التحبير شرح التحرير في أصول الفقه

 (قَوْله: {فصل} )

{الْمَكْرُوه: ضد الْمَنْدُوب} .
الْمَكْرُوه لُغَة: من الكريهة والشدة فِي الكرب، وأصل الْكَرَاهَة لُغَة: خلاف الْإِرَادَة.
فَمَعْنَى كَرَاهَة الشَّرْع لشَيْء: إِمَّا عدم إِرَادَته، أَو إِرَادَة ضِدّه، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ} [التَّوْبَة: 46] .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْمَكْرُوه لُغَة: ضد المحبوب، أخذا من الْكَرَاهَة، وَقيل: من الكريهة وَهِي الشدَّة فِي الْحَرْب) انْتهى وكرهته أكرهه من بَاب تَعب كرها، ضد أحببته، فَهُوَ مَكْرُوه.
والكره، بِالْفَتْح، الْمَشَقَّة، وبالضم: الْقَهْر.
وَقيل: بِالْفَتْح: الْإِكْرَاه، وبالضم: الْمَشَقَّة.

(3/1004)


وأكرهته على الْأَمر: حَملته عَلَيْهِ قهرا، يُقَال: فعلته كرها، أَي: إِكْرَاها، وَعَلِيهِ قَوْله تَعَالَى: {طَوْعًا أَو كرها} [التَّوْبَة: 53، وفصلت: 11] ، فقابل بَين الضدين.
قَالَ الزّجاج: (كل مَا فِي الْقُرْآن من الكره - بِالضَّمِّ - فالفتح فِيهِ جَائِز، إِلَّا قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة: {كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم} [الْبَقَرَة: 216] .
والكريهة: الشدَّة فِي الْحَرْب) ، ذكر ذَلِك فِي " الْبَدْر الْمُنِير ".
قَوْله: {وَهُوَ: مَا مدح تَاركه، وَلم يذم فَاعله} .
فَخرج ب (مَا مدح) : الْمُبَاح؛ فَإِنَّهُ لَا مدح فِيهِ وَلَا ذمّ.
وَخرج بقوله: (تَاركه) : الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب؛ فَإِن فاعلهما يمدح، لَا تاركهما.
وَخرج بقوله: (وَلم يذم فَاعله) : الْحَرَام، فَإِنَّهُ يذم فَاعله، لِأَنَّهُ وَإِن شَارك الْمَكْرُوه فِي الْمَدْح بِالتّرْكِ، فَإِنَّهُ يُفَارِقهُ فِي ذمّ فَاعله.
قَوْله: {وَهل يُثَاب بِفِعْلِهِ؟ ثَالِثهَا: لَا؛ إِن كره لذاته} .
فِي هَذِه الْمَسْأَلَة؛ أَعنِي: فِي حُصُول الثَّوَاب بِفعل الْمَكْرُوه، وَعدم ثَوَابه أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه لَا يُثَاب عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء.

(3/1005)


قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (قَالُوا فِي الْأُصُول: الْمَكْرُوه لَا ثَوَاب فِي فعله، قَالَ: وَقد يكون المُرَاد مِنْهُم: مَا كره بِالذَّاتِ لَا بِالْعرضِ، قَالَ: وَقد يحمل قَوْلهم على ظَاهره، وَلِهَذَا لما احْتج من كره صَلَاة الْجِنَازَة فِي الْمَسْجِد بالْخبر الضَّعِيف الَّذِي رَوَاهُ أَحْمد وَغَيره: " من صلى على جَنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَيْسَ لَهُ من الْأجر شَيْء "، لم يقل أحد بِالْأَجْرِ مَعَ الْكَرَاهَة، لَا اعتقادا وَلَا بحثا.
- وَقَالَ أَيْضا -: وَقد يتَوَجَّه من صِحَة نفل من صلى فِي غصب إثابته

(3/1006)


عَلَيْهِ، فيثاب على فَرْضه من الْوَجْه الَّذِي صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَة فِي صِحَة نفله، وَلَا ثَوَاب لبراءة ذمَّته، وَيلْزم مِنْهُ: يُثَاب على كل عبَادَة كرهت) انْتهى.
وَهَذِه الْأَقْوَال الَّتِي ذكرتها فِي الأَصْل، أَخَذتهَا من كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " فِي بَاب ستر الْعَوْرَة، وَلم أرها فِي غَيره.
وَمحل ذَلِك إِذا قُلْنَا: إِنَّه لَا يُثَاب على فعل عبَادَة على وَجه محرم كَمَا تقدم، وَأما إِذا قُلْنَا: إِنَّه يُثَاب عَلَيْهَا، فيثاب هُنَا قطعا.
قَوْله: {وَفِي كَونه مَنْهِيّا عَنهُ حَقِيقَة، وتكليفا، كالمندوب} .
إِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة - وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا تقدم - فالمكروه مَنْهِيّ عَنهُ حَقِيقَة على الصَّحِيح، وَإِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ مجَازًا، فالمكروه مَنْهِيّ مجَازًا.
وَإِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب تَكْلِيف - وَهُوَ الْأَصَح دَلِيلا كَمَا تقدم - فالمكروه تَكْلِيف على الْأَصَح، وَإِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب غير تَكْلِيف - وَعَلِيهِ الْأَكْثَر كَمَا تقدم - فالمكروه غير تَكْلِيف.
فَهُوَ على وزانه سَوَاء، لِأَنَّهُ مُقَابِله، ذكره الْعلمَاء.
قَوْله: {وَيُطلق على الْحَرَام} .

(3/1007)


يُطلق الْمَكْرُوه وَيُرَاد بِهِ الْحَرَام، وَهُوَ كثير فِي كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْمُتَقَدِّمين.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (أكره الْمُتْعَة) ، (وَالصَّلَاة فِي الْمَقَابِر) ، وهما محرمان.
لَكِن لَو ورد عَن الإِمَام أَحْمد الْكَرَاهَة فِي شَيْء، من غير أَن يدل دَلِيل من خَارج على التَّحْرِيم، وَلَا على التَّنْزِيه، فللأصحاب فِيهَا وَجْهَان، هَل المُرَاد التَّحْرِيم أَو التَّنْزِيه؟
أَحدهمَا: المُرَاد: التَّحْرِيم، اخْتَارَهُ الْخلال، وَصَاحبه أَبُو بكر عبد الْعَزِيز، وَابْن حَامِد، وَغَيرهم، بِدَلِيل مَا تقدم.
وَقد قَالَ الْخرقِيّ: (وَيكرهُ أَن يتَوَضَّأ فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة) ، وَهُوَ محرم، لَكِن قَالُوا عَن كَلَامه، إِنَّمَا كَانَ محرما بِدَلِيل، وَهُوَ قَوْله:

(3/1008)


(والمتخذ آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة عَاص، وَعَلِيهِ الزَّكَاة) ، فَهَذِهِ قرينَة تدل على التَّحْرِيم.
وَالْوَجْه الثَّانِي: المُرَاد: التَّنْزِيه، اخْتَارَهُ جمَاعَة من الْأَصْحَاب.
وَفِيه وَجه ثَالِث: يرجع إِلَى الْقَرَائِن، وَهُوَ أظهر الْأَوْجه.
وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد: (أكره النفخ فِي الطَّعَام، وإدمان اللَّحْم، وَالْخبْز الْكِبَار) ، وَمرَاده: كَرَاهَة التَّنْزِيه هُنَا، وَالله أعلم.
وَقد ورد الْمَكْرُوه بِمَعْنى الْحَرَام فِي الْقُرْآن، فِي قَوْله تَعَالَى: {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} [الْإِسْرَاء: 38] .
وَقد قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: (أكره آنِية العاج) ، وَقَالَ فِي السّلم: (أكره اشْتِرَاط الأعجف والمشوي والمطبوخ) .
قَوْله: {وعَلى ترك الأولى} .
يُطلق الْمَكْرُوه على ترك الأولى، {وَهُوَ: ترك مَا فعله رَاجِح، [أَو: فعل مَا تَركه رَاجِح، وَلَو لم يكن مَنْهِيّا عَنهُ، كَتَرْكِ المندوبات] } .

(3/1009)


قَالَ الْعَسْقَلَانِي - شَارِح الطوفي - فِي ترك الأولى: (مَا مصْلحَته راجحة، وَإِن لم يكن مَنْهِيّا عَنهُ، كَتَرْكِ المندوبات) .
وَمِنْه قَول الْخرقِيّ: (وَمن صلى بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة كرهنا لَهُ ذَلِك، وَلَا يُعِيد) .
أَي: الأولى أَن يُصَلِّي بِأَذَان وَإِقَامَة أَو بِأَحَدِهِمَا، وَإِن أخل بهما ترك الأولى.
فَترك الأولى مشارك للمكروه فِي حَده، إِلَّا أَنه مَنْهِيّ غير مَقْصُود، وَالْمَنْع من الْمَكْرُوه أقوى من الْمَنْع من خلاف الأولى.
قَالَ بَعضهم: (إِنَّمَا يُقَال: ترك الأولى مَكْرُوه، إِذا كَانَ منضبطا، كالضحى وَقيام اللَّيْل، وَمَا لَا تَحْدِيد لَهُ وَلَا ضَابِط من المندوبات لَا يُسمى تَركه مَكْرُوها، وَإِلَّا لَكَانَ الْإِنْسَان فِي كل وَقت ملابسا للمكروهات الْكَثِيرَة، من حَيْثُ أَنه لم يقم ليُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، أَو يعود مَرِيضا، وَنَحْوه) .
وَقَالَ بَعضهم: (يُطلق - أَيْضا - الْمَكْرُوه على مَا وَقعت الشُّبْهَة فِي تَحْرِيمه، كلحم السَّبع: ويسير النَّبِيذ، وَنَحْو ذَلِك من الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِي تَحْرِيمهَا) ، وَذكره الْغَزالِيّ، والآمدي.

(3/1010)


قَوْله: {وَلنَا وَجه: أَنه حرَام} .
ذكره ابْن حمدَان فِي " مقنعه " وَغَيره.
{ [وَهُوَ مَذْهَب مُحَمَّد] بن الْحسن} .
يَعْنِي: أَنه مرادف لِلْحَرَامِ، فَلَا يُطلق على غَيره إِلَّا بِقَرِينَة فِيمَا يظْهر.
{وَعَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف: هُوَ إِلَى الْحَرَام أقرب} .
لَا شكّ أَن الْمَكْرُوه وَاسِطَة بَين الْمُبَاح وَالْحرَام، فَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف قَالَا: هُوَ إِلَى الْحَرَام أقرب مِنْهُ إِلَى الْمُبَاح.
وَرَأَيْت الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " قَالَ: (النَّقْل عَن مُحَمَّد بن الْحسن: أَن كل مَكْرُوه حرَام، وَعَن صَاحِبيهِ: أَن الْمَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه إِلَى الْحل أقرب) انْتهى.
فَهَذَا النَّقْل عَنْهُمَا مُخَالف للْأولِ عَنْهُمَا، وَقد يكون لَهما قَولَانِ، فَليُحرر من أَصْحَابهم.
قَوْله: {وَهُوَ فِي عرف الْمُتَأَخِّرين للتنزيه} .
يَعْنِي: أَن الْمُتَأَخِّرين اصْطَلحُوا على أَنهم إِذا أطْلقُوا الْكَرَاهَة فمرادهم التَّنْزِيه، لَا التَّحْرِيم، وَإِن كَانَ عِنْدهم لَا يمْتَنع أَن يُطلق على الْحَرَام، لَكِن

(3/1011)


قد جرت عَادَتهم وعرفهم أَنهم إِذا أَطْلقُوهُ أَرَادوا التَّنْزِيه، وَهَذَا مصطلح لَا مشاحة فِيهِ.
فَائِدَة: اعْلَم أَن فِي إِطْلَاق الْكَرَاهَة على هَذِه الْأَرْبَعَة خلافًا، فِي أَنه حَقِيقَة فِي التَّنْزِيه، مجَاز فِي غَيره، أَو مُشْتَرك فِيهِ، قَولَانِ للْعُلَمَاء.
وَفِي " الْمُسْتَصْفى ": إِطْلَاق اشْتِرَاك بَين الْأَرْبَعَة، ونازعه بَعضهم.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَيُطلق فِي الشَّرْع بالاشتراك، على الْحَرَام، وعَلى ترك الأولى، وعَلى كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَقد يُرَاد مَا فِيهِ شُبْهَة وَتردد) انْتهى.
قَوْله: {وَيُقَال لفَاعِله: مُخَالف، وَغير ممتثل، ومسيء، نصا} .
مَعَ أَنه لَا يذم فَاعله، وَلَا يَأْثَم على الْأَصَح.
قَالَ الإِمَام أَحْمد - فِيمَن زَاد على التَّشَهُّد -: (أَسَاءَ) .
وَقَالَ ابْن عقيل - فِيمَن أَمر بِحَجّ أَو عمْرَة فِي شهر فَفعله فِي غَيره -: (أَسَاءَ لمُخَالفَته) .

(3/1012)


وَذكر غَيره فِي مَأْمُوم وَافق إِمَامًا فِي أَفعاله -: (أَسَاءَ) .
{ [وَظَاهر كَلَام بَعضهم] : ( [تخْتَص الْإِسَاءَة بالحرام] ) } .
فَلَا يُقَال: (أَسَاءَ) ، إِلَّا لفعل محرم.
{و [ذكر] القَاضِي، وَابْن عقيل: يَأْثَم بترك السّنَن أَكثر عمره) } ، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (من رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني) مُتَّفق عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهم أَن يَعْتَقِدهُ غير سنة.
{واحتجا بقول أَحْمد - فِيمَن ترك الْوتر -: (رجل سوء) } ، مَعَ أَنه سنة، وَأخذ بَعضهم من هَذَا وُجُوبه عِنْده.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (ذمه، مَعَ قَوْله: الْوتر سنة) .

(3/1013)


وَنقل أَبُو طَالب: (الْوتر سنة، سنه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَمن ترك سنة من سنَنه فَرجل سوء) انْتهى.
وَالَّذِي يظْهر: أَن إِطْلَاق الإِمَام أَحْمد أَنه رجل سوء، إِنَّمَا مُرَاده من اعْتقد أَنه غير سنة، وَتَركه لذَلِك، فَيبقى كَأَنَّهُ اعْتقد السّنة الَّتِي سنّهَا الرَّسُول غير سنة، فَهُوَ مُخَالف للرسول، ومعاند لما سنه.
أَو أَنه تَركه بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَركه لَهُ كَذَلِك، يدل على أَن فِي قلبه مَا لَا يُريدهُ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَوْله: {فَائِدَة: الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: مُطلق الْأَمر لَا يتَنَاوَل الْمَكْرُوه، وَخَالف أَبُو بكر الرَّازِيّ} الْحَنَفِيّ.

(3/1014)


قَالَ أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي - من أَصْحَابنَا -: (هُوَ قَول بعض أَصْحَابنَا)
وَنَقله السَّمْعَانِيّ وَغَيره عَن الْحَنَفِيَّة.
استدلوا للْأولِ: بِأَن الْمَكْرُوه مَطْلُوب التّرْك، والمأمور مَطْلُوب الْفِعْل، فيتنافيان.
وَلَا يَصح الِاسْتِدْلَال لصِحَّة طواف الْمُحدث بقوله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} [الْحَج: 29] ، وَلَا لعدم التَّرْتِيب والموالاة بقوله تَعَالَى فِي آيَة الْوضُوء: {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [الْمَائِدَة: 6] .
قَالَ ابْن عقيل: (وَكَذَا وَطْء الزَّوْج الثَّانِي فِي حيض لَا يحلهَا للْأولِ) .
(ومرادهم مَا ذَكرُوهُ فِي الْمَسْأَلَة [من] الصّفة الْمَشْرُوطَة) ، قَالَه ابْن مُفْلِح.
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: (تظهر فَائِدَة الْخلاف فِي قَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} [الْحَج: 29] ، فعندنا لَا يتَنَاوَل الطّواف بِغَيْر

(3/1015)


طَهَارَة، وَلَا منكوسا، وَعِنْدهم يتَنَاوَلهُ، فَإِنَّهُم وَإِن اعتقدوا كَرَاهَته قَالُوا فِيهِ: يجزيء لدُخُوله تَحت الْأَمر، وَعِنْدنَا لَا يدْخل، لِأَنَّهُ لَا يجوز أصلا، فَلَا طواف بِدُونِ شَرطه، وَهُوَ الطَّهَارَة، ووقوعه على الْهَيْئَة الْمَخْصُوصَة.
- قَالَ -: وَحجَّتنَا: أَن الْأَمر للْوُجُوب حَقِيقَة، وللندب وَالْإِبَاحَة مجَازًا، وَلَيْسَ الْمَكْرُوه من الثَّلَاثَة) انْتهى.
تَنْبِيه: لم يذكر ابْن الْحَاجِب هَذِه الْمَسْأَلَة، بل ذكر مَسْأَلَة: يَسْتَحِيل كَون الشَّيْء وَاجِبا حَرَامًا من جِهَة وَاحِدَة.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (هَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي الْمَتْن: الْفِعْل إِمَّا مَطْلُوب الإيجاد أَو التّرْك، فَأَما أَن يكون مطلوبهما مَعًا، فَفِيهِ تَفْصِيل.
فَإِن كَانَ من جِهَة وَاحِدَة فممتنع؛ لِأَنَّهُ جمع بَين الضدين، فَلذَلِك صدر ابْن الْحَاجِب كَلَامه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بقوله: (يَسْتَحِيل كَون الشَّيْء وَاجِبا حَرَامًا من جِهَة وَاحِدَة، إِلَّا عِنْد من يجوز تَكْلِيف الْمحَال) .
وَأما ابْن السَّمْعَانِيّ فَعبر عَن ذَلِك بقوله: (الْأَمر الْمُطلق لَا يتَنَاوَلهُ الْمَكْرُوه، وَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى أَنه يتَنَاوَلهُ) ، وَذكر مَا تقدم عَنهُ -.

(3/1016)


قَالَ: (وإطلاقه الْمَكْرُوه شَامِل للمكروه تَحْرِيمًا وتنزيها، لِأَن النَّهْي اقْتضى تَركه) .
فَجعل الْبرمَاوِيّ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدَة - فِيمَا يظْهر -، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن الْحَاجِب، وَنحن جعلناهما مَسْأَلَتَيْنِ، تبعا لِابْنِ مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَكَذَلِكَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع ".
لَكِن قَالَ الكوراني - شَارِحه، لما قَالَ فِيهِ: (مُطلق الْأَمر لَا يتَنَاوَل الْمَكْرُوه خلافًا للحنفية) -: (التَّعْبِير عَن هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَا عبر بِهِ الشَّيْخ ابْن الْحَاجِب هُوَ اللَّائِق، إِذْ قَالَ: (الْمَكْرُوه مَنْهِيّ عَنهُ، غير مُكَلّف بِهِ) .
وَإِنَّمَا كَانَ لائقا إِذا الْمنْهِي عَنهُ كَيفَ يكون مَأْمُورا بِهِ؟ إِذْ الْمَكْرُوه يمدح تَاركه، فَلَا يتَصَوَّر الْأَمر بِهِ شرعا.
وَعبارَة المُصَنّف قَاصِرَة عَن هَذَا المرام، إِذْ عدم التَّنَاوُل يشْعر بصلاح الْمحل وَلَكِن لم يَقع فِي الْخَارِج، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل عدم التَّنَاوُل لعدم قابلية الْمحل بعد تعلق الْكَرَاهَة بِهِ.
وَقَوله: (خلافًا للحنفية) ، صَرِيح فِي أَن الْحَنَفِيَّة قَائِلُونَ بِأَن الْأَمر يتَنَاوَل الْمَكْرُوه، وَهَذَا أَمر لَا يعقل، لِأَن الْمُبَاح عِنْدهم غير مَأْمُور

(3/1017)


بِهِ، مَعَ [كَون] طَرفَيْهِ على حد الْجَوَاز، فَكيف يتَصَوَّر أَن يكون الْمَكْرُوه من جزئيات الْمَأْمُور بِهِ فِي شَيْء من الصُّور، وكتبهم أصولا وفروعا مصرحة بِأَن الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فَاسِدَة، حَتَّى الَّتِي لَهَا سَبَب، مُطلقًا) انْتهى.

(3/1018)


(قَوْله: {فصل} )

{الْمُبَاح لُغَة: الْمُعْلن والمأذون} .
وَالْإِبَاحَة مَأْخُوذَة من مَادَّة (الاتساع) ، وَمِنْه: باحة الدَّار، أَي: ساحتها.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْمُبَاح لُغَة: المعن والمأذون، أخذا من الْإِبَاحَة، وَهِي الْإِظْهَار والإعلان، وَمِنْه: باح بسره) انْتهى.
وَمِنْه: أبحت لَهُ الشَّيْء، أَي: [أطلقهُ] لَهُ.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (هُوَ مُشْتَقّ من الْإِبَاحَة، وَهِي: الْإِظْهَار، وَقيل: من باحة الدَّار، وَهِي: ساحتها، وَفِيه معنى السعَة وَانْتِفَاء العائق) انْتهى.

(3/1019)


وَفِي " الْقَامُوس ": (أبحتك الشَّيْء: أحللته لَك، وباح: ظهر بسره، كأباحه) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (باح الشَّيْء بوحا - من بَاب قَالَ -: ظهر، وَيَتَعَدَّى بالحرف فَيُقَال: باح بِهِ صَاحبه، وبالهمزة - أَيْضا - فَيُقَال: أَبَاحَهُ، وأباح الرجل مَاله: أذن فِي الْأَخْذ وَالتّرْك، وَجعله مُطلق الطَّرفَيْنِ، واستباحه النَّاس: أقدموا عَلَيْهِ) انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا: مَا خلا من مدح [وذم] لذاته} .
فقولنا: (مَا خلا من مدح وذم) ، أخرج بِهِ الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَالْحرَام وَالْمَكْرُوه، وخروجها بذلك وَاضح، لِأَن كلا من الْأَرْبَعَة لَا يَخْلُو من مدح أَو ذمّ، إِمَّا فِي الْفِعْل، وَإِمَّا فِي التّرْك.
وَلَا يبطل طرد [خِصَال] الْكَفَّارَة، وَلَا الصَّلَاة أول الْوَقْت، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْء من الْخِصَال على التَّعْيِين، وَلَا من الْأَوْقَات وَاجِبا.
لَكِن لَا بُد فِيهِ من الْإِذْن، لِأَنَّهُ مُتَعَلق الْإِبَاحَة، فَيخرج حكم الْأَشْيَاء قبل وجود الشَّرْع، وَفعل غير الْمُكَلف، وَلذَلِك قُلْنَا: { [وَلَيْسَ مِنْهُ فعل غير الْمُكَلف، قَالَه القَاضِي وَغَيره] } ، فَإِنَّهُ

(3/1020)


قَالَ: (الْمُبَاح هُوَ كل فعل مَأْذُون فِيهِ لفَاعِله، لَا ثَوَاب لَهُ على فعله، وَلَا عِقَاب فِي تَركه) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (فِيهِ احْتِرَاز من فعل الصّبيان والمجانين والبهائم) .
وَسَيَأْتِي كَلَام جده.
نعم؛ المُرَاد بِكَوْنِهِ لَا مدح فِيهِ وَلَا ذمّ: الَّذِي شَأْنه ذَلِك، أَو يُقَال: لذاته، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَتْن، ليخرج مَا ترك بِهِ حَرَامًا؛ فَإِنَّهُ يُثَاب عَلَيْهِ من تِلْكَ الْجِهَة، وَيكون وَاجِبا على رَأْي الكعبي وَأَتْبَاعه كَمَا يَأْتِي، فَإِن ذَلِك لَا يخْتَص بالمباح، وَمَا لَو ترك بِهِ وَاجِبا، فَإِنَّهُ - أَيْضا - يذم من تِلْكَ الْجِهَة.
وَالْمرَاد بالمدح والذم: أَن يرد مَا يدل على ذَلِك بطرِيق من الطّرق، كمدح الْفَاعِل أَو ذمه، أَو وعده أَو وعيده، أَو غير ذَلِك.

(3/1021)


قَوْله: {وَيُسمى: طلقا وحلالا} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَمن أَسْمَائِهِ: الْمُطلق والحلال) .
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي نظمه وَشَرحه: (يُسمى: مُطلقًا وحلالا) انْتهى.
وَالَّذِي رَأَيْته فِي " الْمُنْتَخب " للرازي، وَغَيره: (أَنه يُسمى حَلَالا وطلقا) ، بِلَا مِيم فِي طلقا.
وَفِي بعض نسخ " الْمُنْتَخب ": (حَلَالا طلقا) بِلَا وَاو.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الطلق: الْحَلَال) .
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": (وَشَيْء طلق - وزان حمل - أَي: حَلَال، وَافْعل هَذَا طلقا لَك، أَي: حَلَالا، وَيُقَال: الطلق: الْمُطلق الَّذِي يتَمَكَّن صَاحبه [فِيهِ] من جَمِيع التَّصَرُّفَات، فَيكون " فعل " بِمَعْنى: مفعول، مثل: الذّبْح، بِمَعْنى: الْمَذْبُوح، وأعطيته من طلق مَالِي، أَي: من حلّه، أَو من مطلقه) انْتهى.

