصُول وَمَعْنَاهُ} .
حد جمَاعَة الْمُشْتَقّ فَقَط، وَهُوَ يدل على الِاشْتِقَاق، وحد جمَاعَة الِاشْتِقَاق، وَهُوَ الأَصْل، وَيدل على الْمُشْتَقّ والمشتق مِنْهُ، وَحدهمَا جمَاعَة مِنْهُم: ابْن قَاضِي الْجَبَل، والبرماوي، وَغَيرهمَا، وتبعتهم؛ لِأَن الِاشْتِقَاق غير الْمُشْتَقّ والمشتق مِنْهُ؛ لِأَن الِاشْتِقَاق فعل يُوجد من فَاعله، والمشتق اسْم مفعول فَلَا بُد لَهُ من فَاعل، لكنه يدل عَلَيْهِ وجمعهما أوضح.
فالمشتق: هُوَ الْمُوَافق لكلمة أُخْرَى بحروف الأَصْل وَالْمعْنَى.
وَقَوْلنَا: (بِحُرُوفِهِ الْأُصُول) ، لتخرج الْكَلِمَات الَّتِي توَافق أصلا بِمَعْنَاهُ لَا بِحُرُوفِهِ الْأُصُول، كالحبس وَالْمَنْع.
وَقَوْلنَا: (وَمَعْنَاهُ) ، ليحترز بِهِ عَن مثل (الذَّهَب) فَإِنَّهُ يُوَافق أصلا وَهُوَ الذّهاب فِي حُرُوفه الْأُصُول، وَلَكِن غير مُوَافق فِي مَعْنَاهُ، وَتقدم ذَلِك فِي قيود الِاشْتِقَاق، وَتقدم أَيْضا أَن اشْتِرَاط اتِّحَاد الْمَعْنى يخرج نَحْو: لحم وملح وحلم، فَلَيْسَ بَعْضهَا مشتقاً من بعض أصلا.
قَوْله: {والأصغر مِنْهُ: اتِّفَاق / اللَّفْظَيْنِ فِي الْحُرُوف وَالتَّرْتِيب، كنصر من النَّصْر [مَعَ وجود الْمَعْنى كَمَا تقدم] وَهُوَ الْمَحْدُود} .

(2/555)


وَهَذَا المُرَاد حَيْثُ أطْلقُوا الِاشْتِقَاق فِي الْغَالِب، وَإِذا أَرَادوا غَيره قيدوه بالأوسط أَو غَيره على قدر مَا اصْطَلحُوا عَلَيْهِ.
قَوْله: {والأوسط: فِي الْحُرُوف فَقَط [مَعَ وجود الْمَعْنى] كجبذ من الجذب} .
وَسَماهُ القَاضِي عضد الدّين: الصَّغِير، وَسَماهُ الكوراني: الْكَبِير.
وَهُوَ: اتِّفَاق اللَّفْظَيْنِ فِي الْحُرُوف فَقَط، أَعنِي: دون ترتيبها كَمَا مثلنَا فَإِن حُرُوف (جبذ) و (جذب) متفقة الْحُرُوف وَالْمعْنَى، لَكِنَّهَا غير مرتبَة لتقديم الْبَاء على الذَّال فِي الأول، وَتَقْدِيم الذَّال على الْبَاء فِي الثَّانِي.
وَقَالَ الْعَضُد وَغَيره: (يعْتَبر فِي الْأَصْغَر مُوَافَقَته فِي الْمَعْنى، وَفِي الآخرين مناسبته) .
قَوْله: {والأكبر: فِي [الْمخْرج] كحروف الْحلق والشفة، [كنعق] وثلم، من النهيق والثلب، وَلم يُثبتهُ الْأَكْثَر} .
الِاشْتِقَاق الْأَكْبَر علامته: اتِّفَاق اللَّفْظَيْنِ فِي الْمخْرج، لَا فِي التَّرْتِيب بل فِي النَّوْع، كاتفاقهما فِي حُرُوف الْحلق أَو حُرُوف الشّفة، كنهق من النعيق،

(2/556)


أَو عَكسه، وثلم وثلب، فَإِن الْهَاء وَالْعين من حُرُوف الْحلق، وَالْمِيم وَالْبَاء من حُرُوف الشّفة.
وَبَعْضهمْ يَقُول: (اتِّفَاق اللَّفْظَيْنِ فِي بعض الْحُرُوف) .
وَبَعْضهمْ يَقُول: (الْمُسَاوَاة فِي أَكثر الْأُصُول) .
وَمن هَذَا قَول الْفُقَهَاء: الضَّمَان مُشْتَقّ من الضَّم؛ لِأَنَّهُ ضم ذمَّة إِلَى أُخْرَى، فَلَا يعْتَرض بِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي بعض الْأُصُول؛ لِأَن النُّون لَيست فِي الضَّم، وَالضَّمان لَيْسَ مُتحد الْعين وَاللَّام بِخِلَاف الضَّم، وَهَذَا عَلَيْهِ أَكثر الْأَصْحَاب؛ أَعنِي: أَنه مُشْتَقّ من الضَّم والانضمام.
قَالَ أَبُو حَيَّان: (وَلم يقل بِهِ يَعْنِي: بالاشتقاق الْأَكْبَر من النُّحَاة إِلَّا أَبُو الْفَتْح، وَالصَّحِيح أَنه غير معول عَلَيْهِ لعدم اطراده) انْتهى.

(2/557)


وَلذَلِك قُلْنَا: (وَلم يُثبتهُ الْأَكْثَر) .
قيل: (وَقَالَ بِهِ ابْن فَارس، وَبنى عَلَيْهِ / كِتَابه المقاييس فِي اللُّغَة) .
قلت: الصَّحِيح أَن الضَّمَان مُشْتَقّ من التضمن؛ لِأَن ذمَّة الضَّامِن تَتَضَمَّن الْحق، قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، وَاخْتَارَهُ ابْن أبي الْفَتْح وَغَيره، وَقَالَ ابْن عقيل: (مَأْخُوذ من الضمن، فَتَصِير ذمَّة الضَّامِن فِي ضمن ذمَّة الْمَضْمُون عَنهُ) .
قَوْله: {ويطرد كاسم فَاعل وَنَحْوه، وَقد يخْتَص كالقارورة} .
الْمُشْتَقّ يطرد إِطْلَاقه كثيرا على جَمِيع مدلولاته، كاسم الْفَاعِل، وَاسم الْمَفْعُول، وَالصّفة المشبهة، وأفعل التَّفْضِيل، وَاسم الْمَكَان، وَالزَّمَان، والآلة، فَإِن الضَّارِب يُطلق على كل من ثَبت لَهُ الضَّرْب، وَكَذَلِكَ الْمَضْرُوب، وَالْحسن الْوَجْه، وَغَيرهَا، وَقد لَا يطرد كالقارورة، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّة

(2/558)


بالزجاجة، وَإِن كَانَت مَأْخُوذَة من القر فِي الشَّيْء، وَلم يعدوها إِلَى كل مَا يقر فِيهِ الشَّيْء من خشب أَو خزف أَو غير ذَلِك، وكالدبران منزلَة الْقَمَر، وَإِن كَانَ من الدبور، فَلَا يُطلق على كل مَا هُوَ مَوْصُوف بالدبور، بل يخْتَص بِمَجْمُوع خَمْسَة كواكب من الثور، يُقَال: إِنَّه سنامه، وَهُوَ الْمنزل الرَّابِع من منَازِل الْقَمَر المعاقب للثريا، وَكَذَلِكَ العيوق، والسماك، قَالَه الْعَضُد.
وَكَانَ عدم الاطراد لكَون التَّسْمِيَة لَا بِهَذَا الْمَعْنى فَقَط، بل لمصاحبته لَهُ، وَفرق بَين تَسْمِيَة الْعين لوُجُود الْمُشْتَقّ مِنْهُ فِيهِ وَهُوَ الاطرادي، أَو بِوُجُودِهِ فِيهِ وَهُوَ مَا لَا يطرد.
قَوْله: {وإطلاقه قبل وجود الصّفة الْمُشْتَقّ مِنْهَا مجَاز، وَحكي إِجْمَاعًا إِن أُرِيد الْفِعْل، [وَإِن أُرِيد] الصّفة كسيف قطوع وَنَحْوه فحقيقة، قَالَه القَاضِي وَغَيره، وَقيل: مجَاز} .

(2/559)


إِطْلَاق الْمُشْتَقّ قبل وجود الصّفة الْمُشْتَقّ مِنْهَا مجَاز، وَذكره جمَاعَة إِجْمَاعًا، وَحَكَاهُ ابْن الْحَاجِب وَجَمَاعَة اتِّفَاقًا، لَكِن قَالَ ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله: (وَلَعَلَّ المُرَاد: إِذا أُرِيد الْفِعْل، كَقَوْلِنَا مثلا: زيد ضَارب، قبل وجود الضَّرْب مِنْهُ.
فَإِن أُرِيد الصّفة المشبهة باسم الْفَاعِل، كَقَوْلِهِم: سيف قطوع، وخبز مشبع، وَمَاء مرو، وخمر مُسكر، فَقَالَ القَاضِي وَغَيره: هُوَ حَقِيقَة / لعدم صِحَة النَّفْي.
وَقيل: مجَاز) ، كَغَيْرِهِ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام من لم يُقيد الْمَسْأَلَة.
وحكاية الْإِجْمَاع فِي أصل الْمَسْأَلَة قَالَ بَعضهم: (فِيهِ نظر؛ فَإِن أَبَا حنيفَة قَالَ فِي حَدِيث: " المتابعين بِالْخِيَارِ ": إنَّهُمَا المتساومان،

(2/560)


سميا متبايعين لأخذهما فِي مبادئ البيع، وسيصيران متبايعين.
فَرده الشَّافِعِي: بِأَنَّهُ يَصح نَفْيه، وَهُوَ دَلِيل الْمجَاز، فَلَا يحمل الحَدِيث عَلَيْهِ) .
قَوْله: {فَأَما [صِفَات الله تَعَالَى] فقديمة، وَهِي حَقِيقَة عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه وَأكْثر أهل السّنة، وَمذهب الْمُعْتَزلَة [حدوثها] ، والأشعرية حُدُوث صِفَات الْفِعْل} .
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (اخْتلفُوا هَل

(2/561)


صفة الْفِعْل قديمَة أَو حَادِثَة؟ فَقَالَ جمَاعَة من السّلف مِنْهُم أَبُو حنيفَة: هِيَ قديمَة. - قلت: وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد وَأَصْحَابه وَأكْثر السّلف، كَمَا نَقله ابْن مُفْلِح.
قَالَ -: وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم: ابْن كلاب، والأشعري: هِيَ حَادِثَة لِئَلَّا يكون الْمَخْلُوق قَدِيما.
وَأجَاب الأول: بِأَنَّهُ يُوجد فِي الْأَزَل صفة الْخلق وَلَا مَخْلُوق.
فَأجَاب الْأَشْعَرِيّ: بِأَنَّهُ لَا يكون خلق وَلَا مَخْلُوق، كَمَا لَا يكون ضَارب وَلَا مَضْرُوب.
فألزموه بحدوث صِفَاته، فَيلْزم حُلُول الحوداث بِاللَّه.
فَأجَاب: بِأَن هَذِه الصِّفَات لَا تحدث فِي الذَّات شَيْئا جَدِيدا.
فتعقب: بِأَنَّهُ يلْزم أَن لَا يُسمى فِي الْأَزَل خَالِقًا وَلَا رازقاً، وَكَلَام الله قديم، وَقد ثَبت فِيهِ أَنه الْخَالِق الرازق.

(2/562)


فانفصل بعض الأشعرية: بِأَن إِطْلَاق ذَلِك إِنَّمَا هُوَ بطرِيق الْمجَاز، وَلَيْسَ المُرَاد بِعَدَمِ التَّسْمِيَة عدمهَا بطرِيق الْحَقِيقَة.
وَلم يرتضه بَعضهم بل قَالَ وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الْأَشْعَرِيّ نَفسه -: إِن الْأَسَامِي جَارِيَة مجْرى الْأَعْلَام، وَالْعلم لَيْسَ بِحَقِيقَة وَلَا مجَاز فِي اللُّغَة، وَأما فِي الشَّرْع؛ فَلفظ الْخَالِق والرازق صَادِق عَلَيْهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّة، والبحث إِنَّمَا هُوَ فِيهَا، لَا فِي الْحَقِيقَة / اللُّغَوِيَّة، فألزموه بتجويز إِطْلَاق اسْم الْفَاعِل على من لم يقم بِهِ الْفِعْل.
فَأجَاب: بِأَن الْإِطْلَاق هُنَا شَرْعِي لَا لغَوِيّ) انْتهى كَلَام الْحَافِظ.
وَقَالَ: (تصرف البُخَارِيّ فِي هَذَا الْموضع يَقْتَضِي مُوَافقَة القَوْل الأول، والصائر إِلَيْهِ يسلم من الْوُقُوع فِي مَسْأَلَة حوداث لَا أول لَهَا) .
وَأما الْمُعْتَزلَة فَقَالُوا: صِفَات الله الذاتية والفعلية حَادِثَة، وَلم يثبتوا لَهُ تَعَالَى صفة من الصِّفَات، بل أولُوا كل مَا ورد، فَقَالُوا: هَذِه الصِّفَات إِمَّا أَن تكون حَادِثَة، فَيلْزم قيام الْحَوَادِث بِذَاتِهِ، وخلوه فِي الْأَزَل عَن الْعلم وَالْقُدْرَة والحياة وَغَيرهَا من الكمالات، وصدورها عَنهُ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَار، أَو بشرائط حَادِثَة لَا بداية لَهَا، وَالْكل بَاطِل بالِاتِّفَاقِ.
وَإِمَّا أَن تكون قديمَة، فَيلْزم تعدد القدماء، وَهُوَ كفر بِإِجْمَاع الْمُسلمين، وَقد كفرت النَّصَارَى بِزِيَادَة قديمين، فَكيف بِالْأَكْثَرِ؟

(2/563)


هَذَا كَلَامهم؛ وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَنا لَا نسلم تغاير الذَّات مَعَ الصِّفَات، وَلَا الصِّفَات بَعْضهَا مَعَ الْبَعْض ليثبت التَّعَدُّد، فَإِن الغيرين هما اللَّذَان يُمكن انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر بمَكَان أَو زمَان، أَو بِوُجُود وَعدم، أَو هما ذاتان لَيست إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، وتفسيرهما بالشيئين أَو الْمَوْجُودين أَو الِاثْنَيْنِ فَاسد؛ لِأَن الْغَيْر من الْأَسْمَاء الإضافية، وَلَا إِشْعَار فِي هَذَا التَّفْسِير بذلك، قَالَه فِي " شرح الْمَقَاصِد ".
وَسَيَأْتِي بذلك إِلْمَام فِي شرح قَوْلنَا: (شَرط الْمُشْتَقّ صدق أَصله) .
قَوْله: {وَحَال وجود الصّفة حَقِيقَة إِجْمَاعًا} .
كَقَوْلِنَا: لمن يضْرب فِي تِلْكَ الْحَال: ضَارب، فَهَذَا حَقِيقَة إِجْمَاعًا، وَسَيَأْتِي مَتى تكون حَقِيقَة فِي الْكَلَام على المصادر السيالة.
لَكِن قَالَ أَبُو الْحسن البعلي الْحَنْبَلِيّ فِي كِتَابه فِي " الْأُصُول " وَهُوَ من الْمُتَأَخِّرين -: (وَالْمرَاد حَال التَّلَبُّس، لَا حَال النُّطْق، قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب، / وَغَيرهمَا) .

(2/564)


قلت: وَفِيه نظر؛ لِأَن مَحل الْإِجْمَاع فِي كَونه حَقِيقَة حَال وجود الصّفة، وَهُوَ الضَّرْب مثلا، فَقَوله: المُرَاد حَال التَّلَبُّس لَا النُّطْق، غير سديد؛ لِأَن [حَال] النُّطْق غير دَاخل فِي الْمَسْأَلَة حَتَّى يبين المُرَاد، بل وَلَا يُوجد صفة لمُجَرّد النُّطْق، فَالصَّوَاب حذف ذَلِك، وَلِهَذَا لم أذكرهُ فِي الْمَتْن، وَلَا رَأَيْت من ذكره غَيره، وَالَّذِي يظْهر أَنه تَابع التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " فَإِنَّهُ قَالَ: (وَمن ثمَّ كَانَ اسْم الْفَاعِل حَقِيقَة فِي الْحَال، أَي حَال التَّلَبُّس لَا النُّطْق خلافًا للقرافي) .
وَسَيَأْتِي الْكَلَام على مَسْأَلَة الْقَرَافِيّ وَالرَّدّ عَلَيْهِ قَرِيبا.
وَقد قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (مُقْتَضى عبارَة المُصَنّف: أَن الْقَرَافِيّ اعْتبر حَال النُّطْق، وَلَيْسَ ذَلِك وافياً بقوله) ، وَذكر كَلَام الْقَرَافِيّ.
قَوْله: {وَبعد انْقِضَائِهَا [مجَاز عِنْد القَاضِي وَابْن عقيل وَالْحَنَفِيَّة والرازي وَأَتْبَاعه، وَعند ابْن حمدَان وَغَيره، وَحكي عَن الْأَكْثَر: حَقِيقَة: وَاخْتَارَهُ أَبُو الطّيب عقب الْفِعْل] ، وَقَالَ [القَاضِي] أَيْضا - وَأَبُو الْخطاب [وَجمع] : إِن لم يكن بَقَاء الْمَعْنى كالمصادر السيالة كَالْكَلَامِ وَنَحْوه

(2/565)


فحقيقة، وَإِلَّا فمجاز، كالقيام وَنَحْوه} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي إِطْلَاق الِاسْم الْمُشْتَقّ بعد انْقِضَاء الصّفة، هَل هُوَ حَقِيقَة أم لَا؟
فَذهب القَاضِي أَبُو يعلى من أَئِمَّة أَصْحَابنَا وَابْن عقيل، وَالْحَنَفِيَّة، والرازي، وَأَتْبَاعه: أَنه مجَاز بِاعْتِبَار مَا كَانَ، ويعبر عَنهُ بِاشْتِرَاط بَقَاء الْمُشْتَقّ مِنْهُ فِي صدق الْمُشْتَقّ حَقِيقَة، سَوَاء كَانَ الْمُشْتَقّ مِمَّا يُمكن حُصُوله بِتَمَامِهِ وَقت الْإِطْلَاق، كالقيام وَالْقعُود وَنَحْوهمَا، فَيُقَال: قَائِم وقاعد، أَو لَا يُمكن، كَمَا لَو كَانَ فِي الْأَعْرَاض السيالة كَالْكَلَامِ والتحرك، فَيُقَال: مُتَكَلم ومتحرك، مِمَّا لَا يكون وَيُوجد دفْعَة وَاحِدَة، وَإِنَّمَا يَأْتِي شَيْئا فَشَيْئًا.
فَذهب هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة إِلَى أَن إِطْلَاقه / عَلَيْهِ على سَبِيل الْمجَاز مُطلقًا،

(2/566)


وَذكره ابْن عقيل إِجْمَاعًا بَينه وَبَين الْمُعْتَزلَة، فِي أَنه لَا يعْتَبر لِلْأَمْرِ إِرَادَة.
وَذهب ابْن حمدَان وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَحَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن أَكثر الْعلمَاء: إِلَى أَنه حَقِيقَة، وَاخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ لَكِن عقب الْفِعْل، نَقله عَنهُ القَاضِي أَبُو يعلى، فَلَو تَأَخّر كثيرا لم يكن حَقِيقَة.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي مَسْأَلَة خيال الْمجْلس وَغَيره: إِن لم يُمكن بَقَاء الْمَعْنى كالمصادر السيالة كَالْكَلَامِ والتحرك وَنَحْوهمَا فحقيقة، لوُجُود الْفِعْل وَتعذر بَقَائِهِ، وَإِلَّا فمجاز كالضرب وَالْقِيَام وَالْقعُود وَنَحْوهَا.
قَالَ أَبُو الْخطاب: (الْفرق بَين مَا يعْدم عقب وجود مُسَمَّاهُ كَالْبيع وَالنِّكَاح والاغتسال والتوضئ فحقيقة، وَمَا يَدُوم بعد وجود الْمُسَمّى كالقيام وَالْقعُود، فَإِذا عدما فمجاز) انْتهى.
وَكَذَا قَالَ القَاضِي وَغَيره فِي التبايع: إِنَّه حَقِيقَة بعده وَإِلَّا فَلَا، فَأَما حَال التبايع فمجاز عِنْدهم.
وَقَالَهُ أَبُو الطّيب خلافًا للحنفية لعدم وجود الْفِعْل، نَقله ابْن مُفْلِح.

(2/567)


تَنْبِيه: هَذَا نقل ابْن مُفْلِح وَغَيره فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " وَغَيره: (فِيهَا ثَلَاثَة مَذَاهِب:
أَحدهَا: أَنه مجَاز وَإِنَّمَا يكون حَقِيقَة إِذا أطلق مَعَ قيام الْمُشْتَقّ مِنْهُ، ثمَّ إِن أمكن حُصُوله دفْعَة وَاحِدَة كالقيام وَالْقعُود فَلَا إِشْكَال فِيهِ، وَإِن لم يُمكن كالأعراض السيالة الَّتِي لَا يُمكن اجْتِمَاع أَجْزَائِهَا دفْعَة وَاحِدَة كَالْكَلَامِ وَنَحْوه، اكْتفي فِي كَون الْإِطْلَاق حَقِيقِيًّا بِأَن يقْتَرن ذَلِك بآخر جُزْء، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُور) انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمُشْتَقّ تَارَة مِمَّا يُمكن حُصُوله بِتَمَامِهِ وَقت الْإِطْلَاق كالقيام وَالْقعُود، وَتارَة لَا يُمكن كَمَا لَو كَانَ من الْأَعْرَاض السيالة كَالْكَلَامِ، وَإِنَّمَا الْإِطْلَاق الْحَقِيقِيّ فِي هَذَا وَنَحْوه أَن يكون / عِنْد آخر جُزْء، فَلَا يُطلق على من قَالَ: زيد قَائِم، أَنه مُتَكَلم أَو مخبر أَو مُحدث إِلَّا عِنْد نطقه بِالْمِيم من (قَائِم) ؛ لِأَن الْكَلَام اسْم لمجموع الْحُرُوف، ويستحيل اجْتِمَاع تِلْكَ الْحُرُوف فِي وَقت وَاحِد، لِأَنَّهَا أَعْرَاض سيالة، لَا يُوجد مِنْهَا حرف إِلَّا بعد انْفِصَال الآخر.

(2/568)


هَذَا مَا بَحثه فِي " الْمَحْصُول "، وَهُوَ حسن، ينزل عَلَيْهِ إِطْلَاق الْجُمْهُور، وَإِن كَانَ ظَاهر كَلَام الْهِنْدِيّ، وَوَافَقَهُ فِي " جمع الْجَوَامِع " أَن الْجُمْهُور صَرَّحُوا بذلك، وَلَيْسَ كَذَلِك) انْتهى.
قَالَ الكوراني: (قَوْلهم: الْجُمْهُور على اشْتِرَاط بَقَاء الْمُشْتَقّ مِنْهُ فِي كَون الْمُشْتَقّ حَقِيقَة، وَإِلَّا فآخر جُزْء، يشْعر بِأَن هَذَا مَذْهَب رَابِع [غير الثَّلَاثَة] ، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ بل هُوَ مَذْهَب من يشْتَرط بَقَاء الْمَعْنى) انْتهى.
وَحَاصِل ذَلِك: أَنهم حرروا مَتى يحكم بِأَنَّهُ حَقِيقَة مَعَ وجود الصّفة، وَأما بعد انْقِضَائِهَا فالأقوال الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّمَة.
احْتج الْقَائِل بالمجاز بِأَنَّهُ يَصح نَفْيه، فَيصدق: لَيْسَ بضارب فِي الْحَال، وَالسَّلب الْمُطلق جُزْء الْمُقَيد.
رد: إِن أُرِيد سلب أخص لم يصدق: لَيْسَ بضارب مُطلقًا؛ لِأَن الضَّارِب فِي الْحَال أخص مِنْهُ، وَنفي الْأَخَص لَا يسْتَلْزم نفي الْأَعَمّ؛ لِأَن نقيضه أَعم من نقيضه.
قَالُوا: لَا يُقَال: كَافِر، لكفر سبق.
رد: لمَنعه شرعا تَعْظِيمًا للصحابة وللمسلم بعدهمْ.

(2/569)


وَاحْتج الْآمِدِيّ: بِأَنَّهُ يلْزم أَن يُطلق على الْقَائِم قَاعد وَبِالْعَكْسِ، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع.
وَلقَائِل أَن يُجيب بِالْمَنْعِ. وَاحْتج الْقَائِل بِالْحَقِيقَةِ: أَنه يَصح الْإِطْلَاق، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة. رد: بالمستقبل فَإِنَّهُ مجَاز اتِّفَاقًا كَمَا تقدم.
ورد: إِذا كَانَ الْقَائِل من ثَبت لَهُ التَّعَلُّق لم يلْزم.
قَالُوا: صَحَّ مُؤمن وَنَحْوه لنائم وميت.
أُجِيب: مجَاز.
وَقَالَهُ القَاضِي فِي مَسْأَلَة الْإِجْمَاع.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره: (هَذَا غلط؛ لِأَن الْإِيمَان لَا يُفَارِقهُ بِالْمَوْتِ، بل هُوَ مُؤمن بعد مَوته، وَهَذِه فِي مَسْأَلَة (النُّبُوَّة لَا تَزُول بِالْمَوْتِ) ، وبسببها جرت المحنة على الأشعرية فِي زمن / ملك خُرَاسَان مَحْمُود ابْن سبكتكين، وَالْقَاضِي وَسَائِر أهل السّنة أَنْكَرُوا هَذَا عَلَيْهِم، حَتَّى صنف

(2/570)


الْبَيْهَقِيّ " حَيَاة الانبياء فِي قُبُورهم "، وَلِأَن الْآيَة دلّت على وجوب اتِّبَاع الماضين فَلَا تردد، فَإِن الْعَصْر الثَّانِي محجوجون بالعصر الأول وَإِن كَانُوا قد مَاتُوا) انْتهى.
وَمن فروع الْمَسْأَلَة: لَو قَالَ: أَنا مقرّ، فَإِن زَاد: بدعواك، وَنَحْوهَا، كَانَ إِقْرَارا، وَإِن لم يزدْ، فَفِي كَونه إِقْرَارا وَجْهَيْن لأَصْحَاب الإِمَام أَحْمد وَالصَّحِيح أَنه إِقْرَار، وَالله تَعَالَى أعلم.
{تَنْبِيه: يسْتَثْنى من [مَحل الْخلاف] } ثَلَاث مسَائِل: الأولى: {لَو طَرَأَ على الْمحل وصف وجودي يُنَاقض الأول، فمجاز إِجْمَاعًا} .
مِثَاله: تَسْمِيَة الْيَقظَان نَائِما، بِاعْتِبَار النّوم السَّابِق، فَهُوَ مجَاز قطعا، وَكَذَا تَسْمِيَة الْقَائِم قَاعِدا، وَعَكسه، بِاعْتِبَار الْقعُود وَالْقِيَام السَّابِقين،

(2/571)


وَذَلِكَ لِأَنَّهُ من بَاب إِطْلَاق أحد الضدين على الآخر، هَذَا مُقْتَضى كَلَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ إِجْمَاع الْمُسلمين وَأهل اللِّسَان.
الثَّانِيَة: { [لَو] منع مَانع من [خَارج] من إِطْلَاقه، فَلَا حَقِيقَة وَلَا مجَاز} .
مِثَاله: إِطْلَاق الْكَافِر على من أسلم لتضاد الوصفين، فَلَا يكون حَقِيقَة، وَلما فِيهِ من إهانة الْمُسلم والإخلال بتعظيمه، وَلذَلِك يُسمى مُؤمنا فِي حَال نَومه وَنَحْوه، إطلاقاً مُتَعَيّنا شَائِعا، وَلَا مجَاز، بل لَو قيل: إِنَّه حَقِيقَة شَرْعِيَّة، أَو مُسْتَثْنى من الْقَوَاعِد اللُّغَوِيَّة لذَلِك، لم يكن بَعيدا، وَحِينَئِذٍ فإسناد منع ذَلِك إِلَى الْمَانِع، أولى من القَوْل بِإِسْنَادِهِ إِلَى عدم الْمُقْتَضِي، لكَون الأَصْل عدم الْمُقْتَضِي وَعدم الْمَانِع، لأَنا نقُول: إِنَّمَا ذَلِك عِنْد الِاحْتِمَال، وَهنا قد تحقق وجود مَانع، وَيَأْتِي فِي الْقيَاس لنا خلاف فِي أَن الْمَانِع يَسْتَدْعِي وجود الْمُقْتَضى أَو لَا؟

(2/572)


الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: قَالَ الْقَرَافِيّ: (مَحل الْخلاف إِذا كَانَ الْمُشْتَقّ مَحْكُومًا بِهِ كزيد مُشْرك أَو زَان أَو سَارِق، أما إِذا كَانَ مُتَعَلق الحكم وَهُوَ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ ك {اقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] ، {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} [الْمَائِدَة: 38] ، فَهُوَ حَقِيقَة مُطلقًا فِيمَن اتّصف بِهِ / فِي الْمَاضِي وَالْحَال والإستقبال، إِذْ لَو كَانَ مجَازًا لَكَانَ من أشرك أَو زنا أَو سرق بعد زمَان نزُول الْآيَة وَالْخطاب بهَا يكون مجَازًا فَلَا يدْخل فِيهَا، لِأَن الأَصْل عدم الْمجَاز، وَلَا قَائِل بذلك، أَي: وَإِذا قُلْنَا: بِاعْتِبَار الِانْقِضَاء فِي الْمَاضِي فيقيد بذلك أَيْضا وَلَا مخلص من الْإِشْكَال إِلَّا بِمَا قَرَّرْنَاهُ، لِأَن الله تَعَالَى لم يحكم فِي تِلْكَ الْآيَات بشرك أحد وَلَا بزناه وَلَا بسرقته، وَإِنَّمَا حكم بِالْقَتْلِ وَالْجَلد وَالْقطع على الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات؛ نعم هُوَ مُتَعَلق هَذِه الْأَحْكَام) انْتهى.

(2/573)


وَقد خُولِفَ فِي زَمَانه، واضطربوا فِي جَوَابه، وَإِن كَانَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمَحْصُول " قد ذكر نَحوه.
فَأجَاب بَعضهم عَن ذَلِك: بِأَن الْمجَاز وَإِن كَانَ الأَصْل عَدمه، إِلَّا أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على أَن المتصفين بِهَذِهِ الصِّفَات بعد وُرُود النُّصُوص يتناولهم وَتثبت تِلْكَ الْأَحْكَام فيهم.
وَلَكِن الْجَواب الصَّحِيح: أَن هُنَا شَيْئَيْنِ: إِطْلَاق اللَّفْظ وَإِرَادَة الْمَعْنى من غير تعرض لزمان، كَقَوْلِنَا: الْخمر حرَام، فَإِنَّهُ صَادِق، سَوَاء كَانَت الخمرية مَوْجُودَة أَو لَا، فإطلاق الْخمر فِي هَذِه الْحَالة حَقِيقَة، لِأَن المُرَاد بِالْحَال حَال التَّلَبُّس لَا التَّلَفُّظ، وَكَذَلِكَ نَحْو: {اقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، و {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} [النُّور: 2] ، {وَالسَّارِق والسارقة} [الْمَائِدَة: 38] ، لم يقْصد إِلَّا من اتّصف بالشرك وبالزنا، وبالسرقة وَقت تلبسه، وَذَلِكَ حَقِيقَة، وَمثله: إِطْلَاق ذَلِك بعد الِانْقِضَاء، فَإِنَّهُ لم يخرج عَن ذَلِك الَّذِي أطلق حَقِيقَة وَاسْتمرّ، وَإِنَّمَا يَقع التَّجَوُّز، عِنْد إِرَادَة الْمُتَكَلّم إِطْلَاق الْوَصْف بِاعْتِبَار مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَو مَا يؤول إِلَيْهِ.

(2/574)


قَالَ السُّبْكِيّ: (وَإِنَّمَا سرى الْوَهم للقرافي من اعْتِقَاده أَن الْمَاضِي وَالْحَال والمستقبل بِحَسب زمَان إِطْلَاق اللَّفْظ، وَالْقَاعِدَة صَحِيحَة فِي نَفسهَا، وَلَكِن لم يفهمها حق فهمها، فالمدار على حَال التَّلَبُّس لَا حَال النُّطْق.
على أَنه قد نُوقِشَ الْقَرَافِيّ فِي مَوَاضِع مِنْهَا:
قَوْله: إِن مُتَعَلق الحكم لَيْسَ مرَادا.
يرد / عَلَيْهِ: قَوْلك: الْقَاتِل يقتل، أَو الْكَافِر يقتل، تُرِيدُ بِهِ معهوداً حَاضرا، فَإِنَّهُ لَا يكون حَقِيقَة حَتَّى يكون الْقَتْل قَائِما بِهِ من حَيْثُ الْخطاب، وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {اقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، ينْحل إِلَى الَّذين هم مشركون فهم مَحْكُوم عَلَيْهِم.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا فرق بَين أَن يكون الْمُشْتَقّ مَحْكُومًا عَلَيْهِ، أَو مُتَعَلق الحكم، أَو غير ذَلِك، فالمدار على مَا قَرَّرْنَاهُ) انْتهى.

(2/575)


قَوْله: {فصل}

{شَرط الْمُشْتَقّ صدق أَصله، خلافًا للجبائية، لإطلاقهم الْعَالم على الله، وإنكار حُصُول الْعلم لَهُ} .
اعْلَم أَن شَرط الْمُشْتَقّ سَوَاء كَانَ اسْما أَو فعلا صدق أَصله، وَهُوَ الْمُشْتَقّ مِنْهُ، فَلَا يصدق ضَارب مثلا على ذَات إِلَّا إِذا صدق الضَّرْب على تِلْكَ الذَّات، وَسَوَاء كَانَ الصدْق فِي الْمَاضِي أَو فِي الْحَال أَو فِي الِاسْتِقْبَال، كَقَوْلِه تَعَالَى فِي الِاسْتِقْبَال: {إِنَّك ميت} [الزمر: 30] ، لكنه هَل يكون حَقِيقَة أَو مجَاز؟ فِيهِ تَفْصِيل تقدم.
ولصدق شُمُول الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة قُلْنَا: صدق أَصله.
وَهَذِه المسالة ذكرهَا الأصوليون ليردوا على الْمُعْتَزلَة، فَإِنَّهُم ذَهَبُوا إِلَى مَسْأَلَة خَالَفت هَذِه الْقَاعِدَة، فَإِن أَبَا عَليّ الجبائي وَابْنه أَبَا

(2/576)


هَاشم ذَهَبُوا إِلَى نفي الْعلم عَنهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الصِّفَات [الَّتِي] أثبتها أَئِمَّة الْإِسْلَام، أَي: بِكَوْنِهِ عَالما، والعالم مُشْتَقّ من الْعلم، فأطلقوا الْعَالم وَغَيره من المشتقات على الله تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِك قَالُوا بعالمية الله تَعَالَى وأنكروا حُصُول الْمُشْتَقّ مِنْهُ، فَقَالُوا: الله عَالم بِلَا علم قَائِم بِهِ، بل بِالذَّاتِ، حَيّ بِلَا حَيَاة، قَادر بِلَا قدرَة، مُرِيد بِلَا إِرَادَة، سميع بِلَا سمع، بَصِير بِلَا بصر، مُتَكَلم بِلَا كَلَام، بَاقٍ بِلَا بَقَاء، فيثبتون العالمية والمريدية وَغَيرهمَا بِدُونِ الْعلم والإرادة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (نعم تَحْرِير النَّقْل عَن أبي عَليّ وَابْنه كَمَا صرحا بِهِ فِي كتبهما الْأُصُولِيَّة، أَنَّهُمَا يَقُولَانِ: إِن العالمية بِعلم لَكِن علم الله عين ذَاته، لَا أَنه عَالم بِدُونِ علم كَمَا اشْتهر فِي النَّقْل عَنْهُمَا فِي كَلَام الرَّازِيّ /

(2/577)


والبيضاوي وَغَيرهمَا، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي بَقِيَّة الصِّفَات.
وَأما أهل السّنة فيعللون الْعَالم بِوُجُود علم قديم قَائِم بِذَاتِهِ، وَكَذَا فِي الْبَاقِي.
[وشبهة] الْمُعْتَزلَة: أَن هَذِه الصِّفَات إِن كَانَت حَادِثَة لزم قيام الْحَوَادِث بالقديم، أَو قديمَة لزم تعدد الْقَدِيم، وَالنَّصَارَى كفرُوا بالتثليث، فَكيف بادعاء تَسْمِيَة الذَّات وثمان صِفَات؟
وَأجَاب الرَّازِيّ وَغَيره: أَن النَّصَارَى عددوا ذَوَات قديمَة لذاتها، وَنحن نقُول: الْقَدِيم وَاحِد وَهَذِه صِفَاته، هِيَ مُمكنَة فِي نَفسهَا، وَلَكِن وَجَبت للذات لَا بِالذَّاتِ، فَلَا تعدد فِي قديم لذاته، فَلَا قديم لذاته إِلَّا الذَّات الشَّرِيفَة) انْتهى، وَتقدم هَذَا الْجَواب فِي قَوْلنَا: (وَأما صِفَات الله تَعَالَى فقديمة) .
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَالْقَصْد الرَّد على الْمُعْتَزلَة فِي أَنهم لم يثبتوا للباري الصِّفَات، مَعَ اعترافهم بِثُبُوت الْأَسْمَاء لَهُ، فاشتقوا الِاسْم لمن لم يقم بِهِ

(2/578)


الْوَصْف، وهم لم يطردوا هَذَا فِي جَمِيع الْأُمُور، فغايته: أَن هَذَا لَازم لمذهبهم، وَالصَّحِيح: أَن لَازم الْمَذْهَب لَيْسَ بِمذهب) انْتهى.
قَوْله: {وكل اسْم معنى قَائِم بِمحل، يجب أَن يشتق لمحله مِنْهُ اسْم فَاعل، خلافًا للمعتزلة، فسموا الله تَعَالَى متكلماً بِكَلَام خلقه فِي جسم، وَلم يسموا الْجِسْم متكلماً} .
وَعبارَة ابْن مُفْلِح: (الِاسْم يشتق لمحله مِنْهُ اسْم فَاعل، لَا لغيره مِنْهُ، خلافًا للمعتزلة) .
وَفرض جمَاعَة الْمَسْأَلَة: (لَا يشتق اسْم فَاعل لشَيْء، وَالْفِعْل قَائِم بِغَيْرِهِ) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي مَسْأَلَة لَهُ فِي الْكَلَام: (الْقُرْآن صفة لله تَعَالَى، كَالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَالرَّحْمَة وَالْغَضَب والإرادة وَالْبَصَر والسمع وَنَحْو ذَلِك، وَذَلِكَ لَا يقوم إِلَّا بموصوف، وكل معنى لَهُ اسْم وَهُوَ قَائِم بِمحل وَجب أَن

(2/579)


يشتق لمحله مِنْهُ اسْم، وَأَن لَا يشتق لغير مَحَله مِنْهُ اسْم، فَكَمَا أَن الْحَيَاة وَالْعلم وَالْقُدْرَة إِذا قَامَ بموصوف وَجب أَن يشتق لَهُ مِنْهُ اسْم الْحَيّ والعالم والقادر، وَلَا يشتق الْحَيّ والعالم والقادر لغير من قَامَ بِهِ الْعلم وَالْقُدْرَة والحياة، فَكَذَلِك القَوْل وَالْكَلَام وَالْحب والبغض والرضى وَالرَّحْمَة / وَالْغَضَب والإرادة والمشيئة [إِذا] قَامَ بِمحل وَجب أَن يشتق لذَلِك الْمَوْصُوف مِنْهُ الِاسْم وَالْفِعْل، فَيُقَال: هُوَ الصَّادِق والشهيد [والحكيم] والودود والرحيم والآمر، وَلَا يشتق لغيره مِنْهُ اسْم) انْتهى.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (وَهَذِه الْحجَّة من أصُول حجج السّلف وَالْأَئِمَّة فَإِنَّهُ من الْمَعْلُوم فِي فطر الْخلق: أَن الصّفة إِذا قَامَت بِمحل اتّصف بهَا ذَلِك الْمحل لَا غَيره، فَإِذا قَامَ الْعلم بِمحل كَانَ هُوَ الْعَالم بِهِ لَا غَيره، وَكَذَلِكَ إِذا قَامَت الْقُدْرَة أَو الْحَرَكَة أَو الْحَيَاة أَو غير ذَلِك من الصِّفَات كَانَ لذَلِك الْمحل، كالقدير والحي والمتحرك والمتكلم والمريد وَسَائِر الصِّفَات، وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل السّنة، وَخَالف فِي ذَلِك الْمُعْتَزلَة فسموا الله تَعَالَى متكلماً بِكَلَام خلقه فِي جسم، وَلم يسموا ذَلِك الِاسْم متكلماً) .
قَالَ أهل السّنة: لنا على ذَلِك الاستقراء، أَي: استقراء لُغَة الْعَرَب دلنا على أَن اسْم الْفَاعِل لَا يُطلق على شَيْء إِلَّا وَيكون الْمَعْنى الْمُشْتَقّ مِنْهُ قَائِما بِهِ، وَهُوَ يُفِيد الْقطع بذلك.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: ثَبت (قَاتل) و (ضَارب) ، وهما أثران قاما بالمفعول.

(2/580)


رد: بِأَنَّهُمَا للتأثير وَهُوَ للْفَاعِل، والتأثر للْمَفْعُول.
قَالُوا: التَّأْثِير الْأَثر، وَإِلَّا فَإِن كَانَ حَادِثا افْتقر إِلَى نِسْبَة أُخْرَى وتسلسل، أَو قَدِيما فَيلْزم قدم الْأَثر وَتقدم النِّسْبَة على المنتسبين.
رد: الْعلم بِأَنَّهُ غَيره ضَرُورِيّ، ثمَّ لَا دَلِيل على وجوب الِانْتِهَاء إِلَى أثر آخر، بل إِلَى مُؤثر أول، ثمَّ يمْنَع التسلسل فِي الثَّانِي، وَتقدم النِّسْبَة فِي محلهَا مُمْتَنع دون الْمَنْسُوب إِلَيْهِ.
وَلما قَالَ الْأَشْعَرِيّ وَأَصْحَابه كالمعتزلة: الْخلق: الْمَخْلُوق، أجابوا بِأَنَّهُ لَيْسَ فعلا قَائِما بِغَيْرِهِ بل ذَاته، أَو لِأَنَّهُ للتعلق الَّذِي بَين الْمَخْلُوق وَالْقُدْرَة حَال الْإِيجَاب، فَلَمَّا نسب إِلَى الله صَحَّ الِاشْتِقَاق، لقِيَامه بِالْقُدْرَةِ الْقَائِمَة بِهِ.
تَنْبِيه: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (النزاع مُخْتَصّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة، فَإِن الْإِنْسَان لَا يُسمى أَبيض ببياض قَامَ بِغَيْرِهِ، وَلَا أسود وَلَا متحركاً / وَنَحْوه، بل النزاع مَقْصُور على هَذِه) انْتهى.
وَمِمَّا اخْتلف فِيهِ وَبني على أصل الْمَسْأَلَة: مَا قَالَه بَعضهم: (على أَنهم اتَّفقُوا على أَن إِسْمَاعِيل لَيْسَ بمذبوح، وَاخْتلفُوا فِي أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام هَل هُوَ ذابح أم لَا؟
فَقَالَ قوم: هُوَ ذابح للْقطع، وَالْولد غير مَذْبُوح للالتئام، وَأنْكرهُ قوم وَقَالُوا: ذابح وَلَا مَذْبُوح محَال) .

(2/581)


وَفِي عبارَة بَعضهم: (الِاتِّفَاق على أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذابح مَعَ أَنه لم يقم بِهِ فعل الذّبْح، فَإِنَّهُ لَا بُد فِيهِ من ثُبُوت مَذْبُوح تزهق روحه، وَاخْتلفُوا مَعَ ذَلِك فِي أَن إِسْمَاعِيل مَذْبُوح أم لَا) .
قَالَ الزَّرْكَشِيّ الشَّافِعِي: (والعبارة الأولى أولى من الثَّانِيَة) .
تَنْبِيه آخر: لَا يدْخل فِي مَحل النزاع مَا لم يكن لَهُ اسْم، كأنواع الروائح والآلام، بل النزاع إِذا كَانَ لَهُ اسْم، فَأهل السّنة إِنَّمَا ادعوا ذَلِك فِي المشتقات من المصادر الَّتِي هِيَ أَسمَاء الْمعَانِي لَا من الذوات وَأَسْمَاء الْأَعْيَان؛ قَرَّرَهُ الْقَرَافِيّ تبعا للرازي فِي " الْمَحْصُول ".
قَوْله: {والمشتق كأبيض وَنَحْوه يدل على ذَات متصفة بالبياض، لَا على خصوصيتها} .
مَفْهُوم الْأَبْيَض وَنَحْوه من المشتقات كالأسود والضارب والمضروب، يدل كل [مِنْهَا] على ذَات مَا متصفة بِتِلْكَ الصّفة، فَإِن الْأسود مثلا يدل على ذَات مَا متصفة بِالسَّوَادِ، وَلَا يدل على خُصُوص تِلْكَ الذَّات من جسم

(2/582)


وَغَيره، فَإِن علم مِنْهُ شَيْء من ذَلِك فَهُوَ على طَرِيق الِالْتِزَام لَا بِاعْتِبَار كَونه جُزْءا من مُسَمَّاهُ.
وَالَّذِي يدل على ذَلِك: أَن قَوْلنَا: إِن الْأَبْيَض جسم، مُسْتَقِيم، وَلَو دلّ الْأسود على خُصُوص الِاسْم لَكَانَ غير مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون مَعْنَاهُ: الْجِسْم ذُو السوَاد جسم، وَهُوَ غير مُسْتَقِيم، للُزُوم التّكْرَار بِلَا فَائِدَة.
وَمَا أحسن مَا قَرَّرَهُ بَعضهم بقوله: (الْمُشْتَقّ لَا إِشْعَار لَهُ بخصوصية الذَّات، فالأسود مثلا ذَات / لَهَا سَواد، وَلَا يدل على حَيَوَان وَلَا غَيره، وَالْحَيَوَان ذَات لَهَا حَيَاة، لَا خُصُوص إِنْسَان وَلَا غَيره.
قَالَ الْهِنْدِيّ: (لَا بالمطابقة وَلَا بالتضمن) ، وَمَفْهُومه: أَنه يدل بالالتزام، فَإِن أَرَادَ مُطلق الْجِسْم فَمُسلم، أَو نوعا معينا فَلَا) .
قَوْله: {فَائِدَة: أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْقَاضِي أخيراً، وَالْحَنَفِيَّة، وأئمة الشَّافِعِيَّة، [وَالسَّلَف: الْخلق غير الْمَخْلُوق، وَهُوَ فعل الرب تَعَالَى الْقَائِم بِهِ، مُغَاير لصفة الْقُدْرَة [وَالْقَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن الزاغواني، والأشعرية، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة] : [هُوَ هُوَ] } .

(2/583)


قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (ذهب هَؤُلَاءِ إِلَى أَن الله تَعَالَى لَيْسَ لَهُ صفة ذاتية من أَفعاله، وَإِنَّمَا الْخلق هُوَ الْمَخْلُوق، أَو مُجَرّد نِسْبَة وَإِضَافَة، وَعند هَؤُلَاءِ حَال الذَّات الَّتِي تخلق وترزق وَلَا تخلق وَلَا ترزق سَوَاء) انْتهى.
وَقَالَ أَيْضا: (هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِن أَفعَال [الْعباد] هِيَ فعل الله، وَقد تقدم كَلَامهم قبل التَّشْبِيه) .
وَقَالَ أَيْضا: (وَيَقُولُونَ: الْفِعْل هُوَ الْمَفْعُول، وَقد جعلُوا أَفعَال الْعباد فعلا لله، وَالْفِعْل عِنْدهم الْمَفْعُول، فَامْتنعَ مَعَ هَذَا أَن يكون فعلا للْعَبد، لِئَلَّا يكون فعل وَاحِد لَهُ فاعلان) انْتهى.
وَعند أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْقَاضِي أخيراً، وَالْحَنَفِيَّة، وأئمة الشَّافِعِيَّة، وَأهل الْأَثر: أَنه غَيره، بل هُوَ قدر زَائِد مَعَ قدمه، مُغَاير لصفة الْقُدْرَة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْخلق فعل الله تَعَالَى الْقَائِم بِهِ، والمخلوق هُوَ الْمَخْلُوقَات الْمُنْفَصِلَة عَنهُ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَن أهل السّنة، وَنَقله

(2/584)


البُخَارِيّ عَن الْعلمَاء مُطلقًا فَقَالَ: قَالَ عُلَمَاء السّلف: إِن خلق الرب للْعَالم لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوق، بل فعله الْقَائِم بِهِ غير مَخْلُوق) انْتهى.
ذكره فِي كتاب خلق أَفعَال الْعباد، وَهُوَ قَول الكرامية، وَكثير من الْمُعْتَزلَة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي فِي الْجُزْء الثَّالِث: (وَأما جُمْهُور أهل السّنة المتبعون للسلف وَالْأَئِمَّة [فَيَقُولُونَ] : إِن فعل العَبْد فعل لَهُ حَقِيقَة، وَلكنه مَخْلُوق ومفعول لله، لَا يَقُولُونَ: هُوَ نفس فعل الله، ويفرقون بَين الْخلق والمخلوق، وَالْفِعْل / وَالْمَفْعُول، وَهَذَا الْفرق حَكَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب " خلق أَفعَال الْعباد " عَن الْعلمَاء قاطبة، وَهُوَ الَّذِي ذكره غَيره من السّلف وَالْأَئِمَّة، وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والحنبلية، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَن أهل السّنة قاطبة، وَحَكَاهُ الكلاباذي صَاحب " التعرف لمَذْهَب التصوف " عَن جَمِيع الصُّوفِيَّة، وَهُوَ قَول أَكثر طوائف الْكَلَام من الهشامية، وَكثير من الْمُعْتَزلَة، والكرامية، وَهُوَ قَول

(2/585)


الْكلابِيَّة أَيْضا أَئِمَّة الأشعرية فِيمَا ذكره أَبُو عَليّ الثَّقَفِيّ وَغَيره على قَول الكرامية: (وأثبتوا لله تَعَالَى فعلا قَائِما بِذَاتِهِ غير الْمَفْعُول، كَمَا أثبتوا لَهُ إِرَادَة قديمَة قَائِمَة بِذَاتِهِ) انْتهى.
وَحَكَاهُ فِي مَوْضُوع آخر: (عَن طوائف من المرجئة والشيعة، وسمى من أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد: أَبُو بكر عبد الْعَزِيز، وَابْن شاقلا، وَابْن حَامِد، وَالْقَاضِي فِي آخر قوليه) انْتهى.
وَقَالَ أَيْضا: (الرب لَا يُوصف بِمَا هُوَ مَخْلُوق لَهُ، وَإِنَّمَا يُوصف بِمَا هُوَ قَائِم بِهِ) انْتهى.

(2/586)


قَوْله {فصل}

{أَكثر أَصْحَابنَا، وَابْن سُرَيج، والشيرازي، والرازي، وَغَيرهم: [تثبت اللُّغَة قِيَاسا، فِيمَا وضع لِمَعْنى دَار مَعَه وجودا وعدماً، كخمر لنبيذ وَنَحْوه] ، [والسمعاني: فِي الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة، ونفاه أَبُو الْخطاب، والصيرفي، والباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، والآمدي، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، وَغَيرهم، وللنحاة قَولَانِ: اجْتِهَادًا فَلَا حجَّة، وَقيل: لم يَقع، وَالْإِجْمَاع على مَنعه فِي علم ولقب وَصفَة، قَالَه ابْن عقيل وَغَيره، وَكَذَا مثل: إِنْسَان وَرجل، وَرفع فَاعل} .

(2/587)


اخْتلف الْعلمَاء: هَل تثبت اللُّغَة قِيَاسا، أم لَا، أَو فِيهِ تَفْصِيل؟ على أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنَّهَا تثبت قِيَاسا فِيمَا وضع لمسمى مُسْتَلْزم لِمَعْنى فِي مَحَله وجودا وعدماً، كَالْخمرِ للنبيذ لتخمير الْعقل، وَالسَّارِق للنباش للأخذ خُفْيَة، وَالزَّانِي للائط للْوَطْء الْمحرم.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَلَيْسَ الْخلاف فِي نَحْو: رجل وَرفع الْفَاعِل، أَي: لَا يُسمى مسكون عَنهُ، إِلْحَاقًا بِتَسْمِيَة الْمعِين لِمَعْنى يستلزمه وجودا وعدماً، كَالْخمرِ للنبيذ وَنَحْوه [إِلَّا] بِنَقْل أَو استقراء لتعميم) .
وَذكر فِي " جمع الْجَوَامِع ": أَن لفظ الْقيَاس يُغني عَن ذَلِك، أَي: فَإِن اطراد ذَلِك فِي كل مَا أسْند إِلَيْهِ فعل قد علم بِالنَّصِّ، فَلَا يحْتَاج [فِيهِ] لقياس.

(2/588)


فالسبكي نبه على ذَلِك، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَلهَذَا تركت ذَلِك وأتيت بِالْمَقْصُودِ. إِذا / علم ذَلِك؛ فَالصَّحِيح: أَن اللُّغَة تثبت قِيَاسا وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا، وَابْن سُرَيج، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَغَيرهم، وَنَقله الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور عَن نَص الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الشُّفْعَة: (إِن الشَّرِيك جَار، قِيَاسا على تَسْمِيَة امْرَأَة الرجل جَارة) وَكَذَا قَالَ ابْن فورك: إِنَّه الظَّاهِر من مَذْهَب الشَّافِعِي، إِنَّه

(2/589)


قَالَ: (الشَّرِيك جَار) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا تثبت قِيَاسا مُطلقًا، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، والصيرفي، وَأَبُو بكر الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَمَا نَقله ابْن الْحَاجِب عَنهُ من الْجَوَاز مَرْدُود، وَابْن الْقطَّان، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزالِيّ، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة،

(2/590)


وَغَيرهم، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن [مُعظم أَكثر] أَصْحَابهم، وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو يعلى عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين، وللنحاة قَولَانِ: اجْتِهَادًا فَلَا حجَّة، أَي: فَلَا يحسن أَن يُقَال: قَول من أثبت مقدم على من نفى.
قَالَ الْمبرد وَغَيره: (مَا قيس على كَلَامهم فَمن كَلَامهم) .
وَقَالَ الْأَخْفَش وَغَيره: (الْأَسْمَاء تُؤْخَذ توقيفاً) .

(2/591)


وَفِي " الخصائص " لِابْنِ جني: (أَن الْجَوَاز قَول أَكثر عُلَمَاء الْعَرَبيَّة كالمازني، وَأبي عَليّ الْفَارِسِي) .
وَحكى ابْن فَارس فِي فقه الْعَرَبيَّة إِجْمَاع أهل اللُّغَة عَلَيْهِ.
وَاخْتَارَهُ ابْن درسْتوَيْه.
وَالْقَوْل الثَّالِث: تثبت فِي الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة دون غَيرهَا، اخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ، فَقَالَ بعد أَن ذكر أَدِلَّة المانعين: (وَهَذِه الْأَدِلَّة قَوِيَّة جدا، وَالْأولَى أَن نقُول: يجوز إِثْبَات الْأَسَامِي شرعا، وَلَا يجوز لُغَة، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْن سُرَيج.
وَالدَّلِيل: أَنا نعلم أَن الشَّرِيعَة إِنَّمَا سمت الصَّلَاة صَلَاة لصفة مَتى انْتَفَت عَنْهَا لم تسم صَلَاة، فَنعم أَن مَا شاركها فِي تِلْكَ الصّفة يكون صَلَاة، فَبَان بِهَذَا ثُبُوت الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة بالعلل) انْتهى.
فَابْن السَّمْعَانِيّ نقل ثُبُوتهَا فِي الشَّرْعِيَّة عَن ابْن سُرَيج، وَنقل الْبرمَاوِيّ عَنهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْمَتْن، فَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ.

(2/592)


وَفِي الْمَسْأَلَة قَول رَابِع: لِأَنَّهُ يجوز ثُبُوتهَا وَلم يَقع، حَكَاهُ ابْن فورك.
وَقَول خَامِس: ثُبُوتهَا فِي الْحَقِيقَة دون الْمجَاز، وَإِنَّمَا لم نذكرهُ هُنَا؛ أَنه قد تقدم: أَن الْمجَاز / لَا يُقَاس عَلَيْهِ [عِنْد] الْأَكْثَر، وَحكي إِجْمَاعًا، وحكينا قولا بِالْجَوَازِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكرُوهُ هُنَا فِيمَا يظْهر، وعللوه: بِأَن الْمجَاز أنقص رُتْبَة من الْحَقِيقَة فتميز عَلَيْهِ.
وَهَذَا مخرج من كَلَام القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، لَكِن يبقي ظَاهر الأول: أَن الْمُقدم أَنَّهَا تثبت فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، وَقد نقلنا هُنَاكَ: (أَن الصَّحِيح: أَنه لَا يُقَاس على الْمجَاز، وَحكي إِجْمَاعًا) .
وَقَول سادس حَكَاهُ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور من إِجْمَاع أَصْحَابهم: أَن أَسمَاء الله لَا يجوز [إِطْلَاق] شَيْء مِنْهَا بِالْقِيَاسِ، وَيَأْتِي حكم هَذِه الْمَسْأَلَة وَهَذَا القَوْل، وَهِي أَن أَسمَاء الله هَل هِيَ توقيفية أَو تثبت بِالْقِيَاسِ؟ قبيل الْأَحْكَام.

(2/593)


احْتج الْمُثبت: أَن الْمُعْتَمد فِي ذَلِك فهم الْجَامِع كالتخمير فِي النَّبِيذ كالشرعي، فَيصح حَيْثُ فهم.
قَالُوا: إِن نصوا على أَن الْجَامِع التخمير فالنبيذ خمر بِالْوَضْعِ، وَإِلَّا فإلحاق مَا لَيْسَ من لغتهم بهَا.
قُلْنَا: لَيْسَ النَّص من شَرط الْجَامِع، بل ثَبت بالاستقراء.
وَاحْتج النَّافِي: بِأَنَّهُ مَا من شَيْء إِلَّا وَله اسْم فِي اللُّغَة وَلَو بطرِيق الشُّمُول لَهُ وَلغيره، فَلَا يثبت لَهُ آخر قِيَاسا كَمَا فِي الْأَحْكَام، لَا يكون للشَّيْء حكم بِالنَّصِّ وَحكم آخر بِالْقِيَاسِ مُخَالف لَهُ.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم أَن يكون كل معنى لَهُ لفظ يدل عَلَيْهِ، بل كل معنى مُحْتَاج إِلَى لفظ، وَهَذَا يُوجد بطرِيق الْعُمُوم.
وَاحْتج أَيْضا النَّافِي " بِأَن الْقيَاس إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُشْتَقّ حَتَّى يكون مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاق هُوَ الْعلَّة، وَالْعرب قد لَا تطرد الِاشْتِقَاق كَمَا سبق.
أُجِيب: بِأَنَّهُ قد تكون الْعلَّة غير مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاق، بل تناسب الِاسْم كَمَا فِي تَسْمِيَة اللائط زَانيا، فَإِن الْعلَّة لَيست مِمَّا اشتق مِنْهُ لفظ الزَّانِي وَهُوَ الزِّنَا، وَنَحْو ذَلِك.
وَأَيْضًا: التَّجَوُّز إِذا قدر بِأَنَّهُ فِي الْمصدر كاللواط وكالنبش، فَأَيْنَ الِاشْتِقَاق على القَوْل الْمُرَجح: أَن الْمصدر أصل الْفِعْل وَالْوَصْف؟

(2/594)


وَاحْتج النَّافِي أَيْضا كَمَا تقدم: إِن كَانَ وضع كَالْخمرِ لكل / مُسكر فالتعميم باللغة، أَو لعصير الْعِنَب فَقَط فَلَا تَعْمِيم، أَو لم ينْقل فِيهِ شَيْء فَلَا لُغَة بِالِاحْتِمَالِ.
واستدله بقول: {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} [الْبَقَرَة: 31] .
رد: بَعْضهَا نصا وَبَعضهَا استنباطاً، ثمَّ هُوَ نصا وَنحن قِيَاسا،
وَلَا يمْتَنع ثبوتهما مَعَ اخْتِلَافهمَا للشَّيْء.
قَالُوا: كَونه دَلِيلا أظهر، لدوران [الِاسْم مَعَ الْوَصْف] .
رد: بِأَنَّهُ دَار - أَيْضا - ً مَعَ كَونه من عِنَب، وَمَال حَيّ، وقبلا، ومنقوض بقَوْلهمْ للطويل: نَخْلَة، وللفرس الْأسود: أدهم، وَنَحْوهمَا وَلم يطرد.
رد: بِأَنَّهُم جعلُوا الْعلَّة ذَات وصفين: الْجِنْس وَالصّفة.
رد: بِمثلِهِ فِي كل مَحل.
قَالُوا: ثَبت شرعا للمعنى، فَهَذَا مثله.
رد: للْإِجْمَاع وَلَا إِجْمَاع هُنَا، أَو لدَلِيل شَرْعِي أَو عَقْلِي.
قَالُوا: (فاعتبروا) .
رد: لَيْسَ بعام، وَهُوَ مَحل النزاع، ثمَّ مَحل النزاع غير مُرَاد.

(2/595)


فَائِدَة: تظهر فَائِدَة الْخلاف: أَن الْمُثبت للْقِيَاس فِي اللُّغَة يَسْتَغْنِي عَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ، فإيجاب الْحَد على شَارِب النَّبِيذ، وَالْقطع على النباش، بِالنَّصِّ.
وَمن أنكر الْقيَاس فِي اللُّغَة جعل ثُبُوت ذَلِك بِالشَّرْعِ.
قَوْله: (وَالْإِجْمَاع على مَنعه فِي علم ولقب وَصفَة، قَالَه ابْن عقيل وَغَيره) .
لَا شكّ أَن مَحل الْخلاف: إِذا اشْتَمَل الِاسْم على وصف، واعتقدنا أَن التَّسْمِيَة لذَلِك الْوَصْف، فَهَل يجوز تَعديَة الِاسْم إِلَى مَحل آخر مسكوت عَنهُ؟ كَالْخمرِ إِذا اعتقدنا أَن تَسْمِيَتهَا بذلك بِاعْتِبَار تخمير الْعقل، فعديناه إِلَى النَّبِيذ وَنَحْوه.
وَأما الْأَعْلَام فَلَا يجْرِي فِيهَا الْقيَاس اتِّفَاقًا، لِأَنَّهَا غير معقولة الْمَعْنى؛ وَالْقِيَاس فرع الْمَعْنى، وَكَذَلِكَ الصِّفَات كاسم الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَنَحْوهمَا، لِأَنَّهُ لابد للْقِيَاس من أصل، وَهُوَ غير مُتَحَقق فِيهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ جعل الْبَعْض فرعا بِأولى من الْعَكْس، واضطرادها فِي محالها مُسْتَفَاد من الْوَضع، لوضعهم الْقَائِم - مثلا - ً لكل من قَامَ.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (الْإِجْمَاع على مَنعه فِي الْأَعْلَام والألقاب، وَذكره جمَاعَة مِنْهُم ابْن عقيل، لوضعهما لغير معنى جَامع،

(2/596)


وَالْقِيَاس فَرعه، وَمثل هَذَا: (سِيبَوَيْهٍ زَمَانه) ، مجَاز عَن حَافظ كِتَابه، وَالْإِجْمَاع على مَنعه / فِي الصِّفَات، لِأَن الْعَالم من قَامَ بِهِ الْعلم، فَيجب طرده، فإطلاقه بِوَضْع اللُّغَة، وَكَذَا مثل: (إِنْسَان) ، و (رجل) و (رفع الْفَاعِل) فَلَا وَجه لجعله دَلِيلا من أَصْحَابنَا وَغَيرهم) انْتهى، وَتقدم كَلَام ابْن الْحَاجِب.

(2/597)


قَوْله: {فصل}

{الْحُرُوف} .
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (قد قَالَ النُّحَاة: إِن الْحَرْف لَا يسْتَقلّ بِالْمَعْنَى، وَعَلِيهِ إِشْكَال، فنقرر المُرَاد أَولا، وَالْإِشَارَة إِلَى الْإِشْكَال ثَانِيًا، وحله ثَالِثا.
أما تَقْرِيره: فَهُوَ أَن نَحْو: " من " و " إِلَى "، مَشْرُوط فِي وَضعهَا دَالَّة على مَعْنَاهَا الإفرادي، وَهُوَ الِابْتِدَاء والانتهاء ذكر متعلقها من دَار أَو سوق أَو غَيرهمَا مِمَّا يدْخل عَلَيْهِ الْحَرْف وَمِنْه الِابْتِدَاء وَإِلَيْهِ الإنتهاء، وَالِاسْم نَحْو: الِابْتِدَاء والانتهاء، وَالْفِعْل نَحْو: ابْتَدَأَ وانْتهى، غير مَشْرُوط فِيهِ ذَلِك.
وَأما الْإِشْكَال: فَهُوَ أَن نَحْو: " ذُو " و " أولو " و " أولات " و " قيد " و " [قيس] " و " قاب " و " أَي " و " بعض " و " كل " و " فَوق " و " تَحت " و " أَمَام " و " قُدَّام " و " خلف " و " وَرَاء " مِمَّا لَا يُحْصى، كَذَلِك إِذْ لم يجوز الْوَاضِع اسْتِعْمَالهَا إِلَّا بمتعلقاتها، فَكَانَ يجب كَونهَا حروفاً، وَإِنَّهَا أَسمَاء.

(2/598)


وَأما الْحل: فَهُوَ أَنَّهَا وَإِن لم يتَّفق اسْتِعْمَالهَا إِلَّا كَذَلِك لأمر مَا عرض، فَغير مَشْرُوط فِي وَضعهَا دَالَّة ذَلِك، لما علم أَن " ذُو " بِمَعْنى صَاحب، وَيفهم مِنْهُ عِنْد الْإِفْرَاد ذَلِك، لَكِن وَضعه لَهُ لغَرَض مَا، وَهُوَ التواصل بِهِ إِلَى الْوَصْف بأسماء الْأَجْنَاس فِي نَحْو: زيد ذُو مَال، وَذُو فرس، فَوَضعه ليتوصل بِهِ إِلَى ذَلِك، هُوَ الَّذِي اقْتضى ذكر الْمُضَاف إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَو ذكر دونه لم يدل على مَعْنَاهُ.
نعم لم يحصل الْغَرَض من وَضعه، وَالْفرق بَين عدم فهم الْمَعْنى، وَبَين عدم فَائِدَة الْوَضع مَعَ فهم الْمَعْنى ظَاهر.
وَكَذَلِكَ " فَوق "، وضع لمَكَان لَهُ علو، وَيفهم مِنْهُ عِنْد الِانْفِرَاد ذَلِك، لَكِن وَضعه لَهُ ليتوصل إِلَى علو خَاص اقْتضى ذكر الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ بَاقِي الْأَلْفَاظ.
وَإِذ قد تحقق ذَلِك؛ فَنَقُول: الْحَرْف مَا وضع بِاعْتِبَار معنى عَام، وَهُوَ نوع من النِّسْبَة: كالابتداء والانتهاء، لكل ابْتِدَاء وانتهاء معِين بِخُصُوصِهِ.
وَالنِّسْبَة لَا تتَعَيَّن إِلَّا بالمنسوب إِلَيْهِ، فالابتداء الَّذِي لِلْبَصْرَةِ يتَعَيَّن بِالْبَصْرَةِ، والانتهاء الَّذِي للكوفة يتَعَيَّن بِالْكُوفَةِ، فَمَا لم يذكر مُتَعَلّقه لَا يتَحَصَّل فَرد من ذَلِك النَّوْع [الَّذِي] هُوَ مَدْلُول الْحَرْف لَا فِي الْعقل وَلَا فِي الْخَارِج، وَإِنَّمَا يتَحَصَّل بالمنسوب إِلَيْهِ، فيتعقل بتعقله، بِخِلَاف مَا وضع للنوع بِعَيْنِه: كالابتداء والانتهاء، وَبِخِلَاف مَا وضع لذات مَا بِاعْتِبَار نِسْبَة نَحْو: " ذُو " و " فَوق "، و " على " و " عَن " و " الْكَاف " إِذا أُرِيد بهَا علو وَتجَاوز وَشبه مُطلقًا، فَهُوَ كالابتداء والانتهاء) انْتهى.

(2/599)


تَنْبِيه: المُرَاد بالحروف هُنَا: مَا يحْتَاج الْفَقِيه إِلَى مَعْرفَتهَا، وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا قسيم الِاسْم وَالْفِعْل والحرف بِخُصُوصِهِ، لِأَنَّهُ قد ذكر مَعهَا أَسمَاء ك " إِذا " و " إِذْ "، وَأطلق عَلَيْهَا حروفاً تَغْلِيبًا بِاعْتِبَار الْأَكْثَر، وَقَالَ الصفار: (الْحَرْف يُطلقهُ سِيبَوَيْهٍ على الِاسْم وَالْفِعْل) .
قَوْله: {الْوَاو العاطفة لمُطلق الْجمع} .
أَي: للقدر الْمُشْتَرك بَين التَّرْتِيب والمعية، {عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} ، وَعَلِيهِ أَكثر النُّحَاة، وَذكره الْفَارِسِي، والسيرافي،

(2/600)


والسهيلي، إِجْمَاع نحاة الْبَصْرَة والكوفة.
فَلَا تدل على تَرْتِيب وَلَا معية، وَهِي تَارَة تعطف الشَّيْء على مصاحبه كَقَوْلِه تَعَالَى: {فأنجيناه وَأَصْحَاب السَّفِينَة} [العنكبوت: 15] ، وعَلى سابقه: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا وَإِبْرَاهِيم} [الْحَدِيد: 26] وعَلى لاحقه: {كَذَلِك يُوحى إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من قبلك} [الشورى: 3] ، وَقد اجْتمعَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النبين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى ابْن مَرْيَم} [الْأَحْزَاب: 7] .
وعَلى هَذَا إِذا قيل: قَامَ زيد وَعَمْرو، احْتمل ثَلَاثَة معَان: الْمَعِيَّة، وَالتَّرْتِيب، وَعَدَمه.
قَالَ ابْن مَالك: (وَكَونهَا للمعية رَاجِح، وللترتيب كثير، ولعكسه قَلِيل) .
وَيجوز أَن يكون [بَين] متعاطفيها تفَاوت أَو تراخ، نَحْو: {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} [الْقَصَص: 7] .

(2/601)


تَنْبِيه: التَّعْبِير بِكَوْنِهَا لمُطلق الْجمع هُوَ الصَّحِيح فِي الْعبارَة، وَلَا يَصح التَّعْبِير عَنْهَا بِأَنَّهَا للْجمع الْمُطلق، لِأَنَّهُ لَا يَفِي بالمراد، [وَإِن] / كَانَ قد عبر بذلك ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَجمع؛ لِأَن الْمُطلق هُوَ الَّذِي لم يُقيد بِشَيْء، فَيدْخل فِيهِ صُورَة وَاحِدَة وَهُوَ قَوْلنَا مثلا: قَامَ زيد وَعَمْرو، وَلَا يدْخل فِيهِ الْقَيْد بالمعية، وَلَا بالتقديم، وَلَا بِالتَّأْخِيرِ، لخروجها بالتقييد عَن الْإِطْلَاق، وَأما مُطلق الْجمع فَمَعْنَاه: أَي جمع كَانَ، فَحِينَئِذٍ تدخل فِيهِ الصُّور كلهَا.
وَقد قَالَ ابْن الْقيم فِي " بَدَائِع الْفَوَائِد ": (الْأَمر الْمُطلق، وَالْجرْح الْمُطلق، وَالْعلم الْمُطلق، وَالتَّرْتِيب الْمُطلق، وَالْبيع الْمُطلق، وَالْمَاء الْمُطلق، وَالْملك الْمُطلق؛ غير مُطلق الْأَمر، وَالْجرْح، وَالْعلم، إِلَى آخرهَا.
وَالْفرق بَينهمَا من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن الْأَمر الْمُطلق لَا يَنْقَسِم إِلَى أَمر إِيجَاب وَندب وَنَحْوهمَا، فَلَا يكون [مورداً للتقسيم] ، وَمُطلق الْأَمر يَنْقَسِم إِلَى أَمر إِيجَاب وَأمر ندب، فمطلق الْأَمر يَنْقَسِم، وَالْأَمر الْمُطلق غير منقسم.
الثَّانِي: أَن الْأَمر الْمُطلق فَرد من أَفْرَاد مُطلق الْأَمر، وَلَا ينعكس.