(3/1022)


فيتبين بِهَذَا أَن قَول من قَالَ: مُطلقًا، تَصْحِيف.
أما مَا قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، فَيمكن أَن يكون من الْكَاتِب، وَهُوَ الظَّاهِر، وَيحْتَمل أَن يكون تصحف عَلَيْهِ.
وَأما مَا قَالَه الْبرمَاوِيّ فَلَا يحْتَمل إِلَّا الِاشْتِبَاه عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " منظومته ":
(وَذُو الْإِبَاحَة مُبَاح جَائِز ... موسع وَمُطلق وَجَائِز)

فَلَا يُمكن هُنَا التَّصْحِيف من الْكَاتِب؛ لِأَن النّظم لَا يَسْتَقِيم إِلَّا بإتيان الْمِيم، فَعلمنَا أَنه قصد ذَلِك، وَصرح بذلك فِي شَرحه، وَالله أعلم.
وَأما قَوْلهم: يُقَال للطلق مُطلق، فإطلاق مِنْهُم الْمُطلق على الطلق، لَا أَنهم سموا الْمُبَاح مُطلقًا، إِلَّا إِذا ارتكبوا الْمجَاز بدرجتين، وَمَا الَّذِي اضْطر إِلَى ذَلِك، خُصُوصا للمصنفين، ولعلهم أَرَادوا: الْمُطلق من كل قيد، فَتخرج الْأَحْكَام الْأَرْبَعَة وَيبقى الْمُبَاح، وَهُوَ بعيد، وَالْأولَى اتِّبَاع اللُّغَة فِي ذَلِك.
قَوْله: {وَيُطلق هُوَ والحلال على [غير] الْحَرَام} .
{ [فَيعم] } الْأَحْكَام { [الْأَرْبَعَة] } ، وَهِي: الْوَاجِب، وَالْمَنْدُوب، وَالْمَكْرُوه، والمباح، لَكِن الْمُبَاح يُطلق على الثَّلَاثَة، والحلال على الْأَرْبَعَة.

(3/1023)


فَيُقَال للْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه: مُبَاح.
وَيُقَال لهَذِهِ الثَّلَاثَة وللمباح: حَلَال.
لَكِن إِطْلَاق الْمُبَاح على مَا اسْتَوَى طرفاه هُوَ الأَصْل، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا} [يُونُس: 59] .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وسلك بعض الْعلمَاء ذَلِك فِي تَقْسِيم الحكم، فَقَالَ: الحكم قِسْمَانِ: تَحْرِيم، وَإِبَاحَة.
وَفِي " تَعْلِيقه " الشَّيْخ أبي حَامِد فِي كتاب النِّكَاح: (إِنَّهَا ثَلَاثَة: إِيجَاب، وحظر، وَإِبَاحَة) انْتهى، وَيَأْتِي حكم الْجَائِز.
قَوْله: {وَلَيْسَ جِنْسا للْوَاجِب - فِي الْأَصَح - بل هما نَوْعَانِ للْحكم} .
اخْتلفُوا فِي الْمُبَاح: هَل هُوَ جنس للْوَاجِب، أم نَوْعَانِ للْحكم؟
فَذهب طَائِفَة إِلَى الأول، وَذهب طَائِفَة أُخْرَى إِلَى الثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيح.
فَالْوَاجِب والمباح نَوْعَانِ مندرجان تَحت جنس، وَهُوَ فعل الْمُكَلف الَّذِي تعلق بِهِ الحكم الشَّرْعِيّ، وتسميته بالحكم مجَازًا.

(3/1024)


وَدَلِيله: أَنه لَو كَانَ الْمُبَاح جِنْسا للْوَاجِب؛ لاستلزام النَّوْع - أَعنِي: الْوَاجِب - التَّخْيِير بَين فعله وَتَركه، والتالي ظَاهر الْفساد، فالمقدم مثله.
بَيَان الْمُلَازمَة: أَن الْمُبَاح مُسْتَلْزم للتَّخْيِير، وَإِذا كَانَ الْجِنْس مستلزما للتَّخْيِير، فَيكون الْوَاجِب - وَهُوَ نَوعه - مستلزما للتَّخْيِير.
الْقَائِلُونَ بِكَوْن الْمُبَاح جِنْسا للْوَاجِب قَالُوا: الْمُبَاح وَالْوَاجِب مَأْذُون فيهمَا، واختص بفصل: الْمَنْع من التّرْك، والمأذون الَّذِي هُوَ حَقِيقَة الْمُبَاح مُشْتَرك بَين الْوَاجِب وَغَيره، فَيكون جِنْسا لَهُ.
أُجِيب: بأنكم تركْتُم فصل الْمُبَاح، لِأَن الْمُبَاح لَيْسَ هُوَ الْمَأْذُون فَقَط، بل الْمَأْذُون مَعَ عدم الْمَنْع من التّرْك، والمأذون بِهَذَا الْقَيْد، لَا يكون مُشْتَركا بَين الْوَاجِب وَغَيره، بل يكون مباينا للْوَاجِب.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": (وَالْحق أَن النزاع لَفْظِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد بالمباح الْمَأْذُون فَقَط، فَلَا شكّ أَنه مُشْتَرك بَين الْوَاجِب وَغَيره، فَيكون جِنْسا، وَإِن أُرِيد بالمباح الْمَأْذُون مَعَ عدم الْمَنْع من التّرْك، فَلَا شكّ أَنه يكون نوعا مباينا للْوَاجِب، فَلم يكن جِنْسا) انْتهى.
وَأَخذه من كَلَام الْآمِدِيّ، فَإِنَّهُ اخْتَار: (أَن الْمُبَاح لَيْسَ دَاخِلا فِي مُسَمّى الْوَاجِب، وَأَنَّهَا لفظية، فَإِن أُرِيد مَا أذن فِيهِ مُطلقًا فجنس للْوَاجِب وَالْمَنْدُوب والمباح بِالْمَعْنَى الْأَخَص، وَإِن أُرِيد مَا أذن فِيهِ وَلَا ذمّ فَلَيْسَ بِجِنْس) انْتهى.
وَظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء: أَن الْخلاف معنوي.

(3/1025)


وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هِيَ لفظية، لِأَن من قَالَ: الْمُبَاح مَا خير فِيهِ بَين فعله وَتَركه من غير تَرْجِيح، قَالَ: لَيْسَ جِنْسا وَإِلَّا لاستلزم النَّوْع لاستلزام الْخَاص الْعَام، وَهُوَ منَاف للْوُجُوب.
وَمن قَالَ: الْمُبَاح: مَا أذن فِيهِ، قَالَ: هُوَ جنس للْوَاجِب لاشْتِرَاكهمَا وَغَيرهمَا كالمندوب وَالْمَكْرُوه فِي الْمَعْنى، واختصاص الْوَاجِب بامتناع التّرْك، وَالْمَنْدُوب بمرجوحيته، وَالْمَكْرُوه برجحانه) انْتهى.
قَوْله: {وَلَا مَأْمُورا بِهِ عِنْد الْأَرْبَعَة [وَغَيرهم] ، وَخَالف الكعبي وَأَصْحَابه} .
وَنقل الباقلاني وَالْغَزالِيّ عَنهُ: (أَنه مَأْمُور بِهِ دون الْمَنْدُوب، كمرتبة الْمَنْدُوب إِلَى الْوَاجِب) .
دَلِيل الأول - وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة -: الْأَمر يسْتَلْزم تَرْجِيح الْفِعْل،

(3/1026)


وَلَا تَرْجِيح فِي الْمُبَاح، وَلِأَن فِي الشَّرِيعَة مُبَاحا غير مَأْمُور بِهِ إِجْمَاعًا.
قَالَ الكعبي: كل مُبَاح ترك حرَام، وَترك الْحَرَام وَاجِب، وَلَا يتم إِلَّا بِأحد أضداده، وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِب.
وَتَأَول الْإِجْمَاع بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْفِعْل دون تعلق الْأَمر بِهِ، بِسَبَب توقف ترك الْحَرَام عَلَيْهِ، جمعا بَين الْأَدِلَّة.
ورد: بِأَن الْمُبَاح لَيْسَ ترك الْحَرَام، بل شَيْء يتْرك بِهِ الْحَرَام مَعَ إِمْكَان تَركه بِغَيْرِهِ، فَلَا يجب.
ورد: بِأَن فِيهِ تَسْلِيم وجوب أحد مَا يتْرك بِهِ الْحَرَام، غَايَته أَنه غير معِين، وَيتَعَيَّن بِفِعْلِهِ.
وألزم الكعبي - أَيْضا - بِوُجُوب الْمحرم، إِذا ترك بِهِ محرم، وَتَحْرِيم الْوَاجِب إِذا ترك بِهِ وَاجِب.
فَأجَاب: لَا مَانع من اتصاف الْفِعْل بهما: كَالصَّلَاةِ فِي الْغَضَب.
وَلنَا: مَنعه على أصلنَا.
وَذكر ابْن عقيل الْمَسْأَلَة فِي النّسخ، وَأجَاب: (بِأَن الْعَمَل الشاغل لأذوات الْمُكَلف وأبعاضه يمْتَنع مَعَه فعل آخر للتضاد والتنافي، فَلَا يُسمى متروكا وَلَا تَارِكًا حَقِيقَة، وَلَا قَادِرًا عَلَيْهِ، فَمن هُنَا دهي الكعبي، لم يفصل بَين التّرْك وتعدد الْفِعْل للتنافي) .
وَذكر الْآمِدِيّ أَن قَوْله غَايَة الغوص والإشكال، وَأَنه لَا ملخص إِلَّا بِمَنْع وجوب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ.

(3/1027)


وجنح - أَيْضا - إِلَى هَذَا ابْن برهَان.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَمن الْعجب مَا حَكَاهُ عَنهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن برهَان، والآمدي من إِنْكَار الْمُبَاح فِي الشَّرِيعَة، وَأَنه [لَا] وجود لَهُ أصلا، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع) .
قَوْله: {وَالْخلف فيهمَا لَفْظِي} .
أَي: فِي كَونه لَيْسَ جِنْسا الْخلف فِيهِ لَفْظِي، كَمَا تقدم فِي كَلَام الْأَصْفَهَانِي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَكَذَلِكَ الْآمِدِيّ.
وَفِي كَونه مَأْمُورا بِهِ أم لَا، الْخلف فِيهِ لَفْظِي، نَص عَلَيْهِ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع ".
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه ": (لما نفى المُصَنّف أَنه مَأْمُور بِهِ قيد ذَلِك بقوله: من حَيْثُ هُوَ، أَي: بِالنّظرِ إِلَى ذَاته، أَي: أما بِالنّظرِ إِلَى غَيره، وَهُوَ أَنه يحصل بِهِ ترك الْحَرَام كَمَا يحصل [بِغَيْرِهِ] فَهُوَ مَأْمُور بِهِ أَو بِغَيْرِهِ، فَمن الْوَاجِب الْمُخَير، وَلذَلِك قَالَ: إِن الْخلاف فِي ذَلِك لَفْظِي) انْتهى.

(3/1028)


قَوْله: {وعَلى الأول، إِن أُرِيد بِالْأَمر الْإِبَاحَة، فمجاز عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
وَاخْتَارَهُ أَكثر أَصْحَابنَا، لِأَن الْحَقِيقَة تَرْجِيح، وَلَا تَرْجِيح فِي الْمُبَاح، [والعلاقة] المشابهة المعنوية، لِأَن كلا مِنْهُمَا مَأْذُون فِيهِ.
{وَقَالَ أَبُو الْفرج} الْمَقْدِسِي - من أَئِمَّة أَصْحَابنَا - {وَبَعض الشَّافِعِيَّة: حَقِيقَة، وللقاضي [قَولَانِ] } .
أَعنِي: أَنه قَالَ مرّة: إِنَّه مجَاز، وَمرَّة قَالَ: حَقِيقَة.
قَوْله: { [وَالْإِبَاحَة] شَرْعِيَّة إِن أُرِيد بهَا خطاب الشَّرْع،

(3/1029)


وَإِلَّا عقلية} .
لتحققها قبل الشَّرْع، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء.
وَخَالف بعض الْمُعْتَزلَة فَقَالُوا: الْمُبَاح: مَا انْتَفَى الْحَرج فِي فعله وَتَركه، وَذَلِكَ ثَابت قبل الشَّرْع وَبعده.
وَنحن ننكر أَن ذَلِك إِبَاحَة شَرْعِيَّة، بل الْإِبَاحَة خطاب الشَّرْع بذلك فَافْتَرقَا.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (اخْتلف فِي أَن الْإِبَاحَة حكم شَرْعِي أَو لَا؟ فَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة بِالثَّانِي، لتفسيره بِنَفْي الْحَرج، وَالْخلاف إِذن لَفْظِي) انْتهى.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَالْحق أَن النزاع فِيهِ لَفْظِي، فَإِن أُرِيد بِالْإِبَاحَةِ: عدم الْحَرج عَن الْفِعْل فَلَيْسَ حكما شَرْعِيًّا، لِأَنَّهُ قبل الشَّرْع مُتَحَقق، وَلَا حكم قبل، وَإِن أُرِيد بهَا الْخطاب الْوَارِد من الشَّرْع بِانْتِفَاء [الْحَرج] من الطَّرفَيْنِ، فَهِيَ من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة) انْتهى.

(3/1030)


قَوْله: {وَتسَمى شَرْعِيَّة، بِمَعْنى: [التَّقْرِير] } .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (تسمى شَرْعِيَّة، بِمَعْنى: التَّقْرِير.
{و} الْإِبَاحَة - {بِمَعْنى الْإِذْن} - شَرْعِيَّة {إِلَّا أَن نقُول: الْعقل [يُبِيح] } ) .
{و} قَالَ الْمُوفق {فِي " الرَّوْضَة "} - لما قسم الْأَفْعَال -: {وَقسم لم يتَعَرَّض الشَّرْع لَهُ بِدَلِيل من أَدِلَّة السّمع، فَيحْتَمل أَن يُقَال: قد دلّ السّمع على أَن مَا لم يردهُ [فِيهِ] طلب فعل وَلَا ترك فالمكلف [فِيهِ] مُخَيّر، وَيحْتَمل أَن يُقَال: لَا حكم لَهُ} . انْتهى.
قَوْله: {وَلَيْسَت بتكليف عِنْد الْأَرْبَعَة [وَغَيرهم] ، وَخَالف الْأُسْتَاذ} أَبُو إِسْحَاق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

(3/1031)


الأسفراييني.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه " وَغَيره: (وَالْخلاف لَفْظِي، إِذْ من قَالَ: لَيست تكليفا، [نظر] إِلَى أَنه لَيْسَ فِيهَا مشقة جازمة، كمشقة الْوَاجِب والمحظور، وَلَا غير جازمة كَمَا بَينا فِي مشقة الْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه، وَهِي مشقة فَوَات الْفَضِيلَة، إِذْ لَا فَضِيلَة فِي الْمُبَاح لذاته يشق على الْمُكَلف [فَوَاتهَا] بِتَرْكِهِ.
وَمن قَالَ: هِيَ تَكْلِيف، أَرَادَ أَنه يجب اعْتِقَاد كَونه مُبَاحا، وَهَذَا لَا يمنعهُ الأول، والأستاذ لَا يمْنَع أَن لَا مشقة فِي الْمُبَاح، فَتبين أَن النزاع لَفْظِي لعدم وُرُوده على مَحل وَاحِد، إِذْ الأول يَقُول: الْإِبَاحَة لَا مشقة [فِيهَا] ، والأستاذ يَقُول: يجب اعْتِقَاد أَن الْمُبَاح لَيْسَ وَاجِبا وَلَا مَحْظُورًا وَلَا مَنْدُوبًا وَلَا مَكْرُوها) . انْتهى.
{و} ذكر الْمُوفق {فِي " الرَّوْضَة " كَالْأولِ} .

(3/1032)


يَعْنِي: أَنَّهَا لَيست بتكليف، {وعدها} - أَيْضا - { [من] أَحْكَام التَّكْلِيف} ، وَقَالَ: (من قَالَ: التَّكْلِيف مَا كلف اعْتِقَاد كَونه من الشَّرْع، فَهِيَ تَكْلِيف) ، وَضَعفه بِلُزُوم جَمِيع الْأَحْكَام.
{وَقَالَ الْمجد} فِي " المسودة ": { (وَالتَّحْقِيق فِي ذَلِك عِنْدِي: أَن الْمُبَاح من أَحْكَام التَّكْلِيف، بِمَعْنى: أَنه يخْتَص بالمكلفين} ، أَي: أَن الْإِبَاحَة والتخيير لَا يَصح إِلَّا لمن يَصح إِلْزَامه الْفِعْل أَو التّرْك، فَأَما النَّاسِي والنائم وَالْمَجْنُون، فَلَا إِبَاحَة فِي حَقهم كَمَا لَا حظر وَلَا إِيجَاب، فَهَذَا معنى جعلهَا من أَحْكَام التَّكْلِيف، لَا بِمَعْنى: أَن الْمُبَاح مُكَلّف بِهِ) .
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: الْجَائِز لُغَة العابر} .
قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْجَائِز: الْمَار) .

(3/1033)


وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (جَازَ الْمَكَان يجوزه جوزا وجوازا: سَار فِيهِ، وَأَجَازَهُ - بِالْألف -: قطعه، وَأَجَازَهُ: أنفذه، [قَالَه] ابْن فَارس، وَجَاز العقد وَغَيره: نفذ وَمضى على الصِّحَّة، وأجزت العقد: أمضيته، وَجَعَلته جَائِزا نَافِذا) . انْتهى.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} : مَا وَافق الشَّرِيعَة، قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَغَيره: ( {يُطلق} الْجَائِز اصْطِلَاحا {على الْمُبَاح، وعَلى مَا لَا يمْتَنع شرعا، [وَمَا لَا يمْتَنع] عقلا - فَيعم الْوَاجِب [والممكن الْخَاص - وعَلى مَا لَا يمْتَنع وجوده وَعَدَمه - وَهُوَ مُمكن خَاص، أخص مِمَّا قبله - شرعا وعقلا على مَا يشك أَنه لَا يمْتَنع، وعَلى مَا يشك أَنه اسْتَوَى وجوده وَعَدَمه] } ) . انْتهى.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (هَذِه الْمسَائِل تتَعَلَّق بالمباح، وَمن أَسْمَائِهِ

(3/1034)


الْجَائِز، وَأَنه [كَمَا] يُطلق على الْمُبَاح، يُطلق على مَا لَا يمْتَنع شرعا، مُبَاحا كَانَ أَو وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا أَو مَكْرُوها، وعَلى مَا لَا يمْتَنع عقلا، وَاجِبا كَانَ، أَو راجحا، أَو [متساوي] الطَّرفَيْنِ، أَو مرجوحا، وعَلى مَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِيهِ، سَوَاء اسْتَويَا شرعا كالمباح، أَو عقلا [كَفعل] الصَّبِي، وعَلى الْمَشْكُوك فِيهِ فِي الشَّرْع أَو الْعقل [بالاعتبارين [وهما] : اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ، وَعدم الِامْتِنَاع.
يَعْنِي: أَنه كَمَا يُقَال الْمَشْكُوك فِيهِ لما يستوى طرفاه فِي النَّفس، يُقَال لما لَا يمْتَنع فِي النَّفس، أَي: لَا يجْزم بِعَدَمِهِ، كَمَا يُقَال فِي] النقليات وَإِن غلبت على الظَّن بعد فِيهِ شكّ، أَي: احْتِمَال، وَلَا يُرَاد بِهِ تَسَاوِي الطَّرفَيْنِ، كَذَلِك يُقَال: هُوَ جَائِز، وَالْمرَاد أَحدهمَا) انْتهى.
وتابعناه على ذَلِك فِي الأَصْل.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (يُطلق الْجَائِز على الْمُبَاح، وعَلى مَا لَا يمْتَنع شرعا أَو عقلا، أَي: على مَا لَا يحرم، وَيدخل فِيهِ غير الْحَرَام من الْأَحْكَام،

(3/1035)


وَيُطلق فِي عرف المنطقيين: على مَا لَا يمْتَنع عقلا، وَهُوَ الْمُسَمّى بالممكن الْعَام.
قلت: وَهَذَا اصْطِلَاح بَاطِل، عقلا، وَشرعا.
وَيدخل فِيهِ الْوَاجِب والممكن الْخَاص، وَقد يحد بِحَدّ الْمُمكن الْعَام، وَهُوَ: (سلب مَا فِيهِ الضَّرُورَة من الْجَانِب الْمُخَالف للْحكم) ، وعَلى مَا اسْتَوَى فِي الْأَمْرَانِ، أَي: وجوده وَعَدَمه عقلا، وَهُوَ الْمُسَمّى بالممكن الْخَاص فِي عرفهم، وَيُطلق على مَا اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ، وعَلى الْمَشْكُوك فِيهِ شرعا أَو عقلا.
وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْخَمْسَة لَهَا نَظَائِر من الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة.
فنظير الْوَاجِب الشَّرْعِيّ: ضَرُورِيّ الْوُجُود، وَهُوَ الْوَاجِب عقلا.
وَنَظِير الْمحرم: الْمُمْتَنع.
وَنَظِير الْمَنْدُوب: الْمُمكن الأكثري.
وَنَظِير الْمَكْرُوه: الْمُمكن الأقلي.
وَنَظِير الْمُبَاح: الْمُمكن المتساوي الطَّرفَيْنِ) . انْتهى.

(3/1036)


قَوْله: {الثَّانِيَة: الْمُمكن: مَا جَازَ وُقُوعه حسا، أَو وهما، أَو شرعا} .
إِذا قلت: هَذَا مُمكن، صَحَّ حَيْثُ أمكن وُقُوعه فِي الْحس، أَو الْوَهم، أَو فِي الشَّرْع، فَمَتَى أمكن وُقُوعه فِي الْوُجُود قيل لَهُ: مُمكن.

(3/1037)


(قَوْله: {فصل} )

{لَو نسخ الْوُجُوب بَقِي الْجَوَاز، [فالمجد، و] الْأَكْثَر، وَحكي عَن الْأَصْحَاب: [مُشْتَرك بَين النّدب وَالْإِبَاحَة، وَالْقَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَابْن حمدَان: النّدب] ، وَمنع فِي " الرَّوْضَة ": أَن الْوُجُوب ندب وَزِيَادَة، وَقيل: الْإِبَاحَة، وَعنهُ: يعود إِلَى مَا كَانَ، [كأكثر الْحَنَفِيَّة، والتميمي، وَالْغَزالِيّ] } .
الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر: أَن الْوُجُوب إِذا نسخ بَقِي الْجَوَاز فِي الْجُمْلَة.

(3/1038)


قَالَ الْفَخر ابْن تَيْمِية فِي " التَّلْخِيص " فِي بَاب الْحِوَالَة: (الْأَصَح عِنْد أَصْحَابنَا بَقَاؤُهُ) .
وَذهب أَكثر الْحَنَفِيَّة، والتميمي من أَصْحَابنَا، وَالْغَزالِيّ، وَهُوَ رِوَايَة عَن الإِمَام أَحْمد: أَن الْأَمر يعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، أَو الْإِبَاحَة، أَو التَّحْرِيم، فَكَأَن الْوُجُوب بعد نسخه لم يكن، وَحَكَاهُ الزَّرْكَشِيّ - شَارِح " جمع الْجَوَامِع " - عَن أَكثر الشَّافِعِيَّة الأقدمين.
فعلى القَوْل الأول - الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر - اخْتلفُوا: مَا المُرَاد بِالْجَوَازِ؟
فَقيل: هُوَ الْجَوَاز الْمُشْتَرك بَين الْإِبَاحَة وَالنَّدْب، فَيبقى الْفِعْل، إِمَّا مُبَاحا أَو مَنْدُوبًا؛ لِأَن الْمَاهِيّة الْحَاصِلَة بعد النّسخ مركبة من قيدين:
أَحدهمَا: زَوَال الْحَرج عَن الْفِعْل، وَهُوَ مُسْتَفَاد من الْأَمر.
وَالثَّانِي: زَوَال الْحَرج عَن التّرْك، وَهُوَ مُسْتَفَاد من النَّاسِخ، وَهَذِه الْمَاهِيّة صَادِقَة على الْمَنْدُوب والمباح، فَلَا يتَعَيَّن أَحدهمَا بِخُصُوصِهِ.
وَهَذَا القَوْل اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، مِنْهُم: الْمجد وَغَيره، وَرجحه

(3/1039)


الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه، والمتأخرون، وَحكي عَن الْأَكْثَر.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": (يبْقى النّدب) ؛ لِأَن النّدب عِنْدهم بعض الْوُجُوب، فَإِذا زَالَ الْوُجُوب، بَقِي النّدب، لِأَن الْمُرْتَفع التحتم بِالطَّلَبِ، فَإِذا زَالَ التحتم بَقِي أصل الطّلب، وَهُوَ النّدب، فَيبقى الْفِعْل مَنْدُوبًا.
قَالَ أَبُو الْخطاب، وَغَيره من أَصْحَابنَا: (هِيَ من فَوَائِد الْأَمر هَل هُوَ حَقِيقَة فِي النّدب؟) ، فَيُؤْخَذ مِنْهُ بَقَاء النّدب لَا الْإِبَاحَة، على مَا سبق، لِأَن الصُّورَة: أَنه رفع الْوُجُوب وَحده، بِأَن يَقُول الشَّارِع: نسخت الْوُجُوب، أَو حُرْمَة التّرْك، أَو رفعت الْوُجُوب، كَانَ مركبا من

(3/1040)


جزئين: أَحدهمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: جَوَاز الْفِعْل، فَإِذا رفع أَحدهمَا بَقِي الآخر. انْتهى.
وَمنع الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " - فِي مَسْأَلَة الْأَمر الْمُطلق للْوُجُوب - أَن الْوُجُوب ندب وَزِيَادَة، لدُخُول جَوَاز التّرْك فِي حد النّدب.
وَقَالَهُ الْغَزالِيّ - قبله - فَإِنَّهُ قَالَ: (هَذَا بِمَنْزِلَة قَول الْقَائِل: كل وَاجِب فَهُوَ مَنْدُوب وَزِيَادَة، فَإِذا نسخ الْوُجُوب بَقِي النّدب، وَلَا قَائِل بِهِ) انْتهى.
وَقَالَهُ - أَيْضا - ابْن الْقشيرِي.
وَقيل: تبقى الْإِبَاحَة فَقَط.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (قيل المُرَاد بِالْجَوَازِ: التَّخْيِير بَين الْأَمريْنِ.
وَصرح بِهِ الْغَزالِيّ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، [لِأَنَّهُ] بِهَذَا الْمَعْنى وَإِن لم يكن جِنْسا للْوَاجِب، لَكِن يخلف عِنْد النّسخ قيد الْمَنْع من

(3/1041)


التّرْك - الَّذِي هُوَ فصل الْإِيجَاب - فصل رفع الْحَرج عَن التّرْك، فَيكون كالجنس الَّذِي هُوَ قدر مُشْتَرك بَين الْإِيجَاب وَالْإِبَاحَة، وَلَو سلما أَنه لَا بُد من فصل يتقوم بِهِ وَلَا يتقوم بِنَفسِهِ) .
قَالَ الْبرمَاوِيّ - أَيْضا -: (وَقيل: هُوَ رفع الْحَرج عَن الْفِعْل، لَا الْإِبَاحَة الَّتِي هِيَ رفع الْحَرج عَن الْفِعْل وَعَن التّرْك مَعًا، لِأَن هَذِه لَيست هِيَ جنس الْوُجُوب، إِنَّمَا جنسه الْجَوَاز [بِمَعْنى] رفع الْحَرج عَن الْفِعْل) انْتهى.
وَلَعَلَّه يَعْنِي بِهَذِهِ الْمقَالة: أَنه يبْقى النّدب كَمَا تقدم عَن جمَاعَة.
تَنْبِيهَات:
الأول: ذهب طَائِفَة إِلَى أَن الْخلاف الْمَذْكُور لَفْظِي، مِنْهُم: ابْن التلمساني، والهندي، لأَنا إِن فسرنا الْجَوَاز بِنَفْي الْحَرج فَلَا شكّ أَنه جنس للْوَاجِب، وَإِذا رفع الْوُجُوب وَحده فَلَا يلْزم ارتفاعه، وَإِن فسرناه بِالْإِبَاحَةِ، أَو بالأعم، أَو بالندب، [فخاصيتها تنَافِي خاصية] الْوُجُوب، فَلَيْسَ شَيْء مِنْهَا جِنْسا للْوُجُوب، فَإِذا رفع الْوُجُوب لَا تُوجد إِلَّا بِدَلِيل يَخُصهَا، فَلَا نزاع؛ لِأَن الْأَقْوَال لم تتوارد على مَحل وَاحِد.