(2/602)


الثَّالِث: أَن نفي مُطلق الْأَمر يسْتَلْزم نفي الْأَمر الْمُطلق، دون الْعَكْس.
الرَّابِع: أَن ثُبُوت مُطلق الْأَمر لَا يسْتَلْزم ثُبُوت الْأَمر الْمُطلق، دون الْعَكْس.
الْخَامِس: أَن الْأَمر الْمُطلق نوع لمُطلق الْأَمر، وَمُطلق [الْأَمر] جنس [لِلْأَمْرِ] الْمُطلق.
السَّادِس: أَن الْأَمر الْمُطلق مُقَيّد بِقَيْد الْإِطْلَاق لفظا، مُجَرّد عَن التَّقْيِيد معنى، وَمُطلق الْأَمر مُجَرّد عَن التَّقْيِيد لفظا، مُسْتَعْمل فِي الْمُقَيد وَغَيره معنى.
السَّابِع: أَن الْأَمر الْمُطلق لَا يصلح للمقيد، وَمُطلق الْأَمر يصلح للمطلق والمقيد.
الثَّامِن: أَن الْأَمر الْمُطلق هُوَ الْمُقَيد بِقَيْد الْإِطْلَاق، فَهُوَ مُتَضَمّن للإطلاق وَالتَّقْيِيد، وَمُطلق الْأَمر غير مُقَيّد وَإِن كَانَ بعض أَفْرَاده مُقَيّدا.
التَّاسِع: أَن من بعض أَمْثِلَة هَذِه الْقَاعِدَة: الْإِيمَان الْمُطلق وَمُطلق الْإِيمَان، فالإيمان الْمُطلق لَا يُطلق إِلَّا على الْكَامِل الْكَمَال / الْمَأْمُور بِهِ، وَمُطلق الْإِيمَان يُطلق على النَّاقِص والكامل وَلِهَذَا نفى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِيمَان الْمُطلق عَن الزَّانِي وشارب الْخمر وَالسَّارِق، وَلم ينف عَنهُ مُطلق الْإِيمَان، فَلَا يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالله ولي الْمُؤمنِينَ} [آل عمرَان: 68] ، وَلَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1] ، وَلَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} [الْأَنْفَال: 2] ، وَنَحْوهَا، وَيدخل فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} [النِّسَاء: 92] ، وَفِي قَوْله تَعَالَى:

(2/603)


{وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] ، وَفِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر " وأمثال ذَلِك.
فَلهَذَا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {قَالَت الْأَعْرَاب ءامنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} [الحجرات: 14] ، نفيا للْإيمَان الْمُطلق، لَا لمُطلق الْإِيمَان لوُجُوده - وعددها ثمَّ قَالَ -: وَالْمَقْصُود: الْفرق بَين الْإِيمَان الْمُطلق وَمُطلق الْإِيمَان، فالإيمان الْمُطلق يمْنَع دُخُول النَّار، وَمُطلق الْإِيمَان يمْنَع الخلود فِيهَا.
الْعَاشِر: أَنَّك إِذا قلت: الْأَمر الْمُطلق، فقد أدخلت اللَّام على الْأَمر، وَهِي تفِيد الْعُمُوم والشمول، ثمَّ وَصفته بعد ذَلِك بِالْإِطْلَاقِ، بِمَعْنى أَن لم يُقيد بِقَيْد يُوجب تَخْصِيصه من شَرط أَو صفة أَو غَيرهمَا، فَهُوَ عَام فِي كل فَرد من الْأَفْرَاد الَّتِي هَذَا شَأْنهَا.
وَأما مُطلق الْأَمر فالإضافة فِيهِ لَيست للْعُمُوم، بل للتمييز، فَهُوَ قدر مُشْتَرك، [مُطلق] لَا عَام، فَيصدق بفرد من أَفْرَاده، وعَلى هَذَا [فمطلق

(2/604)


البيع يَنْقَسِم إِلَى: جَائِز وَغَيره، وَالْبيع الْمُطلق للجائز فَقَط] .
وَالْأَمر الْمُطلق للْوُجُوب، وَمُطلق الْأَمر يَنْقَسِم إِلَى: وَاجِب، ومندوب، كَمَا تقدم.
وَالْمَاء الْمُطلق طهُور، وَمُطلق المَاء يَنْقَسِم إِلَى: طهُور وَغَيره.
وَالْملك الْمُطلق هُوَ الَّذِي يثبت للْحرّ، وَمُطلق الْملك يثبت للْحرّ وَالْعَبْد، فَإِذا قيل: العَبْد هَل يملك أَو لَا يملك؟ كَانَ الصَّوَاب إِثْبَات مُطلق الْملك لَهُ دون الْملك الْمُطلق.
وَإِذا قيل: الْفَاسِق مُؤمن أَو غير مُؤمن؟ فَهُوَ على هَذَا التَّفْصِيل.
وَبِهَذَا / التَّحْقِيق يَزُول الْإِشْكَال فِي مَسْأَلَة: الْمَنْدُوب هَل هُوَ مَأْمُور بِهِ أم لَا؟ وَفِي مَسْأَلَة: الْفَاسِق الملي هَل هُوَ مُؤمن أم لَا؟) انْتهى.
وَهِي قَاعِدَة عَظِيمَة، نافعة جدا فِي أَبْوَاب كَثِيرَة، وَإِنَّمَا ذكرتها كلهَا لعظم نَفعهَا.
{القَوْل الثَّانِي} : أَو الْوَاو تدل على {الْمَعِيَّة} ، نَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الْحَنَفِيَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": ( {وَكَلَام أَصْحَابنَا يدل [على أَن الْجمع

(2/605)


للمعية] ، [وَذكر] } أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: مَا يدل على أَنه {إِجْمَاع أهل اللُّغَة} ، لإجماعهم أَنَّهَا فِي الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة ك " وَاو " الْجمع، و " يَاء " التَّثْنِيَة فِي المتماثلة، وَاحْتج بِهِ ابْن عقيل وَغَيره، وَفِيه نظر، لجَوَاز ذَلِك مَعَ كَونهَا للتَّرْتِيب) .
القَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا تدل على التَّرْتِيب، وَنَقله ابْن أبي مُوسَى، والحلواني، وَغَيرهمَا، عَن أَحْمد، حَتَّى أَن الْحلْوانِي لم يحك خلافًا

(2/606)


عَن أَصْحَابنَا، إِلَّا أَنه قَالَ: " مُقْتَضى أصولهم أَنَّهَا للْجمع ".
وَحكي عَن بعض الشَّافِعِيَّة، وَبَالغ الْمَاوَرْدِيّ فِي الْوضُوء من الْحَاوِي، فنقله عَن الْأَخْفَش، وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاق فِي " التَّبْصِرَة، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: (صَار إِلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا) ، وَفِي " الْبُرْهَان ": (هُوَ الَّذِي اشْتهر عَن أَصْحَاب الشَّافِعِي) ، وَجزم بِهِ ابْن سُرَيج، وَقَالَ: " لَا خلاف فِيهِ بَين أهل اللُّغَة) .
وَحكي عَن جمع من النُّحَاة، مِنْهُم: ثَعْلَب، وَأَبُو عَمْرو الزَّاهِد

(2/607)


وَابْن درسْتوَيْه، وَابْن جني [وَابْن برهَان، والربعي] ، وقطرب، وَهِشَام، وَأَبُو جَعْفَر الدينَوَرِي.

(2/608)


وَأنكر ابْن الْأَنْبَارِي الْمُتَأَخر هَذَا النَّقْل عَن جَمِيع هَؤُلَاءِ، وَزعم أَن كتبهمْ تنطق بِخِلَاف ذَلِك.
القَوْل الرَّابِع: اخْتَارَهُ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَئِمَّة أَصْحَابنَا: إِن كَانَ كل وَاحِد من معطوفاتها مرتبطاً بِالْآخرِ، وتتوقف صِحَّته على صِحَّته فللترتيب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ارْكَعُوا واسجدوا} [الْحَج: 77] ، {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} [الْبَقَرَة: 158] ، وكآية الْوضُوء، وَإِن لم تتَوَقَّف صِحَة بعض معطوفاتها على بعض لم تدل على التَّرْتِيب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أقِيمُوا الصَّلَاة وءاتوا الزَّكَاة} ، {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} [الْبَقَرَة: 196] ، وَقد أَوْمَأ أَحْمد / إِلَى هَذَا.

(2/609)


القَوْل الْخَامِس: أَنَّهَا للتَّرْتِيب إِن تعذر الْجمع، وَنقل عَن الْفراء.
القَوْل السَّادِس: أَنَّهَا للتَّرْتِيب فِي الْمُفْردَات دون الْجمل، حَكَاهُ ابْن الخباز عَن شَيْخه.
تَنْبِيه: يَبْنِي الْأَصْحَاب على ذَلِك من الْفِقْه مسَائِل كَثِيرَة يعرفهَا الفطن.

(2/610)


قَوْله: { [وَتَكون] [يَعْنِي الْوَاو] بِمَعْنى: " مَعَ "، و " أَو " [و " رب "، وَالْقسم] ، والاستئناف، وَالْحَال} .
للواو معَان أخر غير مَا تقدم.
أَحدهَا: أَن تكون بِمَعْنى: " مَعَ "، كَقَوْلِهِم: جَاءَ الْبرد والطيالسة، وَنَحْوه من الْمَفْعُول مَعَه.
الثَّانِي: تكون بِمَعْنى: " أَو "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} [النِّسَاء: 3] ، {أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} [فاطر: 1] .
الثَّالِث: تكون للقسم؛ بل هِيَ حرف الْقسم، كَقَوْلِه: {وَالْفَجْر وليال عشر وَالشَّفْع وَالْوتر} [الْفجْر: 1 - 3] ، {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} [الشَّمْس: 1] ، فِي آي كَثِيرَة فِي الْقُرْآن، وَفِي كَلَام الْعَرَب.
الرَّابِع: تكون لرب كَقَوْل الشَّاعِر:
(وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس ... )

(2/611)


وَقَوله:
(ونار لَو نفخت بهَا أَضَاءَت ... وَلَكِن أَنْت تنفخ فِي رماد)

أَي: وَرب بَلْدَة ونار، لَكِن هَذِه الْوَاو تسمى: وَاو " رب "، فَرُبمَا ظَهرت " رب " مَعهَا، وَرُبمَا أضمرت وَبقيت " الْوَاو ".
الْخَامِس: تكون للاستئناف، وَهُوَ كثير.
السَّادِس: تكون بِمَعْنى الْحَال، نَحْو: جَاءَ زيد وَالشَّمْس طالعة، جَاءَ زيد وَهُوَ يضْحك.
قَوْله: {وَالْفَاء العاطفة للتَّرْتِيب والتعقيب، عِنْد الْأَرْبَعَة [وأتباعهم] وَغَيرهم} من النُّحَاة وَغَيرهم.

(2/612)


وَهِي نَوْعَانِ.
أَحدهمَا: يكون ترتيبها معنوياً، كقام زيد فعمرو.
وَالثَّانِي: يكون زَكَرِيَّا، وَهُوَ عطف مفصل على مُجمل هُوَ هُوَ فِي الْمَعْنى، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ} [الْبَقَرَة: 36] ، {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} [الْبَقَرَة: 54] ، {فانتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم فِي اليم} [الْأَعْرَاف: 136] ، {فقد سَأَلُوا مُوسَى أكبر من ذَلِك فَقَالُوا أرنا الله جهرة} [النِّسَاء: 153] ، {ونادى نوح ربه فَقَالَ رب إِن ابْني من أَهلِي} [هود: 45] .
وَتقول: تَوَضَّأ فَغسل وَجهه ... إِلَى آخِره، وَتقول: قَالَ فَأحْسن، / وخطب فأوجز، وَأعْطى فأجزل، فَهَذَا يبين كَيْفيَّة وُقُوعه.
وَالْمَشْهُور أَن معنى التعقيب: كَون الثَّانِي بعد الأول بِغَيْر مهلة، كَأَن الثَّانِي أَخذ بعقب الأول، يَعْنِي: فِي الْجُمْلَة.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: تعقيب كل شَيْء بِحَسبِهِ، فَيُقَال: تزوج فلَان فولد لَهُ، إِذا لم يكن بَينهمَا إِلَّا مُدَّة الْحمل وَإِن طَالَتْ، وَقطع بِهِ ابْن هِشَام فِي " مُغنِي اللبيب ".

(2/613)


وَنقل الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: الْإِجْمَاع أَنه للتَّرْتِيب والتعقيب، لَكِن قَالَ الْفراء: إِنَّهَا لَا تدل على التَّرْتِيب، بل تسْتَعْمل فِي انتفائه، كَقَوْلِه تَعَالَى {وَكم من قَرْيَة أهلكناها فَجَاءَهَا بأسنا} [الْأَعْرَاف: 4] ، مَعَ أَن مَجِيء الْبَأْس مُتَقَدم على الإهلاك.
وَأجِيب: بِأَنَّهَا للتَّرْتِيب الذكري، أَو فِيهِ حذف تَقْدِيره: أردنَا إهلاكها فَجَاءَهَا بأسنا.

(2/614)


وَمثله: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} [النَّحْل: 98] .
وَقَول الْفراء: إِنَّهَا لَا تفِيد التَّرْتِيب، وتفيد " الْوَاو " التَّرْتِيب غَرِيب.
وَمِمَّا يدل على أَنَّهَا تَأتي لغير التَّرْتِيب، بل تكون كالواو [قَوْله] :
(بَين الدُّخُول فحومل ... )

وَزعم الْأَصْمَعِي: أَن الصَّوَاب رِوَايَته بِالْوَاو، لِأَنَّهُ لَا يجوز جَلَست بَين زيد فعمرو.
وَأجِيب: بِأَن التَّقْدِير: بَين مَوَاضِع الدُّخُول فمواضع حومل، كَمَا يجوز: جَلَست بَين الْعلمَاء فالزهاد.
وَقَالَ بعض البغداديين: الأَصْل " مَا بَين "، فَحذف " مَا " دون " بَين ".
وَقَالَ الْجرْمِي: لَا تدل على التَّرْتِيب إِن دخلت على الْأَمَاكِن.

(2/615)


نَحْو: نزلنَا نجداً فتهامة، وَنزل الْمَطَر نجداً فتهامة، وَإِن كَانَت تهَامَة فِي هَذَا سَابِقَة، وَلم يعلم مِنْهُ تقدم وَلَا تَأَخّر.
وَقَالَ ابْن مَالك: تَأتي للتَّرْتِيب بمهلة ك " ثمَّ "، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة} [الْحَج: 63] .
وَقَالَ غَيره: (هَذَا من تَرْتِيب كل شَيْء بِحَسبِهِ) .
{و} قَالَ ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح ": لَا تعقيب فِي} قَوْله تَعَالَى: { {كن فَيكون} } .
وَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَالَ ابْن هِشَام: (قيل: تكون الْفَاء للاستئناف، وَمِنْه {كن فَيكون} بِالرَّفْع، أَي: فَهُوَ يكون حِينَئِذٍ.
قَالَ: وَالتَّحْقِيق أَنَّهَا للْعَطْف، وَأَن الْمُعْتَمد بالْعَطْف الْجُمْلَة لَا الْفِعْل) .
وَيتَفَرَّع على ذَلِك مسَائِل فقهية.

(2/616)


قَوْله: {وَتَأْتِي سَبَبِيَّة، / ورابطة، وَقيل: وزائدة} .
تَأتي الْفَاء سَبَبِيَّة، وَذَلِكَ كثير فِي العاطفة جملَة أَو صفة.
فَالْأول كَقَوْلِه تَعَالَى: {فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ} [الْقَصَص: 15] ، {فَتلقى ءادم من ربه كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 37] .
وَالثَّانِي: كَقَوْلِه تَعَالَى: {لآكلون من شجر من زقوم فمالئون مِنْهَا الْبُطُون فشاربون عَلَيْهِ من الْحَمِيم} [الْوَاقِعَة: 52 - 54] .
وَقد تَجِيء فِي ذَلِك لمُجَرّد التَّرْتِيب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين فقربه إِلَيْهِم} [الذاريات: 26 - 27] ، وَقَوله تَعَالَى: {لقد كنت فِي غَفلَة من هَذَا فكشفنا عَنْك غطاءك} [ق: 22] ، وَقَوله تَعَالَى: {فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة فصكت وَجههَا} [الذاريات: 29] ، وَقَوله تَعَالَى: {فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا} [الصافات: 2 - 3] .
ورد السُّهيْلي ذَلِك إِلَى التعقيب، بل رد كل مَعَانِيهَا إِلَى التعقيب.
وَتَأْتِي - أَيْضا " الْفَاء " رابطة للجواب، صَرَّحُوا بذلك، مِنْهُم ابْن الباقلاني، وَقَالَ: (لَا تَقْتَضِي التعقيب) . وَجعلُوا علامتها: حَيْثُ لَا تصلح لِأَن تكون شرطا، وَذَلِكَ فِي سِتّ مسَائِل.
إِحْدَاهَا: أَن يكون الْجَواب جملَة اسمية، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن يمسسك بِخَير فَهُوَ على كل شَيْء قدير} [الْأَنْعَام: 17] ، {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} [الْمَائِدَة: 118] .

(2/617)


الثَّانِيَة: أَن تكون فعلية [كالاسمية] ، وَهِي الَّتِي يكون فعلهَا جَامِدا، نَحْو: {إِن ترن أَنا أقل مِنْك مَالا وَولدا فَعَسَى رَبِّي إِن يؤتين} [الْكَهْف: 39 40] ، {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ} [الْبَقَرَة: 271] ، {وَمن يكن الشَّيْطَان لَهُ قرينا فسَاء قريناً} [النِّسَاء: 38] ، {وَمن يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء} [آل عمرَان: 28] .
الثَّالِثَة: أَن يكون فعلهَا إنْشَاء، نَحْو: {إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني} [آل عمرَان: 31] ، {فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم} [الْأَنْعَام: 150] ، {قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا فَمن يأتيكم بِمَاء معِين} [الْملك: 30] ، فِيهِ أَمْرَانِ: الاسمية والإنشاء.
الرَّابِعَة: أَن يكون فعلهَا مَاضِيا لفظا وَمعنى، إِمَّا حَقِيقَة نَحْو: {إِن يسرق فقد سرق أَخ لَهُ من قبل} [يُوسُف: 77] ، {إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل فصدقت} الْآيَة [يُوسُف: 26] ، وَإِمَّا مجَازًا نَحْو: {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار} [النَّمْل: 90] ، نزل هَذَا الْفِعْل لتحَقّق / وُقُوعه منزلَة مَا وَقع.
الْخَامِسَة: أَن تقترن بِحرف اسْتِقْبَال، نَحْو: {من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم} [الْمَائِدَة: 54] ، {وَمَا تَفعلُوا من خير فَلَنْ تكفروه} . .

(2/618)


[آل عمرَان: 115] .
السَّادِسَة: أَن تقترن بِحرف لَهُ الصَّدْر، كَقَوْلِه:
(فَإِن أهلك خذي لَهب لظاه ... عَليّ يكَاد يلتهب التهابا)

لما عرف من أَن رب مقدرَة، وَأَن لَهَا الصَّدْر.
وَأما إتيانها زَائِدَة، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ.
فَذهب سِيبَوَيْهٍ وَمن تبعه: أَنَّهَا لَا تكون زَائِدَة.
وَأَجَازَهُ الْأَخْفَش فِي الْخَبَر مُطلقًا، وَحكى: (أَخُوك فَوجدَ) ، وَقيد الْفراء، والأعلم، وَجَمَاعَة، الْجَوَاز بِكَوْن الْخَبَر أمرا ونهياً، فَالْأَمْر كَقَوْلِه:
(وقائلة خولان فانكح فَتَاتهمْ ... )

(2/619)


وَحمل الزّجاج عَلَيْهِ {هَذَا فليذوقوه} .
وَالنَّهْي نَحْو: فَلَا تضربه.
وَقَالَ ابْن برهَان: (تزاد الْفَاء عِنْد أَصْحَابنَا يَعْنِي الْبَصرِيين جَمِيعًا، كَقَوْلِه:
(وَإِذا هَلَكت فَعِنْدَ ذَلِك فاجزعي ... )
انْتهى.
وَتَأَول المانعون قَوْله: فانكح فَتَاتهمْ، على أَن التَّقْدِير: هَذِه خولان، وأولو الْبَاقِي، وَمن أَرَادَ تفاصيل ذَلِك فَعَلَيهِ ب " الْمُغنِي " لِابْنِ هِشَام.
قَوْله: {و " ثمَّ " للتشريك فِي الْأَصَح، وللترتيب بِمُهْملَة عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَقيل: كالواو، وَفِي " التَّمْهِيد ": تَأتي كالواو، وَقيل: كالفاء} .

(2/620)


اعْلَم أَن " ثمَّ " حرف عطف للتشريك بَين مَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا فِي الحكم، وَخَالف الكوفييون فجوزوا أَن تقع زَائِدَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم} [التَّوْبَة: 118] ، فَلَيْسَتْ عاطفة هُنَا الْبَتَّةَ حَتَّى يكون فِيهَا تشريك.
قَوْله: (وللترتيب) .
هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر، وَقَطعُوا بِهِ، وَخَالف فِيهِ الْعَبَّادِيّ.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (إِنَّمَا قَالَه الْعَبَّادِيّ فِي بعض التراكيب، ورد غَيره) .
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمُخَالف فِي التَّرْتِيب الْفراء، فِيمَا حَكَاهُ السيرافي، وَعَزاهُ غَيره للأخفش، محتجاً بقوله تَعَالَى: {خَلقكُم من نفس وَاحِدَة ثمَّ جعل مِنْهَا زَوجهَا} [الزمر: 6] ، وَمَعْلُوم أَن هَذَا الْجعل كَانَ قبل خلقنَا، وتأوله الْجُمْهُور على التَّرْتِيب الإخباري.
وفيهَا مَذْهَب ثَالِث: أَن التَّرْتِيب فِي الْمُفْردَات دون الْجمل، كَقَوْلِه

(2/621)


تَعَالَى: {فإلينا مرجعهم ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} [يُونُس: 46] ، إِذْ شَهَادَة الله مُتَقَدّمَة على الْمرجع، قَالَه ابْن [الدهان] ، وَجرى عَلَيْهِ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي " القواطع ".
وَالصَّحِيح هُوَ الأول مُطلقًا، لكنه فِي الْمُفْردَات معنوي، وَفِي الْجمل ذكري، نَحْو:
(إِن من سَاد ثمَّ سَاد أَبوهُ ... ثمَّ [قد] سَاد قبل ذَلِك جده)

فَهُوَ تَرْتِيب فِي الْإِخْبَار، لَا فِي الْوُجُود) .
قَوْله: (بمهلة) .
أَي: بتراخ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور، وَقَطعُوا بِهِ.

(2/622)


وَخَالف الْفراء أَيْضا -، فَقَالَ: قد يتَخَلَّف بِدَلِيل: أعجبني مَا صَنعته الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب، " ثمَّ " فِي ذَلِك كُله لترتيب الْإِخْبَار، وَلَا تراخي فِي الإخبارين.
وَوَافَقَهُ على ذَلِك ابْن مَالك، فَقَالَ: (قد تقع " ثمَّ " فِي عطف الْمُتَقَدّم بِالزَّمَانِ، اكْتِفَاء بترتيب اللَّفْظ) ، وَجعل مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب تَمامًا} [الْأَنْعَام: 154] .
قَالَ الرَّاغِب: والعبارة الجامعة أَن يُقَال فِي " ثمَّ ": (إِنَّهَا حرف عطف يَقْتَضِي تَأَخّر مَا بعده عَمَّا قبله، إِمَّا تأخراً بِالذَّاتِ، أَو بالمرتبة، أَو بِالْوَضْعِ) .
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَآيَة " الْحَج " [و " الْمُؤْمِنُونَ "] فِي النُّطْفَة والعلقة، قيل: " الْفَاء " لآخر النُّطْفَة وَأول الْعلقَة، و " ثمَّ " لأولهما، وَقيل: يتعاقبان، وَقيل: قد يستقرب لعظم الْأَمر فَيُؤتى ب " الْفَاء "، وَقد يستبعد لطول الزَّمَان فيوتى ب " ثمَّ "، وَأما {ثمَّ الله شَهِيد} [يُونُس " 46] {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} .

(2/623)


فَقيل: لترتيب الْأَخْبَار بَعْضهَا على بعض، نَحْو: زيد عَالم ثمَّ كريم، لَا الْمخبر عَنهُ، وَقيل: بِمَعْنى الْوَاو) .
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": تَأتي " ثمَّ " كالواو.
قَوْله: {و " حَتَّى " العاطفة للغاية} .
كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى مطلع الْفجْر} [الْقدر: 5] ، فَلَا يكون الْمَعْطُوف بهَا إِلَّا غَايَة لما قبلهَا من زِيَادَة أَو نقص، نَحْو: مَاتَ النَّاس حَتَّى الْأَنْبِيَاء، وَقدم الْحَاج حَتَّى المشاة.
قَوْله: {لَا تَرْتِيب فِيهَا، وَقيل: ك " الْفَاء "، وَقيل: ك " ثمَّ "، وَقيل " بَينهمَا} .
" حَتَّى " العاطفة لَا تَرْتِيب [فِيهَا] .
قَالَ ابْن مَالك فِي " شرح الْعُمْدَة " تبعا لطائفة: (هِيَ الْوَاو) ،

(2/624)


- وَأنكر على الْقَائِل بِأَنَّهَا للتَّرْتِيب -، (فَإنَّك تَقول: / حفظت الْقُرْآن حَتَّى سُورَة الْبَقَرَة، وَإِن كَانَت أول مَا حفظت، أَو متوسطاً) .
وَقيل: هِيَ كالفاء، اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِك: (مثل الْفَاء) .
وَقيل: ك " ثمَّ "، قَالَه طَائِفَة مِنْهُم: الصفي الْهِنْدِيّ، قطع بِهِ، وَمِنْهُم: الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ".
وَقيل: بَينهمَا، قَالَ القواس: (تفِيد المهلة، إِلَّا أَن المهلة فِيهَا أقل من " ثمَّ ") .
قَالَ ابْن إياز: (لَيْسَ ترتيبها ك " الْفَاء " و " ثمَّ "، فَإِنَّهُمَا يرتبان أحد الْفِعْلَيْنِ على الآخر فِي الْوُجُود، وَهِي ترَتّب تَرْتِيب الْغَايَة، وَيشْتَرط أَن يكون

(2/625)


مَا بعْدهَا من جنس مَا قبلهَا، وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا بِذكر الْكل قبل الْجُزْء) .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (هِيَ للتَّرْتِيب) .
قَوْله: {وَيشْتَرط كَون معطوفها جُزْءا من متبوعه} .
نَحْو: قدم الْحجَّاج حَتَّى المشاة.
{أَو كجزئه} .
كَقَوْلِك: أعجبتني الْجَارِيَة حَتَّى حَدِيثهَا، فَإِن حَدِيثهَا لَيْسَ بَعْضًا، وَلكنه كالبعض، لِأَنَّهُ معنى من مَعَانِيهَا.
وَقد يكوم الْمَعْطُوف ب " حَتَّى " مبايناً، فتقدر بعضيته، كَقَوْلِه:
(ألْقى الصَّحِيفَة كي يُخَفف رَحْله ... والزاد حَتَّى نَعله أَلْقَاهَا)

فعطف النَّعْل، وَلَيْسَت بَعْضًا لما قبلهَا صَرِيحَة، لَكِنَّهَا بالتأويل؛ لِأَن الْمَعْنى: ألْقى مَا يثقله حَتَّى نَعله.
قَوْله: {وَتَأْتِي [للتَّعْلِيل] } .
كَقَوْلِه: كَلمته حَتَّى يَأْمر لي بِشَيْء، وعلامتها: أَن يصلح موضعهَا " كي " / وَمِنْه أسلم حَتَّى يدْخل الْجنَّة.
قَوْله: {وَقل [لاستثناء مُنْقَطع] } .

(2/626)


إتيانها للاستثناء الْمُنْقَطع نَادِر، ذكره ابْن مَالك فِي " التسهيل "، وَهُوَ مُرَاد من أطلق الِاسْتِثْنَاء، أَي: الْمُنْقَطع، كَقَوْلِه:
(لَيْسَ الْعَطاء من الفضول سماحة ... حَتَّى تجود وَمَا لديك قَلِيل)

قَالَ ابْن هِشَام فِي " الْمُغنِي ": (" حَتَّى " تَأتي لأحد ثَلَاثَة معَان:
انْتِهَاء الْغَايَة، وَهُوَ الْغَالِب، وَالتَّعْلِيل، وَبِمَعْنى " إِلَّا " فِي الِاسْتِثْنَاء، وَهُوَ أقلهَا.
وتستعمل على ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن تكون حرف جر، بِمَنْزِلَة " إِلَى " فِي الْمَعْنى وَالْعَمَل، لَكِن تخَالفه فِي ثَلَاثَة أُمُور وَذكرهَا -.
الثَّانِي: أَن تكون عاطفة بِمَنْزِلَة " الْوَاو "، إِلَّا أَن بَينهمَا فرقا من ثَلَاثَة أوجه وَذكرهَا -.
الثَّالِث: أَن تكون حرف ابْتِدَاء، أَي: حرف تبتدأ بعده الْجمل، أَي: تسْتَأْنف الْجمل، سَوَاء كَانَت اسمية أَو فعلية) انْتهى. وحرر أَحْكَامهَا.
قَوْله: {و " من " لابتداء الْغَايَة} .

(2/627)


هَذَا غَالب مَعَانِيهَا، فَفِي الْمَكَان اتِّفَاقًا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِد الْحَرَام} [الْإِسْرَاء: 1] ، وَفِي الزَّمَان عِنْد الْكُوفِيّين، والمبرد، وَابْن درسْتوَيْه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لمَسْجِد أسس على التَّقْوَى من أول يَوْم} [التَّوْبَة: 108] ، {وَمن اللَّيْل فتجهد بِهِ} [الْإِسْرَاء: 79] ، و {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} [الرّوم: 4] .
وَصَححهُ ابْن مَالك، وَأَبُو حَيَّان، لِكَثْرَة شواهده.
وَقد رد بَعضهم سَائِر مَعَانِيهَا إِلَى ابْتِدَاء الْغَايَة، فَإِذا قلت: أخذت من الدَّرَاهِم، فقد جعلت الدَّرَاهِم ابْتِدَاء غَايَة الْأَخْذ.
قَوْله: {حَقِيقَة} .
يَعْنِي أَن " من " لابتداء الْغَايَة حَقِيقَة، وَفِي غَيره من الْمعَانِي مجَاز، { [عِنْد] أَصْحَابنَا وَأكْثر النُّحَاة.

(2/628)


وَقيل: [حَقِيقَة] فِي التَّبْعِيض} ، مجَاز فِي غَيره، { [وَقَالَهُ] ابْن عقيل} فِي مَسْأَلَة الْوَاو.
{وَقيل} : حَقِيقَة {فِي التَّبْيِين} ، مجَاز فِي غَيره / اخْتَارَهُ الطوفي، وَالْمرَاد: بَيَان الْجِنْس.
قَوْله: {وَلها معَان} .
كَثِيرَة لَا بَأْس بذكرها تكميلاً للفائدة.
أَحدهَا: لابتداء الْغَايَة، مَكَانا، أَو زَمَانا، على خلاف تقدم، وعلامتها: أَن يذكر بعْدهَا " إِلَى " فيستقيم الْكَلَام، نَحْو: سرت من الْبَصْرَة، فَإِنَّهُ يَصح أَن تَقول: إِلَى الْكُوفَة، وَقد يحذف انْتِهَاء الْغَايَة بعْدهَا للْعلم بِهِ، وَقد لَا يقْصد فِيهِ انْتِهَاء الْغَايَة أصلا، نَحْو: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، وَزيد أفضل من عَمْرو.
وَالثَّانِي: التَّبْعِيض، وعلامتها: صِحَة وضع " بعض " فِي محلهَا، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُم من كلم الله} [الْبَقَرَة: 253] .
فَائِدَة: الْبَعْض؛ هَل يصدق على النّصْف، أَو مَا دونه؟

(2/629)


فِيهِ قَولَانِ لأهل اللُّغَة، قِيَاس ذَلِك: يجْرِي فِي الْبَعْض الْمُسْتَفَاد من " من "، الْقَوْلَانِ. قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَيشْهد للثَّانِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرهم الْفَاسِقُونَ} [آل عمرَان: 110] ، وَفِي " النِّهَايَة " فِي / الْوكَالَة: (لَو قَالَ: بِعْ من عَبِيدِي من شِئْت، فَلَيْسَ للْوَكِيل أَن يَبِيع جَمِيعهم، بل لَهُ أَن يبيعهم إِلَّا وَاحِدًا بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب، وَإِن كَانَ التَّبْعِيض فِي النّظم الْمَعْرُوف إِنَّمَا يُورد على النّصْف فَمَا دونه) انْتهى.
قلت: استدلاله واستشهاده بِالْآيَةِ لَا يُنَافِي أَنه يصدق على النّصْف، وَأَيْضًا فقد قَالَ ابْن أم قَاسم الْمرَادِي، فِي " شرح الألفية "، فِي بَاب الْبَدَل: (إِن الْبَعْض عِنْد الْبَصرِيين يَقع على الشَّيْء وعَلى نصفه وعَلى أَقَله، وَعَن الْكسَائي وَهِشَام: أَن بعض الشَّيْء لَا يَقع إِلَّا على مَا دون النّصْف، وَلذَلِك منعا أَن يُقَال: بعض الرجلَيْن لَك، أَي: أَحدهمَا) انْتهى.
فَخَالف نقل الْبرمَاوِيّ، وَهُوَ الأولى، وَالْقَوْل الأول مُوَافق لكَلَام الْفُقَهَاء.
الثَّالِث: التَّبْيِين، أَي: بَيَان الْجِنْس، وعلامتها: أَن يَصح وضع " الَّذِي "

(2/630)


مَوضِع " من "، نَحْو: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} [الْحَج: 30] ، أَي: الَّذِي هُوَ الْأَوْثَان، وَمثله: قَوْله تَعَالَى: {يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب وَيلبسُونَ ثيابًا خضرًا من سندس} [الْكَهْف: 31] .
الرَّابِع: التَّعْلِيل، نَحْو: {يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق} [الْبَقَرَة: 19] .
الْخَامِس: الْبَدَل، نَحْو: {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} [التَّوْبَة: 38] ، {وَلَو [نشَاء] لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة} [الزخرف: 60] ، أَي: بدلكم.
السَّادِس: الْغَايَة إِلَى انْتِهَاء الْغَايَة، مثل: " إِلَى "، فَتكون لابتداء الْغَايَة من الْفَاعِل، ولانتهاء غَايَة الْفِعْل من الْمَفْعُول، نَحْو: رَأَيْت الْهلَال من دَاري من خلل السَّحَاب، أَي: من مَكَاني إِلَى خلل السَّحَاب، فابتداء الرُّؤْيَة وَقع من الدَّار، وانتهاؤها فِي خلل السَّحَاب.
ذكر ابْن مَالك أَن سِيبَوَيْهٍ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى، وَأنْكرهُ جمَاعَة، [وَقَالُوا] : هِيَ لابتداء الْغَايَة لَكِن فِي حق الْمَفْعُول.
وَمِنْهُم من جعلهَا فِي هَذَا الْمِثَال لابتداء الْغَايَة فِي حق الْفَاعِل،

(2/631)


بِتَقْدِير: رَأَيْت الْهلَال من دَاري ظَاهرا من خلل السَّحَاب، وَيحْتَمل أَن ترَاد الْغَايَة كلهَا ابْتِدَاء / وانتهاء، حُكيَ عَن قوم فِيمَا إِذا دخلت " من " على فعل لَيْسَ لَهُ امتداد فَيكون الْمُبْتَدَأ والمنتهى وَاحِدًا.
السَّابِع: تنصيص الْعُمُوم، وَهِي الدَّاخِلَة على نكرَة لَا تخْتَص بِالنَّفْيِ، نَحْو: مَا جَاءَنِي من رجل، فَإِنَّهُ كَانَ قبل دُخُولهَا مُحْتملا لنفي الْجِنْس، ولنفي الْوحدَة، وَلِهَذَا يَصح أَن تَقول: بل رجلَانِ، وَيمْتَنع ذَلِك بعد دُخُول " من "، وَيَأْتِي محرراً فِي صِيغ الْعُمُوم، أما الْوَاقِعَة بعد " مَا " فَلَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي النَّفْي والتأكيد نَحْو: مَا جَاءَنِي من أحد، وَزعم الْكُوفِيُّونَ أَنَّهَا تزاد فِي الْإِثْبَات نَحْو: {يغْفر لكم من ذنوبكم} [الْأَحْقَاف: 31، ونوح: 4] بِدَلِيل: {إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} [الزمر: 53] .
وَأجِيب: بِأَن " من " للتَّبْعِيض، لِأَن من الذُّنُوب حُقُوق الْعباد، وَالله تَعَالَى لَا يغفرها، بل يستوهبها إِذا شَاءَ.
وَقَوله: {يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} إِنَّمَا هُوَ فِي هَذِه [الْأمة] ، وَقَوله فِي الْآيَة الْأُخْرَى: {من ذنوبكم} هُوَ فِي قوم نوح، فَلم يتواردا على مَحل، وَلَو سلم أَيْضا أَنَّهَا فِي هَذِه الْأمة، فَلَا يبعد أَن يغْفر بعض الذُّنُوب لقوم وجميعها لآخرين.

(2/632)


الثَّامِن: الْفَصْل كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح} [الْبَقَرَة: 220] ، وتعرف بِدُخُولِهَا على ثَانِي المتضادين.
التَّاسِع: مجيئها بِمَعْنى " الْبَاء " كَقَوْلِه تَعَالَى: {ينظرُونَ من طرف خَفِي} [الشورى: 45] ، قَالَ يُونُس: أَي: بِطرف، وَيحْتَمل أَنه من ابْتِدَاء الْغَايَة.
الْعَاشِر: بِمَعْنى " فِي " كَقَوْلِه تَعَالَى: {أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض} [فاطر: 40، والأحقاف: 4] ، أَي: فِي الأَرْض، كَذَا مثلت، وَالظَّاهِر أَنَّهَا على بَابهَا، لصِحَّة الْمَعْنى بذلك، وَالْأَحْسَن أَن يمثل بِمَا جَاءَ عَن الشَّافِعِي فِي قَوْله: {فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم} أَنَّهَا بِمَعْنى " فِي " بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مُؤمن} .
الْحَادِي عشر: بِمَعْنى " عِنْد " كَقَوْلِه تَعَالَى: {لن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من الله شَيْئا} [آل عمرَان: 10] ، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَمثله: " وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد ".

(2/633)


الثَّانِي عشر: بِمَعْنى " على "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ونصرناه من الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوم سوء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 77] ،
وَقيل: بل هُوَ على التَّضْمِين / أَي: منعناه، وَهُوَ أولى من التَّجَوُّز فِي الْحُرُوف، كَمَا سبق ذكر الْخلاف فِيهِ.
الثَّالِث عشر: بِمَعْنى " عَن "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله} [الزمر: 22] ، أَي: عَن ذكر الله.
قَوْله: {و " إِلَى " لانْتِهَاء الْغَايَة} .
عِنْد الْفُقَهَاء والنحاة وَغَيرهم.
{ [قَالَ] أَبُو الْخطاب} فِي " التَّمْهِيد "، {وَابْن عقيل} فِي " الْوَاضِح ".

(2/634)


{والموفق} فِي " الْكَافِي "، وَغَيرهم، {والكوفيون وَغَيرهم} : {و} تَأتي {بِمَعْنى " مَعَ "} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {من أَنْصَارِي إِلَى الله} [آل عمرَان: 52، والصف: 14] ، أَي: مَعَ الله، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم} [النِّسَاء: 2] ، أَي: مَعَ أَمْوَالكُم، تَقول الْعَرَب: الذود إِلَى الذود إبل، أَي: مَعَ الذود.
ورده الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
قَالَ الْحسن وَأَبُو عُبَيْدَة: " إِلَى " فِي قَوْله تَعَالَى: {من أنصارى إِلَى الله} [آل عمرَان: 52، والصف: 14] بِمَعْنى " فِي "، أَي: من أعواني فِي الله، أَي: فِي ذَات الله وسبيله.

(2/635)


وَقيل: " إِلَى " فِي مَوْضِعه، مَعْنَاهُ: من يضم نصرته إِلَى نصْرَة الله.
قَوْله: {وَابْتِدَاء الْغَايَة دَاخل عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْأَصْحَاب.
وَلنَا قَول لَا يدْخل، ذكره الْأَصْحَاب فِي الْإِقْرَار، مثل: أَن يَقُول: لَهُ عِنْدِي من دِرْهَم إِلَى عشرَة، فلنا قَول: أَنه يلْزمه ثَمَانِيَة لَا غير، لعدم دُخُول ابْتِدَاء الْغَايَة وانتهائها، وَجزم بِهِ ابْن شهَاب من أَصْحَابنَا وكما لَو قَالَ: من هَذَا الْحَائِط إِلَى هَذَا الْحَائِط.

(2/636)


وَأجَاب القَاضِي عَن مَسْأَلَة الْحَائِط: أَن ذكرهمَا فِي الْإِقْرَار على جِهَة التَّحْدِيد: وَالْحَد لَا يدْخل فِي الْمَحْدُود، أَلا ترى لَو قَالَ فِي الْمَبِيع: حَده الأول إِلَى الطَّرِيق، لم يدْخل الطَّرِيق فِي الْحَد.
قَوْله: {لَا انتهاؤها فِي الْأَصَح} .
يَعْنِي: أَن انْتِهَاء الْغَايَة لَا يدْخل على الْأَصَح { [من مَذْهَبنَا وَمذهب الْمَالِكِيَّة] وَالشَّافِعِيَّة} وَغَيرهم، فَلَو قَالَ: لَهُ من دِرْهَم إِلَى عشرَة، لزمَه تِسْعَة، على الصَّحِيح، وعَلى القَوْل الآخر، يلْزمه عشرَة، وعَلى القَوْل الْمَاضِي بِأَن ابْتِدَاء الْغَايَة وانتهاءها لَا يدْخل، يلْزمه ثَمَانِيَة، كَمَا تقدم.
القَوْل الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة: أَن الْغَايَة المحصورة تدخل، وَعَن أَحْمد مَا يدل عَلَيْهِ، وَهَذَا القَوْل يحْتَمل أَن يكون الْمُقَابل للأصح / فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي ذكرنَا فِي الْمَتْن، وَيحْتَمل أَن يكون القَوْل بِعَدَمِ الدُّخُول مُطلقًا، / وَهُوَ الظَّاهِر.
فعلى هَذَا يكون هَذَا القَوْل الثَّانِي الْمُقَيد للمسألة زَائِدا على مَا فِي الْمَتْن من الْأَقْوَال.

(2/637)


{و} القَوْل الثَّالِث: {إِن كَانَت الْغَايَة من جنس الْمَحْدُود، كالمرافق} فِي آيَة الْوضُوء، {دخلت، وَإِلَّا فَلَا} ، كَقَوْلِه: {ثن أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] ، وَكَذَا: إِلَى الْغَد، اخْتَارَهُ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من كبار أَصْحَابنَا، { [وَحَكَاهُ القَاضِي] عَن أهل اللُّغَة} .
{و} القَوْل الرَّابِع: {إِن قَامَت الْغَايَة بِنَفسِهَا لم تدخل} فِي الحكم، {كبعتك من هُنَا إِلَى هُنَا، وَإِن تنَاوله صدر الْكَلَام، فالغاية لإِخْرَاج مَا وَرَاءه، كالمرافق والغاية فِي الْخِيَار، [قَالَه الحنيفة] ، وَمنع أَبُو حنيفَة دُخُول الْعَاشِر، فِي [إِقْرَاره] : من دِرْهَم إِلَى عشرَة} ، لعدم التَّنَاوُل، { [وَعند صَاحِبيهِ يدْخل] } ، لعدم الْقيام بِنَفسِهِ، وَكَذَا فِي الطَّلَاق عِنْدهم.

(2/638)


وَالْقَوْل الْخَامِس وَرجحه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " و " الْمُنْتَخب " -: (إِن كَانَ مُنْفَصِلا عَمَّا قبله بمنفصل مَعْلُوم بالحس كَقَوْلِه تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] فَلَا يدْخل، وَإِلَّا دخل كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} [الْمَائِدَة: 6] ، فَوَجَبَ الحكم بِالدُّخُولِ) .
القَوْل السَّادِس وَهُوَ مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ، قَالَه فِي [الْبُرْهَان]-: أَنَّهَا إِن اقترنت ب " من " لم تدخل، وَإِلَّا احْتمل الْأَمريْنِ.
القَوْل السَّابِع اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ -: أَنَّهَا لَا تدل على شَيْء.
وَلم يصحح ابْن الْحَاجِب شَيْئا، وَتَأْتِي هَذِه الْأَقْوَال فِي التَّخْصِيص بغاية.

(2/639)


قَوْله: { [على] للاستعلاء} .
هَذَا أشهر مَعَانِيهَا، سَوَاء كَانَ ذاتياً، نَحْو: {واستوت على الجودي} [هود: 44] ، و {كل من عَلَيْهَا فان} [الرَّحْمَن: 26] ، أَو معنوياً كَقَوْلِه تَعَالَى: {وكتبنا عَلَيْهِم} [الْمَائِدَة: 45] ، {ولعلا بَعضهم} .
قَوْله: {وَهِي للْإِيجَاب عِنْد الْأَصْحَاب وَغَيرهم} .
قَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد، و " الْهِدَايَة " فِي بَاب الْعَقِيقَة: (على للْإِيجَاب) .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَهِي للْإِيجَاب) .

(2/640)


وَقَالَ فِي " الْفُرُوع "، فِي بَاب إِخْرَاج الزَّكَاة: (و " على " ظَاهِرَة فِي الْوُجُوب، وأوجبه الظَّاهِرِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَقد ذكره صَاحب " الْمُحَرر " فِي قَوْله: وعَلى الْغَاسِل ستر مَا رَآهُ) .
قَوْله: {وَلها معَان} . لَا بَأْس بذكرها تكميلاً للفائدة:
أَحدهَا: أَنَّهَا للاستعلاء، وَهِي أشهر مَعَانِيهَا كَمَا تقدم، حسياً كَانَ أَو معنوياً.
فَائِدَة: قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الله} [النِّسَاء: 81، والأنفال: 61، والأحزاب: 3، 48] ، لَا استعلاء فِيهِ، لَا حَقِيقَة، وَلَا مجَازًا، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنى الْإِضَافَة، أَي: أضفت توكلي إِلَى الله.
قَالَ أَبُو حَيَّان فِي " النَّهر " فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمرَان: 159] ، (إِذا عقدت قَلْبك على أَمر بعد الاستشارة فَاجْعَلْ تفويضك فِيهِ إِلَى الله) .
الْمَعْنى الثَّانِي من مَعَاني " على ": المصاحبة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واتى المَال على حبه} [الْبَقَرَة: 177] .
الثَّالِث: الْمُجَاوزَة، بِمَعْنى " عَن "، كَقَوْل الشَّاعِر:

(2/641)


(إِذا رضيت عَليّ بَنو قُشَيْر ... لعمر الله أعجبني رِضَاهَا)

أَي رضيت عني.
الرَّابِع: التَّعْلِيل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} [الْبَقَرَة: 185] ، أَي: لهدايتكم.
الْخَامِس: الظَّرْفِيَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان} [الْبَقَرَة: 102] .
السَّادِس: الِاسْتِدْرَاك، كَقَوْلِك: فلَان لَا يدْخل الْجنَّة لسوء صَنِيعه، على أَنه لَا ييأس من رَحْمَة الله، أَي: لَكِن لَا ييأس.
السَّابِع: الزِّيَادَة، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من حلف على يَمِين "، أَي: يَمِينا.
وَأنكر سِيبَوَيْهٍ وُقُوع زيادتها.
فَائِدَة: اخْتلف فِي " على "، هَل تكون اسْما أم لَا؟ على مَذَاهِب.

(2/642)


[أَحدهَا] : أَنَّهَا اسْم دَائِما، [قَالَه] ابْن طَاهِر، وَابْن خروف، وَابْن الطراوة، والشلوبين، والآمدي.

(2/643)


وَحكي عَن سِيبَوَيْهٍ.
وَالْمذهب الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تكون اسْما إِلَّا إِذا دخل عَلَيْهَا حرف جر، كَقَوْل الشَّاعِر:
(غَدَتْ من عَلَيْهِ بعد مَا تمّ ظمؤها ... )

وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْبَصرِيين.
قلت: وَفِي " صَحِيح مُسلم " دُخُول " من " على " على ".
وَالْمذهب الثَّالِث: - وَبِه قَالَ الْأَخْفَش أَنَّهَا تكون اسْما فِي مَوضِع آخر، وَهُوَ: أَن يكون مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى وَاحِد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أمسك عَلَيْك زَوجك} [الْأَحْزَاب: 37] .

(2/644)


وَالْمذهب الرَّابِع: - وَبِه قَالَ السيرافي أَنَّهَا لَا تكون اسْما أبدا، عكس الْمَذْهَب الأول، وَلَو دخل عَلَيْهَا حرف جر، بل يقدر لذَلِك الْحَرْف مجرور مَحْذُوف.
فَائِدَة أُخْرَى: تكون " على " فعلا، فَتَقول: علا يَعْلُو علوا، قَالَ الله تَعَالَى: {ولعلا بَعضهم على بعض} [الْمُؤْمِنُونَ: 91] ، الأولى: فعل مَاض، وَالثَّانيَِة: حرف جر.
قَوْله: {و " فِي " [للظرف] } .

(2/645)


ل " فِي " معَان:
أَحدهَا: أَن تكون ظرفا، زَمَانا، ومكاناً، مثالهما قَوْله تَعَالَى: {الم غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين} [الرّوم: 1 - 4] فَالْأولى: للمكان، وَالثَّانيَِة: للزمان.
وَقد يكون مجَازًا، كَقَوْلِك: نظر زيد فِي الْكتاب، لِأَنَّهُ قد صَار وعَاء لنظره.
وَيَأْتِي الظّرْف ومظروفه جسمين، كَقَوْلِك: زيد فِي الدَّار، ومعنيين، كَقَوْلِك: الْبركَة فِي القناعة، والظرف جسماً والمظروف معنى، كَقَوْلِك: الْإِيمَان فِي الْقلب، وَعَكسه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {بل الَّذين كفرُوا فِي تَكْذِيب} [البروج: 19] .
قَوْله: {قَالَ [أَبُو الْبَقَاء] حَتَّى فِي: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} [طه: 71] كأكثر الْبَصرِيين} .
اخْتلفُوا فِي معنى " فِي " فِي قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} . فَذهب أَكثر الْبَصرِيين وَغَيرهم إِلَى أَنَّهَا للظروف على بَابهَا.
وَجعلهَا الزَّمَخْشَرِيّ والبيضاوي للظرف مجَازًا، كَانَ الْجذع ظرفا للمصلوب، لما تمكن عَلَيْهِ تمكن المظروف من الظّرْف.
قَالَ أَبُو حَيَّان فِي " النَّهر ": (وَلما كَانَ الْجذع مقرا للمصلوب،

(2/646)


واشتمل عَلَيْهِ اشْتِمَال الظّرْف على المظروف، [عدي] الْفِعْل ب " فِي " الَّتِي للوعاء.
قَالَ أَبُو الْبَقَاء من أَصْحَابنَا -: ( {فِي جُذُوع النّخل} ، " فِي " هُنَا على بَابهَا، لِأَن الْجذع مَكَان المصلوب ومحتو عَلَيْهِ.
وَقيل: هِيَ بِمَعْنى " على ".) انْتهى.
{و} قَالَ {أَكثر الْأَصْحَاب} : هِيَ {بِمَعْنى " على "، [كَقَوْل الْكُوفِيّين] } ، وَابْن مَالك، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أم لَهُم سلم يَسْتَمِعُون فِيهِ} [الطّور: 38] ، أَي: عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض} [الْأَنْعَام: 11، وَالروم: 42] ، أَي: عَلَيْهَا، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {ءأمنتم من فِي السَّمَاء} [الْملك: 16] ، أَي: على السَّمَاء.
قَوْله: {فتأتي [لاستعلاء] } .

(2/647)


اعْلَم أَن ل [فِي] معَان:
أَحدهَا: الظّرْف، كَمَا تقدم.
وَالثَّانِي: الاستعلاء، كَمَا تقدم أَيْضا تمثيله.
الثَّالِث: التَّعْلِيل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} [يُوسُف: 32] ، أَي: لأَجله، وَمِنْه " {لمسكم فِي مَا / فِيهِ عَذَاب عَظِيم} [النُّور: 14] ، أثْبته ابْن مَالك وَغَيره، وَأنْكرهُ الرَّازِيّ، والبيضاوي.
وَالرَّابِع: السَّبَبِيَّة، كَقَوْلِه: " فِي النَّفس المؤمنة مائَة "، و " دخلت امْرَأَة

(2/648)


النَّار فِي هرة "، أَي: بِسَبَب هرة، وَضَعفه بَعضهم، لعدم ذكره لُغَة.
الْخَامِس: المصاحبة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَخرج على قومه فِي زينته} [الْقَصَص: 79] ، {ادخُلُوا فِي أُمَم} [الْأَعْرَاف: 38] ، أَي: مَعَهم مصاحبين لَهُم.
السَّادِس: التوكيد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا} [هود: 41] ، إِذْ الرّكُوب يسْتَعْمل بِدُونِ " فِي "، فَهِيَ مزيدة توكيداً.
السَّابِع: التعويض، وَهِي الزَّائِدَة عوضا عَن أُخْرَى محذوفة، كَقَوْلِه: زغبت فِيمَن رغبت، أَي: فِيهِ.
الثَّامِن: بِمَعْنى " الْبَاء "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يذرؤكم فِيهِ} [الشورى: 11] ، أَي: يكثركم بِهِ.
التَّاسِع: بِمَعْنى " إِلَى " كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم} [إِبْرَاهِيم: 9] ، أَي: إِلَيْهَا غيظاً.
الْعَاشِر: بِمَعْنى " من " كَقَوْل امْرِئ الْقَيْس:

(2/649)


(وَهل يعمن من كَانَ أحدث عَهده ... ثَلَاثِينَ شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال)

أَي: من ثَلَاثَة أَحْوَال.
قَوْله: {وَاللَّام لَهَا معَان} .
للام معَان كَثِيرَة، تزيد على الثَّلَاثِينَ، وأفردها الْهَرَوِيّ بِكِتَاب اللامات، نذْكر المهم مِنْهَا هُنَا لتعرف.

(2/650)


أَحدهَا: التَّعْلِيل، نَحْو: زرتك لشرفك، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لتَحكم بَين النَّاس} [النِّسَاء: 105] ، وَقَوله: أَنْت طَالِق لرضى زيد، فَتطلق فِي الْحَال، رَضِي زيد أَو لَا، لِأَنَّهُ تَعْلِيل لَا تَعْلِيق. الثَّانِي: الِاسْتِحْقَاق، نَحْو النَّار للْكَافِرِينَ.
الثَّالِث: الِاخْتِصَاص، نَحْو: الْجنَّة للْمُؤْمِنين.
وَفرق الْقَرَافِيّ بَين الِاسْتِحْقَاق والاختصاص: (بِأَن [الِاسْتِحْقَاق] أخص، فَإِن ضابطه مَا شهِدت بِهِ الْعَادة، كَمَا شهِدت للْفرس بالسرج، وللدار بِالْبَابِ، وَقد يخْتَص الشَّيْء بالشَّيْء من غير شَهَادَة عَادَة، نَحْو: هَذَا ابْن لزيد، فَإِنَّهُ لَيْسَ من لَوَازِم الْإِنْسَان أَن يكون لَهُ ولد) .
الرَّابِع: الْملك، نَحْو: {وَللَّه ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض} [آل عمرَان: 189، وَالْفَتْح: 14] ، وَمِنْهُم من يَجعله دَاخِلا فِي الِاسْتِحْقَاق، وَهُوَ أقوى أَنْوَاعه، وَكَذَلِكَ الِاسْتِحْقَاق نوع من الِاخْتِصَاص، وَلِهَذَا اقْتصر الزَّمَخْشَرِيّ فِي " الْمفصل " على الِاخْتِصَاص.
وَقيل: إِن اللَّام لَا تفِيد الْملك بِنَفسِهَا، بل استفادته من أَمر خارجي.

(2/651)


الْخَامِس: لَام الْعَاقِبَة، ويعبر عَنْهَا بلام الصيرورة، وبلام الْمَآل، نَحْو: {فالتقطه أل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا} [الْقَصَص: 8] .
ويعزى للبصريين إِنْكَار لَام الْعَاقِبَة.
وَقَالَ ابْن خالويه: (اللَّام فِي الْآيَة لَام " كي " عِنْد الْكُوفِيّين، وَلَام الصيرورة عِنْد الْبَصرِيين) .
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: (هَذَا على طَرِيق التَّوَسُّع وَالْمجَاز) .
وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (لَا يتَحَقَّق. - قَالَ -: وَاللَّام مستعارة لما يشبه التَّعْلِيل) . السَّادِس: التَّمْلِيك، نَحْو: وهبت لزيد دِينَارا، وَمِنْه: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} [التَّوْبَة: 60] .
السَّابِع: شبه الْملك، نَحْو: {وَالله جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا} [النَّحْل: 72] .
الثَّامِن: توكيد النَّفْي، أَي نفي كَانَ، نَحْو: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم} [الْأَنْفَال: 33] ، ويعبر عَنْهَا بلام الْجُحُود، لمجيئها بعد نفي، لِأَن الْجحْد هُوَ نفي مَا سبق ذكره.
التَّاسِع: لمُطلق التوكيد، وَهِي الدَّاخِلَة لتقوية عَامل ضَعِيف بِالتَّأْخِيرِ: {إِن كُنْتُم للرءيا تعبرون} [يُوسُف: 43] ، الأَصْل: تعبرون الرُّؤْيَا.

(2/652)


ولكونه فرعا فِي الْعَمَل: {فعال لما يُرِيد} [هود: 107، والبروج: 16] ، وَهَذَانِ مقيسان.
وَرُبمَا أكد بهَا بِدُخُولِهَا على الْمَفْعُول نَحْو: {ردف لكم} [النَّمْل: 72] .
وَلم يذكر سِيبَوَيْهٍ زِيَادَة اللَّام، وَتَابعه الْفَارِسِي.
الْعَاشِر: أَن تكون بِمَعْنى " إِلَى "، نَحْو: {سقناه لبلد ميت} ، {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] .
الْحَادِي عشر: التَّعْدِيَة، نَحْو: مَا أضْرب زيدا لعَمْرو، وَجعل مِنْهُ ابْن مَالك: {فَهَب لي من لَدُنْك وليا} [مَرْيَم: 5] ، وَقيل: إِنَّهَا لشبه الْملك.
الثَّانِي عشر: بِمَعْنى " على "، نَحْو {يخرون للأذقان} [الْإِسْرَاء: 107] .
وَحكى الْبَيْهَقِيّ عَن حَرْمَلَة عَن الشَّافِعِي فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " واشترطي لَهُم الْوَلَاء "، أَن المُرَاد: عَلَيْهِم.

(2/653)


الثَّالِث عشر: بِمَعْنى " فِي "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة} [الْأَنْبِيَاء: 47] .
الرَّابِع عشر: بِمَعْنى " عِنْد "، أَي: الوقتية وَمَا يجْرِي مجْراهَا، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته "، وَمِنْه قَوْلك: كتبته لخمس لَيَال من كَذَا، أَي: عِنْد انْقِضَائِهَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (وَمِنْه: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، {يَا لَيْتَني قدمت لحياتي} [الْفجْر: 24] .
الْخَامِس عشر: بِمَعْنى " من "، نَحْو: سَمِعت لَهُ صراخاً، أَي: مِنْهُ.
السَّادِس عشر: بِمَعْنى " عَن "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا لَو كَانَ خيرا مَا سبقُونَا إِلَيْهِ} [الْأَحْقَاف: 11] ، أَي: قَالُوا عَنْهُم ذَلِك، وضابطها: أَن تجر اسْم من غَابَ حَقِيقَة أَو حكما عَن قَول قَائِل يتَعَلَّق بِهِ، وَلم يَخُصُّهُ بَعضهم بِمَا بعد القَوْل.
فَائِدَة: قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (وَاعْلَم أَن مجيئها

(2/654)


لهَذِهِ الْمعَانِي مَذْهَب كُوفِي، وَأما حذاق الْبَصرِيين فَهِيَ عِنْدهم على بَابهَا، ثمَّ يضمنُون الْفِعْل مَا يصلح مَعهَا، ويرون التَّجَوُّز فِي الْفِعْل، أسهل من التَّجَوُّز فِي الْحَرْف) انْتهى.
{و} لهَذَا وَالله أعلم قَالَ أَبُو الْخطاب من أَصْحَابنَا {فِي " التَّمْهِيد "} : هِيَ {حَقِيقَة فِي الْملك، لَا يعدل عَنهُ إِلَّا بِدَلِيل} ) .
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (دلَالَة حرف على معنى حرف هُوَ طَرِيق الْكُوفِيّين، وَأما البصريون فَهُوَ عِنْدهم على تضمين الْفِعْل الْمُتَعَلّق بِهِ ذَلِك الْحَرْف مَا يصلح مَعَه معنى ذَلِك الْحَرْف على الْحَقِيقَة، ويرون التَّجَوُّز فِي الْفِعْل، أسهل من التَّجَوُّز فِي الْحَرْف) ، وَهُوَ معنى مَا تقدم.
قَوْله: {و " بل " لعطف، وإضراب، إِن وَليهَا مُفْرد فِي إِثْبَات، [فتقرر] حكم مَا قبلهَا لما بعْدهَا، وَنفي، فتقرر مَا قبلهَا وضده لما بعْدهَا فِي الْأَصَح، ولابتداء فِي الْأَصَح وإضراب إِن وَليهَا جملَة لإبطال أَو انْتِقَال} .

(2/655)


اعْلَم أَن " بل " من حُرُوف الْعَطف [مشارك] مَا بعْدهَا لما قبلهَا فِي الْإِعْرَاب إِذا كَانَا مفردين، سَوَاء فِي الْإِثْبَات وَمَا فِي حكمه، أَو فِي النَّفْي وَمَا فِي حكمه، إِلَّا أَنَّهَا فِي الْقسم الأول لسلب الحكم - قطعا عَمَّا قبلهَا وتجعله لما بعْدهَا، أَي: يصير الأول كالمسكوت عَنهُ، وَيثبت الحكم للثَّانِي، نَحْو: جَاءَ زيد بل عَمْرو، وَأكْرم زيدا بل عمرا.
وَاخْتلف فِي الْقسم الثَّانِي، نَحْو: مَا قَامَ زيد بل عَمْرو، وَلَا تضرب زيدا بل عمرا.
فَقَالَ الْجُمْهُور: إِنَّهَا لتقرير حكم مَا قبلهَا، وَجعل ضِدّه لما [بعْدهَا] ، فتقرر نفي الْقيام أَو النَّهْي لزيد، وضده لعمر.
وَأَجَازَ الْمبرد [وَابْن عبد الْوَارِث] ، وتلميذه الْجِرْجَانِيّ مَعَ

(2/656)


ذَلِك أَن تكون ناقلة للْحكم الأول لما بعْدهَا، كَمَا فِي الْإِثْبَات وَمَا فِي حكمه، فَيحْتَمل عِنْدهم فِي نَحْو: مَا قَامَ زيد بل عَمْرو، أَن يكون المُرَاد: بل مَا قَامَ عَمْرو، وَفِي: لَا تضرب زيدا بل عمرا، أَن يكون التَّقْدِير: لَا تضرب عمرا أَيْضا -، حَتَّى لَو قَالَ: مَاله عَليّ دِرْهَم بل دِرْهَمَانِ، لَا يلْزمه شَيْء إِذا التَّقْدِير: بل مَاله عَليّ دِرْهَمَانِ - أَيْضا -، فَيكون النَّفْي للأمرين.
بل قَالَ القواس فِي " شرح ألفية معطي ": (إِنَّهُم أوجبوا تَقْدِير حرف النَّفْي بعْدهَا، فتحقق الْمُطَابقَة فِي الإضراب عَن منفي إِلَى منفي، كَمَا تتَحَقَّق من مُوجب إِلَى مُوجب) .
أما إِذا وَقع [بعد بل] جملَة، نَحْو: مَا قَامَ زيد بل عَمْرو قَائِم، فَلَا تكون عاطفة عِنْد الْجُمْهُور، بل حرف ابْتِدَاء تفِيد الإضراب، وَهُوَ ضَرْبَان: إضراب [إبِْطَال] للْحكم السَّابِق: كَقَوْلِه تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ} [الْمُؤْمِنُونَ: 70] ، {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون} ،

(2/657)


فَفِي ذَلِك كُله رد على ابْن العلج فِي " الْبَسِيط "، وَتَبعهُ ابْن مَالك فِي " شرح الكافية ": أَن هَذَا الْقسم لم يَقع فِي الْقُرْآن، بل قَالَ فِي " الْبَسِيط ": وَلَا فِي كَلَام فصيح، وَإِنَّمَا يَقع الثَّانِي، وَهُوَ: إضراب الِانْتِقَال من حكم إِلَى حكم من غير إبِْطَال الأول، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ولدينا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ وهم لَا يظْلمُونَ بل قُلُوبهم فِي غمرة} [الْمُؤْمِنُونَ: [62 - 63] ، وَقَوله تَعَالَى: {بل أدْرك علمهمْ فِي الْآخِرَة بل هم فِي شكّ مِنْهَا بل هم مِنْهَا عمون} ، لم يبطل شَيْئا مِمَّا سبق، إِنَّمَا فِيهِ انْتِقَال من خبر عَنْهُم إِلَى خبر آخر.
فَالْحَاصِل: أَن الإضراب الانتقالي: قطع للْخَبَر لَا للمخبر عَنهُ، وَظَاهر كَلَام ابْن مَالك أَن هَذِه عاطفة أَيْضا -، لَكِن جملَة على جملَة، وَصرح بِهِ وَلَده فِي " شرح الألفية ".

(2/658)


قَوْله: {و " أَو " [للشَّكّ، والإبهام] ، وَالْإِبَاحَة، والتخيير، وَمُطلق الْجمع، والتقسيم، وَبِمَعْنى " إِلَى "، و " إِلَّا "، والإضراب ك " بل "، وَقيل: وللتقريب} .
مِثَال الشَّك: قَامَ زيد أَو عَمْرو، إِذا لم تعلم: أَيهمَا قَامَ؟ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم} [الْكَهْف: 19، والمؤمنون: 113] .
وَالْفرق وَبَينهَا وَبَين " إِمَّا " الَّتِي للشَّكّ: أَن الْكَلَام مَعَ " إِمَّا " لَا يكون إِلَّا [مُبينًا] على الشَّك، بِخِلَاف " أَو " فقد يَبْنِي الْمُتَكَلّم كَلَامه على الْيَقِين، ثمَّ يُدْرِكهُ الشَّك فَيَأْتِي بهَا.
وَمِثَال الْإِبْهَام، وَيُقَال: التشكيك: قَامَ زيد أَو عَمْرو، إِذا علمت الْقَائِم مِنْهُمَا، وَلَكِن قصدت الْإِبْهَام على الْمُخَاطب، فالشك من جِهَة الْمُتَكَلّم، والإبهام على السَّامع.

(2/659)


وَمِثَال الْإِبَاحَة: جَالس الْحسن [أَو] ابْن سِيرِين.
وَمِثَال التَّخْيِير: خُذ دِينَارا أَو درهما، تزوج زَيْنَب أَو أُخْتهَا، وَمِنْه: {إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} ، وَحَدِيث الْجبرَان فِي الْمَاشِيَة: " شَاتَان أَو عشرُون درهما ".

(2/660)


وَالْفرق بَينهمَا: امْتنَاع الْجمع فِي التَّخْيِير، وجوازه فِي الْإِبَاحَة.
قَالَ بَعضهم: (وَالظَّاهِر أَنَّهَا قسم وَاحِد، لِأَن حَقِيقَة الْإِبَاحَة هِيَ التَّخْيِير، وَإِنَّمَا امْتنع: خُذ دِينَارا أَو درهما، للقرينة الْعُرْفِيَّة، لَا من مَدْلُول اللَّفْظ، كَمَا أَن الْجمع بَين صُحْبَة الْعلمَاء والزهاد، وصف كَمَال لَا ينقص فِيهِ) انْتهى، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَالَ: والتخيير [و] الْإِبَاحَة لَا يكونَانِ إِلَّا فِي الطّلب، بِخِلَاف الشَّك والإبهام فيكونان فِي الْخَبَر.
وَمِثَال مُطلق الْجمع ك " الْوَاو ": قَوْله تَعَالَى: {وأرسلناه إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} [الصافات: 147] على قَول الْكُوفِيّين، وفيهَا غير ذَلِك يَأْتِي.
وَمِثَال التَّقْسِيم: الْكَلِمَة: اسْم أَو فعل أَو حرف، وَعبر عَنهُ ابْن مَالك بِالتَّفْرِيقِ الْمُجَرّد، أَي: من الْمعَانِي السَّابِقَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا كونُوا هوداً أَو نَصَارَى} [الْبَقَرَة: 135] ، قَالَ: (وَالتَّعْبِير عَنهُ

(2/661)


بِالتَّفْرِيقِ أولى من التَّقْسِيم؛ لِأَن اسْتِعْمَال " الْوَاو " فِيمَا هُوَ تَقْسِيم أَجود من اسْتِعْمَال " أَو ") .
وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن اسْتِعْمَال " الْوَاو " فِي التَّقْسِيم أَكثر، لَا يَقْتَضِي أَن " أَو " لَا تَأتي لَهُ، بل يَقْتَضِي ثُبُوت ذَلِك غير أَكثر.
وَمِثَال كَونهَا بِمَعْنى " إِلَى ": لألزمنك أَو تقضي حَقي، وَقيل: وَمِنْه: {أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة} [الْبَقَرَة: 236] إِذا قدر " تفرضوا " مَنْصُوبًا بِأَن مقدرَة.
وَمِثَال كَونهَا بِمَعْنى " إِلَّا ": لأقتلن الْكَافِر أَو يسلم، أَي: إِلَّا أَن يسلم فَلَا أَقتلهُ، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(وَكنت إِذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أَو تستقيما)
أَي: إِلَّا أَن تستقيم، فَلَا أكسرها.
وَمِثَال الإضراب: قَوْله تَعَالَى: {أَو يزِيدُونَ} ، على قَول الْفراء وَغَيره مِمَّن لَا يَجْعَلهَا لمُطلق الْجمع فِي الْآيَة، ثمَّ قيل: إِنَّهَا تَأتي للإضراب

(2/662)


مُطلقًا، وَعَن سِيبَوَيْهٍ: لَا تَجِيء إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: تقدم نفي أَو نهي، [و] إِعَادَة الْعَامِل، نَحْو: مَا قَامَ زيد أَو قَامَ عَمْرو، وَلَا يقم زيد أَو لَا يقم عَمْرو.
وَمِثَال التَّقْرِيب وَقَالَهُ الحريري [وَمِنْه] قَوْله: (مَا أَدْرِي أسلم أَو ودع) ، لسرعته، وَإِن كَانَ يعلم أَنه سلم أَولا، وَذكره أَبُو الْبَقَاء أَيْضا، وَجعل مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَمر السَّاعَة إِلَّا كلمح الْبَصَر أَو هُوَ أقرب} [النَّحْل: 77] .
وَذهب بَعضهم فِي " أَو ": أَنَّهَا مَوْضُوعَة للقدر الْمُشْتَرك بَين الْمعَانِي السَّابِقَة، وَهُوَ لأحد الشَّيْئَيْنِ أَو الْأَشْيَاء، وَإِنَّمَا فهمت هَذِه الْمعَانِي من الْقَرَائِن.
قَوْله: {و " لَكِن " لعطف، واستدراك إِن وَليهَا مُفْرد فِي نفي وَنهي، ولابتداء فِي الْأَصَح إِن وَليهَا جملَة مُطلقًا} .

(2/663)


" لَكِن " حرف عطف واستدراك، وَتَأْتِي ابتدائية لمُجَرّد إِفَادَة الِاسْتِدْرَاك فَإِن وَليهَا مُفْرد فَهِيَ العاطفة بِشَرْطَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن يتقدمها نفي أَو نهي، نَحْو: [مَا قَامَ] زيد لَكِن عَمْرو، وَلَا يقم زيد لَكِن عَمْرو. الشَّرْط الثَّانِي: أَن لَا تقترن بِالْوَاو، [قَالَه] الْفَارِسِي وَأكْثر النُّحَاة.
وَقَالَ قوم: لَا تسْتَعْمل مَعَ الْمُفْرد إِلَّا بِالْوَاو.
وَفِي نَحْو: مَا قَامَ زيد [وَلَكِن] عَمْرو، أَرْبَعَة أَقْوَال، ذكرهَا ابْن هِشَام فِي " الْمُغنِي ".
وَفهم من الشَّرْط الأول: أَنَّهَا لَا تقع فِي الْإِيجَاب، وَهُوَ مَذْهَب

(2/664)


الْبَصرِيين، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ، نَحْو: أَتَانِي زيد لَكِن عَمْرو.
وَأما إِذا وَليهَا جملَة، فَتكون حِينَئِذٍ بعد إِيجَاب، أَو نفي، أَو نهي، أَو أَمر، لَا اسْتِفْهَام، وَهِي بعد الْجُمْلَة ابتدائية، لَا حرف عطف عِنْد أَكثر المغاربة، وَقيل: عاطفة.
تَنْبِيه: معنى الِاسْتِدْرَاك: أَن تنْسب لما بعْدهَا حكما مُخَالفا لحكم مَا قبلهَا، وَلذَلِك لابد أَن يتقدمها كَلَام مُنَاقض لما بعْدهَا.
قَوْله: {وَالْبَاء [للإلصاق] حَقِيقَة ومجازاً، وَلها معَان كَثِيرَة، وَقيل: [وللتبعيض] } .