(3/1042)


وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَن الَّذِي يُعِيد الْحَال إِلَى مَا كَانَ قبل الْإِيجَاب من إِبَاحَة أَو تَحْرِيم أَو كَرَاهَة، غير الَّذِي يَأْخُذ من حُدُوث الْإِيجَاب بعد ذَلِك أَن تبقى إِبَاحَة شَرْعِيَّة أَو ندب كَمَا قرر، حَتَّى يسْتَدلّ أَنه مُبَاح أَو مَنْدُوب بذلك الْأَمر الَّذِي نسخت خَاصَّة التحتم [مِنْهُ] ، وَبَقِيَّة مَا تضمنه بَاقِيَة، فَلَا يكون الْخلاف لفظيا، بل معنويا، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ قبل مَجِيء أَمر الْإِيجَاب حَرَامًا، وأعيد الْحَال إِلَى ذَلِك كَانَ حَرَامًا، وَمن يَقُول: يبْقى الْجَوَاز، لَا يكون حَرَامًا.
الثَّانِي: إِذا كَانَ أَمر الْإِيجَاب متضمنا لشيئين: أَعم، وأخص، فَإِذا رفع الْأَخَص وَبَقِي الْأَعَمّ، كَيفَ يكون نسخا وَلم يرفع الْكل وَإِنَّمَا خصصه؟
وَجَوَابه: أَن رفع أحد الجزئين من الْمركب لَا يكون تَخْصِيصًا، إِنَّمَا التَّخْصِيص: إِخْرَاج جزئي من كلي.
الثَّالِث: اخْتِلَاف أهل الْأُصُول فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، نَظِير اخْتِلَاف الْفُقَهَاء فِي قَوْلهم: إِذا بَطل الْخُصُوص هَل يبْقى الْعُمُوم؟

(3/1043)


وَلنَا مسَائِل كَثِيرَة فروعية من هَذَا الْقَبِيل، ذكرهَا القَاضِي عَلَاء الدّين البعلي فِي قَوَاعِده الْأُصُولِيَّة فِي الْقَاعِدَة الثَّالِثَة وَالسِّتِّينَ، فليعاودها من أرادها.
لَكِن نذْكر هُنَا مِنْهَا بعض مسَائِل لِئَلَّا يَخْلُو كتَابنَا مِنْهَا.
فَمِنْهَا: لَو انْتقل فِي أثْنَاء فرض الصَّلَاة إِلَى فرض صَلَاة أُخْرَى، بطلت الأولى، وانقلبت الثَّانِيَة نفلا فِي الْأَصَح.
وَمِنْهَا: أَن كل مَا يفْسد الْفَرْض فَقَط إِذا وجد فِيهِ، كَذَلِك، كَمَا لَو نوى صَلَاة مَفْرُوضَة، وصلاها وَهُوَ قَاعد، قَادِرًا على الْقيام، فَإِن الْفَرِيضَة لَا تصح، تصح نفلا على الْأَصَح.
وَكَذَا لَو صلى الْفَرِيضَة فِي الْكَعْبَة، صحت نفلا فِي الْأَصَح.
وَكَذَا لَو ائتم بمنتفل أَو بصبي فِي فَرِيضَة، إِن اعْتقد جَوَازه فِيهِنَّ، صَحَّ نفلا على الْمَذْهَب.
وَمِنْهَا: لَو أحرم بفائتة فَلم تكن عَلَيْهِ، أَو أحرم بِفَرْض فَبَان أَن الْوَقْت لم يدْخل، انْقَلب نفلا لبَقَاء أصل النِّيَّة، وَهَذَا أصح الرِّوَايَتَيْنِ.

(3/1044)


وَمِنْهَا: لَو ظن رب المَال أَن عَلَيْهِ زَكَاة فأخرجها، ثمَّ بَان أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ، لم يرجع بهَا على الْمَسَاكِين لوقوعها نفلا، قَالَه القَاضِي، وَذكره الْمجد مَحل وفَاق.
وَمِنْهَا: حَيْثُ قُلْنَا: تبطل الْجُمُعَة بِخُرُوج الْوَقْت، أَو نُقْصَان الْعدَد وَنَحْوه، فَهَل تنْقَلب ظهرا، أَو يستأنفونها ظهرا؟ فِيهِ وَجْهَان، وَإِذا قُلْنَا: يستأنفونها، فَإِنَّهَا تنْقَلب نفلا، ذكره صَاحب " التَّلْخِيص " فِي المزحوم.
قَوْله: {وَلَو صرف النَّهْي عَن التَّحْرِيم [بقيت] الْكَرَاهَة حَقِيقَة، [عِنْد] ابْن عقيل، وَغَيره} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": (إِذا قَامَ دَلِيل على أَن النَّهْي لَيْسَ للْفَسَاد، لم يكن مجَازًا؛ لِأَنَّهُ لم ينْتَقل عَن جَمِيع مُوجبه، وَإِنَّمَا انْتقل عَن بعض مُوجبه: كالعموم الَّذِي خرج بعضه، بَقِي حَقِيقَة فِيمَا بَقِي، قَالَه ابْن عقيل.

(3/1045)


قَالَ: وَكَذَا إِذا قَامَت الدّلَالَة على نَقله عَن التَّحْرِيم، فَإِنَّهُ يبْقى نهيا حَقِيقَة على التَّنْزِيه، كَمَا إِذا قَامَت دلَالَة الْأَمر على أَن الْأَمر لَيْسَ على الْوُجُوب.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - بعد كَلَامه هَذَا - قلت: الأول مَبْنِيّ على أَن الْفساد مَدْلُول عَلَيْهِ بِلَفْظ النَّهْي، وَإِلَّا فَإِن كَانَ مَعْلُوما بِالْعقلِ أَو بِالشَّرْعِ لم يكن انتفاؤه مجَازًا، وَلَا إِخْرَاج [بعض مَدْلُول] اللَّفْظ، وَهَكَذَا كل دلَالَة لزومية، فَإِن [تخلفها] هَل يَجْعَل اللَّفْظ مجَازًا؟ وَهل يكون بِمَنْزِلَة التَّخْصِيص) انْتهى.

(3/1046)


(قَوْله: {فصل} )

{خطاب الْوَضع: مَا اسْتُفِيدَ من نصب الشَّارِع علما مُعَرفا لحكمه} .
لما فَرغْنَا من أَحْكَام خطاب التَّكْلِيف، ويعبر عَنهُ - أَيْضا - بخطاب الشَّرْع، وبخطاب اللَّفْظ، شرعنا فِي الْكَلَام على أَحْكَام خطاب الْوَضع والإخبار، وحدِّه، وَالْفرق بَينه وَبَين [خطاب التَّكْلِيف] .
فحده: مَا اسْتُفِيدَ بِوَاسِطَة نصب الشَّارِع عَلما مُعَرفا لحكمه.

(3/1047)


وَإِنَّمَا قيل ذَلِك، لتعذر معرفَة خطابه فِي كل حَال، وَفِي كل وَاقعَة، بعد انْقِطَاع الْوَحْي، حذارا من تَعْطِيل أَكثر الوقائع عَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة.
سمي بذلك؛ لِأَنَّهُ شَيْء وَضعه فِي شرائعه، أَي: جعله دَلِيلا، وسببا، وشرطا، لَا أَنه أَمر بِهِ عباده، وَلَا أناطه بأفعالهم، من حَيْثُ هُوَ خطاب وضع، وَلذَلِك لَا يشْتَرط فِيهِ الْعلم وَالْقُدْرَة، فِي أَكثر خطاب الْوَضع كالتوريث وَنَحْوه، على مَا يَأْتِي قَرِيبا.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (وَيُسمى هَذَا النَّوْع: خطاب الْوَضع والإخبار.
أما معنى الْوَضع فَهُوَ: أَن الشَّرْع وضع - أَي: شرع - أمورا سميت أسبابا وشروطا وموانع تعرف عِنْد وجودهَا أَحْكَام الشَّرْع من إِثْبَات أَو نفي، فالأحكام تُوجد بِوُجُود الْأَسْبَاب والشروط، وتنتفي لوُجُود الْمَانِع وَانْتِفَاء الْأَسْبَاب والشروط.
وَأما معنى الْإِخْبَار فَهُوَ: أَن الشَّرْع بِوَضْع هَذِه الْأُمُور أخبرنَا بِوُجُود أَحْكَامه [أَو انتفائها] ، عِنْد وجود تِلْكَ الْأُمُور أَو انتفائها، كَأَنَّهُ قَالَ مثلا: إِذا وجد النّصاب الَّذِي هُوَ سَبَب وجوب الزَّكَاة، والحول الَّذِي هُوَ شَرطه، فاعلموا أَنِّي قد أوجب عَلَيْكُم أَدَاء الزَّكَاة، وَإِن وجد الدّين الَّذِي هُوَ مَانع من وُجُوبهَا، أَو انْتَفَى السّوم الَّذِي هُوَ شَرط لوُجُوبهَا فِي السَّائِمَة، فاعلموا أَنِّي لم أوجب عَلَيْكُم الزَّكَاة.
وَكَذَا الْكَلَام فِي الْقصاص، وَالسَّرِقَة، وَالزِّنَا، وَغَيرهَا، بِالنّظرِ إِلَى

(3/1048)


وجود أَسبَابهَا وشروطها، وَانْتِفَاء موانعها، وَعَكسه) انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: (وَالْفرق بَين خطاب الْوَضع وخطاب التَّكْلِيف من حَيْثُ الْحَقِيقَة: أَن الحكم فِي خطاب الْوَضع هُوَ قَضَاء الشَّرْع على الْوَصْف بِكَوْنِهِ سَببا أَو شرطا أَو مَانِعا، وخطاب التَّكْلِيف لطلب أَدَاء مَا تقرر بالأسباب والشروط والموانع) انْتهى.
قَالَ الطوفي: (خطاب الْوَضع يسْتَلْزم خطاب التَّكْلِيف، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يعلم بِهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] ، و {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا} [النُّور: 2] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ "، وَنَحْو ذَلِك من الْأَلْفَاظ المفيدة للْأَحْكَام الوضعية، بِخِلَاف خطاب التَّكْلِيف؛ فَإِنَّهُ لَا يسْتَلْزم خطاب الْوَضع، كَمَا لَو قَالَ الشَّارِع: توضؤوا لَا عَن حدث، فَإِن هَذَا خطاب تكليفي بِفعل مُجَرّد عَن سَبَب مَوْضُوع أَو غَيره) انْتهى.

(3/1049)


وَقَالَ - أَيْضا -: (الصَّوَاب فِي الْقِسْمَة أَن يُقَال: خطاب الشَّرْع إِمَّا لَفْظِي أَو وضعي، أَي: إِمَّا ثَابت بالألفاظ نَحْو: {أقِيمُوا الصَّلَاة} [الْأَنْعَام: 72] ، أَو عِنْد الْأَسْبَاب وَنَحْوهَا، كَقَوْلِه: إِذا زَالَت الشَّمْس وَجَبت عَلَيْكُم الظّهْر، فاللفظ أثبت وجوب الصَّلَاة، والوضع عين وَقت وُجُوبهَا) .
قلت: تقدّمت هَذِه الْمَسْأَلَة وَالْخلاف فِيهَا، فِي أول خطاب التَّكْلِيف - بعد قَوْلنَا: (ثمَّ الْخطاب إِمَّا أَن يرد) ، بعد قَوْله: (وَإِلَّا فوضعي) - وَذكرنَا كَلَام الْقَرَافِيّ هُنَاكَ محررا فليعاود.
قَوْله: { [وَهُوَ] خبر} .
تقدم أَن خطاب التَّكْلِيف إنْشَاء، وخطاب الْوَضع خبر، وَقدمنَا قَرِيبا [أَن] الْفرق بَين خطاب الْوَضع وخطاب التَّكْلِيف من حَيْثُ الْحَد والحقيقة، وَالْفرق بَينهمَا الْآن من حَيْثُ الحكم: أَن خطاب الشَّرْع يشْتَرط

(3/1050)


فِيهِ: علم الْمُكَلف، وَقدرته على الْفِعْل، وَكَونه من كَسبه: كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْم، وَالْحج، وَنَحْوهَا، على مَا سبق فِي شُرُوط التَّكْلِيف.
وَأما خطاب الْوَضع فَلَا يشْتَرط فِيهِ شَيْء من ذَلِك إِلَّا مَا اسْتثْنِي.
أما عدم اشْتِرَاط الْعلم: فكالنائم يتْلف شَيْئا حَال نَومه، والرامي إِلَى صيد فِي ظلمَة، أَو من وَرَاء حَائِل، فَيقْتل إنْسَانا، فَإِنَّهُمَا يضمنَانِ وَإِن لم يعلمَا، وكالمرأة تحل بِعقد وَليهَا عَلَيْهَا، وَتحرم بِطَلَاق زَوجهَا، وَإِن كَانَت غَائِبَة لَا تعلم ذَلِك.
وَأما عدم اشْتِرَاط الْقُدْرَة وَالْكَسْب: فكالدابة تتْلف شَيْئا، وَالصَّبِيّ أَو الْبَالِغ يقتل خطأ، فَيضمن صَاحب الدَّابَّة، والعاقلة، وَإِن

(3/1051)


لم يكن الْقَتْل والإتلاف مَقْدُورًا وَلَا [مكتسبا] لَهُم، وَطَلَاق الْمُكْره عِنْد من يوقعه، وَهُوَ غير مَقْدُور لَهُ بِمُطلق الْإِكْرَاه، أَو مَعَ الإلجاء.
وَأما الْمُسْتَثْنى من عدم اشْتِرَاط الْعلم وَالْقُدْرَة، فقاعدتان: إِحْدَاهمَا: أَسبَاب الْعُقُوبَات: كَالْقصاصِ لَا يجب على مخطيء فِي الْقَتْل، لعدم الْعلم، وحد الزِّنَا لَا يجب على من وطيء أَجْنَبِيَّة يَظُنهَا زَوجته، لعدم الْعلم أَيْضا، وَلَا على من أكره على الزِّنَا، لعدم الْقُدْرَة على الِامْتِنَاع، إِذا الْعُقُوبَات تستدعي وجود الْجِنَايَات الَّتِي تنتهك بهَا حُرْمَة الشَّرْع، زجرا عَنْهَا وردعا، والانتهاك إِنَّمَا يتَحَقَّق مَعَ الْعلم، وَالْقُدْرَة، وَالِاخْتِيَار، و [الْقَادِر] الْمُخْتَار هُوَ: الَّذِي إِن شَاءَ فعل، وَإِن شَاءَ ترك، وَالْجَاهِل وَالْمكْره قد انْتَفَى ذَلِك فِيهِ - وَهُوَ شَرط تحقق الانتهاك - لانْتِفَاء شَرطه، فتنتفي الْعقُوبَة، لانْتِفَاء سَببهَا.
الْقَاعِدَة الثَّانِيَة: [الْأَسْبَاب] الناقلة للأملاك: كَالْبيع، وَالْهِبَة، وَالْوَصِيَّة، وَنَحْوهَا يشْتَرط فِيهَا الْعلم وَالْقُدْرَة، فَلَو تلفظ بِلَفْظ ناقل للْملك وَهُوَ لَا يعلم مُقْتَضَاهُ، لكَونه أعجميا بَين الْعَرَب، أَو عَرَبيا بَين الْعَجم، أَو أكره على ذَلِك، لم يلْزمه مُقْتَضَاهُ.

(3/1052)


وَالْحكمَة فِي اسْتثِْنَاء هَاتين القاعدتين: الْتِزَام الشَّرْع قانون الْعدْل فِي الْخلق، والرفق بهم، [وإعفاؤه] عَن تَكْلِيف المشاق، أَو التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق، وَهُوَ [حَكِيم] .
قَوْله: {وَهُوَ أَقسَام} . أَي: خطاب الْوَضع أَقسَام.
{أَحدهَا} . أَي: أحد الْأَقْسَام.
{الْعلَّة} .
وَقد اخْتلف فِيهَا، هَل هِيَ من خطاب الْوَضع، أم لَا؟ على مَا يَأْتِي آخر أَحْكَام الْوَضع محررا.
فَنحْن تابعنا بذكرها هُنَا: الشَّيْخ فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {وَهِي [فِي] الأَصْل: الْعرض الْمُوجب لخُرُوج الْبدن الحيواني عَن الِاعْتِدَال الطبيعي} .

(3/1053)


أَي: الْعلَّة فِي أصل الْوَضع اللّغَوِيّ أَو الاصطلاحي هِيَ: الْعرض الْمُوجب لخُرُوج الْبدن الحيواني عَن الِاعْتِدَال الطبيعي.
وَذَلِكَ لِأَن الْعلَّة فِي اللُّغَة: هِيَ الْمَرَض، وَالْمَرَض: هُوَ هَذَا الْعرض الْمَذْكُور، وَهُوَ فِي اللُّغَة: الظَّاهِر بعد أَن لم يكن.
قَالَ الْجَوْهَرِي: (عرض لَهُ كَذَا يعرض، أَي: ظهر) .
وَفِي اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين: مَا لَا يقوم بِنَفسِهِ: كالألوان، والطعوم، والحركات، والأصوات.
وَهُوَ كَذَلِك عِنْد الْأَطِبَّاء؛ لِأَنَّهُ عِنْدهم: عبارَة عَن حَادث مَا، إِذا قَامَ بِالْبدنِ أخرجه عَن الِاعْتِدَال.
وَقَوْلنَا: (الْمُوجب لخُرُوج [الْبدن] ) ، هُوَ إِيجَاب حسي: كإيجاب الْكسر للانكسار، والتسويد للاسوداد، فَكَذَلِك الْأَمْرَاض الْبَدَنِيَّة مُوجبَة لاضطراب الْبدن إِيجَابا محسوسا.
قَوْلنَا: (الْبدن الحيواني) ، احْتِرَاز عَن النباتي والجمادي، فَإِن الْأَعْرَاض المخرجة لَهَا عَن حَال [اعْتِدَال] مَا من شَأْنه الِاعْتِدَال مِنْهَا، لَا يُسمى فِي الِاصْطِلَاح [عللا] .

(3/1054)


وَقَوْلنَا: (عَن الِاعْتِدَال الطبيعي) ، هُوَ إِشَارَة إِلَى حَقِيقَة المزاج، وَهُوَ: الْحَال المتوسطة الْحَاصِلَة عَن تفَاعل كيفيات العناصر بَعْضهَا فِي بعض، فَتلك الْحَال هِيَ الِاعْتِدَال الطبيعي، فَإِذا انحرفت عَن التَّوَسُّط [بِغَلَبَة] الْحَرَارَة أَو غَيرهَا، كَانَ ذَلِك هُوَ انحراف المزاج، وَهُوَ الْعلَّة، وَالْمَرَض، والسقم.
قَوْله: {ثمَّ استعيرت عقلا لما أوجب الحكم الْعقلِيّ لذاته، كالكسر للانكسار} .
استعيرت الْعلَّة من الْوَضع اللّغَوِيّ، فَجعلت فِي التَّصَرُّفَات الْعَقْلِيَّة لما أوجب الحكم الْعقلِيّ لذاته، كالكسر للانكسار، والتسويد الْمُوجب - أَي الْمُؤثر - للسواد.
لذاته، أَي: لكَونه كسرا أَو تسويدا، لَا لأمر خَارج من وضعي أَو اصطلاحي.

(3/1055)


وَهَكَذَا الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، هِيَ مُؤثرَة لذواتها، بِهَذَا الْمَعْنى: كالتحرك الْمُوجب للحركة، والتسكين الْمُوجب للسكون.
قَوْله: {ثمَّ شرعا} .
أَي: ثمَّ استعيرت شرعا، أَي: استعيرت الْعلَّة من التَّصَرُّف الْعقلِيّ إِلَى التَّصَرُّف الشَّرْعِيّ، فَجعلت فِيهِ {لمعان} ثَلَاثَة.
{أَحدهَا: مَا أوجب الحكم الشَّرْعِيّ} .
أَي: مَا وجد عِنْده {لَا محَالة} ، أَي: يُوجد عِنْده قطعا، {وَهُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من مقتضي الحكم، وَشَرطه، وَمحله، وَأَهله} ، تَشْبِيها بأجزاء الْعلَّة الْعَقْلِيَّة.
وَذَلِكَ لِأَن الْمُتَكَلِّمين وَغَيرهم قَالُوا: كل حَادث لَا بُد لَهُ من عِلّة، لَكِن الْعلَّة، إِمَّا مادية: كالفضة للخاتم، والخشب للسرير، أَو صورية: كاستدارة الْخَاتم، وتربيع السرير، أَو فاعلية: كالصائغ، أَو النجار، أَو غائية: كالتحلي بالخاتم، وَالنَّوْم على السرير.
فَهَذِهِ أَجزَاء الْعلَّة الْعَقْلِيَّة، مجموعها الْمركب من أَجْزَائِهَا هُوَ الْعلَّة التَّامَّة، فَلذَلِك اسْتعْمل الْفُقَهَاء لَفْظَة (الْعلَّة) بِإِزَاءِ الْمُوجب للْحكم الشَّرْعِيّ، والموجب - لَا محَالة - ومقتضية، وَشَرطه، وَمحله، وَأَهله.

(3/1056)


مِثَاله: وجوب الصَّلَاة، حكم شَرْعِي، ومقتضيه: أَمر الشَّارِع بِالصَّلَاةِ، وَشَرطه: أَهْلِيَّة الْمُصَلِّي لتوجه الْخطاب إِلَيْهِ، بِأَن يكون عَاقِلا، بَالغا، وَمحله: الصَّلَاة، وَأَهله: الْمُصَلِّي.
وَكَذَلِكَ حُصُول الْملك فِي البيع وَالنِّكَاح، حكم شَرْعِي، ومقتضيه: حكم الْحَاجة إِلَيْهِمَا، والإيجاب وَالْقَبُول فيهمَا، وَشَرطه: مَا ذكر من شُرُوط صِحَة البيع وَالنِّكَاح فِي كتب الْفِقْه، وَمحله: هُوَ الْعين الْمَبِيعَة، وَالْمَرْأَة الْمَعْقُود عَلَيْهَا، وَأَهله: كَون الْعَاقِد صَحِيح الْعبارَة وَالتَّصَرُّف.
وافرض ذَلِك فِي غَيره.
قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: (لَا فرق بَين الْمُقْتَضِي، وَالشّرط، وَالْمحل، والأهل، بل الْعلَّة الْمَجْمُوع، والأهل وَالْمحل وصفان من أوصافها) .
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (قلت: الأولى أَن يُقَال: هما ركنان من أَرْكَانهَا، لِأَنَّهُ قد ثَبت أَنَّهُمَا جزءان من أَجْزَائِهَا، وركن الشَّيْء هُوَ: جزؤه الدَّاخِل فِي حَقِيقَته.

(3/1057)


وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة مجموعها يُسمى: عِلّة، ومقتضي الحكم هُوَ: الْمَعْنى الطَّالِب لَهُ، وَشَرطه يَأْتِي، وَأَهله هُوَ: الْمُخَاطب بِهِ، وَمحله: مَا تعلق بِهِ، وَقد ظهر بالمثال) .
قَوْله: {الثَّانِي مقتضي الحكم، وَإِن تخلف لفَوَات شَرط، أَو وجود مَانع} .
أَي: وَإِن تخلف عَنهُ الحكم لفَوَات شَرطه، أَو وجود مانعه.
مِثَاله: الْيَمين، هِيَ الْمُقْتَضِي لوُجُوب الْكَفَّارَة، فتسمى عِلّة لَهُ، وَإِن كَانَ وجوب الْكَفَّارَة إِنَّمَا يتَحَقَّق بِوُجُود أَمريْن: الْحلف الَّذِي هُوَ الْيَمين، والحنث فِيهَا، لَكِن الْحِنْث شَرط فِي الْوُجُوب، وَالْحلف هُوَ السَّبَب الْمُقْتَضِي لَهُ، فَقَالُوا: عِلّة.
فَإِذا حلف الْإِنْسَان على فعل شَيْء، أَو تَركه، قيل: قد وجدت مِنْهُ عِلّة وجوب الْكَفَّارَة، وَإِن كَانَ الْوُجُوب لَا يُوجد حَتَّى يَحْنَث، وَإِنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّد [الْحلف] انْعَقَد سَببه.
وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي مُجَرّد ملك النّصاب وَنَحْوه، وَلِهَذَا لما انْعَقَدت أَسبَاب الْوُجُوب بِمُجَرَّد هَذِه المقتضيات، جَازَ فعل الْوَاجِب بعد وجودهَا، وَقبل وجود شَرطهَا عندنَا، كالتكفير قبل الْحِنْث، وَإِخْرَاج الزَّكَاة قبل الْحول.
وَقَوله: (وَإِن تخلف لفَوَات شَرط) .

(3/1058)


كَالْقَتْلِ الْعمد الْعدوان، يُسمى عِلّة لوُجُوب الْقصاص، وَإِن تخلف وُجُوبه لفَوَات الْمُكَافَأَة، وَهِي شَرط لَهُ، بِأَن يكون الْمَقْتُول عبدا، أَو كَافِرًا.
أَو لوُجُود مَانع، مثل: أَن يكون الْقَاتِل أَبَا، فَإِن الإيلاد مَانع من [وجوب] الْقصاص.
وَكَذَا النّصاب يُسمى عِلّة لوُجُوب الزَّكَاة، وَإِن تخلف الْوُجُوب لفَوَات شَرط كحولان الْحول، أَو لوُجُود مَانع كَالدّين.
قَوْله: {الثَّالِث: الْحِكْمَة، [وَهِي] : الْمَعْنى الْمُنَاسب الَّذِي ينشأ عَنهُ الحكم} .
الْحِكْمَة، أَي: حِكْمَة الحكم.
وَالْحكمَة هِيَ: الْمَعْنى الْمُنَاسب الَّذِي نَشأ عَنهُ الحكم: {كمشقة السّفر للقصر وَالْفطر، وَالدّين لمنع الزَّكَاة، والأبوة لمنع الْقصاص} .
وَبَيَان الْمُنَاسبَة فِي هَذِه الْأَمْثِلَة: أَن حُصُول الْمَشَقَّة على الْمُسَافِر معنى مُنَاسِب لتخفيف الصَّلَاة عَنهُ بقصرها، وَالتَّخْفِيف عِنْد بِالْفطرِ، وافتقاره مَالك النّصاب بِالدّينِ الَّذِي عَلَيْهِ، معنى مُنَاسِب لإِسْقَاط وجوب الزَّكَاة عَنهُ، وَكَون الْأَب سَببا لوُجُود الابْن، معنى مُنَاسِب لسُقُوط الْقصاص عَنهُ، لِأَنَّهُ لما كَانَ سَببا لإيجاده لم تقتض الْحِكْمَة أَن يكون الْوَلَد سَببا لإعدامه وهلاكه، لمحض حَقه.
واحترزنا بِهَذَا عَن وجوب رجمه إِذا زنى بابنته، فَهِيَ إِذن سَبَب

(3/1059)


إعدامه، مَعَ كَونه سَبَب إيجادها، لَكِن ذَلِك لمحض حق الله تَعَالَى، حَتَّى لَو قَتلهَا لم يجب قَتله بهَا لِأَن [الْحق] لَهَا.
وَسَيَأْتِي فِي الْقيَاس حد الْعلَّة، وَهل هِيَ معرفَة، أَو مُؤثرَة؟
قَوْله: {الْقسم الثَّانِي: السَّبَب، وَهُوَ لُغَة: مَا توصل بِهِ إِلَى غَيره} .
كالطريق وَنَحْوهَا.
قَالَ الْجَوْهَرِي: (السَّبَب: الْحَبل، وكل شَيْء يتَوَصَّل بِهِ إِلَى غَيره) .
قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (السَّبَب: الْحَبل، وَهُوَ: مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الاستعلاء، ثمَّ استعير لكل شَيْء يتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَمر من الْأُمُور، فَقيل: هَذَا سَبَب، وَهَذَا مسبب عَن هَذَا.
قَوْله: {وَشرعا: مَا يلْزم من وجود الْوُجُود، وَمن عَدمه الْعَدَم لذاته، فيوجد الحكم عِنْده، لَا بِهِ} .

(3/1060)


اشْتهر هَذَا الْحَد فِي كتب كثير من الْأُصُولِيِّينَ.
فَالْأول: احْتِرَاز من الشَّرْط، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من وجود الْوُجُود.
وَالثَّانِي: احْتِرَاز من الْمَانِع، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم.
وَالثَّالِث: احْتِرَاز مِمَّا لَو قَارن السَّبَب فقدان الشَّرْط، أَو وجود الْمَانِع: كالنصاب قبل تَمام الْحول، أَو مَعَ وجود الدّين، فَإِنَّهُ لَا يلْزم من وجوده الْوُجُود، لَكِن لَا لذاته، بل لأمر خَارج عَنهُ، وَهُوَ انْتِفَاء الشَّرْط، وَوُجُود الْمَانِع.
فالتقييد بِكَوْن ذَلِك لذاته، للاستظهار على مَا لَو تخلف وجود الْمُسَبّب مَعَ وجدان السَّبَب لفقد شَرط، أَو مَانع: كالنصاب قبل الْحول كَمَا تقدم، وَمن فِيهِ سَبَب الْإِرْث وَلكنه قَاتل، أَو رَقِيق، أَو نَحْوهمَا.
وعَلى مَا لَو وجد الْمُسَبّب مَعَ فقدان السَّبَب، لَكِن لوُجُود سَبَب آخر: كالردة الْمُقْتَضِيَة للْقَتْل، إِذا فقدت وَوجد قتل يُوجب الْقصاص، أَو زنى

(3/1061)


مُحصن، فَتخلف هَذَا التَّرْتِيب عَن السَّبَب لَا لذاته، بل لِمَعْنى خَارج كَمَا تقدم.
إِذا علم ذَلِك؛ فالسبب هُوَ: الَّذِي يُضَاف إِلَيْهِ الحكم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، و {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] .
إِذْ لله تَعَالَى فِي دلوك الشَّمْس حكمان:
أَحدهمَا: كَون الدلوك سَببا.
وَالْآخر: وجوب الصَّلَاة عِنْده.
وَكَذَلِكَ لله تَعَالَى فِي الزَّانِي حكمان:
أَحدهمَا: وجوب الرَّجْم.
وَالثَّانِي: كَون الزِّنَى سَببا.
وَلَا شكّ أَن الْأَسْبَاب معرفات، إِذْ الممكنات مستندة إِلَى الله تَعَالَى

(3/1062)


ابْتِدَاء عِنْد أهل الْحق، وَبَين الْمُعَرّف الَّذِي هُوَ السَّبَب، وَالْحكم الَّذِي نيط بِهِ ارتباط ظَاهر، فالإضافة إِلَيْهِ وَاضِحَة.
وَأما عِنْد من يَجْعَل الْوَصْف مؤثرا بِذَاتِهِ فَلَا خَفَاء عِنْده؛ إِذْ الْأَثر يُضَاف إِلَى الْمُؤثر قطعا.
قَوْله: { [واستعير شرعا لمعان] : أَحدهَا: مَا يُقَابل الْمُبَاشرَة، كحفر الْبِئْر مَعَ التردية، فَالْأول سَبَب، وَالثَّانِي عِلّة} .
فَإِذا حفر شخص بِئْرا، وَدفع آخر إنْسَانا فتردى فِيهَا فَهَلَك، فَالْأول - وَهُوَ الْحَافِر - متسبب إِلَى هَلَاكه، وَالثَّانِي - وَهُوَ الدَّافِع - مبَاشر، فَأطلق الْفُقَهَاء السَّبَب على مَا يُقَابل الْمُبَاشرَة، فَقَالُوا: إِذا اجْتمع المتسبب والمباشر، غلبت الْمُبَاشرَة، وَوَجَب الضَّمَان على الْمُبَاشر، وَانْقطع حكم التَّسَبُّب.
وَمن أمثلته: لَو أَلْقَاهُ من شَاهِق، فَتَلقاهُ آخر بِسيف فَقده، فَالضَّمَان على المتلقي بِالسَّيْفِ، وَلَو أَلْقَاهُ فِي مَاء مغرق، فَتَلقاهُ حوت فابتلعه،

(3/1063)


فَالضَّمَان على الملقي، لعدم قبُول الْحُوت الضَّمَان، وَكَذَا لَو أَلْقَاهُ فِي زبية أَسد فَقتله.
قَوْله: {الثَّانِي: عِلّة الْعلَّة: كالرمي هُوَ سَبَب الْقَتْل، وَهُوَ} - أَعنِي: الرَّمْي - {عِلّة الْإِصَابَة، [والإصابة] عِلّة [لزهوق النَّفس] } الَّذِي هُوَ الْقَتْل، فالرمي هُوَ عِلّة عِلّة الْقَتْل، وَقد سموهُ سَببا لَهُ.
قَوْله: {الثَّالِث: الْعلَّة بِدُونِ شَرطهَا: كالنصاب بِدُونِ الْحول} ، أَعنِي: الثَّالِث من الْمعَانِي الَّتِي استعير لَهَا لفظ السَّبَب: الْعلَّة بِدُونِ شَرطهَا: كالنصاب بِدُونِ حولان الْحول، يُسمى سَببا لوُجُوب الزَّكَاة كَمَا تقدم فِي تَسْمِيَته عِلّة، فاستعيرت الْعلَّة وَسميت سَببا.
قَوْله: {الرَّابِع: الْعلَّة الشَّرْعِيَّة كَامِلَة} .
وَهِي الْمَجْمُوع الْمركب من: مُقْتَضى الحكم، وَشَرطه، وَانْتِفَاء الْمَانِع، وَوُجُود الْأَهْل وَالْمحل.
سمي سَببا - أَيْضا - اسْتِعَارَة؛ لِأَنَّهُ لم يتَخَلَّف عَنهُ فِي حَال من الْأَحْوَال: كالكسر للانكسار.
وَسميت الْعلَّة الشَّرْعِيَّة الْكَامِلَة سَببا؛ لِأَن عليتها لَيست لذاتها، بل

(3/1064)


بِنصب الشَّارِع لَهَا أَمارَة على الحكم بِهِ، بِدَلِيل وجودهَا دونه: كالإسكار قبل التَّحْرِيم، وَلَو كَانَ الْإِسْكَار عِلّة للتَّحْرِيم لذاته لم يتَخَلَّف عَنهُ فِي حَال، كالكسر للانكسار فِي الْعَقْلِيَّة، فَأَشْبَهت لذَلِك السَّبَب، وَهُوَ مَا يحصل الحكم عِنْده لَا بِهِ، فَهُوَ معرف للْحكم، لَا مُوجب لَهُ لذاته، وَإِلَّا لوَجَبَ قبل الشَّرْع.
قَوْله: {وَهُوَ وقتي: كالزوال لِلظهْرِ، ومعنوي يسْتَلْزم حِكْمَة باعثة: كالإسكار للتَّحْرِيم، [وَالْملك لإباحة الِانْتِفَاع] وَنَحْوه} .
السَّبَب قِسْمَانِ: أَحدهمَا: وقتي، وَالْآخر: معنوي.
والوقتي: هُوَ مَا لَا يسْتَلْزم فِي تَعْرِيفه للْحكم حِكْمَة باعثة: كزوال الشَّمْس، فَإِنَّهُ يعرف وَقت وجوب الظّهْر، وَلَا يكون مستلزما لحكمة باعثة.
والمعنوي: مَا يسْتَلْزم حِكْمَة باعثة فِي تَعْرِيفه للْحكم الشَّرْعِيّ: كالإسكار، فَإِنَّهُ أَمر معنوي جعل عِلّة للتَّحْرِيم، وَالْملك، فَإِنَّهُ جعل سَببا لإباحة الِانْتِفَاع، وَالضَّمان، فَإِنَّهُ جعل سَببا لمطالبة الضَّامِن بِالدّينِ، والعقوبات، فَإِنَّهَا جعلت سَببا لوُجُوب الْقصاص أَو الدِّيَة.

(3/1065)


قَالَ الْآمِدِيّ: (السَّبَب عبارَة عَن وصف ظَاهر منضبط، دلّ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ على كَونه مُعَرفا لثُبُوت حكم شَرْعِي) ، طرديا كَانَ: كجعل زَوَال الشَّمْس سَببا للصَّلَاة، أَو غير طردي: كالشدة المطربة، سَوَاء اطرد الحكم مَعَه أَو لم يطرد؛ لِأَن السَّبَب الشَّرْعِيّ يجوز تَخْصِيصه، وَهُوَ الْمُسَمّى تَخْصِيص الْعلَّة، إِذْ لَا معنى لتخصيص الْعلَّة، إِلَّا وجود حكمهَا فِي بعض صور وجودهَا دون بعض، وَهُوَ عدم الاطراد.
قَوْله: {الْقسم الثَّالِث: الشَّرْط، وَهُوَ لُغَة: الْعَلامَة} ، لِأَنَّهُ عَلامَة على الْمَشْرُوط، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَهَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة فقد جَاءَ أشراطها} [مُحَمَّد: 18] ، أَي: علامتها، قَالَه الْمُوفق وَغَيره.
قَالَ الْجَوْهَرِي: (بِالسُّكُونِ، مَعْرُوف، وبالتحريك: الْعَلامَة، وأشراط السَّاعَة: علاماتها) .

(3/1066)


وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (الشَّرْط - مخفف من الشَّرْط بِفَتْح الرَّاء - هُوَ: الْعَلامَة، وَجمعه: أَشْرَاط، وَجمع الشَّرْط - بِالسُّكُونِ -: شُرُوط، وَيُقَال لَهُ: شريطة، وَجمعه: شَرَائِط) .
وَقَالَ فِي " المطلع ": (الشَّرْط - بِسُكُون الرَّاء - يجمع على شُرُوط وعَلى شَرَائِط، والأشراط وَاحِدهَا شَرط - بِفَتْح الرَّاء والشين -) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الشَّرْط - بِالتَّحْرِيكِ -: الْعَلامَة، جمعه: أَشْرَاط، وَالشّرط: إِلْزَام الشَّيْء والتزامه فِي البيع وَنَحْوه، كالشريطة، وَجمعه شُرُوط) انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا: مَا يلْزم من عَدمه الْعَدَم، وَلَا يلْزم من وجوده وجود وَلَا عدم لذاته} .
فَالْأول: احْتِرَاز من الْمَانِع؛ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم.
وَالثَّانِي: احْتِرَاز من السَّبَب، وَالْمَانِع أَيْضا.
أما من السَّبَب؛ فَلِأَنَّهُ يلْزم من وجوده الْوُجُود لذاته كَمَا سبق.
وَأما من الْمَانِع؛ فَلِأَنَّهُ يلْزم من وجوده الْعَدَم.

(3/1067)


وَالثَّالِث: احْتِرَاز من مُقَارنَة الشَّرْط وجود السَّبَب، فَيلْزم الْوُجُود، أَو قيام الْمَانِع، فَيلْزم الْعَدَم، لَكِن [لَا] لذاته - وَهُوَ كَونه شرطا - بل لأمر خَارج، وَهُوَ مُقَارنَة السَّبَب، أَو قيام الْمَانِع.
إِذا علم ذَلِك؛ فللشرط [ثَلَاثَة] إطلاقات.
الأول: مَا يذكر فِي الْأُصُول هُنَا، مُقَابلا للسبب وَالْمَانِع، وَفِي نَحْو قَول الْمُتَكَلِّمين: شَرط الْعلم [الْحَيَاة] ، وَقَول الْفُقَهَاء: شَرط الصَّلَاة الطَّهَارَة، شَرط صِحَة البيع كَذَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يذكر هُنَا تَعْرِيفه.
الثَّانِي: الشَّرْط اللّغَوِيّ، وَالْمرَاد بِهِ: صِيغ التَّعْلِيق ب " إِن " وَنَحْوهَا من أدوات الشَّرْط، وَهُوَ مَا يذكر فِي أصُول الْفِقْه فِي المخصصات للْعُمُوم، نَحْو: {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاق: 6] ، وَمِنْه قَوْلهم فِي الْفِقْه: الطَّلَاق وَالْعِتْق الْمُعَلق بِشَرْط، وَنَحْوهمَا، نَحْو: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق، أَو حرَّة، وَقَوْلهمْ: لَا يجوز تَعْلِيق البيع على شَرط وَنَحْوه، فَإِن دُخُول الدَّار لَيْسَ شرطا لوُقُوع الطَّلَاق شرعا وَلَا عقلا، بل من الشُّرُوط الَّتِي وَضعهَا أهل اللُّغَة.
وَهَذَا - كَمَا قَالَ الْقَرَافِيّ وَغَيره -: (يرجع إِلَى كَونه سَببا يوضع للمعلق، حَتَّى يلْزم من وجوده الْوُجُود، وَمن عَدمه الْعَدَم لذاته) .

(3/1068)


وَوهم من فسره - هُنَاكَ تَفْسِير الشَّرْط الْمُقَابل للسبب وَالْمَانِع، كَمَا وَقع لكثير من الْأُصُولِيِّينَ، وَسَيَأْتِي - هُنَاكَ - بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّالِث: جعل شَيْء قيدا فِي شَيْء: كَشِرَاء الدَّابَّة بِشَرْط كَونهَا حَامِلا، وَبيع العَبْد بِشَرْط الْعتْق، وَهُوَ المُرَاد بِحَدِيث: " نهى عَن بيع وَشرط "، و " مَا بَال رجال يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله "، وَنَحْو ذَلِك.
وَهَذَا الثَّالِث يحْتَمل أَن يُعَاد إِلَى الأول، بِسَبَب مواضعة الْمُتَعَاقدين، كَأَنَّهُمَا قَالَا: جَعَلْنَاهُ مُعْتَبرا فِي عَقدنَا، يعْدم بِعَدَمِهِ، وَإِن ألغاه الشَّرْع لغى العقد، وَإِن اعْتَبرهُ لَا يلغى العقد، بل يثبت الْخِيَار إِن أخلف، كَمَا نقل ذَلِك فِي الْفِقْه.
وَيحْتَمل أَن يُعَاد إِلَى الثَّانِي، كَأَنَّهُمَا قَالَا: إِن كَانَ كَذَا فَالْعقد صَحِيح، وَإِلَّا فَلَا.
إِذا عرفت ذَلِك؛ فالمقصود هُنَا هُوَ الْقسم الأول، وَقد اشْتهر تَعْرِيفه بِمَا ذَكرْنَاهُ أَولا.

(3/1069)


قَوْله: {فَإِن أخل عَدمه بحكمة السَّبَب فَشرط السَّبَب: كالقدرة على تَسْلِيم الْمَبِيع، وَإِن استلزم عَدمه حِكْمَة تَقْتَضِي نقيض الحكم، فَشرط الحكم: كالطهارة للصَّلَاة} .
هَذَا الشَّرْط على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: مَا يُسمى شَرط السَّبَب، وَالثَّانِي: يُسمى شَرط الحكم.
فَالْأول: مَا يكون عَدمه مخلا بحكمة السَّبَب: كالقدرة على تَسْلِيم الْمَبِيع وَنَحْوه، فَإِنَّهَا شَرط البيع، الَّذِي هُوَ سَبَب ثُبُوت الْملك، الْمُشْتَمل على مصلحَة، وَهُوَ حَاجَة الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ، وَهِي متوقفة على الْقُدْرَة على التَّسْلِيم، فَكَانَ عَدمه مخلا بحكمة الْمصلحَة الَّتِي شرع لَهَا البيع.
وَالثَّانِي: مَا اشْتَمَل عَدمه على [حِكْمَة] تَقْتَضِي نقيض حِكْمَة السَّبَب، مَا بَقَاء حِكْمَة السَّبَب: كالطهارة فِي بَاب الصَّلَاة، فَإِن عدم الطَّهَارَة حَال الْقُدْرَة عَلَيْهَا مَعَ الْإِتْيَان بِالصَّلَاةِ يَقْتَضِي نقيض حِكْمَة الصَّلَاة، وَهُوَ الْعقَاب، فَإِنَّهُ نقيض وُصُول الثَّوَاب.
قَوْله: {وَهُوَ عَقْلِي: كالحياة للْعلم} .
تقدم لنا أَن للشّرط إطلاقات مِنْهَا مَا هُوَ للمتكلمين، وَهُوَ قَوْلنَا: عَقْلِي: كالحياة للْعلم؛ لِأَن من شَرط الْعلم الْحَيَاة، فَإِذا انْتَفَت الْحَيَاة، انْتَفَى الْعلم، وَلَا يلْزم من وجود الْحَيَاة الْعلم.

(3/1070)


{ولغوي: كَأَنْت طَالِق إِن [دخلت الدَّار] } وَنَحْوه، كَمَا تقدم.
{ [وشرعي: كالطهارة للصَّلَاة] } وَنَحْوه.
وَزَادُوا رَابِعا {و} هُوَ { [العادي] : كالغذاء للحيوان} ، إِذْ الْغَالِب فِيهِ أَنه يلْزم من انْتِفَاء الْغذَاء انْتِفَاء الْحَيَاة، وَمن وجوده وجودهَا، إِذْ لَا يتغذى إِلَّا حَيّ، وكالسلم للصعود. فعلى هَذَا يكون الشَّرْط العادي كالشرط اللّغَوِيّ فِي أَنه مطرد منعكس، ويكونان من قبيل الْأَسْبَاب لَا من قبيل الشُّرُوط، كَمَا تقدم فِي الشَّرْط اللّغَوِيّ، بِخِلَاف الشُّرُوط الْعَقْلِيَّة.
وَقَوله: { [وَمَا جعل قيدا فِي شَيْء لِمَعْنى كَشَرط فِي عقد فكالشرعي لَا اللّغَوِيّ فِي الْأَصَح] } .
تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِطْلَاق الثَّالِث فِي إطلاقات الشَّرْط فليعاود.

(3/1071)


قَوْله: {واللغوي} - أَي: وَالشّرط اللّغَوِيّ - {أغلب اسْتِعْمَاله فِي السَّبَبِيَّة الْعَقْلِيَّة} ، نَحْو: إِذا طلعت الشَّمْس فالعالم مضيء، { [و] الشَّرْعِيَّة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} [الْمَائِدَة: 6] وَنَحْوه.
فَإِن طُلُوع الشَّمْس سَبَب ضوء الْعَالم عقلا، والجنابة سَبَب لوُجُود التَّطْهِير شرعا، {وَاسْتعْمل لُغَة فِي شَرط لم يبْق للمسبب سواهُ [أَي] } يسْتَعْمل { [فِي الشَّرْط الْأَخير] } ، وَذَلِكَ مثل قَوْلك: إِن تأتني أكرمك، فَإِن الْإِتْيَان شَرط لم يبْق للإكرام سواهُ، لِأَنَّهُ إِذا أَدخل الشَّرْط اللّغَوِيّ عَلَيْهِ، علم أَن أَسبَاب الْإِكْرَام حَاصِلَة، لَكِن متوقفة على حُصُول الْإِتْيَان.
قَوْله: {الْقسم الرَّابِع: الْمَانِع، وَهُوَ: مَا يلْزم من وجوده الْعَدَم، وَلَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم لذاته} .
الْمَانِع اسْم فَاعل من الْمَنْع، وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاح مَا ذكرنَا.
فَالْأول: احْتِرَاز من السَّبَب؛ لِأَنَّهُ يلْزم من وجوده الْوُجُود.

(3/1072)


وَالثَّانِي: احْتِرَاز من الشَّرْط؛ لِأَنَّهُ يلْزم من عَدمه الْعَدَم.
وَالثَّالِث: - وَهُوَ قَوْلنَا: لذاته -: احْتِرَاز من مُقَارنَة الْمَانِع لوُجُود سَبَب آخر، فَإِنَّهُ يلْزم الْوُجُود لَا لعدم الْمَانِع، بل لوُجُود السَّبَب: كَالْأَبِ الْقَاتِل فِي الْمِثَال الْآتِي [إِذا ارْتَدَّ زمن] قَتله وَلَده، فَإِنَّهُ يقتل بِالرّدَّةِ وَإِن لم يقتل قصاصا؛ لِأَن الْمَانِع إِنَّمَا هُوَ لأحد السببين.
{ [وَالْمَنْع] إِمَّا للْحكم} ، وَهُوَ وصف وجودي ظَاهر منضبط مُسْتَلْزم لحكمة تَقْتَضِي نقيض حكم السَّبَب، مَعَ بَقَاء [حِكْمَة السَّبَب] : {كالأبوة فِي الْقصاص مَعَ الْقَتْل الْعمد} الْعدوان، وَهُوَ كَون الْأَب سَببا لوُجُود الْوَلَد، فَلَا يحسن كَونه سَببا لعدمه، فَيَنْتَفِي الحكم مَعَ وجود مقتضيه وَهُوَ الْقَتْل.
{ [وَإِمَّا] لسَبَب الحكم} ، وَهُوَ وصف يخل وجوده بحكمة السَّبَب: {كَالدّين فِي الزَّكَاة مَعَ ملك [النّصاب] } ، وَوجه ذَلِك: أَن حِكْمَة وجوب الزَّكَاة فِي النّصاب - الَّذِي هُوَ السَّبَب - كثرته كَثْرَة تحْتَمل الْمُوَاسَاة مِنْهُ، شكرا على نعْمَة ذَلِك، لَكِن لما كَانَ الْمَدِين مطالبا بِصَرْف الَّذِي يملكهُ فِي الدّين، صَار كَالْعدمِ.