(2/665)


للباء معَان كَثِيرَة، لَا بَأْس بذكرها تكميلاً للفائدة:
أَحدهَا: أَن تكون للإلصاق، وَهُوَ: أَن يُضَاف الْفِعْل إِلَى الِاسْم فيلصق بِهِ، بعد مَا كَانَ لَا يُضَاف إِلَيْهِ لَوْلَا دُخُولهَا، نَحْو: خضت المَاء برجلي، ومسحت برأسي، [وَهُوَ] أصل مَعَانِيهَا، وَلم يذكر لَهَا سِيبَوَيْهٍ غَيره، وَلِهَذَا قَالَت المغاربة: لَا تنفك عَنهُ، إِلَّا أَنَّهَا قد تتجرد لَهُ، وَقد يدخلهَا مَعَ ذَلِك معنى آخر.
ثمَّ قد يكون حَقِيقَة، نَحْو: أَمْسَكت الْحَبل بيَدي، وَقد يكون مجَازًا، نَحْو: مَرَرْت بزيد، فَإِن الْمُرُور لم يلصق بزيد، وَإِنَّمَا ألصق بمَكَان يقرب مِنْهُ.
وَالصَّحِيح: أَن لَهَا مَعَاني غير الإلصاق.
الثَّانِي من مَعَانِيهَا: التَّعْدِيَة، وَتسَمى بَاء النَّقْل أَيْضا -، وَهِي الْقَائِمَة مقَام الْهمزَة فِي تصيير الْفَاعِل مَفْعُولا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ذهب الله بنورهم} [الْبَقَرَة: 17] ، وَأَصله: ذهب نورهم.
الثَّالِث: الِاسْتِعَانَة، وَهِي الدَّاخِلَة على آلَة الْفِعْل وَنَحْوهَا، نَحْو: كتبت بالقلم، وَقطعت بالسكين، وَمِنْه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة} [الْبَقَرَة: 45] .

(2/666)


الرَّابِع: السَّبَبِيَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40] ، وَلم يذكر فِي " التسهيل " " بَاء " الِاسْتِعَانَة، وأدرجها فِي " بَاء " السَّبَبِيَّة.
وَقَالَ فِي " شَرحه ": (النُّحَاة يعبرون عَن هَذِه بالاستعانة، وآثرت التَّعْبِير بالسببية، من أجل الْأَفْعَال المنسوبة إِلَى الله تَعَالَى، فَإِن اسْتِعْمَال السَّبَب فِيهَا يجوز، وَاسْتِعْمَال الِاسْتِعَانَة فِيهَا لَا يجوز) انْتهى.
الْخَامِس: التعليلية، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فبظلم من الَّذين هادوا} [النِّسَاء: 160] .
وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْعلَّة مُوجبَة لمعلولها، بِخِلَاف السَّبَب لمسببه، فَهُوَ كالأمارة عَلَيْهَا.
السَّادِس: المصاحبة، وَهُوَ الَّذِي يصلح فِي موضعهَا " مَعَ "، أَو يُغني عَنْهَا وَعَن مصحوبها الْحَال، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قد جَاءَكُم الرَّسُول بِالْحَقِّ} ، أَي: مَعَ الْحق، أَو: محقاً.
السَّابِع: الظَّرْفِيَّة، بِمَعْنى " فِي "، للزمان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّكُم لتمرون عَلَيْهِم مصبحين وباليل} [الصافات: 137 - 138] ، وللمكان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَقَد نصركم الله ببدر} [آل عمرَان: 123] .
وَرُبمَا كَانَت الظَّرْفِيَّة مجازية، نَحْو: بكلامك بهجة.

(2/667)


الثَّامِن: الْبَدَل، بِأَن يَجِيء موضعهَا بدل، كَقَوْلِه فِي الحَدِيث: " مَا يسرني بهَا حمر النعم "، أَي: بدلهَا.
التَّاسِع: الْمُقَابلَة، وَهِي الدَّاخِلَة على الْأَثْمَان والأعواض، نَحْو: اشْتريت الْفرس بِأَلف، ودخولها غَالِبا / على الثّمن، وَرُبمَا دخلت على الْمُثمن كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا} [الْبَقَرَة: 41، والمائدة: 44] ، وَلم يقل: وَلَا تشتروا آياتي بِثمن قَلِيل.
قلت: قَالَ فِي " التَّلْخِيص " و " الرِّعَايَة " والآدمي: (يتَمَيَّز الثّمن عَن

(2/668)


الْمُثمن بِدُخُول " بَاء " الْبَدَلِيَّة "، وَقيل: إِن كَانَ فِيهَا أحد النَّقْدَيْنِ فَهُوَ الثّمن، وَإِلَّا مَا دَخلته " الْبَاء ") .
الْعَاشِر: الْمُجَاوزَة، بِمَعْنى " عَن "، وَيكثر بعد السُّؤَال: {فَسئلَ بِهِ خَبِيرا} [الْفرْقَان: 59] ، وَنقل بعد غَيره، نَحْو: {وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام} [الْفرْقَان: 25] ، وَهُوَ مَذْهَب كُوفِي، وتأوله الشلوبين على أَنَّهَا " بَاء " السَّبَبِيَّة، أَي: فاسأل بِسَبَبِهِ، أَو تضمين " اسْأَل " معنى اطلب، لِأَن السُّؤَال طلب فِي الْمَعْنى.
الْحَادِي عشر: الاستعلاء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار} [آل عمرَان: 75] أَي: على دِينَار، وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان " عَن الشَّافِعِي.
الثَّانِي عشر: الْقسم، وَهِي أصل حُرُوفه، نَحْو: بِاللَّه لَأَفْعَلَنَّ.
الثَّالِث عشر: الْغَايَة، نَحْو: {وَقد أحسن بِي} [يُوسُف: 100] ، أَي: إِلَيّ.
الرَّابِع عشر: التوكيد، وَهِي الزَّائِد، إِمَّا مَعَ الْفِعْل، نَحْو: أحسن بزيد، على قَول الْبَصرِيين: إِنَّه فَاعل، أَو [مَعَ] الْمَفْعُول، نَحْو:

(2/669)


{وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة} [مَرْيَم: 25] ، أَو مَعَ الْمُبْتَدَأ، نَحْو: بحسبك دِرْهَم، أَو الْخَبَر، نَحْو: {أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} [الزمر: 36] .
الْخَامِس عشر: التَّبْعِيض، قَالَ بِهِ الْكُوفِيُّونَ، والأصمعي، والفارسي، وَابْن مَالك، نَحْو: {عينا يشرب بهَا عباد الله} [الْإِنْسَان: 6] ، أَي: مِنْهَا، وَخرج قَوْله تَعَالَى: {وامسحوا برءوسكم} [الْمَائِدَة: 6] ، والمثبتون قصروها على وُرُودهَا مَعَ الْفِعْل الْمُتَعَدِّي، وَأنْكرهُ ابْن جني، وَابْن برهَان فَقَالَ: (من قَالَ: إِن " الْبَاء " للتَّبْعِيض فقد أَتَى أهل اللُّغَة بِمَا لَا يعرفونه) ، نَقله عَنهُ فِي " الْكَافِي ".
وَأولُوا مَا اسْتدلَّ بِهِ على التَّضْمِين، أَو أَن التَّبْعِيض إِنَّمَا اسْتُفِيدَ من الْقَرَائِن.

(2/670)


قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الْكَافِي ": (فَهُوَ كَقَوْلِه: {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} و " الْبَاء " زَائِدَة) .
ورد الرَّازِيّ قَول ابْن جني: (بِأَنَّهَا شَهَادَة نفي فَلَا تقبل) .
وَأجَاب عَنهُ ابْن دَقِيق الْعِيد: (بِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَهَادَة نفي، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن ظن غَالب، يسْتَند إِلَى الاستقراء مِمَّن هُوَ أهل لذَلِك مطلع على لِسَان الْعَرَب، كَمَا فِي سَائِر الاستقراءات، لَا يُقَال فِيهَا، شَهَادَة نفي، وَحِينَئِذٍ فَيتَوَقَّف مُقَابِله على ثُبُوت ذَلِك من كَلَامهم) .
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: (إِنَّمَا يُفِيد فَائِدَة غير التَّبْعِيض، وَهُوَ الدّلَالَة على مَمْسُوح بِهِ. - قَالَ -: وَالْأَصْل فِيهِ، امسحوا برؤوسكم المَاء، فَيكون من بَاب الْقلب، وَالْأَصْل رؤوسكم بِالْمَاءِ) .

(2/671)


قَوْله: {وَإِذا لمفاجأة حرفا، وَقَالَ جمع: ظرف مَكَان، وَجمع: ظرف زمَان، ولمستقبل ظرفا متضمنة معنى الشَّرْط غَالِبا، وَمنع الْأَكْثَر مجيئها لماض وَحَال} .
لإذا معَان:
أَحدهَا: أَن تكون للمفاجأة، وَهِي الَّتِي يَقع بعْدهَا الْمُبْتَدَأ، فرقا بَينهَا وَبَين الشّرطِيَّة، فَإِن الْوَاقِع بعْدهَا الْفِعْل، وَقد اجْتمعَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِذا دعَاكُمْ دَعْوَة من الأَرْض إِذا أَنْتُم تخرجُونَ} [الرّوم: 25] ، وَتقول فِي الْمِثَال الأول: خرجت فَإِذا الْأسد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى} [طه: 20] ، وَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَمَعْنَاهَا الْحَال.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَمعنى المفاجأة: حُضُور الشَّيْء مَعَك فِي وصف من أوصافك الفعلية.
وتصويره فِي هَذَا الْمِثَال: حُضُور الْأسد مَعَك فِي زمن وصفك بِالْخرُوجِ، أَو فِي مَكَان خُرُوجك، [وحضوره مَعَك فِي مَكَان خُرُوجك، ألصق بك من

(2/672)


حُضُوره فِي زمن خُرُوجك، لِأَن ذَلِك الْمَكَان يخصك دون من أشبهك، وَذَلِكَ الزَّمَان لَا [يخصك] دون من أشبهك، وَكلما كَانَ ألصق، كَانَت المفاجأة فِيهِ أقوى.
وَاخْتلف فِيهَا على ثَلَاثَة مَذَاهِب.
أَحدهَا: - وَهُوَ أَصَحهَا أَنَّهَا حرف، وَبِه قَالَ الْأَخْفَش، وَابْن مَالك.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا ظرف مَكَان، وَبِه قَالَ الْمبرد، وَابْن عُصْفُور.

(2/673)


وَالثَّالِث: ظرف زمَان، وَبِه قَالَ الزّجاج، والزمخشري.
وَنسب الْقَوْلَانِ / الأخيران لسيبويه؟
وَتظهر فَائِدَة الْخلاف: فِي أَنه لَا يَصح إعرابها خَبرا فِي قَوْلك: خرجت فَإِذا الْأسد، لَا على الحرفية، وَلَا على ظرفية الزَّمَان؛ لِأَن الزَّمَان لَا يخبر بِهِ عَن الجثة، وَيصِح على ظرفية الْمَكَان، أَي: فبالحضرة الْأسد.
الْمَعْنى الثَّانِي: أَن تكون ظرفا للمستقبل متضمنة معنى الشَّرْط غَالِبا، وَلذَلِك تجاب بِمَا تجاب بِهِ أدوات الشَّرْط، نَحْو: إِذا جَاءَ زيد فَقُمْ إِلَيْهِ، فَهِيَ بَاقِيَة على ظرفيتها إِلَّا أَنَّهَا ضمنت معنى الشَّرْط، وَلذَلِك لم تثبت لَهَا سَائِر أَحْكَام الشَّرْط، فَلم يجْزم بهَا الْمُضَارع، وَلَا تكون إِلَّا فِي الْمُحَقق، وَمِنْه: {وَإِذا مسكم الضّر فِي الْبَحْر} [الْإِسْرَاء: 67] ؛ لِأَن مس الضّر فِي الْبَحْر مُحَقّق، وَلما لم يُقيد بالبحر أَتَى ب " إِن " الَّتِي تسْتَعْمل فِي الْمَشْكُوك فِيهِ، نَحْو: {وَإِذا مَسّه الشَّرّ فذو دُعَاء عريض} ، وتختص بِالدُّخُولِ على الْجُمْلَة الفعلية.
الْمَعْنى الثَّالِث: أَن تكون ظرفا للماضي، مثل " إِذْ "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك} [التَّوْبَة: 92] ، {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة} [الْجُمُعَة: 11] ،

(2/674)


قَالَه ابْن مَالك، وَأنْكرهُ الْجُمْهُور، وتأولوا مَا أوهم ذَلِك.
الْمَعْنى الرَّابِع: أَن تكون ظرفا للْحَال، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} [اللَّيْل: 1] ، {والنجم إِذا هوى} [النَّجْم: 1] ، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَقَالَ غَيره: كَمَا جردت هُنَا عَن الشَّرْط جردت عَن الظّرْف، وَهِي هُنَا لمُجَرّد الْوَقْت من غير أَن يكون ظرفا، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي هذَيْن الْمَعْنيين: (وَمنع الْأَكْثَر مجيئها للماضي وَالْحَال) .
قَوْله: {و " إِذْ " اسْم لماض ظرفا، [ومفعولاً] بِهِ، بَدَلا من مفعول، ومضافاً إِلَيْهَا اسْم زمَان، ولمستقبل، وَمنعه الْأَكْثَر، ولتعليل حرفا، وَقيل: ظرفا، ولمفاجأة} .
" إِذا " اسْم بِالْإِجْمَاع، لتنوينها فِي نَحْو: {يَوْمئِذٍ} ، وَالْإِضَافَة فِي نَحْو: {بعد إِذْ هديتنا} [آل عمرَان: 8] وَلها معَان:
أَحدهَا وَهُوَ الْأَغْلَب -: أَن تكون ظرفا للزمان الْمَاضِي، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فقد نَصره الله إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا} [التَّوْبَة: 40] .

(2/675)


الْمَعْنى الثَّانِي: أَن تكون مَفْعُولا، نَحْو: {واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُم قَلِيلا فكثركم} [الْأَعْرَاف: 86] .
الْمَعْنى الثَّالِث: أَن تكون بَدَلا من الْمَفْعُول، نَحْو: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم إِذْ انتبذت} [مَرْيَم: 16] ، ف " إِذْ " بدل اشْتِمَال من مَرْيَم.
الْمَعْنى الرَّابِع: أَن يُضَاف إِلَيْهَا اسْم زمَان، سَوَاء صلح الِاسْتِغْنَاء عَنهُ، نَحْو " يَوْمئِذٍ " أَو لَا، نَحْو: {بعد إِذْ هديتنا} [آل عمرَان: 8] .
الْمَعْنى الْخَامِس: أَن تكون ظرفا للزمان الْمُسْتَقْبل، مثل " إِذا "، صَححهُ ابْن مَالك وَطَائِفَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَسَوف يعلمُونَ إِذْ الأغلال فِي أَعْنَاقهم} [غَافِر: 70 - 71] ، وَمنع الْأَكْثَر، وَأَجَابُوا عَن الْآيَة وَنَحْوهَا: بِأَن ذَلِك نزل منزلَة الْمَاضِي لتحَقّق وُقُوعه، مثل: {أَتَى أَمر الله} [النَّحْل: 1] .
الْمَعْنى السَّادِس: أَن تكون للتَّعْلِيل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلنْ ينفعكم الْيَوْم إِذْ ظلمتم} [الزخرف: 39] ، {وَإِذ لم يهتدوا بِهِ فسيقولون} [الْأَحْقَاف: 11] .
ثمَّ اخْتلف فِي أَنَّهَا حِينَئِذٍ تكون حرفا بِمَنْزِلَة " لَام " الْعلَّة، وَنسب لسيبويه، وَصرح بِهِ ابْن مَالك فِي بعض نسخ " التسهيل "، أَو ظرفا وَالتَّعْلِيل مُسْتَفَاد من قُوَّة الْكَلَام لَا من اللَّفْظ.
السَّابِع: أَن تكون للمفاجأة الْوَاقِعَة بعد [" بَينا "] و " بَيْنَمَا "، نَحْو

(2/676)


قَوْلك: بَينا أَنا كَذَا إِذْ جَاءَ زيد، نَص عَلَيْهِ سِيبَوَيْهٍ، وَيعود هُنَا الْخلاف - أَيْضا فِي أَنَّهَا حِينَئِذٍ حرف، أَو بَاقِيَة على ظرفيتها الزمانية. وَهنا قَول ثَالِث: أَنَّهَا ظرف مَكَان، كَمَا قيل بِهِ فِي " إِذا " الفجائية، وَالله أعلم.
قَوْله: {و " لَو " حرف شَرط فِي الْأَصَح لماض، فتصرف الْمُضَارع إِلَيْهِ عكس " إِن "} .
" لَو " حرف شَرط فِي الْمَاضِي، وَإِن دخلت على الْمُضَارع صرفته للمضي، عكس " إِن " الشّرطِيَّة، فَإِنَّهَا تصرف الْمَاضِي إِلَى الِاسْتِقْبَال، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَابْن مَالك، وَغَيرهمَا.
وَأنكر قوم كَونهَا حرف شَرط؛ لِأَن الشَّرْط فِي الِاسْتِقْبَال، و " لَو " للتعليق فِي الْمَاضِي.

(2/677)


وَقَالَ بَعضهم: النزاع لَفْظِي، فَإِن أُرِيد بِالشّرطِ: الرَّبْط الْمَعْنَوِيّ الْحكمِي، فَهُوَ شَرط، وَإِن أُرِيد بِهِ مَا يعْمل فِي الجزئين فَلَا.
قَوْله: {وَتَأْتِي لمستقبل فِي الْأَصَح قَلِيلا فتصرف الْمَاضِي إِلَيْهِ} .
قد ترد " لَو " للمستقبل، مثل " إِن "، فتصرف الْمَاضِي إِلَى الِاسْتِقْبَال، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا وَلَو كُنَّا صَادِقين} [يُوسُف: 17] ، قَالَه جمَاعَة، وخطأهم ابْن الْحَاج: بأنك لَا تَقول: لَو يقوم زيد فعمرو منطلق، كَمَا تَقول إِلَّا يقم [زيد] فعمرو منطلق.
وَكَذَا قَالَ بدر الدّين ابْن مَالك: (عِنْدِي أَنَّهَا لَا تكون لغير الشَّرْط فِي الْمَاضِي، وَلَا حجَّة فِيمَا تمسكوا بِهِ لصِحَّة حمله على الْمُضِيّ) .
قَوْله: {وَأما مَعْنَاهَا، فَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: حرف لما كَانَ سيقع لوُقُوع غَيره، وَقَالَ الْأَكْثَر: حرف امْتنَاع لِامْتِنَاع، [والشلوبين] لمُجَرّد الرَّبْط، وَفِي " التسهيل " وَغَيره: امْتنَاع مَا يَلِيهِ واستلزامه لتاليه، [قلت: فِي الْمَاضِي] ،

(2/678)


فَيَنْتَفِي الْجَواب إِن ناسب وَلم يخلف الأول غَيره، وَإِن ناسب وَخَلفه غَيره ثَبت الْجَواب، كَمَا لَو لم يُنَاسب بِالْأولَى، أَو [المساويٍ] ، أَو الأدون} .
اخْتلف فِي معنى " لَو " على أَقْوَال:
أَحدهَا وَبِه قَالَ سِيبَوَيْهٍ -: (إِنَّهَا حرف لما كَانَ سيقع لوُقُوع غَيره) ، أَي: أَنَّهَا تَقْتَضِي فعلا مَاضِيا كَانَ يتَوَقَّع ثُبُوته لثُبُوت غَيره، والمتوقع غير وَاقع، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حرف يَقْتَضِي فعلا امْتنع لِامْتِنَاع مَا كَانَ [يثبت] لثُبُوته.
الثَّانِي وَبِه قَالَ الْأَكْثَر -: أَنَّهَا حرف امْتنَاع لِامْتِنَاع، أَي: يدل على امْتنَاع الثَّانِي لِامْتِنَاع الأول، فقولك: لَو جئتني لأكرمتك، دَال على انْتِفَاء الْمَجِيء وَالْإِكْرَام.
وَاعْترض عَلَيْهِ: بِأَن جوابها قد لَا يكون مُمْتَنعا بل يثبت، كَقَوْلِك لطائر: لَو كَانَ هَذَا إنْسَانا لَكَانَ حَيَوَانا، فإنسانيته منتفية وحيوانيته ثَابِتَة، وكما قَول عمر فِي صُهَيْب رَضِي الله عَنْهُمَا -: " لَو لم يخف الله لم

(2/679)


يَعْصِهِ "، فَعدم الْمعْصِيَة مَحْكُوم بِثُبُوتِهِ، لِأَنَّهُ إِذا ثَبت مَعَ عدم الْخَوْف فثبوته مَعَ الْخَوْف أولى.
وَأَصَح مِنْهُ مَا روى عَن سَالم مولى أبي حُذَيْفَة.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (لَا أعلم لكَلَام عمر لِصُهَيْب إِسْنَادًا، ويغني عَنهُ مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي " الْحِلْية ": أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي سَالم مولى أبي

(2/680)


حُذَيْفَة: " إِنَّه شَدِيد الْحبّ لله، لَو كَانَ لَا يخَاف الله مَا عَصَاهُ "، أَي: أَن لانْتِفَاء الْمعْصِيَة شَيْئَيْنِ: الْمحبَّة وَالْخَوْف، فَلَو انْتَفَى الْخَوْف لم تُوجد الْمعْصِيَة، لوُجُود الآخر وَهُوَ الْمحبَّة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (قَالَ بعض الْحفاظ: كثيرا مَا نسْأَل عَنهُ، وَلم نجد لَهُ أصلا) .
الثَّالِث وَبِه قَالَ الشلوبين -: أَنَّهَا لمُجَرّد الرَّبْط؛ أَي: إِنَّمَا تدل على التَّعْلِيق فِي الْمَاضِي، كَمَا تدل " إِن " على التَّعْلِيق فِي الْمُسْتَقْبل، وَلَا تدل على امْتنَاع شَرط وَلَا جَوَاب.
وَضعف: بِأَنَّهُ جحد للضروريات، إِذْ كل من سمع: " لَو فعل "، فهم عدم وُقُوع الْفِعْل، وَلِهَذَا جَازَ استدراكه، فَتَقول: لَو جَاءَ زيد لأكرمته لكنه لم يجِئ.
الرَّابِع: أَنَّهَا تَقْتَضِي امْتنَاع مَا يَلِيهِ واستلزامه لتاليه، أَي: تَقْتَضِي أَمريْن: أَحدهمَا: امْتنَاع مَا يَلِيهِ، وَهُوَ شَرطه.
وَالثَّانِي: كَون مَا يَلِيهِ مستلزماً لتاليه، وَهُوَ جَوَابه، وَلَا يدل على امْتنَاع الْجَواب فِي نفس الْأَمر وَلَا ثُبُوته.
فَإِذا قلت: لَو قَامَ زيد لقام عَمْرو، فقيام زيد مَحْكُوم بانتفائه فِيمَا مضى، وَيكون ثُبُوته مستلزماً لثُبُوت قيام عَمْرو.
وَهل لعَمْرو قيام أَولا؟ لَيْسَ فِي الْكَلَام تعرض لَهُ.

(2/681)


وَصحح هَذِه الْعبارَة السُّبْكِيّ، وَولده التَّاج، وَهِي فِي بعض نسخ " التسهيل ".
قَالَ الْمرَادِي فِي " شرح الألفية ": (قَالَ ابْن مَالك فِي " شرح الكافية ": " الْعبارَة الجيدة فِي " لَو " أَن يُقَال: حرف يدل على امْتنَاع [تال] يلْزم لثُبُوته ثُبُوت تاليه، فقيام زيد، من قَوْلك: لَو قَامَ زيد لقام [عَمْرو] ، مَحْكُوم بانتفائه فِيمَا مضى وَكَونه مستلزماً ثُبُوته لثُبُوت قيام عَمْرو، وَهل [لعَمْرو] قيام آخر غير اللَّازِم عَن قيام زيد أَو لَيْسَ لَهُ؟ لَا تعرض لذَلِك، بل الْأَكْثَر كَون الأول وَالثَّانِي غير واقعين) .
وَقَالَ فِي " التسهيل ": " لَو: حرف شَرط يَقْتَضِي امْتنَاع مَا يَلِيهِ واستلزامه لتاليه "، وَفِي بعض النّسخ: " لَو: حرف يَقْتَضِي نفي مَا يلْزم لثُبُوته ثُبُوت غَيره ".) .

(2/682)


قَالَ الْمرَادِي: [عباراته الثَّلَاث] بِمَعْنى وَاحِد.
لَكِن قَالَ ابْن هِشَام فِي " الْمُغنِي ": (فِي عبارَة ابْن مَالك نقص، فَإِنَّهَا لَا تفِيد أَن اقتضاءها للامتناع فِي الْمَاضِي، فَإِذا قيل: " لَو " حرف يَقْتَضِي فِي الْمَاضِي امْتنَاع مَا يَلِيهِ واستلزامه لتاليه كَانَ ذَلِك أَجود الْعبارَات) انْتهى. فَلذَلِك ألحقتها فِي الْمَتْن.
ثمَّ قسم صَاحب هَذِه الْمقَالة الْجَواب وَهُوَ مُرَاده بالتالي _ إِلَى أَقسَام: أَحدهَا: أَن يكون منتفياً، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا كَانَ التَّرْتِيب بَينه وَبَين الأول مناسباُ، وَلم يخلف الأول غَيره، نَحْو: {لَو كَانَ فيهمَا ألهة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] .
الثَّانِي: أَن يكون مَعَ مناسبته خَلفه غَيره، كَقَوْلِك: الطَّائِر لَو كَانَ إنْسَانا لَكَانَ حَيَوَانا، فَإِنَّهُ خلف الإنسانية شَيْء آخر يدل على الحيوانية فثبتت.
الثَّالِث: أَن لَا يكون التَّرْتِيب بَين الأول وَالثَّانِي مناسباً، فَيثبت التَّالِي.
ثمَّ قسم ثُبُوته إِلَى أَقسَام:
أَحدهَا: أَن يكون أولى بالثبوت من الأول، نَحْو: " لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ ".

(2/683)


الثَّانِي: أَن يكون مُسَاوِيا، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بنت أم سَلمَة: " لَو لم تكن ربيبتي فِي حجري مَا حلت لي، إِنَّهَا لابنَة أخي من الرضَاعَة "، فَإِن لتحريمها سببين: كَونهَا ربيبته، وَكَونهَا ابْنة أَخِيه من الرضَاعَة.
الثَّالِث: أَن يكون أدون مِنْهُ، وَلَكِن يلْحق بِهِ لمشاركته فِي الْمَعْنى، كَقَوْلِك فِي أُخْت النّسَب وَالرّضَاع: لَو انْتَفَت أخوة النّسَب لما كَانَت حَلَالا، لِأَنَّهَا أُخْت من الرضَاعَة، فتحريم أُخْت الرَّضَاع دون تَحْرِيم أُخْت النّسَب، لكنه مُسْتَقل بِالتَّعْلِيلِ لصلاحيته لَهُ.

(2/684)


قلت: رد الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " هَذِه الْمقَالة من أَرْبَعَة أوجه، وَبَينهَا وحررها، وَقَالَ: (إِن " لَو " حرف مَوْضُوع لتعليق حُصُول أَمر فِي الْمَاضِي بِحُصُول أَمر آخر مُقَدّر فِيهِ، هَذَا أصل وَضعه، ثمَّ حُصُول الْمُقدر فِي الْمَاضِي مَقْطُوع بِعَدَمِهِ، فَيَنْتَفِي الْحُصُول الْمُعَلق عَلَيْهِ لانْتِفَاء الشَّرْط.
فَمن عرف بِأَن " لَو " لانْتِفَاء الثَّانِي لانْتِفَاء الأول، أَي: انْتِفَاء الْجَزَاء مُعَلل بِانْتِفَاء الشَّرْط، وَقَالَ مَعْنَاهُ: امْتنَاع الْجَزَاء لِامْتِنَاع الشَّرْط، كَمَا قَالَه صَاحب " الْمِفْتَاح "، أَخذ بالحاصل، وَعبر عَنهُ معنى اللَّفْظ بلازمه) انْتهى.
وَذكر اعْتِرَاض ابْن الْحَاجِب وتنقيحه للرضي، وَجَوَابه لَهُ، وَغَيره، فليعاوده من أَرَادَهُ فَإِنَّهُ أَطَالَ فِيهِ.

(2/685)


قَوْله: {وَتَأْتِي لتمن، وَعرض، [وتحضيض، وتقليل] ، ومصدري} . ل " لَو " معَان أخر غير مَا تقدم:
أَحدهَا: التَّمَنِّي، نَحْو: {فَلَو أَن لنا كرة} [الشُّعَرَاء " 102] ، أَي: فليت لنا كرة، وَلِهَذَا نصب {فنكون} فِي جوابها.
وَهل هِيَ الامتناعية أشربت معنى التَّمَنِّي؟ أَو قسم بِرَأْسِهِ؟ أَو هِيَ المصدرية أغنت عَن التَّمَنِّي؟ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال.
الثَّانِي: الْعرض، نَحْو: لَو تنزل عندنَا فتصيب خيرا.
الثَّالِث: التحضيض، نَحْو [لَو] فعلت كَذَا، أَي: افْعَل كَذَا، وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْعرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحث.
الرَّابِع: التقليل، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ردوا السَّائِل وَلَو بظلف محرق "، و " التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد "، " اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة "، أثْبته ابْن

(2/686)


هِشَام الخضراوي، وَابْن السَّمْعَانِيّ فِي " القواطع ". قَالَ ابْن هِشَام: (وَفِيه نظر) .
قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع " -: (وَالْحق أَنه مُسْتَفَاد مِمَّا بعْدهَا، لَا من الصِّيغَة) . قلت: قَالَ الزَّرْكَشِيّ من أَصْحَابنَا فِي " شرح الْخرقِيّ ": فِي قَول

(2/687)


النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف لما قَالَ: تزوجت: " أولم وَلَو بِشَاة ": (المُرَاد بِالشَّاة هُنَا وَالله أعلم للتقليل، أَي: وَلَو بِشَيْء قَلِيل كشاة) انْتهى.
قلت: فِيهِ شَيْء، لدلَالَة الْحَال، فَإِن عبد الرَّحْمَن رَضِي الله عَنهُ لما قدم الْمَدِينَة وَتزَوج هَذِه الْأَنْصَارِيَّة، كَانَ فَقِيرا جدا، بِحَيْثُ أَنه كَانَ لَا يملك شَيْئا، إِلَّا أَنه حصل شَيْئا بالمبايعة فَتزَوج بِهِ.
الْخَامِس: المصدري، أثبتها الْفراء، والفارسي، والتبريزي،

(2/688)


وَأَبُو الْبَقَاء، وَابْن مَالك، وَغَيرهم.
وعلامتها: أَن يصلح فِي موضعهَا " أَن "، وَأكْثر وُقُوعهَا، بعد مَا يدل على تمن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يود أحدهم لَو يعمر ألف سنة} [الْبَقَرَة: 96] .
وأنكرها الْأَكْثَر، وَقَالُوا: الْآيَة وَنَحْوهَا على حذف مفعول " يود " وَجَوَاب " لَو "، أَي: يود أحدهم طول الْعُمر، لَو يعمر ألف سنة لسر بذلك.
قَوْله: {و " لَوْلَا " حرف يَقْتَضِي فِي [الْجُمْلَة الاسمية] امْتنَاع جَوَابه لوُجُود شَرطه، وَفِي [المضارعة] التحضيض، وَفِي [الْمَاضِيَة] التوبيخ وَالْعرض، وَقيل: [ولنفي] } .
ل " لَوْلَا " معَان وأحوال:
أَحدهَا: أَن يدْخل على الْجُمْلَة الاسمية فَيكون مَعْنَاهُ: امْتنَاع جَوَابه

(2/689)


لوُجُود شَرطه، نَحْو: لَوْلَا زيد لأكرمتك، أَي: لَوْلَا زيد مَوْجُود، فامتناع الْإِكْرَام لوُجُود زيد.
الثَّانِي: أَن يدْخل على جملَة فعلية مصدرة بِفعل مضارع، نَحْو: {لَوْلَا تستغفرون الله} [النَّمْل: 46] ، فَهِيَ للتحضيض، وَهُوَ طلب بحث كَمَا تقدم.
وَفِي مَعْنَاهُ: الْعرض، لَكِن تكون مصدرة بماض، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا أخرتني إِلَى أجل قريب} [المُنَافِقُونَ: 10] ، وَتقدم الْفرق بَينهمَا.
وَتَأْتِي أَيْضا مصدرة بماض للتوبيخ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا جاءو عَلَيْهِ بأَرْبعَة شُهَدَاء} [النُّور: 13] .
وَذكر الْهَرَوِيّ أَنَّهَا ترد للنَّفْي، مثل " لم "، وَجعل مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فلولا كَانَت قَرْيَة أمنت} [يُونُس: 98] .
وَقَالَ الْأَكْثَر: هِيَ أَيْضا هُنَا للتوبيخ، أَي: فَهَلا كَانَت قَرْيَة من الْقرى الْمهْلكَة آمَنت قبل حُلُول الْعَذَاب فنفعها ذَلِك.
تَنْبِيه: ذكرنَا فِي الْمَتْن من الْحُرُوف وَإِن كَانَ فِيهَا أَسمَاء سَبْعَة عشر، وَذكرنَا مَعَانِيهَا، محررة، وَللَّه الْحَمد.
والمصنفون فِي الْأُصُول مِنْهُم المكثر مِنْهَا، كالتاج السُّبْكِيّ فِي " جمع

(2/690)


الْجَوَامِع "، فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ سِتَّة وَعشْرين حرفا، وَمِنْهُم الْمقل كالرازي وَابْن الْحَاجِب وَجمع، وَمِنْهُم الْمُتَوَسّط كالبرماوي وَنحن هُنَا.
وَالَّذِي يَنْبَغِي ذكره فِي الْأُصُول: مَا لَهَا تعلق بالفقه وتذكر فِيهِ، فَمِنْهَا: حُرُوف الشَّرْط السِّتَّة، فَإِن لَهَا تَعْلِيقا فِيهِ، وَهِي: " إِن "، و " إِذا "، و " مَتى "، و " من "، و " أَي "، و " كلما "، وَمن الْمَذْكُور فِي الْأُصُول: " لَو "، و " من "، و " إِلَى "، و " حَتَّى "، و " بل "، و " لَكِن "، فَإِن لَهَا أحكاماً كَثِيرَة فِي الطَّلَاق والأقارير وَالْوَقْف وَغَيرهَا، وَكَذَلِكَ " الْوَاو "، و " الْفَاء "، و " ثمَّ "، و " الْبَاء "، و " فِي "، وَغَيرهَا. وَيَأْتِي فِي الْمَتْن أدوات الِاسْتِثْنَاء، وَفِي الْعَام أَسمَاء الشَّرْط، والاستفهام، والموصول، و " كل "، وَجَمِيع، وَغَيرهَا، وَفِي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم " إِنَّمَا " بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح.

(2/691)


قَوْله: {فصل}

{لَا مُنَاسبَة ذاتية بَين اللَّفْظ ومدلوله، وَخَالف عباد المعتزلي} .
ذهب أهل الْعلم من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: إِلَى أَنه لَا مُنَاسبَة طبيعية بَين اللَّفْظ ومدلوله، لما تقدم من الْمُشْتَرك للشَّيْء وضده، كالقرء والجون وَنَحْوهمَا، وللشيء ونقيضه، ولاختلاف الِاسْم لاخْتِلَاف الْأُمَم مَعَ اتِّحَاد الْمُسَمّى، وَإِنَّمَا اخْتصَّ كل اسْم بِمَعْنى بِإِرَادَة الْفَاعِل الْمُخْتَار.
وَخَالف فِي ذَلِك عباد بن سُلَيْمَان [الصَّيْمَرِيّ] المعتزلي، أَبُو سهل، من معتزلة الْبَصْرَة، من أَصْحَاب هِشَام بن عَمْرو، وَكَانَ الجبائي يصفه

(2/692)


بالحذق فِي الْكَلَام.
و [صيمرة] : كورة من كور الْجبَال الْمُسَمّى بعراق الْعَجم، وَالنِّسْبَة " صيمري " بِفَتْح الصَّاد وَالْمِيم.
قَالَ المطرزي: (وَضم الْمِيم خطأ) .
[وصميرة] أَيْضا بلد صَغِير من تِلْكَ الْبِلَاد.
وَوَافَقَ عباداً أَرْبَاب علم الْكسر وَهُوَ الرياضي، وَاتَّفَقُوا على أَن وضع

(2/693)


الْأَعْلَام يَكْتَفِي فِيهِ بالإرادة، قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ".
وَاخْتلف النَّقْل عَن عباد حَيْثُ أثبتها.
{فَقيل: أَرَادَ: أَن الْمُنَاسبَة حاملة للوضع} ، وَهُوَ مُقْتَضى نقل الْآمِدِيّ عَنهُ.
{وَقيل: أَرَادَ: أَنَّهَا كَافِيَة فِي دلَالَة اللَّفْظ على الْمَعْنى} من غير وضع، وَهُوَ مُقْتَضى نقل الرَّازِيّ عَنهُ، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الْأَصْفَهَانِي، وَالْأول أقرب مِنْهُ، وَحَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن الْمُحَقِّقين، نَقله عَن الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ".

(2/694)


قلت: وَإِلَيْهِ ميل الشَّيْخ شمس الدّين ابْن الْقيم الجوزية فِي كتبه كالهدي، وَغَيره.
وَاحْتج لعباد: بِأَن الْمُنَاسبَة لَو لم تعْتَبر لَكَانَ اخْتِصَاص اللَّفْظ بذلك الْمَعْنى تَرْجِيحا من غير مُرَجّح.
جَوَابه على نقل الرَّازِيّ -: أَنه ترجح بِإِرَادَة الْوَاضِع، وَلَو كَانَت ذاتية لما اخْتلفت باخْتلَاف النواحي، ولاهتدى كل أحد إِلَى معرفَة كل اللُّغَة، ولكان الْوَضع للضدين إِذا قُلْنَا: يجوز الِاشْتِرَاك، محالاً.
وعَلى نقل الْآمِدِيّ: يكون الْمُرَجح لَيْسَ الْبَاعِث الْعقلِيّ، وَإِلَّا لما اخْتلف الْعَرَب والعجم فِيهِ، لَكِن إِرَادَة الْوَاضِع، أَو إلهام الله تَعَالَى إِيَّاه، إِن قُلْنَا: الْوَاضِع الْبشر، أَو حُضُوره ببالهم.
قَوْله: {فَائِدَة: يجب حمل اللَّفْظ على حَقِيقَته دون مجازه ... إِلَى آخِره} .
يَأْتِي أَلْفَاظ لَهَا مَعْنيانِ أَو أَكثر، وَلَكِن الأَصْل فِيهَا معنى، وَالْمعْنَى

(2/695)


الآخر طَار، فَيقدم مَا كَانَ هُوَ الأَصْل عِنْد احْتِمَال التَّعَارُض، فَإِن احتفت قَرَائِن بِإِرَادَة غير ذَلِك اتبع، وَقد ذكر ذَلِك الْعلمَاء من أهل الْأُصُول وَغَيرهم، وَلكنه مفرقاً، كل مَسْأَلَة فِي محلهَا، وَرَأَيْت الْقَرَافِيّ تبعه ابْن قَاضِي الْجَبَل جمعهَا فِي مَوضِع وَاحِد، فتبعتهما، وزدت بعض مسَائِل.
فَمن ذَلِك: إِذا دَار اللَّفْظ بَين كَونه حَقِيقَة أَو مجَازًا مَعَ الِاحْتِمَال، كالأسد مثلا للحيوان المفترس حَقِيقَة، وللرجل الشجاع مجَاز، فَإِذا أطلق وَلَا قرينَة كَانَ للحيوان المفترس، لِأَن الأَصْل الْحَقِيقَة، وَالْمجَاز خلاف الأَصْل.
فَإِن أُرِيد بِالْأَصْلِ الْغَالِب، فالمخالف فِيهِ ابْن جني كَمَا تقدم، وَإِن أُرِيد بِهِ الدَّلِيل، فَالْمُرَاد: أَن الْمجَاز على خلاف الدَّلِيل، وَتقدم حكم الْمجَاز الرَّاجِح والحقيقة المرجوحة وَالْخلاف فِي ذَلِك.
وَكَذَلِكَ إِذا دَار الْأَمر فِي اللَّفْظ بَين جَرَيَانه على عُمُومه أَو تَخْصِيصه، فَالْأَصْل بَقَاء الْعُمُوم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاء: 23] ، يدْخل فِي عُمُومه: الحرتين، والأمتين، وَإِذا كَانَت إِحْدَاهمَا أمة وَالْأُخْرَى حرَّة، فَيحمل على عُمُومه وَلَا يخصص بالحرتين.
وَكَذَلِكَ الْمسَائِل الْبَاقِيَة تحمل على مَا قُلْنَا، وَيعرف ذَلِك بِأَدْنَى تَأمل لمن عِنْده أدنى تَمْيِيز.
وَقد مثل الْقَرَافِيّ لكل مَسْأَلَة مِثَالا فِي " شرح التَّنْقِيح ".

(2/696)


قَوْله: {وَيحمل اللَّفْظ على عرف الْمُتَكَلّم مُطلقًا، وَتَأْتِي تتمته} .
وَقد تقدم فِي الْمَسْأَلَة: إِذا احْتمل اللَّفْظ مَعْنيين فَأكْثر وَلَا قرينَة حمل على الأَصْل، فَإِن وجد قرينَة وَدَلِيل رَاجِح ترك الأَصْل وَعمل بذلك فِي الْجُمْلَة، فَإِذا كَانَ للمتكلم بذلك عرف رَجَعَ فِي ذَلِك إِلَى عرفه، كالفقيه مثلا يرجع إِلَى عرفه فِي كَلَامه ومصطلحاته، وَكَذَلِكَ الأصولي، والمحدث، والمفسر، واللغوي، وَنَحْوهم من أَرْبَاب الْعُلُوم، وَكَذَلِكَ إِذا سمع من الشَّارِع شَيْئا، حمله على عرفه من مَدْلُول اللَّفْظ.
قَوْله: (وَتَأْتِي تتمته) .
يَأْتِي اللَّفْظ اللّغَوِيّ والشرعي فِي آخر الْمُجْمل، فِيمَا إِذا كَانَ للفظ حَقِيقَة لغوية وَحَقِيقَة شَرْعِيَّة أَو عرفية، كَالصَّلَاةِ مثلا وَالدَّابَّة، هَل هُوَ الشَّرْعِيّ، أَو غَيره، أَو مُجمل؟

(2/697)


قَوْله: {فصل}

{مبدأ اللُّغَات تَوْقِيف من الله تَعَالَى، بإلهام، أَو وَحي، أَو كَلَام، عِنْد أبي الْفرج، والموفق والطوفي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، والظاهرية، والأشعرية، قَالَ فِي " الْمقنع ": (وَهُوَ الظَّاهِر عندنَا) .
أَبُو هَاشم وَجمع: اصطلاحية، وَضعهَا وَاحِد أَو جمَاعَة، وَعرف الْبَاقُونَ بِإِشَارَة وتكرار.
الْأُسْتَاذ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ توقيفي، وَغَيره [مُحْتَمل أَو اصْطِلَاح] .

(2/698)


وَقيل: عَكسه.
ابْن عقيل [وَجمع] : بَعْضهَا تَوْقِيف، وَبَعضهَا اصْطِلَاح، وَعِنْده: الِاصْطِلَاح بعد خطابه تَعَالَى.
القَاضِي، وأبوالخطاب، والباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَابْن برهَان، وَجمع: الْكل مُمكن. ووقف قوم} .
هَذَا نقل الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
فَأَبُو هَاشم وَجَمَاعَة قَالُوا: هِيَ اصطلاحية، وَضعهَا وَاحِد أَو جمَاعَة / وَعرف الْبَاقُونَ بِإِشَارَة وتكرار، كالطفل، والأخرس، والجارح للاصطياد.
وَمَا قدمْنَاهُ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الأسفراييني هُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَنهُ ابْن برهَان، والآمدي، وَغَيرهمَا، وَهُوَ الصَّحِيح فِي النَّقْل عَنهُ، الْمَوْجُود فِي كِتَابه.

(2/699)


وَنقل ابْن الْقشيرِي والرازي والبيضاوي عَنهُ: أَن مَا لم يحْتَج إِلَيْهِ اصْطِلَاح، وَفِي الْمَسْأَلَة قَول عكس قَول الْأُسْتَاذ، وَهُوَ: أَن يكون الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ مُحْتملا أَو مصطلحاً، على الرأيين، وَالْبَاقِي توقيفاً، وَرُبمَا عبر عَن هذَيْن الْقَوْلَيْنِ: بِأَن مبدأ اللُّغَة توقيفي وَالْبَاقِي مصطلح، وَبِالْعَكْسِ.
وَتقدم قَول ابْن عقيل: وَغَيره وَحَكَاهُ عَن الْمُحَقِّقين، وَعِنْده: الِاصْطِلَاح بعد خطابه تَعَالَى، وأبطل القَوْل بسبقه لَهُ.
وَتقدم قَول الباقلاني وَمن مَعَه: أَن الْكل مُمكن، فمذهب هَؤُلَاءِ لَا يقْضى فِيهَا بتوقيف وَلَا اصْطِلَاح، لَا فِي الْكل وَلَا فِي الْبَعْض، لتعارض الْأَدِلَّة، فَلم يرجحوا شَيْئا.
وَذهب ابْن الْحَاجِب، وَابْن دَقِيق الْعِيد، والتاج السُّبْكِيّ: إِلَى الْوَقْف عَن الْقطع بِوَاحِد من الِاحْتِمَالَات، وَلَكِن التَّوْقِيف مُطلقًا هُوَ الْأَغْلَب على الظَّن.

(2/700)


وَفِي كَلَام أبي الْخطاب: (أَيْضا لَا يجوز أَن يكون شَيْء مِنْهَا توقيفاً) ، وَحكي عَن الْمُعْتَزلَة، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا أَظُنهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، أَو جده الْمجد -: (قطع قوم بِأحد مَا ذكرنَا عينا، وظنه قوم، وَتوقف الْأَكْثَر) .
فَائِدَة: اخْتلف: هَل لهَذَا الْخلاف فَائِدَة أم لَا؟
ذهب كثير إِلَى أَنه لَا فَائِدَة لَهُ.
وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا وضعت لتكميل الْعلم بِهَذِهِ الصِّنَاعَة، أَو جَوَاز قلب مَا لَا يُطلق لَهُ بِالشَّرْعِ، كتسمية الْفرس ثوراً، وَعَكسه.
وَقَالَ بَعضهم: إِنَّهَا جرت فِي الْأُصُول مجْرى الرياضيات: كمسائل الْجَبْر، والمقابلة.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: (فَائِدَة الْخلاف، وَمن قَالَ بالتوقيف جعل التَّكْلِيف مُقَارنًا لكَمَال الْعقل، وَمن جعله اصْطِلَاحا جعله مُتَأَخِّرًا مُدَّة الِاصْطِلَاح) .
وَزعم بعض الْحَنَفِيَّة أَنهم يَقُولُونَ بالتوقيف، وَعزا الِاصْطِلَاح للشَّافِعِيَّة.

(2/701)


ثمَّ قَالَ: (وَفَائِدَة الْخلاف: أَنه يجوز التَّعَلُّق باللغة عِنْد الْحَنَفِيَّة لإِثْبَات حكم الشَّرْع من غير رُجُوع إِلَى الشَّرْع) .
اسْتدلَّ الْقَائِل بالتوقيف بقوله تَعَالَى: {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} [الْبَقَرَة: 31] .
قَالُوا: ألهمه، أَو علمه بَعْضهَا، أَو اصْطِلَاحا سَابِقًا، أَو حَقِيقَة الشَّيْء وَصفته، لقَوْله تَعَالَى: {ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة} [الْبَقَرَة: 31] .
رد: الأَصْل اتِّحَاد الْعلم، وَعدم اصْطِلَاح سَابق، وَحَقِيقَة اللَّفْظ، وَقد أكده ب (كلهَا) ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِي حَدِيث الشَّفَاعَة: " وعلمك أَسمَاء كل شَيْء "، وَفِي الرَّابِع: إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه فِي قَوْله: {بأسماء هَؤُلَاءِ} ، فالتعليم للأسماء، وَضمير {عرضهمْ} للمسميات، ولظاهر قَوْله تَعَالَى: {مَا فرطنا فِي الْكتب من شَيْء} [الْأَنْعَام: 38] ، وَلقَوْله تَعَالَى: {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} [العلق: 5] ، قَوْله تَعَالَى: {وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم} [الرّوم: 22] ، وَحمله على اللُّغَة أبلغ من الْجَارِحَة، وعَلى اخْتِلَاف اللُّغَات أولى من الإقدار عَلَيْهَا، لقلَّة الْإِضْمَار.

(2/702)


وَاسْتدلَّ الْقَائِل بالاصطلاح بقوله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} [إِبْرَاهِيم: 4] ، فاللغة سَابِقَة لِئَلَّا يلْزم الدّور.
رد: لَا ينْحَصر التَّوْقِيف فِي الرسَالَة، وَيجوز تَعْلِيم آدم قبل بعثته.
قَالُوا: التَّوْقِيف يتَوَقَّف على معرفَة أَن ذَلِك اللَّفْظ لذَلِك الْمَعْنى، وَلَا يعرف إِلَّا بِأَمْر خَارج، فَإِن كَانَ توقيفاً تسلسل، فَتعين الِاصْطِلَاح.
رد: بِقطع التسلسل بِخلق علم ضَرُورِيّ لمن سمع [اللَّفْظ] أَنه لذَلِك الْمَعْنى، وَيلْزم مثله فِي الِاصْطِلَاح؛ لِأَن مَا يتخاطب بِهِ إِن كَانَ باصطلاح تسلسل، فَتعين التَّوْقِيف.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: يجوز تَسْمِيَة الشَّيْء بِغَيْر التَّوْقِيف، مَا لم يحرمه الله تَعَالَى، فَيبقى لَهُ اسمان: [توقيفي، واصطلاحي] ، ذكره القَاضِي [أَبُو يعلى] ، وَالشَّيْخ [تَقِيّ الدّين] ، [تبعا لِابْنِ الباقلاني] ، [وَصَاحبه] .

(2/703)


وَغَيرهم، وَخَالف [فِي ذَلِك] الظَّاهِرِيَّة وَغَيرهم} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (ذهب بعض أَصْحَاب التَّوْقِيف إِلَى أَنه لَا يجوز، وَهُوَ قَول دَاوُد وَأَصْحَابه، ذكره ابْن حَامِد) انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: يجوز أَن تسمى الْأَشْيَاء بِغَيْر الْأَسْمَاء الَّتِي وَضعهَا الله تَعَالَى علما لَهَا، إِذا لم يَقع حظر) .
قَوْله: {الثَّانِيَة: أَحْمد، وَالْأَكْثَر؛ أَسمَاء الله تَعَالَى توقيفية لَا تثبت بِقِيَاس، وَعنهُ، وَقَالَهُ القَاضِي، وَغَيره، والمعتزلة، والكرامية: بلَى، والباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والرازي: فِي الصِّفَات لَا الْأَسْمَاء} .
قَالَ الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (اخْتلف فِي الْأَسْمَاء الْحسنى، هَل هِيَ توقيفية؟ بِمَعْنى: أَنه لَا يجوز لأحد أَن يشتق من الْأَفْعَال الثَّابِتَة لله تَعَالَى أَسمَاء، إِلَّا إِذا ورد نَص فِي الْكتاب أَو السّنة.
فَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ: " الْمَشْهُور عَن أَصْحَابنَا: أَنَّهَا توقيفية.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة، والكرامية: إِذا دلّ الْعقل على أَن معنى اللَّفْظ ثَابت فِي حق الله تَعَالَى، جَازَ إِطْلَاقه على الله تَعَالَى.

(2/704)


وَقَالَ القَاضِي، وَالْغَزالِيّ: الْأَسْمَاء توقيفية دون الصِّفَات.
قَالَ: وَهَذَا الْمُخْتَار ".
وَاحْتج الْغَزالِيّ: " بالِاتِّفَاقِ على أَنه لَا يجوز أَن يُسَمِّي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - باسم لم يسمه بِهِ أَبوهُ، وَلَا يُسمى بِهِ نَفسه، وَكَذَا كل كَبِير من الْخلق ".
قَالَ: " فَإِذا امْتنع فِي حق المخلوقين، فامتناعه فِي حق الله تَعَالَى أولى ".
وَاتَّفَقُوا على أَنه لَا يجوز أَن يُطلق عَلَيْهِ اسْم وَلَا صفة توهم نقصا، وَلَو ورد ذَلِك نصا، فَلَا يُقَال: ماهد، وَلَا زارع، وَلَا فالق، وَلَا نَحْو ذَلِك، وَإِن ثَبت فِي قَوْله تَعَالَى: {فَنعم الماهدون} [الذاريات: 48] ، {أم نَحن الزارعون} [الْوَاقِعَة: 64] ، {فالق الْحبّ والنوى} [الْأَنْعَام: 95] ، وَنَحْوهَا.
وَلَا يُقَال لَهُ: ماكر وَلَا بِنَاء، وَإِن ورد: {ومكر الله} [آل عمرَان: 54] ، {وَالسَّمَاء بنيناها} [الذاريات: 47] .
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي: " الْأَسْمَاء تُؤْخَذ توقيفاً من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع "، فَكل اسْم ورد فِيهَا وَجب إِطْلَاقه فِي وَصفه، وَمَا لم يرد لَا يجوز وَلَو صَحَّ مَعْنَاهُ.

(2/705)


وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج: (لَا يجوز لأحد أَن يَدْعُو الله تَعَالَى بِمَا لم يصف بِهِ نَفسه) .
وَالضَّابِط: أَن كلما أذن الشَّارِع أَن يدعى بِهِ سَوَاء كَانَ مشتقاً أَو غير مُشْتَقّ فَهُوَ من أَسْمَائِهِ، وَكلما جَازَ أَن ينْسب إِلَيْهِ سَوَاء كَانَ مِمَّا يدْخلهُ التَّأْوِيل أَو لَا فَهُوَ من صِفَاته، وَيُطلق عَلَيْهِ اسْما أَيْضا -) انْتهى كَلَام الْحَافِظ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور فِي " التَّحْصِيل ": (أجمع أَصْحَابنَا على أَن أَسمَاء الله توقيفية، وَلَا يجوز إِطْلَاق شَيْء مِنْهَا بِالْقِيَاسِ، وَإِن كَانَ فِي معنى الْمَنْصُوص، وَجوزهُ معتزلة الْبَصْرَة.
وَقَالَ: وَأما أَسمَاء غَيره، فَالصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي: جَوَاز الْقيَاس فِيهَا، وَقَالَ بعض أَصْحَابه مَعَ أَكثر أهل الرَّأْي بامتناع الْقيَاس، وَأَجْمعُوا: أَنه لَو حدث فِي الْعَالم شَيْء بِخِلَاف الحوداث كلهَا جَازَ أَن يوضع لَهُ اسْم) انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي " الْمُعْتَمد ": (يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى بِكُل اسْم ثَبت لَهُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة، وَدلّ الْعقل والتوقيف عَلَيْهِ، إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك سمع وتوقيف، وَلَا نقف على جَوَاز تَسْمِيَته " دَلِيلا "، وَأَن يدعى بِهِ على مَا بَينه فِيمَا بعد، وَإِن لم يرد بذلك نَص كتاب

(2/706)


وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع، فَإِن جمَاعَة الْمُتَكَلِّمين يمْنَعُونَ من ذَلِك، وَقد أجَاز أَحْمد تَسْمِيَته بذلك، وَفِي الدُّعَاء " يَا دَلِيل المتحيرين ") .
قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (وَيجوز أَن يُقَال: يَا قديم الْإِحْسَان، وَيَا دَلِيل الحيارى دلَّنِي على طَرِيق الصَّالِحين، نَص عَلَيْهِ أَحْمد، فَإِنَّهُ كالخالق والرازق والرب فِي الْقدَم) انْتهى.
وَسَماهُ: دَالا، فَقَالَ: الدَّال الله، على مَا تقدم، لِأَن معنى الدَّلِيل وَالدَّال: المرشد.
قلت: وَكَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع " لَهُ: (الدَّال: الناصب للدليل، وهوالله عز وَجل) انْتهى.
وَنقل الْمَرْوذِيّ عَن أَحْمد أَنه قَالَ: (لَا يُوصف الله تَعَالَى بِأَكْثَرَ مِمَّا وصف بِهِ نَفسه، وَلَا نتعدى الْقُرْآن والْحَدِيث) .

(2/707)


وَظَاهر هَذَا: أَنه لَا يجوز تَسْمِيَته إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه، أَو سَمَّاهُ رَسُوله.
وَهَذَا مَحْمُول على أَنه لَا يجوز تَسْمِيَته بِغَيْر ذَلِك مِمَّا لَا يثبت لَهُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة وَقد منع مِنْهُ السّمع.
وَقد ورد الشَّرْع بِإِطْلَاق أَسمَاء وصفات عَلَيْهِ يحِيل الْعقل مَعَانِيهَا فِي اللُّغَة، وَردت على طَرِيق الْجَزَاء.
وَمن ذَلِك: أَنه وصف نَفسه بِأَنَّهُ يُؤْذى بقوله تَعَالَى: {يُؤْذونَ الله وَرَسُوله} [الْأَحْزَاب: 57] ، وبمحارب بقوله تَعَالَى: {إِنَّمَا جزاؤا الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} [الْمَائِدَة: 33] ، ومحارب بقوله تَعَالَى: {فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله} [الْبَقَرَة: 279] ، وساخر بقوله: {سخر الله مِنْهُم} [التَّوْبَة: 79] ، وماكر بقوله: {ومكروا ومكر الله} [آل عمرَان: 54] ، ومستهزئ بقوله تَعَالَى: {الله يستهزئ بهم} [الْبَقَرَة: 15] ، وَكَاتب بقوله: {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور} [الْأَنْبِيَاء: 105] ، {وكتبنا لَهُ فِي الألواح} [الْأَعْرَاف: 145] ، وباني بقوله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء بنيناها بأييد} [الذاريات: 47] .
[فَهَذِهِ] تستحيل مَعَانِيهَا فِي اللُّغَة، وَإِنَّمَا وَردت على طَرِيق الْجَزَاء) .
انْتهى كَلَام القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد ".
فَالَّذِي قدمْنَاهُ: هُوَ ظَاهر رِوَايَة الْمَرْوذِيّ، وَهُوَ ظَاهر اخْتِيَار أبي الْبَقَاء فِي " إعرابه "، وَقطع بِهِ فِي " نِهَايَة المبتدئين " عَن الإِمَام أَحْمد، وَإِنَّمَا حكى الثَّانِي وَجها.

(2/708)


قَوْله: {خَاتِمَة: [طَرِيق] معرفَة اللُّغَة: النَّقْل، تواتراً فِيمَا لَا يقبل تشكيكاً، وآحاداً [فِي غَيره] ، والمركب مِنْهُ وَمن الْعقل، [وَقَالَ] ابْن جني: والقرائن أَيْضا} .
لمعْرِفَة اللُّغَة طرق:
أَحدهَا: النَّقْل، وَهُوَ قِسْمَانِ: تَوَاتر، وآحاد.
فالتواتر: مَا لَا يقبل تشكيكاً كالسماء، وَالْأَرْض، وَالْجِبَال، وَنَحْوهَا، ولغات الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث من هَذَا الْقسم.
والآحاد: غير ذَلِك، وَهُوَ أَكثر اللُّغَة، فيتمسك بِهِ فِي الْمسَائِل الظنية دون القطعية.

(2/709)


وَالثَّانِي: الْمركب مِنْهُ وَمن الْعقل، وَهُوَ استنباط الْعقل من النَّقْل، مِثَاله: كَون الْجمع الْمُعَرّف ب " أل " للْعُمُوم، فَإِنَّهُ مُسْتَفَاد من مقدمتين نقليتين، حكم الْعقل بواسطتهما.
إِحْدَاهمَا: أَنه يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء.
وَالثَّانيَِة: أَن الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج [بعض] مَا تنَاوله اللَّفْظ.
فَحكم الْعقل عِنْد وجود هَاتين المقدمتين بِأَنَّهُ للْعُمُوم.
وَلَا اعْتِبَار بِمَا يُخَالف ذَلِك، مِمَّن يَقُول: إِذا كَانَت المقدمتان نقليتين، كَانَت النتيجة أَيْضا نقلية، وَإِنَّمَا الْعقل تفطن لنتيجتها.
لأَنا نقُول: لَيْسَ هَذَا الدَّلِيل مركبا من نقليتين، لعدم تكَرر الْحَد الْأَوْسَط فيهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ مركب من مُقَدّمَة نقلية، وَهِي: الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله اللَّفْظ، ومقدمة عقلية لَازِمَة لمقدمة أُخْرَى نقلية، وَهِي: أَن كل مَا دخله الِاسْتِثْنَاء عَام، لِأَنَّهُ لَو لم يكن عَاما لم يدْخل الِاسْتِثْنَاء فِيهِ، ثمَّ جعلت هَذِه الْقَضِيَّة كبرى للمقدمة الْأُخْرَى النقلية، فَصَارَ صُورَة الدَّلِيل هَكَذَا: الْجمع الْمحلى ب " أل " يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء، وَكلما يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء عَام، ينْتج: أَن الْمحلى ب " أل " عَام.
الثَّالِث: الْقَرَائِن، قَالَه [ابْن جني] ، فَقَالَ فِي " الخصائص ": (من

(2/710)


قَالَ: إِن اللُّغَة لَا تعرف إِلَّا نقلا، فقد أَخطَأ؛ فَإِنَّهَا تعرف بالقرآئن أَيْضا، فَإِن الرجل إِذا سمع قَول الشَّاعِر:
( [قوم] إِذا الشَّرّ أبدى ناجذيه لَهُم ... طاروا إِلَيْهِ زرافات ووحدانا)

علم أَن زرافات بِمَعْنى: جماعات) انْتهى.
قَوْله: {قَالَ الشَّيْخ وَغَيره: [والأدلة] القولية قد تفِيد الْيَقِين} .
يَعْنِي: تفِيد الْقطع بالمراد، وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة السّلف وَغَيرهم.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: ( { [عِنْد] السّلف لَا يُعَارض الْقُرْآن [غَيره] بِحَال، وَحدث مَا قيل: أُمُور قَطْعِيَّة عقلية تخَالف الْقُرْآن) } انْتهى.

(2/711)


وَقد حكوا فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنَّهَا تفيده مُطلقًا.
وَالثَّانِي: لَا تفيده مُطلقًا، قَالُوا: لتوقف الْيَقِين فِيهَا على أُمُور لَا طَرِيق إِلَى الْقطع بهَا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ فِي " الْأَبْكَار "، والرازي فِي " الْمَحْصُول "، و " الْأَرْبَعين ".
[وَالثَّالِث] : أَنَّهَا قد تفِيد إِذا انْضَمَّ إِلَيْهَا تَوَاتر [أَو غَيره] من الْقَرَائِن الحالية، وَلَا عِبْرَة بِالِاحْتِمَالِ، فَإِنَّهُ إِذا لم ينشأ عَن دَلِيل لم يعْتَبر، وَإِلَّا لم يوثق بمحسوس. انْتهى.
قَالَ الكوراني: (الْأَدِلَّة اللفظية النقلية بِدُونِ قرينَة لَا تفِيد الْقطع بالحكم، لاحْتِمَال مجَاز، أَو اشْتِرَاك، أَو غير ذَلِك مِمَّا يخل بالتفاهم، وَأما مَعَ انضمام قرينَة قَطْعِيَّة كالتواتر على أَن المُرَاد ذَلِك قطعا، وَلذَلِك لَا يجوز

(2/712)


للمجتهد أَن يُخَالف مَا أجمع عَلَيْهِ، لِأَن الْمجمع عَلَيْهِ لَا يُمكن أَن يكون خلاف حكم الله تَعَالَى، فإفادة الْيَقِين بِمثل هَذِه الْقَرِينَة مُسلم، وَلَكِن الْمَتْن الْقطعِي إِذا خلا عَن هَذِه الْقَرِينَة لَا يُفِيد قطعا، وَيظْهر ذَلِك فِي {أقِيمُوا الصَّلَاة} [الْأَنْعَام: 72] ، وَفِي {ثَلَاثَة قُرُوء} [الْبَقَرَة: 228] ، فَإِن الْمَتْن فِي الْكل سَوَاء، مَعَ أَن المُرَاد من الأول قَطْعِيّ دون الثَّانِي، وَذَلِكَ وَاضح.
وَالْحق: أَن النَّفْي والإيجاب لم يردا على شَيْء وَاحِد، فَإِن الَّذِي يَقُول: لَا دلَالَة قَطْعِيَّة فِي النقليات، يُرِيد بذلك نظرا إِلَى الدَّلِيل مَعَ قطع النّظر عَن الْقَرَائِن، وَالَّذِي يَقُول بِهِ، يضم إِلَيْهِ الْقَرِينَة، وَمن قَالَ: " إِن اللَّفْظ بعد الْقَرِينَة لَا يُفِيد فَهُوَ مكابر) انْتهى. وَهُوَ حسن.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (يُقَال: مَا المعني بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيّ؟ الظَّوَاهِر مَعَ النُّصُوص، أَو الظَّوَاهِر بمفردها؟ وَيُقَال أَيْضا -: الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين مُرَاده فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَلنَا أَلْفَاظ نقطع بمدلولها بمفردها، وَتارَة بانضمام قَرَائِن، أَو شَهَادَة الْعَادَات، ثمَّ يمْنَع مُعَارضَة الدَّلِيل الْعقلِيّ الْقطعِي للدليل الشَّرْعِيّ.
وَقَوْلهمْ: الْمَوْقُوف على المظنون مظنون، بَاطِل، لِأَن الْمَوْقُوف على الْمُقدمَات الظنية قد يكون قَطْعِيا، بل الْمَوْقُوف على الشَّك قد يكون قَطْعِيا، فضلا عَن الظَّن، وَيعرف بِوُجُوه:
أَحدهَا: الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة قَطْعِيَّة.
الثَّانِي: أَن الشَّك فِي الرَّكْعَات يُوجب الْإِتْيَان بِرَكْعَة أُخْرَى، فَيقطع بِالْوُجُوب عِنْد الشَّك، وَكَذَا لَو شككنا فِي عين الْحَلَال كاشتباه ميتَة بمذكاة، وأجنبية بأخته.

(2/713)


الثَّالِث: إِقَامَة الْبَيِّنَة عِنْد الْحَاكِم، وَانْتِفَاء الريب يقطع بِوُجُوب الحكم، حَتَّى لَو جحد وُجُوبه كفر.
فَفِي هَذِه الصُّورَة؛ الْقطع مُتَوَقف على غير قَطْعِيّ) انْتهى.

(2/714)


قَوْله: {فصل فِي الْأَحْكَام}

{الْحسن والقبح بِمَعْنى: ملاءمة الطَّبْع ومنافرته، وَكَونه صفة كَمَال وَنقص، عَقْلِي، وَبِمَعْنى: الْمَدْح وَالثَّوَاب، والذم وَالْعِقَاب، شَرْعِي، فَلَا حَاكم إِلَّا الله تَعَالَى، فالعقل لَا يحسن وَلَا يقبح، وَلَا يُوجب وَلَا يحرم، عِنْد أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، والأشعرية، قَالَ ابْن عقيل: وَأهل السّنة، وَالْفُقَهَاء، وَخَالف التَّمِيمِي، وَأَبُو الْخطاب، وَالشَّيْخ، وَابْن الْقيم، وَالْحَنَفِيَّة والمعتزلة، والكرامية، وللمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَأهل الحَدِيث، قَولَانِ، فقدماء الْمُعْتَزلَة: لذاته، وَقيل: بِصفة لَازِمَة، وَقيل بِهِ فِي الْقَبِيح، والجبائية بِصفة عارضة} .

(2/715)


لما فَرغْنَا من ذكر مَا يستمد مِنْهُ من اللُّغَة، شرعنا فِي ذكر مَا يستمد مِنْهُ من الْأَحْكَام.
إِذْ لَا بُد من حَاكم، وَحكم، ومحكوم فِيهِ، ومحكوم عَلَيْهِ، وَالْكَلَام الْآن فِي الحكم. فالحسن والقبح يُطلق لثلاث اعتبارات:
أَحدهَا: مَا يلائم الطَّبْع وينافره، كَقَوْلِنَا: إنقاذ الغريق حسن، واتهام البريء قَبِيح، وَالصَّوْت الطّيب حسن بِهَذَا الْمَعْنى، وَالصَّوْت الكريه قَبِيح.
الثَّانِي: صفة الْكَمَال والمقص، كَقَوْلِنَا: الْعلم حسن، وَالْجهل قَبِيح.
[فالحسن والقبح] بِهَذَيْنِ الاعتبارين عقليان بِلَا نزاع، أَي: أَن الْعقل يسْتَقلّ بإدراكهما من غير توقف على الشَّرْع.
الثَّالِث: بِمَعْنى: الْمَدْح وَالثَّوَاب، والذم وَالْعِقَاب، شَرْعِي، فَلَا حَاكم إِلَّا الله، فالعقل لَا يحسن وَلَا يقبح، وَلَا يُوجب وَلَا يحرم، عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، والأشعرية، وَبَعض الْجَهْمِية.
قَالَ أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل: (هُوَ مَذْهَب أَكثر أَصْحَابنَا) .
زَاد ابْن عقيل: (هُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَأهل السّنة، وَالْفُقَهَاء، وَالْقَاضِي

(2/716)


أبي يعلى، وَتعلق بقول أَحْمد: (لَيْسَ فِي السّنة قِيَاس، وَلَا تضرب لَهَا أَمْثَال، وَلَا تدْرك بِالْعقلِ، وَإِنَّمَا هُوَ الِاتِّبَاع) ورده أَبُو الْخطاب.
قَالَ الْآمِدِيّ: (وَهُوَ قَول أَكثر الْعُقَلَاء وَأَن عِنْدهم يطلقان بِاعْتِبَار مُوَافقَة الْغَرَض ومخالفته، وَبِاعْتِبَار أَمر الشَّارِع بالثناء على فَاعله فَيعم الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب، أَو ذمه فَيخْتَص الْحَرَام. وَبِاعْتِبَار مَا لفَاعِله مَعَ الْعلم وَالْقُدْرَة فعله بِمَعْنى نفي الْحَرج، فَيعم الْمُبَاح زَاد بَعضهم: وَالْمَكْرُوه والقبيح مَا قابله.
وَهَذِه الاعتبارات إضافية لَا ذاتية، لاختلافها باخْتلَاف الْأَغْرَاض، وَأمر الشَّارِع، وأحوال الفاعلين.
أما فعل الله تَعَالَى فَحسن بعد الشَّرْع بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَالثَّالِث، وَقَبله بالثالث.
وَفعل الْعَاقِل قبل الشَّرْع حسن بِالْأولِ / وَالثَّالِث وَبعده بِالْجَمِيعِ) .
وَفعل الله تَعَالَى الِاعْتِبَار الأول، هِيَ مَسْأَلَة: فعله وَأمره لعِلَّة أَو حِكْمَة، أَولهمَا، على مَا يَأْتِي قَرِيبا.

(2/717)


وَقَالَ أَبُو الْحسن التَّمِيمِي من أَصْحَابنَا -، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن الْقيم: (الْعقل يحسن ويقبح، وَيُوجب وَيحرم) .
وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب، وَقَالَ: (هُوَ قَول عَامَّة الْعلمَاء من الْفُقَهَاء والمتكلمين وَعَامة الفلاسفة) ، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة.
[وللمالكية] ، وَالشَّافِعِيَّة، وَأهل الحَدِيث، قَولَانِ وَنَصره [أَبُو إِسْحَاق السجْزِي] وَأَبُو الْقَاسِم.

(2/718)


الزنجاني وَقَالَ: الأول أحدثه الْأَشْعَرِيّ.
وقالته أَيْضا الْمُعْتَزلَة، والكرامية، والرافضة أَيْضا -.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَقَالَ شَيخنَا يَعْنِي بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره: الْحسن والقبح ثابتان، والإيجاب وَالتَّحْرِيم بِالْخِطَابِ، والتعذيب مُتَوَقف على الْإِرْسَال، ورد الْحسن والقبح الشرعيين إِلَى الملائمة والمنافرة، لِأَن الْحسن الشَّرْعِيّ تضمن الْمَدْح وَالثَّوَاب الملائمين، والقبح الشَّرْعِيّ تضمن الذَّم وَالْعِقَاب المنافرين.

(2/719)


وَاخْتَارَ ابْن الْخَطِيب فِي آخر كتبه: أَن الْحسن والقبح العقليين ثابتان فِي أَفعَال الْعباد) انْتهى.
قَالَ قدماء الْمُعْتَزلَة: بِغَيْر صفة فِي الْفِعْل بل لذاته.
فَقَالُوا: الْعقل هُوَ المحسن والمقبح والموجب وَالْمحرم لذوات الْأَفْعَال، فَلَيْسَ فِي الْفِعْل صفة تَقْتَضِي حسنه أَو قبحه، بل الْفِعْل يَقْتَضِي لذاته أَحدهمَا.
وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين مِنْهُم: إِن حسن الْفِعْل وقبحه لأجل صفة زَائِدَة على الْفِعْل لَازمه لَهُ، تَقْتَضِي تِلْكَ الصّفة اللَّازِمَة حسن الْفِعْل أَو قبحه، مثل: الزِّنَا قَبِيح، لِأَنَّهُ مُشْتَمل على مفْسدَة، لاختلاط النّسَب، المفضي إِلَى ترك تعهد الْأَوْلَاد.
وَالصَّوْم حسن، لِأَنَّهُ يكسر الشَّهْوَة الباعثة على الْمفْسدَة.
وَقَالَ بَعضهم: إِن الْفِعْل الْقَبِيح متصف بِصفة توجب قبحه، دون الْفِعْل الْحسن، فَإِنَّهُ لذاته يَقْتَضِي الْحسن، لِأَن الْفِعْل إِن كَانَ فِيهِ مَا يكون مُؤديا إِلَى الْمفْسدَة يكون قبيحاً، وَإِلَّا فحسناً.
وَقَالَت الجبائية: يحصلان فيهمَا بِصفة عارضة توجبهما، لَكِن الصّفة لَيست حَقِيقَة، يل فِي وُجُوه واعتبارات، فَإِن كَانَت بِالْقِيَاسِ إِلَى شَيْء آخر، فَهِيَ اعْتِبَار لملاحظة الْعقل الْمحل المجاوز عَنهُ إِلَى غَيره، وَإِلَّا فَهُوَ وَجه، تَشْبِيها بِوَجْه الْإِنْسَان لامتيازه بِهِ.