(3/1073)


وَسمي الأول: مَانع الحكم؛ لِأَن سَببه مَعَ بَقَاء حكمته [لَا] يُؤثر.
وَالثَّانِي: مَانع السَّبَب؛ لِأَن حكمته فقدت مَعَ وجود صورته فَقَط.
فالمانع يَنْتَفِي الحكم لوُجُوده، وَالشّرط يَنْتَفِي الحكم لانتفائه.
فَوَائِد: إِحْدَاهَا: قد يلتبس السَّبَب بِالشّرطِ، من حَيْثُ إِن الحكم يتَوَقَّف وجوده على وجودهما، وينتفي بانتفائها، وَإِن كَانَ السَّبَب؛ يلْزم من وجوده وجوده بِخِلَاف الشَّرْط، فَإِذا شكّ فِي وصف، أهوَ سَبَب أَو شَرط؟ نظر، إِن كَانَت كلهَا مُنَاسبَة للْحكم فَالْكل سَبَب، أَو كل مِنْهَا مُنَاسِب فَكل وَاحِد سَبَب.
فَالْأول: كَالْقَتْلِ الْعمد الْمَحْض الْعدوان.
وَالثَّانِي: كأسباب الْحَدث.
وَإِن ناسب الْبَعْض فِي ذَاته، وَالْبَعْض فِي غَيره، فَالْأول سَبَب، وَالثَّانِي شَرط: كالنصاب والحول فالنصاب يحمل على الْغنى ونعمة الْملك فِي نَفسه، فَهُوَ السَّبَب والحول مكمل لنعمة الْملك بالتمكن من التنمية فِي مدَّته فَهُوَ شَرط، قَالَه الْقَرَافِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَلَكِن هَذَا لَا يكون إِلَّا فِي السَّبَب الْمَعْنَوِيّ الَّذِي يكون عِلّة، لَا فِي السَّبَب الزماني وَنَحْوه.

(3/1074)


فَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِن كَانَ الْوَصْف هُوَ المتوقف عَلَيْهِ الشَّيْء فِي تَعْرِيفه، أَو تَأْثِيره - على الْخلاف - فالسبب، وَإِلَّا فَالشَّرْط) انْتهى.
الثَّانِيَة: الشَّرْط وَعدم الْمَانِع كِلَاهُمَا يعْتَبر فِي [ترَتّب] الحكم، فقد يلتبسان، حَتَّى أَن بعض الْفُقَهَاء جعله إِيَّاه، كَمَا عد الفوراني وَالْغَزالِيّ من شَرَائِط الصَّلَاة ترك المناهي، من الْأَفْعَال، وَالْكَلَام، وَالْأكل، وَنَحْوه، وتبعهما الرَّافِعِيّ فِي " شرح الْوَجِيز "، وَفِي " الْمُحَرر "، وَالنَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة "، وَلَكِن قَالَ فِي " شرح الْمُهَذّب ": (الصَّوَاب أَنَّهَا لَيست شُرُوطًا، وَإِن سميت بذلك فمجاز، وَإِنَّمَا هِيَ مبطلات) .

(3/1075)


وَقَالَ فِي " التَّحْقِيق ": (غلط من عدهَا شُرُوطًا) انْتهى.
وَالْفرق بَينهمَا - على تَقْدِير التغاير -: أَن الشَّرْط لَا بُد أَن يكون وَصفا وجوديا، وَأما عدم الْمَانِع فعدمي.
وَيظْهر أثر ذَلِك فِي أَن عدم الْمَانِع يكْتَفى فِيهِ بِالْأَصْلِ، وَالشّرط لَا بُد من تحَققه، فَإِذا شكّ فِي شَيْء يرجع لهَذَا الأَصْل.
وَلذَلِك عدت الطَّهَارَة شرطا؛ لِأَن الشَّك فِيهَا مَعَ تَيَقّن ضدها المستصحب يمْنَع انْعِقَاد الصَّلَاة.
قَالُوا: وَيلْزم من ادّعى اتحادهما اجْتِمَاع النقيضين، فِيمَا إِذا شككنا فِي طريان الْمَانِع؛ لأَنا - حِينَئِذٍ - نشك فِي عَدمه، وَالْفَرْض أَن عَدمه شَرط، فَمن حَيْثُ إِنَّه شَرط لَا يُوجد الْمَشْرُوط، وَمن حَيْثُ إِن الشَّك فِي طريان الْمَانِع لَا أثر لَهُ، فيوجد الْمَشْرُوط وَهُوَ تنَاقض.
الثَّالِثَة: سَبَب السَّبَب ينزل منزلَة السَّبَب، لِأَن مَا توقف على المتوقف عَلَيْهِ مُتَوَقف عَلَيْهِ: كالإعتاق فِي الْكَفَّارَة سَبَب للسقوط عَن الذِّمَّة،

(3/1076)


وَالْإِعْتَاق يتَوَقَّف على اللَّفْظ المحصل لَهُ.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (الشَّرْط، وجزؤه، وجزء الْعلَّة، كل مِنْهَا يلْزم من عَدمه الْعَدَم وَلَا يلْزم من وجوده وجود وَلَا عدم فَهِيَ تَلْتَبِس.
وَالْفرق: أَن مُنَاسبَة الشَّرْط وجزئه فِي غَيره، ومناسبة جُزْء الْعلَّة فِي نَفسه.
مِثَاله: الْحول، مناسبته فِي السَّبَب الَّذِي هُوَ النّصاب، لتكملته الْغنى الْحَاصِل بِهِ التنمية، وجزء الْعلَّة الَّذِي هُوَ النّصاب مناسبته من نَفسه، من حَيْثُ إِنَّه مُشْتَمل على بعض الْغنى، فالعلة وجزؤها مؤثران، وَالشّرط مكمل لتأثير الْعلَّة.
وَمن ثمَّ عرف بَعضهم الشَّرْط: بِمَا توقف عَلَيْهِ تَأْثِير الْمُؤثر.
قَالَ: وَمِنْهَا: الحكم، كَمَا يتَوَقَّف على وجود سَببه، يتَوَقَّف على وجود شَرطه، فَمَا الْفرق؟
وَالْجَوَاب: بِمَا سبق، من كَون السَّبَب مؤثرا مناسبا فِي نَفسه، وَالشّرط مكمل مُنَاسِب فِي غَيره.

(3/1077)


قَالَ: وَمِنْهَا: أَن أَجزَاء الْعلَّة يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الحكم، والعلل المتعددة إِذا وجدت ترَتّب الحكم، فَمَا الْفرق؟
وَالْجَوَاب: أَن جُزْء الْعلَّة إِذا انْفَرد لَا يَتَرَتَّب [عَلَيْهِ] الحكم، بل لَا بُد من وجود بَقِيَّة أَجْزَائِهَا: كأوصاف الْقَتْل الْعمد الْعدوان، إِذا اجْتمعت وَجب الْقود، وَلَو انْفَرد بَعْضهَا كَالْقَتْلِ خطأ أَو عمدا فِي حد أَو قصاص، أَو قتل الْعَادِل الْبَاغِي، لم يجب الْقود، بِخِلَاف الْعِلَل المتعددة، فَإِن بَعْضهَا إِذا انْفَرد اسْتَقل بالحكم: كمن لمس ونام وبال، وَجب الْوضُوء بجميعها، وَبِكُل وَاحِد مِنْهَا.
نعم، إِذا اجْتمعت كَانَ حكما ثَابتا بعلل كَمَا يَأْتِي) انْتهى.
وَهُوَ معنى مَا تقدم من كَلَام الْقَرَافِيّ، وَلكنه نقحه.
وَيَأْتِي فِي الْعلَّة الْفرق بَين الْعلَّة وَالسَّبَب.
الرَّابِعَة: الْمَوَانِع الشَّرْعِيَّة، مِنْهَا: مَا يمْنَع ابْتِدَاء الحكم واستمراره: كالرضاع يمْنَع ابْتِدَاء النِّكَاح واستمراره إِذا طَرَأَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: مَا يمْنَع ابتداءه فَقَط: كالعدة تمنع ابْتِدَاء النِّكَاح، وَلَا تبطل استمراره.

(3/1078)


وَمِنْهَا: مَا اخْتلف فِيهِ: كالإحرام، يمْنَع ابْتِدَاء الصَّيْد، فَإِن طَرَأَ على الصَّيْد إِحْرَام، فَهَل تجب إِزَالَة الْيَد عَنهُ؟ وَالصَّحِيح: أَنه يجب.
وكالطول، يمْنَع ابْتِدَاء نِكَاح الْأمة، فَإِن طَرَأَ عَلَيْهِ فَهَل يُبطلهُ؟ وَالصَّحِيح: أَنه لَا يُبطلهُ.
وكوجود المَاء، يمْنَع ابْتِدَاء التَّيَمُّم فَلَو طَرَأَ وجود المَاء عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة، هَل يبطل؟ وَالصَّحِيح: أَنه يُبطلهُ، وَمَا ذَاك إِلَّا لتردد هَذَا الْقسم بَين الْقسمَيْنِ قبله، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَنصب هَذِه الْأَشْيَاء مفيدة مقتضياتها، حكم شَرْعِي} .
هَذِه الْأَشْيَاء، إِشَارَة إِلَى مَا سبق من أَصْنَاف الْعلم الْمَنْصُوب لتعريف الحكم الشَّرْعِيّ الوضعي، وَهِي: الْعلَّة، وَالسَّبَب، وَالشّرط، وَالْمَانِع.
وَقَوله: (مفيدة) ، مَنْصُوب على الْحَال، أَي: نصبها حَال إفادتها، أَو معدة لإفادتها.

(3/1079)


وَمعنى الْكَلَام: أَن نصب هَذِه الْأَشْيَاء لتفيد مَا اقتضته من الْأَحْكَام هُوَ حكم شَرْعِي، أَي: قَضَاء من الشَّارِع بذلك، ومقتضاها - أَيْضا - حكم شَرْعِي، فَجعل الزِّنَى سَببا لوُجُوب الْحَد حكم شَرْعِي، وَوُجُوب الْحَد حكم آخر.
وَذَلِكَ أَن لله تَعَالَى فِي الزَّانِي حكمين: وجوب الْحَد، وَهُوَ حكم لَفْظِي، وسببية الزِّنَى، أَي: كَون الزِّنَى سَببا لوُجُوب الْحَد حكم آخر.
وَكَذَلِكَ وجوب حد الْقَذْف، مَعَ جعل الْقَذْف سَببا لَهُ، وَوُجُوب الْقطع، مَعَ نصب السّرقَة سَببا لَهُ، وَوُجُوب الْقَتْل بِالرّدَّةِ وَالْقصاص، مَعَ نصب الرِّدَّة وَالْقَتْل سَببا لَهما، ونظائره كَثِيرَة.
وَتقدم أَن خطاب الْوَضع وخطاب التَّكْلِيف مجتمعان، وَهل يتَصَوَّر انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر؟ عِنْد تَقْسِيم الْخطاب.
قَوْله: {وَالصِّحَّة وَالْفساد مِنْهُ} .

(3/1080)


أَي: من خطاب الْوَضع، هَذَا الصَّحِيح، وَاخْتَارَهُ أَصْحَابنَا وَغَيرهم، لِأَنَّهُمَا من الْأَحْكَام، وليسا داخلين فِي الِاقْتِضَاء والتخيير، لِأَن الحكم بِصِحَّة الْعِبَادَة وبطلانها، وبصحة الْمُعَامَلَة وبطلانها، لَا يفهم مِنْهُ اقْتِضَاء وَلَا تَخْيِير، فَكَانَا من خطاب الْوَضع.
{ [وَقَالَ جمَاعَة] : معنى الصِّحَّة: الْإِبَاحَة، و} معنى {الْبطلَان: الْحُرْمَة
و [ذهب] ابْن الْحَاجِب وَجمع: [إِلَى أَن الصِّحَّة والبطلان] أَمر عَقْلِي} ، غير مُسْتَفَاد من الشَّرْع، فَلَا يكون دَاخِلا فِي الحكم الشَّرْعِيّ.
وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهُمَا أَمر عَقْلِي، لِأَن الصِّحَّة فِي الْعِبَادَة، إِمَّا لكَون الْفِعْل مسْقطًا للْقَضَاء، كَمَا هُوَ مَذْهَب الْفُقَهَاء، أَو لموافقة الْأَمر الشَّرِيعَة، كَمَا هُوَ مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين.

(3/1081)


فَصَلَاة من ظن الطَّهَارَة ثمَّ تبين خَطؤُهُ، غير [صَحِيحَة] على الأول، لعدم سُقُوط الْقَضَاء، وصحيحة على الثَّانِي، لكَونهَا مُوَافقَة لأمر الشَّارِع.
وَلَا شكّ أَن الْعِبَادَة إِذا اشْتَمَلت على أَرْكَانهَا وشرائطها حكم الْعقل بِصِحَّتِهَا بِكُل من التفسيرين، سَوَاء حكم الشَّارِع بهَا، أَو لَا.
قَالَ الْآمِدِيّ: (يبعد أَن يكون الحكم بهما شَرْعِيًّا، لِأَن كَون الْفِعْل مُوَافقا للشَّرْع، أَو غير مُوَافق، مدرك بِالْعقلِ) .
وَلَكِن رد: بِأَن الشَّرْع إِذا كَانَ لَهُ فِي ذَلِك مدْخل، كَيفَ يكون عقليا؟
وَزعم القطب الشِّيرَازِيّ: إِنَّمَا ذَلِك فِي الْعِبَادَات فَقَط، وَأما ترَتّب آثَار الْعُقُود عَلَيْهَا فشرعي قطعا.
وَهُوَ مَرْدُود بِعَدَمِ الْفرق؛ لِأَن التَّرْتِيب فيهمَا مَعًا مدرك بِالْعقلِ، وَإِنَّمَا حكم بالْقَوْل الرَّاجِح بِأَنَّهُ شَرْعِي لكَون الشَّرْع لَهُ فِيهِ مدْخل، وَلذَلِك يحكم القَاضِي فِي الْعُقُود بِالصِّحَّةِ وَالْفساد، وَهُوَ لَا يحكم إِلَّا بِأَمْر شَرْعِي لَا عَقْلِي.
قَوْله: {فالصحة فِي الْعِبَادَة: سُقُوط الْقَضَاء بِالْفِعْلِ، عِنْد الْفُقَهَاء،

(3/1082)


وَعند الْمُتَكَلِّمين وَغَيرهم: مُوَافقَة الْأَمر} ، وَجب الْقَضَاء أم لَا.
ورد ذَلِك: بِأَن وجوب الْقَضَاء إِنَّمَا يتَحَقَّق بعد خُرُوج الْوَقْت، لَا سِيمَا إِذا قُلْنَا: بِأَمْر جَدِيد لَا بِالْأَمر الأول، وَإِذا لم يجب فَكيف يسْقط؟ ثمَّ إِن هَذَا قَاصِر على مُؤَقّت يدْخلهُ الْقَضَاء، والبحث فِي صِحَة الْعِبَادَة مُطلقًا.
قولهن: {فَصَلَاة من ظن الطَّهَارَة صَحِيحَة على الثَّانِي فَقَط} .
يَعْنِي: وعَلى الأول غير صَحِيحَة، كَأَن الْمُتَكَلِّمين نظرُوا لظن الْمُكَلف، وَالْفُقَهَاء لما فِي نفس الْأَمر.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: (اللَّائِق بقواعد الْفَرِيقَيْنِ الْعَكْس.
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: " هَذَا الْبناء فِيهِ نظر، لِأَن من قَالَ: مُوَافقَة الْأَمر، إِن أَرَادَ الْأَمر الْأَصْلِيّ فَلم يسْقط، أَو الْأَمر بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ، فقد تبين فَسَاد الظَّن، فَيلْزم أَن لَا يكون صَحِيحا، من حَيْثُ عدم مُوَافقَة الْأَمر الْأَصْلِيّ، وَلَا الْأَمر بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ ".
وَمَا قَالَه ظَاهر) .
وَقَالَ بَعضهم: (النَّقْل عَن الْفُقَهَاء فِيهِ نظر؛ لأَنهم لَهُم فروعا تدل على خلاف ذَلِك) .

(3/1083)


قَوْله: {وَالْقَضَاء وَاجِب، عَلَيْهِمَا} - أَي: على الْقَوْلَيْنِ: قَول الْفُقَهَاء وَقَول الْمُتَكَلِّمين - {عِنْد الْأَكْثَر} ، وَقَطعُوا بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيح، { [وَيكون الْخلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ لفظيا] } .
وَقد صرح الْغَزالِيّ والقرافي: أَن الْخلاف الْمَذْكُور فِي الْغَايَة للصِّحَّة لَفْظِي، لِاتِّفَاق الْفَرِيقَيْنِ على أَنه إِن لم يتَبَيَّن الْحَدث فقد أدّى مَا عَلَيْهِ، ويثاب، وَإِلَّا فَيجب الْقَضَاء.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (لَكِن دَعْوَى الِاتِّفَاق فِي الْحَالة الثَّانِيَة على الْقَضَاء مَرْدُود، فقد حكى ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره " فِي مَسْأَلَة الْإِجْزَاء: أَنه لَا قَضَاء) .
قَالَه تبعا للآمدي، ورده ابْن مُفْلِح على مَا يَأْتِي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَكَأن المُرَاد: أَن الْمُتَكَلِّمين إِنَّمَا لم يوجبوا الْقَضَاء، على تَقْدِير اسْتِمْرَار الْحَال لَو لم يرد نَص بِلُزُوم الْقَضَاء، لكنه ورد بِأَمْر جَدِيد، كَمَا حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " عَنْهُم) .

(3/1084)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَعِنْدنَا قَول مثله، فِيمَا إِذا صلى بِنَجس لم يُعلمهُ، أَو مَكْشُوف الْعَوْرَة سَاهِيا، أَنَّهَا صَحِيحَة، وَلَا قَضَاء، نظرا لموافقة الْأَمر حَال التَّلَبُّس) .
قلت: وَهُوَ قَول لنا قوي، فِيمَا إِذا صلى بِنَجس سَاهِيا أَو جَاهِلا.
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيص ": (إِنَّمَا صَار الْفُقَهَاء إِلَى هَذَا فِي أصل، وَهُوَ أَن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة صَحِيحَة، مَعَ كَونهَا على خلاف مُقْتَضى الشَّرْع، يدل على أَن الصَّحِيح: مَا لم يجب قَضَاؤُهُ، وَلَو خَالف مُقْتَضى الشَّرْع) .
وَقَالَ الْغَزالِيّ: (يتَخَرَّج على الْخلاف فِيمَا قطع صلَاته لأجل غريق، فَهِيَ صَحِيحَة عِنْد الْمُتَكَلِّمين، بَاطِلَة عِنْد الْفُقَهَاء) .
قَوْله: {وَفِي الْمُعَامَلَة: ترَتّب أَحْكَامهَا الْمَقْصُودَة بهَا عَلَيْهَا} .
وَذَلِكَ لِأَن العقد لم يوضع إِلَّا لإِفَادَة مَقْصُود كَمَال النَّفْع فِي البيع، وَملك الْبضْع فِي النِّكَاح، فَإِذا أَفَادَ مَقْصُوده فَهُوَ صَحِيح، وَحُصُول مَقْصُوده: هُوَ ترَتّب حكمه عَلَيْهِ، لِأَن العقد مُؤثر لحكمه وَمُوجب لَهُ.
قَالَ الْآمِدِيّ: (وَلَا بَأْس بتفسير الصِّحَّة فِي الْعِبَادَات بِهَذَا) .

(3/1085)


قَالَ الطوفي: (لِأَن مَقْصُود الْعِبَادَة، رسم التَّعَبُّد، وَبَرَاءَة ذمَّة العَبْد مِنْهَا، فَإِذا أفادت ذَلِك، كَانَ هُوَ معنى قَوْلنَا: إِنَّهَا كَافِيَة فِي سُقُوط الْقَضَاء، فَتكون صَحِيحَة) انْتهى.
قَوْله: { [ويجمعهما: ترَتّب الْأَثر الْمَطْلُوب من الْفِعْل عَلَيْهِ] } .
أَكثر الْأُصُولِيِّينَ يفرد كل وَاحِد من الصِّحَّة فِي الْعِبَادَات، وَالصِّحَّة فِي الْمُعَامَلَات بِحَدّ، لِأَن جمع الْحَقَائِق الْمُخْتَلفَة فِي حد وَاحِد لَا يُمكن.
صرح بِهِ ابْن الْحَاجِب فِي تَقْسِيم الِاسْتِثْنَاء إِلَى مُنْقَطع ومتصل، لَكِن ذَلِك مَخْصُوص بِمَا إِذا أُرِيد تَمْيِيز الْحَقِيقَة عَن الْأُخْرَى بالذاتيات، وَأما غَيره فَيجوز، فَلذَلِك جَمعنَا بَينهمَا فِي تَعْرِيف وَاحِد، لصدقه عَلَيْهِمَا، تبعا للكوراني فِي ذَلِك لما يَأْتِي فِي كَلَامه، وجمعهما فِي " جمع الْجَوَامِع "، والبرماوي وَغَيرهمَا بِحَدّ وَاحِد فَقَالُوا: (رسم الصِّحَّة: مُوَافقَة ذِي الْوَجْهَيْنِ الشَّرْع سَوَاء كَانَ ذَلِك الْمُوَافق عبَادَة أَو مُعَاملَة. فَمَا لَيْسَ لَهُ وَجْهَان لَا يُوصف بِصِحَّة وَلَا فَسَاد: كمعرفة الله تَعَالَى، ورد الْوَدِيعَة، فَإِنَّهُ إِمَّا أَن

(3/1086)


يعرف الله تَعَالَى، أَو لَا يعرفهُ، وَإِمَّا أَن يرد الْوَدِيعَة، أَو لَا يردهَا، بِخِلَاف نَحْو الصَّلَاة، وَالصَّوْم، وَالْبيع، وَالْإِجَارَة، وَنَحْوهَا، فَإِن صورته تقع على وَجْهَيْن:
مَا اجْتمعت فِيهِ الشُّرُوط، وانتفت عَنهُ الْمَوَانِع يكون صَحِيحا. وَمَا اخْتَلَّ فِيهِ شَيْء من ذَلِك يكون فَاسِدا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: صورته كَذَلِك؛ لِأَن الْإِطْلَاق الشَّرْعِيّ على المختل بِرُكْن أَو شَرط منفي بِالْحَقِيقَةِ، لِأَن الْمركب يَنْتَفِي بِانْتِفَاء جزئه، وَلذَلِك قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للمسيء فِي صلَاته: " ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل ".)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَهُوَ أحسن مَا حمل عَلَيْهِ نَحْو: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ "،

(3/1087)


و " لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب "، أَي: لَا عمل شَرْعِيًّا، وَلَا صَلَاة شَرْعِيَّة، [فنفيه] نفي حَقِيقِيّ، حَيْثُ كَانَ خَالِيا مِمَّا ذكر، حَتَّى لَا يحْتَاج لتقدير مَحْذُوف) انْتهى.
وَقد حكى الْأَصْفَهَانِي فِي تنَاول الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة الْفَاسِد من صَلَاة وَبيع وَنِكَاح وَغَيرهَا، ثَلَاثَة أَقْوَال: (ثَالِثهَا: تَشْمَل مَا كَانَ من أَسمَاء الْأَفْعَال والأعيان من غسل وَوَطْء، وَلَا تَشْمَل مَا كَانَ من أَسمَاء الْأَحْكَام: كتسمية الْغسْل طَهَارَة) انْتهى.

(3/1088)


ولأصحابنا قَولَانِ فِي الْأَيْمَان وَغَيرهَا فِي الْعُقُود، أصَحهمَا: اخْتِصَاصه بِالصَّحِيحِ مِنْهَا، وَلِهَذَا لَو حلف لَا يَبِيع، وَنَحْوه، لَا يَحْنَث بالفاسد مِنْهَا على الْأَصَح بِخِلَاف الْعِبَادَات فَلَا يَشْمَل إِلَّا الصَّحِيح فَقَط، قولا وَاحِدًا، واستثنوا من ذَلِك الْحَج فَيحنث بِالْحَجِّ الْفَاسِد.
ورد الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " تَعْرِيفه فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَغَيره، وَقَالَ: (رد الْوَدِيعَة مِنْهَا صَحِيح، وَمِنْهَا فَاسد: كَمَا لَو ردهَا إِلَى صَاحبهَا بعد جُنُونه، وَكَذَلِكَ الْمعرفَة بِاللَّه؛ لِأَن الْمعرفَة - أَيْضا - إِن لم تكن على الْوَجْه الْمُوَافق للشَّرْع، تكون معرفَة بَاطِلَة؛ لانْتِفَاء مُوجب صِحَّتهَا، وَهُوَ مُطَابقَة الْوَاقِع، وَلَا يضرنا كَونهَا جهلا، إِذْ لَا تنَافِي بَين كَونه جهلا، وَمَعْرِفَة بَاطِلَة.
وَيدل على مَا قُلْنَا: مَا قَالَه عضد الْملَّة وَالدّين، والعلامة التَّفْتَازَانِيّ فِي كِتَابَيْهِمَا المواقف، والمقاصد، فِي بحث النّظر فِي معرفَة الله تَعَالَى ردا على الْمُعْتَزلَة، حَيْثُ استدلوا: بِأَن النّظر فِي معرفَة الله تَعَالَى وَاجِب عقلا، إِذْ الَّذِي حصل الْمعرفَة أحسن حَالا من غَيره.
قُلْنَا: نعم إِذا حصل الْمعرفَة على وَجههَا، والعرفان على وَجه الصَّوَاب، فَإِن التَّقْيِيد بِالْوَجْهِ صَرِيح فِيمَا ذكرنَا) انْتهى.