(2/720)


كَالْقَتْلِ قَبِيح بِاعْتِبَار أَنه وَاقع لَا عَن سَبَب سَابق، وَلَا عوض لَاحق، وَيحسن بِاعْتِبَار سبق سَببه كَالْقصاصِ، أَو عوض لَاحق كَالشَّهَادَةِ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لم يقل أحد إِن الْحسن والقبيح لَازم لذات الْفِعْل كَمَا تظن طَائِفَة نقلت قَوْلهم) .
وَقَالَ: - أَيْضا -: (كَون الْفِعْل سَببا للثَّواب وَالْعِقَاب مِمَّا يلائم الْفَاعِل وينافره، وكل ملائمة ومنافرة للْإنْسَان إِنَّمَا تعود إِلَى الملائمة الطبيعية والمنافرة الطبيعية، لَكِن قد يكون الْفِعْل ملائماً من وَجه، منافراً من وَجه، وعقله يَأْمُرهُ بأنفعهما لَهُ، فَمن ادّعى حسنا أَو قبحاً عقلياً أَو شَرْعِيًّا بِغَيْر ملاءمة ومنافرة فقد قَالَ مَا لَا يعرف، وَلم يتَصَوَّر مَا يَقُول، وَلَا دَلِيل لمن نَفَاهُ، كَمَا لَا دَلِيل لمن أثْبته بِغَيْر ملاءمة الْفَاعِل ومنافرته) انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (لَيْسَ مُرَاد الْمُعْتَزلَة بِأَن الْأَحْكَام عقلية: أَن الْأَوْصَاف مُسْتَقلَّة بِالْأَحْكَامِ، [وَلَا أَن] الْعقل هُوَ الْمُوجب أَو الْمحرم، بل مَعْنَاهُ عِنْدهم: أَن الْعقل أدْرك أَن الله تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَة كلف بترك الْمَفَاسِد وَتَحْصِيل الْمصَالح، فالعقل أدْرك الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم، لَا أَنه أوجب وَحرم، فالنزاع مَعَهم فِي أَن الْعقل أدْرك ذَلِك أم لَا؟
فخصومهم تَقول: ذَلِك جَائِز على الله، وَلَا يلْزم من الْجَوَاز الْوُقُوع.

(2/721)


وهم يَقُولُونَ: بل هَذَا عِنْد الْعقل من قبل الْوَاجِبَات، فَكَمَا يُوجب الْعقل أَنه يجب أَن يكون الله عليماً قَدِيرًا متصفاً بِصِفَات الْكَمَال، كَذَلِك أدْرك وجوب مُرَاعَاة الله تَعَالَى للْمصَالح والمفاسد.
فَهَذَا مَحل النزاع، وَبَعْضهمْ لَا يفهم عَنْهُم إِلَّا أَن الْعقل هُوَ الْمُوجب) انْتهى.
وَقَالَ أَيْضا -: (إِذا أَمر الله بِفعل فَهُوَ حسن بالِاتِّفَاقِ، وَإِذا نهى عَن فعل فقبيح بالِاتِّفَاقِ، لَكِن حسنه وقبحه إِمَّا أَن ينشأ عَن نفس الْفِعْل وَالْأَمر وَالنَّهْي كَمَا يُقَال، أَو ينشأ عَن تعلق الْأَمر وَالنَّهْي، أَو من الْمَجْمُوع.
فَالْأول قَول الْمُعْتَزلَة، وَلِهَذَا لَا يجوزون نسخ الْعِبَادَة قبل دُخُول وَقتهَا.
وَالثَّانِي: قَول الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه من الطوائف.
وَالثَّالِث: أَن ذَلِك قد ينشأ عَن الْأَمريْنِ، فَتَارَة يَأْمر بِالْفِعْلِ لحكمة تنشأ من نفس الْأَمر دون الْمَأْمُور بِهِ، وَهَذَا الَّذِي يجوز نسخه قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل، كنسخ الصَّلَاة لَيْلَة الْمِعْرَاج إِلَى خمس، وكما نسخ أَمر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بِذبح وَلَده، وَتارَة لحكمة تنشأ من الْفِعْل نَفسه، وَتارَة لحكمة من الْفِعْل حصلت بِالْأَمر) انْتهى.

(2/722)


وَقَالَ أَيْضا هُوَ وَغَيره: (عِنْد الْمُعْتَزلَة: الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة مُؤَكدَة لما علم بِالْعقلِ، وَعند غَيرهم: أَن السمعية منشأة للْحكم) انْتهى.
اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول: بقوله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} [الْإِسْرَاء: 15] ، وَقَوله تَعَالَى: {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} [النِّسَاء: 165] ، وَيلْزم من ترك الْوَاجِب وَفعل الْمحرم عدم الْأَمْن من الْعَذَاب، لعدم تحققهما دونه، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ قبل الشَّرْع بِالْآيَةِ، فَلَا ملزوم، وَاعْتمد عَلَيْهِ الْآمِدِيّ وَغَيره.
وَاعْترض: بِأَن هَذَا فِيمَا طَرِيقه الشَّرْع لَا الْعقل، بِدَلِيل أدلتنا، قَالَه أَبُو الْخطاب، وَلَا يلْزم من الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم اسْتِحْقَاق الْعَذَاب، كَمَا سبق من أَنه الطّلب الْجَازِم فَقَط، ثمَّ لَا يلْزم من اسْتِحْقَاق الْعَذَاب وُقُوعه، لجَوَاز الْعَفو، أَو لِأَن السّمع شَرط فِيهِ، وإرسال الرُّسُل أقطع للْعُذْر، ودلالتها مَفْهُوم.
رد: بِعُمُوم الْآيَة، وَتَأْتِي أدلتهم، وَاللَّازِم يلْزم الْمُعْتَزلَة على أصلهم، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: (لَا يسْتَحق الْعَذَاب إِلَّا بإرسال الرُّسُل فيهم، وَهُوَ

(2/723)


شَرط حُصُوله، فالأمن مِنْهُ حَاصِل، وَلِأَنَّهُ لَا تَكْلِيف قبل الْبلُوغ كَمَا قيل) ، قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِيه نظر.
وَمنعه أَبُو الْخطاب والمعتزلة فِيمَا يُسْتَفَاد بِالْعقلِ إِن عقل الْحسن والقبح، وَأَنه لَو قبح الْكَذِب لذاته أَو صفة لَازِمَة اجْتمع النقيضان فِي صدق من قَالَ لأكذبن غَدا، [وَكَذَا] فِي كذبه، وَلما حسن إِذا تعين لمنع مَعْصُوم من قتل.
ورد هَذَا بِمَنْع تَعْيِينه، ثمَّ بِمَنْع حسنه.
وَقد أَطَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيره، من كَلَام الْفَرِيقَيْنِ فِي الْأَدِلَّة والردود.
وَمن قَوَاعِد الْقَائِلين بِأَنَّهُ لَا حَاكم إِلَّا الله: أَن حسن الْفِعْل وقبحه ليسَا لذات الْفِعْل، وَلَا لأمر دَاخل فِي ذَاته، وَلَا لخارج لَازم لذاته، حَتَّى يحكم الْعقل بِحسن الْفِعْل أَو قبحه، بِنَاء على تحقق مَا بِهِ الْحسن والقبح.
وَالْحَنَفِيَّة وَإِن لم يجْعَلُوا الْعقل حَاكما صَرِيحًا، وَلَكِن قَالُوا حسن

(2/724)


بعض الْأَشْيَاء وقبحها لَا يتَوَقَّف على الشَّرْع، بِمَعْنى: أَن الْعقل يحكم فِي بعض الْأَشْيَاء بِأَنَّهَا منَاط للثَّواب وَالْعِقَاب، وَإِن لم يَأْتِ نَبِي وَلَا كتاب. وَبَعض تِلْكَ الْأَحْكَام بديهي، وَبَعضهَا كسبي.
قَوْله: {فَائِدَة: قَالَ ابْن عقيل: لَا يرد الشَّرْع بِمَا يُخَالف الْعقل اتِّفَاقًا، وَقَالَهُ التَّمِيمِي، إِلَّا بِشَرْط مَنْفَعَة تزيد فِي الْعقل على ذَلِك الحكم، وَقَالَهُ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، والحلواني، فِيمَا يعرف ببدائه الْعُقُول وضروراتها، وَإِلَّا فَلَا يمْتَنع أَن يرد بذلك، وَقيل: يرد بِمَا [يُجِيزهُ لَا بِمَا] يحيله} .
هَذِه الْمَسْأَلَة نقلتها من " مسودة بني تَيْمِية "، [و] من " أصُول ابْن مُفْلِح " ملفقة، وَهِي من تَوَابِع الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما ذكر بحوث الأشعرية فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي

(2/725)


قبل هَذِه من الإيرادات والجوابات قَالَ: وَأما أَصْحَابنَا: فَقَالَ أَبُو الْحسن التَّمِيمِي: لَا يجوز أَن يرد الشَّرْع بِمَا يُخَالف حكم الْعقل إِلَّا بِشَرْط مَنْفَعَة تزيد فِي الْعقل على ذَلِك الحكم: كذبح الْحَيَوَان، والبط، والفصد) .
وَقَالَ أَيْضا -: (لَا يجوز أَن يرد بحظر مُوجبَات الْعقل: كشكر الْمُنعم، وَالْعدْل والإنصاف، وَأَدَاء الْأَمَانَة، وَنَحْوه، أَو إِبَاحَة محظوراته نَحْو: الظُّلم، وَالْكذب، وَكفر النِّعْمَة، وَالْجِنَايَة) .
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (وَإِلَى هَذَا ذهب عَامَّة أهل الْعلم من الْفُقَهَاء والمتكلمين وَعَامة الفلاسفة) .
قلت: وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن أهل الْكتاب.
وَقَالَ القَاضِي، والحلواني، وَغَيرهمَا: (مَا يعرف ببدائه الْعُقُول وضروراتها: كالتوحيد، وشكر الْمُنعم، وقبح الظُّلم، لَا يجوز أَن يرد الشَّرْع بِخِلَافِهِ، وَمَا يعرف بتوليد الْعقل استنباطاً واستدلالاً فَلَا يمْتَنع أَن يرد بِخِلَافِهِ) .

(2/726)


وَمَعْنَاهُ لأبي الْخطاب فَإِنَّهُ قَالَ: (مَا يثبت بِالْعقلِ يَنْقَسِم قسمَيْنِ: فَمَا كَانَ مِنْهُ وَاجِبا لعَينه: كشكر الْمُنعم، والإنصاف، وقبح الظُّلم، فَلَا يَصح أَن يرد الشَّرْع بِخِلَاف ذَلِك.
وَمَا كَانَ وَجب لعِلَّة أَو دَلِيل مثل: الْأَعْيَان المنتفع بهَا الَّتِي فِيهَا الْخلاف، فَيصح أَن يرْتَفع الدَّلِيل وَالْعلَّة، فيرتفع ذَلِك الحكم، وَهَذَا غير مُمْتَنع، كفروع الدّين كلهَا تثبت بأدلة، ثمَّ تنسخ الْأَدِلَّة فيرتفع الحكم) . وَقَالَ: (وَقد قيل: إِن الشَّرْع يرد بِمَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعقل، إِذا كَانَ الْعقل لَا يحيله: كتكليف مَا لَا يُطَاق، وَأَن الله سُبْحَانَهُ يُرِيد جَمِيع أَفعَال الْعباد حسنها وقبيحها، ويعاقبهم على الْقَبِيح، وَغير ذَلِك) انْتهى.
قَالَ القَاضِي وَغَيره [فِيمَا] لَا يجوز أَن يرد الشَّرْع بِخِلَاف الْعقل: لَا يَقع فِيهِ الْخلاف الْآتِي فِي مَسْأَلَة الْأَعْيَان، بل هُوَ على صفة وَاحِدَة لَا تَتَغَيَّر: كمعرفة الله تَعَالَى، وَمَعْرِفَة وحدانيته، وَمَا لَا يجوز عَلَيْهِ الْإِبَاحَة: كالكفر بِاللَّه، وَجحد التَّوْحِيد، وَغَيره.
وطرد ابْن عقيل قَول الْوَقْف فِيهَا فِي الْجَمِيع، وأبطل قَول الْحَظْر وَالْإِبَاحَة قبل السّمع، بِاتِّفَاق الْعلمَاء أَنه لَا يجوز وُرُوده قبله إِلَّا بِمَا يُجِيزهُ

(2/727)


الْعقل لَا بِمَا يُخَالِفهُ، فَلَمَّا ورد بِإِبَاحَة بَعْضهَا، وحظر بَعْضهَا، علم بُطْلَانه، والواقف المنتظر للشَّرْع لَا يلْزمه شَيْء، وَهُوَ يَأْتِي بالعجائب مِمَّا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ عقل: كإباحة كلمة الْكفْر للإكراه، وَوُجُوب الثَّبَات للْمَوْت فِي صف الْمُشْركين لإعلاء كلمة التَّوْحِيد.

(2/728)


قَوْله: {فصل شكر الْمُنعم}

{من قَالَ بِالْأولِ: أوجبه شرعا، وَبِالثَّانِي: أوجبه عقلا، [وَقيل: لَا] } .
شكر الْمُنعم وَاجِب على كلا الطَّرِيقَيْنِ، وَقد تقدم فِي " شرح الْخطْبَة ": أَن شكر الْمُنعم والمنعم هُوَ الله سُبْحَانَهُ -: عبارَة عَن اسْتِعْمَال جَمِيع مَا أنعم الله بِهِ على العَبْد من القوى والأعضاء: الظَّاهِرَة والباطنة، المدركة والمحركة - فِيمَا خلقه الله تَعَالَى لأَجله: كاستعمال النّظر فِي مُشَاهدَة مصنوعاته، وآثار رَحمته ليستدل على صانعها، وَكَذَا السّمع وَغَيره.
إِذا علمت ذَلِك؛ فَمن قَالَ بِالْأولِ وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الْأَكْثَر من أَن الْحَاكِم هُوَ الله، وَأَن الْعقل لَا يحسن وَلَا يقبح، وَلَا يُوجب وَلَا يحرم قَالَ: وَجب شكره شرعا.

(2/729)


وَمن قَالَ بِالثَّانِي وَهُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم كَمَا تقدم [قَالَ] : وَجب شكره عقلا.
بنى ذَلِك أَبُو الْخطاب، والآمدي، وَغَيرهمَا، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل، وَغَيره.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": (شكر الْمُنعم وَاجِب بِالشَّرْعِ فِي قَوْلنَا، وَقَول أهل الْأَثر، والأشعرية.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: يجب عقلا) .
وَاحْتج أَبُو الْخطاب، وَغَيره: (بِأَن الْإِحْسَان " التَّبَرُّع " يستهجن الشُّكْر

(2/730)


عَلَيْهِ، وَمَعَ وُجُوبه لَا يعد محسناً بل تَاجِرًا، وَلِهَذَا لَو طلبه المحسن عِنْد الْحُكَّام، وأعدى عَلَيْهِ، استهجن عِنْد الْعُقَلَاء، بِحكم الْعقل وَالشَّرْع) .
وَقَالَ أَيْضا -: (لَا يَهْتَدِي الْعقل إِلَى شكر الله، فضلا عَن إِيجَابه) .
وفرضها ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَغَيرهمَا، على سَبِيل التنزل، وَهُوَ معنى قَوْلنَا: (وَقيل: لَا) ، أَي: لَا يجب عقلا، وَلَو قُلْنَا: الْعقل حَاكم، وَهُوَ قَول الأشعرية، حَكَاهُ الْعَضُد؛ لِأَنَّهُ لما بَطل حكم الْعقل مُطلقًا، كَانَ شكر الْمُنعم غير وَاجِب عقلا، لَكِن ذكرُوا هَذِه الْمَسْأَلَة على التنزل، أَي: وَلَو سلمنَا أَن الْعقل حَاكم كَمَا زعمتم، لَكِن لَا يَسْتَقِيم حكمه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَو وَجب لوَجَبَ لفائدة، إِمَّا للْعَبد، وَإِمَّا لله، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ، أما انْتِفَاء الثَّانِيَة: فلكونه تَعَالَى متعالياً عَن الْفَائِدَة، وَأما انْتِفَاء الأولى: فَلِأَن تِلْكَ الْفَائِدَة إِمَّا فِي الدُّنْيَا، فَلَا يتَصَوَّر ذَلِك [إِذْ] من تِلْكَ الْأَفْعَال الَّتِي تَتَضَمَّن شكر الْمُنعم وَاجِبَات ومحرمات، وَلَا شكّ أَنَّهَا

(2/731)


مشاق وتكاليف لَا حَظّ للنَّفس فِيهَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَة، فَلَا يُمكن ذَلِك - أَيْضا؛ لِأَن أَمر الْآخِرَة غيب لَا اطلَاع لأحد عَلَيْهِ، حَتَّى يحكم الْعقل فِيهِ.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لَا دَلِيل لمن نفى الْحسن والقبح على أَن الْفَاعِل الْمُخْتَار يَفْعَله بِلَا دَاع، كَمَا أَنه لَا دَلِيل لمن أثْبته على أَنه يفعل بداع لَا يعود إِلَى غَيره. وَلِهَذَا لما عَاد مَعْنَاهُ إِلَى هَذَا، أثْبته طَائِفَة فِي فعل العَبْد لَا فعل الله، وَاخْتَارَهُ صَاحب " الْمَحْصُول " فِي آخر عمْرَة، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن مَشِيئَة الله هَل هِيَ محبته؟) الْآتِيَة قَرِيبا.
قَوْله: {وَيتَعَلَّق بهَا مَسْأَلَتَانِ: الأولى: معرفَة الله تَعَالَى} .
وَوجه التَّعَلُّق بهَا: أَنه لَا يتَصَوَّر الشُّكْر إِلَّا مِمَّن يعرفهُ سُبْحَانَهُ، على مَا يَأْتِي الْخلاف فِيهِ.
{وَمذهب أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأهل الْأَثر، و [حُكيَ عَن] الأشعرية: أَنَّهَا وَجَبت شرعا، فَلَا تجب قبله مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا بِالدَّلِيلِ، [وَقَالَ جمع] عقلا، وَقيل: بهما} .

(2/732)


قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: (معرفَة الله تَعَالَى لَا تجب قبل السّمع، مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا بِالدَّلِيلِ) .
وَقَالَ: (هَذَا الْمَذْهَب) ، وَتعلق بِكَلَام الإِمَام أَحْمد: إِن معرفَة الله كسبية، وَأَن جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم قَالُوا: (تقع ضَرُورَة، وَلَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بأدلة الْعقل) .
وَقطع الْمجد بِوُجُوبِهِ شرعا، وَقَالَ: (عندنَا، وَعند أهل الْأَثر) ، وَذكره جمَاعَة من الأشعرية عَن أَصْحَابهم.
وَذكر الْآمِدِيّ أَنه ذكرهَا لبحث يَخُصهَا.
قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (تجب معرفَة الله تَعَالَى بِالنّظرِ شرعا فِي الْوُجُود وَالْمَوْجُود على كل مُكَلّف قَادر، وَالْمرَاد: معرفَة وجود ذَاته بِصِفَات الْكَمَال مِمَّا لم يزل وَلَا يزَال، دون معرفَة حَقِيقَة ذَاته وَصِفَاته لِاسْتِحَالَة ذَلِك عقلا عِنْد الْأَكْثَرين) انْتهى.

(2/733)


قَالَ أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ فِي كِتَابه " جَامع الْأَنْوَار لتوحيد الْملك الْجَبَّار ": (قَالَ أهل السّنة جَمِيعًا: وَجَبت معرفَة الْبَارِي بِالشَّرْعِ دون الْعقل، وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: وَجَبت بِالْعقلِ دون الشَّرْع، وَقَالَت الأشعرية: بِالْعقلِ وَالشَّرْع) انْتهى.
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} [الْإِسْرَاء: 15] : (فِي هَذَا دَلِيل على أَن معرفَة الله تَعَالَى لَا تجب عقلا، وَإِنَّمَا تجب بِالشَّرْعِ، وَهُوَ بعثة الرُّسُل) .
وَاحْتج أَيْضا بقول أَحْمد: (لَيْسَ فِي السّنة قِيَاس، وَلَا تضرب لَهَا الْأَمْثَال، وَلَا تدْرك بالعقول، وَإِنَّمَا هُوَ الِاتِّبَاع) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَام مَا يَنْفِي وجوب الْمعرفَة وَلَا التفكر قبل الرسَالَة، وَإِنَّمَا فِيهِ: أَن مخبرات الرَّسُول لَا تقف على الْعُقُول، خلافًا للمعتزلة) انْتهى.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: (إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة، فَالْمُرَاد بهَا: الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الَّتِي سنّهَا الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وشرعها) .
وَقَالَ: (وعَلى هَذَا يخرج وجوب معرفَة الله تَعَالَى، هَل هِيَ وَاجِبَة

(2/734)


بِالشَّرْعِ، حَتَّى لَو لم ترد لم يلْزم أحدا أَن يُؤمن بِاللَّه، وَلَا يعْتَرف بوحدانيته، وبوجوب شكره، أم لَا؟
فَمن قَالَ: تجب بِالشَّرْعِ، يَقُول: لَا يلْزم شَيْء من ذَلِك لَو لم يرد الشَّرْع.
وَمن قَالَ [بِالْأولِ] ، قَالَ: يجب على كل حَال الْإِيمَان بِاللَّه وَالشُّكْر لَهُ) انْتهى.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: تجب معرفَة الله بِالْعقلِ، نَقله الشِّيرَازِيّ عَنْهُم فِي " التَّبْصِرَة "، وَغَيره، وَتقدم كَلَام أبي الْخطاب قبل هَذَا.
قَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": (عِنْد الْمُعْتَزلَة: تجب معرفَة الله بِالْعقلِ؛ لِأَنَّهَا دافعة للضَّرَر المظنون، وَهُوَ خوف الْعقَاب فِي الْآخِرَة، حَيْثُ أخبر جمع كثير بذلك، وكل مَا يدْفع الضَّرَر المظنون، بل الْمَشْكُوك وَاجِب عقلا.
واحتجت أَيْضا على أَن وجوب النّظر فِي المعجزة، والمعرفة، وَسَائِر مَا يُؤَدِّي إِلَى ثُبُوت الشَّرْع عَقْلِي: بِأَنَّهُ لَو لم يجب إِلَّا بِالشَّرْعِ لزم إفحام الْأَنْبِيَاء، فَلم يكن للبعثة فَائِدَة، وبطلانه ظَاهر، وَوجه اللُّزُوم: أَن النَّبِي إِذا قَالَ للمكلف: انْظُر فِي معجزتي حَتَّى يظْهر لَك صدق دعواي، فَلهُ أَن

(2/735)


يَقُول: لَا أنظر مَا لم يجب عَليّ، فَلَا يكون للنَّبِي إِلْزَامه النّظر، لِأَنَّهُ إِلْزَام على غير الْوَاجِب، وَهُوَ المعني بالإفحام.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ مُشْتَرك الْإِلْزَام، وَحَقِيقَته: إلجاء الْخصم إِلَى الِاعْتِرَاف بنقيض دَلِيله إِجْمَالا، حَيْثُ دلّ على نفي مَا هُوَ الْحق عِنْده على صُورَة النزاع.
وَتَقْرِيره: أَن للمكلف أَن يَقُول: لَا أنظر مَا لم يجب عقلا، وَلَا يجب عقلا مَا لم أنظر، لِأَن وُجُوبه نَظَرِي يفْتَقر إِلَى تَرْتِيب الْمُقدمَات وَتَحْقِيق أَن النّظر يُفِيد الْعلم) .
وَقيل: يجب بهما مَعًا، ذكره أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ فِي " التَّبْصِرَة " جمعا بَين الْأَدِلَّة، وَحَكَاهُ فِي كِتَابه " جَامع الْأَنْوَار " عَن الْأَشْعَرِيّ.
قَوْله: {وَهِي أول وَاجِب لنَفسِهِ عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ الْأُسْتَاذ، وَالْقَاضِي، وَابْن حمدَان، وَابْن مُفْلِح، وَجمع: يجب قبلهَا النّظر، فَهُوَ أول وَاجِب لغيره، وَابْن عبد السَّلَام: [إِن شكّ] ، وَأَبُو هَاشم: الشَّك، والباقلاني:

(2/736)


أول النّظر، والتميمي، وَابْن فورك، وَأَبُو الْمَعَالِي: قَصده} .
حَيْثُ قُلْنَا بِوُجُوب الْمعرفَة، فَهِيَ أول وَاجِب على الْمُكَلف عِنْد الْأَشْعَرِيّ، وَمن تَابعه من أَصْحَابه، لكَونهَا مبدأ الْوَاجِبَات.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ وَالْجَمَاعَة مَعَه: إِن أول وَاجِب: النّظر فِي معرفَة الله تَعَالَى، لكَونه الْمُقدمَة.

(2/737)


وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام: إِنَّمَا يجب النّظر إِذا حصل شكّ، وَإِلَّا الْمعرفَة.
وَقَالَ أَبُو هَاشم: أول الْوَاجِبَات الشَّك، لتوقف الْقَصْد إِلَى النّظر عَلَيْهِ، إِذْ لابد من فهم الطَّرفَيْنِ وَالنِّسْبَة، مَعَ عدم اعْتِقَاد الْمَطْلُوب أَو نقيضه. ورد بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن الشَّك لَيْسَ بمقدور لكَونه من الكيفيات: كَالْعلمِ، وَإِنَّمَا الْمَقْدُور تَحْصِيله أَو استدامته، بِأَن يحصل تصور الطَّرفَيْنِ، وَينزل النّظر فِي النِّسْبَة، وَلَا شَيْء مِنْهَا بمقدمة.
وَثَانِيهمَا: أَن وجوب النّظر والمعرفة مُقَيّد بِالشَّكِّ، لِأَنَّهُ لَا إِمْكَان للنَّظَر بِدُونِهِ، فضلا عَن الْوُجُوب، فَهُوَ لَا يكون مُقَدّمَة للْوَاجِب الْمُطلق بل للمقيد بِهِ: كالنصاب لِلزَّكَاةِ والاستطاعة لِلْحَجِّ، فَلَا يجب تَحْصِيله.
وَقَول التَّمِيمِي وَغَيره: يجب قصد النّظر، وَذَلِكَ لتوقف النّظر عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": (وَالْحق أَنه إِن أُرِيد أول الْوَاجِبَات الْمَقْصُودَة بِالذَّاتِ فَهُوَ الْمعرفَة، وَإِن أُرِيد الْأَعَمّ فَهُوَ الْقَصْد إِلَى النّظر، لَكِن مبناه على وجوب مُقَدّمَة الْوَاجِب الْمُطلق، وَفِيه مَا فِيهِ) انْتهى.

(2/738)


قَوْله: {وَلَا يقعان ضَرُورَة} .
أَي: النّظر والمعرفة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، فِي بَاب الْمُرْتَد، وَابْن حمدَان فِي " نِهَايَة الْمُبْتَدِئ "، وَغَيرهمَا، وَقَالَهُ القَاضِي وَغَيره، بل هما كسبيان، وَتعلق القَاضِي وَغَيره بقول أَحْمد: (معرفَة الله تَعَالَى كسبية) .
قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (وَالنَّظَر والمعرفة اكْتِسَاب، وَقد يوهبان لمن أَرَادَ الله تَعَالَى هداه، وَلَا يقعان ضَرُورَة) .
{وَقيل: بلَى} .
أَي: يقعان ضَرُورَة، قَالَه جمع من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، فَلَا يتَوَصَّل إِلَيْهِمَا بأدلة الْعقل.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (أَرَادوا الْمعرفَة الفطرية) كمعرفة إِبْلِيس، لَا الْمعرفَة الإيمانية) .

(2/739)


قَالَ ابْن عقيل: (قَالَ أهل التَّحْقِيق: لَا يَتَأَتَّى أَنه مُطِيع فِي نظره، لِأَنَّهُ لَا تصح طَاعَة من لَا يعرف، وَلَا معرفَة لمن لم ينظر) .
قَوْله: {تَنْبِيه: قَالَ الرَّازِيّ لَا فرق بَين الشُّكْر وَمَعْرِفَة الله تَعَالَى عقلا، والأرموي: متلازمان، والمعتزلة: هُوَ فرعها} .
قَالَ الرَّازِيّ: (لَا فرق بَين الشُّكْر وَمَعْرِفَة الله عقلا، فَمن أوجب الشُّكْر عقلا أوجب الْمعرفَة، وَمن لَا فَلَا) .
قَالَ الجوبني: (هُوَ عِنْدهم من النظريات لَا من الضروريات) .
وَقَالَ الأرموي فِي " الْحَاصِل ": (هما متلازمان) .
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: الشُّكْر فرع الْمعرفَة، فعندهم: لَيْسَ الشُّكْر معرفَة الله تَعَالَى؛ لِأَن الشُّكْر فرعها، بل: إتعاب النَّفس بِفعل المستحبات الْعَقْلِيَّة الصرفة: كالنظر إِلَى مصنوعاته، والسمع إِلَى الْآيَات، والذهن إِلَى فهم مَعَانِيهَا، [والمآل] إِلَى أَسبَاب الْبَقَاء مُدَّة الْعُمر، وعَلى هَذَا الْقيَاس.
فَعِنْدَ الْمُعْتَزلَة وَمن وافقهم: مدرك وجوب هَذَا الشُّكْر عَقْلِي، للبرهان الْعقلِيّ، ومخالفوهم يَقُولُونَ: مدركه السّمع لَا الْعقل، كَمَا تقدم فِي الشُّكْر.

(2/740)


قَوْله: [الثَّانِيَة: مَشِيئَته وإرادته تَعَالَى، هَل هِيَ محبته وَرضَاهُ، وَسخطه وبغضه، أم لَا؟
فالمعتزلة، والقدرية، والأشعري، وَأكْثر أَصْحَابه، وَغَيرهم: الْكل بِمَعْنى وَاحِد، [وَمذهب] السّلف، و [عَامَّة] [الْأَئِمَّة، من الْفُقَهَاء] ، والمحدثين، والصوفية، والنظار: يحب مَا أَمر بِهِ فَقَط، وَخلق كل شَيْء بمشيئته لحكمة، فَتجب تِلْكَ الْحِكْمَة، وَإِن كَانَ قد لَا يُحِبهُ} .
ذهب الْمُعْتَزلَة، والقدرية، والأشعري، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمن وَافقه من الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وأصحابنا، كَابْن حمدَان فِي " نِهَايَة الْمُبْتَدِئ "، وَغَيرهم، إِلَى أَن الْكل بِمَعْنى وَاحِد، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن الْجُمْهُور.

(2/741)


قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي كتاب الْحُدُود: (والإرادة والمشيئة وَالرِّضَا والمحبة بِمَعْنى وَاحِد) .
وَأَجَابُوا عَن قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} [الزمر: 7] بجوابين:
أَحدهمَا: لَا يرضاه دينا وَشرعا، بل يُعَاقب عَلَيْهِ.
ثَانِيهمَا: أَن المُرَاد من الْعباد: من وفْق للْإيمَان، وَلِهَذَا شرفهم بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} [الْحجر: 42، والإسراء: 65] ، وَقَوله تَعَالَى: {عينا يشرب بهَا عباد الله} [الْإِنْسَان: 6] .
والجوابان ضعيفان.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ: (أول من خَالف من السّلف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَلم يفرق بَين الْمحبَّة وَالرِّضَا أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ) .
وَقَالَ أَيْضا -: (أول من قَالَ: إِن الله تَعَالَى يحب الْكفْر والفسوق والعصيان، شَيخنَا أَبُو الْحسن) .
وَقَالَ ابْن عقيل: (لم يقل أحد: إِن الله تَعَالَى يحب ذَلِك إِلَّا الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه) .

(2/742)


وَالَّذِي عَلَيْهِ السّلف، وَعَامة الْأَئِمَّة من الْفُقَهَاء، وَمن أَصْحَاب الْأَئِمَّة، كالحنفية، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وأصحابنا، والمحدثين، والصوفية، والنظار، وَابْن كلاب، وَغَيرهم: الْفرق، فَيجب مَا أَمر بِهِ فَقَط، وَخلق كل شَيْء لحكمة، فَتجب تِلْكَ الْحِكْمَة، وَإِن كَانَ لَا يُحِبهُ، فَلم يفعل قبيحاً مُطلقًا.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " الرَّد على الرافضي ": (جُمْهُور أهل السّنة يَقُولُونَ: إِن الله لَا يحب الْكفْر والفسوق والعصيان وَلَا يرضاه، وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي مُرَاده، كَمَا دخلت سَائِر الْمَخْلُوقَات، لما فِي ذَلِك من الْحِكْمَة، وَهُوَ وَإِن كَانَ شرا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِل فَلَيْسَ كلما كَانَ شرا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شخص يكون عديم الْحِكْمَة، بل لله فِي الْمَخْلُوقَات حِكْمَة، قد يعلمهَا بعض النَّاس، وَقد لَا يعلمونها) انْتهى.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة كلهم، والكرامية) . [- هَذَا وجد فِي فرخة لَا مَوضِع لَهَا، واللائق بهَا هُنَا -] .

(2/743)


وَقَالَ أَيْضا فِي مَسْأَلَة سئلها فِي الْقدر نظماً فِي أَثْنَائِهَا -: (وجهم وَمن وَافقه من الْمُعْتَزلَة اشْتَركُوا فِي أَن مَشِيئَة الله ومحبته وَرضَاهُ بِمَعْنى وَاحِد، ثمَّ قَالَت الْمُعْتَزلَة: وَهُوَ لَا يحب الْكفْر والفسوق والعصيان فَلَا يشاؤه، فَقَالُوا: إِنَّه يكون بِلَا مَشِيئَة.
وَقَالَت الْجَهْمِية: بل هُوَ يَشَاء ذَلِك، فَهُوَ يُحِبهُ ويرضاه.
وَأَبُو الْحسن وَأكْثر أَصْحَابه وافقوا هَؤُلَاءِ، وَذكر أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ: أَن أَبَا الْحسن أول من خَالف السّلف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَأما سلف الْأمة، وأئمتها، وأكابر أهل الْفِقْه، والْحَدِيث، والتصوف، وَكثير من طوائف النظار كالكلابية، والكرامية، وَغَيرهم، فيفرقون بَين هَذَا وَهَذَا، وَيَقُولُونَ: إِن الله يحب الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح، ويرضى بِهِ، كَمَا يَأْمر بِهِ، وَلَا يرضى بالْكفْر والفسوق والعصيان، وَلَا يُحِبهُ، كَمَا لَا يَأْمر بِهِ، وَإِن كَانَ قد شاءه، وَلِهَذَا كَانَ حَملَة الشَّرِيعَة من السّلف وَالْخلف متفقين على أَنه لَو حلف: ليفعلن وَاجِبا أَو مُسْتَحبا: كقضاء دين تضيق وقته، أَو عبَادَة تضيق وَقتهَا، وَقَالَ: إِن شَاءَ الله، ثمَّ لم يَفْعَله، لم يَحْنَث، وَهَذَا يبطل قَول الْقَدَرِيَّة، وَلَو قَالَ: إِن كَانَ الله يُحِبهُ ويرضاه، فَإِنَّهُ يَحْنَث، كَمَا لَو قَالَ: إِن كَانَ ينْدب إِلَى ذَلِك ويرغب فِيهِ، أَو يَأْمر بِهِ أَمر إِيجَاب أَو اسْتِحْبَاب، وَهَذَا يرد على الْجَهْمِية وَمن اتبعهم كَأبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه من الْمُتَأَخِّرين.
وَهَذِه الاستشكالات إِنَّمَا ترد على قَول جهم وَمن وَافقه من الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَاب أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَغَيرهم، وَطَائِفَة من متأخري أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد.

(2/744)


وَأما أَئِمَّة أَصْحَاب مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، وَعَامة أَصْحَاب أبي حنيفَة فَإِنَّهُم لَا يَقُولُونَ بقول هَؤُلَاءِ؛ بل يَقُولُونَ بِمَا اتّفق عَلَيْهِ السّلف من أَنه سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لم يَشَأْ لم يكن، وَمن الْفرق بَين محبته ومشئيته وَرضَاهُ، فَيَقُولُونَ: إِن الْكفْر والفسوق والعصيان وَإِن وَقع بمشيئته، فَهُوَ لَا يُحِبهُ وَلَا يرضاه، بل يسخطه ويبغضه.
وَيَقُولُونَ: إِن إِرَادَة الله تَعَالَى فِي كِتَابه نَوْعَانِ:
نوع بِمَعْنى الْمَشِيئَة لما خلق، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} [الْأَنْعَام: 125] .
وَنَوع بِمَعْنى محبته وَرضَاهُ لما أَمر بِهِ، وَإِن لم يخلقه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} [الْبَقَرَة: 185] ، {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون} [الْمَائِدَة: 6] ، فِي آي كَثِيرَة.
وَبِهَذَا يفصل النزاع فِي مَسْأَلَة الْأَمر، هَل هُوَ مُسْتَلْزم للإرادة أم لَا؟
فَإِن الْقَدَرِيَّة تزْعم أَنه مُسْتَلْزم للمشيئة، فَيكون قد شَاءَ الْمَأْمُور بِهِ وَلم يكن.
والجهمية قَالُوا: إِنَّه غير مُسْتَلْزم لشَيْء من الْإِرَادَة، وَلَا [لحبه] لَهُ، وَلَا رِضَاهُ بِهِ، إِلَّا إِذا وَقع، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن) انْتهى.

(2/745)


وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (وَأما الَّذين سووا بَين الْمَشِيئَة والمحبة والإرادة كالمعتزلة، وَأكْثر الأشعرية، فَقَالُوا: هُوَ مُرِيد لكل مَا وجد، فَهُوَ محب لَهُ، فَهُوَ محب للكفر والفسوق والعصيان كَمَا هُوَ مُرِيد لَهُ، وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: " أول من قَالَ: إِن الله يحب ذَلِك، شَيخنَا أَبُو الْحسن "، وَقَالَ أَبُو الْوَفَاء ابْن عقيل: " لم يقل أحد: إِن الله يحب الْكفْر والفسوق والعصيان إِلَّا الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه ".) انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي أثْنَاء مَسْأَلَة -: (والعباد الَّذين علم الله أَنهم يطيعونه بإرادتهم ومشيئتهم وقدرتهم، وَإِن كَانَ خَالِقًا لذَلِك، فخلقه لذَلِك أبلغ فِي علمه بِهِ قبل أَن يكون، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلا يعلم من خلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير} [الْملك: 14] ، وَمَا لم يفعلوه مِمَّا [أَمرهم] بِهِ يعلم أَنه لَا يكون، لعدم إرادتهم لَهُ، لَا لعدم [قدرتهم] عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمر بِهِ أمرا بِمَا يعجزون عَنهُ، بل هُوَ أَمر بِمَا لَو أرادوه لقدروا على فعله، لكِنهمْ لَا يَفْعَلُونَهُ لعدم إرادتهم لَهُ.
وجهم وَمن وَافقه من الْمُعْتَزلَة، اشْتَركُوا فِي أَن مَشِيئَة الله ومحبته وَرضَاهُ بِمَعْنى وَاحِد، ثمَّ قَالَت الْمُعْتَزلَة: وَهُوَ لَا يحب الْكفْر والفسوق والعصيان فَلَا يشاؤه، فَقَالُوا: إِنَّه يكون بِلَا مَشِيئَة.
وَقَالَت الْجَهْمِية: بل هُوَ يَشَاء ذَلِك) إِلَى آخِره.

(2/746)


وَقَالَ فِي مَسْأَلَة الْإِرَادَة: (أهل السّنة يثبتون قدرته، وعزته، وحكمته، وَرَحمته، وَيَقُولُونَ لَا يسْأَل عَمَّا يفعل لقدرته، وعزته، وحكمته، وَرَحمته، وَعلمه، وعدله.
والجبري القدري يَقُول: لَا يسْأَل عَمَّا يفعل لقهره، وَقدرته.
والمعتزلة تَقول: لَا يسْأَل عَمَّا يفعل: لِأَنَّهُ لَا يقدر على غير مَا فعل، بل لَا يسْأَل عَمَّا يفعل لِأَنَّهُ فعل مَا وَجب عَلَيْهِ، وَلَا يقدر على غير ذَلِك) .
قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (على هَذَا القَوْل لَا يحب الْفساد، وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر، لَا يحب ذَلِك مُطلقًا، وَلَكِن يُرِيد وجوده، ومحبة الله إِنَّمَا هِيَ إِرَادَته لما يفعل بِنَا من الْمَنَافِع وَالنعَم، وبغضه لخلقه إِرَادَته عقابهم وضررهم، قَالَه القَاضِي، وَيجوز الرضى بِبَعْض أَفعَال العَبْد، مَعَ

(2/747)


السخط والبغض وَالْكَرَاهَة لبعضها) انْتهى.
وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره "، فِي سُورَة الْأَنْعَام، بعد قَوْله: {لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء} الْآيَة [الْأَنْعَام: 148] : (وَالرَّدّ عَلَيْهِم فِي ذَلِك: أَن أَمر الله تَعَالَى بمعزل عَن مَشِيئَته وإرادته، فَإِنَّهُ مُرِيد لجَمِيع الكائنات، غير آمن بِجَمِيعِ مَا يُرِيد، وعَلى العَبْد أَن يتبع أمره، وَلَيْسَ لَهُ أَن يتَعَلَّق بمشيئته، فَإِن مَشِيئَته لَا تكون عذرا لأحد) انْتهى.
وَقَالَ فِي سُورَة الزمر، عِنْد قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} [الزمر: 7] : (هَذَا قَول السّلف) .
وَقَالَ فِي سُورَة التغابن عِنْد قَوْله: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن} [التغابن: 2] : (من جملَة القَوْل فِيهِ، أَن الله تَعَالَى خلق الْكَافِر وكفره [فعل لَهُ وَكسب] ، وَخلق الْمُؤمن وإيمانه [فعل لَهُ وَكسب] ، فَلِكُل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ كسب وَاخْتِيَار، وَكَسبه واختياره بِتَقْدِير الله تَعَالَى ومشيئته، [فالمؤمن] بعد خلق الله تَعَالَى إِيَّاه يخْتَار الْإِيمَان، لِأَن الله تَعَالَى أَرَادَ ذَلِك مِنْهُ، وَقدره عَلَيْهِ، وَعلمه مِنْهُ، وَالْكَافِر بعد خلق الله إِيَّاه اخْتَار

(2/748)


الْكفْر، لِأَن الله تَعَالَى قدر ذَلِك عَلَيْهِ، وَعلمه مِنْهُ، وَهَذَا طَرِيق أهل السّنة، من سلكه أصَاب الْحق، وَسلم من الْجَبْر وَالْقدر) انْتهى.
وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا تشاؤن إِلَّا أَن يَشَاء الله} [الْإِنْسَان: 30، والتكوير: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} [الزمر: 7] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالله لَا يحب الْفساد} [الْبَقَرَة: 205] ، فِي آيَات كَثِيرَة.
قَوْله: {فَوَائِد:
الأولى: فعله تَعَالَى وَأمره لعِلَّة [وَحِكْمَة] [أَو بهما] ، [يُنكره كثير من أَصْحَابنَا، مِنْهُم: القَاضِي، وَابْن الزَّاغُونِيّ، وَغَيرهمَا، وَبَعض الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة] } ، مِنْهُم: أَبُو بكر الْقفال، وَابْن أبي

(2/749)


هُرَيْرَة، وَغَيرهمَا، وَقَالَهُ الظَّاهِرِيَّة، والأشعرية، والجهمية، وَغَيرهم، { [وأثبته] الْمُعْتَزلَة، والكرامية،. .

(2/750)


وَالشَّيْخ، والطوفي، [وَابْن الْقيم] ، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَحكي إِجْمَاع السّلف، [وجوزت طَائِفَة] الْأَمريْنِ} ، وأثبته أَيْضا الشِّيعَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَمَّن أثْبته: (هَذَا يحْكى عَن جُمْهُور الْعلمَاء، وأئمة النظار) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي: (أَكثر أهل السّنة على إِثْبَات الْحِكْمَة وَالتَّعْلِيل) انْتهى.
وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة، لَكِن الْمُعْتَزلَة [تَقول] بِوُجُوب الصّلاح، وَلَهُم فِي الْأَصْلَح قَولَانِ، والمخالفون لَهُم يَقُولُونَ بِالتَّعْلِيلِ لَا على مَنْهَج الْمُعْتَزلَة.

(2/751)


وَحَكَاهُ ابْن الْخَطِيب عَن أَكثر الْمُتَأَخِّرين من الْفُقَهَاء، وَذَلِكَ للنصوص، وَلِئَلَّا يكون أَمر الشَّارِع بِأحد المتماثلين تَرْجِيحا بِلَا مُرَجّح.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لأهل السّنة فِي تَعْلِيل أَفعَال الله تَعَالَى وَأَحْكَامه قَولَانِ، وَالْأَكْثَرُونَ على التَّعْلِيل.
وَالْحكمَة هَل هِيَ مُنْفَصِلَة عَن الرب لَا تقوم، أَو قَائِمَة مَعَ ثُبُوت الحكم الْمُنْفَصِل؟ أَيْضا لَهُم فِيهِ قَولَانِ.
وَهل يتسلسل الحكم، أَو لَا يتسلسل، أَو يتسلسل فِي الْمُسْتَقْبل دون الْمَاضِي؟ فِيهِ أَقْوَال لَهُم) انْتهى.
احْتج الْمُثبت للحكمة وَالْعلَّة بقوله تَعَالَى: {من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل} [الْمَائِدَة: 32] ، وَقَوله تَعَالَى: {كي لَا يكون دولة} [الْحَشْر: 7] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم} [الْبَقَرَة: 143] ، ونظائرها، وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكِيم، شرع الْأَحْكَام لحكمة ومصلحة، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين} [الْأَنْبِيَاء: 107] ، وَالْإِجْمَاع وَاقع على اشْتِمَال الْأَفْعَال على الحكم والمصالح، إِمَّا وجوبا كَقَوْل الْمُعْتَزلَة، وَإِمَّا [جَوَازًا] كَقَوْل أهل السّنة، فيفعل مَا يَفْعَله لحكمة، ويخلق مَا يخلقه لحكمة.
وَاحْتج النَّافِي بِوُجُوه:

(2/752)


أَحدهَا: قَالَ الرَّازِيّ: لَو كَانَت معللة بعلة، فَإِن كَانَت قديمَة لزم من قدمهَا قدم الْفِعْل، وَهُوَ محَال، وَإِن كَانَت محدثة، افْتَقَرت إِلَى عِلّة أُخْرَى، وَلزِمَ التسلسل، وَهُوَ مُرَاد الْمَشَايِخ بقَوْلهمْ: كل شَيْء صنعه، وَلَا عِلّة لصنعه.
أُجِيب قَوْلهم: لَو كَانَت قديمَة لزم قدم الْفِعْل.
غير مُسلم، إِذْ لَا يلْزم من قدمهَا قدم الْمَعْلُول، كالإرادة قديمَة ومتعلقها حَادث.
وَلَو كَانَت حَادِثَة لم تفْتَقر إِلَى عِلّة أُخْرَى، وَإِنَّمَا يلْزم لَو قَالَ: كل حَادث مفتقر إِلَى عِلّة، وهم لم يَقُولُوا ذَلِك، بل قَالُوا: يفعل لحكمة، فَإِنَّهُ لَا يلْزم من كَون الأول مرَادا لغيره كَون الثَّانِي كَذَلِك، وَإِذا كَانَ الثَّانِي [محبوباً] لم يجب أَن يكون الأول كَذَلِك، فَلَا يتسلسل، وَأَيْضًا المنازعون يَقُولُونَ: كل مَخْلُوق مُرَاد لنَفسِهِ، فَلَا يجوز فِي بَعْضهَا أَن يكون مرَادا أولى، والتسلسل إِنَّمَا يلْزم للاستقبالي، فَإِن الْحِكْمَة قد تكون

(2/753)


حَاصِلَة بعده، وَهِي مستلزمة لحكمة أُخْرَى، وهلم جرا.
الْوَجْه الثَّانِي من أوجه النفاة: أَن كل من فعل فعلا لأجل تَحْصِيل مصلحَة، أَو دفع مفْسدَة، فَإِن كَانَ تَحْصِيل تِلْكَ الْمصلحَة أولى لَهُ من عدم تَحْصِيلهَا، كَانَ ذَلِك الْفَاعِل قد اسْتَفَادَ بذلك الْفِعْل تَحْصِيل تِلْكَ الأولية، وكل من كَانَ كَذَلِك كَانَ نَاقِصا بِذَاتِهِ، مستكملاً بِغَيْرِهِ، وَهُوَ فِي حق الله تَعَالَى محَال.
وَإِن كَانَ تَحْصِيلهَا وَعَدَمه سَوَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَمَعَ الاسْتوَاء لَا يحصل الرجحان، فَامْتنعَ التَّرْجِيح.
أُجِيب: بِمَنْع الْحصْر، وبالنقض بالأفعال المتعدية: كإيجاد الْعَالم، فَإِن قَالُوا بخلوه عَن نقص، قيل: كَذَا فِي التَّعْلِيل نمْنَع كَونه نَاقِصا فِي ذَاته، ومستكملاً بِغَيْرِهِ فِي ذَاته أَو صِفَات ذَاته، بل اللَّازِم حُصُول كمالات ناشئة من جِهَة الْفِعْل، وَلَا امْتنَاع فِيهِ، فَإِن كَونه محسناً إِلَى الممكنات من جملَة صِفَات الْكَمَال، وَكَذَا الْكَمَال فِي كَونه خَالِقًا ورازقاً على مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ.
الْوَجْه الثَّالِث: لَو فعل فعلا لغَرَض، فَإِن كَانَ قَادِرًا على تَحْصِيله بِدُونِ ذَلِك الْفِعْل كَانَ توسطه عَبَثا، وَإِلَّا لزم الْعَجز، وَهُوَ مُمْتَنع، وَلِأَن ذَلِك الْغَرَض مَشْرُوط بِتِلْكَ الْوَسِيلَة لكنه بَاطِل، لِأَن أَكثر الْأَغْرَاض إِنَّمَا تحصل بعد انْقِضَاء تِلْكَ الْوَسَائِل، فَيمْتَنع اشْتِرَاطه.

(2/754)


أُجِيب: بِأَن إِطْلَاق الْغَرَض لَا يجوز، لما يُوهِمهُ عرفا، وليعدل عَنهُ إِلَى لفظ الْعلَّة، فَيُقَال: لَا نسلم لُزُوم الْعَبَث، لِأَن الْعَبَث: الْخَالِي عَن الْفَائِدَة، وَالْقُدْرَة على الْفِعْل بِدُونِ توَسط السَّبَب لَا يَقْتَضِي عَبث الْفِعْل، وَإِلَّا لزم أَن تكون الشرعيات عَبَثا، لِأَن الله تَعَالَى قَادر على إِيصَال مَا حصلت لأَجله، من إِيصَال الثَّوَاب بِدُونِ توسطها.
وَقَوْلهمْ: إِن لم يقدر على تَحْصِيله لزم الْعَجز، مَمْنُوع؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يلْزم لَو أمكن تَحْصِيل مَا لأَجله بِدُونِ الْفِعْل، وَبِأَن إِمْكَان تَحْصِيله بِدُونِ الْعَجز دور.
الْوَجْه الرَّابِع: أَنه لَا يُوجد إِلَّا الله، وَإِذا ظهر ذَلِك كَانَ الْخَيْر وَالشَّر وَالْكفْر وَالْإِيمَان حَاصِلا بإيجاده، وَمنعه مُمْتَنع لوقف كَونه خَالِقًا على تَعْلِيل الْأَفْعَال.
أُجِيب: بِمَنْع التلازم، بل جَمِيع مَا خلقه الله فلحكمة باعتبارها كَانَ إيجاده.
الْوَجْه الْخَامِس: أَن أَفعاله تَعَالَى [إماتة] الْأَنْبِيَاء، وإنظار إِبْلِيس، وتمكنه من أَن يجْرِي مجْرى الدَّم من الْإِنْسَان بالوساوس وَالْإِلْقَاء فِي الْقُلُوب،

(2/755)


وَأَيْضًا قد خلد الْكفَّار فِي النَّار أَبَد الأبدين.
أُجِيب: نمْنَع خلو ذَلِك عَن حِكْمَة اقْتَضَت فعله.
تَنْبِيه: قَوْلهم عَن جَوَاب الْوَجْه الثَّالِث: بِأَن إِطْلَاق الْغَرَض لَا يجوز على الله تَعَالَى لما يُوهِمهُ عرفا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (من أهل السّنة من يُسَمِّي الْحِكْمَة " غَرضا "، حَتَّى من الْمُفَسّرين كَالثَّعْلَبِيِّ كَقَوْل الْمُعْتَزلَة، وَمِنْهُم من لَا يُطلقهُ لِأَنَّهُ يُوهم الْمَقْصُود الْفَاسِد) انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لفظ " الْغَرَض " يُطلقهُ طَائِفَة من أهل الْكَلَام كالقدرية، وَطَائِفَة من المثبتين للقدر أَيْضا وَيَقُولُونَ: " يفعل لغَرَض "، لَكِن الْغَالِب على الْفُقَهَاء وَغَيرهم المثبتين للقدر لَا يطلقون لَفْظَة " الْغَرَض "، وَإِن أطْلقُوا لَفْظَة " الْحِكْمَة "، لما فِيهِ من إِيهَام الظُّلم وَالْحَاجة، فَإِن النَّاس إِذا قَالُوا: فعل فلَان هَذَا لغَرَض، وَفُلَان لَهُ غَرَض فِي كَذَا، كثيرا مَا يعنون بذلك المُرَاد المذموم، من الظُّلم أَو الْفَاحِشَة أَو غَيرهمَا، وَالله منزه عَن ذَلِك) . انْتهى.
قَوْله: {فعلى الأول [ترجح] بِمُجَرَّد الْمَشِيئَة} .

(2/756)


يَعْنِي: عِنْد الْقَائِلين بإنكار فعله وَأمره لعِلَّة وَحِكْمَة، أَو بعلة وَحِكْمَة، ترجح بِمُجَرَّد الْمَشِيئَة، فَإِذا شَاءَ سُبْحَانَهُ شَيْئا من الْأَشْيَاء، ترجح بِمُجَرَّد تِلْكَ الإشاءة.
{ [وَيَقُولُونَ] : علل الشَّرْع أَمَارَات مَحْضَة} .
{ [وَبَعْضهمْ] } يَقُولُونَ: {بالمناسبة ثَبت الحكم عِنْدهَا لَا بهَا.
و [قَالَ] أَبُو الْخطاب وَابْن المنى،. .

(2/757)


و [الشَّيْخ] الْمُوفق [وَالْغَزالِيّ] : بقول الشَّارِع جعل الْوَصْف الْمُنَاسب مُوجبا لحسن الْفِعْل وقبحه} ، لَا أَنه كَانَ حسنا وقبيحاً قبله كَمَا يَقُوله المثبتون.
قَوْله: {الثَّانِيَة: الْحسن شرعا: مَا أَمر بِهِ، وَقيل: مالم ينْه عَنهُ، والقبيح: مَا نهي عَنهُ} .
يَنْقَسِم الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الحكم إِلَى: حسن، وقبيح، بِاعْتِبَار إِذن الشَّارِع وَعدم إِذْنه، لَا بِالْعقلِ كَمَا يَدعِيهِ الْمُعْتَزلَة.
ولأصحابنا وَغَيرهم فِي حد الْحسن الشَّرْعِيّ عبارتان:
إِحْدَاهمَا: مَا أَمر الشَّارِع بِهِ، فَشَمَلَ الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب.
قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": (الْحسن شرعا مَا أَمر الشَّارِع بِهِ) .
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل كَمَا تقدم: (إِذا أَمر الله تَعَالَى بِفعل فَهُوَ حسن بِاتِّفَاق، وَإِذا نهى عَن فعل فقبيح بِاتِّفَاق) .
قَالَ الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره ": (وَقيل: الْحسن مَا ورد الشَّرْع بتعظيم فَاعله وَالثنَاء عَلَيْهِ، والقبيح يُقَابله، وَهَذَا تَعْرِيف سني جمهوري، وَهُوَ يَشْمَل الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب) انْتهى.

(2/758)


والعبارة الثَّانِيَة: الْحسن شرعا: مَا لم ينْه عَنهُ، فَشَمَلَ الْوَاجِب، وَالْمُسْتَحب، والمباح.
قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: (مَا نهي عَنهُ شرعا فقبيح، وَإِلَّا فَحسن: كالواجب، وَالْمَنْدُوب، والمبارح، وَفعل غير الْمُكَلف) انْتهى.
وَصَححهُ السُّبْكِيّ الْكَبِير فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ "، فَإِنَّهُ شرح مِنْهُ قِطْعَة صَغِيرَة، وكمله وَلَده التَّاج.
وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَتَبعهُ الْبرمَاوِيّ -: (الْحسن الْمَأْذُون) .
وَقَالا: (يَشْمَل الْمُبَاح لارْتِفَاع شَأْنه بِالْإِذْنِ فِيهِ) .
قَوْله: (والقبيح مَا نهي عَنهُ) .
قَالَه ابْن حمدَان وَغَيره، فَيشْمَل الْحَرَام، وَظَاهره: إِنَّه يَشْمَل الْمَكْرُوه؛ لِأَن الْمَكْرُوه مَنْهِيّ عَنهُ نهي تَنْزِيه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
وَأما خلاف الأولى، فَأدْخلهُ التَّاج السُّبْكِيّ فِي الْقَبِيح، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَبيه بالمكروه فِي كَونه مَنْهِيّا عَنهُ نهي تَنْزِيه، وَإِن كَانَ النَّهْي غير مَقْصُود.
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: (الْمَكْرُوه لَيْسَ حسنا وَلَا قبيحاً، فَإِن الْقَبِيح: مَا يذم عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يذم عَلَيْهِ، وَالْحسن: مَا يشرع الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يشرع الثَّنَاء عَلَيْهِ) .

(2/759)


قَالَ السُّبْكِيّ الْكَبِير فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ ": (وَلم أر أحدا يعْتَمد خَالف إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِيمَا قَالَ، إِلَّا نَاسا أدركناهم، قَالُوا: إِنَّه قَبِيح؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ، وَالنَّهْي أَعم من نهي تَحْرِيم وتنزيه، وَعبارَة الْبَيْضَاوِيّ بإطلاقها تَقْتَضِي ذَلِك، وَلَيْسَ أَخذ الحكم الْمَذْكُور من [هَذَا] الْإِطْلَاق بِأولى من رد هَذَا الْإِطْلَاق بقول إِمَام الْحَرَمَيْنِ) انْتهى.
وَاخْتَارَ هَذَا الْبرمَاوِيّ وَقَالَ: (قيل: وَيَنْبَغِي على قَول الإِمَام ذَلِك فِي الْمَكْرُوه، أَن خلاف الأولى كَذَلِك بل أولى بِأَن ينفى الْقبْح عَنهُ من حَيْثُ أَن النَّهْي فِيهِ غير مَقْصُود) .
قَالَ: (وَكَذَا الْمُبَاح يَنْبَغِي أَن يكون كَذَلِك، فَلَا يكون حسنا؛ لِأَن الْحسن عِنْده مَا يشرع الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يشرع الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَلَا قبيحاً، لِأَن الْقَبِيح مَا يذم عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يذم عَلَيْهِ) .
قَالَ: (كَون الْمَكْرُوه وَخلاف الأولى من الْقَبِيح، فِيهِ نظر وَإِن صرح بِهِ التَّاج السُّبْكِيّ) .
قَالَ الزَّرْكَشِيّ: (وَلم [أره] لغيره، وَكَأَنَّهُ أَخذه من إِطْلَاق كثير: أَن الْقَبِيح: مَا نهي عَنهُ، قَالَ: وَيُمكن أَن يُرِيدُوا النَّهْي الْمَخْصُوص، - أَي: نهي التَّحْرِيم -، بل هُوَ الْأَقْرَب لإطلاقهم.

(2/760)


وَكَانَ الْموقع لَهُ فِي ذَلِك قَول الْهِنْدِيّ: إِن الْقَبِيح عندنَا: مَا يكون مَنْهِيّا عَنهُ، ونعني [بِهِ] : مَا يكون تَركه أولى، وَهُوَ الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْمحرم وَالْمَكْرُوه) انْتهى.
قَوْله: {وَعرفا: مَا لفَاعِله فعله، أَو مَا مدح فَاعله، أَو مَا وَافق الْغَرَض ولاءم الطَّبْع، والقبيح: عَكسه فِيهِنَّ، أَقْوَال} .
هَذِه الْأَقْوَال أَخَذتهَا من " الْمقنع " لِابْنِ حمدَان وَهِي للْعُلَمَاء.
فَقَالَ فِي " الْمقنع ": (وَالْحسن عرفا: مَا لفَاعِله فعله، والقبيح: مَا لَيْسَ لفَاعِله فعله.
وَقيل: الْحسن: مَا يمدح فَاعله عرفا، والقبيح: مَا يذم فَاعله عرفا.
وَقيل: الْحسن مَا وَافق الْغَرَض ولاءم الطَّبْع، والقبيح: مَا خَالف الْغَرَض والطبع ونافره.
وَمن الْعرفِيّ: الْعلم حسن، وَالْجهل قَبِيح) انْتهى.
والأقوال قريبَة من بَعْضهَا بَعْضًا.
قَوْله: {الثَّالِثَة: [لَا يُوصف] فعل غير مُكَلّف [بِحسن]

(2/761)


وَلَا قبح، قَالَه فِي " الْمقنع " وَغَيره} .
وَقَطعُوا بِهِ، لِأَن فعل غير الْمُكَلف لَا يتَعَلَّق بِهِ حكم، لِأَن الْأَحْكَام إِنَّمَا تتَعَلَّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين، فَلَا يدْخل تَحت أحد قسميه وَهُوَ الْحسن، وَأَيْضًا فعله لم يُؤذن فِيهِ شرعا، فَلَا ينْدَرج تَحت الْمَأْذُون، وَوَصفه الْبَيْضَاوِيّ بذلك، وَقد تقدم لَفظه.
وَالْجمع بَينهمَا: أَن بَين الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الحكم وَبَين الْفِعْل الْحسن عُمُوم وخصوص من وَجه.
فَالْأول يَنْقَسِم إِلَى حسن وقبيح، وَالْحسن فِي هَذِه الْقِسْمَة لَا يَشْمَل فعل غير الْمُكَلف
ثمَّ قسمنا مُسَمّى الْحسن مُطلقًا إِلَى فعل الْمُكَلف وَغَيره مِمَّا لَيْسَ مُتَعَلقا بالحكم، فَخرج من الْقسمَيْنِ: أَن الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب والمباح من قسم الْحسن الْمَحْكُوم فِيهِ، وان فعل غير الْمُكَلف من قسم الْحسن غير الْمَحْكُوم فِيهِ، وَهَذَا شَأْن الْعَام من وَجه حَيْثُ وَقع، وَيَأْتِي الْأَعَمّ من وَجه وَغَيره فِي الْحَقَائِق الْأَرْبَع فِي أَوَاخِر الْأَمر.

(2/762)


قلت: الصَّوَاب: أَن فعل الْمُمَيز شرعا يكون مِنْهُ حسن وقبيح، فَإِن عِبَادَته صَحِيحَة، وَله ثَوَابهَا.
على كل حَال، من أَرَادَ انقسام الْعَمَل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الحكم قَالَ: لَا يُوصف فعله بذلك، وَمن أَرَادَ بالْحسنِ مَا وَافق الشَّرْع من غير نظر إِلَى مُتَعَلق الحكم قَالَ: يُوصف بذلك، وَالله أعلم.
فَوَائِد: الأولى: قَالَ الْعلمَاء: كل عمل جَزَاؤُهُ خير مِنْهُ، إِلَّا التَّوْحِيد فَإِنَّهُ أفضل من جَزَائِهِ، وَقد ذكره الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره " فِي آخر سُورَة النَّمْل.
الثَّانِيَة: أطلق الأصوليون مُقَابلَة الْحسن بالقبيح، وَفِيه نظر؛ لِأَن مُقَابِله إِنَّمَا هُوَ السيء، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم وَإِن أسأتم فلهَا} [الْإِسْرَاء: 7] ، {وَلَا تستوي الْحَسَنَة وَلَا السَّيئَة} [فصلت: 34] .
وَأَيْضًا: فالقبيح [أخص] من السيء، كَمَا أَن الْجَمِيل أخص من الْحسن، بِدَلِيل قَوْلهم: الْحسن الْجَمِيل، للترقي من الْأَدْنَى للأعلى، فَيَنْبَغِي مُقَابلَة الْجَمِيل بالقبيح وَالْحسن بالسيء، نبه عَلَيْهِ الشَّيْخ جمال الدّين الأغماتي فِي كتاب " الْمطَالع ".

(2/763)


الثَّالِثَة: إناطة الْحسن بِالْإِذْنِ، أخص من إناطته بِعَدَمِ النَّهْي، حَتَّى أَدخل فِيهِ غير الْمُكَلف: كَالصَّبِيِّ، والساهي، والبهيمة، اسْتِطْرَادًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَكَلَّم فِي الْفِعْل الْمُتَعَلّق بِهِ الْخطاب، وَهُوَ فعل الْمُكَلف، وَالله أعلم.

(2/764)


قَوْله: {فصل]

{الْأَعْيَان المنتفع بهَا قبل الشَّرْع مُبَاحَة، عِنْد التَّمِيمِي، وَأبي الْفرج، وَأبي الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، والظاهرية، وَابْن سُرَيج.
وَعند ابْن حَامِد، والحلواني، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: مُحرمَة.
وللقاضي [قَولَانِ] .
فَعَلَيهِ: يُبَاح مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْأَصَح، وَحكي إِجْمَاعًا: كتنفس، وسد رَمق. وَعند الخرزي، وَابْن عقيل، والموفق، وَالْمجد، [والصيرفي] ، وَأبي

(2/765)


عَليّ الطَّبَرِيّ، والأشعرية: لَا حكم لَهَا.
فَعَلَيهِ: لَا إِثْم بالتناول، وَلَا يُفْتى بِهِ فِي الْأَصَح، اخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَابْن حمدَان، [وَجمع] ، وَقيل: لَهَا حكم لَا نعلمهُ} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على أَقْوَال:
أَحدهَا وَهُوَ الَّذِي قدمنَا -: أَنَّهَا مُبَاحَة، اخْتَارَهُ أَبُو الْحسن التَّمِيمِي، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد "، وَأَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ الْمَقْدِسِي، وَأَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، والظاهرية، وَابْن سُرَيج، وَأَبُو حَامِد

(2/766)


الْمروزِي، وَغَيرهم، لِأَن خلقهَا لَا لحكمة عَبث، وَلَا حِكْمَة إِلَّا انتفاعنا بهَا، إِذْ هُوَ خَال عَن مفْسدَة، كالشاهد، وَقد قَالَ الله: {هُوَ الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} [الْبَقَرَة: 29] .
قَالَ القَاضِي: (وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد، حَيْثُ سُئِلَ عَن قطع النّخل، قَالَ: " لَا بَأْس، لم نسْمع فِي قطعه شَيْئا ") .
وَفِي " الرَّوْضَة " مَا يَقْتَضِي أَنه عرف بِالسَّمْعِ إباحتها قبله.
وَقَالَ بَعضهم: كَمَا فِي الْآيَات وَالْأَخْبَار.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: (الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة دلّت على الْإِبَاحَة

(2/767)


كَقَوْلِه: {خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} [الْبَقَرَة: 29] ، وَقَوله تَعَالَى: {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ} [الْأَعْرَاف: 32] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (من أعظم الْمُسلمين جرما من سَأَلَ عَن شَيْء لم يحرم محرملأجل مَسْأَلته ") ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا سكت عَنهُ فَهُوَ مِمَّا عَفا عَنهُ ".
وَعند ابْن حَامِد، وَالْقَاضِي فِي " الْعدة "، والحلواني، وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَهُوَ ابْن أبي هُرَيْرَة وَنَقله ابْن قَاضِي الْجَبَل، والأبهري من الْمَالِكِيَّة: مُحرمَة، لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه فَحرم: كالشاهد،

(2/768)


ثمَّ الْإِقْدَام عَلَيْهِ خطر، فالإمساك أحوط.
قَالَ القَاضِي: (وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد بقوله: " لَا يُخَمّس السَّلب مَا سمعنَا ") وَقَالَ فِي الْحلِيّ يُؤْخَذ لقطَة: (إِنَّمَا جَاءَ الحَدِيث فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير) .
ونازعه بعض أَصْحَابنَا فِي هَذَا وَفِي الَّذِي قبله فِي الْإِبَاحَة، وَقَالَ (لَا يدل ذَلِك على مَا قَالَ) .
فعلى هَذَا القَوْل وَهُوَ التَّحْرِيم -: يُبَاح مَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَيخرج من مَحل الْخلاف على الصَّحِيح عِنْد الْعلمَاء، وَحكي إِجْمَاعًا: كتنفس، وسد رَمق، وَنَحْوه.

(2/769)


وَخَالف بعض النَّاس فِي ذَلِك وَلم يُخرجهُ من التَّحْرِيم، وَهُوَ سَاقِط وبناه بَعضهم، مِنْهُم ابْن قَاضِي الْجَبَل: على تَكْلِيف الْمحَال.
وَعند أبي الْحسن الخرزي، وَابْن عقيل، والموفق، وَالْمجد، والصيرفي، وَأبي عَليّ الطَّبَرِيّ، والأشعرية، وَغَيرهم: لَا حكم لَهَا، أَي: لَا حكم لَهَا بِالْكُلِّيَّةِ.
قَالَ ابْن عقيل: (لَا حكم لَهَا قبل السّمع) .
قَالَ الْمجد: (هُوَ الصَّحِيح الَّذِي لَا يجوز على الْمَذْهَب غَيره) .

(2/770)


قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَهَذَا اخْتِيَار أبي مُحَمَّد أَيْضا -، لَكِن أَبُو مُحَمَّد يفسره بِنَفْي الحكم، وبعدم الْحَرج كاختيار الْجد، وَفَسرهُ ابْن برهَان: " بِأَنَّهُ عندنَا لَا يُوصف بحظر وَلَا إِبَاحَة وَلَا وجوب، بل هِيَ كأفعال الْبَهَائِم "، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الطّيب: " لَا يُقَال إِنَّهَا مُبَاحَة أَو محظورة إِلَّا بورود الشَّرْع ") .
قَالَ ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (وَلَا حكم لفعل فِي عين قبل وُرُود الشَّرْع) .
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول رَابِع: أَن لَهَا حكما وَلَكِن لَا نعلمهُ، اخْتَارَهُ ابْن حمدَان فِي " مقنعه "، فَقَالَ: (قَالَ الشَّيْخ [أَبُو] مُحَمَّد الْمَقْدِسِي فِي " الرَّوْضَة ": " الْوَقْف هُوَ الْأَلْيَق بِالْمذهبِ "، فَيحْتَمل قَوْله: أَنه لَا حكم لَهَا، وَيحْتَمل: أَن لَهَا حكما لَا نعلمهُ، قَالَ: وَهُوَ رَاجِح، وَحكم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ وَحي، وَتَقْرِير لَهُ فِيمَا اجْتهد بِهِ) انْتهى.
وَقَالَ ابْن عقيل أَيْضا -: (الْأَلْيَق بمذهبه أَن يُقَال: لَا نَدْرِي مَا الحكم) .

(2/771)


وَهَذَا قَول الْأَشْعَرِيّ فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ الْبَيْضَاوِيّ، قَالَ: (لِأَن الحكم عِنْده قديم) ، فتفسير الْوَقْف بِعَدَمِ الحكم، يلْزم مِنْهُ حُدُوث الحكم، وَهُوَ خلاف مذْهبه ,
وَكَذَا فسر فِي " الْمَحْصُول " مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ فِي الْوَقْف بذلك، ورد.
فعلى الأول لَا إِثْم بالتناول: كَفعل الْبَهِيمَة، لَكِن لَا يُفْتى بِهِ فِي الْأَصَح، اخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَابْن حمدَان.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَفِيه خلاف) ، أَي: بالإفتاء.
قَوْله: {وَفرض ابْن عقيل الْمَسْأَلَة فِي الْأَفْعَال والأقوال قبل السّمع} .
وطرد ابْن عقيل خلاف الْوَقْف فِي كل الْأَشْيَاء حَتَّى فِي التَّثْنِيَة، والتثليث، وَالسُّجُود للصنم، وَصرف الْعِبَادَة وَالشُّكْر إِلَى غير الله تَعَالَى، الْوَاحِد الْقَدِيم الَّذِي قد عرف وحدته وَقدمه.

(2/772)


قَالَ: (وَيجب القَوْل باستصحاب الْحَال الْعقلِيّ، مثل أَن يدل الدَّلِيل الْعقلِيّ على أَن الْأَشْيَاء على الْحَظْر أَو على الْإِبَاحَة، قبل وُرُود الشَّرْع بذلك، فنستصحب هَذَا الأَصْل حَتَّى يدل دَلِيل الشَّرْع على خِلَافه) انْتهى.
وَالصَّحِيح خلاف ذَلِك.
قَالَ القَاضِي فِي مَسْأَلَة الْأَعْيَان قبل الشَّرْع: (إِنَّمَا يتَصَوَّر هَذَا الِاخْتِلَاف فِي الْأَحْكَام الشرعيات، من تَحْرِيم الْخمر، وَإِبَاحَة لحم الْأَنْعَام، وَمَا أشبه ذَلِك، مِمَّا قد كَانَ يجوز حظره، وَتجوز إِبَاحَته، فَأَما مَا لَا يجوز فِيهِ الْحَظْر بِحَال: كمعرفة الله تَعَالَى، وَمَعْرِفَة وحدانيته، وَمَا لَا تجوز عَلَيْهِ الْإِبَاحَة: كالكفر بِاللَّه، وَجحد التَّوْحِيد، وَغَيره، فَلَا يَقع فِيهِ خلاف، بل هُوَ على صفة وَاحِدَة لَا تَتَغَيَّر وَلَا تنْقَلب، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف فِيمَا ذكرنَا) انْتهى.
{وَعند الْمُعْتَزلَة: يُبَاح مَا يحْتَاج إِلَيْهِ} .
قسمت الْمُعْتَزلَة الْأَفْعَال غير الاضطرارية كالتنفس مثلا، وَالْحَرَكَة فِي الْجِهَات، فَإِنَّهُ غير مَمْنُوع مِنْهُ، مَعَ عدم نطق الشَّرْع بِهِ إِلَى مَا لَا يقْضِي الْعقل فِيهِ بِحسن وَلَا قبح، [لَا ضَرُورَة وَلَا نظرا] ، وَإِلَى مَا يقْضِي فِيهِ بأحدها ضَرُورَة أَو نظرا.

(2/773)


فَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ يُبَاح، {وَمَا حكم الْعقل فِيهِ بِشَيْء} ، وينقسم إِلَى الْأَحْكَام الْخَمْسَة، بِحَسب تَرْجِيح فعله على تَركه، وَعَكسه، وذم فَاعله، وَعَدَمه، واستوائه.
وَمعنى ذَلِك لأبي الْحسن التَّمِيمِي من أَصْحَابنَا.
فَمَا قضى بحسنه إِن لم يتَرَجَّح فعله على تَركه فَهُوَ الْمُبَاح، وَإِن ترجح، فَإِن لحق الذَّم على تَركه فَهُوَ الْوَاجِب، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَنْدُوب، وَمَا قضى بقبحه إِن قضى بالذم على فعله [فالحرام] ، وَإِلَّا فالمكروه.
وَمَا لم يحكم الْعقل فِيهِ بِشَيْء فَلهم فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: الْحَظْر، وَالثَّانِي: الْإِبَاحَة، وَالثَّالِث: التَّوَقُّف.
فَيُقَال للحاظر مِنْهُم: لَو كَانَت محظورة، وفرضنا ضدين: كالحركة والسكون، لزم التَّكْلِيف بالمحال، وَأَنْتُم لَا تَقولُونَ بِهِ.
وَيُقَال للمبيح: إِن أردْت لَا حرج فِي هَذَا الْقسم من الْفِعْل، فَمُسلم، وَلَا يجديك نفعا، لِأَن انْتِفَاء الْحَرج، إِنَّمَا يتَصَوَّر بأمرين:

(2/774)


عدم الْحَاكِم بالحرج، وسلب الْحَاكِم الْحَرج عَن الْفِعْل، وَالْأول مُسلم، وَالثَّانِي مَمْنُوع اتِّفَاقًا، أما عندنَا فلعدم الشَّرْع، وَأما عنْدكُمْ: فلعدم حكم الْعقل فِي هَذَا الْقسم.
وَيُقَال للْوَاقِف: إِن توقفت فِي الحكم لعدم السّمع فَهُوَ مَذْهَب كثير منا، وَإِن توقفت لتعارض الْأَدِلَّة فَلَا تعَارض.
فَبَطل حكم الْعقل فِي هَذَا الْمَسْأَلَة وَالله تَعَالَى أعلم.
قَالَ ابْن التلمساني: (والقائلون بالحظر لَا يُرِيدُونَ بِاعْتِبَار صفة فِي الْمحل، بل حظر احتياطي، كَمَا يجب اجْتِنَاب الْمَنْكُوحَة إِذا اخْتلطت بأجنبية، والقائلون بِالْوَقْفِ أَرَادوا وقف حيرة) .
هَكَذَا حرر الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، مَوضِع الْخلاف، وَأطْلقهُ فِي " الْمَحْصُول ".
قَالَ الْقَرَافِيّ: (إِطْلَاقه الْخلاف يُنَافِي قواعدهم، إِذْ الْحَظْر يَقْتَضِي تَحْرِيم إنقاذ الغريق، وَالْإِبَاحَة تَقْتَضِي إِبَاحَة الْقَتْل، أما مَا لَا يطلع الْعقل على مفسدته أَو مصْلحَته فَيمكن أَن يَجِيء فِيهِ الْخلاف، وَحكى أَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد " عَنْهُم الْخلاف من غير تَقْيِيد، وَهُوَ أعلم بمذهبهم، فَرَجَعت إِلَى طَريقَة الرَّازِيّ) .

(2/775)


قَوْله: {تَنْبِيهَات: الأول: قَالَ الخرزي، وَجمع: لَا فَائِدَة لَهَا [- أَي: لهَذِهِ الْمَسْأَلَة -] لِأَنَّهُ لم يخل وَقت من شرع.
قَالَ القَاضِي: وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد} .
لِأَنَّهُ أول مَا خلق آدم، قَالَ لَهُ: {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة [فكلا] من حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة} ، أَمرهمَا ونهاهما عقب خلقهما، فَكَذَلِك كل زمَان.
قَالَ الخرزي: (لم تخل الْأُمَم من حجَّة) ، وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} [الْقِيَامَة: 36] والسدى: الَّذِي لَا يُؤمر وَلَا ينْهَى، وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا} [النَّحْل: 36] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} [فاطر: 24] .

(2/776)


قَالَ القَاضِي: (هَذَا ظَاهر رِوَايَة عبد الله فِيمَا خرجه فِي محبسه: " الْحَمد الله الَّذِي جعل فِي [كل] زمَان فَتْرَة من الرُّسُل بقايا من أهل الْعلم "، فَأخْبر أَن كل زمَان فِيهِ قوم من أهل الْعلم) .
{قَالَ [القَاضِي] : وتتصور [فائدتها] فِيمَن خلق ببرية [و] لم يعرف شرعا، وَعِنْده فواكه [وأطعمة، وَكَذَا قَالَ] . .

(2/777)


أَبُو الْخطاب.
وَقَالَ أَيْضا [أَبُو الْخطاب] : لَو قَدرنَا خلو شرع عَن [حكمهَا] ، مَا حكمهَا؟} .
[قَالَ القَاضِي] : (وتفيد فِي الْفِقْه أَن من حرم شَيْئا أَبُو أَو أَبَا [حه، فَقَالَ] : بقيت على حكم الْعقل، هَل يَصح ذَلِك؟ وَهل يلْزم خَصمه احتجاجه بذلك؟ وَهَذَا [مِمَّا يحْتَاج] إِلَيْهِ الْفَقِيه) .

(2/778)


وَكَذَا قَالَ فِي " التَّمْهِيد " و " الرَّوْضَة ": [إِن من] حرم شَيْئا أَو أَبَاحَهُ بَقِي] على حكم الأَصْل) .
وَكَذَا قَالَ ابْن عقيل: (من شَرط الْمُفْتى: معرفَة الأَصْل [الَّذِي يَنْبَنِي] عَلَيْهِ اسْتِصْحَاب الْحَال، ليتمسك بِهِ عِنْد عدم الْأَدِلَّة) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بعد كَلَام ابْن عقيل عَن كَلَام أَحْمد وَالْقَاضِي -: (فقد جعل ابْن عقيل مورد الْخلاف [الَّذِي ذكره القَاضِي فِيمَا سكت عَنهُ] السّمع بعد مَجِيئه، فَصَارَ فِي فائدتها ثَلَاثَة أَقْوَال: [أَحدهَا: عِنْد عدم السّمع، وَالثَّانِي] : بعد مَجِيء [السّمع، وَالثَّالِث] : يعمهما جَمِيعًا) . ذكره فِي [المسودة] .
وَقَالَ [ابْن مُفْلِح فِي] " أُصُوله ": (وَذكر [بعض أَصْحَابنَا]

(2/779)


فِي فائدتها أقوالا:
أَحدهَا: [قبل] السّمع، [وَبعده يُقَاس الْمَسْكُوت] على الْمَنْصُوص، قَالَه الخرزي وَغَيره.
وَالثَّانِي: بعده، قَالَه ابْن عقيل، [على عدم التحسين.
وَالثَّالِث] : يعمهما، قَالَه القَاضِي، وَغَيره) انْتهى. [وَالَّذِي صرح بِهِ الْبرمَاوِيّ عَن أَصْحَابهم] : (أَن مَحل الْأَقْوَال الثَّلَاثَة بعد [وُرُود الشَّرْع، فِي صُورَة لَا يُوجد فِيهَا حكم فِي الشَّرْع] .
أصلا) .
قَوْله: {الثَّانِي: قَالَ [الْحلْوانِي وَغَيره] : عرفنَا [الْإِبَاحَة والحظر بالإلهام] ، وَهُوَ مَا يُحَرك الْقلب بِعلم، ويطمئن بِهِ، [وَيَدْعُو إِلَى]

(2/780)


الْعَمَل بِهِ} .
بعض [الْعلمَاء قَالَ بِأَن] الْأَعْيَان المنتفع بهَا قبل الشَّرْع على الْحَظْر أَو الْإِبَاحَة، مَعَ القَوْل بِأَن الْعقل لَا يُوجب وَلَا يحرم وَلَا يحسن وَلَا يقبح، فِيمَا إِذا حكمنَا عَلَيْهَا بالحظر أَو الْإِبَاحَة [ ... ] مِمَّا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": قَالَ بعض [الْعلمَاء: من لم يُوَافق الْمُعْتَزلَة فِي] التحسين والتقبيح، وَقَالَ بِالْإِبَاحَةِ أَو [الْحَظْر فقد نَاقض] .
وَقَالَ [غَيره: دلّت] الدَّلَائِل على حظره [فِيمَا سلف ... ] غَيره [.] .
{وَحكى القَاضِي [أَبُو يعلى] [فِي الإلهام: هَل هُوَ] .

(2/781)


[طَرِيق شَرْعِي] ؟ [على قَوْلَيْنِ] } .
[وَقَالَ القَاضِي] أَبُو يعلى: (لَا يمْتَنع أَن نقُول قبل وُرُود الشَّرْع: إِن الْعقل يقبح أَو يحسن إِلَى أَن [ورد] الشَّرْع فَمنع ذَلِك؛ إِذْ لَيْسَ قبل وُرُود الشَّرْع مَا يمنعهُ) .
قَالَ: (وَقد قيل: علمناه من طَرِيق شَرْعِي، وَهُوَ إلهام من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ، بحظره وإباحته، كَمَا ألهم أَبَا بكر، وَعمر.

(2/782)


أَشْيَاء ورد الشَّرْع [بموافقتها] .
كَمَا ألهم أَبَا بكر أَن قَالَ: " فِي بطن أم عبد جَارِيَة ") .
وَكَذَلِكَ قَالَ الْحلْوانِي وَغَيره، وضعفها الشَّيْخ تَقِيّ الدّين على هَذَا الأَصْل.
وَحكى فِي " جمع الْجَوَامِع " أَن بعض الصُّوفِيَّة قَالَ بِهِ.
وَقَالَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ نقلا عَن أبي زيد الدبوسي فَإِنَّهُ ذكره عقب ذكره إبِْطَال التَّقْلِيد فِي جملَة الِاسْتِدْلَال.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَكَانَ الْحَنَفِيَّة لما توسعوا فِي الِاسْتِحْسَان وحدوه

(2/783)


بِأَنَّهُ: دَلِيل ينقدح فِي نفس الْمُجْتَهد تقصر عَنهُ عِبَارَته، فَهُوَ قريب من معنى الإلهام، فاستطرد إِلَى ذكره.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو زيد: " الإلهام: مَا حرك الْقلب بِعلم يَدْعُوك إِلَى الْعَمَل بِهِ، من غير اسْتِدْلَال [بِآيَة] وَلَا نظر فِي حجَّة ".) .
وَقَالَ: (الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء: أَنه خيال، لَا يجوز الْعَمَل بِهِ إِلَّا عِنْد فقد الْحجَج كلهَا، من بَاب مَا أُبِيح [عمله] بِغَيْر علم.
وَقَالَ بعض [الْجَهْمِية] : هُوَ حجَّة بِمَنْزِلَة الْوَحْي المسموع من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَاحْتَجُّوا لَهُ بحجج مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} [الشَّمْس: 7 8] ، أَي: عرفهَا بالإيقاع فِي الْقلب، وَقَوله تَعَالَى: (فَمن يرد الله أَن يهديه

(2/784)


يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} [الْأَنْعَام: 125] ، وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله ".
وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِثْم مَا حاك فِي الصَّدْر وَإِن أَفْتَاك النَّاس وأفتوك "،

(2/785)


فقد جعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَهَادَة قلبه بِلَا حجَّة أولى من الْفَتْوَى، فَثَبت أَن الإلهام حق، فَإِنَّهُ وَحي بَاطِن، إِلَّا أَن العَبْد إِذا عصى ربه وَعمل بهواه حرم هَذِه الْكَرَامَة.
وَلَا حجَّة فِي شَيْء من ذَلِك، لِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد الْإِيقَاع فِي الْقلب بِلَا دَلِيل، بل الْهِدَايَة إِلَى الْحق بِالدَّلِيلِ، كَمَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ -: " إِلَّا أَن يُؤْتِي الله عبدا فهما فِي كِتَابه ".
وَكَانَ شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ يَقُول: (الفتوحات الَّتِي يفتح بهَا على الْعلمَاء فِي الاهتداء إِلَى استنباط الْمسَائِل المشكلة من الْأَدِلَّة، أعظم نفعا وَأكْثر فَائِدَة مِمَّا يفتح بِهِ على الْأَوْلِيَاء من الِاطِّلَاع على بعض الغيوب، فَإِن ذَلِك لَا يحصل بِهِ من النَّفْع مثل مَا يحصل بِهَذَا، - وَأَيْضًا هَذَا موثوق بِهِ لرجوعه إِلَى أصل شَرْعِي، وَذَلِكَ قد يضطرب) .

(2/786)


قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع " -: (مِمَّن أثْبته الإِمَام شهَاب الدّين السهروردي، قَالَ فِي " أَمَالِيهِ ": (وَهُوَ علم يحدث فِي النَّفس المطمئنة الزكية "، وَفِي الحَدِيث: " إِن من أمتِي محدثين، وَإِن عمر مِنْهُم " انْتهى.
{وَقيل: دلنا الدَّلِيل على حظره فِيمَا سلف} .
اسْتدلَّ لهَذَا القَوْل بقوله تَعَالَى: {يسئلونك مَاذَا أحل} الْآيَة: [الْمَائِدَة: 4] ، فَدلَّ على أَن التَّحْرِيم كَانَ سَابِقًا.

(2/787)


قَوْله: {الثَّالِث: الْعُقُود وَنَحْوهَا: كالأعيان، بل دخلت فِي كَلَام الْأَكْثَر} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": (الْعُقُود والمعاملات قبل الشَّرْع حكمهَا حكم الْأَعْيَان، بل قد دخلت فِي كَلَام الْجُمْهُور) انْتهى.
فَيكون الْخلاف الَّذِي فِي الْأَعْيَان يَأْتِي فِيهَا، وَقد تقدم كَلَام ابْن عقيل أَنه فرض الْمَسْأَلَة فِي الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال، فَدخل ذَلِك فِي كَلَامه، وَتقدم كَلَام القَاضِي بقوله: (إِنَّمَا الْخلاف فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة) ، والعقود والمعاملات من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة.

(2/788)


قَوْله: {فصل الحكم الشَّرْعِيّ}

اعْلَم أَن الحكم مصدر قَوْلك: حكم بَينهم يحكم حكما، إِذا قضى، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَة: الْمَنْع، وَإِلَيْهِ ترجع تراكيب مَادَّة: ح، ك، م، أَو أَكْثَرهَا.
فَمن ذَلِك: حكمت الرجل تحكيماً، إِذا منعته مِمَّا أَرَادَ.
وحكمت السَّفِيه بِالتَّخْفِيفِ -، وأحكمت، إِذا أخذت على يَده.
قَالَ الشَّاعِر:

(2/789)


( [أبني] حنيفَة أحكموا [صِبْيَانكُمْ] ... إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم أَن أغضبا)
وَسمي القَاضِي: حَاكما؛ لمَنعه الْخُصُوم من التظالم.
وَسميت هَذِه الْمعَانِي نَحْو: الْوُجُوب، والحظر، وَغَيرهمَا: أحكاماً؛ لِأَن معنى الْمَنْع مَوْجُود فِيهَا.
إِذا تقرر ذَلِك؛ فقد قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الحكم الشَّرْعِيّ: خطاب الشَّرْع وَقَوله) انْتهى.
وَمرَاده: مَا وَقع بِهِ الْخطاب، أَي: مَدْلُوله وَهُوَ الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم والإحلال، وَهُوَ صفة الْحَاكِم.
فَهُوَ عِنْد الإِمَام أَحْمد: مَدْلُول خطاب [الشَّرْع] ، فَشَمَلَ الْأَحْكَام [الْخَمْسَة] وَغَيرهَا، [وَالظَّاهِر أَن] الإِمَام أَحْمد أَرَادَ بِزِيَادَة: (وَقَوله) ،

(2/790)


على خطاب الشَّرْع، التَّأْكِيد، من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص؛ [لِأَن] كل خطاب قَول، وَلَيْسَ كل قَول خطاب.
فَائِدَة: الحكم، نفس خطاب الله تَعَالَى، فالإيجاب مثلا: هُوَ نفس قَول الله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة} [الْإِسْرَاء: 78] ، وَلَيْسَ الْفِعْل صفة من القَوْل، إِذْ القَوْل مُتَعَلق بالمعدوم، وَهُوَ فعل الصَّلَاة فِي الْمِثَال الْمَذْكُور، وَإِذا كَانَ الْفِعْل مَعْدُوما فصفته الْمُتَأَخِّرَة عَنهُ أولى بِالْعدمِ، - فَالْحكم وَهُوَ الْإِيجَاب مثلا لَهُ تعلق بِفعل الْمُكَلف وَإِن كَانَ مَعْدُوما.
فبالنظر إِلَى نَفسه الَّتِي هِيَ صفة الله يُسمى إِيجَابا، وبالنظر إِلَى مَا تعلق بِهِ وَهُوَ فعل الْمُكَلف يُسمى وجوبا، فهما متحدان بِالذَّاتِ، مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ، وَلِهَذَا ترى الْمُحَقِّقين تَارَة يعْرفُونَ الْإِيجَاب، وَتارَة يعْرفُونَ الْوُجُوب، نظرا إِلَى الاعتبارين.
هَذَا حَاصِل كَلَام القَاضِي عضد الدّين، مَعَ توضيح فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَه إِنَّمَا هُوَ كالجواب عَن الِاعْتِرَاض بقَوْلهمْ: الْمَقْصُود فِي تَعْرِيف الحكم؛ تَعْرِيف المصطلح بَين الْفُقَهَاء، لِأَنَّهُ الْمَأْخُوذ من تَعْرِيف الْفِقْه، وَهُوَ لَيْسَ نفس الْخطاب، بل مَا ثَبت بِالْخِطَابِ، كالوجوب، وَالْحُرْمَة، أَعنِي: صفة فعل الْمُكَلف.
وَأجَاب غَيره عَن ذَلِك: (بِأَنَّهُ كَمَا أُرِيد بالحكم مَا حكم بِهِ، أُرِيد بِالْخِطَابِ مَا خُوطِبَ بِهِ، لظُهُور أَن صفة فعل الْمُكَلف، لَيْسَ [نفس]

(2/791)


الْخطاب الَّذِي هُوَ الْكَلَام الأزلي.
وَأجِيب أَيْضا: (بِأَن التَّعْرِيف إِنَّمَا هُوَ للْحكم حَقِيقَة، وَإِطْلَاق الحكم على الْوُجُوب وَالْحُرْمَة تسَامح) .
وأسدها كَلَام الْعَضُد.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: (لما كَانَ كثير من الْعلمَاء يتسامحون بِإِطْلَاق اسْم نوع الحكم على مُتَعَلّقه من الْفِعْل وَعَكسه، فَيَقُولُونَ: الحكم: إِمَّا وَاجِب، أَو مَنْدُوب إِلَى آخِره، وَيَقُولُونَ فِي الْفِعْل: إِنَّه إِيجَاب، أَو ندب ... إِلَى آخِره، تعرضت للْفرق بَينهمَا بِحَسب الْحَقِيقَة، وَأَن

(2/792)


الْوَاجِب: مَا تعلق بِهِ الْإِيجَاب، وَالْمَنْدُوب: مَا تعلق بِهِ النّدب ... إِلَى آخِره، فيصاغ لكل فعل من الحكم الَّذِي تعلق بِهِ، [اسْم] يحصل بِهِ الْإِعْلَام والتمييز عَن بَقِيَّة الْأَفْعَال، فَيُقَال للْفِعْل الَّذِي تعلق بِهِ الْإِيجَاب: مُوجب، اسْم مفعول، وواجب لِأَنَّهُ [مُطَاوع] لأوجب، وَكَذَلِكَ يُقَال فِي الْبَقِيَّة) .
قَوْله: {وَقيل: خطابه الْمُتَعَلّق بِفعل [الْمُكَلف] } .
[قَالَه] كثير من الْعلمَاء، وَهُوَ قريب من قَول الإِمَام أَحْمد؛ [إِلَّا] أَن هَذَا أصرح وأخص.
فَقَوله: (خطابه) ، أَي: خطاب الشَّرْع، فَدخل فِيهِ خطاب الله تَعَالَى،

(2/793)


وخطاب مَلَائكَته، وخطاب الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَكِن خطاب الْمَلَائِكَة، وخطاب الرَّسُول دلّت على خطاب الله تَعَالَى.
فخطاب جنس، وَهُوَ مصدر خَاطب، لَكِن المُرَاد بِهِ هُنَا الْمُخَاطب بِهِ، لَا معنى الْمصدر الَّذِي هُوَ تَوْجِيه الْكَلَام لمخاطب، فَهُوَ من إِطْلَاق الْمصدر على اسْم الْمَفْعُول.
وَخرج: خطاب غير الشَّارِع؛ إِذْ لَا حكم إِلَّا للشارع.
وَخرج بقوله: (الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف) ، خَمْسَة أَشْيَاء.
الْخطاب الْمُتَعَلّق بِذَات الله، وَصفته، وَفعله، وبذات الْمُكَلّفين، والجماد.
فَالْأول: مَا تعلق بِذَاتِهِ، نَحْو {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} [آل عمرَان: 18] .
وَالثَّانِي: مَا تعلق بِصفتِهِ، نَحْو: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم} [الْبَقَرَة: 255، وَآل عمرَان: 2] .
الثَّالِث: مَا تعلق بِفِعْلِهِ، نَحْو: {الله خَالق كل شَيْء} [الزمر: 62] .
الرَّابِع: مَا تعلق بِذَات الْمُكَلّفين، نَحْو: {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم} [الْأَعْرَاف: 11] ، و {خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} [النِّسَاء: 1، والأعراف: 189، وَالزمر: 6] .
الْخَامِس: مَا تعلق بالجماد، نَحْو: {وَيَوْم نسير الْجبَال} [الْكَهْف: 47] ، وَنَحْوهَا.

(2/794)


وَالْمرَاد بالمتعلق: الَّذِي من شَأْنه أَن يتَعَلَّق، من بَاب تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا يؤول إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَزِمَ أَنه قبل التَّعَلُّق لَا يكون حكما، إِذْ التَّعَلُّق حَادث عِنْد الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، فَيكون مجَازًا، وَلَا يضر وُقُوعه فِي التَّعْرِيف، إِذا دلّت عَلَيْهِ الْقَرَائِن عِنْد الْغَزالِيّ، والقرافي، كَمَا تقدم.
وَإِن قيل: التَّعَلُّق قديم، وَاخْتَارَهُ / الرَّازِيّ فِي الْقيَاس، والسبكي، أَو قُلْنَا: لَهُ اعتباران، قبل وجوب التَّكْلِيف وَبعده، كَمَا قَالَه جمع مِنْهُم، فَلَا مجَاز فِي التَّعْرِيف.
وَالْمرَاد بِفعل الْمُكَلف: الْأَعَمّ من القَوْل [والاعتقاد] ، لتدخل عقائد الدّين والنيات فِي الْعِبَادَات، وَالْمَقْصُود: عِنْد اعْتِبَارهَا، وَنَحْو ذَلِك.
وَقُلْنَا: الْمُكَلف بِالْإِفْرَادِ -، ليشْمل مَا تعلق بِفعل الْوَاحِد: كخصائص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وكالحكم بِشَهَادَة

(2/795)


خُزَيْمَة، وإجزاء العناق فِي الْأُضْحِية لأبي بردة، وَقد ثَبت ذَلِك لغيره أَيْضا -، كزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، وَعقبَة بن عَامر.

(2/796)


الْجُهَنِيّ، ذكره فِي " حَيَاة الْحَيَوَان "، والبرماوي.
وَالْمرَاد بالمكلف: الْبَالِغ الْعَاقِل الذاكر غير الملجأ، لَا من تعلق بِهِ التَّكْلِيف، وَإِلَّا لزم الدّور، إِذْ لَا يكون مُكَلّفا حَتَّى يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف، وَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف إِلَّا بمكلف. قَوْله: {وَقيل: النَّاس} ، أَي: الْمُتَعَلّق بِفعل النَّاس أَو الْعباد. وَقيل: وَهَذَا أولى؛ ليدْخل إِتْلَاف غير الْمُكَلف.
وَقيل: أُرِيد وليه. قَالَ الكوراني: (اعْترض أَن الْحَد غير منعكس لخُرُوج الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِفعل الصَّبِي.

(2/797)


وَالْجَوَاب: أَن الْأَحْكَام الَّتِي يتَوَهَّم تعلقهَا بِفعل الصَّبِي إِنَّمَا هِيَ مُتَعَلقَة بِفعل الْوَلِيّ، وَهُوَ الْمَأْمُور، وَهُوَ الآثم بِتَرْكِهَا، المثاب على فعلهَا) انْتهى.
قلت: وَكَذَا الْمَجْنُون كالصغير.
قَوْله: {باقتضاء أَو تَخْيِير) } .
يخرج بهما مَا تعلق بِفعل الْمُكَلف على جِهَة الْإِخْبَار، نَحْو: {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمر "؛ فَإِنَّهُ [إِخْبَار بِخلق] الْعَمَل، لَا أنشأ مُتَعَلق بِالْعَمَلِ اقْتِضَاء أَو تخييراً؛ لِأَن الِاقْتِضَاء: هُوَ الطّلب للْفِعْل جزما، أَو غير جزم، أَو التّرْك جزما، أَو غير جزم، بنهي مَقْصُود أَو غَيره، [والتخيير: الْإِبَاحَة] ،

(2/798)


فَتدخل الْأَحْكَام كلهَا، لَكِن كَون الْإِبَاحَة [حكما شَرْعِيًّا] ، فِيهِ خلاف يَأْتِي محرراً إِن شَاءَ الله.
فَإِن قُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَلَا حَاجَة إِلَى قَوْلنَا: (أَو تَخْيِير) ، وَإِلَّا فَلَا بُد من الْإِتْيَان بهَا، لِأَنَّهَا حكم شَرْعِي.
وَعبر السُّبْكِيّ " الْكَبِير " عَن هَذَا الْقَيْد بقوله: (على جِهَة الْإِنْشَاء) ، ليتخلص / من وُقُوع " أَو " فِي التَّعْرِيف، لِأَنَّهَا لأحد الشَّيْئَيْنِ، وَذَلِكَ منَاف للْبَيَان.
لَكِن " أَو " هُنَا إِنَّمَا هِيَ للتقسيم، فَلَا ترديد فِيهَا، بل يتَرَجَّح التَّعْيِين لإفادته تنوع الحكم، وسلامته من إِبْهَام لفظ " الْإِنْشَاء " لِأَن لَهُ مَعَاني لَا يدرى مَا المُرَاد مِنْهَا؟
وَاعْترض: شَرط الْحَد وجوده فِي كل فَرد من [الْمَحْدُود] ، وَلَا يُوجد فِي التَّقْسِيم، لِأَنَّهُ وضع لمعْرِفَة الكليات بِوَاسِطَة الجزيئات، وَسمي استقراء، والتحديد وضع بِالْعَكْسِ، وَسمي برهاناً، وليسا بَابا وَاحِدًا ,
رد: الترديد فِي أَقسَام الْمَحْدُود لَا فِي الْحَد، فَلَا يضر.
وَأورد: خطابه قديم، وَحكمه حَادث، لوصفه بِهِ.
رد: لَا يلْزم من يَقُول: يتَكَلَّم إِذا شَاءَ، ثمَّ الْحَادِث [التَّعَلُّق] ،

(2/799)


وَالْحكم مُتَعَلق بِفعل العَبْد لَا صفته، كالقول بمعدوم، وَالْفِعْل يعرف الحكم، كالعالم للصانع، وَلِهَذَا سمي عَالما. قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره.
قَوْله: {وَقَالَ الرَّازِيّ: أَو [الْوَضع] } .
لما لم يكن الْحَد جَامعا لخُرُوج مَا خرج بخطاب الْوَضع، نَحْو: كَون الشَّيْء دَلِيلا على شَيْء، كزوال الشَّمْس على وجوب الصَّلَاة، أَو سَببا: كَالزِّنَا لوُجُوب الْحَد، أَو شرطا: كَالْوضُوءِ لصِحَّة الصَّلَاة، أَو مَانِعا: كالنجاسة لإفساد الصَّلَاة، أَو البيع لكَونه صَحِيحا أَو فَاسِدا وَنَحْوه، زيد: (أَو الْوَضع) ؛ لكَونه حكما شَرْعِيًّا لِأَنَّهُ لَا يعلم إِلَّا بِوَضْع الشَّرْع، فَكَأَن الشَّارِع أنشأه، وعَلى هَذَا لَا يَسْتَقِيم تَعْرِيف الحكم حَتَّى يُزَاد فِيهِ: (أَو الْوَضع) ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْن الْحَاجِب بقوله: (فزيد " أَو الْوَضع " فاستقام) .
فَرَأى الْفَخر الرَّازِيّ إِدْخَاله فِي خطاب التَّكْلِيف لِأَن معنى كَون الشَّيْء شرطا: حُرْمَة الْمَشْرُوط بِدُونِ شَرط، نَقله ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " عَنهُ.

(2/800)


قَالَ الكوراني: (أَحْكَام الْوَضع رَاجِعَة إِلَى التَّكْلِيف، فالتكليفي قِسْمَانِ: صَرِيح، وضمني، فأحكام الْوَضع من قبيل الضمني، إِذْ معنى سَبَبِيَّة الدلوك: وجوب / الصَّلَاة عِنْد الدلوك) انْتهى.
وَلذَلِك قيل: (هُوَ دَاخل تَحت الِاقْتِضَاء والتخيير، فَلَا معنى لكَون الدلوك سَببا، إِلَّا وجوب الصَّلَاة، وَلَا لكَون الطَّهَارَة شرطا، إِلَّا إِبَاحَة الْإِقْدَام عِنْد وجودهَا، وَلَا [لصِحَّة] البيع، إِلَّا إِبَاحَة الِانْتِفَاع، وَنَحْو ذَلِك.
فَهُوَ دَاخل بالاستلزام، بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْمَقْصُود مِنْهُ، لَا أَنه مِنْهُمَا حَقِيقَة وَلَيْسَ تَحت هَذَا الِاخْتِلَاف كَبِير فَائِدَة.
وعَلى كل حَال، خطاب الْوَضع يتَعَلَّق بِفعل الْمُكَلف، وَفعل غير الْمُكَلف، وَلِهَذَا تجب الزَّكَاة فِي مَال الصَّغِير وَالْمَجْنُون، وَلَا يكون إِلَّا إِخْبَارًا، وخطاب التَّكْلِيف لَا يتَعَلَّق إِلَّا بِفعل الْمُكَلّفين، وَلَا يكون إِلَّا إنْشَاء) .
{وَقَالَ الْآمِدِيّ: خطابه بفائدة شَرْعِيَّة تخْتَص بِهِ، أَي: لَا [تفهم] إِلَّا مِنْهُ} .
لِأَنَّهُ إنْشَاء لَا خَارج لَهُ يفهم مِنْهُ، ليخرج مثل: {غلبت الرّوم} [الرّوم: 2] ، لجَوَاز فهمه من خَارج، قَالَه ابْن حمدَان، وَهُوَ دور وتعريف بالأخفى.

(2/801)


قَالَ الْعَضُد: (قَالَ الْآمِدِيّ: " الحكم: خطاب الشَّارِع بفائدة شَرْعِيَّة "، فَخرج خطابه بغَيْرهَا، كالإخبار بالمحسوسات والمعقولات.
قَالَ فِي " الْمُنْتَهى ": (إِن فسر أَي: الْفَائِدَة الشَّرْعِيَّة بمتعلق الحكم فدور، وَإِن سلم فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ أَي: فِي اللَّفْظ وَإِلَّا ورد على [طرده] الْإِخْبَار بِمَا لَا يُحْصى من المغيبات، فزيد: " تخْتَص بِهِ "، أَي: لَا تحصل إِلَّا بالاطلاع عَلَيْهِ، وَلَا دور، لِأَن حُصُول الشَّيْء غير تصَوره، وَهَذَا حكم إنشائي، إِذْ لَيْسَ لَهُ خارجي) .
وَاعْلَم أَن لَهُ أَن يُفَسِّرهَا بتحصيل مَا حُصُولهَا بِالشَّرْعِ دون مَا هُوَ حَاصِل، ورد الشَّرْع بِهِ أم لَا، لكنه يعلم بِالشَّرْعِ، وَحِينَئِذٍ يكون كَمَا قَالَ) انْتهى. { [وَقيل] } : الحكم {تعلق الْخطاب بالأفعال} .
قَالَ بعض الْأَصْحَاب: يلْزمه: أَنه عدمي، لِأَن التَّعَلُّق أَمر عدمي.
قَوْله: {وَالْخطاب: قَول يفهم مِنْهُ من سَمعه شَيْئا مُفِيدا} مُطلقًا.

(2/802)


فَالْقَوْل؛ احْتَرز بِهِ عَن الإشارات والحركات المفهمة.
وَخرج بِقَيْد (الْفَهم) : من لَا يفهم كالصغير وَالْمَجْنُون، إِذْ لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ خطاب.
وَقَوله: (من سَمعه) ، ليعم المواجهة بِالْخِطَابِ وَغَيره، وليخرج النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ وَنَحْوهمَا. / وَخرج بقوله: (مُفِيدا) : المهمل.
وَقَوله: (مُطلقًا) ، ليعم حَالَة قصد إفهام السَّامع وَعدمهَا.
{وَقيل} : لابد { [من] قصد إفهامه} ، فَحَيْثُ لم يقْصد إفهامه لَا يُسمى خطابا. {زَاد بَعضهم: من متهيئ للفهم} .
قَالَ الكوراني: (الْخطاب: تَوْجِيه الْكَلَام نَحْو الْغَيْر للإفهام، أَو للْغَيْر المتهيء للفهم، عبارتان) .
قَوْله: {وَيخرج [على ذَلِك] : هَل يُسمى الْكَلَام فِي الْأَزَل خطابا؟} .

(2/803)


قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما حكى الْخلاف الْمُتَقَدّم -: (يخرج على ذَلِك: هَل يُسمى الْكَلَام فِي الْأَزَل خطابا؟
وَلقَائِل أَن يَقُول: إِنَّمَا يَصح هَذَا على قدر الْكَلَام الَّذِي هُوَ القَوْل) انْتهى.
قلت: وَهَذَا الَّذِي قَالَه يتَوَجَّه.
فَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ { [الأشعريٍ] ، والقشيري} : أَنه {يُسمى} فِي الْأَزَل طاباً.
{و} الَّذِي ذهب إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو بكر {الباقلاني، والآمدي} : أَنه {لَا} يُسمى خطابا، لعدم الْمُخَاطب حِينَئِذٍ، بِخِلَاف تَسْمِيَته فِي الْأَزَل أمرا ونهياً وَنَحْوهمَا، لِأَن مثله يقوم بِذَات الْمُتَكَلّم بِدُونِ من يتَعَلَّق بِهِ، كَمَا يُقَال فِي الْوَصِيّ: أَمر فِي وَصيته وَنهى، وَلَا يُقَال: خَاطب.
وَهَذَا جَار على رَأْي الأشعرية فِي الْكَلَام على مَا يَأْتِي تحريره.
وعَلى هَذَا التَّعْلِيل يَنْبَغِي التَّعْبِير بالْكلَام لَا بِالْخِطَابِ.

(2/804)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَذهب عبد الله بن سعيد والقلانسي من أَصْحَابنَا إِلَى أَنه لَا يُسمى فِي الْأَزَل أمرا وَلَا نهيا وَلَا خَبرا حَتَّى يُوجد الْمَأْمُور والمنهي والمخبر) انْتهى.
قَالَ الكوراني فِي أصل الْمَسْأَلَة -: (اخْتلف فِي أَن الْكَلَام فِي الْأَزَل، أَي: الْمَعْنى الْقَدِيم الْقَائِم بِذَاتِهِ، هَل يُسمى خطابا أم لَا؟ وَهَذَا بحث لَفْظِي، إِذْ هُوَ مَبْنِيّ على تَفْسِير الْخطاب، فَمن فسر الْخطاب بتوجيه الْكَلَام نَحْو الْغَيْر للإفهام، يُسَمِّيه خطابا، وَمن فسره بالْكلَام الموجه نَحْو المتهيئ للإفهام فَلَا، لِأَن حَاصِل الْمَعْنى الأول: أَنه الَّذِي شَأْنه أَن يفهم فِي الْجُمْلَة، وَحَاصِل الثَّانِي: أَنه الَّذِي أفهم بِالْفِعْلِ، إِذْ اسْم الْفَاعِل حَقِيقَة فِي الْحَال، [فَيلْزم] أَن يكون فِي الْأَزَل مفهماً بِالْفِعْلِ، وَهِي محَال) انْتهى.
قَوْله: {وَعند الْمُعْتَزلَة: الحكم [الشَّرْعِيّ] : صفة للْفِعْل الْمَحْكُوم بِأَنَّهُ حَلَال أَو حرَام أَو وَاجِب} .
وَهُوَ الْوُجُوب وَالْحُرْمَة والحل، الَّذِي هُوَ مُوجب الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم والإحلال وَمُقْتَضَاهُ. /

(2/805)


فَالْحكم صفة ثَابِتَة للْفِعْل، وَالشَّرْع كشفه، كَمَا يَقُولُونَ فِي الحكم الْعقلِيّ: إِن الْعقل كشفه، فَعرف مَا هُوَ حسن فِي نَفسه وقبيح فِي نَفسه.
{وَقَالَ الشَّيْخ [تَقِيّ الدّين] : (الحكم الشَّرْعِيّ يتَنَاوَل الْخطاب وَصفَة الْفِعْل. قَالَ: وَهُوَ قَول السّلف [وَالْجُمْهُور] فَيتَنَاوَل [وَصفه] الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، وَهُوَ الْفِعْل، و [يتَنَاوَل] العَبْد، والأعيان الَّتِي أَمر بتعظيمها أَو إهانتها} .
فوصف الْأَعْيَان بِأَنَّهَا رِجْس، وَإِن كَانَ فِيهَا وصف قبح قبل التَّحْرِيم، فَالَّذِي اتّصف بِهِ بِالتَّحْرِيمِ لم يكن ثَابتا قبل ذَلِك) انْتهى. وَالله أعلم.
{و} قَالَ ابْن حمدَان {فِي " الْمقنع ": ( [و] اسْتِصْحَاب بَرَاءَة الذِّمَّة [حكم شَرْعِي بِلَا خطاب] ، و [كَذَا] الْعرف وَالْعَادَة) } انْتهى.
قلت: بل هُوَ حكم شَرْعِي مَأْخُوذ من خطاب الشَّرْع، إِذْ لَوْلَا خطاب الشَّرْع مَا عرفنَا ذَلِك، وَلَا اهتدينا إِلَيْهِ، وَلَا حكمنَا بِهِ.
قَوْله: {ثمَّ الْخطاب ... إِلَى آخِره} .

(2/806)


هَذَا تَقْسِيم للْحكم، وكونهم جعلُوا مورد الْقِسْمَة الْخطاب لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ، وَقد تقدم فِي أول الحكم الشَّرْعِيّ تَحْرِير ذَلِك.
إِذا علم ذَلِك؛ فتقرير ذَلِك: أَن خطاب الشَّرْع إِمَّا أَن يرد باقتضاء الْفِعْل، أَو باقتضاء التّرْك، أَو بالتخيير بَين الْفِعْل وَالتّرْك.
فَإِن ورد باقتضاء الْفِعْل فَهُوَ إِمَّا مَعَ الْجَزْم، أَو لَا، فَإِن كَانَ اقتضاؤه الْفِعْل مَعَ الْجَزْم، وَهُوَ الْقطع الْمُقْتَضِي للوعيد على التّرْك، فَهُوَ الْإِيجَاب، نَحْو: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وءاتوا الزَّكَاة} [الْبَقَرَة: 43، والمزمل: 20] .
وَإِن لم يكن اقْتِضَاء الْفِعْل مَعَ الْجَزْم فَهُوَ النّدب، نَحْو {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [الْبَقَرَة: 282] ، {فَإِن ءانستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} إِلَى قَوْله {فأشهدوا عَلَيْهِم} [النِّسَاء: 6] ، فالإشهاد عَلَيْهِم مَنْدُوب، وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " استاكوا ".

(2/807)


وَإِن وجد الْخطاب باقتضاء التّرْك، فَهُوَ إِمَّا مَعَ الْجَزْم الْمُقْتَضِي للوعيد على الْفِعْل، فَهُوَ التَّحْرِيم، نَحْو: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمرَان: 130] ، {وَلَا تقربُوا الزِّنَى} [الْإِسْرَاء: 32] ، أَو لَا مَعَ الْجَزْم فَهُوَ الْكَرَاهَة، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فَأحْسن وضوءه، ثمَّ خرج عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِد فَلَا يشبك بَين أَصَابِعه فَإِنَّهُ فِي / صَلَاة " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْن

(2/808)


مَاجَه، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يمسك ذكره وَهُوَ يَبُول ".
وَإِن ورد الْخطاب بالتخيير فَهُوَ الْإِبَاحَة، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين سُئِلَ عَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم: " إِن شِئْت فَتَوَضَّأ وَإِن شِئْت فَلَا تتوضأ ".

(2/809)


فَائِدَة: أَدِلَّة الْأَحْكَام لَا تتقيد استفادتها من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي، بل تكون بِنَصّ، أَو إِجْمَاع، أَو قِيَاس.
وَالنَّص إِمَّا أَن يكون أمرا، أَو نهيا، أَو إِذْنا، أَو خَبرا بمعناها، أَو إِخْبَارًا بالحكم، نَحْو: {كتب عَلَيْكُم الصّيام} [الْبَقَرَة: 183] ، {وَإِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} [النِّسَاء: 58] " إِ ن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ "، {أحل لكم صيد الْبَحْر} [الْمَائِدَة: 96] ، أَو بِذكر خَاصَّة لأَحَدهمَا، كوعيد على فعل شَيْء أَو تَركه، أَو وعد على فعل شَيْء أَو تَركه، وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {وَإِلَّا فوضعي} .
يَعْنِي: إِذا لم يرد الْخطاب مثل هَذِه الصِّيَغ الْمُتَقَدّمَة فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة، يكون وضعياً، أَي: من خطاب الْوَضع الْآتِي أَحْكَامه، لَا من خطاب التَّكْلِيف، كالصحة، وَالْفساد، وَنصب الشَّيْء سَببا، أَو مَانِعا، أَو شرطا، وَكَون الْفِعْل أَدَاء أَو قَضَاء، ورخصة أَو عَزِيمَة، وَهُوَ وَاضح.
فَائِدَة: قد يجْتَمع خطاب الشَّرْع وخطاب الْوَضع فِي شَيْء وَاحِد: كَالزِّنَا فَإِنَّهُ حرَام وَسبب للحد، وَقد ينْفَرد خطاب الْوَضع: كأوقات

(2/810)


الصَّلَوَات، وطلوع الْهلَال، سَبَب وجوب الصَّلَاة، وَوُجُوب صَوْم رَمَضَان وَصَلَاة الْعِيد والنسك، وَالْحيض مَانع من الصَّلَاة وَالصَّوْم وَنَحْوهمَا، وَالْبُلُوغ شَرط لوجوبهما، وحولان الْحول شَرط لوُجُوب الزَّكَاة، وَقد ينْفَرد خطاب التَّكْلِيف كَصَلَاة الظّهْر مثلا.
قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " الفروق ": (وَهُوَ كأداء الْوَاجِبَات وَاجْتنَاب الْمُحرمَات، وَإِن كَانَ صَاحب الشَّرْع جعلهَا سَببا لبراءة الذِّمَّة وترتيب الثَّوَاب ودرء الْعقَاب) .
وَقَالَ فِي " شرح التَّنْقِيح ": (لَا يتَصَوَّر انْفِرَاد خطاب التَّكْلِيف عَن خطاب الْوَضع، إِذْ لَا تَكْلِيف إِلَّا لَهُ سَبَب أَو شَرط أَو مَانع) .
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (وَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ) .
وَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَوْله: {فَائِدَة: الْمَشْكُوك، [قيل] : لَيْسَ بِحكم ... . . إِلَى آخِره} . لما ذكر ابْن عقيل تَفْصِيل الْخطاب وأقسامه زَاد على ذَلِك فَقَالَ: (الْمَشْكُوك، قيل: لَيْسَ بِحكم، وَهُوَ الصَّحِيح، والشاك لَا مَذْهَب لَهُ؛

(2/811)


وَقيل: حكم، كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد فِي رِوَايَة فِي الْحمار.
{وَالْوَقْف} قيل: {مَذْهَب} ، وَهُوَ أصح؛ لِأَنَّهُ يُفْتِي بِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ.
قلت: وَهَذَا الْمَعْمُول بِهِ عِنْد الْعلمَاء.
{وَقيل: لَا) } .

(2/812)


قَوْله: { [فصل] }

{الْوَاجِب ... إِلَى آخر) } .
لما انْتهى الْكَلَام فِي تَعْرِيف الحكم وتقسيمه إِلَى خَمْسَة، أَخذنَا نبين تَعْرِيف كل وَاحِد مِنْهَا، وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْمسَائِل وَالْأَحْكَام.

(2/813)


ونشير قبل ذَلِك إِلَى حُدُودهَا المستفادة من طَرِيق تقسيمها؛ فَنَقُول: الْفِعْل الْوَاجِب: مَا اقْتضى الشَّرْع فعله اقْتِضَاء جَازِمًا.
وَالْمَنْدُوب: مَا اقْتضى فعله اقْتِضَاء غير جازم.
وَالْحرَام: مَا اقْتضى الشَّرْع تَركه اقْتِضَاء جَازِمًا.
وَالْمَكْرُوه: مَا اقْتضى تَركه اقْتِضَاء غير جازم.
والمباح: مَا اقْتضى الشَّرْع التَّخْيِير فِيهِ.
وَهَذِه الْأَشْيَاء هِيَ محَال الْأَحْكَام ومتعلقاتها، وَأما الْأَحْكَام نَفسهَا فَهِيَ: الْإِيجَاب، وَالتَّحْرِيم، وَالنَّدْب، وَالْكَرَاهَة، وَالْإِبَاحَة، وَقد تقدّمت الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (الْوُجُوب فِي الِاصْطِلَاح: خطاب بِطَلَب فعل ... . إِلَى آخِره، وَالْوَاجِب: هُوَ الْفِعْل الْمُتَعَلّق للْوُجُوب، فَهُوَ فعل يتَعَلَّق بِهِ خطاب بِطَلَب) .
إِذا علم ذَلِك؛ فَلهم فِي حد الْوَاجِب حُدُود كَثِيرَة، قل أَن تسلم من خدش، اقتصرنا على أولاها فِيمَا ظهر لنا، فَنَذْكُر غَيره أَولا تكميلاً للفائدة، ثمَّ نذْكر ذَلِك.

(2/814)


أَحدهَا: أَن الْوَاجِب {مَا يُعَاقب تَاركه} .
ورد ذَلِك: بِجَوَاز الْعَفو.
وَجه الرَّد: هُوَ أَن قَوْلهم: الْوَاجِب مَا يُعَاقب تَاركه، يَقْتَضِي [أَن] كل وَاجِب فَإِن تَاركه يُعَاقب، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك؛ لجَوَاز أَن يعْفُو الله تَعَالَى عَنهُ، أَو أَو يسْقط الْعقَاب بتوبة أَو اسْتِغْفَار أَو دُعَاء دَاع، وَبِالْجُمْلَةِ فَترك الْوَاجِب وَفعل الْمَحْظُور سَبَب للعقاب، غير أَن الحكم يجوز تخلفه عَن سَببه لمَانع، أَو انْتِفَاء شَرط، أَو معَارض مقاوم، أَو رَاجِح، وَإِذا جَازَ الْعَفو عَن ترك الْوَاجِب، اقْتضى الْحَد الْمَذْكُور أَن لَا يكون هَذَا الْوَاجِب الْمَتْرُوك وَاجِبا، لِأَن تَاركه لم يُعَاقب، فَانْتقضَ الْحَد.
مِثَاله: لَو ترك الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة، ثمَّ تخلف الْعقَاب عَنهُ لسَبَب، لزم بِمُقْتَضى الْحَد أَن لَا تكون الْمَكْتُوبَة وَاجِبَة، وَهُوَ بَاطِل، وَهَذَا النَّقْض من حَيْثُ الْعَكْس، وَهُوَ قَوْلنَا: كل مَا لم يُعَاقب على تَركه فَلَيْسَ بِوَاجِب، فَيبْطل بِمَا ذكرنَا.

(2/815)


وَيرد عَلَيْهِ من حَيْثُ الطَّرْد ضرب ابْن عشر على ترك الصَّلَاة، [إِذْ] الصَّلَاة فعل عُوقِبَ تَاركه، وَلَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ على الْمَذْهَب، وَكَذَلِكَ كل مَا أدب الصَّغِير على تَركه هُوَ معاقب عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ.
{ [الثَّانِي] } : أَن الْوَاجِب {مَا توعد على تَركه بالعقاب} .
وَهُوَ أَعم من الَّذِي قبله، لِأَن كل معاقب على تَركه متوعد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كل متوعد عَلَيْهِ بالعقاب معاقباً [عَلَيْهِ] لجَوَاز الْعَفو بعد الْوَعيد.
وَنقض عَكسه: بِصدق إيعاد الله تَعَالَى.
وَمَعْنَاهُ: أَن الْوَعيد من الله تَعَالَى يسْتَلْزم الْعقَاب، لِأَن الْوَعيد خبر، وَخبر الله تَعَالَى صَادِق لابد من وُقُوع مخبره، وَإِذا لزم وُقُوع مُقْتَضى الْوَعيد صَار هَذَا التَّعْرِيف كَالَّذي قبله.

(2/816)


لَكِن لَيْسَ هَذَا وارداً على أصل أهل السّنة، لأَنهم يَقُولُونَ: يجوز الْعَفو عَن أهل الْكَبَائِر من هَذِه الْأمة وَإِن لم يتب مِنْهَا لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: لجَوَاز إِيقَاع الْوَعيد بِالْمَشِيئَةِ، مثل أَن يَقُول: صل فَإِن تركت الصَّلَاة عاقبتك إِن شِئْت، فَإِذا تَركهَا بَقِي فِي مَشِيئَة الله، إِن شَاءَ عاقبه بِمُقْتَضى الْوَعيد، وَإِن شَاءَ عفى عَنهُ بِمُقْتَضى الرَّحْمَة والجود وَالْكَرم، دلّ على ذَلِك الْكتاب، وَالسّنة، وَإِذا جَازَ إِيقَاع الْوَعيد بِالْمَشِيئَةِ، لم يلْزم من صدق الإيعاد وُقُوع مُقْتَضَاهُ من الْعقَاب.
الثَّانِي: أَن إخلاف الْوَعيد من الْكَرم شَاهدا، أَي: فِيمَا يُشَاهد من أَحْوَال الْعُقَلَاء، فَلَا يقبح غَائِبا، أَي: فِي حق الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ غَائِب عَن الْأَبْصَار، وَإِن كَانَ شَاهدا لخلقه.
أما أَن إخلاف الْوَعيد من الْكَرم فِي الشَّاهِد فلإجماع الْعُقَلَاء على حسن الْعَفو، وَبِالْجُمْلَةِ، فَترك الْوَعيد إِلَى الْعَفو حسن مجمع عَلَيْهِ فِي عرف النَّاس.

(2/817)


وَرَأَيْت كثيرا من الشَّافِعِيَّة كالغزالي وَغَيره يَقُولُونَ: خلف الْوَعيد من الله تَعَالَى محَال، وَعند الْمُعْتَزلَة: أَن الْعَفو عَن فَاعل الْكَبِيرَة مَا لم يتب محَال، وَأَنه مخلد فِي النَّار.
{ [الثَّالِث] } من الْحُدُود: {مَا يذم تَاركه شرعا} ، قَالَه ابْن الباقلاني، وَبَعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، {وَزَاد [ابْن] الباقلاني: (بِوَجْه مَا) ، ليدْخل الموسع وَفرض الْكِفَايَة.

(2/818)


وَنقض [طرده] } بالنائم، وَالنَّاسِي، وَالْمُسَافر، فَإِنَّهُ يذم بِتَقْدِير ترك الْجَمِيع.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (المُرَاد بالذم شرعا: نَص الشَّارِع بِهِ أَو بدليله، وَذَلِكَ أَنه لَا وجوب إِلَّا بِالشَّرْعِ.
وَقَالَ: (بِوَجْه مَا) ، ليدْخل من الْوَاجِبَات مَا لَا يذم تَاركه كَيْفَمَا تَركه، بل يذم تَاركه بِوَجْه دون وَجه، وَهُوَ الموسع، فَإِنَّهُ يذم تَاركه إِذا تَركه فِي جَمِيع وقته، وَلَو تَركه فِي بعض وَفعله فِي بعض لم يذم، وَكَذَا فرض الْكِفَايَة، فَإِنَّهُ يذم تَاركه إِذا لم يقم بِهِ غَيره فِي ظَنّه.
وَبِهَذَا الْقَيْد حَافظ على عَكسه، فَلم يخرج عَن الْحَد مَا هُوَ من الْمَحْدُود، أَعنِي: الموسع والكفاية، لكنه أخل بطرده، فَدخل فِيهِ مَا لَيْسَ من الْمَحْدُود، وَهُوَ صَلَاة النَّائِم وَالنَّاسِي وَصَوْم الْمُسَافِر، فَإِنَّهُ يذم تَاركه بِتَقْدِير انْتِفَاء الْعذر.
فَإِن قَالَ: لَا نسلم أَن هَذِه غير وَاجِبَة، وَسقط الْوُجُوب فِيهَا بالعذر.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ فِي الْكِفَايَة، [يُقَال] : يذم بِتَرْكِهِ شرعا، أَي: يجب الذَّم، لكنه يسْقط وجوب الذَّم بِفعل الْبَعْض الآخر، وَإِذا اعتددت بِالْوُجُوب السَّاقِط فِي الْفِعْل، فَلم تَعْتَد بِالْوُجُوب السَّاقِط فِي الذَّم، فَلَا يكون إِلَى قَوْله: (بِوَجْه مَا) ، حَاجَة، وَكَذَلِكَ الموسع) انْتهى.

(2/819)


{الرَّابِع} من الْحُدُود {مَا يخَاف الْعقَاب بِتَرْكِهِ} .
وَهُوَ مَرْدُود بِمَا يشك فِي وُجُوبه وَلَا يكون وَاجِبا فِي نَفسه، فَإِنَّهُ يخَاف الْعقَاب على تَركه، فَيبْطل تَركه.
{الْخَامِس} : - وَهُوَ الَّذِي قُلْنَا: إِنَّه أولى الْحُدُود { [مَا ذمّ شرعا تَاركه] قصدا مُطلقًا} ، وَهُوَ [للبيضاوي] ، وَنَقله فِي " الْمَحْصُول " عَن الباقلاني، وَقَالَ فِي " الْمُنْتَخب ": (إِنَّه الصَّحِيح من الرسوم، لَكِن فِيهِ نقص تَعْبِير، وَتَبعهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " {وَلم يقل: قصدا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد حد ابْن الباقلاني -: (فَلَو قيل: مَا ذمّ تَاركه شرعا قصدا مُطلقًا، صَحَّ) .
فقولنا: (مَا ذمّ) ، هُوَ خير من قَوْلنَا: (مَا يُعَاقب تَاركه) ، لجَوَاز الْعَفو،

(2/820)


وَمن قَوْلنَا: (مَا يتوعد بالعقاب على تَركه) ، لما فِيهِ كَمَا تقدم، وَمن قَوْلنَا: (مَا يخَاف الْعقَاب على تَركه) ، لأجل الْمَشْكُوك فِي وُجُوبه كَمَا تقدم.
واحترزنا بِهِ عَن الْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه والمباح، لِأَنَّهُ لَا ذمّ فِيهَا.
وَالْمرَاد بذم تَاركه: أَن يرد فِي كَلَام الله تَعَالَى، [أَو سنة] رَسُوله، أَو إِجْمَاع الْأمة، مَا يدل على الذَّم.
وَقَوله: (شرعا) ، لِأَن الذَّم لَا يثبت إِلَّا بِالشَّرْعِ، خلاف مَا قالته الْمُعْتَزلَة.
وَقَوله: (تَاركه) ، احْتَرز بِهِ عَن الْحَرَام، فَإِنَّهُ يذم شرعا فَاعله.
وَقَوله " (قصدا) ، فِيهِ تقريران موقوفان على مُقَدّمَة، [وَهِي] : أَن هَذَا التَّعْرِيف إِنَّمَا هُوَ بالحيثية، أَي: الَّذِي بِحَيْثُ لَو ترك لذم تَاركه، إِذْ لَو لم يكن بالحيثية، لاقتضى أَن كل وَاجِب لابد من حُصُول الذَّم على

(2/821)


تَركه وَهُوَ بَاطِل.
إِذا علم ذَلِك؛ فأحد التقريرين: أَنه إِنَّمَا أَتَى بِالْقَصْدِ لِأَنَّهُ شَرط لصِحَّة هَذِه الْحَيْثِيَّة، إِذْ التارك لَا على سَبِيل الْقَصْد لَا يذم.
الثَّانِي: أَنه احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا مضى من الْوَقْت قدر فعل الصَّلَاة ثمَّ تَركهَا بنوم أَو نِسْيَان، وَقد تمكن، وَمَعَ ذَلِك لم يذم شرعا تاركها لِأَنَّهُ مَا تَركهَا قصدا، فَأتى بِهَذَا الْقَيْد لإدخال هَذَا الْوَاجِب فِي الْحَد، وَيصير بِهِ جَامعا.
وَلم يذكر فِي " الْمَحْصُول "، و " الْمُنْتَخب "، و " التَّحْصِيل "، و " الْحَاصِل "، والطوفي، هَذَا الْقَيْد.
وَقَوله: مُطلقًا، فِيهِ تقريران أَيْضا موقوفان على مُقَدّمَة، وَهِي: أَن الْإِيجَاب بِاعْتِبَار الْفَاعِل قد يكون على الْكِفَايَة، وعَلى الْعين.
وَبِاعْتِبَار الْمَفْعُول قد يكون مُخَيّرا، كخصال الْكَفَّارَة، وَقد يكون [محتماً: كَالصَّلَاةِ.
وَبِاعْتِبَار الْوَقْت الْمَفْعُول فِيهِ قد يكون موسعاً: كَالصَّلَاةِ، وَقد يكون] مضيقاً: كَالصَّوْمِ.

(2/822)


فَإِذا ترك الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا صدق أَنه ترك وَاجِبا، إِذْ الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت، وَمَعَ ذَلِك لَا يذم عَلَيْهَا إِذا أَتَى بهَا فِي أثْنَاء الْوَقْت، ويذم إِذا أخرجهَا عَن جَمِيعه.
وَإِذا ترك [إِحْدَى] خِصَال الْكَفَّارَة، [فقد] ترك مَا يصدق عَلَيْهِ [أَنه وَاجِب، مَعَ] أَنه لَا ذمّ فِيهِ إِذا أَتَى بِغَيْرِهِ.
وَإِذا ترك صَلَاة جَنَازَة فقد ترك مَا صدق عَلَيْهِ أَنه وَاجِب عَلَيْهِ وَلَا يذم عَلَيْهِ إِذا فعله غَيره.
إِذا علم ذَلِك؛ فأحد التقريرين: أَن قَوْله: (مُطلقًا) ، عَائِد إِلَى الذَّم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد تلخص أَن الذَّم على الْوَاجِب الموسع والمخير وعَلى الْكِفَايَة من وَجه دون وَجه، والذم على الْوَاجِب الْمضيق والمحتم وَالْوَاجِب على الْعين من كل وَجه، فَلذَلِك قَالَ: (مُطلقًا) ، ليشْمل ذَلِك كُله بِشَرْط، وَلَو لم يذكر ذَلِك لورد عَلَيْهِ من ترك شَيْئا من ذَلِك.
والتقرير الثَّانِي: أَن (مُطلقًا) عَائِد إِلَى التّرْك، وَالتَّقْدِير: تركا مُطلقًا، ليدْخل الْمُخَير والموسع وَفرض الْكِفَايَة، فَإِنَّهُ إِذا ترك فرض الْكِفَايَة لَا يَأْثَم، وَإِن صدق أَنه ترك وَاجِبا، وَكَذَلِكَ الْآتِي بِهِ آتٍ بِالْوَاجِبِ، مَعَ أَنه لَو تَركه لم يَأْثَم، وَإِنَّمَا يَأْثَم إِذا حصل التّرْك الْمُطلق مِنْهُ وَمن غَيره، وَهَكَذَا فِي الْوَاجِب الْمُخَير والموسع، وَدخل فِيهِ أَيْضا الْوَاجِب المحتم والمضيق وَفرض الْعين، لِأَن كل مَا ذمّ الشَّخْص عَلَيْهِ إِذا تَركه وَحده، ذمّ عَلَيْهِ أَيْضا إِذا تَركه هُوَ وَغَيره.

(2/823)


فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحَد أجمع وَأَمْنَع من غَيره كَمَا ترى قُلْنَا: هُوَ أولى من غَيره.
{ [السَّادِس: لِابْنِ عقيل] } ، فَإِنَّهُ حَده بِأَنَّهُ: {إِلْزَام الشَّرْع} ، وَقَالَ: (الثَّوَاب وَالْعِقَاب أَحْكَامه ومتعلقاته، فحده بِهِ يأباه الْمُحَقِّقُونَ) ، وَهُوَ حسن.
قَوْله: { [فَائِدَة: من الْوَاجِب] مَا لَا يُثَاب على فعله، كَنَفَقَة وَاجِبَة، ورد وَدِيعَة وغصب [وعارية وَدين] إِذا فعله مَعَ غَفلَة، وَمن الْمحرم مَا لَا يُثَاب على تَركه: [كمحرم يخرج من عهدته بِمُجَرَّد التّرْك] ، قَالَه الْقَرَافِيّ، وَابْن حمدَان، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، [وَهُوَ من كَلَام أَصْحَابنَا] } .

(2/824)


قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، فِي بَاب الْوضُوء: (قَالَ القَاضِي فِي الْخلاف: مَا كَانَ طَاعَة لله فعبادة، قيل لَهُ: فقضاء الدّين ورد الْوَدِيعَة عبَادَة؟ فَقَالَ: كَذَا نقُول، قيل لَهُ: الْعِبَادَة مَا كَانَ من شَرطه النِّيَّة؟ فَقَالَ: إِذا لم يجز أَن يُقَال فِي الطَّاعَة لله والمأمور [بِهِ] هُوَ الَّذِي من شَرطه النِّيَّة، كَذَا لَا يجوز فِي الْعِبَادَة.
وَكَذَا قَالَ غَيره، يَعْنِي من الْأَصْحَاب) انْتهى كَلَامه فِي الْفُرُوع.
ورد الطوفي فِي " شَرحه " مَا قَالَه الْقَرَافِيّ وَقَالَ: (التَّحْقِيق أَن يُقَال: الْوَاجِب هُوَ الْمَأْمُور بِهِ جزما، [وَشرط] تَرْتِيب الثَّوَاب [عَلَيْهِ] نِيَّة التَّقَرُّب بِفِعْلِهِ، وَالْحرَام الْمنْهِي جزما، وَشرط تَرْتِيب الثَّوَاب على تَركه نِيَّة التَّقَرُّب، فترتيب الثَّوَاب وَعَدَمه فِي فعل الْوَاجِب وَترك الْمحرم وعدمهما رَاجع إِلَى وجود شَرط الثَّوَاب وَعَدَمه وَهُوَ النِّيَّة، لَا إِلَى انقسام الْوَاجِب وَالْحرَام فِي نفسهما) انْتهى.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الشَّرِيعَة مَأْمُور، ومنهي، ومباح، فالمنهي والمباح لَا يفتقران إِلَى نِيَّة، لِخُرُوجِهِ من الْعهْدَة بِمُجَرَّد التّرْك وَإِن لم يشْعر، لَكِن يحصل لَهُ ثَوَاب بِقصد الْقرْبَة بِتَرْكِهِ، وَلَا عُهْدَة فِي مُبَاح فَلَا يفْتَقر إِلَى نِيَّة.

(2/825)


[وَدفع الدُّيُون، ورد الغصوب، ونفقات الزَّوْجَات والأقارب، ورد الودائع، وَنَحْوه، وجود الْفِعْل فِيهِ كَاف فِي تَحْصِيل الْمصلحَة، فَإِذا وَقع بِغَيْر نِيَّة لَا يُقَال لَهُ: أعد الدّفع، لحُصُول الْمصلحَة بِمَا وَقع.
- قَالَ -: وَمن ذَلِك: النِّيَّة، فَإِنَّهَا مَأْمُور بهَا، ومقصودها التَّمْيِيز، وَهُوَ حَاصِل لذاتها، لَا يفْتَقر إِلَى نِيَّة] أُخْرَى تصيرها متميزة، لِاسْتِحَالَة وُقُوعهَا غير متميزة، وَلم تفْتَقر إِلَى النِّيَّة.
وَمن ذَلِك: النّظر الأول وَاجِب، مَعَ أَنه لَا يُمكن إِيقَاعه طَاعَة مَعَ أَن فَاعله لَا يعرف وُجُوبه عَلَيْهِ إِلَّا بعد إِتْيَانه بِهِ، وَالْعِبَادَة الْمَحْضَة مقصودها تَعْظِيم الله تَعَالَى، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون مَعَ الْقَصْد، فَلَا جرم لم تحصل مصالحها بِغَيْر نِيَّة. ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك -: تَنْبِيه: التَّصَرُّفَات ثَلَاثَة أَقسَام:
مِنْهَا: مَا لَا يُمكن إِلَّا أَن يقْصد بِهِ التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى، كالعبادة الْمَحْضَة.
وَمِنْهَا: مَا لَا يُمكن التَّقَرُّب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى، وَهُوَ النّظر الأول المفضي إِلَى إِثْبَات الْعلم بالصانع.
وَمِنْهَا: مَا يُمكن التَّقَرُّب بِهِ، كرد الْوَدِيعَة وَنَحْوهَا، وَكَذَا الْمُبَاحَات، كَقَوْل معَاذ: " أحتسب نومتي كَمَا أحتسب قومتي ") انْتهى.

(2/826)


وَهُوَ كَلَام حسن.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (قيل لأبي الْبَقَاء: الْإِسْلَام وَالنِّيَّة عبادتان وَلَا تفتقران إِلَى نِيَّة؟ فَقَالَ: الْإِسْلَام لَيْسَ بِعبَادة لصدوره من الْكَافِر وَلَيْسَ من أَهلهَا، سلمنَا، لَكِن للضَّرُورَة لِأَنَّهُ لَا يصدر إِلَّا من كَافِر، وَأما النِّيَّة فلقطع التسلسل) انْتهى.
قلت: يحْتَمل أَن يُقَال فِي إِسْلَام الْكَافِر: إِنَّه عبَادَة قطعا، لِأَنَّهُ بِقَصْدِهِ الْإِسْلَام قبل التَّلَفُّظ بِهِ قد بَقِي كَالْمُسلمِ، فَمَا حصل الْإِسْلَام إِلَّا وَهُوَ فِي حكم الْمُسلم، وَلِهَذَا وَالله أعلم لَو عزم الْكَافِر على الْإِسْلَام وصمم على التَّلَفُّظ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمنع من ذَلِك [قدر] أَنه مُسلم من أهل الْجنَّة، وَكَذَلِكَ - مثلا لَو كَانَ قد اعتقل لِسَانه عِنْد الْمَوْت وَنَحْوه، وَهَذَا وَاضح فِيمَا يظْهر.

(2/827)


قَوْله: { [فصل] }

{الْوَاجِب لُغَة: السَّاقِط وَالثَّابِت] } .
قَالَ الْجَوْهَرِي: (وَجب الشَّيْء: لزم، يجب وجوبا وأوجبه الله تَعَالَى، واستوجبه أَي: اسْتَحَقَّه. والوجبة: السقطة مَعَ الهدة.
وَوَجَب الْمَيِّت: إِذا سقط وَمَات) .
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (وَجب يجب وجبة: سقط، وَالشَّمْس وجباً ووجوباً: غَابَتْ، والوجبة: السقطة مَعَ الهدة، أَو صَوت السَّاقِط، والأكلة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، أَو أَكلَة فِي الْيَوْم إِلَى مثلهَا من الْغَد) .
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (وَجب البيع وَالْحق يجب وجوبا [وجبة] : لزم وَثَبت، وَوَجَبَت الشَّمْس وجوبا: غربت، وَوَجَب الْحَائِط وَنَحْوه: سقط، وَوَجَب الْقلب وجباً ووجيباً: رجف، واستوجبه: اسْتَحَقَّه، [وَأوجب البيع بِالْألف يُوجب] ، وأوجبت السّرقَة الْقطع) انْتهى.

(2/828)


وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (التَّحْقِيق فِي الْوُجُوب لُغَة: أَنه بِمَعْنى الثُّبُوت والاستقرار، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى ترجع فروع مادته، فَمَعْنَى: الشَّمْس وَجَبت: ثَبت غُرُوبهَا وَاسْتقر.
وَوَجَب الْمَيِّت: ثَبت مَوته وَاسْتقر.
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا وَجَبت جنوبها} [الْحَج: 36] ، أَي: ثبتَتْ [واستقرت] فِي الأَرْض.
وَوَجَب الْمهْر [وَالدّين] : ثَبت فِي مَحَله وَاسْتقر، إِلَى غير ذَلِك) انْتهى.
وَمِثَال الثُّبُوت: (أَسأَلك مُوجبَات رحمتك) .

(2/829)


وَتقدم الْخلاف فِي حَده شرعا.
وَقَوله: {وَالْفَرْض لُغَة: التَّقْدِير والتأثير، قَالَ ابْن عقيل: [والإنزال] وَالْإِبَاحَة} .
فمثال التَّقْدِير: {فَنصف مَا فرضتم} [الْبَقَرَة: 237] ، أَي قدرتم، وَمِنْه: {لأتخذن من عِبَادك نَصِيبا مَفْرُوضًا} [النِّسَاء: 118] ، أَي: مَعْلُوما، وَمِنْه: {سُورَة أنزلناها وفرضناها} [النُّور: 1] ، أَي: أَوجَبْنَا الْعَمَل بهَا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن} [الْقَصَص: 85] ، أَي: أوجب عَلَيْك الْعَمَل بِهِ، فهما فِي الْآيَتَيْنِ بِمَعْنى التَّقْدِير على قَول بعض الْمُفَسّرين.

(2/830)


وَمِثَال التَّأْثِير: فرضة الْقوس والجبل.
قَالَ الْجَوْهَرِي: (الْفَرْض: الحز فِي الشَّيْء، وَفرض الْقوس: الحز الَّذِي يَقع فِيهِ الْوتر، والفرائض: السِّهَام الْمَفْرُوضَة، والتفريض: التحزيز) .
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْفَرْض: التَّوْقِيت، وَمِنْه: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} [الْبَقَرَة: 197] ، و [الحز] فِي الشَّيْء كالتفريض، وَمن الْقوس موقع الْوتر) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (فرضة الْقوس: مَوضِع حزها للوتر، والفرضة [فِي الْحَائِط] وَنَحْوه كالفرجة، وفرضة النَّهر: الثلمة الَّتِي ينحدر مِنْهَا المَاء، وتصعد مِنْهَا السفن، وفرضت الْخَشَبَة فرضا من بَاب ضرب -: حززتها، وَفرض القَاضِي النَّفَقَة فرضا أَي: قدرهَا وَحكم بهَا، وَالْفَرِيضَة: فعيلة بِمَعْنى مفعولة، وَالْجمع: فَرَائض، قيل اشتقاقها من الْفَرْض هُوَ التَّقْدِير؛ لِأَن الْفَرَائِض مقدرات، وَقيل: من فرض الْقوس، وَفرض الله تَعَالَى الْأَحْكَام) انْتهى.