(3/1089)


وَقَالَ: (لَو قيل: الصِّحَّة مُطلقًا: عبارَة عَن ترَتّب الْأَثر الْمَطْلُوب من الْفِعْل عَلَيْهِ، ليشْمل الْعِبَادَات من غير تَطْوِيل، [لَكَانَ] أولى.
غَايَته: أَن ذَلِك الْأَثر عِنْد الْمُتَكَلِّمين: مُوَافقَة الشَّرْع، وَعند الْفُقَهَاء إِسْقَاط الْقَضَاء.
وعَلى هَذَا يكون الْخلاف رَاجعا إِلَى تعْيين الْأَثر الْمَطْلُوب، لَا إِلَى تَفْسِير الصِّحَّة) انْتهى.
وَلذَلِك تابعناه على هَذَا الْحَد، وَالله أعلم.
وَقد قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ: (لَو قيل: الْمُعَامَلَات ترَتّب ثَمَرَة الْمَطْلُوب مِنْهُ عَلَيْهِ شرعا، اطرد.
وَلَو قيل: الْعِبَادَة صَحِيحَة بِهَذَا التَّفْسِير، فَلَا حرج) انْتهى.
قَوْله: {فبصحة العقد [ترَتّب] أَثَره من ملك وَغَيره} .
آثَار الْعُقُود: هُوَ التَّمَكُّن من التَّصَرُّف فِيمَا هُوَ لَهُ: كَالْبيع إِذا صَحَّ العقد ترَتّب أَثَره من ملك وَجَوَاز التَّصَرُّف فِيهِ، من هبة، ووقف، وَأكل، وَلبس، وانتفاع، وَغير ذَلِك، وَكَذَلِكَ إِذا صَحَّ عقد النِّكَاح، وَالْإِجَارَة، وَالْوَقْف، وَغَيرهَا من الْعُقُود، ترَتّب عَلَيْهَا أَثَرهَا مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّارِع لَهُ بِهِ، فينشأ ذَلِك عَن العقد.

(3/1090)


تَنْبِيه: يرد على قَوْلنَا: (فبصحة العقد ترَتّب أَثَره) ، الْكِتَابَة الْفَاسِدَة، وَنَحْوهَا، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهَا أَثَرهَا من الْعتْق مَعَ أَنَّهَا غير صَحِيحَة.
وَيُجَاب عَنهُ: بِأَن ترَتّب الْأَثر فِيهَا لَيْسَ من جِهَة العقد، بل للتعليق، وَهُوَ صَحِيح لَا خلل فِيهِ.
وَنَظِير ذَلِك: الْمُضَاربَة وَالْوكَالَة الفاسدتان، يَصح فيهمَا التَّصَرُّف لوُجُود الْإِذْن، وَإِن لم يَصح العقد.
قَوْله: {وبصحة الْعِبَادَة يَتَرَتَّب إجزاؤها} .
[أَي] إِجْزَاء الْعِبَادَة ينشأ عَن صِحَّتهَا، فَيُقَال: صحت الْعِبَادَة وأجزأت.
{و} قد قيل فِي معنى الْإِجْزَاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

(3/1091)


فَقيل: {هُوَ الْكِفَايَة فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد، [وَهُوَ الْأَظْهر] } ، فَإِذا صحت الْعِبَادَة ترَتّب الْإِجْزَاء، وَهُوَ إِسْقَاط التَّعَبُّد، وينقل عَن الْمُتَكَلِّمين.
وَقيل: الْإِجْزَاء: هُوَ الْكِفَايَة فِي إِسْقَاط الْقَضَاء، وينقل عَن الْفُقَهَاء على مَا سبق تَقْرِير فِي الْغَايَة فِي الصِّحَّة، لِأَنَّهُ قريب من معنى الصِّحَّة، وَلَكِن الْفرق بَينهمَا من وَجْهَيْن.
أَحدهمَا: أَن مَحل الصِّحَّة أَعم من مَحل الْإِجْزَاء، فَإِن الصِّحَّة موردها الْعِبَادَة وَغَيرهَا، ومورد الْإِجْزَاء الْعِبَادَة فَقَط، بل زعم بَعضهم: اخْتِصَاصه بِالْوَاجِبِ، على مَا يَأْتِي قَرِيبا بَيَانه.
الثَّانِي: أَن معنى الْإِجْزَاء عدمي، وَمعنى الصِّحَّة وجودي، وَذَلِكَ لِأَن الْعِبَادَة المأتي بهَا على وَجه الشَّرْع لازمها وصفان: وجودي: وَهُوَ مُوَافقَة الشَّرْع، وَهَذَا هُوَ الصِّحَّة.

(3/1092)


[وَالْآخر عدمي] : وَهُوَ سُقُوط التَّعَبُّد بِهِ، أَو سُقُوط الْقَضَاء - على الْخلاف فِيهِ - وَهَذَا هُوَ الْإِجْزَاء.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (قلت: وَفرق ثَالِث: أَن الْإِجْزَاء مُرَتّب على الصِّحَّة.
فالإجزاء - حِينَئِذٍ - كَون الْفِعْل على وَجه يسْقط التَّعَبُّد، لَا نفس السُّقُوط، وَلَا الْإِسْقَاط، كَمَا وَقع لبَعض الْأُصُولِيِّينَ) .
قَوْله: { [فَفعل الْمَأْمُور بِهِ] بِشُرُوطِهِ يستلزمه إِجْمَاعًا} .
أَي: يسْتَلْزم الْإِجْزَاء، إِذا فسرنا الْإِجْزَاء بِإِسْقَاط التَّعَبُّد، فالامتثال مُحَصل للإجزاء بِلَا خلاف، وَلذَلِك أَتَيْنَا بِالْفَاءِ، فَإِنَّهُ مُرَتّب على قَوْلنَا: (وَهُوَ الْكِفَايَة فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (الْإِجْزَاء: امْتِثَال الْأَمر.
فَفعل الْمَأْمُور بِهِ بِشُرُوطِهِ يحققه إِجْمَاعًا) .
قَوْله: {وَقيل: فِي إِسْقَاط الْقَضَاء} .

(3/1093)


تقدم أَن الْإِجْزَاء: هُوَ الْكِفَايَة فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد، وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا تقدم.
وَقيل: هُوَ الْكِفَايَة فِي إِسْقَاط الْقَضَاء، فعلى هَذَا القَوْل يسْتَلْزم الْإِتْيَان بالمأمور الْإِجْزَاء - أَيْضا - عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَكَذَا إِن فسر الْإِجْزَاء بِسُقُوط الْقَضَاء، عندنَا وَعند عَامَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين) .
وَإِلَّا لَكَانَ الْأَمر بعد الِامْتِثَال مقتضيا، إِمَّا لما فعل، وَهُوَ تَحْصِيل الْحَاصِل، وَإِمَّا لغيره، فالمجموع مَأْمُور بِهِ، فَلم يفعل إِلَّا بعضه، وَالْفَرْض خِلَافه.
والمخالف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: أَبُو هَاشم، وَعبد الْجَبَّار، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا يسْتَلْزم الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ الْإِجْزَاء، كَمَا لَا يسْتَلْزم النَّهْي الْفساد، وَنَقله ابْن مُفْلِح عَن ابْن الباقلاني.

(3/1094)


وَتَقْرِير الْجَامِع بَين الْأَمر وَالنَّهْي: أَن كلا مِنْهُمَا طلب جازم لَا إِشْعَار لَهُ بذلك، وَأَيْضًا: الْأَمر ضد النَّهْي، وَالنَّهْي لَا يدل على الْفساد، فَلَا يدل الْأَمر على الْإِجْزَاء، لِأَن الشَّيْء يحمل على ضِدّه، كَمَا يحمل على مثله، وَالْفرق: أَن الْأَمر هُوَ: اقْتِضَاء الْفِعْل، فَإِذا أُدي مرّة فقد انْتهى الِاقْتِضَاء، وَأما النَّهْي فمدلوله الْمَنْع من الْفِعْل، فَإِن خَالف وأتى بِهِ، فَلَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يَقْتَضِي التَّعَرُّض لحكمه، وَلَا مُنَافَاة بَين النَّهْي عَنهُ، وَبَين أَن يَقُول: فَإِن أتيت بِهِ جعلته سَببا لحكم آخر، مَعَ كَونه مَمْنُوعًا مِنْهُ، قَالَ ذَلِك جمع.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (وَجه الأول: لَو لم يسْتَلْزم لم يعلم امْتِثَال.
رد: بِصَلَاة من عدم مَاء وترابا، امتثل مَعَ بَقَاء التَّكْلِيف، كَذَا قيل.
وَلِأَن الْقَضَاء اسْتِدْرَاك مَا فَاتَ من الْأَدَاء، وَقد أَتَى بِجَمِيعِ الْمَأْمُور بِهِ، فَيكون تحصيلا للحاصل.
ورد: بِأَن الْأَدَاء الْمُسْتَدْرك بِالْقضَاءِ، غير الْأَدَاء الْحَاصِل، كَذَا قيل.
وَلِأَنَّهُ لَو لم يسْقط بِالْأَمر قيل فِي الْقَضَاء مثله، لِأَنَّهُ مَأْمُور بِهِ، فَلَا يتَصَوَّر إِجْزَاء بِفعل مَأْمُور بِهِ.
وَاحْتج ابْن عقيل وَغَيره: (بِأَن الذِّمَّة إِنَّمَا اشتغلت بِهِ وبالنهي) .

(3/1095)


وَاحْتج أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (بِأَنَّهُ لَا يجوز قَوْله لعَبْدِهِ: افْعَل كَذَا، فَإِذا فعلته كَمَا أَمرتك لم يجزئك، وَعَلَيْك الْقَضَاء، للتناقض) .
قَالُوا: لَو استلزم، لزم أَن لَا يُعِيد، أَو يَأْثَم إِذا علم الْحَدث بَعْدَمَا صلى بِظَنّ الطَّهَارَة، لِأَنَّهُ إِمَّا مَأْمُور بِالصَّلَاةِ بِظَنّ الطَّهَارَة، أَو بيقينها.
قَالَ الْآمِدِيّ: (لَا نسلم وجوب الْقَضَاء على قَول لنا) ، كَذَا قَالَ.
وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب فِي ذكر الْخلاف - كَمَا تقدم عَنهُ - وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع، لَكِن لَيْسَ قَضَاء لما أَتَى بِهِ، بل لما أَمر بِهِ أَولا من الصَّلَاة بشرطها.
وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن - من أَصْحَابنَا -: (لَو صلى بِظَنّ الطَّهَارَة وَمَات عَقبهَا، سقط الْقَضَاء، وَلَا إِجْزَاء) .
وأبطله الْآمِدِيّ: (بِأَن الْأَجْزَاء لَيْسَ بِسُقُوط الْقَضَاء مُطلقًا، بل فِي حق من يتَصَوَّر فِي حَقه قَضَاء) .
قَالَ: وَقيل: الْإِجْزَاء: مَا كفى لسُقُوط التَّعَبُّد بِهِ، لِأَن سُقُوط الْقَضَاء يُعلل بالأجزاء، وَالْعلَّة غير الْمَعْلُول.

(3/1096)


وَلِأَن الْقَضَاء لم يجب لانْتِفَاء مُوجبه، فَكيف سقط؟
قَالُوا: يُؤمر من أفسد حجه بِالْأَدَاءِ، وَلَا إِجْزَاء.
رد: أَمر بِحَجّ صَحِيح، وَلم يَأْتِ بِهِ، وَهَذَا غَيره، وَهُوَ مجز فِي إِسْقَاط الْأَمر بِهِ) انْتهى.
قَوْله: {فالإجزاء [مُخْتَصّ] بِالْعبَادَة} مُطلقًا.
يَعْنِي: سَوَاء كَانَت الْعِبَادَة وَاجِبَة، أَو مُسْتَحبَّة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَنَقله السُّبْكِيّ عَن الْفُقَهَاء، وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (هَذَا الْمَشْهُور) .
فَيُقَال: قِرَاءَة الْفَاتِحَة فَقَط تجزيء فِي النَّافِلَة، كَمَا يُقَال ذَلِك فِي الْوَاجِب.
وَلَا يُقَال لغير الْعِبَادَة، فَلَا يُقَال فِي الْمُعَامَلَات تجزيء، بل موردها الْعِبَادَة فَقَط، بِخِلَاف الصِّحَّة كَمَا تقدم.
وَقَالَ الْقَرَافِيّ والأصفهاني فِي شرحيهما ل " الْمَحْصُول "، و " شرح التَّنْقِيح " للقرافي وَغَيرهمَا: (يخْتَص الْإِجْزَاء بِالْوَاجِبِ من الْعِبَادَة

(3/1097)


فَقَط، فَلَا يجْرِي فِي كل مَطْلُوب، حَتَّى أَن من أوجب الْأُضْحِية اسْتدلَّ بِحَدِيث: " أَرْبَعَة لَا تجزيء فِي الْأَضَاحِي "، فَلَو لم تكن وَاجِبَة لما عبر بالإجزاء.
وَكَذَا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي بردة: " وَلنْ تجزيء عَن أحد بعْدك " على أحد الْوَجْهَيْنِ فِي ضَبطه، وَهُوَ ضم التَّاء والهمزة، لَا على فتح التَّاء بِلَا همزَة، بِمَعْنى: تقضي وتغني.
لَكِن نَحن نمْنَع ذَلِك، ونقول: بِأَن الدَّلِيل دلّ على أَنَّهَا سنة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على اسْتِعْمَال الْإِجْزَاء فِي السّنة، وَنقل عَن الْفُقَهَاء.

(3/1098)


وَاعْترض: بِأَن أَصْحَاب الشَّافِعِي استدلوا على وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة بِرِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ: " لَا تجزيء صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن "، وَاسْتدلَّ على وجوب الِاسْتِنْجَاء بِحَدِيث: " إِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فليذهب مَعَه بِثَلَاثَة أَحْجَار، فَإِنَّهَا تجزيء عَنهُ "، والإجزاء لَا يُقَال إِلَّا

(3/1099)


على الْوَاجِب.
وَقد يُجَاب عَن ذَلِك: بِأَنَّهُم إِنَّمَا أوردوه ردا على مخالفهم، لاعْتِقَاده أَن الْإِجْزَاء لَا يُقَال إِلَّا فِي الْوَاجِب، وَالرَّدّ يَقع بِمَا يَعْتَقِدهُ الْخصم، وَإِن لم يَعْتَقِدهُ الرَّاد.
وَفِي هَذَا الْجَواب نظر.
قَوْله: {وَالْقَبُول كالصحة [مُطلقًا] ، وَقيل [الْقبُول أخص] ، [فتوجد] صِحَة بِلَا قبُول} .

(3/1100)


وَحَاصِل ذَلِك: أَن الْقبُول هَل هُوَ مثل الصِّحَّة، أَو تُوجد صِحَة بِلَا قبُول، فَتكون الصِّحَّة أَعم، فَكلما وجد الْقبُول وجدت الصِّحَّة وَلَا عكس؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء.
أَحدهمَا: أَن الصِّحَّة وَالْقَبُول متلازمان، فَإِذا نفي أَحدهمَا انْتَفَى الآخر، وَإِذا وجد أَحدهمَا وجد الآخر، وَهُوَ قَوْلنَا: (مُطلقًا) ، أَي: فِي الْإِثْبَات وَالنَّفْي، وَهَذَا الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن، وَهُوَ الَّذِي رَجحه ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " - على مَا يَأْتِي - وَغَيره.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الصِّحَّة تنفك عَن الْقبُول؛ لِأَن الْقبُول أخص من الصِّحَّة، إِذْ كل مَقْبُول صَحِيح، وَلَيْسَ كل صَحِيح مَقْبُولًا.
وَاسْتدلَّ لذَلِك بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أَتَى عرافا لم تقبل لَهُ صَلَاة ".

(3/1101)


" إِذا أبق العَبْد لم تقبل لَهُ صَلَاة حَتَّى يرجع إِلَى موَالِيه "، و " من شرب الْخمر لم تقبل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ صباحا "، وَنَحْو ذَلِك.
فَيكون الْقبُول هُوَ الَّذِي يحصل بِهِ الثَّوَاب وَنَحْوه، وَالصِّحَّة قد تُوجد فِي الْفِعْل وَلَا ثَوَاب فِيهِ: كَالصَّلَاةِ فِي مَوضِع مَغْصُوب عِنْد الْقَائِل بِالصِّحَّةِ، كَمَا تقدم فِي الصَّلَاة فِي مَوضِع مَغْصُوب، فَلَا يلْزم - حِينَئِذٍ - من نفي الْقبُول نفي الصِّحَّة، لَكِن قد أَتَى نفي الْقبُول فِي الشَّرْع تَارَة بِمَعْنى نفي الصِّحَّة، كَمَا فِي حَدِيث: " لَا تقبل صَلَاة بِغَيْر طهُور وَلَا صَدَقَة من غلُول "،

(3/1102)


و " لَا تقبل صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار "، و " لَا تقبل صَلَاة أحدكُم إِذا أحدث حَتَّى يتَوَضَّأ "، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {فَلَنْ يقبل من أحدهم ملْء الأَرْض ذَهَبا وَلَو افتدى بِهِ} [آل عمرَان: 91] ، {أَن تقبل مِنْهُم نفقاتهم} [التَّوْبَة: 54] . وَتارَة تَأتي بِنَفْي الْقبُول مَعَ وجود الصِّحَّة، كَمَا فِي الْأَحَادِيث السَّابِقَة فِي الْآبِق، وشارب الْخمر، و " من أَتَى عرافا ".
وَقد حُكيَ الْقَوْلَيْنِ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَرجح أَن الصَّحِيح لَا يكون إِلَّا مَقْبُولًا، وَلَا يكون مردودا إِلَّا وَهُوَ بَاطِل.
وَيرد عَلَيْهِ مَجِيء الْأَمريْنِ من الشَّاعِر كَمَا تقدم.

(3/1103)


وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (ظهر لي فِي الْأَحَادِيث الَّتِي نفي فِيهَا الْقبُول، وَلم تنتف مَعَه الصِّحَّة - كَصَلَاة شَارِب الْخمر وَنَحْوه - أَنا نَنْظُر فِيمَا نفي فِيهِ الْقبُول، فَإِن قارنت ذَلِك الْفِعْل مَعْصِيّة - كَحَدِيث شَارِب الْخمر وَنَحْوه - أَجْزَأَ، فانتفاء الْقبُول، أَي: الثَّوَاب؛ لِأَن إِثْم الْمعْصِيَة أحبطه، وَإِن لم يقارنه مَعْصِيّة - كَحَدِيث " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " وَنَحْوه - فانتفاء الْقبُول سَببه انْتِفَاء الشَّرْط، وَهُوَ الطَّهَارَة وَنَحْوهَا، وَيلْزم من عدم الشَّرْط عدم الْمَشْرُوط) انْتهى.
قَوْله: {فأثر الْقبُول: الثَّوَاب، وَأثر الصِّحَّة: عدم الْقَضَاء} .
هَذَا مَبْنِيّ على القَوْل الثَّانِي، وَهُوَ أَن الْقبُول أخص من الصِّحَّة، فَيكون الْقبُول لَازمه الثَّوَاب، فَلَا يُوجد قبُول إِلَّا بِثَوَاب، وَالثَّوَاب لَا يلْزم الصِّحَّة، فقد تُوجد صِحَة بِلَا ثَوَاب، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُصَلِّي فِي مَغْصُوب إِذا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، فَإِنَّهَا لَا ثَوَاب فِيهَا على الصَّحِيح كَمَا تقدم ذَلِك محررا.
وَقد تُوجد صِحَة بِثَوَاب إِذا كَانَ مَقْبُولًا.
وَأما إِذا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ الَّتِي لَا ثَوَاب فِيهَا، فَإِن الْقَضَاء يَنْتَفِي بهَا، ففائدة الصِّحَّة الَّتِي لَا ثَوَاب فِيهَا عدم الْقَضَاء قطعا.
وَأما حُصُول ثَوَاب مَعَ الصِّحَّة، فَإِن قارنها قبُول حصل، وَإِلَّا فَلَا.
قَوْله: { [وَنفي الْإِجْزَاء كنفي الْقبُول] ، وَقيل: [نفي الْإِجْزَاء] أولى بِالْفَسَادِ} .

(3/1104)


وَمعنى ذَلِك: أَن نفي الْإِجْزَاء كنفي الْقبُول فِيمَا ذكر، فَيُقَال: لَا يجزيء، كَمَا يُقَال: لَا يقبل، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تجزيء صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَربع لَا تجزيء فِي الضَّحَايَا " وَنَحْوه، وَاخْتلف فِي كَيْفيَّة الْخلاف على طَرِيقين:
أَحدهمَا: الْقطع بِأَن نفي الْإِجْزَاء كنفي الْقبُول، فَكلما لَا يقبل يُقَال فِيهِ: لَا يجزيء، وَكلما يُقَال فِيهِ: يقبل، يُقَال فِيهِ: يجزيء.
وَالطَّرِيق الثَّانِيَة: أَن فِيهِ الْخلاف السَّابِق فِي نفي الْقبُول، وَأولى باقتضائه الْفساد، لِأَن الصِّحَّة قد تُوجد حَيْثُ لَا قبُول، بِخِلَاف الْإِجْزَاء مَعَ الصِّحَّة، وَسبق الْفرق بَين الصِّحَّة والإجزاء بِمَا يخدش مَا ذكرنَا هُنَا.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (أما نفي الْإِجْزَاء فَالْمَشْهُور أَنه كنفي الصِّحَّة، فَيَعُود فِيهِ مَا سبق.
وَالثَّانِي: أَنه أولى بِالْفَسَادِ، فَيَعُود فِيهِ الْخلاف بالترتيب؛ لِأَن الصِّحَّة قد تُوجد حَيْثُ لَا قبُول، بِخِلَاف الْإِجْزَاء مَعَ الصِّحَّة) انْتهى.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ: [إِحْدَاهمَا] : الصِّحَّة عقلية: كإمكان الشَّيْء وجودا وعدما، وعادية: كالمشي وَنَحْوه، وشرعية: [كالمذكورة] هُنَا} .

(3/1105)


للصِّحَّة [ثَلَاثَة] معَان:
أَحدهَا: كَونهَا عقلية، وَهِي إِمْكَان الشَّيْء، وقبوله للوجود والعدم.
وَالثَّانِي: كَونهَا عَادِية: كالمشي يَمِينا، وَشمَالًا، وأماما، وخلفا، دون الصعُود فِي الْهَوَاء.
الثَّالِث: كَونهَا شَرْعِيَّة، وَهِي الْإِذْن الشَّرْعِيّ فِي جَوَاز الْإِقْدَام على الْفِعْل، وَهُوَ يَشْمَل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِلَّا التَّحْرِيم فَلَا إِذن فِيهِ، وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة فِيهَا الْإِذْن فِي جَوَاز الْإِقْدَام، وَقد اتّفق النَّاس على أَنه لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة مَنْهِيّ عَنهُ، وَلَا مَأْمُور بِهِ، وَلَا مَشْرُوع على الْإِطْلَاق، إِلَّا وَفِيه الصِّحَّة العادية، وَلذَلِك حصل الِاتِّفَاق - أَيْضا - على أَن اللُّغَة لم يَقع فِيهَا طلب وجود وَلَا عدم إِلَّا فِيمَا يَصح عَادَة، وَإِن جَوَّزنَا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فَذَلِك بِحَسب مَا يجوز على الله، لَا بِحَسب مَا يجوز فِي اللُّغَات، فاللغات مَوضِع إِجْمَاع.
قَوْله: {الثَّانِيَة: النّفُوذ: تصرف لَا يقدر فَاعله على رَفعه، وَقيل: كالصحة} .
لم أعلم الْآن من أَيْن نقلت هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَقَوْلنَا: (تصرف لَا يقدر فَاعله على رَفعه) ، هُوَ كالعقود اللَّازِمَة من البيع وَالْإِجَارَة وَالْوَقْف وَالنِّكَاح وَنَحْوهَا، إِذا اجْتمعت شُرُوطهَا، وانتفت موانعها، وَكَذَلِكَ الْعتْق وَالطَّلَاق وَالْفَسْخ وَنَحْوهَا.

(3/1106)


قَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (نفذ السهْم نفوذا - كقعد - ونفاذا خرق الرَّمية وَخرج مِنْهَا، وأنفذته بِالْألف، وَنفذ فِي الْأَمر ينفذ نفاذا: مهر فِيهِ، وَنفذ - قولا - نفوذا: قبل وَمضى، وَنفذ الْعتْق، كَأَنَّهُ مستعار من نُفُوذ السهْم، فَإِنَّهُ لَا مرد لَهُ، وَنفذ الْمنزل إِلَى الطَّرِيق: اتَّصل بِهِ، وَنفذ الطَّرِيق: عَم مسلكه لكل أحد، فَهُوَ نَافِذ، أَي: عَام، والمنفذ - مثل مَسْجِد -: مَوضِع النّفُوذ، وَالْجمع منافذ) انْتهى.
فَقَوله: (نفذ الْعتْق، كَأَنَّهُ مستعار من نُفُوذ السهْم) ، هُوَ مَسْأَلَتنَا، فَكَأَن الْعُقُود اللَّازِمَة الْمُتَقَدّمَة مستعار لَهَا النّفُوذ من نُفُوذ السهْم كَمَا قَالَ.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (النَّفاذ: جَوَاز الشَّيْء عَن الشَّيْء والخلوص، كالنفوذ، [ومخالطة] السهْم جَوف الرَّمية، وَخُرُوج طرفه من الشق الآخر، وسائره فِيهِ، كالنفذ، وأنفذ الْأَمر: قَضَاهُ) انْتهى.
قَوْله: (وَقيل: كالصحة) .
يَعْنِي - على هَذَا القَوْل - أَنه إِذا قيل: نفذ البيع وَنَحْوه، أَي: صَحَّ، لَكِن على هَذَا يكون أَعم من القَوْل الْمُقدم، فَإِنَّهُ على هَذَا يُقَال على الْعُقُود الْجَائِزَة، إِذا اجْتمعت شُرُوطًا، وانتفعت موانعها: نفذ العقد، أَي: صَحَّ،

(3/1107)


فَيُقَال فِي صَحِيح الشّركَة وَغَيرهَا: نفذ، أَي: صَحَّ، بِخِلَاف القَوْل الأول، فَإِنَّهُ لَا يُقَال إِلَّا فِي الْعُقُود اللَّازِمَة كَمَا مثلنَا أَولا، وَالله أعلم.
قَالَ ابْن الفركاح فِي " شرح الورقات ": (نُفُوذ العقد أَصله من نُفُوذ السهْم، وَهُوَ بُلُوغ الْمَقْصُود من الرَّمْي، وَكَذَلِكَ العقد إِذا أَفَادَ الْمَقْصُود الْمَطْلُوب مِنْهُ سمي بذلك نفوذا، فَإِذا ترَتّب على العقد مَا يقْصد مِنْهُ - مثل البيع إِذا أَفَادَ الْملك وَنَحْوه - قيل لَهُ: صَحِيح، ويعتد بِهِ، فالاعتداد بِالْعقدِ هُوَ المُرَاد بوصفه [بِالصِّحَّةِ] وبكونه نَافِذا) ، فَجعل الصِّحَّة والنفوذ وَاحِدًا.
وَقَالَ فِي " الورقات ": (وَالصَّحِيح مَا يتَعَلَّق بِهِ النّفُوذ) .
قَوْله: {والبطلان وَالْفساد مُتَرَادِفَانِ، يقابلان الصِّحَّة} على الْقَوْلَيْنِ فِيهَا.
وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وأصحابهما، وَغَيرهم، سَوَاء كَانَ فِي الْعِبَادَات أَو فِي الْمُعَامَلَات، فَهُوَ فِي الْعِبَادَة: عبارَة عَن عدم ترَتّب الْأَثر عَلَيْهَا، أَو عدم سُقُوط الْقَضَاء، أَو عدم مُوَافقَة الْأَمر.