(2/831)


وَمِثَال الْإِنْزَال على قَول ابْن عقيل وَغَيره -: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} [الْقَصَص: 85] ، أَي: أنزل عَلَيْك الْقُرْآن، وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين، قَالَه الْبَغَوِيّ.
وَمِثَال الْإِبَاحَة على قَوْله -: {مَا كَانَ على النَّبِي من حرج فِيمَا فرض الله لَهُ} [الْأَحْزَاب: 38] ، أَي: فِيمَا أَبَاحَ الله لَهُ.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره " (وَهُوَ بِمَعْنى الْإِحْلَال، أَي: فِيمَا أحل الله لَهُ) ، وَقطع بِهِ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ".
قلت: والإحلال يَأْتِي بِمَعْنى الْإِبَاحَة على مَا يَأْتِي.

(2/832)


وَقَالَ ابْن الهائم فِي " شرح منظومته ": (أصل الْفَرْض فِي اللُّغَة: الْقطع والحز، وَمِنْه فرض الْقوس بِفَتْح الْفَاء وفرضتها بضَمهَا للحز الَّذِي يَقع فِيهِ الْوتر، وفرضة النَّهر: ثلمته الَّتِي مِنْهَا يستقى، وَيَجِيء لمعان أخر: التَّقْدِير: {فَنصف مَا فرضتم} [الْبَقَرَة: 237] ، وَفرض الْحَاكِم النَّفَقَة، والإنزال: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} [الْقَصَص: 85] ، وَالْبَيَان: {سُورَة أنزلناها وفرضناها} [النُّور: 1]- بِالتَّخْفِيفِ -، والإيجاب والإلزام: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} [الْبَقَرَة: 197] ، أَي: أوجب على نَفسه فِيهِنَّ الْإِحْرَام، والعطية الموسومة: فرضت لَهُ وافترضت، أَي: أَعْطيته، وفرضت لَهُ فِي الدِّيوَان، قَالَه فِي " الصِّحَاح ".
فَيجوز أَن تكون الْفَرِيضَة حَقِيقَة فِي الْمعَانِي السِّتَّة، أَو فِي الْقدر الْمُشْتَرك بَينهَا وَهُوَ التَّقْدِير، فَيكون مقولاً بالاشتراك اللَّفْظِيّ، أَو بالتواطؤ، وَيجوز أَن يكون حَقِيقَة فِي الْقطع مجَازًا فِي غَيره، لتصريح كثير من أهل اللُّغَة بِأَصْلِهِ) انْتهى.
وَهُوَ كَلَام جَامع.
وَلما قَالَ ابْن عقيل: إِنَّه يَأْتِي بِمَعْنى الْإِنْزَال وَالْإِبَاحَة، {قَالَ هُوَ

(2/833)


وَغَيره: (الْوَاجِب آكِد} لاختصاصه وتأثيره أَيْضا) انْتهى.

(2/834)


وَذَلِكَ وَالله أعلم أَن الْفَرْض لما أَتَى عِنْده بِمَنْزِلَة الْإِنْزَال وَالْإِبَاحَة انحط عَن دَرَجَة وَالْوَاجِب، فَكَانَ الْوَاجِب آكِد لِأَنَّهُ الثَّابِت اللَّازِم، وَلم تأت لَهُ هَذِه الْمعَانِي.
قَوْله: {الْمُوفق، [وَابْن حمدَان وَغَيرهمَا] : [الْفَرْض آكِد] } .
قلت: وَهَذَا الصَّحِيح، وَلذَلِك لنا ولغيرنا خلاف شرعا، فِي أَن الْفَرْض مَا ثَبت بِالْكتاب، وَالْوَاجِب مَا ثَبت بِالسنةِ، أَو الْفَرْض مَا ثَبت بمقطوع بِهِ، وَالْوَاجِب مَا ثَبت بمظنون، وَلم يقل أحد بِالْعَكْسِ، بل قَالَت الْحَنَفِيَّة وَغَيرهَا: إِن الْفَرْض أخص من الْوَاجِب، فَدلَّ ذَلِك على أَن الْفَرْض آكِد فِي الْجُمْلَة.
وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك فِي الشَّرْع تبعا للغة، لِأَن تَعْلِيلهم فِي تَأْكِيد الْفَرْض شرعا لأجل اللُّغَة.
قَوْله: {وهما مُتَرَادِفَانِ شرعا} .
الْفَرْض وَالْوَاجِب لفظان مُتَرَادِفَانِ، أَي: متحدان مفهوماً، إِذْ الِاتِّحَاد - مفهوماً هُوَ معنى الترادف، لَا المتحدان ذاتاً كالإنسان والناطق فَإِنَّهُمَا

(2/835)


متحدان ذاتاً، فبينهما عُمُوم وخصوص مُطلق، فَكل متحدين مفهوماً متحدان ذاتاً وَلَا عكس لغوياً.
إِذا علم ذَلِك؛ فَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر: أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ، لقَوْله تَعَالَى: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} [الْبَقَرَة: 197] ، أَي: أوجبه، وَالْأَصْل تنَاوله حَقِيقَة وَعدم غَيره، نفيا للمجاز والاشتراك.
فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: مَا تقرب إِلَيّ عَبدِي بِمثل أَدَاء مَا افترضت عَلَيْهِ ".

(2/836)


وَإِطْلَاق الْأمة الْفَرْض على الْوَاجِب، وَأَيْضًا دخولهما تَحت الْحَد لِأَن كلا مِنْهُمَا يذم تَاركه، وَلِأَن التزايد لَا يتَحَقَّق فِي الْوَاجِب، لِأَن الاستدعاء لَا يقبل التزايد كجائز، ولازم، وصادق، وكاذب، فَلَا يُقَال: أصدق، وأكذب، وَأعلم، لِأَنَّهُ انتظمه حد وَاحِد وَهُوَ حَقِيقَة وَاحِدَة.
فَإِن قيل: اشتقاق الْفَرْض من التَّقْدِير، وَالْوُجُوب من السُّقُوط، فَاقْتضى تَأْكِيد الْفَرْض شرعا ليُوَافق مُقْتَضَاهُ لُغَة.
قيل: إِن روعي هَذَا ترجح الْوُجُوب، إِذْ السُّقُوط آكِد من التَّقْدِير، لَكِن نمْنَع أَن تفَاوت الطَّرِيق لُغَة يُوجب التَّأْكِيد شرعا.
{ [وَعَن أَحْمد] : الْفَرْض آكِد، [و] [اخْتَارَهَا من أَصْحَابنَا] ابْن شاقلا، والحلواني، [وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن أَصْحَابنَا، وَهُوَ

(2/837)


مَذْهَب الْحَنَفِيَّة [و [ابْن] الباقلاني.
وللقاضي [من أَصْحَابنَا] : الْقَوْلَانِ} .
قَالَ أَصْحَاب هَذَا القَوْل: الْوُجُوب لُغَة: السُّقُوط، وَالْفَرْض: التَّأْثِير، والتأثير أخص من السُّقُوط كَمَا تقدم، فَوَجَبَ اخْتِصَاصه

(2/838)


- لقُوته حكما كَمَا اخْتصَّ لُغَة، حملا للمسميات الشَّرْعِيَّة على مقتضياتها اللُّغَوِيَّة، إِذا الأَصْل عدم التَّغْيِير.
قَالُوا: وَلِأَن مَا دَلِيله قَطْعِيّ يُنَاسِبه الْفَرْض، لِأَن التَّقْدِير قد علم أَن الشَّارِع قدره فيناسبه، والمظنون يُنَاسِبه الْوُجُوب لِأَنَّهُ السُّقُوط فَكَأَنَّهُ سَاقِط علينا، وَلم نعلم أَن الله تَعَالَى قدره علينا أم لَا؟
وَالْجَوَاب: أَن الْفَرْض الْمُقدر أَعم أَن يكون علما، وَالْوَاجِب السَّاقِط أَعم مِنْهُمَا، فَلم تظهر مناسبته.
بل قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: (لَو عكسوا الِاصْطِلَاح لَكَانَ أولى، لِأَن الْوُجُوب لَا يحْتَمل غَيره بِخِلَاف الْفَرْض) ، وَيُوَافِقهُ كَلَام ابْن عقيل الْمُتَقَدّم.
قَالَ الْآمِدِيّ وَمن تبعه: (وَالْمَسْأَلَة لفظية) ، وَهُوَ ظَاهر كَلَامه فِي " الرَّوْضَة "، وَأخذ مَعْنَاهُ الطوفي فَقَالَ: (النزاع لَفْظِي، إِذْ لَا نزاع فِي

(2/839)


انقسام الْوَاجِب إِلَى ظَنِّي وقطعي، فليسموا هم الْقطعِي مَا شاؤوا، إِذْ لَا حجر فِي الِاصْطِلَاح بعد فهم الْمَعْنى) .
قَوْله: { [فعلى الثَّانِي] } اخْتلفُوا.
أَي: على القَوْل بِأَن الْفَرْض آكِد.
فَروِيَ عَن أَحْمد وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة: أَن {الْفَرْض مَا ثَبت بِدَلِيل قَطْعِيّ} ، وَالْوَاجِب مَا ثَبت بِدَلِيل ظَنِّي.
والانقسام إِلَى مَقْطُوع ومظنون لَا يقبل خلافًا، وَلِهَذَا قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": (لَا خلاف فِيهِ) .
ومثلت الْحَنَفِيَّة الْمَقْطُوع: كالصلوات الْخمس، وَصَوْم رَمَضَان، والمظنون: كالوتر، وَزَكَاة الْفطر.
{وَقيل} الْفَرْض: {مَا لَا يسْقط فِي عمد وَلَا سَهْو} كأركان الصَّلَاة،

(2/840)


وَالْحج، وَالْوَاجِب: مَا يسْقط بالسهو: كواجبات الصَّلَاة، وواجبات الْحَج تجبر بِدَم.
وَأما قَول أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي بَاب الْحَج: (إِن الْوَاجِب مَا جبر بِدَم، والركن مَا لم يجْبر) ، فتفرقه بَين الْوَاجِب والركن، لَا بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب. قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قلت: فَكَانَ عِنْدهم: أَن الْفَرْض لَا يُسمى ركنا وَلَا عَكسه، وَأما أَصْحَابنَا فَإِنَّهُم سموا مَا لَا يسْقط فِي عمد وَلَا سَهْو فِي الصَّلَاة: ركنا، وَمَا يسْقط سَهوا وَاجِبا، وَفِي الْحَج، مَا يجْبر بِدَم: وَاجِبا، والركن: مَا لَا يَصح الْحَج إِلَّا بِهِ، وَسموا الرُّكْن فرضا أَيْضا.
{ [وَعَن أَحْمد: الْفَرْض] : مَا لزم بِالْقُرْآنِ} .
فَالْوَاجِب مَا لزم بِالسنةِ.
قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة الْأَثْرَم:.

(2/841)


(لَا أَقُول فرضا إِلَّا مَا كَانَ فِي كتاب الله) .
وَفِي رِوَايَة الْأَثْرَم: قيل لَهُ: (هَل يُقَال: بر الْوَالِدين فرض؟) ، فَقَالَ: (لَا، وَلَكِن أَقُول وَاجِب مَا لم يكن مَعْصِيّة) .
قلت: وَلِهَذَا اخْتلفت الرِّوَايَة عَنهُ فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، هَل يسميان فرضا أم لَا؟ على الرِّوَايَتَيْنِ عَن الإِمَام أَحْمد، بِنَاء على تنَاول الْقُرْآن لَهَا.
وَكَذَا الرِّوَايَتَانِ فِي زَكَاة الْفطر، فَقَالَ فِي رِوَايَة

(2/842)


مهنا: " صَدَقَة الْفطر وَاجِبَة، لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرضهَا "، فسوى بَينهمَا، وَقَالَ فِي رِوَايَة الْمَرْوذِيّ: (ابْن عمر يَقُول: " فرض رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَقَة "، وَأَنا لَا أجترئ أَن أَقُول: إِنَّهَا فرض، وَقيس بن سعد يدْفع أَنَّهَا فرض) ، فَفِي هَذِه الرِّوَايَة فرق بَينهمَا.

(2/843)


قَوْله: { [وَعَلِيهِ أَيْضا] [- أَي: على القَوْل الثَّانِي أَيْضا -] [يَصح] أَن يُقَال: بعض [الْوَاجِب] آكِد من بعض، ذكره القَاضِي، والحلواني، [وَغَيرهمَا] } وَهُوَ صَحِيح.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة) ، وَمَا ثمَّ مَانع من ذَلِك؛ وَأَن فَائِدَته: يُثَاب على أَحدهمَا أَكثر، وَأَن طَرِيق أَحدهمَا مَقْطُوع، وَالْآخر مظنون كَمَا تقدم.
وَأما على الأول: فَلَيْسَ بَعْضهَا آكِد من بعض، بل سَوَاء، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين، وَابْن عقيل أَيْضا.

(2/844)


قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَلَعَلَّ ابْن عقيل أَرَادَ بِمَا قَالَ راداً على من قَالَ: التَّفَاضُل فِي الْعقَاب وَالثَّوَاب يُعْطي التَّفَاضُل فِي حَقِيقَة الْإِيجَاب، الَّذِي هُوَ الاستدعاء، لِأَنَّهُ لَو رفع الْعقَاب وَالثَّوَاب رَأْسا، لما ارْتَفع صِحَة قَوْله: " أوجبت "، وَصَحَّ أَن يقوم الاستدعاء بِنَفسِهِ حَقِيقَة معقولة، وَكَذَا لَا يدل التَّفَاضُل على قُوَّة الاستدعاء) .
وَقَالَ ابْن عقيل أَيْضا على هَذَا القَوْل وَهُوَ القَوْل الأول يَصح أَن يكون بَعْضهَا آكِد من بعض، وَأَن فَائِدَته: أَنه يُثَاب على أَحدهمَا أَكثر من الآخر، وَأَن طَرِيق أَحدهمَا مَقْطُوع بِهِ، وَطَرِيق الآخر مظنون، كَمَا قُلْنَا على القَوْل الثَّانِي، وأنهما متباينان.
[قلت: وَالنَّفس تميل إِلَى هَذَا سَوَاء قُلْنَا بالتباين أَو الترادف -] أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون أَحدهمَا آكِد من الآخر، وَأَنه يُثَاب عَلَيْهِ أَكثر من الآخر.
قَوْله: { (فَائِدَة: صِيغَة الْفَرْض وَالْوُجُوب نَص فِي الْوُجُوب} .

(2/845)


هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء] .
قَالَ ابْن عقيل: (" أوجبت " صَرِيحَة فِي الْإِيجَاب، بِإِجْمَاع النَّاس) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": (وَالْأَظْهَر أَن الْفَرْض نَص، وَقَوْلهمْ: فرض القَاضِي النَّفَقَة، وَفرض الصَدَاق، لَا يخرج عَن معنى الْوُجُوب، وَإِن انْضَمَّ إِلَيْهِ التَّقْدِير) انْتهى.
وَقَالَ طَائِفَة من الْعلمَاء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم مِنْهُم: القَاضِي أَبُو يعلى: (هِيَ ظَاهِرَة فِيهِ) نَقله ابْن عقيل.
وَعَن البوشنجي أَنَّهُمَا كنايتان لَا صَرِيحًا، نَقله الْبرمَاوِيّ.
وَقَالَ فِي " المسودة ": (قَالَ القَاضِي فِي " اخْتِلَاف الرِّوَايَتَيْنِ " فِي الْبَحْث مَعَ الواقفية: " وَمَا قَالُوهُ من أَن هَذِه اللَّفْظَة ترد مُشْتَركَة فِي الْوُجُوب

(2/846)


وَالنَّدْب وَغَيره، فَهَذَا لَا يمْنَع من الصِّيغَة كأسماء الْحَقَائِق: كالأسد، وَالْحمار فَإِنَّهُمَا حقيقتان فِي الْبَهَائِم، وَيُرَاد بهما الرجل بِقَرِينَة، وَمَعَ هَذَا فَلَا يمْتَنع أَن يكون إطلاقهما لحقيقة الْبَهِيمَة.
وَيبْطل بقوله: " فرضت "، وَيرد وَالْمرَاد بِهِ الْوُجُوب، وَيُرَاد المُرَاد بِهِ النّدب، كَقَوْلِه: " غسل الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم "، وَمَعْنَاهُ: وجوب اخْتِيَار، وَكَذَا " فرضت " يحْتَمل الْوُجُوب وَيحْتَمل التَّقْدِير.
وَيحْتَمل توكيد الِاسْتِحْبَاب، وَحسن الِاسْتِفْهَام فَتَقول: أوجبته إلزاماً أَو اخْتِيَارا؟
وَذكره ابْن عقيل أَيْضا -، وَحمل على ذَلِك قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غسل يَوْم الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم "، كَمَا قَالَ القَاضِي، وَتقول: حَقك عَليّ وَاجِب.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": (وَذهب طَائِفَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم إِلَى أَنَّهَا تحْتَمل توكيد الِاسْتِحْبَاب) انْتهى.

(2/847)


{وَفِي كَلَام أبي الْفرج [الْمَقْدِسِي] وَأبي الْخطاب [فِي " التَّمْهِيد "] الْأَمْرَانِ أَيْضا} .
يعنيان: أَنَّهُمَا يأتيان لهَذَا الْمَعْنى وَلِهَذَا الْمَعْنى.
قَوْله: {وَإِطْلَاق الْوَعيد نَص فِيهِ} .
أَي: نَص فِي الْوُجُوب، وَهَذَا الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي وَالْأَكْثَر فَلَا يقبل تَأْوِيله لِأَنَّهُ خَاصَّة الْوَاجِب، وَلَا تُوجد خَاصَّة الشَّيْء بِدُونِهِ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْوَعيد نَص فِي الْوُجُوب لَا يقبل التَّأْوِيل، فَإِن خَاصَّة الْوَاجِب: " مَا توعد بالعقاب على تَركه "، وَيمْتَنع وجود خَاصَّة الشَّيْء بِدُونِ ثُبُوته إِلَّا فِي كَلَام مجَاز) .
وَذكر القَاضِي - أَيْضا -، وَابْن عقيل: إِطْلَاقه للْوُجُوب، ويعدل عَنهُ لدَلِيل.

(2/848)


قَالَ فِي " المسودة ": (إِطْلَاق الْوَعيد، يَقْتَضِي الْوُجُوب لفعل مَا توعد عَلَيْهِ، فَإِن عدلنا عَنهُ فِي مَوضِع فلدليل، وَكَلَام ابْن عقيل فِي " الْعُمْدَة " يُوَافق ذَلِك) ، ورده الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ فِي " المسودة " أَيْضا -: قَالَ القَاضِي: (أَلْفَاظ الْوَعيد ترد وَالْمرَاد [بهَا] الْوُجُوب وَالنَّدْب، قَالَ الله تَعَالَى: {فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون الَّذين هم يراءون وَيمْنَعُونَ الماعون} [الماعون: 4 - 7] ، وَذَلِكَ مَنْدُوب إِلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا إِطْلَاقه يَقْتَضِي الْوُجُوب) .

(2/849)


قَوْله: {و {كتب عَلَيْكُم} [الْبَقَرَة: 178] نَص [فِي الْوُجُوب أَيْضا -] ، ذكره القَاضِي} وَغَيره.
مَأْخُوذ من: " كتب الشَّيْء " إِذا حتمه وألزم بِهِ، وَتسَمى الصَّلَوَات المكتوبات لذَلِك، وَمِنْه حَدِيث: " خمس صلوَات كتبهن الله على العَبْد فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة "، وَقَوله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الصّيام} [الْبَقَرَة: 183] ، {كتب عَلَيْكُم الْقِتَال} [الْبَقَرَة: 216] .

(2/850)


أما قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة} [الْبَقَرَة: 180] الْآيَة.
فَقيل: المُرَاد: وَجب، وَكَانَت الْوَصِيَّة فرضا وَنسخت.
وَقيل: المُرَاد بِالْوَصِيَّةِ مَا عَلَيْهِ من الدّين والوديعة وَنَحْوهمَا.
وَقيل: المُرَاد فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فَلَا يكون مِمَّا نَحن فِيهِ.
قلت: عَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة بِالْوُجُوب للقريب إِذا كَانَ غير وَارِث، اخْتَارَهَا أَبُو بكر من أَصْحَابنَا.
وَنقل فِي " التَّبْصِرَة ": وُجُوبهَا عَن أبي بكر للْمَسَاكِين ووجوه الْبر، لَكِن الْمَذْهَب عدم الْوُجُوب، وَأَجَابُوا عَن الْآيَة: بِأَنَّهَا مَنْسُوخَة، قَالَه الْأَصْحَاب.

(2/851)


قَوْله: {وَفِي " الْحَاوِي " وَغَيره: حتم ولازم كواجب} .
وَهُوَ صَحِيح، فالمحتوم من حتمت الشَّيْء أحتمه حتما إِذا قَضيته وأحكمته، وحتمته أَيْضا: أوجبته، قَالَه الْجَوْهَرِي.
قَالَ تَعَالَى: {كَانَ على رَبك حتما مقضياً} [مَرْيَم: 71] ، أَي: وَاجِب الْوُقُوع لوعده الصَّادِق، وَإِلَّا فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء.
فَيُقَال فِي الْوَاجِب: " حتم "، و " محتوم "، و " محتم "، وَنَحْو ذَلِك.
قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (حتم عَلَيْهِ الْأَمر حتما من بَاب ضرب -: أوجبه جزما وانحتم: الْأَمر، وتحتم: وَجب وجوبا لَا يُمكن سُقُوطه) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الحتم: الْخَالِص، قلب المحت، وَالْقَضَاء، وإيجابه، وإحكام الْأَمر، وَجمعه: حتوم، وَقد حتمه يحتمه، والحاتم: القَاضِي) انْتهى.

(2/852)


وَاللَّازِم بِمَعْنى الْوَاجِب، وَلَا يقبل التَّأْوِيل عِنْد الْأَكْثَر، وَهُوَ من اللُّزُوم، وَهُوَ لُغَة: عدم الانفكاك عَن الشَّيْء، فَيُقَال للْوَاجِب: لَازم، وملزوم بِهِ، وَنَحْو ذَلِك، كَمَا فِي حَدِيث الصَّدَقَة: " وَمن لَزِمته بنت مَخَاض وَلَيْسَت عِنْده، أَخذ مِنْهُ ابْن لبون "، أَي: وَجب عَلَيْهِ ذَلِك، وَهُوَ شَائِع كثير، وَنقل عَن البوشنجي كَمَا تقدم من أَصْحَاب الشَّافِعِي: أَن جَمِيع ذَلِك كنايات إِلَّا [لَازم] لي فَإِنَّهُ صَرِيح عِنْد الْأَكْثَر.
فَائِدَة جَامِعَة فِي تَقْسِيم الْوَاجِب: وَهُوَ بِاعْتِبَار مُلَابسَة الْمُكَلف إِيَّاه فِي وقته وخارجاً عَن وقته يَنْقَسِم إِلَى: أَدَاء، وَقَضَاء، وإعادة.
وَبِاعْتِبَار سُقُوطه عَن الْمُكَلف بِفعل غَيره وَعدم سُقُوطه عَنهُ إِلَى: وَاجِب عين، وواجب كِفَايَة.
وَبِاعْتِبَار كَونه أحد الْأَقْسَام المحصورة وَعَدَمه: إِلَى وَاجِب معِين، وَإِلَى وَاجِب مُخَيّر.
وَبِاعْتِبَار كَون وقته الْمُقدر فَاضلا أَو غير فَاضل إِلَى: مضيق، وموسع، فالموسع وَاضح: كأوقات الصَّلَوَات، والمضيق تَارَة يكون مطابقاً: كَالصَّوْمِ، وَتارَة تكون الْعِبَادَة فاضلة: كَمَا لَو أدْرك رَكْعَة من الْمغرب، وَنَحْوهَا، قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَيَأْتِي ذَلِك مفصلا.

(2/853)


قَوْله: {فصل}

{الْعِبَادَة إِن لم يكن لَهَا وَقت معِين، لم تُوصَف بأَدَاء، وَلَا قَضَاء، وَلَا إِعَادَة} .

(2/854)


كالنوافل الْمُطلقَة من صَلَاة وَصَوْم وَصدقَة وَحج وَنَحْوهَا، وَسَوَاء كَانَ لَهَا سَبَب: كتحية الْمَسْجِد وَسُجُود التِّلَاوَة أَو لَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَقد يُوصف مَا لَهُ سَبَب بِالْإِعَادَةِ، كمن أَتَى بِذَات سَبَب مثلا مُخْتَلفَة، فتداركها حَيْثُ يُمكن التَّدَارُك ".
قَوْله: {وَإِلَّا فَمَا وَقتهَا غير مَحْدُود: كحج، وَزَكَاة [مَال] ، وَكَفَّارَة، تُوصَف بِالْأَدَاءِ} .
مَا وقته غير مَحْدُود الطَّرفَيْنِ: كَالْحَجِّ الْوَاجِب، وَزَكَاة المَال، وَالْكَفَّارَة يُوصف بِالْأَدَاءِ، وَلَو أخر عَن وقته شرعا، لعدم تعْيين وَقت الزَّكَاة وَنَحْوهَا، لوُجُوبهَا عِنْد تَمام الْحول على الْفَوْر، وَهُوَ وَقت وُجُوبهَا، فَلَو أخرت عَنهُ لغير عذر ثمَّ فعلت، لم تسم قَضَاء لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن وَقتهَا غير مَحْدُود الطَّرفَيْنِ، وَنحن قُلْنَا: (الْقَضَاء: هُوَ فعل الْوَاجِب خَارج الْوَقْت الْمُقدر لَهُ شرعا) .
وَالثَّانِي: أَن كل وَقت من الْأَوْقَات الَّتِي يُؤَخر أَدَاؤُهَا فِيهَا هُوَ مُخَاطب بإخراجها فِيهِ، وَذَلِكَ وَاجِب عَلَيْهِ، فَلَو قُلْنَا: إِن أداءها فِي الْوَقْت الثَّانِي بعد تَأْخِيرهَا قَضَاء، لزم مثل ذَلِك فِي الثَّالِث وَالرَّابِع وَمَا بعده، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَة، وَالْحج، فَكَانَ أَدَاء على كل حَال.

(2/855)


وَقَوْلنَا: وَزَكَاة المَال، احْتِرَاز من زَكَاة الْفطر، فَإِنَّهَا تُوصَف بِالْأَدَاءِ وبالقضاء إِذا أَخّرهَا.
{وَلنَا وَجه} : أَنَّهَا تُوصَف { [بِالْقضَاءِ] } إِذا أَخّرهُ عَن وقته، فَإِنَّهَا وَاجِبَة عندنَا على الْفَوْر.
قَوْله: {وَإِطْلَاق الْقَضَاء فِي الْحَج الْفَاسِد، لشبهه بالمقضي} فِي استدراكه.
وَذَلِكَ أَنه لما شرع وتلبس بأفعاله تضيق الْوَقْت عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَمَا لَو تلبس بِأَفْعَال الصَّلَاة، مَعَ أَن الصَّلَاة وَاجِب موسع.
وَهَذَا جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر، تَقْدِيره: أَنْتُم قُلْتُمْ: إِن الْحَج لَا يُوصف بِالْقضَاءِ، وَقد وصفتموه هُنَا.
قَوْله: {وَفعل الصَّلَاة بعد تَأْخِير قَضَائهَا لَا يُسمى قَضَاء الْقَضَاء} لامتناعه وتسلسله، كَمَا تقدم فِي الزَّكَاة وَغَيرهَا.
قَوْله: {وَمَا وقته مَحْدُود يُوصف بذلك [سوى الْجُمُعَة] }
يَعْنِي: الَّذِي لَهُ وَقت مَحْدُود يُوصف بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاء والإعادة.

(2/856)


فَإِن فعل فِي وقته الْمَحْدُود مرّة كَانَ أَدَاء، وَإِلَّا كَانَ قَضَاء، وَإِن فعل ثَانِيًا كَانَ إِعَادَة: كالصلوات الْخمس، وسننها، وَالصَّوْم. وَقَوْلنَا: سوى الْجُمُعَة، فَإِن الْجُمُعَة لَو فَاتَت لَا تقضى، وَإِنَّمَا تصلى ظهرا، فالجمعة لَا تُوصَف بِالْقضَاءِ، فَلَا تسمى الْجُمُعَة بِالثَّلَاثَةِ بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاء والإعادة، أما الْأَدَاء فتسمى بِهِ، وَأما الْقَضَاء فَلَا تقضى، وَأما الْإِعَادَة فَإِن حصل ذَلِك فِي فعلهَا وَأمكن تداركها فِي وَقتهَا فعلت.
قَوْله: {فالأداء} .
لما علمت أَن مَا وقته مَحْدُود يُوصف بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاء والإعادة، شرعنا نبين الْأَدَاء مَا هُوَ؟ وَكَذَلِكَ الْقَضَاء والإعادة.
فالأداء: {مَا فعل فِي وقته الْمُقدر لَهُ أَولا شرعا} .
فقولنا: (مَا فعل) جنس للْأَدَاء وَغَيره.
وَقَوْلنَا: (فِي وقته الْمُقدر) ، يخرج الْقَضَاء، وَمَا لم يقدر لَهُ وَقت: كإنكار الْمُنكر إِذا ظهر، وإنقاذ الغريق إِذا وجد، وَالْجهَاد إِذا تحرّك الْعَدو، والنوافل الْمُطلقَة، وتحية الْمَسْجِد، وَسُجُود التِّلَاوَة.
وَقَوْلنَا: (أَولا) ، ليخرج مَا فعل فِي وقته الْمُقدر لَهُ شرعا، لكنه فِي غير الْوَقْت الَّذِي قدر لَهُ أَولا شرعا: كَالصَّلَاةِ إِذا ذكرهَا بعد خُرُوج وَقتهَا، أَو اسْتَيْقَظَ بعد خُرُوج الْوَقْت، لقَوْله عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام -: " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا " فَإِن ذَلِك وَقتهَا، فَإِذا فعلهَا فِي

(2/857)


ذَلِك الْوَقْت، فَهُوَ وَقت ثَان لَا أول، فَلم يكن أَدَاء، وَيخرج بِهِ أَيْضا قَضَاء الصَّوْم، فَإِن الشَّارِع جعل لَهُ وقتا مُقَدرا لَا يجوز تَأْخِيره عَنهُ، وَهُوَ من حِين الْفَوات إِلَى رَمَضَان السّنة الْآتِيَة، فَإِذا فعله كَانَ قَضَاء، لِأَنَّهُ فعله فِي وقته الْمُقدر لَهُ ثَانِيًا لَا أَولا.
وَقَوْلنَا: (شرعا) ، ليخرج مَا قدر لَهُ وَقت لَا بِأَصْل الشَّرْع، كمن ضيق عَلَيْهِ [الْمَوْت] لعَارض ظَنّه الْفَوات إِن لم يُبَادر.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْأَدَاء: إِيقَاع الْعِبَادَة فِي وَقتهَا الْمُقدر شرعا لمصْلحَة اشْتَمَل عَلَيْهَا الْوَقْت.
فتقييدها بِالْوَقْتِ، احْتِرَاز من تعين الْوَقْت لمصْلحَة الْمَكَان، كَمَا إِذا قُلْنَا: الْأَمر على الْفَوْر فَإِنَّهُ يتَعَيَّن الزَّمن الأول، وَلَا يُوصف بِكَوْنِهِ أَدَاء فِي وقته وَلَا قَضَاء بعد وقته.
وَقَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ: (هُوَ بعد وقته قَضَاء، وَالْقَضَاء لُغَة: نفس الْفِعْل، وَاصْطِلَاحا: فعل الْعِبَادَة خَارج وَقتهَا الْمعِين شرعا لمصْلحَة فِيهِ) . - ثمَّ قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل -: للْقَضَاء فِي اصْطِلَاح الْعلمَاء ثَلَاثَة معَان.

(2/858)


أَحدهَا: مَا تقدم.
وَثَانِيها: مَا وَقع بعد فعله لسببه والشروع فِيهِ.
وَثَالِثهَا: مَا فعل على خلاف نظامه: كقضاء الْفَوَائِت) انْتهى. - ثمَّ قَالَ -: تَنْبِيه: قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ: " اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد، هَل الْقَضَاء بَاقٍ أَو مَنْقُول؟ على رِوَايَتَيْنِ، فعلى الأولى: يَصح الْأَدَاء بنية الْقَضَاء وَعَكسه، وعَلى [الثَّانِيَة] : لَيْسَ كَذَلِك ") انْتهى.
قَوْله: {وَالْقَضَاء: مَا فعل بعد وَقت الْأَدَاء} ، وَذَلِكَ كَفعل الصَّلَوَات الْخمس، وسننها، وَالصَّوْم، بعد خُرُوج وَقتهَا، وَهُوَ ظَاهر، وَهَذَا إِذا حصل التَّأْخِير بِغَيْر عذر فِي الْجُمْلَة، فَأَما إِن أخر لعذر، فَتَارَة يُمكن فعله: كَصَوْم الْمُسَافِر وَالْمَرِيض، وَتارَة لَا يُمكن فعله، إِمَّا {لمَانع شَرْعِي: [كالحيض] } ، وَالنّفاس، {أَو} لمَانع [عَقْلِي: [كالنوم] } ، وَالْإِغْمَاء وَالسكر، وَنَحْوهَا.

(2/859)


وعَلى كل حَال فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَنه بعد ذَلِك إِذا زَالَ الْعذر وَفعل، كَانَ قَضَاء، وَذَلِكَ { [لوُجُوبه عَلَيْهِم] } حَالَة وجود الْعذر {عِنْد الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه [وَغَيرهم] } ، وَحَيْثُ كَانَ وَاجِبا

(2/860)


عَلَيْهِم مَعَ وجود الْعذر، كَانَ فعله بعد زَوَاله قَضَاء لخُرُوج وَقت الْأَدَاء.
وَكَونه قَضَاء مَبْنِيّ على وُجُوبه عَلَيْهِم حَال الْعذر، وَلنَا فِي وُجُوبه عَلَيْهِم حَالَة الْعذر أَقْوَال، الصَّحِيح: الْوُجُوب، فَيكون قَضَاء بعد ذَلِك.
{وَحكي عَن الْفُقَهَاء} .
قَالَ ابْن برهَان: (هُوَ قَول الْفُقَهَاء قاطبة) .
وَلقَوْل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا -: كُنَّا نحيض على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنؤمر بِقَضَاء الصَّوْم " مُتَّفق عَلَيْهِ.

(2/861)


{وَقيل} : يجب {على [الْمُسَافِر وَالْمَرِيض] } دون غَيرهم، فَيكون قَضَاء فِي حَقّهمَا، وَلَا يجب على حَائِض، فَيكون أَدَاء فِي حَقّهَا، وَالْفرق بَينهمَا: إِمْكَان الْفِعْل من الْمُسَافِر وَالْمَرِيض دون الْحَائِض شرعا.
{وَقيل} : يجب {على [الْمُسَافِر] [فَقَط] } ، فَلَا يجب على مَرِيض وحائض، وَلَعَلَّ الْفرق الْقُدْرَة على الْفِعْل من الْمُسَافِر، وَعَدَمه من الْمَرِيض قدرا، وَمن الْحَائِض شرعا.
{وَقيل: لَا يجب} على الْجَمِيع، { [وَحَكَاهُ] } القَاضِي، وَابْن عقيل {عَن الْحَنَفِيَّة} ، لِأَنَّهُ تَكْلِيف بالممتنع، بل يقضون لتقدم السَّبَب.

(2/862)


{وَعَن [الْأَشْعَرِيّ] ، وَأهل الْعرَاق: يلْزمه أحد الشَّهْرَيْنِ} ، يَعْنِي: رَمَضَان، وَالَّذِي يقْضِي فِيهِ، حَكَاهُ ابْن عقيل، والحلواني عَن الأشعرية، وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن أهل الْعرَاق، وَنَقله التَّاج السُّبْكِيّ عَن أبي الْمَعَالِي، وَنَقله ابْن الْعِرَاقِيّ عَن القَاضِي أبي بكر ابْن الباقلاني.
قَوْله: {وَهُوَ لَفْظِي فِي الْأَصَح} .
قطع جمَاعَة أَن الْخلاف لَفْظِي، مِنْهُم: أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فَقَالَ: (لَا فَائِدَة لَهُ، وَتَأْخِير الصَّوْم حَالَة الْعذر جَائِز بِلَا خلاف، وَالْقَضَاء [بعد زَوَاله] وَاجِب بِلَا خلاف.

(2/863)


وَحكى ابْن الرّفْعَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي عَن بَعضهم:) أَن فَائِدَة الْخلاف تظهر فِيمَا إِذا قُلْنَا: إِنَّه يجب التَّعَرُّض للْأَدَاء وَالْقَضَاء فِي النِّيَّة) انْتهى.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (فَائِدَته: فِي أَنه هَل وَجب بِأَمْر جَدِيد أَو بِالْأَمر الأول؟) .
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَقد تظهر فَائِدَته فِيمَا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة بعد الطّواف، وَقبل أَن تصلي رَكْعَتَيْنِ، هَل تقضيهما؟
وَقد نقل النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب " عَن ابْن الْقَاص والجرجاني:

(2/864)


أَنَّهَا تقضيهما وَأَن الشَّيْخ أَبَا عَليّ أنكرهُ، قَالَ: " وَهُوَ الصَّوَاب "، وَلكنه جزم فِي " شرح مُسلم " بمقالة ابْن الْقَاص والجرجاني، وَنَقله عَن الْأَصْحَاب) انْتهى.
قلت: قَالَ صَاحب " الْفُرُوع " من أَصْحَابنَا فِي أول بَاب الْحيض من " فروعه ": (يمْنَع الْحيض الصَّلَاة، وَلَا تقضيها إِجْمَاعًا، ثمَّ قَالَ: وَلَعَلَّ المُرَاد إِلَّا رَكْعَتي الطّواف؛ لِأَنَّهَا نسك لَا آخر لوقته، فيعايا بهَا) انْتهى.
وَقد رد عَلَيْهِ ابْن نصر الله، وَشَيخنَا البعلي فِي " حواشيهما ".

(2/865)


وَالَّذِي يظْهر أَن مُرَاده: أَنَّهَا طافت [وَهِي] حَائِض، فَإِذا طهرت هَل تقضيهما أم لَا؟ أَو أَنَّهَا طافت طَاهِرَة، ثمَّ بعد فراغها مِنْهُ حَاضَت، كَمَا قَالَه جمَاعَة الشَّافِعِيَّة، وَلَعَلَّه أَخذه من كَلَام النَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم "، فَإِنَّهُ كثيرا يَأْخُذ مِنْهُ ليخرج أحكاماً، فَيكون وجود سَبَب الصَّلَاة الطّواف وَهِي طَاهِرَة، وَلم تتمكن من فعلهمَا إِلَّا وَقد حَاضَت، فعلى هَذَا إِذا طهرت، هَل تقضيهما أم لَا؟ وَالله أعلم، وَعِنْده تقضيهما.
[قَوْله] : { [وَعبادَة صَغِير لَا تسمى قَضَاء] [إِجْمَاعًا، قَالَ ابْن حمدَان] : وَلَا أَدَاء} .
قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": (مَا لم ينْعَقد سَبَب وُجُوبه فِي الْأَوْقَات الْمقدرَة، فَإِذا فعل خَارج الْوَقْت لَا يُسمى قَضَاء.
قَالَ الْمُؤلف: وَلَا أَدَاة كَظهر صبي) .
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (الْفِعْل الْمُقدر وقته إِن لم ينْعَقد سَبَب وُجُوبه لم يكن فعله بعد الْوَقْت قَضَاء إِجْمَاعًا) .

(2/866)


قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (إِذا لم ينْعَقد سَبَب الْأَمر لم يكن فعله بعد [انْقِضَاء] الْوَقْت قَضَاء إِجْمَاعًا، لَا حَقِيقَة، وَلَا مجَازًا، كَمَا لَو صلى الصَّبِي الصَّلَوَات الْفَائِتَة فِي حَالَة الصِّبَا، وَلَيْسَ الصَّبِي مَأْمُورا بذلك شرعا حَتَّى يقْضِي، فثواب الصَّبِي على عِبَادَته من خطاب الْوَضع) انْتهى.
وَفِي " فروع ابْن مُفْلِح ": (تصح الصَّلَاة من مُمَيّز نفلا، وَيُقَال لما فعله: صَلَاة كَذَا، وَفِي التَّعْلِيق: مجَاز) انْتهى.
تَنْبِيه: الْأَدَاء وَالْقَضَاء إِنَّمَا هُوَ للْفِعْل لَا الْمَفْعُول، كَمَا وَقع ذَلِك فِي عبارتنا، وَعبارَة " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب "، و " منهاج الْبَيْضَاوِيّ "، وَغَيرهمَا، وَإِنَّمَا الْمَفْعُول هُوَ الْمُؤَدى [والمقضي] ، وَقد فعل ذَلِك التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " على الأَصْل، فَقَالَ: (الْأَدَاء وَالْقَضَاء الْفِعْل، والمؤدى والمقضي مَا فعل وَهُوَ الْمَفْعُول) .

(2/867)


قَالَ بعض الْمُحَقِّقين: (وَهُوَ تَحْقِيق لَا طائل تَحْتَهُ، [فَإِن] الْقَضَاء وَالْأَدَاء فِي عبارَة الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء يُرَاد بِهِ الْمَفْعُول، من إِطْلَاق الْمصدر على الْمَفْعُول، واشتهر ذَلِك فِي استعمالهم حَتَّى صَار حَقِيقَة عرفية، وَأَيْضًا فالعبادة قبل إيقاعها لَيْسَ لَهَا وجود خارجي يَقع الْفِعْل عَلَيْهِ حَتَّى يكون مَفْعُولا حَقِيقَة، وَيَقَع الْفرق فِيهِ بَين الْفِعْل وَالْمَفْعُول.
فَحِينَئِذٍ إِيقَاع الْعِبَادَة ووقوعها وفعلها وذاتها كلهَا وَاحِد، يَصح وصف الْعِبَادَة بِالْأَدَاءِ وبالمؤداة، وبالقضاء والمقضية) . وَالله أعلم.
فَائِدَة: الْعِبَادَة قد تُوصَف بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاء: كالخمس، وَالصَّوْم، وَقد لَا تُوصَف بِهَذَا وَلَا بِهَذَا: كالنوافل الْمُطلقَة وَنَحْوهَا، وَقد تُوصَف بِالْأَدَاءِ وَحده: كَالْجُمُعَةِ، وَعدم الْقَضَاء فِيهَا للتوقيف أَو الْإِجْمَاع، [لَا] لامتناعه عقلا لَا شرعا.
قَوْله: {والإعادة: مَا فعل فِي وقته الْمُقدر ثَانِيًا، [زَاد] الْبَيْضَاوِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والطوفي [وَجمع] : لخلل، وَبَعْضهمْ: لعذر، وَفِي مَذْهَب

(2/868)


مَالك: لَا تخْتَص بِالْوَقْتِ، [وَهُوَ ظَاهر] " الرَّوْضَة "} .
ظَاهر [الْعبارَة] الأولى وإطلاقها يَشْمَل: سَوَاء كَانَ الْخلَل فِي الأول، أَو لَا، لعذر، أَو لَا، فَيدْخل فِيهِ لَو صلى الصَّلَاة فِي وَقتهَا صَحِيحَة، ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة وَهُوَ فِي الْمَسْجِد وصّى، فَإِن هَذِه الصَّلَاة تسمى معادة عِنْد الْأَصْحَاب، إِلَّا أَن يَقُول من يشْتَرط الْعذر: إِن قعوده فِي الْمَسْجِد عذر، وَهُوَ بعيد.
قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: (الْإِعَادَة: فعل الشَّيْء مرّة أُخْرَى) .
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه " بعد حِكَايَة قَول الشَّيْخ -: (وَهَذَا أوفق للغة وَالْمذهب.
أما اللُّغَة: فَإِن الْعَرَب على ذَلِك تطلق الْإِعَادَة، يَقُولُونَ: أَعدَدْت الكرة، إِذا كرّ مرّة بعد أُخْرَى، وأعدنا الْحَرْب [جَذَعَة] ، وَرجع عوده على بدئه، أَي: عَاد رَاجعا كَمَا ذهب، وإعادة الله للْعَالم: إنشاؤه مرّة

(2/869)


ثَانِيَة، قَالَ الله تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ} [الْأَعْرَاف: 29] ، {كَمَا بدأنا أول خلق نعيده} [الْأَنْبِيَاء: 104] ، {وَهُوَ الَّذِي يبدؤا الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} [الرّوم: 27] ، وَلَيْسَ فِي ذَلِك كُله تعرض لوُقُوع الْخلَل فِي الْفِعْل الأول.
وَأما الْمَذْهَب: فَإِن أَصْحَابنَا وَغَيرهم قَالُوا: من صلى ثمَّ حضر جمَاعَة سنّ لَهُ أَن يُعِيد مَعَهم، سَوَاء صلى الأولى مُنْفَردا أَو فِي جمَاعَة، فقد أثبتوا الْإِعَادَة مَعَ عدم الْخلَل فِي الأولى) انْتهى.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والطوفي فِي " مُخْتَصره "،

(2/870)


وَجمع: (لخلل فِي الأول) ، فخصوا الْإِعَادَة بذلك.
وَقَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء: (لعذر) ، فَهُوَ أخص من الَّذِي قبله.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (مَا فعل فِي وقته الْمُقدر مرّة أُخْرَى، زَاد بَعضهم: لخلل، وَبَعْضهمْ: لعذر) انْتهى.
وَفِي مَذْهَب مَالك: لَا تخْتَص الْإِعَادَة بِالْوَقْتِ، بل هِيَ فِي الْوَقْت لاستدراك المندوبات، وَبعد الْوَقْت لاستدراك الْوَاجِبَات.
وَتقدم كَلَام الشَّيْخ موفق الدّين: أَن الْإِعَادَة فعل الشَّيْء مرّة بعد أُخْرَى، وَظَاهره: وَلَو كَانَ خَارج الْوَقْت.

(2/871)


قَوْله: {فصل}

{الْعِبَادَة ن طلب فعلهَا من كل وَاحِد بِالذَّاتِ: كالخمس والنوافل، أَو من وَاحِد معِين: كالخصائص، فَفرض عين، وَسنة عين، وَإِن طلب الْفِعْل فَقَط، فَفرض كِفَايَة [وَسنة كِفَايَة، قَالَه أَصْحَابنَا وَغَيرهم، كالسلام وَنَحْوه] } .
هَذَا الْفَصْل فِيهِ تَقْسِيم الْوُجُوب وَالنَّدْب بِاعْتِبَار من يجب عَلَيْهِ وَمن ينْدب فِي حَقه.
وَحَاصِله: أَن الْوُجُوب وَالنَّدْب يَنْقَسِم إِلَى: فرض عين، وَفرض كِفَايَة، وَسنة عين، وَسنة كِفَايَة.

(2/872)


فَفرض الْعين وَسنة الْعين: مَا تنَاول كل وَاحِد من الْمُكَلّفين فرضا ونفلاً: كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْم، وَنَحْوهمَا.
وَقد يتناولان وَاحِدًا معينا: كخصائص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد اخْتصَّ بفرائض وَسنَن.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (خص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بواجبات، ومحظورات، ومباحات، وكرامات) .
وَفرض الْكِفَايَة: كالجهاد وَنَحْوه، وَهُوَ كثير، وَقد حصره وعده جمَاعَة من الْعلمَاء.
وَسنة الْكِفَايَة: كابتداء السَّلَام، وتشميت الْعَاطِس على قَول،

(2/873)


وَالْأُضْحِيَّة فِي حق أهل الْبَيْت، وَتَسْمِيَة أحد الآكلين عَن بَقِيَّتهمْ، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي.
وَقد ذكر النَّاظِم، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم: سنة الْكِفَايَة.
وَسمي فرض الْكِفَايَة؛ لِأَن فعل الْبَعْض فِيهِ يَكْفِي فِي سُقُوط الْإِثْم.
وَالْفرق بَينه وَبَين فرض الْعين: أَن فرض الْعين: مَا تَكَرَّرت مصْلحَته بتكرره كالصلوات الْخمس وَغَيرهَا، فَإِن مصلحتها الخضوع لله، وتعظيمه، ومناجاته، والتذلل والمثول بَين يَدَيْهِ، وَهَذِه الْآدَاب تكْثر كلما كررت الصَّلَاة.
وَفرض الْكِفَايَة: مَا لَا تَتَكَرَّر مصْلحَته بتكرره: كإنجاء الغريق، وَغسل الْمَيِّت، وَدَفنه، وَنَحْوهَا.
فهما متباينان تبَاين النَّوْعَيْنِ، خلافًا للمعتزلة فِي قَوْلهم: تبَاين الجنسين، إِذْ الْوَاجِب أَو الْمَنْدُوب صَادِق على الْأَمريْنِ بالتواطؤ، من حَيْثُ أَن كلا مِنْهُمَا لابد من وُقُوعه، أَو وُقُوعه مُحَصل لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الثَّوَاب، فَلَيْسَ لفظ الْفَرْض وَالسّنة مُشْتَركا بَينهمَا اشتراكاً لفظياً كَمَا يَزْعمُونَ.

(2/874)


قَوْله: { [وهما] : مُهِمّ يقْصد حُصُوله من غير نظر بِالذَّاتِ إِلَى فَاعله} .
وأصل هَذَا الْحَد للغزالي، إِلَّا أَنه قَالَ: (كل مُهِمّ ديني يقْصد الشَّرْع حُصُوله من غير نظر إِلَى فَاعله) ، حَكَاهُ عَنهُ الرَّافِعِيّ فِي كتاب " السّير "، وَمَعْنَاهُ: أَن فروض الْكِفَايَة أُمُور كُلية تتَعَلَّق بهَا مصَالح دينية ودنيوية لَا يَنْتَظِم الْأَمر إِلَّا بحصولها، فيقصد الشَّرْع حُصُولهَا، وَلَا يقْصد تَكْلِيف الْوَاحِد وامتحانه فِيهَا، بِخِلَاف فروض الْأَعْيَان فَإِن الْكل مكلفون بهَا ممتحنون بتحصيلها، وَهَذَا الْحَد " يَشْمَل سنة الْكِفَايَة، [فَإِنَّهُ] لم يقل: يقْصد الشَّارِع حُصُوله لُزُوما.
والمهم قِسْمَانِ: مُهِمّ لابد من حُصُوله، ومهم الشَّرْع حُصُوله.
وأسقطت من الْحَد لفظ: (كل) ؛ لِأَنَّهَا للأفراد، والتعريف للماهية.
وأسقطت لَفْظَة: (ديني) ؛ ليدْخل نَحْو الْحَرْف والصناعات.
وزدنا: (بِالذَّاتِ) من قَوْلنَا: (من غير نظر بِالذَّاتِ إِلَى فَاعله) ؛ لِأَن مَا من فعل يتَعَلَّق بِهِ الحكم إِلَّا وَينظر فِيهِ للْفَاعِل، حَتَّى يُثَاب على واجبه

(2/875)


ومندوبه، ويعاقب على ترك الْوَاجِب، وَإِنَّمَا يفترقان فِي كَون الْمَطْلُوب عينا يختبر فِيهِ الْفِعْل ويمتحن ليثاب أَو يُعَاقب، وَالْمَطْلُوب كِفَايَة يقْصد حُصُوله قصدا ذاتياً، وَقصد الْفَاعِل فِيهِ تبع لَا ذاتي.
قَوْله: { [وَالْأول] وَاجِب على الْجَمِيع عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء، مِنْهُم الْأَرْبَعَة، نَقله عَنْهُم ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَغَيره.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الْغَزْو وَاجِب على النَّاس كلهم، فَإِذا غزا بَعضهم أَجْزَأَ عَنْهُم) ، وَقَالَهُ أَصْحَابه.
وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي فِي " الْأُم ": (حق على النَّاس غسيل الْمَيِّت، وَالصَّلَاة عَلَيْهِ، وَدَفنه، لَا يسع عامتهم تَركه، وَإِذا قَامَ بِهِ من فِيهِ كِفَايَة أَجْزَأَ عَنْهُم إِن شَاءَ الله تَعَالَى) .

(2/876)


وَقَالَ مَعْنَاهُ فِي بَاب السّلف، وَجرى عَلَيْهِ أَصْحَابه.
وَمن الْأُصُولِيِّينَ: الصَّيْرَفِي، والباقلاني، والشيرازي، وَالْغَزالِيّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَنَقله عَن أَصْحَابهم، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم.
فَائِدَة: إِذا قُلْنَا: إِنَّه تعلق بِالْجَمِيعِ، فَهَل مَعْنَاهُ: أَنه يتَعَلَّق بِكُل وَاحِد، أَو بِالْجَمِيعِ من حَيْثُ هُوَ جَمِيع؟
مُقْتَضى كَلَام الباقلاني الأول، وَظَاهر كَلَام الْأَكْثَرين الثَّانِي.
فَمَعْنَى الأول: أَن كل مُكَلّف مُخَاطب بِهِ، فَإِذا قَامَ بِهِ بعض سقط عَن غَيرهم رخصَة وتخفيفاً لحُصُول الْمَقْصُود.
وَمعنى الثَّانِي: أَن الْجَمِيع مخاطبون بإيقاعه مِنْهُم، من أَي فَاعل فعله، وَلَا يلْزم على هَذَا أَن يكون الشَّخْص مُخَاطبا بِفعل غَيره. لأَنا نقُول: كلفوا بِمَا هُوَ أَعم من فعلهم وَفعل غَيرهم، وَذَلِكَ مَقْدُور تَحْصِيله مِنْهُم، لِأَن كلا قَادر عَلَيْهِ، وَلَو لم يَفْعَله غَيره، وَفرض الْعين الْمَقْصُود مِنْهُ امتحان كل وَاحِد بِمَا خُوطِبَ بِهِ لحُصُول ذَلِك الْفِعْل مِنْهُ بِنَفسِهِ.

(2/877)


وَقَالَ طَائِفَة من الْأُصُولِيِّينَ: يلْزم طَائِفَة مُبْهمَة، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، وَحكي عَن الْمُعْتَزلَة.
[قَالَ] الْبرمَاوِيّ: (اخْتَار الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: أَنه على الْبَعْض، وَاخْتَارَهُ التَّاج السُّبْكِيّ.
ورد هَذَا القَوْل: بإثم الْجَمِيع بِتَرْكِهِ إِجْمَاعًا، وإثم وَاحِد مِنْهُم لَا يعقل، لِأَنَّهُ لَا يُمكن عِقَابه، وَسُقُوط الْإِثْم بِفعل بَعضهم لَيْسَ مَانِعا.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} [التَّوْبَة: 122] ، فَالْمُرَاد بالطائفة: المسقطة للْوَاجِب.
وَقيل: يجب على طَائِفَة مُعينَة عِنْد الله تَعَالَى دون النَّاس.
وَقيل: مَا قَامَ بِهِ فَهُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِ.
وَهُوَ نَظِير الْخلاف فِي الْوَاجِب الْمُخَير.

(2/878)


قَوْله: {قَالَ أَصْحَابنَا [وَغَيرهم] : وَمن ظن أَن غَيره لَا يقوم بِهِ وَجب عَلَيْهِ} .
وَذَلِكَ لِأَن الظَّن منَاط التَّعَبُّد.
قَوْله: { [وَإِن] فعله الْجَمِيع مَعًا كَانَ فرضا إِجْمَاعًا} .
لعدم التَّمْيِيز، لَكِن رَأَيْت لإِمَام الْحَرَمَيْنِ احْتِمَالا أَن يَجْعَل كمسح الرَّأْس فِي الْوضُوء دفْعَة، هَل الْفَرْض الْكل، أَو مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم؟ ثمَّ قَالَ: (وَقد يَقُول الفطن: رُتْبَة الْفَرْضِيَّة فَوق السّنيَّة، وكل مصل من الْجَمِيع يَنْبَغِي أَن لَا يحرم الْفَرْضِيَّة، وَقد قَامَ بِمَا أَمر بِهِ، وَهَذَا لطيف لَا يَصح مثله فِي الْمسْح) انْتهى.
قلت: وَقَرِيب مِمَّا قَالَ، لَو وَجب عَلَيْهِ سبع بَدَنَة فأخرجها كَامِلَة، هَل يُوصف الْكل بِالْوُجُوب، أَو السَّبع وَالْبَاقِي سنة؟ لنا فِيهِ وَجْهَان.

(2/879)


قَوْله: {وَيسْقط [الطّلب الْجَازِم] بِفعل من يَكْفِي كسقوط الْإِثْم إِجْمَاعًا} .
وَذَلِكَ لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ الْفِعْل، وَقد وجد، وَيَكْفِي فِي سُقُوطه غَلَبَة الظَّن، فَإِذا غلب على ظن طَائِفَة أَن غَيرهَا قَامَ بِهِ سقط، قَالَه القَاضِي، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والطوفي، وَغَيرهم.
قَالَ الطوفي: (لَو غلب على ظن طَائِفَة أَن غَيرهَا قَامَ بِهِ سقط عَنْهَا، وَإِن غلب على ظن كل من الطَّائِفَتَيْنِ أَو الطوائف أَن الْأُخْرَى قَامَت بِهِ سقط عَن الْجَمِيع، عملا بِمُوجب الظَّن؛ لِأَنَّهُ كَمَا يصلح مثبتاً للتكاليف يَصح مسْقطًا لَهَا) انْتهى.
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ ": (وَإِن ظنت طَائِفَة قيام غَيرهَا بِهِ، وظنت أُخْرَى عَكسه، سقط عَن الأولى، وَوَجَب على الثَّانِيَة.
وَقَالَ: فلك أَن تَقول: هَذَا يشكل بِالِاجْتِهَادِ؛ فَإِنَّهُ من فروض الْكِفَايَة، وَلَا إِثْم فِي تَركه، وَإِلَّا لزم تأثيم أهل الدُّنْيَا.
فَإِن قيل: إِنَّمَا انْتَفَى الْإِثْم لعدم الْقُدْرَة.
قلتنا: فَيلْزم أَن لَا يكون فرضا) انْتهى.

(2/880)


{ [قيل] : الثَّانِي فرض أَيْضا، [وَجزم بِهِ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "] ، فَلَا يُجزئ بنية [النَّفْل] [وفَاقا للشَّافِعِيَّة] } ، وذكروه أَيْضا فِي صَلَاة الْجِنَازَة مرّة أُخْرَى، [لتعيينها] بشروعه، لِأَنَّهَا شرعت لمصْلحَة، وَهِي قبُول الشَّفَاعَة، وَلم يعلم.
ورد: يَكْفِي الظَّن بِدَلِيل سُقُوط الْإِثْم.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (إِذا بَاشر الْجِهَاد وَقد سقط الْفَرْض، فَهَل يَقع فرضا أَو نفلا؟ علىوجهين كالوجهين فِي صَلَاة الْجِنَازَة إِذا أَعَادَهَا بعد أَن صلاهَا غَيره، وانبنى على الْوَجْهَيْنِ جَوَاز فعلهَا بعد الْعَصْر وَالْفَجْر مرّة ثَانِيَة، وَالصَّحِيح: أَن ذَلِك يَقع فرضا، وَأَنه يجوز فعلهَا بعد الْعَصْر وَالْفَجْر، وَإِن كَانَ ابْتِدَاء الدُّخُول فِيهِ تَطَوّعا كَمَا فِي التَّطَوُّع الَّذِي يلْزم بِالشُّرُوعِ، فَإِنَّهُ كَانَ نفلا ثمَّ يصير إِتْمَامه وَاجِبا) انْتهى.

(2/881)


فَائِدَة: من شُرُوط سُقُوط فرض الْكِفَايَة: أَن يكون فَاعله مُكَلّفا من الْآدَمِيّين، فَلَا يسْقط بِفعل مُمَيّز إِلَّا فِيمَا الْمَقْصُود حُصُوله فَقَط، كحمل الْمَيِّت وَدَفنه وَنَحْوهمَا، وَلنَا خلاف فِي الْأَذَان، وَغسل الْمَيِّت، وَغَيرهمَا، لَكِن الْمَشْهُور من الْمَذْهَب صِحَة الْأَذَان وَغسل الْمَيِّت من الْمُمَيز.
وَلنَا أَيْضا فِي غسل الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ للْمَيت خلاف ضَعِيف فِي الْإِجْزَاء.
قَوْله: {وَلَا فرق بَينه وَبَين فرض الْعين ابْتِدَاء، قَالَه الْمُوفق وَغَيره} .
يَعْنِي: على القَوْل بِأَنَّهُ وَاجِب على الْجَمِيع، قَالَه الْمُوفق وَغَيره، وَإِنَّمَا يتفرقان فِي ثَانِي الْحَال، وَهُوَ 0 فرق حكمي.
قَوْله: {وَفرض الْعين أفضل مِنْهُ، وَيلْزم بِالشُّرُوعِ فِي الْأَظْهر فيهمَا} . ذكرنَا مَسْأَلَتَيْنِ.

(2/882)


إِحْدَاهمَا: هَل فرض الْعين أفضل، أم فرض الْكِفَايَة؟
فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: - وَهُوَ الصَّحِيح أَن فرض الْعين أفضل، لِأَن فَرْضه أهم وَلذَلِك وَجب على الْأَعْيَان، وَهَذَا قَول الْأَكْثَر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن فرض الْكِفَايَة أفضل، اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ فِي كتاب " التَّرْتِيب "، وَأَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ فِي كِتَابه " الْمُحِيط "، وَولده أَبُو الْمَعَالِي، وَحَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو عَليّ فِي أول " شرح التَّلْخِيص " عَن الْمُحَقِّقين؛ لِأَن فَاعله ساع فِي صِيَانة الْأمة كلهَا عَن الْإِثْم، وَلَا شكّ فِي رُجْحَان من حل مَحل الْمُسلمين أَجْمَعِينَ فِي الْقيام بمهمات الدّين، قَالَه أَبُو الْمَعَالِي.
قلت: لَو قيل: إنَّهُمَا سَوَاء فِي الْفَضِيلَة لَكَانَ متجهاً، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا اخْتصَّ بمزية لَا تُوجد فِي الآخر، فَكَانَا سَوَاء.

(2/883)


وفاعل فرض الْكِفَايَة أفضل من غير فَاعله، ضَرُورَة أَنه حصل الْمصلحَة دون غَيره، نعم؛ هما سيان فِي الْخُرُوج من الْعهْدَة.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: هَل يلْزم فرض الْكِفَايَة بِالشُّرُوعِ أم لَا؟
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": (قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ أخذا من احْتِمَالَيْنِ فِي " التَّلْخِيص " للشَّيْخ فَخر الدّين ابْن تَيْمِية فِي اللَّقِيط إِذا أَرَادَ الْمُلْتَقط رده إِلَى الْحَاكِم مَعَ قدرته، وَعلل احْتِمَال الْمَنْع بِأَنَّهُ فرض كِفَايَة وَقد شرع فِيهِ وَقدر عَلَيْهِ فَصَارَ مُتَعَيّنا.
وَيُؤْخَذ أَيْضا من أحد الْقَوْلَيْنِ من مَسْأَلَة حفظ الْقُرْآن، إِنَّه فرض كِفَايَة إِجْمَاعًا، فَإِذا حفظه وَأخر تِلَاوَته حَتَّى نَسيَه وَلَا عذر، حرم على الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (مَا أَشد مَا جَاءَ فِيمَن حفظه ثمَّ نَسيَه) .

(2/884)


وَفِيه وَجه: يكره، وَقدمه بعض الْأَصْحَاب) ، وللشافعية قَولَانِ، وَلم يرجح الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ شَيْئا، وَاخْتَارَ ابْن الرّفْعَة، أَنه لَا يلْزم.
وَقَالَ ابْن الْبَارِزِيّ فِي " التَّمْيِيز ": (لَا يلْزم فرض الْكِفَايَة بِالشُّرُوعِ

(2/885)


- فِي الْأَصَح إِلَّا فِي الْجِهَاد وَصَلَاة الْجِنَازَة) انْتهى. وَخُرُوج الْجِهَاد وَصَلَاة الْجِنَازَة لما فِي الأول من تخذيل الْمُسلمين وَكسر الْقُلُوب، وَلما فِي الثَّانِي من هتك حُرْمَة الْمَيِّت، فَيكون هَذَا وَجها ثَالِثا فِي الْمَسْأَلَة.
قَوْله: { [كفرض عين وَلَو موسعاً: كَصَلَاة، وَقَضَاء رَمَضَان عِنْد الْأَرْبَعَة] } .
يَعْنِي: أَن فرض الْعين يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن يكون وقته مضيقاً: كَصَوْم رَمَضَان، وَصَلَاة فِي آخر وَقتهَا، وَنَحْوهمَا، فَهَذَا يلْزم بِالشُّرُوعِ، وَتلْزم الْمُبَادرَة إِلَيْهِ بِلَا نزاع.
وَالثَّانِي: أَن يكون وقته موسعاً: كَالصَّلَاةِ فِي أول وَقتهَا، وَقَضَاء رَمَضَان، إِذا كَانَ الْوَقْت متسعاً، وَالنّذر الْمُطلق، وَالْكَفَّارَة، فَهَذَا أَيْضا يلْزم بِالشُّرُوعِ، وَيحرم خُرُوجه مِنْهُ بِلَا عذر عَنهُ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.

(2/886)


قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين: (هَذَا بِغَيْر خلاف) .
وَقَالَ الشَّيْخ مجد الدّين: (لَا نعلم فِيهِ خلافًا، لِأَن الْخُرُوج من عُهْدَة الْوَاجِب مُتَعَيّن، وَدخلت التَّوسعَة فِي وقته وَقفا ومظنة الْحَاجة، فَإِذا شرع تعيّنت الْمصلحَة فِي إِتْمَامه، وَجَاز للصَّائِم فِي السّفر الْفطر لقِيَام الْمُبِيح وَهُوَ السّفر، كالمرض) .
وَخَالف جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة فِي الصَّوْم، ووافقوا على الْمَكْتُوبَة أول وَقتهَا، نقل ذَلِك ابْن مُفْلِح فِي أَوَاخِر الصَّوْم.
وَقَالَ ولد الْمجد فِي " المسودة ": (الْعِبَادَة الموسعة: كَالصَّلَاةِ، وَقَضَاء الصَّوْم، لَا يصير فعلهَا بعد التَّلَبُّس بهَا وَاجِبا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تلْزم بِالشُّرُوعِ) ، وَأقرهُ وَلَده الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَلم يتعقبه بِشَيْء، فَدلَّ أَنه مُوَافق عَلَيْهِ، لَكِن الَّذِي يظْهر أَن فِي هَذَا النَّقْل نظرا.

(2/887)


فَائِدَة: قَالَ الْمحلي: (سنة الْكِفَايَة كفرضها فِي الْأُمُور الْمُتَقَدّمَة وَهِي أَرْبَعَة:
أَحدهَا: من حَيْثُ التَّمْيِيز عَن سنة الْعين: مُهِمّ يقْصد حُصُوله من غير نظر إِلَى فَاعله.
ثَانِيهَا: أَنَّهَا أفضل من سنة الْعين، عِنْد الْأُسْتَاذ وَمن مَعَه، لسُقُوط الطّلب [بِقِيَام الْبَعْض] بهَا عَن كل المطلوبين بهَا.
ثَالِثهَا: أَنَّهَا مَطْلُوبَة من الْكل عِنْد الْجُمْهُور، وَقيل: الْبَعْض، وَعَلِيهِ فِيهِ الثَّلَاثَة أَقْوَال.
[رَابِعهَا] : أَنَّهَا [تتَعَيَّن] بِالشُّرُوعِ، أَي: تصير بِهِ سنة عين، يَعْنِي: مثلهَا فِي تَأَكد طلب الْإِتْمَام) انْتهى.
قَوْله: { [فَإِن] طلب وَاحِد من الْأَشْيَاء كخصال الْكَفَّارَة وَنَحْوهَا، فَالْوَاجِب وَاحِد لَا بِعَيْنِه} .

(2/888)


التَّعْبِير بالمطلوب أولى، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون وَاجِبا أَو مُسْتَحبا، وَإِن كَانَ الْمَشْهُور التَّعْبِير بِالْوَاجِبِ الْمُخَير.
وتصوير الْمَنْدُوب فِي الْمَطْلُوب الْمُخَير حَيْثُ تسْتَحب الْكَفَّارَة.
وَالْمرَاد بِالْكَفَّارَةِ: كَفَّارَة الْيَمين فِي قَوْله تَعَالَى: {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} [الْمَائِدَة: 89] ، وَنَحْوهَا، كجزاء الصَّيْد فِي قَوْله تَعَالَى: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم هَديا بَالغ الْكَعْبَة أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك صياما} [الْمَائِدَة: 95] ، وكفدية الْأَذَى فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} [الْبَقَرَة: 196] ، وكالجبران فِي الزَّكَاة فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَاتين أَو عشْرين درهما "، وَمثل الْوَاجِب فِي الْمِائَتَيْنِ من الْإِبِل: " أَربع حقاق أَو خمس بَنَات لبون "، وكالتخيير بَين غسل الرجلَيْن فِي الْوضُوء للابس الْخُف أَو الْمسْح عَلَيْهِ، وَنَحْوهَا.

(2/889)


إِذا علم ذَلِك؛ فَالْوَاجِب وَاحِد لَا بِعَيْنِه {عِنْد [أَكثر الْعلمَاء] } ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ موفق [الدّين] ، وَغَيره من الْأَصْحَاب، وَذكره أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي عَن الإِمَام أَحْمد، وَقَالَهُ عَامَّة الْفُقَهَاء، والأشعرية، وَنقل ابْن الباقلاني [أَن] إِجْمَاع السّلف وأئمة الْفِقْه عَلَيْهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذ: (هُوَ مَذْهَب الْفُقَهَاء كَافَّة) .
فعلى هَذَا قَالَ { [القَاضِي] ، وَابْن عقيل: يتَعَيَّن} ذَلِك الْوَاحِد {بِالْفِعْلِ} ، وَذكره ابْن عقيل {عَن الْفُقَهَاء والأشعرية.

(2/890)


وَقيل: [يتَعَيَّن بِتَعْيِين الَّذِي وَجب عَلَيْهِ قبل فعله] } .
[قَالَ] الْبرمَاوِيّ: (ثمَّ على القَوْل الأول، بِمَاذَا يتَعَيَّن الْوَاجِب؟ أباختيار الْمُكَلف أَو بِالْفِعْلِ؟ قَولَانِ.
وَحكى الأول ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْإِلْمَام ") انْتهى.
{وَقَالَ أَبُو الْخطاب} وَغَيره: (هُوَ {معِين عِنْد الله تَعَالَى، علم أَنه لَا يفعل غَيره) } .
فَحِينَئِذٍ يخْتَلف الْوَاجِب بِحَسب الفاعلين.
ورده ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (بِأَنَّهُ لَو مَاتَ قبل أَن يفعل شَيْئا، وَلم [يغْفل] عَنهُ، بَان أَنه لَا وجوب، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع) انْتهى.
وَقَالَ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ": (أَصْحَابنَا ينسبون هَذَا القَوْل إِلَى الْمُعْتَزلَة، والمعتزلة تنسبه إِلَى أَصْحَابنَا، وَاتفقَ الْفَرِيقَانِ على فَسَاده) ، وَيُسمى قَول التراجم.

(2/891)


لذَلِك قَالَ السُّبْكِيّ: (وَعِنْدِي أَنه لم يقل بِهِ أحد) .
قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، فقد اخْتَارَهُ الإِمَام أَبُو الْخطاب من أَئِمَّة أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ [الْقطَّان] من الشَّافِعِيَّة عَن بعض الْأُصُولِيِّينَ، فَلَا وَجه لإنكاره بحثا.
قلت: وَيحْتَمل أَن يكون لكل من الْمُعْتَزلَة والأشعرية، وَلكنه ضَعِيف شَاذ عِنْد كل من الطَّائِفَتَيْنِ لم يشْتَهر، وَهُوَ أولى من النَّفْي، فَإِن النَّاقِل من الطَّائِفَتَيْنِ قد يكون ثِقَة من الْأَئِمَّة، فَهُوَ مقدم على النَّافِي فِيمَا يظْهر، وَلَا يُقَال: هَذَا نفي مَحْصُور، أَو تتبعنا فَلم نجد نقلا بِهِ، وَالله أعلم.
{وَقيل: بِالْوَقْفِ} لتعارض الْأَدِلَّة.
{وَعَن الْمُعْتَزلَة كَالْقَاضِي} أبي يعلى.
يَعْنِي: أَنهم قَالُوا: الْوَاجِب وَاحِد يتَعَيَّن بِالْفِعْلِ.
{ [وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة] } : الْوَاجِب وَاحِد {معِين} عِنْد الله، {وَيسْقط بِغَيْرِهِ} إِذا فعله الْمُكَلف، وَيكون نفلا أسقط فرضا.

(2/892)


ورد: بالِاتِّفَاقِ على أَنه فعل الْوَاجِب لَا بدله.
{ [وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة] } أَيْضا {كلهَا وَاجِب على التَّخْيِير} ، وَهُوَ مَنْقُول عَن الجبائي وَابْنه، وَنسبه قوم إِلَى كل الْمُعْتَزلَة، وتبعهم قوم من الْفُقَهَاء كَمَا نَقله ابْن الباقلاني.
{ [وَمعنى ذَلِك] : أَن كل وَاحِد مُرَاد} لَا على معنى أَنه يجب الْإِتْيَان بِكُل وَاحِد، بل على أَنه لَا يجوز الْإِخْلَال بِالْجَمِيعِ، فعلى هَذَا لَا خلاف فِي " الْمَعْنى "، بل فِي الْعبارَة، وَإِنَّمَا مَأْخَذ الْمُعْتَزلَة: أَن الحكم عِنْدهم يتبع الْحسن والقبح العقليين، فَلَو كَانَ أحد الْخِصَال وَاجِبا، لزم خلو الْبَاقِي عَن الْحسن الْمُقْتَضِي للْإِيجَاب، فيرتفع الْمُقْتَضِي فِي كل وَاحِد وَاحِد.
كَذَا قرر أَن الْخلاف لَفْظِي: ابْن الباقلاني، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ،

(2/893)


وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي، وَابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وسليم الرَّازِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: (بل الْخلاف معنوي، لأَنا نخطئهم فِي إِطْلَاق اسْم الْوُجُوب على الْجَمِيع، لإِجْمَاع الْمُسلمين على أَن الْوَاجِب فِي الْكَفَّارَة المخيرة أحد الْأُمُور) .
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (الَّذِي يظْهر من كَلَام الْغَزالِيّ، وَابْن فورك: أَنه معنوي) .
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن التلمساني وَغَيرهم.

(2/894)


وَقيل: (تظهر فَائِدَته فِي الثَّوَاب وَالْعِقَاب، إِذا فعل الْجَمِيع، أَو أخل بِالْكُلِّ) وَهُوَ ضَعِيف.
دَلِيل أَرْبَاب القَوْل الأول وَهُوَ الصَّحِيح -: أَنه يجوز التَّكْلِيف بِهِ عقلا: كتكليف السَّيِّد عَبده بِفعل هَذَا الشَّيْء أَو ذَاك، على أَن يثيبه على أَيهمَا فعل، ويعاقبه بترك الْجَمِيع، وَلَو أطلق لم يفهم وجوبهما، وَالنَّص دلّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لم يرد الْجَمِيع وَلَا وَاحِدًا بِعَيْنِه، لِأَنَّهُ خَيره، وَلَو أوجب التَّخْيِير الْجَمِيع، لَوَجَبَتْ عتق الْجَمِيع إِذا وَكله فِي إِعْتَاق أحد عبديه، وتزويج موليته بالخطابين، إِذا وكلته فِي التَّزْوِيج بِأَحَدِهِمَا.
قَالُوا: غير الْمعِين مَجْهُول فَلَا يشْعر بِهِ، ويستحيل وُقُوعه فَلَا يُكَلف بِهِ.
ورد: بتعيينه من حَيْثُ هُوَ وَاجِب، وَهُوَ وَاحِد من الثَّلَاثَة، فَيَنْتَفِي الشخصي، فصح إطلاقهما عَلَيْهِ باعتبارين.
قَالُوا: لَو لم يجب الْجَمِيع لوَجَبَ وَاحِد، فَإِن تعين فَلَا تَخْيِير، أَو وَقع التَّخْيِير بَين وَاجِب وَغَيره، وَإِن لمة يتعسن فواحد غير وَاجِب، فَإِن تعدد لزم التَّخْيِير بَين وَاجِب وَغَيره، وَإِن اتَّحد اجْتمع الْوُجُوب وَعَدَمه.
رد: يلْزم فِي الْإِعْتَاق وَالتَّزْوِيج، ثمَّ الْوَاجِب لم يُخَيّر فِيهِ لإبهامه، والمخير فِيهِ لم يجب لتعيينه، وَهِي الْأَفْرَاد الثَّلَاثَة، وَلِأَنَّهُ يَتَعَدَّد الْوُجُوب والتخيير، فتعدد متعلقاهما: الْوَاجِب والمخير، كَمَا لَو حرم الشَّارِع وَاحِدًا وَأوجب وَاحِدًا.

(2/895)


قَالُوا: يجب أَن يعلم الْآمِر مَا أوجبه، لِاسْتِحَالَة طلب غير مُتَصَوّر. رد: يُعلمهُ حسب مَا أوجبه، وَإِذا أوجبه غير معِين علمه كَذَلِك.
قَالُوا: علم مَا يَفْعَله الْمُكَلف، فَكَانَ الْوَاجِب، لِأَنَّهُ يمْتَنع إِيجَابه مَا علم عدم وُقُوعه.
رد: بِمَنْعه، ثمَّ لم يجب بخصوصة للْقطع بتساوي النَّاس فِي الْوَاجِب إِجْمَاعًا.
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: حرر ابْن الْحَاجِب معنى الْإِبْهَام فِيهِ، فَقَالَ: (مُتَعَلق الْوُجُوب هُوَ الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْخِصَال، وَلَا تَخْيِير فِيهِ لِأَنَّهُ وَاحِد، وَلَا يجوز تَركه، ومتعلق التَّخْيِير خصوصيات الْخِصَال الَّتِي فِيهَا التَّعَدُّد، وَلَا وجوب فِيهَا ".
قَالَ السُّبْكِيّ الْكَبِير: (وَعِنْدِي زِيَادَة أُخْرَى فِي التَّحْرِير، وَهِي: أَن الْقدر الْمُشْتَرك يُقَال على المتواطي كَالرّجلِ، وَلَا إِبْهَام فِيهِ، فَإِن حَقِيقَته مَعْلُومَة متميزة [عَن غَيرهَا] من الْحَقَائِق، وَيُقَال على الْمُبْهم من شَيْئَيْنِ أَو أَشْيَاء كَأحد الرجلَيْن.
وَالْفرق بَينهمَا: أَن الأول لم يقْصد فِيهِ إِلَّا الْحَقِيقَة، وَالثَّانِي قصد فِيهِ ذَلِك مَعَ أحد الشخصين بِعَيْنِه، أَي: لَا بِاعْتِبَار معنى مُشْتَرك بَينهمَا، وَإِن لم يعين، وَلذَلِك سمي مُبْهما، لِأَنَّهُ أبهم علينا أمره، فَلَا يُقَال فِي الأول الَّذِي

(2/896)


هُوَ نَحْو: أعتق رَقَبَة -: إِنَّه وَاجِب مُخَيّر، لِأَنَّهُ لم يقل أحد فِيهِ: بتعلق الحكم [بخصوصياته] ، بِخِلَاف الثَّانِي، فَإِنَّهُم أَجمعُوا على تَسْمِيَته مُخَيّرا، وَمن الأول أَكثر أوَامِر الشَّرِيعَة.
فَيتَعَيَّن أَن الْقدر الْمُشْتَرك فِي الثَّانِي أخص من الْقدر الْمُشْتَرك فِي الأول، وَإِلَيْهِ يرشد قَوْلهم: من أُمُور مُعينَة.
وَالْمعْنَى: أَن النّظر إِلَيْهَا من حَيْثُ تعينها وتميزها مَعَ الْإِبْهَام احْتِرَاز من الْقسم الأول) انْتهى.
الثَّانِيَة: مَحل الْخلاف فِي صِيغَة وَردت يُرَاد بهَا التَّخْيِير، أَو مَا فِي معنى وُرُود ذَلِك، كَمَا سبق التَّمْثِيل بِهِ.
فَأَما نَحْو تَخْيِير المستنجئ بَين المَاء وَالْحجر، والناسك بَين الْإِفْرَاد والتمتع وَالْقرَان، وَنَحْو ذَلِك، فَلَيْسَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لم يرد تَخْيِير بِلَفْظ وَلَا بِمَعْنَاهُ، بِخِلَاف مَا تقدم.
قَوْله: {تَنْبِيه: لَا يجب أَكثر من وَاحِدَة إِجْمَاعًا} .
وَهُوَ وَاضح، لِأَنَّهُ قد خَيره فِي ذَلِك.

(2/897)


{ [وَإِن] كفر بهَا مرتبَة فَالْوَاجِب الأول إِجْمَاعًا} .
لِأَنَّهُ الَّذِي أسقط الْفَرْض، وَالَّذِي بعده لم يُصَادف وجوبا فِي الذِّمَّة. {أَو مَعًا} .
يَعْنِي: إِذا كفر بهَا مَعًا فِي وَقت وَاحِد، وَيتَصَوَّر ذَلِك، وصورها أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع ": بِأَن يكون قد بَقِي عَلَيْهِ من الصَّوْم يَوْم ووكل فِي الْإِطْعَام وَالْعِتْق.
قلت: وَأولى مِنْهَا من كَفَّارَة الْيَمين، بِأَن يُوكل شخصا يطعم وشخصاً يكسو أَو يعْتق، وَهُوَ فِي آن وَاحِد، أَو يُوكل فِي الْكل، وَيفْعل فِي وَقت وَاحِد.
إِذا علم ذَلِك؛ { [فَلَا] يُثَاب ثَوَاب الْوَاجِب على كل وَاحِد إِجْمَاعًا، بل على أَعْلَاهَا} ، لِأَنَّهُ لَا ينقصهُ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ، وترجيح الْأَعْلَى لكَون الزِّيَادَة فِيهِ لَا يَلِيق بكرم الله تَعَالَى تضييعها على الْفَاعِل، مَعَ الْإِمْكَان وقصدها بِالْوُجُوب وَإِن اقْترن بِهِ آخر.

(2/898)


{وَإِن ترك الْكل لم يَأْثَم عَلَيْهِ} .
أَي: على الْكل {إِجْمَاعًا} ، لِأَن الْكل لَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ حَتَّى يَأْثَم عَلَيْهِ إِذا تَركه.
{ [بل قَالَ] القَاضِي} أَبُو يعلى، {و} القَاضِي { [أَبُو الطّيب] } - محققين لذَلِك -: ( { [يَأْثَم] بِقدر عِقَاب أدناها، [لَا أَنه] [نفس عِقَاب أدناها] } ) .
وَغَيرهمَا قَالَ: (يُعَاقب على الْأَدْنَى، لِأَن الْوُجُوب يسْقط بِهِ) .
{وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل: (يُثَاب على وَاحِد وَيَأْثَم بِهِ) }
وَقيل: (يَأْثَم على وَاحِد لَا بِعَيْنِه كَمَا هُوَ وَاجِب عَلَيْهِ) ، وَلَعَلَّه قَول أبي الْخطاب، وَابْن عقيل.

(2/899)


وَقيل: (يُثَاب على فعل الْكل على مَجْمُوع أُمُور، لَا يجوز ترك كلهَا، وَلَا يجب فعلهَا.
أَي: ثَوَاب وَاجِبَات مخيرة، وَهُوَ أَزِيد من ثَوَاب بَعْضهَا، وَكَذَلِكَ الْعقَاب، يُعَاقب على ترك مَجْمُوع أُمُور، كَانَ الْمُكَلف مُخَيّرا بَين ترك أَي وَاحِد مِنْهَا شَاءَ بِشَرْط فعل الآخر) ، وَاخْتَارَ هَذَا الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من الغموض والإبهام.

(2/900)


وَقَوله: {فصل}

{وَقت الْعِبَادَة إِمَّا بِقدر فعلهَا، وَهُوَ الْمضيق: كَالصَّوْمِ، أَو أقل فَمن الْمحَال} .
أَي: التَّكْلِيف بِهِ من الْمحَال، مثل: أَن يُوجب عَلَيْهِ صَلَاة أَربع رَكْعَات كاملات فِي وَقت لَا يَسعهَا: كطرفة عين، وَنَحْوه.
{أَو أَكثر} .
أَي: وَقت الْعِبَادَة أَكثر من وَقت فعلهَا.
{وَهُوَ الموسع [كالصلوات] المؤقتة، فَيتَعَلَّق} الْوُجُوب {بِجَمِيعِهِ

(2/901)


موسعاً، أَدَاء، [عِنْد أَصْحَابنَا] ، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر} من الْمُتَكَلِّمين، والأشاعرة، وَغَيرهم، وَمن أهل الرَّأْي: مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي، وَأَبُو زيد الدبوسي.
{ [فعلى هَذَا القَوْل: أوجب] أَكثر أَصْحَابنَا والمالكية الْعَزْم [بدل الْفِعْل أول الْوَقْت] [إِذا أخر] ، وَيتَعَيَّن} الْفِعْل {آخِره} ،

(2/902)


وَذكره الرَّازِيّ عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين، وَنَقله الْمجد فِي " المسودة " عَن أَصْحَابنَا، وَنَقله الرَّازِيّ عَن أَكثر [الشَّافِعِيَّة] ، والمعتزلة، وَنَصره الباقلاني، والآمدي، وَصَححهُ النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب ".
{وَلم [يُوجِبهُ] أَبُو الْخطاب وَالْمجد} ابْن تَيْمِية، و {مَال إِلَيْهِ} القَاضِي أَبُو يعلى {فِي " الْكِفَايَة "} .
وَادّعى التَّاج السُّبْكِيّ: (أَنه لَا يعرف الأول إِلَّا عَن ابْن الباقلاني وَمن تبعه، وَأَنه مَعْدُود من هفواته، وَمن العظائم فِي الدّين، فَإِنَّهُ إِيجَاب بِلَا دَلِيل) انْتهى.
وَلم يمعن النّظر فِي النَّقْل وتحريره عَن أربابه.

(2/903)


{وَقَالَ قوم: [يتَعَلَّق الْوُجُوب بِأول الْوَقْت، فَإِن أَخّرهَا عَنهُ] فقضاء} لحَدِيث: " الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت رضوَان الله، وَفِي آخِره عَفْو الله "، وَلَيْسَ الْمُقْتَضِي للعفو هُنَا إِلَّا الْعِصْيَان بِخُرُوج الصَّلَاة عَن

(2/904)


وَقتهَا مَعَ أَن هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، ذكره ابْن مُفْلِح فِي " الْآدَاب " فِي مَسْأَلَة الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف.
{وَقَالَ أَكثر الْحَنَفِيَّة: [يتَعَلَّق الْوُجُوب بآخر الْوَقْت] ، زَاد الْكَرْخِي: (أَو بِالدُّخُولِ فِيهَا) } .
فَعنده: أَن الْوُجُوب يتَعَلَّق بآخر الْوَقْت، أَو بِالدُّخُولِ فِيهَا، فَيكون وَقتهَا أَيْضا -، فلهَا عِنْده وقتان يتَعَلَّق الْوُجُوب بهما بِالدُّخُولِ فِيهَا، وَإِلَّا بِالْآخرِ.

(2/905)


فعلى قَول أَكثر الْحَنَفِيَّة لَهُم قَولَانِ.
أَحدهمَا: { [إِن] قدم} وَصلى قبل آخر الْوَقْت {فتعجيل} ، ويكن أَوله سَببا للْجُوَاز، فَإِذا أَتَى بهَا فِيهِ فتعجل لوُجُود السَّبَب: كإخراج الزَّكَاة قبل الْحول إِذا كمل النّصاب.
وَهُوَ ظَاهر اخْتِيَار أبي الْمَعَالِي.
ورد: بِأَن التَّقْدِيم لَا تصح فِيهِ نِيَّة التَّعْجِيل إِجْمَاعًا.
نعم؛ هُوَ مَنْقُول عَن الْحَنَفِيَّة أَو أَكْثَرهم كَمَا نَقله أَبُو بكر الرَّازِيّ.
وَكَذَلِكَ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ نقل عَن [الثَّلْجِي] وَأكْثر مشايخهم الْعِرَاقِيّين ذَلِك.

(2/906)


وَلَكِن الدبوسي قَالَ فِي تَقْوِيم الْأَدِلَّة بِالْوُجُوب الموسع كَمَا تقدم، وأبطل القَوْل بتعليقه بالأخير.
{ [وَالْقَوْل الثَّانِي: نفل] يسْقط الْفَرْض} ، نَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا عَن الْحَنَفِيَّة.
وَلَكِن بعض شارحي " الْهِدَايَة " قَالَ: (إِن هَذَا قَول ضَعِيف لبَعض أَصْحَابنَا وَلَيْسَ هَذَا مَنْقُولًا عَن أبي حنيفَة) انْتهى.
وَضعف هَذَا القَوْل: بِأَن النَّفْل لَا يقوم مقَام الْفَرْض أبدا، حَتَّى لَو صلى ألف رَكْعَة بَدَلا عَن صَلَاة الصُّبْح مَا سَقَطت عَنهُ بذلك.
قَوْله: {وَأَكْثَرهم} .

(2/907)


أَي: وَقَالَ أَكْثَرهم: {إِن بَقِي مُكَلّفا، فَمَا قدمه وَاجِب، [وَإِلَّا فَلَا وجوب] } .
يَعْنِي: إِذا لم يبْق مُكَلّفا، وَكَانَ قد صلى فِي أول الْوَقْت.
قَالَ ابْن مُفْلِح بعد نَقله عَن الْحَنَفِيَّة (أَنه يتَعَلَّق بِآخِرهِ) ، وَزِيَادَة الْكَرْخِي بِالدُّخُولِ -: (فَإِن قدمه فنفل يسْقط الْفَرْض، وَأَكْثَرهم: إِن بَقِي مُكَلّفا، فَمَا قدمه وَاجِب، وَعِنْدهم: [إِن] طَرَأَ مَا يمْنَع الْوُجُوب فَلَا وجوب) انْتهى.
وَنقل غَيره عَن الْكَرْخِي: (أَن الْآتِي بِالْعبَادَة أول الْوَقْت إِن بَقِي بِصفة الْوُجُوب إِلَى آخر الْوَقْت أَي: بِصفة تَقْتَضِي تعلق الْوُجُوب بِهِ

(2/908)


فَيكون مَا فعله حِينَئِذٍ وَاجِبا، وَإِن طَرَأَ مَا يمْنَع الْوُجُوب: كموت وجنون وحيض، تبين أَن فعله [فِي الْوَاجِب نفل] ) .
وَنقل عَنهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع ": (أَن الْوَاجِب يتَعَيَّن بِالْفِعْلِ فِي أَي وَقت كَانَ) ، وَحكى الْآمِدِيّ الْقَوْلَيْنِ عَنهُ كَمَا قُلْنَا قبل ذَلِك.
قَوْله: {وَقيل: يتَعَلَّق بِوَقْت غير معِين، [ويتأدى بالمعين] كخصال الْكَفَّارَة، { [اخْتَارَهُ] ابْن عقيل [فِي " الْفُصُول "] ، وَابْن حمدَان} ، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين نَقله عَنْهُم ابْن مُفْلِح {والرازي} نَقله عَنهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل {وَالْمجد} ابْن تَيْمِية، {وَقَالَ: يجب حمل مُرَاد أَصْحَابنَا عَلَيْهِ} ، [وَذكره] ابْن عقيل عَن الْكَرْخِي.

(2/909)


{ورد} بعض أَصْحَابنَا مَا قَالَ الْمجد، وَقد صرح القَاضِي وَابْن عقيل وَغَيرهمَا بِالْفرقِ لظَاهِر النَّص، وَالْكَفَّارَة هِيَ الدَّلِيل لوُجُوبهَا بِالْحِنْثِ، فَمَا أَدَّاهُ سبق وُجُوبه، كَذَا هُنَا.
وَقَالَ ابْن عقيل: (التَّعْمِيم يزِيل معنى توسعة التَّخْيِير فِي التَّكْفِير، وتوسعة قيام شخص مقَام آخر فِي الْكِفَايَة بِالْبَعْضِ، وَهنا لم تزل الرُّخْصَة، وَفِيه فَائِدَة هِيَ: تعلق المأثم بِالتّرْكِ فِي كل الْوَقْت لَا يخْتَص بالأخير) .
لنا على الْمَذْهَب الأول وَهُوَ الصَّحِيح قَول الله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَوَات} الْآيَة، قيد بِجَمِيعِ وَقتهَا.
وَصلى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوله وَآخره وَقَالَ: " الْوَقْت مَا بَينهمَا "، وَقَالَهُ لَهُ

(2/910)


جِبْرِيل - أَيْضا عَلَيْهِ السَّلَام.
وَلِأَنَّهُ لَو تعين جُزْء لم يَصح قبله، وَبعده قَضَاء فيعصي، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع كَمَا تقدم.
وَلِأَن وجوب الْعَزْم، والتخيير بَينه وَبَين الْفِعْل، وَتَعْيِين وَقت، تحكم لَا دَلِيل عَلَيْهِ.
وَمن دَلِيل المنكرين للموسع: أَنه لَو وَجب لم يجز تَأْخِيره، إِذْ التَّأْخِير

(2/911)


ترك، وَالْوَاجِب لَا يتْرك، كَمَا سبق نَظِيره فِي خِصَال الْكَفَّارَة.
وَيُجَاب عَن هَذَا كَمَا هُنَاكَ -: أَن كل فَرد من الْمُخَير وكل جُزْء من الْوَقْت لَهُ جِهَة عُمُوم، وَهِي كَونه أحد أَشْيَاء، وجهة خُصُوص، وَهُوَ الشَّخْص الَّذِي يتَمَيَّز بِهِ عَن غَيره، ومتعلق الْوُجُوب: جِهَة الْعُمُوم، وَلَا تَخْيِير فِيهِ، وَلَا يجوز تَركه، أَي: بِأَن يخلي جَمِيع الْوَقْت مِنْهُ، أَو يتْرك جَمِيع الْخِصَال، وَمحل التَّخْيِير: جِهَة الْخُصُوص، وبتركه لَا يكون تَارِكًا للْوَاجِب.
الْقَائِل بالعزم: كخصال الْكَفَّارَة.
رد: بِأَنَّهُ ممتثل، لِأَنَّهُ مصل، لَا لأحد الْأَمريْنِ، وَبِأَنَّهُ يلْزم سُقُوط الْمُبدل إِذا أَتَى بِالْبَدَلِ كَسَائِر الأبدال، وَأَن يعم الْعَزْم جَمِيع الْوَقْت كمبدله، وَبِأَن فِي وُجُوبه فِي جُزْء ثَان يَقْتَضِي تعدده، والمبدل وَاحِد، وَبِأَن وجوب الْعَزْم لَا يدل على التَّخْيِير لوُجُوبه فِي كل أَمر ديني إِجْمَاعًا، وَبِأَنَّهُ يجب قبل دُخُول وَقت الْمُبدل.
وَبَعْضهمْ منع هَذَا، وَبَعْضهمْ أوجب الْعِبَادَة قبل وَقتهَا.
وَقَول الشَّيْخ فِي " الرَّوْضَة ": لَا يتْرك الْعَزْم على الْفِعْل إِلَّا عَازِمًا على التّرْك مُطلقًا) ، مَمْنُوع، فَلهَذَا أثمه بالتردد مَبْنِيّ على وجوب الْعَزْم، وَإِنَّمَا لم يعْص بِتَأْخِيرِهِ أول الْوَقْت لِأَنَّهُ كقضاء رَمَضَان وخصال الْكَفَّارَة.
فَائِدَة: قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (الْخطاب الموسع والمخير وَفرض الْكِفَايَة جَمِيعًا مُتَعَلق بِالْقدرِ الْمُشْتَرك، فَيجب تَحْصِيله وَيحرم تعطيله.

(2/912)


فالمشترك فِي الموسع: مَفْهُوم الزَّمَان ومطلقه من الْوَقْت الْمُقدر الْمَحْدُود شرعا، بِمَعْنى: أَن الْوَاجِب إِيقَاعه [فِيمَا] يصدق عَلَيْهِ اسْم زمن من أزمنة الْوَقْت الشَّرْعِيّ، فَمَتَى أوقعهَا فِي هَذَا الزَّمَان الْمُطلق كَانَ آتِيَا بالمشترك فَيخرج عَن عُهْدَة الْوَاجِب [إداء] .
والمشترك فِي الْمُخَير: هُوَ مَفْهُوم أحد الْخِصَال، فَهُوَ مُتَعَلق الْوُجُوب، وَأما مُتَعَلق التَّخْيِير، فَهُوَ خصوصيات الْخِصَال من إطْعَام أَو كسْوَة أَو عتق كَمَا تقدم، فَالْوَاجِب الْإِتْيَان بِإِحْدَى الْخِصَال وَهُوَ الْمُشْتَرك بَين جَمِيعهَا، وَلَا يتْرك الْجَمِيع لِئَلَّا يتعطل الْمُشْتَرك، لِأَن الْجَمِيع أَعم من الْمُشْتَرك، وتارك الْأَعَمّ تَارِك الْأَخَص ومعطل لَهُ، وَله الْخِيَار بَين خصوصيات الْخِصَال، فَالْوَاجِب وَهُوَ الْمُشْتَرك لَا تَخْيِير فِيهِ، إِذْ لَا قَائِل: بِأَنَّهُ إِن شَاءَ فعل إِحْدَى الْخِصَال، وَإِن شَاءَ ترك، والمخير فِيهِ وَهُوَ خصوصيات الْخِصَال لَا وجوب فِيهِ، إِذْ لَا قَائِل بِأَن الْوَاجِب عَلَيْهِ جَمِيع الْخِصَال على الْجمع.
والمشترك فِي فرض الْكِفَايَة: مَفْهُوم أَي طوائف الْمُكَلّفين كَانَ، كإحدى الْخِصَال.
وَالْفرق بَين الْأَبْوَاب الثَّلَاثَة: أَن الْمُشْتَرك فِي فرض الْكِفَايَة: هُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلف، وَفِي الْمُخَير: هُوَ الْوَاجِب نَفسه، وَهُوَ إِحْدَى الْخِصَال، وَفِي الموسع هُوَ الْوَاجِب فِيهِ، وَهُوَ الزَّمَان) انْتهى مُلَخصا.

(2/913)


قَوْله: {فَائِدَة: يسْتَقرّ الْوُجُوب عندنَا بِأول الْوَقْت، وَعنهُ: بِإِمْكَان الْأَدَاء [كَقَوْل الشَّافِعِي] ، وَقَالَ مَالك وَالشَّيْخ: بضيقه} .
الصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَن الْوُجُوب يسْتَقرّ بِأول الْوَقْت، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (وَإِن دخل الْوَقْت بِقدر تَكْبِيرَة وَأطْلقهُ أَحْمد، فَلهَذَا قيل: بِجُزْء) انْتهى.
لِأَن دُخُول الْوَقْت سَبَب للْوُجُوب فترتب عَلَيْهِ حكمه عِنْد وجوده؛ لِأَنَّهَا صَلَاة وَجَبت عَلَيْهِ فَوَجَبَ قَضَاؤُهَا إِذا فَاتَتْهُ كَالَّتِي أمكن أَدَاؤُهَا.
وَعنهُ " لَا يسْتَقرّ الْوُجُوب إِلَّا بِإِمْكَان الْأَدَاء من الْوَقْت، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأكْثر أَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ جمَاعَة من أَصْحَابنَا مِنْهُم: ابْن بطة، وَابْن أبي مُوسَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يدْرك من الْوَقْت مَا يُمكنهُ الصَّلَاة فِيهِ، أشبه مَا لَو لم يدْرك شَيْئا.
ورد الْقيَاس، لِأَن قِيَاس الْوَاجِب على مَا لم يجب لَا يَصح.

(2/914)


وَعند الشَّافِعِيَّة وَجه آخر: أَنه لَا يسْتَقرّ حَتَّى يدْرك مَعَ الْوَقْت أَدَاء جُزْء، وَهُوَ قَول لِابْنِ سُرَيج، قَالَ: (وَإِلَّا لما جَازَ أَن يقصرها إِذا سَافر آخر وَقتهَا لاستقرار فَرضهَا) .
ورد: بِأَن الْقصر من صِفَات الْأَدَاء.
وَقَالَ الإِمَام مَالك وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَا يسْتَقرّ الْوُجُوب إِلَّا بِضيق الْوَقْت، نَقله ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ".
وَتظهر فَائِدَة الْمَسْأَلَة: إِذا طَرَأَ جُنُون أَو حيض، هَل تقضي أم لَا؟ على الْخلاف الْمُتَقَدّم.

(2/915)


قَوْله: {فصل}

{من أخر الْوَاجِب الموسع مَعَ ظن مَانع، موت أَو غَيره، أَثم إِجْمَاعًا} . لتضيقه عَلَيْهِ بظنه.
وَقَوله: (أَو غَيره) ، مِثْلَمَا إِذا ظنت حيضا فِي أثْنَاء الْوَقْت وَكَانَ لَهَا عَادَة بذلك، أَو أعير ستْرَة أول الْوَقْت فَقَط، أَو متوضئ عدم المَاء فِي السّفر وطهارته لَا تبقى إِلَى آخر الْوَقْت، وَلَا يَرْجُو وجوده، ومستحاضة لَهَا عَادَة بِانْقِطَاع دَمهَا فِي وَقت [يَتَّسِع] لفعلها.
قَالَ الْأَصْحَاب: (فَيتَعَيَّن فعل الصَّلَاة فِي ذَلِك الْوَقْت فِي هَذِه الصُّور، وَلَا يجوز لَهُ التَّأْخِير) .

(2/916)


{ [قَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه "] : يَأْثَم مَعَ عدم ظن الْبَقَاء إِجْمَاعًا} .
وَهَذِه الطَّرِيقَة فِي حِكَايَة الْإِجْمَاع أَعم من الَّتِي قبلهَا، فَإِنَّهُ يدْخل فِي هَذَا الْإِجْمَاع: مَا إِذا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ، وَمَا إِذا ظن الْمَوْت، وَهُوَ ضَعِيف فِي الْمَسْأَلَة الأولى، فَفِي حِكَايَة الْإِجْمَاع على هَذِه الصّفة نظر فِيمَا يظْهر.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي: (لَا يُؤَخر إِلَّا إِلَى وَقت يظنّ بَقَاءَهُ إِلَيْهِ) .
قَوْله: {ثمَّ إِن بَقِي فَفعله فِي وقته فأداء} .
هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء، مِنْهُم: الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وأتباعهم، وَغَيرهم، لبَقَاء الْوَقْت، وَلَا عِبْرَة بِالظَّنِّ الْبَين خَطؤُهُ.

(2/917)


5
- {وَخَالف [القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَالْقَاضِي الْحُسَيْن الشَّافِعِي] } ، وَقَالا: (يكون قَضَاء لضيق وقته بظنه) .
وألزمهما بَعضهم: (أَن يوجبا نِيَّة الْقَضَاء، وَأَن يَأْثَم بِالتَّأْخِيرِ من اعْتقد قبل الْوَقْت انقضاؤه) .
قَالَ الطوفي: (لَهُ الْتِزَامه، وَمنع وَقت الْأَدَاء فِي الأول، وعصيانه فِي الثَّانِي، لعدوله عَن منَاط التَّعَبُّد وَهُوَ مَا ظَنّه حَقًا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ) .
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: (لَا يعرف هَذَا القَوْل عَن القَاضِي الْحُسَيْن، إِلَّا أَن يكون أَخذ ذَلِك من إِفْسَاد الصَّلَاة ثمَّ فعلهَا فِي الْقُوت، فَإِنَّهُ من الْقَائِلين بِأَنَّهَا قَضَاء، على مَا يَأْتِي) .
قَوْله: {وَمن لَهُ [تَأْخِيرهَا] وَمَات، لم يعْص فِي الْأَصَح [كالأربعة] } وَغَيرهم.

(2/918)


وَحَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ فعل مَا لَهُ فعله، وَاعْتِبَار سَلامَة الْعَاقِبَة مَمْنُوع، لِأَنَّهُ غيب فَلَيْسَ [إِلَيْنَا] .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (وَمن لَهُ التَّأْخِير فَمَاتَ قبل الْفِعْل لم يَأْثَم فِي الْأَصَح، وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة، [وَلنَا وَجه: يَأْثَم، كَقَوْل بعض الشَّافِعِيَّة] .
قَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا وَغَيره بعد أَن ذكر مَا تقدم -: وعَلى أَنه [لَا يمْتَنع أَنه لَا يَأْثَم] ، وَالْحق فِي الذِّمَّة، كَدين مُعسر لَا يسْقط بِمَوْتِهِ، وَلَا يَأْثَم بِالتَّأْخِيرِ، لدُخُول النِّيَابَة، لجَوَاز الْإِبْرَاء، وَقَضَاء الْغَيْر عَنهُ.
وَقيل للْقَاضِي: لَو وَجَبت الزَّكَاة لطولب بهَا فِي الْآخِرَة، ولحقه المأثم كَمَا لَو أمكنه؟ فَقَالَ: هَذَا لَا يمْنَع من ثيوت الْحق فِي الذِّمَّة، بِدَلِيل الْمُؤَجّر والمعسر بِالدّينِ) انْتهى.
وَلابْن عقيل معنى ذَلِك فِي " الْفُنُون ".
قَوْله: { [وَيسْقط] بِمَوْتِهِ عِنْدهم} .
أَي: عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة.

(2/919)


قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " كَمَا تقدم -: (وَمن لَهُ التَّأْخِير فَمَاتَ قبل الْفِعْل لم يَأْثَم فِي الْأَصَح وفَاقا، وَيسْقط إِذن بِمَوْتِهِ وفَاقا.
قَالَ القَاضِي وَغَيره: لِأَنَّهَا لَا تدْخلهَا النِّيَابَة، فَلَا فَائِدَة فِي بَقَائِهَا فِي الذِّمَّة، بِخِلَاف الزَّكَاة وَالْحج) انْتهى.
قَوْله: { [وَيَأْثَم بِالْحَجِّ] } .
أَي: بِتَأْخِير إِلَى الْمَوْت، {فِي الْأَصَح للشَّافِعِيَّة} .
{ [وَقَالَ] الْغَزالِيّ [وَحكي عَن الشَّافِعِي]-: [يَعْصِي الشَّيْخ] } دون غَيره.
للشَّافِعِيَّة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبهم -: يَأْثَم لتأخيره عَن وقته وَهُوَ الْعُمر فَيَمُوت عَاصِيا، لِأَنَّهُ [لما لم] يعلم الآخر، كَانَ جَوَاز التَّأْخِير لَهُ مَشْرُوط بسلامة الْعَاقِبَة، بِخِلَاف الموسع، وَهُوَ الْمَعْلُوم الطَّرفَيْنِ.

(2/920)


وَحكى ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " التأثيم فِي الْحَج عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: (لَا يَأْثَم بِمَوْتِهِ، لِئَلَّا تبطل رخصَة التَّأْخِير) ، ثمَّ ألزم بالموسع.
وَحكى بَعضهم عَن الشَّافِعِي: (أَن الشَّيْخ يَأْثَم وَلَا يَأْثَم الشَّاب الصَّحِيح) ، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ.
وَفرقُوا أَيْضا على الأول بَينه وَبَين الموسع: بِأَن بِالْمَوْتِ فِي الْحَج خرج وقته، وبالموت فِي أثْنَاء وَقت الصَّلَاة لم يخرج وَقتهَا، وَنَظِير الْحَج: أَن يَمُوت آخر وَقت الصَّلَاة، أَو قبله بِمَا لَا يَسعهَا، فَإِنَّهُ يَعْصِي حِينَئِذٍ.
وَحكى الْجَوْزِيّ وَالظَّاهِر أَنه من الشَّافِعِيَّة تَقْدِير التَّأْخِير المستنكر

(2/921)


بِبُلُوغِهِ نَحوا من خمسين سنة، وَالأَصَح: من استمداد الْعِصْيَان وَإِلَى آخر سني الْإِمْكَان، بِجَوَاز التَّأْخِير إِلَيْهَا، وَقيل: إِلَى أَولهَا لاستقرار الْوُجُوب حِينَئِذٍ.

(2/922)


قَوْله: {فصل}

{مَا لَا يتم [الْوُجُوب] إِلَّا بِهِ لَيْسَ بِوَاجِب مُطلقًا إِجْمَاعًا} .
سَوَاء قدر عَلَيْهِ الْمُكَلف: كاكتساب المَال لِلْحَجِّ، وَالْكَفَّارَات، وَنَحْوهمَا.
قَالَ ابْن عقيل وَغَيره: (وإرغاب العَبْد سَيّده فِي كِتَابَته بِمَال كثير) .
أَو لم يقدر عَلَيْهِ: كَالْيَدِ فِي الْكِتَابَة، وَحُضُور الإِمَام وَالْعدَد الْمُشْتَرط فِي الْجُمُعَة، فَإِنَّهُ لَا صنع للمكلف فِيهِ.
قَوْله: {وَمَا لَا يتم الْوَاجِب الْمُطلق إِلَّا بِهِ وَهُوَ مَقْدُور للمكلف، فَوَاجِب عندنَا، وَعند الشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر} .

(2/923)


مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَن يكون جُزْءا للْوَاجِب، أَو خَارِجا عَنهُ: كالشرط، وَالسَّبَب.
فَإِن كَانَ الأول فَهُوَ وَاجِب اتِّفَاقًا، لِأَن الْأَمر بالماهية المركبة، أَمر بِكُل وَاحِد من أَجْزَائِهَا ضمنا، فَالْأَمْر بِالصَّلَاةِ مثلا، أَمر بِمَا فِيهَا من رُكُوع وَسُجُود وَتشهد وَغير ذَلِك.
وَإِن كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ مَحل الْخلاف.
فأقسام مَا لَا يتم الْوَاجِب الْخَارِج إِلَّا بِهِ وَهُوَ الْمُسَمّى بالمقدمة المتوقف عَلَيْهَا سِتَّة، مَحل الْخلاف فِيهَا لَا غير، وَهِي: السَّبَب، وَالشّرط، وكل وَاحِد مِنْهُمَا إِمَّا شَرْعِي، أَو عَقْلِي، أَو عادي، فَهَذِهِ سِتَّة أَقسَام.
مِثَال السَّبَب الشَّرْعِيّ: صِيغَة الْعتْق فِي الْوَاجِب من كَفَّارَة أَو نذر، وَكَذَا صِيغَة الطَّلَاق حَيْثُ وَجب.
وَمِثَال السَّبَب الْعقلِيّ: النّظر الْموصل إِلَى الْعلم.
وَمِثَال السَّبَب العادي: السّفر إِلَى الْحَج.
وَمِثَال الشَّرْط الشَّرْعِيّ: الطَّهَارَة للصَّلَاة وَنَحْوهَا.
وَمِثَال الشَّرْط الْعقلِيّ: ترك أضداد الْمَأْمُور بِهِ.
وَمِثَال الشَّرْط العادي: غسل الزَّائِد على حد الْوَجْه فِي غسل الْوَجْه، ليتَحَقَّق غسل جَمِيعه. فَالشَّرْط الشَّرْعِيّ: مَا جعله الشَّارِع شرطا، وَإِن أمكن وجود الْفِعْل بِدُونِهِ.

(2/924)


وَالشّرط الْعقلِيّ: مَا لَا يُمكن وجود الْفِعْل بِدُونِهِ عقلا.
وَالشّرط العادي: مَا لَا يُمكن عَادَة.
إِذا علم ذَلِك؛ فَالصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيَّة وَالْأَكْثَر، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن الْمُعْتَزلَة: أَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِب، إِذا كَانَ مَقْدُورًا للمكلف، ثمَّ اخْتلف فِي كَون وجوب الْمُقدمَة متلقى من نفس صِيغَة الْأَمر بِالْأَصْلِ، أَو من دلَالَة الصِّيغَة، قَولَانِ لَهُم، الثَّانِي قَول الْجُمْهُور.
قَالَ ابْن برهَان: (لِأَن المتلقى من الصِّيغَة، مَا كَانَ مسموعاً مِنْهَا) .
وينحل ذَلِك إِلَى أَن الدّلَالَة عَلَيْهِ بالتضمن أَو بالإلتزام، وَصرح بِالْأولِ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، و " التَّلْخِيص ".
وَتَقْرِيره: أَنه إِذا تقرر التَّوَقُّف ثمَّ جَاءَ الْأَمر، كَانَ كَأَنَّهُ مُصَرح بِوُجُوب الْمَجْمُوع بِهِ.

(2/925)


وَاخْتلف أَيْضا فِي الْإِيجَاب، هَل هُوَ شَرْعِي أَو عَقْلِي؟
فِيهِ خلاف، وَلَعَلَّ مأخذه مَا سبق فِي كَونه مأخوذاً من الْأَمر، أَو من دلَالَة الْأَمر، وَهل هُوَ بالتضمن أَو بالالتزام؟
{وَقيل: إِن كَانَ سَببا} بأقسامه وَجب، وَإِلَّا فَلَا: كالنار للإحراق فِيمَا إِذا وَجب إحراق شخص، فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على وجود النَّار، الَّتِي هِيَ سَبَب للإحراق، بِخِلَاف الشَّرْط فَإِنَّهُ لَا يجب، ويعزى هَذَا القَوْل للشريف المرتضى، وَصَاحب المصادر من الْمُعْتَزلَة.
بِخِلَاف الشَّرْط: كَالْوضُوءِ للصَّلَاة، فَلَا يجب لوُجُوب مشروطه.

(2/926)


وَالْفرق: أَن السَّبَب لاستناد الْمُسَبّب إِلَيْهِ، أَشد ارتباطاً من الشَّرْط بالمشروط.
{وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن برهَان، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن حمدَان، والطوفي: أَو شرطا شَرْعِيًّا} .
يَعْنِي: أَن هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة، أوجبوا مَا كَانَ سَببا بأقسامه كالقول الَّذِي قبله وَزَادُوا، فأوجبوا أَيْضا من الشُّرُوط الشَّرْط الشَّرْعِيّ: كالطهارة للصَّلَاة وَنَحْوه، وَلم يوجبوا الشَّرْط الْعقلِيّ وَلَا العادي.

(2/927)


{و} حُكيَ {عَن الْمُعْتَزلَة: [أَنه] لَيْسَ بِوَاجِب} ، سَوَاء كَانَ سَببا بأقسامه، أَو شرطا بأقسامه.
{قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: ( [لَا يجب] إمْسَاك جُزْء من اللَّيْل} فِي الصَّوْم، {فِي [أصح الْوَجْهَيْنِ] ) } .
لَكِن كَلَامه مَا يَشْمَل إِلَّا عدم اشْتِرَاط الشَّرْط العادي، وَقد يكون قَائِلا بِوُجُوب الشَّرْط الشَّرْعِيّ.
قلت: قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (لَا يجب إمْسَاك جُزْء من اللَّيْل فِي أَوله وَآخره، فِي ظَاهر كَلَام جمَاعَة، وَصرح بِهِ كثير، وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ أَنه أصح الْوَجْهَيْنِ، خلافًا لمَالِك فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ، وَقطع جمَاعَة بِوُجُوبِهِ فِي أصُول الْفِقْه وفروعه، وَأَنه مِمَّا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، وَذكره فِي " الْفُنُون "، وَأَبُو يعلى " الصَّغِير "، وفَاقا فِي صَوْم يَوْم لَيْلَة الْغَيْم، وَهُوَ

(2/928)


يُنَاقض مَا ذَكرُوهُ هُنَا، وَذكره القَاضِي فِي الْخلاف فِي النِّيَّة من اللَّيْل ظَاهر كَلَام أَحْمد، وَأَنه مَذْهَبنَا؛ لِئَلَّا يفوت بعض النَّهَار عَن النِّيَّة، وَالصَّوْم يدْخل فِيهِ بِغَيْر فعله فَلَا يُمكنهُ مُقَارنَة النِّيَّة حَال الدُّخُول، بِخِلَاف الصَّلَاة، [كَذَا قَالَ] ، وَسبق فِي النِّيَّة من اللَّيْل) انْتهى.
وَحكى ابْن الْحَاجِب: أَنه لَا خلاف فِي السَّبَب بأقسامه.
وَحكى شَيْخه الأبياري: أَنه لَا خلاف فِي الشَّرْط الشَّرْعِيّ.
ويردهما حِكَايَة الْخلاف.

(2/929)


اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول وَهُوَ الصَّحِيح بِمَا اعْتمد عَلَيْهِ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره: أَن الْأَمر بالشَّيْء مُطلقًا، يسْتَلْزم وُجُوبه فِي كل أَحْوَاله الممكنة، فَيَقْتَضِي وجوب لَازمه، وَإِلَّا كَانَ وَاجِبا حَال عَدمه، وَهُوَ محَال.
وتقييده بِوَقْت وجود لَازمه خلاف ظَاهر الْأَمر، لِأَنَّهُ مُطلق، وَاللَّازِم لَا يَنْفِيه اللَّفْظ، لعدم دلَالَته عَلَيْهِ، فَلَا مُخَالفَة لظاهره.
وَقَالَ ابْن عقيل: مَا عرف من اطراد الْعَادة كالملفوظ، وَلِأَنَّهُ لَو لم يجب الشَّرْط لم يكن شرطا لجَوَاز [تَركه] .
وَاسْتدلَّ أَيْضا -: لَو لم يجب صَحَّ الْفِعْل دونه، وَإِلَّا لزمَه تَكْلِيف الْمحَال بِتَقْدِير عَدمه، وَلما وَجب التَّوَصُّل إِلَى الْوَاجِب.
ورد: إِن أُرِيد بِالصِّحَّةِ وَالْوُجُوب: مَا لَا بُد مِنْهُ، فَمُسلم، [وَلَا] يلْزم أَنه مَأْمُور بِهِ، وَإِن أُرِيد، مَأْمُور بِهِ، فَأَيْنَ دَلِيله؟ وَإِن سلم أَن التَّوَصُّل وَاجِب فَفِي الْأَسْبَاب المستلزمة لمسبباتها، لَا لنَفس الْأَمر بِالْفِعْلِ.
قَالُوا: {لَو وَجب لزم تعقل] الْمُوجب لَهُ، وَلم يكن تعلق الْوُجُوب لنَفسِهِ لتوقف تعلقه على تعلقه بملزومه، والطلب لَا يتَعَلَّق بِغَيْر الْمَطْلُوب، ولامتنع التَّصْرِيح بِغَيْر وُجُوبه، ولأثم بِتَرْكِهِ، ولانتفى الْمُبَاح، ولوجبت نِيَّته.
رد الأول: إِنَّمَا يلْزم لَو وَجب أصلا لَا تبعا، ثمَّ ينْتَقض بِالشُّرُوطِ.
ورد الثَّانِي: بِأَنَّهُ أَرَادَ التَّعَلُّق بِالْأَصَالَةِ مَعَ انْتِفَاء التَّالِي، فَإِن تعلق

(2/930)


الْوُجُوب باللازم فرع تعلقه بملزومه، وَإِلَّا فَتعلق الْوُجُوب النَّاشِئ من وجوب الأول يتَعَلَّق باللازم لذاته، ثمَّ ينْتَقض بِالشّرطِ.
ورد الثَّالِث: بِمَنْع الْمُلَازمَة فِي الْقَادِر على غسل الْوَجْه دون غسل جُزْء من الرَّأْس، وَنفي التَّالِي فِي الْعَاجِز.
وَبِه يُجَاب عَن الرَّابِع.
ثمَّ تَركه يُوجب ترك الْوَاجِب أصلا، ثمَّ ينْتَقض بِالشّرطِ.
ورد الْخَامِس: بِأَنَّهُ يلْزم نفي الْمُبَاح لَو تعين ترك الْحَرَام بِهِ.
ورد السَّادِس: يلْزم لَو وَجب أصلا لَا تبعا، وَتسقط الْوَسِيلَة تبعا.
تَنْبِيه: هَذِه الْمَسْأَلَة هِيَ الْمعبر عَنْهَا فِي الْأُصُول: بِمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِب، وَرُبمَا قيل: مَا لَا يتم الْمَأْمُور إِلَّا بِهِ يكون مَأْمُورا بِهِ، وَهُوَ أَجود وأشمل من حَيْثُ إِن الْأَمر قد يكون للنَّدْب، فَتكون مقدمته مَنْدُوبَة، وَرُبمَا كَانَت وَاجِبَة: كالشروط فِي صَلَاة التَّطَوُّع، إِلَّا أَنه لما وَجب الْكَفّ عَن فَاسد الصَّلَاة عِنْد إِرَادَة التَّلَبُّس بِالصَّلَاةِ مثلا وَجب مَا لَا يتم الْكَفّ مَعَ التَّلَبُّس إِلَّا بِهِ، فَلم يخرج عَمَّا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب.
وَإِذا اتَّضَح الْأَمر فِي مُقَدّمَة الْوَاجِب عدي إِلَى الْمَنْدُوب بِمَا يَلِيق بِهِ من الْأَمريْنِ.
تَنْبِيه آخر: تقدم أَن مَا لَا يتم بِهِ الْوَاجِب تَارَة يكون جُزْءا

(2/931)


للْوَاجِب، وَتارَة يكون خَارِجا عَنهُ كالشرط وَالسَّبَب، وَأَن الأول وَاجِب اتِّفَاقًا؛ لِأَن الْأَمر بالماهية المركبة، أَمر بِكُل وَاحِد من أَجْزَائِهَا ضمنا، لَكِن يشْتَرط أَن يكون مَقْدُورًا لَهُ، قطعا، للْحَدِيث: " إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم "، فَلَو سقط وجوب الْبَعْض المعجوز هَل يبْقى وجوب الْبَاقِي [الْمَقْدُور] عَلَيْهِ؟
قَاعِدَة الْمذَاهب فِي الأَصْل الْبَقَاء، للْحَدِيث الْمُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} [التغابن: 16] ، وَقد ذكر أَصْحَابنَا: أَن من سقط عَنهُ النُّطْق فِي الصَّلَاة لعذر لم يلْزمه تَحْرِيك لِسَانه، خلافًا للْقَاضِي من أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، لوُجُوبه ضَرُورَة: كجزء من اللَّيْل فِي الصَّوْم، وشروط الصَّلَاة.

(2/932)


قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيتَوَجَّهُ الْخلاف، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يسْتَحبّ فِي قَول من اسْتحبَّ غسل مَوضِع الْقطع فِي الطَّهَارَة، وَكَذَا إمرار الموسى فِيمَن لَا شعر لَهُ، ورد.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " عمد الْأَدِلَّة ": (يمر الموسى وَلَا يجب، ذكره شَيخنَا، وَأما كَلَام الإِمَام أَحْمد فخارج مخرج الْأَمر، لكنه حمله شَيخنَا على النّدب) انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي فِي " التَّعْلِيق "، وَغَيره - فِي وَطْء الْمظَاهر -: (إِن الْأَمر بِالصَّلَاةِ مُتَضَمّن لِلْأَمْرِ بِالطَّهَارَةِ، وَإِن التَّابِع يسْقط بِفَوَات الْمَتْبُوع: كالطهارة للصَّلَاة) انْتهى.
وَلنَا فروع كَثِيرَة شَبيهَة بذلك: كوجوب الْقيام على من عجز عَن الرُّكُوع وَالسُّجُود لعِلَّة فِي ظَهره، وواجد بعض مَا يَكْفِيهِ لطهارته من المَاء، وَبَعض صَاع فِي الْفطْرَة.
وَرُبمَا خرج عَن الْقَاعِدَة فروع، الرَّاجِح خلاف ذَلِك، لمدارك فقهية محلهَا الْفِقْه.
تَنْبِيه آخر: قَوْله: (وَمَا لَا يتم الْوَاجِب الْمُطلق) .
قَالَ الْقَرَافِيّ: (فَمَعْنَى قَوْلنَا: " مُطلقًا "، أَي: أطلق الْوُجُوب فِيهِ، فَيصير معنى الْكَلَام: الْوَاجِب الْمُطلق إِيجَابه.

(2/933)


فَفرق بَين قَول السَّيِّد لعَبْدِهِ: اصْعَدْ السَّطْح، وَبَين قَوْله: إِذا نصب السّلم اصْعَدْ السَّطْح، فَالْأول مُطلق فِي إِيجَابه، فَهُوَ مَوضِع الْخلاف، وَالثَّانِي مُقَيّد فِي إِيجَابه، فَلَا يجب تَحْصِيل الشَّرْط فِيهِ إِجْمَاعًا) انْتهى.
وَقَالَ الكوراني: (قد فسر الْوَاجِب الْمُطلق بِمَا يجب فِي كل وَقت وعَلى كل حَال، فَانْتقضَ بِالصَّلَاةِ، فَإِن صَلَاة الظّهْر مثلا [لَا تجب] فِي كل وَقت، فزيد: فِي كل وَقت قدره الشَّارِع، فنقض بِصَلَاة الْحَائِض فزيد: لَا لمَانع، وَهَذَا لَا يَشْمَل غير المؤقتات، وَلَا مثل الْحَج وَالزَّكَاة فِي إِيجَاب مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من الشُّرُوط.
فَالْوَاجِب الْمُطلق: هُوَ الَّذِي لَا يكون بِالنّظرِ إِلَى تِلْكَ الْمُقدمَة الَّتِي [يتَوَقَّف] عَلَيْهَا مُقَيّدا، وَإِن كَانَ مُقَيّدا بقيود أخر فَإِنَّهُ لَا يُخرجهُ عَن الْإِطْلَاق، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، فَإِن وجوب الصَّلَاة فِي هَذَا النَّص [مُقَيّد] بالدلوك، وَغير مُقَيّد بِالْوضُوءِ والاستقبال) انْتهى.
قَوْله: {وَغير الْمَقْدُور من الْمحَال} .
لِأَنَّهُ فَرد من أَفْرَاده: كالقدرة وَالْيَد فِي الْكِتَابَة، لِأَنَّهُمَا مخلوقتان لله تَعَالَى، فَلَيْسَ ذَلِك فِي وسع الْمُكَلف [وطاقته] .

(2/934)


{تَنْبِيه: ظَاهر من أوجبه يُعَاقب بِتَرْكِهِ، وَقَالَهُ القَاضِي، والآمدي، [وَجمع] } .
صرح بِهِ القَاضِي أَبُو يعلى فِي الْحَج عَن الْمَيِّت من الْمِيقَات؛ لِأَن الْوَاجِب هُوَ الَّذِي يُعَاقب على تَركه كَمَا يُثَاب على فعله.
{و} قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين {فِي " الرَّوْضَة ": لَا يُعَاقب، [وَقَالَهُ] الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين.
قَالَ: (إِلَّا أَن يُقَال: قد تكون عُقُوبَة من كثرت واجباته أَكثر) .
{وَقَالَ أَيْضا -: (وُجُوبه عقلا وَعَادَة لَا يُنكر، [وَالْوُجُوب] العقابي لَا يَقُوله فَقِيه، و [الْوُجُوب] [الطلبي] مَحل النزاع} .
قَالَ ابْن مُفْلِح وَابْن قَاضِي الْجَبَل: {وَفِيه نظر} .

(2/935)


قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا -: (وَإِذا نسخ الْأَمر بالملزوم، أَو تبين عدم وُجُوبه اسْتدلَّ بِهِ على اللوازم، فَعِنْدَ أَصْحَابنَا اللوازم كالأجزاء، وصرحوا بِأَنَّهُ كالعموم إِذا خص مِنْهُ صُورَة، وَأَن الْكَلَام فِي قُوَّة أَمريْن، وَأَن اللَّازِم مَأْمُور بِهِ أمرا مُطلقًا، ويشبهها الْأَمر بهئية أَو صفة [لفعل] يحْتَج بِهِ على وُجُوبه، ذكره أَصْحَابنَا، وَنَصّ أَحْمد عَلَيْهِ لتمسكه لوُجُوب الِاسْتِنْشَاق بِالْأَمر بالمبالغة، وَهُوَ يشبه: نسخ اللَّفْظ نسخ لفحواه.
قَالَ: وَقَول الْمُخَالف مُتَوَجّه، وسرها، هَل هُوَ كأمرين أَو أَمر بفعلين، أَو بِفعل ولوازمه ضَرُورَة؟) انْتهى كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
قَوْله: {فَائِدَة: يجوز النَّهْي عَن وَاحِد لَا بِعَيْنِه كملكه أُخْتَيْنِ [و] وطئهما} .

(2/936)


بِمَعْنى: كوطئه وَاحِدَة بعد وَاحِدَة قبل تَحْرِيم الأولى، فَإِنَّهُ يحرم وَطْء إِحْدَاهمَا قبل تَحْرِيم الْأُخْرَى، فَهُوَ مَمْنُوع من [إِحْدَاهمَا] لَا بِعَينهَا.
قَالَ ابْن حمدَان: (وكما لَو أسلم على أَكثر من أَربع نسْوَة، وأسلمن مَعَه، أَو كن كتابيات) .
وَهُوَ صَحِيح؛ فَإِنَّهُ مَمْنُوع من الزَّائِد على الْأَرْبَع لَا بِعَيْنِه.
إِذا علم ذَلِك؛ فقد قَالَ أهل السّنة: يجوز تَحْرِيم وَاحِد لَا بِعَيْنِه، وَيكون النَّهْي عَن وَاحِد على التَّخْيِير.
قَوْله: {وَله فعل أَحدهَا عِنْد [أَصْحَابنَا] وَالْأَكْثَر} .
قَالَ ابْن برهَان: (وَهُوَ قَول الْفُقَهَاء والمتكلمين) ؛ لِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة كَمَسْأَلَة الْوَاجِب الْمُخَير، إِلَّا أَن التَّخْيِير هُنَا فِي التّرْك، وَهُنَاكَ فِي الْفِعْل، فَكَمَا أَن للمكلف أَن يَأْتِي بِالْجَمِيعِ، وَأَن يَأْتِي بِالْبَعْضِ وَيتْرك الْبَعْض البقي فِي الْوَاجِب الْمُخَير، لَهُ أَن يتْرك الْجَمِيع، وَأَن يتْرك الْبَعْض دون الْبَعْض هُنَا، عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وكما لَا يجوز الْإِخْلَال بجميعها، بل عَلَيْهِ فعل

(2/937)


شَيْء مِنْهَا فِي الْوَاجِب الْمُخَير، لَا يجوز لَهُ الْإِخْلَال بِالتّرْكِ جَمِيعًا هُنَا، بل يجب عَلَيْهِ ترك شَيْء مِنْهَا.
وَلِأَنَّهُ الْيَقِين وَالْأَصْل، وَتقدم التَّخْيِير فِي الْمَأْمُور بِهِ، وَيَأْتِي التَّخْيِير فِي المنهى عَنهُ.
فَأهل السّنة جوزوا النَّهْي عَن وَاحِد لَا بِعَيْنِه، وجوزوا فعل أَحدهمَا على التَّخْيِير، وَمَا دَامَ لم يعين، لَا يجوز لَهُ الْإِقْدَام على شَيْء مِنْهَا.
وبماذا يكون التَّعْيِين؟ يَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ.
وعَلى هَذَا يَأْتِي الْخلاف السَّابِق فِي كَون الْمحرم [وَاحِدًا] لَا بِعَيْنِه، أَو الْكل، أَو معينا عِنْد الله تَعَالَى، أَو غير ذَلِك كَمَا تقدم.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: لَا يُمكن ذَلِك فِي النَّهْي، يل يجب اجْتِنَاب كل وَاحِد، وَبَنوهُ على أصلهم: أَن النَّهْي عَن قَبِيح، فَإِذا نهي عَن أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه ثَبت الْقبْح لكل مِنْهُمَا، فيمتنعان جَمِيعًا، وَلَو ورد ذَلِك بِصِيغَة التَّخْيِير، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِع مِنْهُم ءاثماً أَو كفوراً} [الْإِنْسَان: 24] .

(2/938)


وَمن أمثلتها: لَو ملك أُخْتَيْنِ ووطئهما حرمت إِحْدَاهمَا لَا بِعَينهَا حَتَّى تخرج الْأُخْرَى عَن ملكه كَمَا تقدم.
وَتقدم تَمْثِيل ابْن حمدَان.
وَمثله بعض الشَّافِعِيَّة: بِتَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ أَو بَين الْأُم وبنتها فِي النِّكَاح، وَنَحْو ذَلِك، وَلَيْسَ بجيد، لِأَن التَّحْرِيم مُنْتَفٍ حَتَّى ينْكح إِحْدَاهمَا، بِخِلَاف مَا مثلنَا بِهِ، فَإِن التَّحْرِيم وَقع فَتَأَمّله.
{ [وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ وَأَبُو الْبَقَاء من أَصْحَابنَا -] والقرافي [وَمَال إِلَيْهِ ابْن قَاضِي الْجَبَل] } كالمعتزلة { [فَيمْنَع] من الْجَمِيع} لِلْآيَةِ.

(2/939)


وَقَالَ أبوالبقاء فِي " إعرابه " فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو كفوراً} -: (" أَو " هُنَا على بَابهَا عِنْد سِيبَوَيْهٍ، وتفيد فِي النَّهْي الْمَنْع من الْجَمِيع، لِأَنَّك إِذا قلت فِي الْإِبَاحَة -: جَالس الْحسن أَو ابْن سِيرِين، كَانَ التَّقْدِير: جَالس أَحدهمَا فَإِذا نهى فَقَالَ: لَا تكلم زيدا أَو عمرا، فالتقدير: لَا تكلم أَحدهمَا، فَأَيّهمَا كَلمه كَانَ أَحدهمَا، فَيكون مَمْنُوعًا مِنْهُ) انْتهى.
ورد ذَلِك: بِأَن الآثم والكفور يأمران بالمعصية، فَلَا طَاعَة.
قَالُوا: لَا تُطِع زيدا أَو عمرا، للْجَمِيع بِإِجْمَاع أهل اللُّغَة.
رد: بِالْمَنْعِ.
قَالُوا: لتساويهما فِي الْقبْح.
رد: مَبْنِيّ على أصلهم كَمَا تقدم عَنْهُم -، ثمَّ إِنَّمَا خَيره لعلمه بِتَرْكِهِ الْقَبِيح وَفعله الْحسن.
قَالُوا: فِيهِ احْتِيَاط. فألزمهم القَاضِي بِالْوَاجِبِ الْمُخَير.
وَقَالَ ابْن عقيل: ( [إِنَّمَا نمْنَع] من اعْتِقَاد ذَلِك، وَلَا احْتِيَاط فِيهِ) ، ورد.

(2/940)


تَنْبِيه: الْجِرْجَانِيّ وَأَبُو الْبَقَاء والقرافي، وَإِن كَانُوا قد وافقوا الْمُعْتَزلَة على الْمَنْع، لَكِن لَا من حَيْثُ [التقبيح] الْعقلِيّ، بل من حَيْثُ إِن تَحْرِيم أَحدهمَا يلْزم مِنْهُ تَحْرِيم الْكل، كَمَا تقدم عَن أبي الْبَقَاء.
وَفرق الْقَرَافِيّ بَينه وَبَين الْوَاجِب الْمُخَير: (بِأَن الْأَمر بِمَفْهُوم أَحدهمَا قدر مُشْتَرك، وَمحل التَّخْيِير الخصوصيات، فَلَا يلْزم من إِيجَاب الْمُشْتَرك إِيجَاب الخصوصيات، كَمَا فِي إِيجَاب رَقَبَة مُطلقَة فِي الْعتْق، لَا يلْزم مِنْهُ إِيجَاب رَقَبَة مُعينَة) .
قَالَ الْقَرَافِيّ: (أما النَّهْي، فَيلْزم من تَحْرِيم أَحدهمَا الَّذِي هُوَ قدر مُشْتَرك تَحْرِيم الخصوصيات) .
ثمَّ أجَاب عَن الْمِثَال السَّابِق وَنَحْوه: (بِأَن التَّحْرِيم إِنَّمَا يتَعَلَّق بِمَجْمُوع الموطوءتين بعد أَن وطئهما لَا بالمشترك بَينهمَا، [فالمقصود] : أَن لَا يدْخل مَاهِيَّة مَجْمُوع الوطأين فِي الْوُجُود، والماهية المركبة تنعدم بانعدام جزئها) .

(2/941)


قَالَ العلائي: (وَالظَّاهِر أَن هَذَا مُرَاد أهل السّنة بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة، لَا الْمَعْنى الَّذِي رده الْقَرَافِيّ، وَهُوَ الْكُلِّي الْمُشْتَرك، لِأَن من الْمحَال عقلا أَن يُوجد الجزئي وَلَا يُوجد الْكُلِّي فِيهِ لِأَن الكلى ينْدَرج فِي الجزئي بِالضَّرُورَةِ قَالَ: لَكِن يشكل على هَذَا، إلحاقهم الْمَسْأَلَة بِالْأَمر الْمُخَير) انْتهى.
وَلأبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كلامان.
فَقَالَ فِي بَاب النَّهْي: (مَسْأَلَة: إِذا نهي عَن شَيْء بِلَفْظ التَّخْيِير مثل أَن يَقُول: لَا تكلم زيدا أَو عمرا، اقْتضى الْمَنْع من كَلَام أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، خلافًا للمعتزلة فِي قَوْلهم: يَقْتَضِي الْمَنْع من كَلَام الْجَمِيع) ، ثمَّ نصب الْخلاف مَعَهم.
وَقَالَ فِي بَاب الْحُرُوف، فِي حرف " أَو "، - وَذكر لَهَا معَان ثمَّ قَالَ -: (الثَّالِث: يدْخل فِي النَّهْي تَارَة للْجمع، وَتارَة للتَّخْيِير، فالتخيير: لَا تدخل إِلَّا هَذِه الدَّار [أَو هَذِه الدَّار] ، وَأما الْجمع كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تُطِع مِنْهُم ءاثماً أَو كفوراً} [الْإِنْسَان: 24] ، مَعْنَاهُ: آثِما وكفوراً) انْتهى.

(2/942)


وَكَذَا لِابْنِ حمدَان فِيهَا كلامان، فَقَالَ فِي بَاب النَّهْي: (الْفَصْل الْخَامِس: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُطِع مِنْهُم ءاثماً أَو كفوراً} [الْإِنْسَان: 24] يَقْتَضِي مَنعه من طَاعَة أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، وَقيل: بل طاعتهما) انْتهى. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: يجوز أَن يكون الْمحرم أحد أَمريْن غير معِين، لَكِن التَّخْيِير بقتضي منع الْجَمِيع) انْتهى. قَوْله: {وَلَو اشْتبهَ محرم بمباح وَجب الْكَفّ، وَلَا يحرم الْمُبَاح} .
وَهُوَ مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، لِأَن الْمُبَاح لم يحرم، أَكثر مَا فِيهِ: أَنه اشْتبهَ فمنعنا لأجل الِاشْتِبَاه، لَا أَنه محرم، فَإِذا تبين زَالَ ذَلِك، فوجوب الْكَفّ ظَاهرا لَا يدل على شُمُول التَّحْرِيم، وَلِهَذَا لَو أكلهما لم يُعَاقب إِلَّا على أكل ميتَة وَاحِدَة.
{وَقَالَ الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة "، {والطوفي} فِي " مُخْتَصره، { [تبعا للغزالي] } فِي " الْمُسْتَصْفى "، وَغَيرهم: { [حرمتا] } ، إِحْدَاهمَا بِالْأَصَالَةِ، وَالْأُخْرَى بِعَارِض الِاشْتِبَاه.

(2/943)


ثمَّ قَالَ الطوفي: (وَلَعَلَّ الْقَائِل بِعَدَمِ التَّحْرِيم [يَعْنِي] : أَن التَّحْرِيم أَحدهمَا عرضي، وَتَحْرِيم الآخر أُصَلِّي، فَالْخِلَاف إِذن لَفْظِي) ، وَهُوَ وَالله أعلم كَذَلِك، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي التَّسْمِيَة.
قَوْله: { [وَلَو طلق إِحْدَى امرأتيه مُبْهمَة أَو مُعينَة وأنسيها وَجب الْكَفّ إِلَى الْقرعَة] } .
نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه.
{وَقَالَ الْمُوفق} وَجمع: {حرمتا إِلَى التبين} ، وَهِي كَالَّتِي قبلهَا، وَالَّذِي يظْهر أَن الْخلاف فِي الْعبارَة لَا فِي الْمَعْنى، كَمَا تقدم فِي الَّتِي قبلهَا.
تَنْبِيه: وَجه تَفْرِيع هَذَا الْفَرْع وَالَّذِي قبله على هَذَا الأَصْل السَّابِق: أَن الْكَفّ عَن الْمحرم وَاجِب، وَلَا يحصل الْعلم بِهِ إِلَّا بالكف عَن الْمُبَاح فِي الأَصْل، وَترك مَا لَا يتم ترك الْحَرَام إِلَّا بِتَرْكِهِ وَاجِب، [فهما] من تعلقات الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة.

(2/944)


قَوْله: {فصل}

لَو كنى الشَّارِع عَن عبَادَة بِبَعْض مَا فِيهَا، نَحْو: {وَقُرْآن الْفجْر} [الْإِسْرَاء: 78] ، و {مُحَلِّقِينَ رءوسكم} [الْفَتْح: 27] دلّ على فَرْضه، قطع بِهِ القَاضِي، وَابْن عقيل} .
فَدلَّ قَوْله: {وَقُرْآن الْفجْر} على فَرضِيَّة الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة.
وَدلّ: قَوْله: {مُحَلِّقِينَ رءوسكم} على فَرضِيَّة الْحلق فِي الْحَج، لِأَن الْعَرَب لَا تكني إِلَّا بالأخص بالشَّيْء.
قَالَ الْمجد: (إِذا عبر عَن الْعِبَادَة بمشروع فِيهَا دلّ ذَلِك على وُجُوبه، مثل: تَسْمِيَة الصَّلَاة قُرْآنًا بقوله: {وَقُرْآن الْفجْر} [الْإِسْرَاء: 78] ، وتسبيحاً بقوله: {وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب} [سُورَة ق: 39] ، وكالتعبير عَن الْإِحْرَام والنسك بِأخذ الشّعْر بقوله: {مُحَلِّقِينَ رءوسكم وَمُقَصِّرِينَ} [الْفَتْح: 27] ، ذكره القَاضِي، وَابْن عقيل وَلم يحك خلافًا) .

(2/945)


قَوْله: {فصل}

{الْحَرَام: ضد الْوَاجِب} .
إِنَّمَا كَانَ ضِدّه بِاعْتِبَار تَقْسِيم أَحْكَام التَّكْلِيف، وَإِلَّا الْحَرَام فِي الْحَقِيقَة ضد الْحَلَال، إِذْ يُقَال: هَذَا حَلَال، وَهَذَا حرَام، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة يُونُس: {هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} .
إِذا علم ذَلِك؛ لما فَرغْنَا من أَحْكَام الْوَاجِب ومسائله وَمَا يتَعَلَّق بِهِ، شرعنا نتكلم على ضِدّه وَهُوَ الْحَرَام لِأَنَّهُ قد تقدم: أَن الْخطاب إِن ورد بِطَلَب فعل طلبا جَازِمًا فَهُوَ الْوَاجِب، وَإِن ورد بِطَلَب ترك طلبا جَازِمًا فَهُوَ الْحَرَام.
{ [وَحده] : مَا ذمّ فَاعله وَلَو قولا وَعمل قلب - شرعا} .

(2/946)


احترزنا بالذم عَن الْمَكْرُوه وَالْمَنْدُوب والمباح، إِذْ لَا ذمّ فِيهَا.
واحترزنا بقولنَا: (فَاعله) عَن الْوَاجِب، فَإِنَّهُ يذم تَاركه لَا فَاعله.
وَالْمرَاد: الَّذِي من شَأْنه أَن يذم فَاعله وَلَو تخلف، كمن وطئ أَجْنَبِيَّة يَظُنهَا زَوجته.
وَقَوْلنَا: (وَلَو قولا) ، أَعنِي: أَن من الْحَرَام مَا يكون قولا: كالغيبة، والنميمة، وَنَحْوهمَا.
وَمن الْحَرَام مَا يكون عملا بِالْقَلْبِ: كالحسد، والحقد، والنفاق وَنَحْوهَا.
وَلَفْظَة (شرعا) مُتَعَلقَة بذم، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الذَّم لَا يكون إِلَّا من الشَّرْع.
وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ لم يذكرُوا: (وَلَو قولا) و (عمل الْقلب) اكْتِفَاء بقَوْلهمْ: فَاعله، لِأَن المُرَاد بِالْفِعْلِ: مَا يصدر عَن الْمُكَلف، فَيعم: الْأَقْوَال، وَالْأَفْعَال، وَعمل الْقلب، وَإِنَّمَا أبرزنا ذَلِك للإيضاح.
وَيرد على الْحَد: فعل الْمُبَاح، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ ترك وَاجِب، وَأَنه يذم فَاعله، لَكِن لَا من جِهَة فعله، بل لما لزمَه من ترك الْوَاجِب، وَلَو زيد فِي الْحَد: بِوَجْه مَا، أَو: من حَيْثُ فعله، سلم من الْإِيرَاد.
قَوْله: {وَيُسمى: مَحْظُورًا، وممنوعاً، ومزجوراً، ومعصية، وذنباً وقبيحاً، وسيئة، وفاحشة، وإثماً} .

(2/947)


لِلْحَرَامِ عشرَة أَسمَاء، وَزيد عَلَيْهَا: (زجرا) ، و (محرما) ، لَكِن يشملهما لفظ: (الْحَرَام) و (المزجور) لِأَنَّهُمَا من مادتهما.
وَزيد أَيْضا -: (حرجاً) و (تحريجاً) و (عُقُوبَة) ، وَإِنَّمَا سميت بذلك؛ لِأَنَّهَا تترتب على فعله، [فَبِهَذَا] التَّقْرِير يَصح تَسْمِيَته بذلك.
فَسُمي مَحْظُورًا من الْحَظْر، وَهُوَ الْمَنْع، فَسُمي الْفِعْل بالحكم الْمُتَعَلّق بِهِ. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَالْمَعْصِيَة: فعل مَا نهى الله تَعَالَى عَنهُ، وَعند الْمُعْتَزلَة: فعل مَا كرهه الله، وَهُوَ مَبْنِيّ على خلق الْأَعْمَال، وَإِرَادَة الكائنات) انْتهى.
وَسمي مَعْصِيّة لنَهْيه تَعَالَى عَنهُ، وَسمي ذَنبا لتوقع الْمُؤَاخَذَة عَلَيْهِ.

(2/948)


قَوْله: [فصل فِي الشَّخْص الْوَاحِد ثَوَاب وعقاب} .

كنوع الْآدَمِيّ، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة قاطبة، لِأَنَّهُ يعْمل الْحَسَنَات والسيئات، فتكتب لَهُ الْحَسَنَات، وَأما السَّيِّئَات فَإِن تَابَ مِنْهَا غفرت، وَكَذَا إِن اجْتنبت الْكَبَائِر على الصَّحِيح، على مَا يَأْتِي بَيَانه عَلَيْهِ فِي السّنة، وَإِلَّا فَهُوَ تَحت الْمَشِيئَة لحَدِيث عبَادَة.