(3/1108)


وَفِي الْمُعَامَلَات: عبارَة عَن عدم ترَتّب الْأَثر عَلَيْهَا.
وَفرق أَبُو حنيفَة بَينهمَا.
وتحرير مذْهبه فِي ذَلِك: أَن الْعِوَضَيْنِ إِن كَانَا غير قابلين للْبيع كالملاقيح بِالدَّمِ، فَهُوَ بَاطِل قطعا؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يقبل البيع الْبَتَّةَ، وَإِن كَانَا بأصلهما قابلين للْبيع، وَلَكِن اشتملا على وصف يَقْتَضِي عدم الصِّحَّة: كالربا فِي الْمُعَامَلَات، فَإِن الدَّرَاهِم بأصلها قَابِلَة للْبيع، وَإِنَّمَا جَاءَ الْبطلَان من الزِّيَادَة فِي أَحدهمَا، أَو النَّسِيئَة، ففاسد قطعا.
وَمثله فِي الْعِبَادَة: صَوْم يَوْم الْعِيد، فَإِن الْيَوْم بِأَصْلِهِ قَابل للصَّوْم الصَّحِيح فِيهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْبطلَان من الصّفة، وَهِي الْعِيد.
وَإِن كَانَ الْمَبِيع غير قَابل للْبيع دون الثّمن: كَبيع الملاقيح بِالدَّرَاهِمِ، أَو بِالْعَكْسِ: كَبيع ثوب مثلا بِدَم أَو خِنْزِير، فَفِي كل مِنْهُمَا خلاف، وَالصَّحِيح عِنْدهم: إِلْحَاق الأول بِالْأولِ، وَالثَّانِي بِالثَّانِي.

(3/1109)


وَفَائِدَة التَّفْصِيل عِنْدهم: أَن الْفَاسِد يُفِيد الْملك إِذا اتَّصل بِهِ الْقَبْض، دون الْبَاطِل، وَالله أعلم.
وَالأَصَح - دَلِيلا -: أَن الْبطلَان يرادف الْفساد، وهما يقابلان الصِّحَّة، كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الشَّافِعِي.
حَتَّى قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لم يَقع فِي الْكتاب وَالسّنة إِلَّا لفظ الْبَاطِل فِي مُقَابلَة الْحق، وَأما لفظ الصِّحَّة وَالْفساد فَمن اصْطِلَاح الْفُقَهَاء) .
واستدرك بَعضهم عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] ، أَي: لاختل نظامهما.
قَوْله: {مَعَ تفريقهما فِي الْفِقْه بَينهمَا فِي مسَائِل} كَثِيرَة.
قد فرق أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِي بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل فِي مسَائِل كَثِيرَة.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (قد ذكر أَصْحَابنَا مسَائِل فرقوا فِيهَا بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل، ظن بعض الْمُتَأَخِّرين أَنَّهَا مُخَالفَة للقاعدة.
وَالَّذِي يظْهر - وَالله أعلم - أَن ذَلِك لَيْسَ بمخالف للقاعدة.
وَبَيَانه: أَن الْأَصْحَاب إِنَّمَا قَالُوا: الْبطلَان وَالْفساد مُتَرَادِفَانِ، فِي مُقَابلَة

(3/1110)


قَول أبي حنيفَة، حَيْثُ قَالَ: مَا لم يشرع بِالْكُلِّيَّةِ هُوَ الْبَاطِل، وَمَا شرع أَصله وَامْتنع لاشْتِمَاله على وصف محرم هُوَ الْفَاسِد، فعندنا كل مَا كَانَ مَنْهِيّا إِمَّا لعَينه أَو لوصفه ففاسد وباطل، وَلم يفرق الْأَصْحَاب فِي صُورَة من الصُّور بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل فِي الْمنْهِي عَنهُ، وَإِنَّمَا فرقوا بَينهمَا فِي مسَائِل لدَلِيل) انْتهى.
قلت: غَالب الْمسَائِل الَّتِي حكمُوا عَلَيْهَا بِالْفَسَادِ، إِذا كَانَت مُخْتَلفا فِيهَا بَين الْعلمَاء، وَالَّتِي حكمُوا عَلَيْهَا بِالْبُطْلَانِ إِذا كَانَت مجمعا عَلَيْهَا، أَو الْخلاف فِيهَا شَاذ.
ثمَّ وجدت بعض أَصْحَابنَا قَالَ: (الْفَاسِد من النِّكَاح: مَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد، وَالْبَاطِل: مَا كَانَ مجمعا على بُطْلَانه.
وَعبر طَائِفَة من أَصْحَابنَا بِالْبَاطِلِ عَن النِّكَاح الَّذِي يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد أَيْضا) .
إِذا علم ذَلِك؛ فقد ذكر أَصْحَابنَا مسَائِل الْفَاسِد غير مسَائِل الْبَاطِل فِي أَبْوَاب مِنْهَا: بَاب الْكِتَابَة، وَالنِّكَاح، وَالْحج، وَغَيرهَا، وَقد ذكر القَاضِي عَلَاء الدّين فِي قَوَاعِده لذَلِك قَاعِدَة وَذكر مسَائِل كَثِيرَة فليعاودها من أرادها.
قَوْله: { [الْعَزِيمَة] لُغَة} : من الْعَزْم، وَهُوَ: {الْقَصْد الْمُؤَكّد} ،

(3/1111)


وَمِنْه: {أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل} [الْأَحْقَاف: 35] ، وعزمت عَلَيْك إِلَّا مَا فعلت كَذَا، أَي: عقد الْقلب على إِمْضَاء الْأَمر، أَي: محافظته على مَا أَمر بِهِ، [وعزيمته] على الْقيام بِهِ.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلم نجد لَهُ عزما} [طه: 115] ، وَقَوله عز وَجل: {فَإِذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمرَان: 159] .
قَالَ الْجَوْهَرِي: (عزمت على كَذَا: إِذا أردْت فعله، وَقطعت عَلَيْهِ) وجزمت بِهِ وصممت عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (عزم على الشَّيْء، وعزمه، عزما - من بَاب ضرب -: عقد ضَمِيره على فعله، وعزم، عَزِيمَة، وعزمة: اجْتهد وجد فِي أَمر، وعزيمة الله تَعَالَى: فريضته الَّتِي افترضها، وَالْجمع: عزائم، وعزائم السُّجُود: مَا أَمر بِالسُّجُود فِيهَا) انْتهى.

(3/1112)


وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (عزم على الْأَمر، يعزم، [عَزمَة] ، وَيضم، ومعزما [وعزما]- بِالضَّمِّ - وعزيما، وعزيمة، وعزمة، واعتزمه، وَعَلِيهِ، وتعزم: أَرَادَ فعله، وَقطع عَلَيْهِ، وجد فِي الْأَمر، وعزم الْأَمر نَفسه: عزم عَلَيْهِ: وعَلى الرجل: أقسم، [والراقي فِي العزائم] ، أَي: الرقى، أَو هِيَ آيَات من الْقُرْآن تقْرَأ على ذَوي الْآفَات رَجَاء الْبُرْء، وأولو الْعَزْم من الرُّسُل: الَّذين عزموا على أَمر الله فِيمَا عهد إِلَيْهِم، [وهم] : نوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى [وَعِيسَى] ، وَمُحَمّد [عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام] .
الزَّمَخْشَرِيّ: (أولو الْعَزْم: الْجد والثبات وَالصَّبْر، [وهم] : نوح، وَإِبْرَاهِيم، وَإِسْحَاق، وَيَعْقُوب، [وَأَيوب] ، وَدَاوُد، وَعِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه أَجْمَعِينَ -) انْتهى.
قلت: الصَّحِيح: أَن أولي الْعَزْم الْخَمْسَة الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى فِي

(3/1113)


الْأَحْزَاب والشورى بقوله: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى [وَعِيسَى] ابْن مَرْيَم} [الْأَحْزَاب: 7] ، وَقَوله: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين} [الشورى: 13] ، وَقد نبه عَلَيْهِ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ".
قَوْله: {وَشرعا} .
[أَي] : الْعَزِيمَة فِي الشَّرْع.
{قَالَ الْمُوفق والطوفي و [غَيرهمَا] } وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الْبَيْضَاوِيّ: {الحكم الثَّابِت بِدَلِيل شَرْعِي خَال عَن معَارض، فَيشْمَل الْأَحْكَام الْخَمْسَة} .
فالعزيمة على هَذَا القَوْل وَاقعَة فِي جَمِيع الْأَحْكَام لِأَن كل وَاحِد مِنْهَا حكم ثَابت بِدَلِيل شَرْعِي، فَيكون فِي الْحَرَام وَالْمَكْرُوه على معنى التّرْك، فَيَعُود الْمَعْنى فِي ترك الْحَرَام إِلَى الْوُجُوب.

(3/1114)


وَقَوله: (بِدَلِيل شَرْعِي) ، احْتِرَاز من الثَّابِت بِدَلِيل عَقْلِي، فَإِن ذَلِك لَا يسْتَعْمل فِيهِ الْعَزِيمَة والرخصة.
وَقَوله: (خَال عَن معَارض) ، احْتِرَاز مِمَّا يثبت بِدَلِيل، لَكِن لذَلِك الدَّلِيل معَارض مسَاوٍ أَو أرجح، لِأَنَّهُ إِن كَانَ الْمعَارض مُسَاوِيا لزم الْوَقْف، وانتفت الْعَزِيمَة، وَوَجَب طلب الْمُرَجح الْخَارِجِي، وَإِن كَانَ راجحا لزم الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ، وانتفت الْعَزِيمَة وَثبتت الرُّخْصَة: كتحريم الْميتَة عِنْد عدم المخمصة، فالتحريم فِيهَا عَزِيمَة، لِأَنَّهُ حكم ثَابت بِدَلِيل شَرْعِي خَال عَن معَارض، فَإِذا وجدت المخمصة، حصل الْمعَارض لدَلِيل التَّحْرِيم، وَهُوَ رَاجِح عَلَيْهِ، حفظا للنَّفس، فَجَاز الْأكل وحصلت الرُّخْصَة.
قَوْله: {وَأسْقط الرَّازِيّ الْحَرَام} .
فَجَعلهَا منقسمة إِلَى مَا عدا الْحَرَام، فَتكون الْعَزِيمَة عِنْده: الْوَاجِب، وَالْمُسْتَحب، والمباح، وَالْمَكْرُوه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جعل مورد التَّقْسِيم الْفِعْل الْجَائِز فَقَالَ: (الْفِعْل الَّذِي يجوز للمكلف الْإِتْيَان بِهِ، إِمَّا أَن يكون عَزِيمَة، أَو رخصَة) ، هَذَا لَفظه بِحُرُوفِهِ.
قَوْله: {والقرافي} .
أَي: وَقَالَ الْقَرَافِيّ: هِيَ {طلب فعل لم يشْتَهر فِيهِ منع شَرْعِي، فَيخْتَص الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب} ، فَإِن الطّلب تَارَة يكون بجزم وَهُوَ الْوَاجِب، وَتارَة يكون بِغَيْر جزم وَهُوَ الْمَنْدُوب.

(3/1115)


وَقَوله (طلب) ، يخرج الْمحرم وَالْمَكْرُوه، وَكَذَا - الْمُبَاح أَيْضا - لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَب.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (وَلَا يُمكن أَن يكون الْمُبَاح من العزائم، فَإِن الْعَزْم: هُوَ الطّلب الْمُؤَكّد فِيهِ) .
قَوْله: {وَالْغَزالِيّ، والآمدي، [وَابْن حمدَان، وَابْن مُفْلِح] } .
أَي: قَالُوا: الْعَزِيمَة {مَا لزم} - أَي: الْعباد - {بإلزام الله تَعَالَى من غير مُخَالفَة دَلِيل شَرْعِي، فَيخْتَص الْوَاجِب} .
وَقَالَهُ ابْن الْحَاجِب فِي " الْمُخْتَصر الْكَبِير "، وَهُوَ ظَاهر، وَكَأَنَّهُم احترزوا بِإِيجَاب الله تَعَالَى عَن النّدب، فَإِنَّهُ لَا يُسمى عَزِيمَة.
قَوْله: {والرخصة لُغَة: السهولة} والتيسير، أَي: خلاف التَّشْدِيد، وَمِنْه: رخص السّعر: إِذا سهل، الرُّخص: الناعم، وَهُوَ رَاجع إِلَى معنى الْيُسْر والسهولة.
قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (يُقَال: رخص الشَّارِع لنا فِي كَذَا ترخيصا، وأرخص إرخاصا: إِذا يسره وسهله، وَفُلَان يترخص فِي الْأَمر: إِذا لم يستقص، وقضيب رخص، أَي: طري لين، وَرخّص الْبدن - بِالضَّمِّ -

(3/1116)


رخاصة ورخوصة: إِذا نعم ولان ملمسه فَهُوَ رخيص) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الرُّخص - بِالضَّمِّ -: ضد الغلاء، وَقد رخص ككرم، و - الْفَتْح -: الشَّيْء الناعم، والرخصة - بضمة وبضمتين -: [ترخيص الله للْعَبد] فِيمَا يخففه عَلَيْهِ، والتسهيل) .
قَوْله: {وَشرعا: مَا ثَبت على خلاف دَلِيل شَرْعِي لمعارض رَاجِح} .
وَهُوَ للطوفي فِي " مُخْتَصره ".
فَقَوله: (مَا ثَبت على خلاف دَلِيل شَرْعِي) ، احْتِرَاز مِمَّا ثَبت على وفْق الدَّلِيل، فَإِنَّهُ لَا يكون رخصَة، بل عَزِيمَة: كَالصَّوْمِ فِي الْحَضَر.
وَقَوله: (لمعارض رَاجِح) ، احْتِرَاز مِمَّا كَانَ لمعارض غير رَاجِح، بل إِمَّا مسَاوٍ فَيلْزم الْوَقْف على حُصُول الرَّاجِح، أَو قَاصِر عَن مُسَاوَاة الدَّلِيل الشَّرْعِيّ، فَلَا يُؤثر وَتبقى الْعَزِيمَة بِحَالِهَا.
{ [وَقيل] } : هِيَ {اسْتِبَاحَة الْمَحْظُور مَعَ قيام [السَّبَب] الحاظر} ، وَهَذَا للشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة "، وَهُوَ قريب من الأول، غير أَن الاستباحة قد يكون مستندها الشَّرْع، فَيلْزم أَن يكون لمعارضة دَلِيل رَاجِح: كَأَكْل الْميتَة فِي المخمصة، فَإِنَّهُ اسْتِبَاحَة للميتة الْمُحرمَة شرعا، مَعَ قيام السَّبَب

(3/1117)


الْمحرم، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} [الْمَائِدَة: 3] ، لدَلِيل شَرْعِي رَاجِح على هَذَا السَّبَب، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمن اضْطر فِي مَخْمَصَة غير متجانف لإثم فَإِن الله غَفُور رَحِيم} [الْمَائِدَة: 3] ، فَإِن هَذَا خَاص، وَسبب التَّحْرِيم عَام، وَالْخَاص مقدم، هَذَا مَعَ النُّصُوص وَالْإِجْمَاع الحاض على حفظ النُّفُوس واستبقائها.
وَقد لَا تكون الاستباحة مستندة إِلَى الشَّرْع، فَيكون ذَلِك مَعْصِيّة مَحْضَة لَا رخصَة.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (فَلَو قيل: اسْتِبَاحَة الْمَحْظُور شرعا مَعَ قيام السَّبَب الحاظر صَحَّ، وساوى الأول) .
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِي فِي " شرح مُخْتَصر الطوفي ": (أَجود مَا يُقَال فِي الرُّخْصَة: ثُبُوت حكم لحالة تَقْتَضِيه مُخَالفَة مُقْتَضى دَلِيل يعمها) .
وَهُوَ لِابْنِ حمدَان فِي " الْمقنع "، وفيهَا حُدُود كَثِيرَة مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَة يكْتَفى بأحدها.
قَوْله: {فَمِنْهَا: وَاجِب: كَأَكْل مُضْطَر ميتَة} .
قد يكون فعل الرُّخْصَة وَاجِبا، وَقد يكون مُسْتَحبا، وَقد يكون مُبَاحا، بِاعْتِبَار الْحَال.

(3/1118)


فَالَّذِي فعله وَاجِب: أكل الْميتَة للْمُضْطَر، فَإِنَّهُ وَاجِب على الصَّحِيح من كَلَام الْعلمَاء، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، لِأَنَّهُ سَبَب لإحياء النَّفس، وَمَا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ وَاجِب، وَذَلِكَ لِأَن النُّفُوس حق لله تَعَالَى، وَهِي أَمَانَة عِنْد الْمُكَلّفين، فَيجب حفظهَا ليستوفي الله حَقه مِنْهَا بالعبادات والتكاليف، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} [الْبَقَرَة: 195] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} [النِّسَاء: 29] .
وَقيل: أكلهَا جَائِز - أَي: مُبَاح - لَا وَاجِب لِأَن إِبَاحَة الْأكل رخصَة فَلَا يجب عَلَيْهِ كَسَائِر الرُّخص، وَلِأَن لَهُ غَرضا فِي اجْتِنَاب النَّجَاسَة وَالْأَخْذ بالعزيمة، وَرُبمَا لم تطب نَفسه بتناول الْميتَة، وَفَارق الْحَلَال فِي الأَصْل من هَذِه الْوُجُوه، ذكره أَصْحَابنَا.
وَقيل: الْأكل مُسْتَحبّ لَا وَاجِب.
وَقيل: أكلهَا عَزِيمَة لَا رخصَة.
قَالَ إِلْكيَا الطَّبَرِيّ: (هَذَا هُوَ الصَّحِيح عندنَا) .
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": (وَيجوز أَن يُقَال: التَّيَمُّم وَأكل الْميتَة كل مِنْهُمَا رخصَة عَزِيمَة بِاعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ) انْتهى.
وَقَالَ السُّبْكِيّ: (هِيَ رخصَة عَزِيمَة باعتبارين) .

(3/1119)


وَلَعَلَّه أَخذه من كَلَام الطوفي.
تَنْبِيه: الْحَاصِل من تَقْرِير مجامعة الرُّخْصَة للْوُجُوب وَنَحْوه على القَوْل الْمُقدم: أَن الرُّخْصَة - فِي الْحَقِيقَة -: إحلال الشَّيْء، لِأَنَّهَا التَّيْسِير والتسهيل، ثمَّ قد يعرض لَهُ وصف آخر من الْأَحْكَام غير الْحل لدَلِيل، كحل أكل الْميتَة، نَشأ وُجُوبه من وجوب حفظ النَّفس، فَلذَلِك انقسمت الرُّخْصَة إِلَى هَذِه الْأَقْسَام، وَالصَّحِيح: أَن حكمهَا وَاجِب، فَتغير حكمهَا من صعوبة التَّحْرِيم إِلَى سهولة الْوُجُوب، لموافقته لغَرَض النَّفس، لعذر الِاضْطِرَار، مَعَ قيام سَبَب التَّحْرِيم حَال الْحل، وَهُوَ الْخبث.
فَائِدَة: قَالَ الشَّيْخ عبد الْعَزِيز - شَارِح الْبَزْدَوِيّ -: (عَن الْعلمَاء فِي حكم الْميتَة وَنَحْوهَا فِي حَالَة الضَّرُورَة، هَل هِيَ مُبَاحَة، أَو تبقى على حكم التَّحْرِيم ويرتفع الْإِثْم كَمَا فِي الْإِكْرَاه على الْكفْر؟ وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف وَأحد قولي الشَّافِعِي.
قَالَ: وَذهب أَكثر أَصْحَابنَا إِلَى ارْتِفَاع الْحُرْمَة.
وَذكر للْخلاف فائدتين: إِحْدَاهمَا: إِذا جَاع حَتَّى مَاتَ لَا يكون آثِما على الأول، بِخِلَافِهِ على الثَّانِي.

(3/1120)


الْفَائِدَة الثَّانِيَة: إِذا حلف لَا يَأْكُل حَرَامًا، فتناوله فِي حَالَة الضَّرُورَة، حنث على الأول لَا الثَّانِي) .
وَمِمَّا يجب من الرُّخْصَة: إساغة اللُّقْمَة بِالْخمرِ لمن غص بهَا، فَهِيَ كالميتة للْمُضْطَر.
قَالَ ابْن حمدَان: (وَيجب فطر الْمَرِيض فِي رَمَضَان إِذا خَافَ الْمَوْت بِعَدَمِهِ) .
{و} من الرُّخْصَة مَا هُوَ {مَنْدُوب: كقصر [الْمُسَافِر] } الصَّلَاة عِنْد أَصْحَابنَا وإمامنا، إِذا اجْتمعت الشُّرُوط وانتفت الْمَوَانِع، وَكَذَلِكَ عِنْد الشَّافِعِيَّة.
{و} مِنْهَا مَا هُوَ {مُبَاح [كالجمع] } بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي غير عَرَفَة ومزدلفة، وَكَذَا كلمة الْكفْر لمن أكره، وَكَذَلِكَ الْعَرَايَا للْحَدِيث فِي ذَلِك،

(3/1121)


وَمِنْه: جَوَاز الْمُضَاربَة، وَالْمُسَاقَاة، وَالْإِجَارَة، وَنَحْوهَا؛ لِأَنَّهَا عُقُود على مَعْدُوم لقَوْل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك "، وفيهَا غرر، وَقد نهي عَنهُ.
تَنْبِيه: فهم [مِمَّا] تقدم: أَن الرُّخْصَة لَا تكون مُحرمَة وَلَا مَكْرُوهَة، وَهُوَ ظَاهر قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله يحب أَن تُؤْتى رخصه ".

(3/1122)


وَظَاهر كَلَام الشَّافِعِيَّة: أَن الرُّخْصَة تَأتي فِي الْحَرَام وَالْمَكْرُوه، ومثلوا الأول بالاستنجاء بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَالثَّانِي بِالْقصرِ فِي أقل من ثَلَاث مراحل، وَكَذَا اتِّبَاع النِّسَاء الْجَنَائِز، وَأَجَابُوا عَن ذَلِك.
قلت: صرح صَاحب " النِّهَايَة " من أَصْحَابنَا: (أَنه لَا يجوز الِاسْتِجْمَار بِالذَّهَب وَالْفِضَّة) .

(3/1123)


قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (وَلَعَلَّه مُرَاد غَيره لتَحْرِيم اسْتِعْمَاله) ، وَحكى أَن الشَّافِعِي منع من ذَلِك.
فَائِدَة: مَا لم يُخَالف دَلِيلا - كاستباحة الْمُبَاحَات، وَعدم وجوب صَوْم شَوَّال - لَا يُسمى رخصَة، وَمَا خفف عَنَّا من التَّغْلِيظ على الْأُمَم قبلنَا، بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا رخصَة مجَازًا، بِمَعْنى: أَنه سهل علينا مَا شدد عَلَيْهِم، رفقا من الله تَعَالَى بِنَا، مَعَ جَوَاز إِيجَابه علينا كَمَا أوجبه عَلَيْهِم، لَا على معنى أَنا استحبنا شَيْئا من الْمُحرمَات عَلَيْهِم مَعَ قيام الْمحرم فِي حَقنا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا حرم عَلَيْهِم لَا علينا، فَهَذَا وَجه التَّجَوُّز، وَعدم كَون الأول لَيْسَ بِرُخْصَة؛ لِأَنَّهُ لم يثبت على الْمَنْع من ذَلِك دَلِيل، فالتيمم لمَرض وَنَحْوه، وَزِيَادَة ثمن المَاء: رخصَة، وَمَعَ عدم المَاء وعجزه عَنهُ: لَيْسَ بِرُخْصَة.
قَوْله: {وهما} - أَي: الْعَزِيمَة والرخصة - {وصفان للْحكم الوضعي، وَقيل: التكليفي، [وَقَالَ] الرَّازِيّ وَغَيره: للْفِعْل} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي الرُّخْصَة والعزيمة، هَل هما وصفان للْحكم، أَو وصفان للْفِعْل على قَوْلَيْنِ، وَإِذا قُلْنَا: هما وصفان للْحكم، فَهَل هُوَ الحكم

(3/1124)


الوضعي أَو الحكم التكليفي؟ على قَوْلَيْنِ أَيْضا.
فتلخص فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال، وَالصَّحِيح: أَنَّهُمَا وصفان للْحكم، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْغَزالِيّ، وَصَاحب " الْحَاصِل "، والبيضاوي، والقرافي، وَغَيرهم.
فَتكون الرُّخْصَة: بِمَعْنى الترخيص، والعزيمة: بِمَعْنى التَّأْكِيد فِي طلب الشَّيْء وَمِنْه: " فاقبلوا رخصَة الله " وَقَول أم عَطِيَّة: " نهينَا عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز وَلم يعزم علينا ".