(2/949)


وَخَالف الْمُعْتَزلَة فخلدوا أهل الْكَبَائِر فِي النَّار، وَلَو عمِلُوا [حَسَنَات] كَثِيرَة.
وَهُوَ مصادم لِلْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة الْوَارِدَة عَن الْمَعْصُوم الَّذِي لَا ينْطق عَن الْهوى فِي الشَّفَاعَة فِي أهل الْكَبَائِر وخروجهم من النَّار ودخولهم الْجنَّة.
وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة جدا تبلغ بهَا حد التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ.
قَوْله: {وَالْفِعْل الْوَاحِد بالنوع؛ مِنْهُ وَاجِب [وَمِنْه حرَام بِاعْتِبَار أشخاصه، كسجوده لله تَعَالَى وللصنم] } ، لتغايرهما بالشخصية، فَلَا استلزام بَينهمَا، وَهُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَعْلَام من أَرْبَاب الْمذَاهب وَغَيرهم.

(2/950)


فَإِن السُّجُود نوع من الْأَفْعَال ذُو أشخاص كَثِيرَة، فَيجوز أَن يَنْقَسِم إِلَى وَاجِب وَحرَام، فَيكون بعض أفرادها وَاجِبا: كالسجود لله، وَبَعضهَا حَرَامًا: كالسجود للصنم مثلا، وَلَا امْتنَاع من ذَلِك.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": (السُّجُود بَين يَدي الصَّنَم مَعَ قصد التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى محرم على مَذَاهِب عُلَمَاء الشَّرِيعَة. [وَقيل] عَن أبي هَاشم -: إِنَّه لَا يرى تَحْرِيم السُّجُود، وَيَقُول: إِنَّمَا الْمحرم الْقَصْد) .
قَالَ الْجُوَيْنِيّ: (وَلم أره لَهُ، وَإِنَّمَا مذْهبه: أَن السُّجُود لَا تخْتَلف صفته، وَإِنَّمَا الْمَحْظُور الْقَصْد.
- قَالَ -: وَهَذَا [يجب] أَن لَا يَقع السُّجُود طَاعَة بِحَال، ومساق ذَلِك يخرج الْأَفْعَال الظَّاهِرَة عَن كَونهَا قربات، وَهُوَ خُرُوج عَن دين الْأمة، لَا يمْتَنع أَن يكون الْفِعْل مَأْمُورا بِهِ مَعَ قصد، مَنْهِيّا عَنهُ مَعَ قصد. هَذَا زبدة كَلَامه) انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (خَالف بعض الْمُعْتَزلَة وَمرَاده: أَبُو هَاشم، حَكَاهُ عَنهُ أَبُو الْمَعَالِي، قَالَ: - لِأَن السُّجُود مَأْمُور بِهِ لله تَعَالَى، فَلَو

(2/951)


حرم للصنم، لاجتمع أَمر وَنهي فِي نوع وَاحِد، والمنهي قصد تَعْظِيمه.
رد: بِأَن الْمَأْمُور بِهِ السُّجُود الْمُقَيد بِقصد تَعْظِيم الله تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله} [فصلت: 37] ، والمنهي عَنهُ هُنَا: هُوَ الْمَأْمُور بِهِ) .
وَعِنْده: أَن النَّوْع لَا يخْتَلف بالْحسنِ والقبح، وَهِي قَاعِدَة فَاسِدَة كَمَا تقدم، لِأَن الْمحرم الْقَصْد وَالسُّجُود مَعًا، وَأما فِي فَرد من النَّوْع فَلَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: (والمخالف فِي ذَلِك الْحَنَفِيَّة، نَقله ابْن السَّمْعَانِيّ فِي " القواطع "، وَهُوَ أعرف بمذهبهم لِأَنَّهُ كَانَ حنفياً ثمَّ صَار شافعياً، وَمثل لذَلِك بِالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، وَصَوْم يَوْم الْعِيد والتشريق وَنَحْوه) .
قَوْله: {و [الْوَاحِد] } .
أَي: الْفِعْل الْوَاحِد {بالشخص لَهُ جِهَة وَاحِدَة، فيستحيل كَونه وَاجِبا حَرَامًا، [إِلَّا عِنْد بعض من] [يجوز تَكْلِيف الْمحَال] } .

(2/952)


قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (إِذا كَانَ الْفِعْل ذَا جِهَة وَاحِدَة، اسْتَحَالَ كَونه وَاجِبا حَرَامًا لتنافيهما، إِلَّا عِنْد بعض من يجوز تَكْلِيف الْمحَال عقلا وَشرعا.
وَأما الْقَائِلُونَ بامتناعه شرعا لَا عقلا فَلَا يجوزونه، تمسكاً بقوله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} [الْبَقَرَة: 286] ) .
وَقَالَ عضد الدّين: (فَلَو اتَّحد الْوَاحِد بالشخص؛ بِأَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد من الْجِهَة الْوَاحِدَة وَاجِبا حَرَامًا مَعًا، فَذَلِك مُسْتَحِيل قطعا، إِلَّا عِنْد من يجوز تَكْلِيف الْمحَال، وَقد مَنعه بعض من يجوز ذَلِك، نظرا إِلَى أَن الْوُجُوب يتَضَمَّن جَوَاز الْفِعْل، وَهُوَ يُنَاقض التَّحْرِيم) .
قَوْله: { [وَله] جهتان كَالصَّلَاةِ فِي مَغْصُوب} .

(2/953)


يَعْنِي: أَن الْفِعْل الْوَاحِد تَارَة يكون لَهُ جِهَة، وَتارَة يكون لَهُ جهتان، فَتقدم الْكَلَام على مَا لَهُ جِهَة وَاحِدَة، وَالْكَلَام الْآن على مَا لَهُ جهتان: كَالصَّلَاةِ فِي بقْعَة مَغْصُوبَة، { [مَذْهَب الإِمَام أَحْمد] ، وَأكْثر أَصْحَابه، والظاهرية والزيدية، والجبائية: لَا تصح} الصَّلَاة، {وَلَا يسْقط الطّلب بهَا} ، وَقَالَهُ أَبُو شمر الْحَنَفِيّ، وَحَكَاهُ [الْمَازرِيّ] عَن إصبغ الْمَالِكِي.

(2/954)


قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَهُوَ رِوَايَة عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن الْمَاجشون.
وَهُوَ وَجه لأَصْحَاب الشَّافِعِي، حَكَاهُ القَاضِي حُسَيْن، وَابْن الصّباغ.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَالْفَخْر الرَّازِيّ: (يسْقط الْفَرْض عِنْدهَا [لَا بهَا] ) .
قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": (لِأَن السّلف أَجمعُوا على أَن الظلمَة لَا يؤمرون بِقَضَاء الصَّلَاة المؤداة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة، وَلَا طَرِيق إِلَى التَّوْفِيق بَينهمَا إِلَّا بِمَا ذَكرْنَاهُ.
قَالَ: وَهُوَ مَذْهَب القَاضِي أبي بكر) انْتهى.
قَالَ الصفي الْهِنْدِيّ: (الصَّحِيح: أَن القَاضِي إِنَّمَا يَقُول بذلك لَو ثَبت القَوْل بِصِحَّة الْإِجْمَاع على سُقُوط الْقَضَاء، فَإِذا لم يثبت ذَلِك فَلَا يَقُول بِسُقُوط الطّلب بهَا وَلَا عِنْدهَا) انْتهى.

(2/955)


وَقد منع الْإِجْمَاع أَبُو الْمَعَالِي وَابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيرهمَا.
وَقد رد الطوفي مَا قَالَه الباقلاني فَقَالَ: (لِأَنَّهُ لما قَامَ الدَّلِيل عِنْد الباقلاني على عدم الصِّحَّة، ثمَّ ألزمهُ الْخصم بِإِجْمَاع السّلف على أَنهم لم يأمروا الظلمَة بِإِعَادَة الصَّلَوَات، مَعَ كَثْرَة وُقُوعهَا مِنْهُم فِي أَمَاكِن الْغَصْب، فأشكل عَلَيْهِ، فحاول الْخَلَاص بِهَذَا التَّوَسُّط، فَقَالَ: يسْقط الْفَرْض عِنْد هَذِه الصَّلَاة للْإِجْمَاع الْمَذْكُور، لَا بهَا لقِيَام الدَّلِيل على عدم صِحَّتهَا.
- قَالَ الطوفي -: قلت: فَكَأَنَّهُ جعلهَا سَببا لسُقُوط الْفَرْض أَو أَمارَة عَلَيْهِ، على نَحْو خطاب الْوَضع، لَا [عِلّة] لسقوطه، لِأَن ذَلِك يستدعى صِحَّتهَا.
قلت: وَهَذَا مَسْلَك ظَاهر الضعْف؛ لِأَن سُقُوط الْفَرْض بِدُونِ أَدَائِهِ شرعا غير مَعْهُود، بل لَو منع الْإِجْمَاع الْمَذْكُور لَكَانَ أيسر عَلَيْهِ.
- ورد الْإِجْمَاع بِكَلَام صَحِيح متين إِلَى الْغَايَة ثمَّ قَالَ -: وأحسب أَن هَؤُلَاءِ الَّذين ادعوا الْإِجْمَاع بنوه على مقدمتين:
إِحْدَاهمَا: أَن مَعَ كَثْرَة الظلمَة فِي تِلْكَ الْأَعْصَار عَادَة لَا يَخْلُو من إِيقَاع الصَّلَاة فِي مَكَان غصب من بَعضهم.

(2/956)


الثَّانِيَة: أَن السّلف يمْتَنع عَادَة وَشرعا تواطؤهم على ترك الْإِنْكَار.
وَالْأَمر بِالْإِعَادَةِ [بِنَاء من هَؤُلَاءِ] على مَا ظنوه من دَلِيل الْبطلَان، وَإِلَّا فَلَا إِجْمَاع فِي ذَلِك مَنْقُول تواتراً وَلَا آحاداً.
والمقدمتان المذكورتان فِي غَايَة الضعْف والوهن) انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَادّعى ابْن الباقلاني الْإِجْمَاع، وَهِي دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا، وَلَا إِجْمَاع.
ثمَّ لَا وَجه لسُقُوط الْعِبَادَة عِنْد فعل بَاطِل، وَمَعَ أَنه لَا يعرف عَن أحد قبله، وَلَا يبعد أَنه خلاف الْإِجْمَاع) انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قَالَ الباقلاني: لَو لم تصح لما سقط التَّكْلِيف، وَقد سقط بِالْإِجْمَاع، لأَنهم لم يؤمروا بِقَضَاء الصَّلَوَات.
قيل: [لَا إِجْمَاع] فِي ذَلِك لعدم ذكره وَنَقله، كَيفَ وَقد خَالف الإِمَام أَحْمد وَمن تبعه؟ وَهُوَ إِمَام النَّقْل وَأعلم بأحوال السّلف) .
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل أَيْضا -: (قَول ابْن الباقلاني: يسْقط الْفَرْض عِنْدهَا لَا بهَا، بَاطِل، لِأَن مسقطات الْفَرْض محصورة: من نسخ، أَو عجز، أَو فعل غير كالكفاية، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا) انْتهى.

(2/957)


{ [وَعَن أَحْمد] : [يحرم] } فعل الصَّلَاة {وَتَصِح، [وَهُوَ قَول مَالك] ، وَالشَّافِعِيّ، و} اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا: {الْخلال، وَابْن عقيل، والطوفي، [وَأكْثر الْعلمَاء] } .
فَهَذِهِ الصَّلَاة وَاجِبَة، حرَام، باعتبارين، فَتكون صَحِيحَة، لِأَن مُتَعَلق الطّلب ومتعلق النَّهْي فِي ذَلِك متغايران، فَكَانَا كاختلاف المحلين، لِأَن كل وَاحِدَة من الْجِهَتَيْنِ مُسْتَقلَّة عَن الْأُخْرَى، واجتماعهما إِنَّمَا هُوَ بِاخْتِيَار الْمُكَلف، فليسا متلازمين، فَلَا تنَاقض.
قَوْله: {فَلَا ثَوَاب، وَقيل: بلَى} .
يَعْنِي: إِذا فعل الْعِبَادَة على وَجه محرم، وَقُلْنَا: تصح، فَهَل يُثَاب عَلَيْهَا أم لَا؟ فِيهِ للْعُلَمَاء قَولَانِ:

(2/958)


أَحدهمَا: لَا ثَوَاب فِيهَا، وَقَالَهُ القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَجمع من أَصْحَابنَا، ذكره فِي فروع ابْن مُفْلِح فِي بَاب ستر الْعَوْرَة.
قَالَ الْمجد: (تصح صَلَاة من شرب الْخمر وَلَا ثَوَاب فِيهَا) ، وَنقل ابْن الْقَاسِم عَن أَحْمد: (لَا أجر لمن غزا على فرس غصب) ، وَقَالَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره فِي حج.
وَقدمه التَّاج السُّبْكِيّ، وَقد نقل النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب " عَن القَاضِي أبي مَنْصُور ابْن أخي ابْن الصّباغ -: (أَن الْمَحْفُوظ من كَلَام أَصْحَابنَا بالعراق أَنَّهَا تصح وَلَا ثَوَاب فِيهَا، وَنقل عَن شَيْخه ابْن الصّباغ فِي " الْكَامِل ": أَنه يَنْبَغِي حُصُول الثَّوَاب عِنْد من صححها.

(2/959)


قَالَ القَاضِي أَبُو مَنْصُور: وَهُوَ الْقيَاس) انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (قلت: يَنْبَغِي أَن يُقَابل بَين ثَوَاب الْعِبَادَة وإثم الْمكْث فِي الْمَغْصُوب، فَإِن تكافأا أحبط الْعَمَل الثَّوَاب، وَإِن زَاد ثَوَاب الصَّلَاة بَقِي لَهُ قدر من الثَّوَاب لَا يضيع، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُطلق انْتِفَاء الثَّوَاب لحُصُول بعضه فِي بعض الْأَحْوَال) ، وَهُوَ حسن.
قلت: وَأحسن مِنْهُ أَن يُقَال: إِن عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ إِثْمًا، وَله بِالصَّلَاةِ ثَوابًا، فَلَو زَاد إِثْم الْغَصْب على ثَوَاب الْعِبَادَة، بَقِي عَلَيْهِ شَيْء من الْإِثْم، كَمَا لَو زَاد ثَوَاب الْعِبَادَة بَقِي لَهُ شَيْء من الثَّوَاب، وَإِن تَسَاويا كَانَ لَهُ ثَوَاب الْعِبَادَة وَعَلِيهِ إِثْم الْغَصْب، فالثواب يُضَاف إِلَى حَسَنَاته، وَالْإِثْم يُضَاف إِلَى سيئاته، وَكَذَا لَو زَاد أَحدهمَا.
{ [وَقيل] : تكره، [وفَاقا للحنفية] } .
وَهُوَ ظَاهر كَلَام السامري فِي " الْمُسْتَوْعب ".

(2/960)


قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " الْفُرُوع ": (وَفِيه نظر) .
وَعنهُ: إِن علم التَّحْرِيم لم تصح، وَإِلَّا صحت.
دَلِيل الْمَذْهَب الأول وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب -: تعلق الْوُجُوب وَالْحُرْمَة بِفعل الْمُكَلف، وهما متلازمان فِي هَذِه الصَّلَاة، فَالْوَاجِب مُتَوَقف على الْحَرَام، وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِب، فالحرام وَاجِب، وَهُوَ تَكْلِيف بالمحال.
وَلِأَن شغل الحيز حرَام، وَهُوَ دَاخل فِي مفهومي الْحَرَكَة والسكون، الداخلين فِي مفهومها، فَدخل فِي مفهومها لِأَنَّهُ جزؤها فَالصَّلَاة الَّتِي جزؤها حرَام، غير وَاجِبَة، لوُجُوب الْجُزْء الْحَرَام إِن استلزم وُجُوبهَا وجوب أَجْزَائِهَا، وَإِلَّا كَانَ الْوَاجِب بعض أَجزَاء الصَّلَاة لَا نَفسهَا، لتغاير الْكل والجزء.
وَاعْترض الْآمِدِيّ وَغَيره: بِأَن العَبْد إِذا أَمر بخياطة ثوب، وَنهي عَن مَكَان مَخْصُوص، فَجمع بَينهمَا، كَانَ طَائِعا عَاصِيا للجهتين، إِجْمَاعًا، وَمَا سبق جَار فِيهِ، الْجَواب وَاحِد.
وَلقَائِل أَن يَقُول: صُورَة الْإِلْزَام لَازِمَة فِي الصَّلَاة فِي الْمَكَان النَّجس، وَالْجَوَاب وَاحِد.
ثمَّ فِي كَلَام أَصْحَابنَا مَا يَقْتَضِي الْفرق؛ فَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "

(2/961)


- بعد أَن احْتج للصِّحَّة بِالْأَمر بالخياطة -: (قَالَ من منع: مَتى أخل مرتكب النَّهْي بِشَرْط الْعِبَادَة أفسدها، وَنِيَّة التَّقَرُّب بِالصَّلَاةِ شَرط، والتقرب بالمعصية محَال) .
وَهَذَا معنى قَول أبي الْخطاب: (من شَرط الصَّلَاة الطَّاعَة، وَنِيَّته أَدَاء الْوَاجِب، وحركته مَعْصِيّة، وَنِيَّة أَدَاء الْوَاجِب بِمَا يُعلمهُ غير وَاجِب بل مَعْصِيّة محَال) .
وَقَالَ أَيْضا وَمَعْنَاهُ كَلَام القَاضِي وَغَيره -: (من شَرط الْعِبَادَة إِبَاحَة الْموضع، وَهُوَ محرم، فَهُوَ كالنجس) .
وَلِأَن الْأَمر بِالصَّلَاةِ لم يتَنَاوَل هَذِه الْمنْهِي عَنْهَا، وَهِي غصب، لشغل ملك غَيره [بِغَيْر حق] ، فَلَا يجوز كَونهَا وَاجِبَة من جِهَة أُخْرَى.
قَالَ المصححون: الْغَصْب للدَّار، وَالصَّلَاة غَيرهَا.
رد: بِمَا سبق.
وَقَالَ ابْن عقيل: (لَا يملك الْآدَمِيّ عين شَيْء عِنْد الْفُقَهَاء أجمع، بل إِنَّمَا يملك التَّصَرُّف، فالمصلي غَاصِب بِصَلَاتِهِ، وَالله يملك الْعين، وَعند الْمُعْتَزلَة: لَا، لِأَن الْملك: الْقُدْرَة، وَلَا تقع على مَوْجُود) انْتهى.

(2/962)


وَأما صَوْم يَوْم الْعِيد، فَيحرم إِجْمَاعًا، وَلَا يَصح عِنْد أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ.
وَعَن أَحْمد: يَصح فرضا.
وَعنهُ: عَن نَذره الْمعِين، وفَاقا لأبي حنيفَة وَأَصْحَابه.
وَزَاد أَبُو حنيفَة: ونفلاً.
فَنَقُول: لَو صحت بالجهتين لصَحَّ بهما.
وَفرق: بِأَن صَوْمه لَا يَنْفَكّ عَن الصَّوْم بِوَجْه، فَلَا جهتان، وَبِأَن اعْتِبَار تعدد الْجِهَة فِي نهي التَّحْرِيم بِدَلِيل، وَهُوَ الْأَمر بِالصَّلَاةِ، وَالنَّهْي عَن الْغَصْب.
رد الأول: بِأَن هَذِه الصَّلَاة إِن تنَاولهَا الْأَمر فَهِيَ مُحرمَة.
وَالثَّانِي: بِأَن الْأَمر بِالصَّوْمِ، وَالنَّهْي عَن صَوْم يَوْم الْعِيد.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (احْتج الْمُخَالف بِطَاعَة العَبْد وعصيانه، بأَمْره بالخياطة وَنَهْيه عَن مَكَان مَخْصُوص، فَالصَّلَاة مَأْمُور بهَا وَالْغَصْب مَنْهِيّ عَنهُ.

(2/963)


قُلْنَا: النزاع لم يَقع إِلَّا فِي الصَّلَاة مُقَيّدَة بِقَيْد الْغَصْب، وَهِي مُخْتَصَّة، فَلَا نسلم الْأَمر بهَا مَقْرُونا بِالنَّهْي، لِأَن النزاع فِي الصَّلَاة الشخصية، وَالْوَاحد بالشخص لَا تعدد فِيهِ بِاعْتِبَار عينه، بِأَن يُؤمر بِهِ وَينْهى عَنهُ، فَيُقَال بِمُوجب الدَّلِيل، لِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتضى الْأَمر بِالصَّلَاةِ من حَيْثُ هِيَ صَلَاة، والنزاع وَقع فِي الْمُقَيد بِقَيْد الْغَصْب، لِأَن الْعَام فِي الْأَشْخَاص مُطلق فِي الْأَحْوَال، فَتَنَاول لفظ الصَّلَاة بِعُمُومِهِ كل فَرد من أَفْرَاد الصَّلَاة، بِوَصْف مُطلق الْمَكَان، وَمُطلق الزَّمَان، وَمُطلق الْحَال، فخصوص الدَّار الْمَغْصُوبَة لَا يَتَنَاوَلهَا عُمُوم الْأَمر، وَهَذَا أصح مِمَّا ذكره ابْن الْخَطِيب، لِأَنَّهُ سلم الْعُمُوم وَادّعى التَّخْصِيص بِدَلِيل الْعقل) انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل.
وَقَالَ أَيْضا -: (وَأما أَمر العَبْد بالخياطة فَلَيْسَ مطابقاً، لِأَن الْفِعْل [الَّذِي هُوَ مُتَعَلق] الْأَمر، غير الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق النَّهْي، وَلَيْسَ بَينهمَا مُلَازمَة، فَلَا جرم صَحَّ الْأَمر بِأَحَدِهِمَا وَالنَّهْي عَن الآخر، إِنَّمَا النزاع فِي صِحَة تعلق الْأَمر وَالنَّهْي بالشَّيْء الْوَاحِد، فَأَيْنَ أَحدهمَا من الآخر؟) .
قَالَ الْقَرَافِيّ: (الْمِثَال مُطَابق فِي العَبْد، لِأَن الشَّيْء الْوَاحِد إِذا كَانَ لَهُ جهتان صَحَّ فِيهِ مَا ذكر) .
قُلْنَا: قد بَينا أَن الصَّلَاة الْمَخْصُوصَة لَيْسَ لَهَا جهتان، والتمثيل بالخياطة غير صَحِيح، لِأَن الْخياطَة وَالدُّخُول أَمْرَانِ متغايران، يجوز انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر.

(2/964)


تَنْبِيه: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (زعم [الْغَزالِيّ: أَن] الْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة فِي الصِّحَّة، لَا اجتهادية، مُسْتَندا إِلَى الْإِجْمَاع على عدم الْأَمر بِالْقضَاءِ، وَنسب من أبطلها إِلَى خرق الْإِجْمَاع، وَلَو طُولِبَ بتحقيق هَذَا الْإِجْمَاع [لعجز عَنهُ.
وَأَيْضًا: الْإِجْمَاع] إِن كَانَ لفظياً، فَأَيْنَ نَقله؟ وَإِن كَانَ سكوتياً فَكَذَلِك.
وَلَا يُمكنهُ النَّقْل عَن أحد من أهل الْفَتْوَى أَنه أفتى بِالصِّحَّةِ.
وَأَيْضًا فالسكوتي عُمْدَة وَلَيْسَ بِحجَّة) .
وَقَالَ الْغَزالِيّ أَيْضا -: (يلْزم أَحْمد بن حَنْبَل الْقَائِل بِأَن الصَّلَاة بَاطِلَة جَمِيع الْعُقُود، من البيع وَقت النداء، وَأَن لَا تحل امْرَأَة تزَوجهَا وَفِي ذمَّته دانق ظلم، وَلَا صلَاته، وَلَا جَمِيع تَصَرُّفَاته، وَلَا يحصل التَّحْلِيل بِوَطْء من هَذَا شَأْنه، لِأَنَّهُ عَاص بترك رد الْمظْلمَة، فَيلْزمهُ تَحْرِيم أَكثر النِّسَاء، وَبطلَان أَكثر الْأَمْلَاك، وَهُوَ خرق للْإِجْمَاع) .
قلت: وَهَذِه مُبَالغَة وجرأة على الإِمَام أَحْمد، [وَمَالك على رِوَايَة] ، وَغَيرهمَا مِمَّا ذكرنَا من الظَّاهِرِيَّة والزيدية والجبائية، وَقَول فِي مذْهبه قبل أَن يُوجد، وَقَول فِي مَذْهَب مَالك كإصبغ وَابْن الْمَاجشون الإمامان الكبيران،

(2/965)


وَرِوَايَة عَن مَالك، وَقَول فِي مَذْهَب أبي حنيفَة، وَاخْتَارَهُ أَبُو شمر، كَمَا تقدم ذَلِك كُله.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قلت: لَا يلْزمه شَيْء من ذَلِك قطعا. أما البيع وَقت النداء، وَسَائِر الْعُقُود الْمُحرمَة الَّتِي لَا يُمكن جبرها بالرضى، فالإمام أَحْمد يُبْطِلهَا، لِأَن الشَّارِع عزل أَرْبَابهَا عَن التَّصَرُّف بِالنَّهْي.
وَأما عدم حل من تزَوجهَا مَعَ تلبسه بالدانق، فَإِنَّهُ أَمر برده، وَمن لَوَازِم الْأَمر النَّهْي عَمَّا سواهُ، وَمَا سواهُ أضداد كَثِيرَة لم ينْه [عَنْهَا] بخصوصها، وَمن جملَة الأضداد التَّلَبُّس بِالْعقدِ العاري عَن النَّهْي بطرِيق الْخُصُوص، وَإِنَّمَا هُوَ فَرد من تِلْكَ الْأَفْرَاد، والمنهي عَنهُ الْقدر الْمُشْتَرك، وَمَا امتاز كل فَرد من الأضداد فَلَا نهي فِيهِ.
وَأما الصَّلَاة فِي الْمحل الْمَغْصُوب فمنهي عَنْهَا لذاتها، لَا لكَونهَا ضداً، وَلَا النَّهْي استلزاماً، فَظهر انفكاك مَحل النزاع.
قَالَ الْغَزالِيّ: (إِن قيل: مَا هَذِه الصَّلَاة، قَطْعِيَّة أَو اجتهادية؟
قيل: قَطْعِيَّة، والمصيب فِيهَا وَاحِد، لِأَن من صحّح أَخذ من الْإِجْمَاع، وَهُوَ قَطْعِيّ، وَمن منع أَخذ من التضاد الَّذِي بَين الْقرْبَة وَالْمَعْصِيَة، وَيَدعِي كَون ذَلِك محالاً بِدَلِيل الْعقل.
قلت: الْمَسْأَلَة اجتهادية، وَنقل الْإِجْمَاع بَاطِل، والتضاد ظَنِّي لَا قَطْعِيّ فِي خُصُوص الْمَسْأَلَة) انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل.

(2/966)


قَوْله: {فَائِدَة: تصح تَوْبَة خَارج مِنْهُ فِيهِ، وَلم يعْص بِخُرُوجِهِ عِنْد ابْن عقيل، وَغَيره [من أَصْحَابنَا] ، [والمعظم] } ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة والأشعرية.
قَالَ ابْن عقيل: (لم يَخْتَلِفُوا أَنه لَا يعد واطئاً بنزعه فِي الْإِثْم، بل فِي التَّكْفِير، وكأزالة محرم طيبا بِيَدِهِ، أَو غصب عينا ثمَّ نَدم، وَشرع فِي حملهَا على رَأسه إِلَى صَاحبهَا، أَو أرسل صيدا صَاده محرم، أَو فِي حرم من شرك والرامي بِالسَّهْمِ إِذا خرج السهْم عَن مَحل قدرته فندم، وَإِذا جرح ثمَّ تَابَ وَالْجرْح مَا زَالَ إِلَى السَّرَايَة، فَفِي هَذِه الْمَوَاضِع ارْتَفع الْإِثْم بِالتَّوْبَةِ، وَالضَّمان بَاقٍ، بِخِلَاف مَا لَو كَانَ ابْتِدَاء الْفِعْل غير محرم، كخروج مستعير

(2/967)


من دَار انْتَقَلت عَن الْمُعير، وَخُرُوج من أجنب بِمَسْجِد، فَإِنَّهُ غير آثم اتِّفَاقًا) .
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (ذكر ابْن عقيل: إِن نَام على سطحه فهوى سقفه من تَحْتَهُ على قوم، لزمَه الْمكْث، كَمَا قَالَه الْمُحَقِّقُونَ فِيمَن ألقِي فِي مركبه نَار، وَلَا يضمن مَا تلف بسقوطه؛ لِأَنَّهُ ملْجأ لم يتسبب، وَإِن تلف شَيْء بدوام مكثه أَو بانتقاله ضمنه.
وَاخْتَارَ فِي التائب الْعَاجِز عَن مُفَارقَة [الْغَصْب] فِي الْحَال، وَالْعَاجِز عَن إِزَالَة أَثَرهَا كمتوسط مَكَان غصبه، ومتوسط الْجَرْحى تصح تَوْبَته مَعَ الْعَزْم والندم، وَأَنه لَيْسَ عَاصِيا بِخُرُوجِهِ من الْغَصْب) انْتهى.
وَالْمَالِك فِي الْحَقِيقَة هُوَ الله، والآدمي مستخلف.
قَالَ ابْن برهَان: (قَالَه الْفُقَهَاء و [المتكلمون] كَافَّة) .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَقد نقل أَبُو مُحَمَّد فِي " الفروق " فِي كتاب

(2/968)


الصَّوْم: أَن الشَّافِعِي نَص على تأثيم من دخل أَرضًا [غَاصبا] ، قَالَ: فَإِذا قصد الْخُرُوج مِنْهَا لم يكن عَاصِيا بِخُرُوجِهِ، لِأَنَّهُ تَارِك للغصب) انْتهى.
وَمَا نَقله مَوْجُود فِي " الْأُم " فِي كتاب الْحَج فِي الْمحرم إِذا تطيب، فَقَالَ: (وَلَو دخل دَار رجل بِغَيْر إِذْنه لم يكن جَائِزا لَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْخُرُوج مِنْهَا، وَلم أزعم أَنه يحرج بِالْخرُوجِ، وَإِن كَانَ يمشي مَا لم يُؤذن لَهُ، لِأَن مَشْيه لِلْخُرُوجِ من الذَّنب لَا لزِيَادَة مِنْهُ، فَهَكَذَا هَذَا الْبَاب) انْتهى.
قَالَ: وَهُوَ من النفائس.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (من توَسط أَرضًا مَغْصُوبَة اسْتَحَالَ تعلق الْأَمر وَالنَّهْي لَهُ بِالْخرُوجِ، إِذْ لَو تعلقا بِهِ لزم التَّكْلِيف بسلب الْحَرَكَة والسكون، لِأَن الْأَمر بالحركة يسْتَلْزم سلب السّكُون، وَالنَّهْي عَنهُ يسْتَلْزم سلب الْحَرَكَة.
وَقَالَ الْجُمْهُور: خُرُوجه عَن حرَام بِشَرْط تَوْبَته) انْتهى.
{وَخَالف} فِي ذَلِك {أَبُو هَاشم، [وَأَبُو شمر المرجئ} ، وَأَبُو

(2/969)


الْخطاب} من أَصْحَابنَا، {وَقَالَ: لدفع [أكبر المعصيتين بأقلهما] } ، وَلِهَذَا الْكَذِب مَعْصِيّة يجوز فعله لدفع قتل مُؤمن ظلما لذَلِك.
وَضعف: بِأَنَّهُ تَكْلِيف بالمحال لتَعلق الْأَمر وَالنَّهْي بِالْخرُوجِ.
قَالَ أَبُو الْخطاب: (لَا نسلم أَن حركات الْغَاصِب لِلْخُرُوجِ طَاعَة ومأمور بهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْصِيّة يَفْعَلهَا لدفع أَكثر المعصيتين بأقلهما) .
{وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {حق الله تَعَالَى يَزُول بِالتَّوْبَةِ، وَحقّ الْآدَمِيّ يَزُول [بِزَوَال أثر] الظُّلم} ، وَهُوَ حسن.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (التَّحْقِيق: أَن هَذِه الْأَفْعَال يتَعَلَّق بهَا حق الله تَعَالَى وَحقّ الْآدَمِيّ، فَأَما حق الله فيزول بِمُجَرَّد النَّدَم، وَأما حُقُوق الْعباد فَلَا تسْقط إِلَّا بعد أَدَائِهَا إِلَيْهِم، وعجزه عَن إيفائها حِين التَّوْبَة لَا يُسْقِطهَا، بل لَهُ أَن يَأْخُذ من حَسَنَات هَذَا الظَّالِم فِي الْآخِرَة إِلَى حِين زَوَال الظُّلم وأثره) انْتهى.
{ [واستصحب أَبُو] الْمَعَالِي حكم الْمعْصِيَة [مَعَ الْخُرُوج، مَعَ أَنه] غير مَنْهِيّ عَنهُ} .

(2/970)


قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قيل عَنهُ، {و} قيل {عَنهُ: [إِنَّه] طَاعَة} لأَخذه فِي ترك الْمعْصِيَة، {مَعْصِيّة} لِأَنَّهُ فِي ملك غَيره، ومستند إِلَى فعل متعدي فِيهِ كَالصَّلَاةِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (لَو خرج من مَغْصُوب بِقصد التَّوْبَة والإقلاع كَانَ آتِيَا بِوَاجِب، وَإِن كَانَ النَّهْي منسحباً [عَلَيْهِ] حَتَّى يتم خُرُوجه، فَلذَلِك قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: (إِنَّه [مرتبك] فِي الْمعْصِيَة) ، أَي: مشتبك فِيهَا، قَالَ: (لَكِن مَعَ انْقِطَاع تَكْلِيف النَّهْي) ، أَي: لِأَن التَّكْلِيف بترك الْإِقَامَة، أَمر بتحصيل الْحَاصِل، فالمعصية فِيهِ استصحابية، فتضعيف الْغَزالِيّ ذَلِك بِأَن التَّكْلِيف إِذا انْقَطع [فَإلَى مَاذَا تستند] الْمعْصِيَة، واستبعاد ابْن الْحَاجِب لَهُ

(2/971)


لأجل ذَلِك، فِيهِ نظر، فَإِنَّهُ لم يقل: انْقَطع النَّهْي بل التَّكْلِيف بِهِ، أَي: انْقَطع إِلْزَامه بالكف عَن الْإِقَامَة، لَا اسْتِصْحَاب ذَلِك النَّهْي، وَلذَلِك قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": " إِن مَا قَالَه الإِمَام دَقِيق ") انْتهى.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (وَمِمَّا أخرجه على ذَلِك: مَا لَو أولج فِي آخر جُزْء من اللَّيْل عَالما بِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر مِنْهُ النزع إِلَّا فِي جُزْء من النَّهَار، وفرضنا تصور ذَلِك، وَفعل ذَلِك، فسد صَوْمه بالنزع، لِأَنَّهُ تسبب إِلَى المخالطة مَعَ مُقَارنَة الْفجْر، بِخِلَاف من ظن بَقَاء اللَّيْل، وَفعل ذَلِك، فَإِنَّهُ مَعْذُور) انْتهى.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": قلت: (وَأحسن من تَصْوِير أبي الْمَعَالِي مَسْأَلَة عَن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَانِ: لَو قَالَ لزوجته إِذا وَطئتك فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا، أَو إِذا وَطئتك فَأَنت عَليّ كَظهر أُمِّي، فروايتان فِي إقدامه، فَإِن حل، وَجب على قِيَاسه: أَن الْخَارِج من الْغَصْب ممتثل، وَإِن حرم توجه كَقَوْل أبي هَاشم أَو أبي الْمَعَالِي) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ، وَهَذَا تَكْلِيف بممكن، بِخِلَاف ذَلِك) .
وَلم يتعقبه فِي " فروعه ".
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (نَظِير الْمَسْأَلَة تَوْبَة المبتدع الدَّاعِي إِلَى بدعته، وفيهَا رِوَايَتَانِ، أصَحهمَا: الْجَوَاز، وَالْأُخْرَى اخْتِيَار ابْن شاقلا، لإضلال غَيره) انْتهى.

(2/972)


قَوْله: {تَتِمَّة: الْوَاقِع على جريح إِن بَقِي قَتله، وَمثله إِن انْتقل، يضمن وَتَصِح تَوْبَته إِذن فِي الْأَصَح، [قَالَ ابْن عقيل وَغَيره: وَيحرم انْتِقَاله، وَابْن الْمُنِير: ينْتَقل، وَابْن عبد السَّلَام] : إِلَى كَافِر مَعْصُوم، وَأَبُو الْمَعَالِي: لَا حكم، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ مرّة، وخيره أُخْرَى} .
قَالَ ابْن عقيل: (إِن وَقع على الْجَرْحى بِغَيْر اخْتِيَاره، لزمَه الْمكْث، وَلَا يضمن مَا تلف بسقوطه، وَإِن تلف شَيْء بإستمراره، أَو بانتقاله لزمَه ضَمَانه) ، وَاخْتَارَ: أَن تَوْبَته تصح حِينَئِذٍ، وَلَا تقف صِحَّتهَا على الْمُفَارقَة، بل هُوَ مَعَ الْعَزْم والندم تَارِك مقلع، كَمَا تقدم عَنهُ.
وَعند الْمُخَالف: هُوَ عَاص إِلَى أَن يَنْقَضِي أثر الْمعْصِيَة، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ ابْتَدَأَ الْفِعْل غير محرم كَمَا تقدّمت صورته.

(2/973)


وَقَالَ ابْن عقيل أَيْضا -: (لَا يجوز أَن ينْتَقل إِلَى آخر قولا وَاحِدًا، [لِأَنَّهُ يحصل مبتدئ] بِالْجِنَايَةِ، كَمَا لَو سقط من غير اخْتِيَاره فَحصل سُقُوطه على وَاحِد، لم يجز لَهُ عندنَا جَمِيعًا أَن ينْتَقل، فيقف متندماً متمنياً أَن يخلق لَهُ جَنَاحَانِ يطير بهما، أَو يتدلى إِلَيْهِ حَبل يتشبث بِهِ، فَإِذا علم تَعَالَى ذَلِك مِنْهُ، كَانَ ذَلِك غَايَة جهده، وَصَارَ بعد [ندمه] كحجر أوقعه الله تَعَالَى على ذَلِك الجريح) انْتهى.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة أَلْقَاهَا أَبُو هَاشم فحارت فِيهَا عقول الْفُقَهَاء.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (لم أَقف فِيهَا من قَول الْفُقَهَاء على ثَبت، وَالْوَجْه الْقطع بِسُقُوط التَّكْلِيف عَنهُ، مَعَ اسْتِمْرَار حكم سخط الله عَلَيْهِ وغضبه) .
وَقد سَأَلَهُ الْغَزالِيّ عَن هَذَا فَقَالَ: كَيفَ تَقول لَا حكم، وَأَنت ترى أَنه لَا تَخْلُو وَاقعَة من حكم؟
فَقَالَ: حكم الله: أَن لَا حكم، قَالَ الْغَزالِيّ: فَقلت لَهُ: لم أفهم هَذَا.
وَقَالَ فِي " المنخول " فِي مَوضِع كَقَوْل أبي الْمَعَالِي شَيْخه: (لَا حكم فِيهَا أصلا، وَلَا يُؤمر بمكث وَلَا انْتِقَال) ، وَنَقله عَن شَيْخه آخر الْكتاب، ثمَّ

(2/974)


قَالَ: وَلم أفهمهُ بعد، وَجوز مَعَه فِي غير هَذَا الْكتاب أَن يُقَال: يتَخَيَّر، وَهُوَ قَوْلنَا: (وَخير أُخْرَى) .
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (لَعَلَّ أَبَا الْمَعَالِي أَرَادَ: أَنه لَا حكم متجدد غير الحكم الْأَصْلِيّ الَّذِي هُوَ الْبَرَاءَة، فَإِن ذَلِك لَا تَخْلُو مِنْهُ وَاقعَة) .
وَرجح ابْن الْمُنِير: أَنه ينْتَقل عَن الَّذِي سقط عَلَيْهِ، لجَوَاز أَن يَمُوت الْمُنْتَقل إِلَيْهِ قبل أَن يصير إِلَيْهِ، فَيسلم من الْمعْصِيَة، فَإِن بَقَاءَهُ على الأول مَعْصِيّة مُحَققَة، فإقلاعه عَنْهَا وَاجِب، كالخروج من الدَّار الْمَغْصُوبَة.
وَلَا يَخْلُو قَوْله من نظر.
وَفرق ابْن عبد السَّلَام فَقَالَ بعد فَرضهَا فِي صغيرين -: (الْأَظْهر عِنْدِي: لُزُوم الِانْتِقَال فِيمَا إِذا كَانَ الَّذِي سقط عَلَيْهِ مُسلما والمنتقل إِلَيْهِ كَافِرًا، لكنه مَعْصُوم لصِغَر أَو أَمَان، لِأَنَّهُ أخف مفْسدَة.
قَالَ: لِأَن قتل أَوْلَاد الْكفَّار جَائِز عِنْد التترس بهم، حَيْثُ لَا يجوز ذَلِك فِي أَطْفَال الْمُسلمين) .
أما الْكَافِر غير الْمَعْصُوم فَينْتَقل إِلَيْهِ قطعا، أَو يلْزمه، وَهُوَ قَوْلنَا: {وَيلْزم الْأَدْنَى قطعا} ، إِن كَانَ هُوَ الْوَاقِع عَلَيْهِ لزمَه الِاسْتِمْرَار عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ الآخر لزم الِانْتِقَال إِلَيْهِ قطعا، وَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ، وعَلى قِيَاسه الزَّانِي الْمُحصن.

(2/975)


قَوْله " { [فصل}
{الْمَنْدُوب لُغَة: الْمَدْعُو لمهم، [من النّدب وَهُوَ: الدُّعَاء] } .
قَالَ الشَّاعِر:
(لَا يسْأَلُون أَخَاهُم حِين يندبهم ... فِي النائبات على مَا قَالَ برهاناً)

وَهُوَ الطّلب، وَمِنْه الحَدِيث " " انتدب الله لمن يخرج فِي سَبيله "،

(2/976)


أَي: أجَاب لَهُ طلب مغْفرَة ذنُوبه.
يُقَال: ندبته فَانْتدبَ.
وَيُطلق أَيْضا على التَّأْثِير، وَمِنْه حَدِيث مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام -: " وَإِن بِالْحجرِ ندبا بِفَتْح الدَّال سِتَّة أَو سَبْعَة ضرب مُوسَى " وَأَصله: الْجرْح.

(2/977)


قَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": (ندبته إِلَى الْأَمر ندبا من بَاب قتل -: دَعوته، وَالْفَاعِل نادب، وَالْمَفْعُول مَنْدُوب، وَالْأَمر مَنْدُوب إِلَيْهِ، وَالِاسْم الندبة، مثل غرفَة، وَمِنْه الْمَنْدُوب فِي الشَّرْع، وَالْأَصْل الْمَنْدُوب إِلَيْهِ، لَكِن حذفت الصِّلَة مِنْهُ لفهم الْمَعْنى.
وانتدبته لِلْأَمْرِ فَانْتدبَ، يسْتَعْمل لَازِما ومتعدياً، وندبت الْمَرْأَة الْمَيِّت ندبا من بَاب قتل أَيْضا وَهِي نادبة، وَالْجمع نوادب، لِأَنَّهُ كالدعاء، فَإِنَّهَا تقبل على تعديد محاسنه كَأَنَّهُ يسْمعهَا) انْتهى.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: (النّدب فِي اللُّغَة: هُوَ الدُّعَاء إِلَى أَمر مُهِمّ "، وَهُوَ أخص مِمَّا ذَكرْنَاهُ.
قَالَ الطوفي: (وَهُوَ أنسب وَأشهر فِي لِسَان الْعَرَب وأغلب، وَعَلِيهِ يحمل كَلَام غَيره، - ثمَّ قَالَ -: النّدب فِي الأَصْل مصدر ندبته ندبا، وَالْمَفْعُول مَنْدُوب، وَهُوَ المُرَاد؛ لِأَنَّهُ الْمُقَابل للْوَاجِب، وَيُقَال لَهُ: ندب، إطلاقاً للمصدر على الْمَفْعُول مجَازًا) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (نَدبه إِلَى الْأَمر، كنصره: دَعَاهُ وحثه، وَالْمَيِّت: بكاه وَعدد محاسنه) انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا: مَا [أثبت] فَاعله وَلَو قولا [وَعمل قلب] ، وَلم يُعَاقب تَاركه مُطلقًا} .

(2/978)


فَخرج بِقَيْد الثَّوَاب: الْحَرَام، وَالْمَكْرُوه، وَخلاف الأولى، والمباح.
وَقَوْلنَا: (وَلَو قولا وَعمل قلب) ، أَعنِي: أَن من الْمَنْدُوب مَا يكون فعلا، وَمَا يكون عملاَ بِالْقَلْبِ.
فالفعل: كسنن الْأَفْعَال فِي الصَّلَاة وَالْحج وَغَيرهمَا.
وَالْقَوْل أَيْضا -: كسنن الْأَقْوَال فِي الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَالِاعْتِكَاف وَغَيرهَا.
وَعمل الْقلب: كالخشوع فِي الصَّلَاة، وَالنِّيَّة لفعل الْخَيْر وَالذكر.
وَهُوَ كثير من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، حَتَّى قيل فِي النِّيَّة: (يُمكن أَن لَا يزَال فِي طَاعَة مَا دَامَ نَاوِيا للخير) .
وَخرج بقوله: (وَلم يُعَاقب تَاركه) ، الْوَاجِب الْمعِين.
وب (مُطلقًا) ، الْوَاجِب الْمُخَير وَفرض الْكِفَايَة.
قَوْله: {وَيُسمى: سنة ومستحباً} .
فَهُوَ مرادف لَهما، أَي: يساويهما فِي الْحَد والحقيقة، وَإِنَّمَا اخْتلفت الْأَلْفَاظ وَالْمعْنَى وَاحِد.
والمترادف: هُوَ اللَّفْظ المتعدد لمسمى وَاحِد، كَمَا تقدم بَيَانه.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": ( {و} يُسمى النّدب: {تَطَوّعا، وَطَاعَة، ونفلاً، وقربة، أجماعاً) } .

(2/979)


و {قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل} فِي " أُصُوله ": (وَمن أَسْمَائِهِ: النَّفْل، والتطوع، و { [والمرغب فِيهِ] } ، وَالْمُسْتَحب، { [وَالْإِحْسَان] } ) انْتهى.
وَرَأَيْت بَعضهم قيد قَوْله: إحساناً، إِن كَانَ نفعا للْغَيْر مَقْصُودا.
وَرَأَيْت فِي كَلَام الشَّافِعِيَّة: أَن من أَسْمَائِهِ: الأولى.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو طَالب مدرس المستنصرية من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي " حاويه الْكَبِير ": (إِن الْمَنْدُوب يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: مَا يعظم أجره يُسمى سنة.
وَالثَّانِي: مَا يقل أجره يُسمى نَافِلَة.
وَالثَّالِث: مَا يتوسط فِي الْأجر بَين هذَيْن، فيسمى فَضِيلَة ورغيبة.
وَمَا واظب على فعله غير مظهر لَهُ، فَفِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: تَسْمِيَته سنة، نظرا إِلَى الْمُوَاظبَة.
وَالثَّانِي: تَسْمِيَة فَضِيلَة، نظرا إِلَى ترك إِظْهَاره.

(2/980)


وَهَذَا كركعتي الْفجْر) انْتهى.
قلت: رَكعَتَا الْفجْر يسميان سنة بِلَا نزاع، وهما من أَعلَى السّنَن لعظم أجرهما، وَقد قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رَكعَتَا الْفجْر خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا "، وهما آكِد السّنَن، فَذكر الْوَجْهَيْنِ فِي ذَلِك، كَونهَا سنة أَو فَضِيلَة، وَأَن الْفَضِيلَة أحط رُتْبَة من السّنة غير صَحِيح.
فَإِن الْأَصْحَاب نصوا على أَنَّهَا أفضل السّنَن الرَّوَاتِب.
{و} قَالَ {فِي " الْمُسْتَوْعب "} بعد أَن قَالَ: (قَالَ القَاضِي فِي الغسلات الثَّلَاث فِي الْوضُوء: الأولى: فَرِيضَة، وَالثَّانيَِة: فَضِيلَة، وَالثَّالِثَة: سنة) -: (إِذا قيل لَك: أَي مَوضِع تقدم فِيهِ الْفَضِيلَة على السّنة؟ فَقل: هُنَا) .

(2/981)


فَظَاهره: أَن {السّنة أَعلَى من الْفَضِيلَة} .
وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة وَالْبَغوِيّ، والخوارزمي: (السّنة: مَا واظب عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمُسْتَحب: مَا فعله مرّة أَو مرَّتَيْنِ. - وَألْحق بذلك بَعضهم: مَا أَمر بِهِ، وَلم ينْقل أَنه فعله والتطوع: مَا لم يرد فِيهِ بِخُصُوصِهِ نقل) .
ورده أَبُو الطّيب فِي " منهاجه ": (بِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حج مرّة وَفِي أَفعاله فِيهِ مَا هُوَ سنة، وَكَذَا لم يصل الاسْتِسْقَاء ويخطب إِلَّا

(2/982)


مرّة، وهما سنة) .
وَقَالَ الْحَلِيمِيّ: (السّنة مَا اسْتحبَّ فعله، وَكره تَركه، وَالْمُسْتَحب: مَا لم يكره تَركه) .
وَقيل: (النَّفْل والتطوع وَاحِد، وَهُوَ مَا سوى الْفَرْض وَالسّنة، وَالْمُسْتَحب: من أنواعهما) .
وَقيل: (السّنة: مَا فعله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمُسْتَحب: مَا أَمر بِهِ، سَوَاء فعله، أَو لَا، أَو فعله وَلم يداوم عَلَيْهِ) .
وَقيل: (السّنة: مَا ترتبت، كالراتبة مَعَ الْفَرِيضَة، وَالنَّفْل وَالنَّدْب: مَا زَاد على ذَلِك) .
وَقَالَت الْمَالِكِيَّة: (مَا أَمر الشَّرْع بِهِ وَبَالغ فِيهِ سنة، وَأول الْمَرَاتِب تطوع ونافلة، وَبَينهمَا فَضِيلَة ومرغب فِيهِ) .

(2/983)


فَائِدَة: قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: (أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو تَمام بِمَكَّة: أَنه سَأَلَ الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق بِبَغْدَاد عَن قَول الْفُقَهَاء: سنة وفضيلة وَنفل وهيئة، فَقَالَ: [هَذِه عامية] فِي الْفِقْه، وَلَا يُقَال إِلَّا فرض وَسنة لَا غير. - قَالَ -: وَأما أَنا فَسَأَلت أَبَا الْعَبَّاس الْجِرْجَانِيّ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: هَذِه ألقاب لَا أصل لَهَا، وَلَا نعرفها فِي الشَّرْع) . وَالله أعلم.

(2/984)


قَوْله: {وَهُوَ مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما} .
وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن عُلَمَاء الْأُصُول وَالْفُقَهَاء.
وَحكى ابْن الصّباغ فِي الْعدة: أَنه مَأْمُور حَقِيقَة عِنْد أَكثر أَصْحَابهم
أَبُو الطّيب عَن نَص الشَّافِعِي.
{وَعند أبي الْخطاب، والحلواني، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة}

(2/985)


- مِنْهُم: أَبُو حَامِد وَغَيره -: أَنه {مجَاز} .
{ [وَذكر] الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: (أَن المرغب فِيهِ من غير أَمر، هَل يُسمى طَاعَة وأمراً حَقِيقَة؟} فِيهِ أَقْوَال لنا، {ثَالِثهَا: طَاعَة} [لَا] مَأْمُورا بِهِ) انْتهى.
دَلِيل القَوْل الأول: دُخُوله فِي حد الْأَمر، وانقسام الْأَمر إِلَيْهِمَا، وَهُوَ مستدعى ومطلوب.
قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} [النَّحْل: 90] ، وَإِطْلَاق الْأَمر عَلَيْهِ فِي الْكتاب وَالسّنة، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة، وَلِأَنَّهُ طَاعَة لامتثال الْأَمر.

(2/986)


قَالَ ابْن عقيل: (لَا يجوز غَيره عِنْد أهل اللُّغَة) . رد: بِالْمَنْعِ. ثمَّ: للثَّواب عَلَيْهِ. رد: فَيكون مَأْمُورا بِهِ للثَّواب، كالواجب. رد: بِأَنَّهُ يَعْصِي بِتَرْكِهِ. رد: نعقل الْأَمر وَمُقْتَضَاهُ، وَإِن لم يتَضَمَّن ثَوابًا وعقاباً، وَبِأَن الثَّوَاب بعضه.
دَلِيل القَوْل الثَّانِي: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة " مُتَّفق عَلَيْهِ، ولعصى بِتَرْكِهِ.
رد: المُرَاد بهَا أَمر الْإِيجَاب، وَلِهَذَا قَيده بالمشقة، وَكَذَا خبر بَرِيرَة الْآتِي فِي أَن الْأَمر للْوُجُوب.

(2/987)


ثمَّ يُسمى عَاصِيا.
قَالَ ابْن عقيل: (هَذَا قِيَاس الْمَذْهَب، لقَوْل أَحْمد فِي تَارِك الْوتر: (رجل سوء) ، وَهُوَ مُقْتَضى اللُّغَة، لِأَن كل مَا أطَاع بِفِعْلِهِ عصى بِتَرْكِهِ) .
وَقَالَ: (يُقَال: خَالف أَمر الله: إِذا أهمله، أَو دوَام عَلَيْهِ) .
وَلِأَنَّهُ يَصح نفي الْأَمر عَنهُ.
رد: بِالْمَنْعِ.
وَقَالَ ابْن عقيل: (لابد من تَقْيِيد فِي نَفْيه، فَيُقَال: خَالف أَمر الله فِي النَّفْل، كإثباته، فَيُقَال: أَمر ندب) ، وَلِأَن الْأَمر حَقِيقَة للْإِيجَاب.
رد: بِأَن النّدب بعض الْوُجُوب، فَهُوَ كاستعمال الْعَام فِي بعضه، قَالَه فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بعد حِكَايَة الْخلاف -: (التَّحْقِيق فِي مَسْأَلَة النّدب مَعَ قَوْلنَا: الْأَمر الْمُطلق يُفِيد الْإِيجَاب أَن يُقَال: الْأَمر الْمُطلق لَا يكون إِلَّا إِيجَابا، وَأما الْمَنْدُوب إِلَيْهِ فَهُوَ مَأْمُور بِهِ أمرا مُقَيّدا لَا مُطلقًا، فَيدْخل فِي مُطلق الْأَمر لَا فِي الْأَمر الْمُطلق.
يبْقى أَن يُقَال: فَهَل يكون حَقِيقَة أَو مجَازًا؟

(2/988)


أجَاب أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: بِأَنَّهُ مشكك، كالوجود وَالْبَيَاض.
وَأجَاب القَاضِي: بِأَن النّدب بعض الْوُجُوب، فَهُوَ كدلالة الْعَام على بعضه، وَهُوَ عِنْده لَيْسَ بمجاز، إِنَّمَا الْمجَاز دلَالَته على غَيره) .
وَهَذَا مِنْهُ يَقْتَضِي: أَن الْأَمر إِذا أُرِيد بِهِ الْإِبَاحَة يكون مجَازًا، وَهُوَ خلاف مَا نقل عَنهُ، فَيكون لَهُ قَولَانِ [ثابتان] .
قَوْله: {فعلى الأول يكون للفور، قَالَه القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب} .
قَالَا: قِيَاسا على الْوَاجِب، لَكِن لَو لم يَفْعَله على الْفَوْر، مَاذَا يكون؟ يحْتَمل: مَا أَتَى بِهِ على وَجهه.
{ [و] قَالَ ابْن عقيل: تكراره [كالواجب] } .
يَعْنِي: كالأمر المُرَاد الْوُجُوب، فَعِنْدَ ابْن عقيل: أَن أَمر النّدب هَل يتَكَرَّر؟ قَالَ: حكمه حكم الْأَمر الَّذِي أُرِيد بِهِ الْوُجُوب، على مَا يَأْتِي فِي مسَائِل الْأَمر، وَيَأْتِي هُنَاكَ أَيْضا: أَن أَمر النّدب كالإيجاب عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَيَأْتِي الْخلاف فِيهِ.

(2/989)


قَوْله: {وَهُوَ تَكْلِيف} .
يَعْنِي: أَن الْمَنْدُوب تَكْلِيف، {قَالَه الْأُسْتَاذ} أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، {و} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني، وَابْن عقيل، والموفق} ابْن قدامَة، {والطوفي} ، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم.
إِذْ مَعْنَاهُ: طلب مَا فِيهِ كلفة، وَقد يكون أشق من الْوَاجِب، وَلَيْسَت الْمَشَقَّة منحصرة فِي الْمَمْنُوع عَن نقيضه حَتَّى يلْزم أَن يكون مِنْهُ.
{وَمنعه ابْن حمدَان} من أَصْحَابنَا { [وَأكْثر الْعلمَاء] } ، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَغَيره، فَلَيْسَ بتكليف، وَلَا يُكَلف بِهِ، فَإِن التَّكْلِيف يشْعر بتطويق الْمُخَاطب الكلفة من غير خيرة، وَالنَّدْب فِيهِ تَخْيِير.

(2/990)


قَوْله: {وَهِي لفظية} .
يَعْنِي: أَن الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَفْظِي، وَذَلِكَ مَبْنِيّ على تَفْسِير لفظ التَّكْلِيف، فَإِن أُرِيد بالتكليف: مَا يتَرَجَّح فعله على تَركه، فالمندوب تَكْلِيف، وَإِن أُرِيد بِهِ: أَنه مَطْلُوب طلبا يمْنَع النقيض، فَهُوَ لَيْسَ بتكليف.
قَوْله: {وَلَا يلْزم غير حج وَعمرَة بِالشُّرُوعِ، خلافًا لأبي حنيفَة، [و] مَالك} .
ذهب أَكثر الْعلمَاء: أَن غير الْحَج وَالْعمْرَة من التطوعات لَا يلْزم بِالشُّرُوعِ فِيهِ، بل هُوَ مُخَيّر فِيهِ بَين إِتْمَامه وقطعه، وَالْأَفْضَل إِتْمَامه بِلَا نزاع، لِلْخُرُوجِ من الْخلاف.
وَذَلِكَ " لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَنْوِي صَوْم التَّطَوُّع ثمَّ يفْطر "، رَوَاهُ مُسلم وَغَيره.

(2/991)


وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} [مُحَمَّد: 33] ، فَيحمل على التَّنْزِيه جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ، هَذَا إِن لم يُفَسر بُطْلَانهَا بِالرّدَّةِ، بِدَلِيل الْآيَة الَّتِي قبلهَا، أَو أَن المُرَاد: فَلَا تبطلوها بالرياء، نَقله ابْن عبد الْبر عَن أهل السّنة، وَنقل عَن الْمُعْتَزلَة تَفْسِيرهَا بِمَعْنى: لَا تبطلوها بالكبائر، لَكِن الظَّاهِر تَفْسِيرهَا بِمَا تقدم.
وَاحْتج الْمُخَالف: بِحَدِيث الْأَعرَابِي: هَل عَليّ غَيرهمَا؟ قَالَ: " لَا إِلَّا أَن تطوع "، أَي: فيلزمك التَّطَوُّع إِن تَطَوَّعت، وَإِن كَانَ تَطَوّعا فِي أَصله.
وَعِنْدنَا: أَن الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع، بِدَلِيل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أبطل تطوعه كَمَا سبق.

(2/992)


وَمِمَّا اسْتشْكل على أبي حنيفَة: تجويزه للمتنفل بعد أَن يشرع فِي الصَّلَاة قَائِما، الصَّلَاة قَاعِدا، فَلذَلِك حالفه صَاحِبَاه، فمنعا الْقعُود طرداً للقاعدة.
مَعَ أَنه نقل أَبُو نصر الْعِرَاقِيّ عَن أبي حنيفَة فِي كتاب الصَدَاق: (أَن لَهُ الْخُرُوج من صَوْم التَّطَوُّع، إِلَّا أَنه يجب الْقَضَاء) .
وَأما الْحَج وَالْعمْرَة فَيلْزم إِتْمَامهمَا فِي التَّطَوُّع لمن شرع فيهمَا.
وَفرق بَينهمَا وَبَين سَائِر التطوعات بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن نفلهما مسَاوٍ لفرضهما، نِيَّة، وَكَفَّارَة، وَغَيرهمَا، فَوَجَبَ أَن يتساويا فِي الْإِتْمَام واللزوم.
وَالثَّانِي: - وَهُوَ أَجود، وَبِه أجَاب الإِمَام الشَّافِعِي فِي " الْأُم " أَنه

(2/993)


يجب الْمُضِيّ فِي فَاسد التَّطَوُّع مِنْهُمَا كواجبه، فإتمام صَحِيح التَّطَوُّع أولى، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (لِأَن نفل [الْحَج] كفرضه فِي الْكَفَّارَة، وَتَقْرِير الْمهْر بالخلوة مَعَه، بِخِلَاف الصَّوْم) .
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (لانعقاد الْإِحْرَام لَازِما) .
وَقَالَ فِي " الْمُغنِي " و " الشَّرْح ": (لتأكد إحرامهما، وَلَا يخرج مِنْهُمَا بإفسادهما) .
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (على أَن هَذَا السُّؤَال قد أفسد من أَصله، بِأَن الْحَج لَا يُمكن وُقُوعه تَطَوّعا، [فَإِنَّهُ إِقَامَة شعار الْبَيْت، وَمن فروض] الكفايات، وَهِي تلْزم بِالشُّرُوعِ على الْأَصَح) انْتهى.
وَتبع فِي ذَلِك الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ".
قلت: وَفِيه نظر، وَذَلِكَ أَنه لَو حج حجَّة الْإِسْلَام مَعَ من حج حجَّة ثَانِيَة: هَل يُقَال: إِن الَّذِي حج ثَانِيًا مَعَ الَّذِي وَجب عَلَيْهِ حجَّة الْإِسْلَام، يكون حجَّة من فروض الكفايات وَالْحَالة هَذِه؟ فِيهِ نظر ظَاهر.

(2/994)


وَقد قَالَ أَصْحَابنَا: (إِن الْحَج فرض كِفَايَة فِي كل عَام) ، ومرادهم - وَالله أعلم -: إِذا خلا عَام من أَن يُوجد من وَجب عَلَيْهِ حجَّة الْإِسْلَام، فَإِنَّهُ يلْزم الْحَج وَيكون فرض كِفَايَة، لَا أَن كل من حج ثَانِيًا يكون حجَّة ذَلِك من فروض الْكِفَايَة، هَذَا مَا ظهر.
وينتفض أَيْضا بِحَجّ الْمُرَاهق، فَإِن حجه نفل، لِأَنَّهُ غير مُخَاطب، إِذْ الْخطاب لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة بِوُجُوب إتْمَام الصَّوْم، وَلُزُوم الْقَضَاء إِن أفطر، وفَاقا لأبي حنيفَة، وَمَالك، كَمَا تقدم.
وَعَن أَحْمد تلْزم صَلَاة التَّطَوُّع بِخِلَاف الصَّوْم، وَمَال إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاق الْجوزجَاني، وَقَالَ: (الصَّلَاة ذَات إِحْرَام وإحلال كَالْحَجِّ) .

(2/995)


قَالَ الْمجد: (وَرِوَايَة إتْمَام الصَّوْم عكس هَذِه الرِّوَايَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عبَادَة تجب بإفسادها الْكَفَّارَة الْعُظْمَى كَالْحَجِّ) .
وَالْمذهب التَّسْوِيَة، وَقيل: الِاعْتِكَاف كَالصَّوْمِ.
وَذكر القَاضِي وَجَمَاعَة من الْأَصْحَاب: (أَن الطّواف كَالصَّلَاةِ فِي الْأَحْكَام، إِلَّا مَا خصّه الدَّلِيل) ، فَظَاهره: أَنه كَالصَّلَاةِ هُنَا، وفَاقا لمَالِك.
وَلَا تلْزم الصَّدَقَة، وَالْقِرَاءَة، والأذكار، بِالشُّرُوعِ، وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة.
قَوْله: {فرع: الزَّائِد على قدر [الْوَاجِب] فِي قيام وَنَحْوه} - كركوع وَسُجُود {نفل عِنْد الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم} .

(2/996)


مِنْهُم: أَكثر أَصْحَابنَا، لجَوَاز تَركه مُطلقًا، وَهَذَا شَأْن النَّفْل.
قَالَ ابْن برهَان: (على هَذَا أجمع الْفُقَهَاء والمتكلمون) ، وَلم يحك فِيهِ خلافًا إِلَّا عَن الْكَرْخِي.
{وواجب عِنْد بعض الشَّافِعِيَّة، والكرخي} ، لتناول الْأَمر مِنْهُمَا. قَالَ القَاضِي: (وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد) ، وَأَخذه من نَصه على أَن الإِمَام إِذا أَطَالَ الرُّكُوع فأدركه فِيهِ مَسْبُوق أدْرك الرَّكْعَة، وَلَو لم يكن الْكل وَاجِبا لما صَحَّ لَهُ ذَلِك، لِأَنَّهُ يكون اقْتِدَاء مفترض بمنتفل.
ورده ابْن عقيل وَأَبُو الْخطاب بِمَا يَأْتِي فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي بعد هَذِه.

(2/997)


{ [وللقاضي من أَصْحَابنَا كالقول الأول وَالثَّانِي] } .
قَوْله: { [وَعند الثَّلَاثَة: إِن أدْرك الرُّكُوع أدْركهَا] } .
أَي: ذهبت الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: أَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد: أَنه لَو أدْرك الإِمَام رَاكِعا و [لَو] بعد الطُّمَأْنِينَة مِنْهُ أدْرك الرَّكْعَة.
قَالُوا: لِأَن الِاتِّبَاع يسْقط الْوَاجِب: كمسبوق، وَصَلَاة امْرَأَة الْجُمُعَة، وَيُوجب الِاتِّبَاع مَا كَانَ غير وَاجِب: كمسافر ائتم بمقيم، فَيلْزمهُ إتْمَام الصَّلَاة.
قَالَ ابْن عقيل: (نَص أَحْمد، - يَعْنِي: [الَّذِي] تقدم فِي الَّتِي قبلهَا لَا يدل عِنْدِي على هَذَا الْمَذْهَب، بل يُعْطي أحد أَمريْن: إِمَّا جَوَاز ائتمام المفترض بالمتنفل، وَيحْتَمل أَن يجرى مجْرى الْوَاجِب فِي بَاب الِاتِّبَاع خَاصَّة، إِذا الِاتِّبَاع قد يسْقط الْوَاجِب، كَمَا فِي الْمَسْبُوق، ومصلي الْجُمُعَة من امْرَأَة، وَعبد، ومسافر، وَقد يُوجب مَا لَيْسَ بِوَاجِب: كالمسافر الْمُؤْتَم بمقيم.

(2/998)


وَقِيَاس الزِّيَادَة الْمُنْفَصِلَة، وَهُوَ فعل الْمثل على الزِّيَادَة الْمُتَّصِلَة) انْتهى.
{ [و] } قَالَ الإِمَام { [مَالك] } : لَا يدْرك الرُّكُوع إِلَّا إِن أدْرك { [مَعَه الطُّمَأْنِينَة] } .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (من أدْرك الإِمَام رَاكِعا فَرَكَعَ مَعَه أدْرك الرَّكْعَة، وفَاقا لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ.
وَقيل: إِن أدْرك مَعَه الطُّمَأْنِينَة وفَاقا لمَالِك) انْتهى.
قَوْله: {فَائِدَة: أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة: الْعِبَادَة [الطَّاعَة] ، وَالْحَنَفِيَّة: بِشَرْط النِّيَّة} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي آخر " المسودة ": (كل مَا كَانَ طَاعَة ومأموراً بِهِ فَهُوَ عبَادَة عِنْد أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَعند الْحَنَفِيَّة: الْعِبَادَة مَا كَانَ من شَرط النِّيَّة) انْتهى.

(2/999)


فَدخل فِي كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم: الْأَفْعَال والتروك: كَتَرْكِ الْمعاصِي، [والنجاسة] ، وَالزِّنَا، والربا، وكل محرم، وَالْأَفْعَال: كَالْوضُوءِ، وَالْغسْل، وَالزَّكَاة، وَقَضَاء الدّين، وَغَيرهَا.
وَيدخل فِيهِ: رد الغصوب، والعواري، والودائع، وَالنَّفقَة الْوَاجِبَة، وَالدّين، وَنَحْوهَا، مَعَ الْغَفْلَة عَن النِّيَّة.
وَمِنْهَا: الْإِسْلَام على قَول يَأْتِي، وَتقدم.
وَلما اشْترطت الْحَنَفِيَّة النِّيَّة، لم يدْخل فِي حَدهمْ التروك كلهَا، وَلَيْسَ الْوضُوء عِنْدهم بِعبَادة، لصِحَّته عِنْدهم بِلَا نِيَّة.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة " فِي أوائلها: (قَالَ القَاضِي: الْعِبَادَة كل مَا كَانَ طَاعَة لله، أَو قربَة إِلَيْهِ، أَو امتثالاً لأَمره، وَلَا فرق بَين أَن يكون فعلا أَو تركا، فالفعل: كَالْوضُوءِ، وَالْغسْل، وَالزَّكَاة، وَقَضَاء الدّين، وَالتّرْك: كَتَرْكِ الزِّنَا والربا، وَترك أكل الْمُحرمَات وشربها.
فَأَما التّرْك؛ فَلَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة بِمَنْزِلَة رد الغصوب، وَإِطْلَاق الْمحرم الصَّيْد، وَغسل الطّيب عَن بدنه وثوبه؛ لِأَن ذَلِك كُله طَريقَة التّرْك، فَإِن الْعِبَادَة فِي تجنبه، فَإِذا أَصَابَهُ، لم يُمكن تَركه إِلَّا بِالْفِعْلِ، كَانَ طَرِيقه التّرْك، فيخالف الْوضُوء، لِأَنَّهُ فعل مُجَرّد لَيْسَ فِيهِ ترك.

(2/1000)


وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة: لَيْسَ بِعبَادة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَرطهَا النِّيَّة.
[وأفسده] وَقَالَ: سُقُوط النِّيَّة فِي صِحَة الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ، لَا يدل على أَنه لَيْسَ بِعبَادة، كَمَا لَا يدل على أَنه لَيْسَ بِطَاعَة وقربة) انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (مَا لم يعلم إِلَّا من الشَّارِع فَهُوَ عبَادَة: كَصَلَاة، وَغَيرهَا.
وَهُوَ معنى قَول الْفَخر إِسْمَاعِيل، وَأبي الْبَقَاء، وَغَيرهمَا: (الْعِبَادَة مَا أَمر بِهِ الشَّارِع من غير اطراد عرفي و [لَا اقْتِضَاء] عَقْلِي) .
قيل لأبي الْبَقَاء: الْإِسْلَام وَالنِّيَّة عبادتان، وَلَا يفتقران إِلَى النِّيَّة؟ فَقَالَ: (الْإِسْلَام لَيْسَ بِعبَادة لصدوره من الْكَافِر، وَلَيْسَ من أَهلهَا، سلمنَا، لَكِن للضَّرُورَة، لِأَنَّهُ لَا يصدر إِلَّا من كَافِر.
وَأما النِّيَّة فلقطع التسلسل) .
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْخلاف ": (مَا كَانَ طَاعَة لله تَعَالَى فعبادة) ، - وَتقدم -. ثمَّ قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر بعض أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة: أَنه لَيْسَ من شَرط الْعِبَادَة النِّيَّة، خلافًا للحنفية، وَنِيَّة الصَّلَاة تَضَمَّنت الستْرَة واستقبال الْقبْلَة لوجودهما فِيهَا حَقِيقَة، وَلِهَذَا يَحْنَث بالاستدامة) انْتهى.

(2/1001)


فَهَذَا الَّذِي ذكره عَن بعض الْأَصْحَاب، هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن، وَهُوَ الَّذِي ذكره الْمجد وحفيده.
لَكِن يبْقى نِسْبَة ذَلِك إِلَى بَقِيَّة الْمذَاهب، يَنْبَغِي أَن يجْرِي من أَرْبَابهَا، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَالطَّاعَة: مُوَافقَة الْأَمر، وَالْمَعْصِيَة: مُخَالفَته، عِنْد الْفُقَهَاء، وَعند الْمُعْتَزلَة: مُخَالفَة الْإِرَادَة} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي آخر " المسودة ": (الطَّاعَة: مُوَافقَة الْأَمر عندنَا، وَبِه قَالَ الْفُقَهَاء، والأشعرية، وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: [هِيَ] مُوَافقَة الْإِرَادَة) .
وَقَالَ فِي أول " المسودة ": (فصل: قَالَ القَاضِي فِي الْحُدُود، وَفِي مَسْأَلَة الْمَأْمُور بِهِ أَمر ندب: [إِن كل طَاعَة فَهُوَ مَأْمُور

(2/1002)


بِهِ] ، الطَّاعَة: مُوَافقَة الْأَمر، وَالْمَعْصِيَة: مُخَالفَة الْأَمر.
وَقَالَ على ظهر الْجُزْء: حد الْأَمر: مَا كَانَ الْمَأْمُور بِفِعْلِهِ ممتثلاً، وَلَيْسَ حَده: مَا كَانَ طَاعَة، لِأَن الْفِعْل يكون طَاعَة بالترغيب فِي الْفِعْل وَإِن لم يَأْمر بِهِ، كَقَوْلِه: من صلى غفرت لَهُ، وَمن صَامَ فقد أَطَاعَنِي، وَلَا يكون ذَلِك أمرا) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْوَاضِح ": (الطَّاعَة: الْمُوَافقَة لِلْأَمْرِ على مَذْهَب أهل السّنة، والموافقة للإرادة على مَذْهَب الْمُعْتَزلَة) .

(2/1003)