(3/1125)


ثمَّ اخْتلف الْقَائِل بِأَنَّهُمَا وصفان للْحكم، فَقَالَ جمع: هما وصفان للْحكم الوضعي، مِنْهُم الْآمِدِيّ، نَقله عَنهُ الْبرمَاوِيّ، وَقطع بِهِ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ".
وَقَالَ جمع: وصف للْحكم التكليفي لما فِيهَا من معنى الِاقْتِضَاء، وَلذَلِك قسموها إِلَى وَاجِبَة ومندوبة وَنَحْوهمَا، وَلَكِن ذَلِك لأمر خارجي عَن أصل الترخيص.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " - بعد أَن تكلم على الرُّخْصَة -: (لَيست من أَقسَام خطاب الْوَضع، بل رَاجِعَة إِلَى الِاقْتِضَاء والتخيير؛ لكَونهَا وَاجِبَة ومندوبة ومباحة) انْتهى.
وَقيل: هما وصفان للْفِعْل المرخص فِيهِ، أَو المعزوم عَلَيْهِ، وَلَو كَانَ تركا، أَي: الْمَطْلُوب بالعزم والتأكيد، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، وَابْن الْحَاجِب، نَقله الْبرمَاوِيّ.

(3/1126)


وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ ": (جعل المُصَنّف وَصَاحب الْحَاصِل الرُّخْصَة والعزيمة قسمَيْنِ للْحكم، وَكَذَا الْقَرَافِيّ، وجعلهما غَيرهم من أَقسَام الْفِعْل: كالآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَالْإِمَام) انْتهى.
وَأما كَلَام أَصْحَابنَا فِي ذَلِك، فَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " - لما تكلم على الرُّخْصَة والعزيمة -: (ظَاهر ذَلِك: أَن الرُّخْصَة والعزيمة لَيست من خطاب الْوَضع، خلافًا لبَعض أَصْحَابنَا) .
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (الْقسم السَّادِس: فِي خطاب الْوَضع، وَفِيه خَمْسَة فُصُول، ثمَّ قَالَ: الْفَصْل الْخَامِس: الْعَزِيمَة والرخصة) .
فَظَاهره: أَنَّهُمَا من خطاب الْوَضع.
تَنْبِيه: قد تقدم خطاب الْوَضع وَحكمه، وَقد اخْتلفُوا فِي مِقْدَاره.
فَقيل: هُوَ: السَّبَب، وَالشّرط، وَالْمَانِع، وَالصِّحَّة وَالْفساد، والعزيمة والرخصة، وَجرى على ذَلِك الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ جمَاعَة كَثِيرَة.
وَزَاد الْمُوفق، والطوفي فِي " مُخْتَصره " و " شَرحه "، وَغَيرهمَا: الْعلَّة، فَقَالُوا: هِيَ من خطاب الْوَضع.

(3/1127)


وَزَاد الْقَرَافِيّ نَوْعَيْنِ آخَرين وهما: التقديرات الشَّرْعِيَّة، وَالْحجاج.
فَالْأول: إِعْطَاء الْمَوْجُود حكم الْمَعْدُوم: كَالْمَاءِ الَّذِي يخَاف الْمَرِيض من اسْتِعْمَاله فَوَات عُضْو وَنَحْوه، فيتمم مَعَ وجوده حسا، وَإِعْطَاء الْمَعْدُوم حكم الْمَوْجُود - عكس الَّذِي قبله -: كالمقتول تورث عَنهُ الدِّيَة، وَإِنَّمَا تجب بِمَوْتِهِ، وَلَا تورث عَنهُ إِلَّا إِذا دخلت فِي ملكه، فَيقدر دُخُولهَا قبل مَوته.
وَالثَّانِي: - وَهُوَ الْحجَّاج - مَا تستند إِلَيْهِ الْقُضَاة فِي الْأَحْكَام من بَيِّنَة وَإِقْرَار، وَنَحْو ذَلِك من الْحجَج.
قَالَ: وَهِي فِي الْحَقِيقَة رَاجِعَة إِلَى السَّبَب، فَلَيْسَتْ أقساما أُخْرَى) انْتهى.
وَقَالَ صَلَاح الدّين العلائي: (أَنْوَاع خطاب الْوَضع الْمَشْهُورَة: السَّبَب، وَالشّرط، وَالْمَانِع) ، وَاقْتصر عَلَيْهَا.

(3/1128)


(قَوْله: {فصل} )

{التَّكْلِيف لُغَة: إِلْزَام مَا فِيهِ مشقة} .
مَا تقدم من الْأَحْكَام هُوَ الْمَحْكُوم بِهِ، وَمَا يذكر هُنَا هُوَ الْمَحْكُوم فِيهِ، وَهِي الْأَفْعَال.
فالتكليف لَهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي اصْطِلَاح عُلَمَاء الشَّرِيعَة.
فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة: إِلْزَام مَا فِيهِ مشقة، فإلزام الشَّيْء، والإلزام بِهِ هُوَ: تصييره لَازِما لغيره، لَا يَنْفَكّ عَنهُ مُطلقًا، أَو وقتا مَا.
قَالَ الْجَوْهَرِي: (والكلفة: مَا يتَكَلَّف من نَائِبه أَو حق، وكلفه تكليفا: إِذا أمره بِمَا يشق، وَالْمَشَقَّة: لُحُوق مَا يستصعب على النَّفس، قَالَ الله تَعَالَى: {لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس} [النَّحْل: 7] ) .

(3/1129)


قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (والتكليف: الْأَمر بِمَا يشق، وتكلفه: تجشمه) .
وَقَالَ - أَيْضا -: (ألزمهُ إِيَّاه فَالْتَزمهُ: إِذا لزم شَيْئا لَا يُفَارِقهُ) .
{ [وَمَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاح عُلَمَاء الشَّرِيعَة] : إِلْزَام مُقْتَضى خطاب الشَّرْع} .
فَيتَنَاوَل الْأَحْكَام الْخَمْسَة: الْوُجُوب، وَالنَّدْب، الحاصلين عَن الْأَمر؛ والحظر، وَالْكَرَاهَة، الحاصلين عَن النَّهْي؛ وَالْإِبَاحَة، الْحَاصِلَة عَن التَّخْيِير، إِذا قُلْنَا: إِنَّهَا من خطاب الشَّرْع، وَيكون مَعْنَاهُ فِي الْمُبَاح: وجوب اعْتِقَاد كَونه مُبَاحا، أَو اخْتِصَاص اتصاف فعل الْمُكَلف بهَا، دون فعل الصَّبِي وَالْمَجْنُون.
قَوْله: {والمحكوم فِيهِ: الْأَفْعَال، شَرطهَا: الْإِمْكَان} .
أَي: فِي الْجُمْلَة.
وَقبل الْكَلَام على ذَلِك نذْكر شَيْئا مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ، لَا بَأْس بالإحاطة بِهِ قبل الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (اخْتلف النَّاس فِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق) .

(3/1130)


5
- للمسألة تعلق بالأصلين.
أما أصُول الدّين: فَلِأَن الْمُحَقِّقين إِذا حققوا وجوب إِسْنَاد جَمِيع الممكنات إِلَى الله تَعَالَى خلقا وتدبيرا، لَزِمَهُم التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق.
أما أصُول الْفِقْه: فَلِأَن الْبَحْث فِي الحكم الشَّرْعِيّ يتَعَلَّق بِالنّظرِ فِي الْحَاكِم - وَهُوَ الله تَعَالَى - والمحكوم عَلَيْهِ -[وَهُوَ] العَبْد - وَالنَّظَر فِي الْمَحْكُوم بِهِ - وَهُوَ الْفِعْل وَالتّرْك - وَشَرطه: أَن يكون فعلا مُمكنا، ويستدعي ذَلِك: أَن الْفِعْل الْغَيْر مَقْدُور عَلَيْهِ هَل يَصح التَّكْلِيف بِهِ أم لَا؟ وَيُسمى أَيْضا: التَّكْلِيف بالمحال.
وَهُوَ أَقسَام: أَحدهَا: أَن يكون مُمْتَنعا لذاته: كجمع الضدين، وإيجاد الْقَدِيم وإعدامه، وَنَحْوه مِمَّا يمْتَنع تصَوره، فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِهِ قدرَة مُطلقًا.
الثَّانِي: مَا يكون مَقْدُورًا لله تَعَالَى فَقَط: كخلق الْأَجْسَام وَبَعض الْأَعْرَاض.
الثَّالِث: مَا لم تجر عَادَة بِخلق الْقُدْرَة على مثله للْعَبد مَعَ جَوَازه: كالمشي على المَاء، والطيران فِي الْهَوَاء.
الرَّابِع: [مَا لَا قدرَة] للْعَبد عَلَيْهِ بِحَال توجه الْأَمر، وَله قدرَة عَلَيْهِ عِنْد الِامْتِثَال: كبعض الحركات والسكنات.

(3/1131)


الْخَامِس: مَا فِي امتثاله مشقة عَظِيمَة: كالتوبة بقتل النَّفس.
- ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك -: مَا لَا يُطَاق قد يكون عاديا فَقَط: كالطيران، أَو عقليا فَقَط: كَإِيمَانِ الْكَافِر الَّذِي علم الله تَعَالَى أَنه لَا يُؤمن، أَو عاديا وعقليا: كالجمع بَين الضدين) انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيره: (تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وَهُوَ المستحيل، وَيُقَال على مَا تعلق الْعلم وَالْخَبَر والمشيئة بِأَنَّهُ لَا يكون، وعَلى فعل العَبْد لِأَنَّهُ مَخْلُوق لله تَعَالَى، مَوْقُوف على مَشِيئَته، وعَلى مَا يشق فعله وَلَا يتَعَذَّر، وَهُوَ وَاقع إِجْمَاعًا) .
قَوْله: {فَيصح التَّكْلِيف بالمحال لغيره إِجْمَاعًا، وَهُوَ خلاف الْمَعْلُوم أَو وَفقه لَا يُطَاق؟ ثَالِثهَا: الْفرق} .
الْمحَال لغيره يُكَلف بِهِ الْإِنْسَان إِجْمَاعًا: كَإِيمَانِ من علم الله تَعَالَى [أَنه] لَا يُؤمن؛ وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى أنزل الْكتاب، وَبعث الرُّسُل، بِطَلَب الْإِيمَان وَالْإِسْلَام من كل أحد، وكلفهم بذلك، وَعلم أَن بَعضهم لَا يُؤمن.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة " - كَمَا نَقله ابْن مُفْلِح -: (مَا لَا يُطَاق مَا تعلق الْعلم وَالْخَبَر والمشيئة بِأَنَّهُ لَا يكون، وَجَمِيع [أَفعَال] الْعباد؛ لِأَنَّهَا

(3/1132)


مخلوقة لله تَعَالَى، وموقوفة على الْمَشِيئَة، وَمَا يتعسر فعله.
فَهَذِهِ الثَّلَاثَة وَاقعَة جَائِزَة بِلَا شكّ، لَكِن هَل يُطلق على خلاف الْمَعْلُوم أَو [وَفقه] أَنه لَا يُطَاق؟ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال.
أَحدهَا: يُطلق عَلَيْهِمَا، وَالثَّانِي: لَا يُطلق عَلَيْهِمَا، وَالثَّالِث: الْفرق.
فَالْخِلَاف عِنْد التَّحْقِيق فِي الْجَوَاز الْعقلِيّ وَالِاسْم اللّغَوِيّ، وَأما الشَّرْع فَلَا خلاف فِيهِ الْبَتَّةَ، وَمن هُنَا ظهر التَّخْلِيط) انْتهى.
تَنْبِيه: قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (أما تَكْلِيف أبي لَهب وَغَيره بِالْإِيمَان فَهُوَ حق، لَكِن لما أنزل الله: {سيصلى نَارا ذَات لَهب} [المسد: 3] ، لم يسلم لَهُم أَن الله تَعَالَى أَمر نبيه بإسماع هَذَا الْخطاب لأبي لَهب، وَأمر أَبَا لَهب بتصديقه، نعم، بل لَا يقدر أحد أَن ينْقل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر أَبَا لَهب أَن يصدق بنزول هَذِه السُّورَة.
فَقَوله: إِنَّه أَمر أَن يصدق بِأَن لَا يُؤمن، قَول بَاطِل لم يَنْقُلهُ أحد من عُلَمَاء الْمُسلمين، فنقله عَن الرَّسُول قَول بِلَا علم، بل كذب عَلَيْهِ.
فَإِن قيل: فقد كَانَ الْإِيمَان وَاجِبا على أبي لَهب، وَمن الْإِيمَان أَن يُؤمن بِهَذَا.

(3/1133)


قيل: لَا نسلم أَنه بعد نزُول هَذِه الْآيَة وَجب على الرَّسُول أَن يبلغهُ إِيَّاهَا وَلَا غَيرهَا، بل حقت عَلَيْهِ كلمة الْعَذَاب، كَمَا حقت على قوم نوح إِذْ قيل لَهُ: {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} [هود: 36] ، وَبعد ذَلِك لَا يبْقى الرَّسُول مَأْمُورا بتبليغهم الرسَالَة، فَإِنَّهُ قد بَلغهُمْ فَكَفرُوا حَتَّى حقت عَلَيْهِم كلمة الْعَذَاب بأعيانهم) ، وَالْحَال فِي ذَلِك.
قَوْله: {وَأما الْمحَال لذاته: كجمع [بَين] ضدين} - وَهُوَ المستحيل الْعقلِيّ - {أَو عَادَة: كالطيران} وصعود السَّمَاء وَنَحْوهمَا، {فالأكثر على مَنعه} مُطلقًا، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، والأصفهاني وَأكْثر الْمُعْتَزلَة، وَحكي عَن نَص الشَّافِعِي، وَأبي حَامِد، وَأبي الْمَعَالِي، وَابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ".

(3/1134)


{و [قَالَ] أَكثر الأشعرية والطوفي} - من أَصْحَابنَا - { [بِالْجَوَازِ] } .
قَالَ الْآمِدِيّ: (وَهُوَ لَازم أصل الْأَشْعَرِيّ فِي وجوب مُقَارنَة الْقُدْرَة للمقدور بهَا، وَأَنه مَخْلُوق لله تَعَالَى) .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَأما جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق عقلا فَأكْثر الْأمة نفت جَوَازه مُطلقًا، وَجوزهُ عقلا طَائِفَة من المثبتة للقدر من أَصْحَاب الْأَشْعَرِيّ، وَأَصْحَاب مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، كَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهمَا) .
{و} قَالَ {الْآمِدِيّ وَجمع} من الْعلمَاء بِالْجَوَازِ {فِي الْمحَال عَادَة:} كالطيران وَنَحْوه، دون الْمحَال لذاته، مِنْهُم معتزلة يغداذ، وَصرح بِهِ

(3/1135)


5 - الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى "، وَاخْتَارَهُ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح العنوان ".
قَالَ ابْن حَامِد: (ذهب بعض أَصْحَابنَا إِلَى إِطْلَاق الِاسْم فِي جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فِي زمِن وأعمى وَغَيرهمَا، وَهُوَ مَذْهَب جهم و [برغوث] ) .
وَلنَا خلاف، هَل الْقُدْرَة لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل أَو قبله؟ بِمَعْنى: سَلامَة الْآلَات، كَقَوْل الْمُعْتَزلَة.
قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ وَغَيره: (من قَالَ لَا تكون إِلَّا مَعَه، كلف كل أحد مَا لَا يطيقه) .

(3/1136)


وَقَالَ ابْن شهَاب وَأَبُو الْخطاب: (إِذا قيل: مَا شَيْء فعله محرم، وَتَركه محرم؟ فَصَلَاة السَّكْرَان) .
فَكل هَذَا يدل على تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (قَالَ الْأَشْعَرِيّ وَكثير من النظار: لَا يكون العَبْد قَادِرًا إِلَّا حِين الْفِعْل، فعلى قَوْلهم، كل مُكَلّف فَهُوَ حِين التَّكْلِيف قد كلف مَا لَا يطيقه حِينَئِذٍ، وَإِن كَانَ قد يطيقه حِين الْفِعْل، [بقدرة] يخلقها الله تَعَالَى لَهُ وَقت الْفِعْل، وَلَكِن هَذَا لَا يطيقه لاشتغاله بضده وَعدم الْقُدْرَة الْمُقَارنَة للْفِعْل، لَا لكَونه عَاجِزا عَنهُ.
وَأما الْعَاجِز عَن الْفِعْل كالزّمِن وَالْأَعْمَى وَنَحْوهمَا فَهَؤُلَاءِ لم يكلفوا بِمَا يعجزون عَنهُ، [وَمثل] هَذَا التَّكْلِيف لَيْسَ وَاقعا فِي الشَّرِيعَة بِاتِّفَاق طوائف الْمُسلمين، إِلَّا شرذمة قَليلَة من الْمُتَأَخِّرين، ادعوا وُقُوع مثل هَذَا التَّكْلِيف فِي الشَّرِيعَة، ونقلوا ذَلِك عَن الْأَشْعَرِيّ وَأكْثر أَصْحَابه، وَهُوَ خطأ عَلَيْهِم) .
وَجه الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الْمَنْع -: قَوْله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} [الْبَقَرَة: 286] ، وروى مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَنه لما نزل: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ} الْآيَة [الْبَقَرَة: 284] ، اشْتَدَّ ذَلِك على الصَّحَابَة وَقَالُوا: (لَا نطيقها) ، وَفِيه: أَن الله تَعَالَى

(3/1137)


نسخهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} إِلَى آخر السُّورَة، وَفِيه: عقب كل دَعْوَة، قَالَ: " نعم "، وَفِي رِوَايَة: " قَالَ: قد فعلت ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (قيل المُرَاد بِهِ: مَا يثقل ويشق، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَمْلُوك: " لَا يُكَلف من الْعَمَل مَا لَا يُطيق " رَوَاهُ مُسلم، وَكَقَوْلِه:

(3/1138)


" لَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ، فَإِن كلفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ " مُتَّفق عَلَيْهِ) .
واحتجب الأشعرية: بسؤال رَفعه، على جَوَاز التَّكْلِيف بالمستحيل لغيره.
وَاحْتج بعض أَصْحَابنَا، والآمدي، وَغَيرهمَا: (بِأَنَّهُ لَو صَحَّ التَّكْلِيف بالمستحيل لَكَانَ مَطْلُوب الْحُصُول، لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ محَال، لعدم تصور وُقُوعه، لِأَنَّهُ يلْزم تصور الشَّيْء على خلاف ماهيته، واستدعاء حُصُوله فرع تصور وُقُوعه.
فَإِن قيل: لَو لم يتَصَوَّر لم يحكم بِكَوْنِهِ محالا، لِأَن الحكم بِصفة الشَّيْء فرع تصَوره.
قيل: الْجمع المتصور الْمَحْكُوم بنفيه عَن الضدين هُوَ جمع المختلفات الَّتِي لَيست بمتضادة، وَلَا يلْزم من تصَوره منفيا عَن الضدين تصَوره ثَابتا لَهما، لاستلزامه التَّصَوُّر على خلاف الْمَاهِيّة) .
وَاعْترض على الدَّلِيل: بِمَا علم الله أَنه لَا يَقع، فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر وُقُوعه.
وعَلى الْجَواب: بِمَا سبق فِي تَقْسِيم الْعلم: أَن تصور النَّفْي فرع تصور

(3/1139)


الْإِيجَاب، لِأَن النَّفْي الْمُطلق غير مَعْقُول، لهَذَا قيل: الْإِيجَاب أبسط مِنْهُ.
قَالُوا: لَو لم يَصح لم يَقع، ثمَّ ذكرُوا مَا سبق من تعلق الْعلم وَالْخَبَر والمشيئة بِمَا لَا يكون، وَفعل العَبْد، وَقدرته.
ورد: بِأَن الْخلاف فِي الْمُمْتَنع لذاته، وَهَذَا لغيره، وَهُوَ لَا يمْنَع تصور الْوُقُوع مِنْهُ، لجَوَاز إمكانها بِالذَّاتِ.
وَبِأَن ذَلِك يسْتَلْزم: أَن التكاليف كلهَا تكاليف بالمحال، وَهُوَ بَاطِل إِجْمَاعًا.
ورد الطوفي الأول: (وانتساخ الْإِمْكَان الذاتي بالاستحالة بِالْغَيْر العرضية، وبالتزام الثَّانِي، وَالْمَسْأَلَة علمية وَالْإِجْمَاع لَا يَصح دَلِيلا فِيهَا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ) .
قَالُوا: {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} [هود: 36] ، وكلفوا بتصديقه مُطلقًا، وَمِنْه: تكليفهم تَصْدِيقه فِي عدم تصديقهم.

(3/1140)


وكلف أَبُو لَهب بِتَصْدِيق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أخباره، وَمِنْه: أَن لَا يصدقهُ، فقد كلف بتصديقه بِعَدَمِ تَصْدِيقه.
ورد: كلفوا بتصديقه، وعِلم الله بِعَدَمِهِ، وإخباره بِهِ، لَا يمْنَع الْإِمْكَان الذاتي كَمَا سبق، لَكِن لَو كلفوا بتصديقه بعد علمهمْ بِعَدَمِهِ، لَكَانَ من بَاب مَا علم الْمُكَلف امْتنَاع وُقُوعه، وَمثله غير وَاقع لانْتِفَاء فَائِدَة التَّكْلِيف - وَهِي الِابْتِلَاء - لَا لِأَنَّهُ محَال، وَالله أعلم.
قَوْله: {فعلى الْجَوَاز لم يَقع، وَحكي عَن الْأَكْثَر.
قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ، وَالْمجد: الْمحَال لذاته مُمْتَنع سمعا إِجْمَاعًا.
[وَقَالَ أَبُو بكر، وَابْن شاقلا، وَجمع: بلَى] .
[وَقيل: الْمُمْتَنع عَادَة] } .
إِذا قُلْنَا: يجوز التَّكْلِيف بالمحال لذاته، فَهَل وَقع أم لَا؟ فِيهِ أَقْوَال.
أَحدهَا: أَنه لم يَقع، وَهُوَ الصَّحِيح.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: صَار الْأَكْثَر إِلَى امْتِنَاعه.

(3/1141)


وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، والآمدي، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة.
قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ وَالْمجد ابْن تَيْمِية: (الْمحَال لذاته مُمْتَنع سمعا إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْجَوَاز الْعقلِيّ وَالِاسْم اللّغَوِيّ) كَمَا تقدم عَنهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَقع ذَلِك مُطلقًا.
قَالَ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز - من أَصْحَابنَا -: (الله يتعبد خلقه بِمَا يُطِيقُونَ وَبِمَا لَا يُطِيقُونَ) ؛ وَأطلق.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق ابْن شاقلا - من أَصْحَابنَا أَيْضا -: (إِن الله تَعَالَى أَرَادَ تَكْلِيف عباده بِمَا لَيْسَ فِي طاقتهم وَلَا قدرتهم، وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [الْقَلَم: 42] ) .
وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل الْفَخر الرَّازِيّ، وَغَيره، وَزعم الرَّازِيّ: (أَن جَمِيع التكاليف مِمَّا لَا يُطَاق، قَالَ: لِأَنَّهَا إِمَّا مَعْلُومَة الْوُقُوع، فَتكون وَاجِبَة الْوُقُوع، أَو وَاجِبَة الْعَدَم، فَتكون ممتنعة الْوُقُوع، والتكليف بِالْوَاجِبِ الْوُقُوع، أَو الْمُمْتَنع الْوُقُوع، تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق) .

(3/1142)


قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَهَذَا إِنَّمَا يَقْتَضِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق عقلا، لَا عَادَة، لِأَن امْتنَاع خلاف الْعلم إِنَّمَا هُوَ عقلا، والنزاع لَيْسَ فِيهِ، بل فِي الْمحَال العادي، فَلَا يحصل مَطْلُوبه) انْتهى.
وَمن قَالَ: إِن الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل - وَمن جُمْلَتهمْ: ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين " - قَالَ: بِأَن الْمحَال وَاقع قطعا.
لَكِن قَالَ ابْن شاقلا: (الِاسْتِطَاعَة تكون مَعَ الْفِعْل أَو قبله) ، وَقد قَالَ بِوُقُوع الْمحَال مُطلقًا.
وَقَالَ التَّمِيمِي: (قد يُسمى الْإِنْسَان مستطيعا إِذا كَانَ سليما من الْآفَات) .
وَالْقُدْرَة هِيَ: التَّمَكُّن من التَّصَرُّف، وَقيل: سَلامَة البنية.
وَالْقَوْل الثَّالِث: وَقع فِي الْمُمْتَنع عَادَة دون غَيره.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَصَارَ الْغَزالِيّ، وَالشَّيْخ، والآمدي، إِلَى جَوَاز الْمُمْتَنع لغيره فِي ذَاته، وَنصر الْغَزالِيّ إِمْكَان الْمُمْتَنع الذاتي دون وُقُوعه) .
قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: (وَالْحق وُقُوع الْمُمْتَنع بِالْغَيْر لَا بِالذَّاتِ) .

(3/1143)


(قَوْله: {فصل} )

{الْكفَّار مخاطبون بالفروع، عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، والأشعرية، وَأبي بكر الرَّازِيّ، والكرخي} .

(3/1144)


قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب وَأَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ: (هُوَ ظَاهر مَذْهَب مَالك) .
وَذَلِكَ [لوُرُود] الْآيَات الشاملة لَهُم، مثل: {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم} [الْبَقَرَة: 21] ، {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم} [النِّسَاء: 1، وَالْحج: 1، ولقمان: 33] ، {يَا عباد فاتقون} [الزمر: 16] ، {أقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} ، {كتب عَلَيْكُم الصّيام} [الْبَقَرَة:

(3/1145)


183 -] ، {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} [آل عمرَان: 97] ، {يَا بني آدم} [الْأَعْرَاف: 26، 27، 31، 35، وَيس: 60] {يَا أولي الْأَبْصَار} [الْحَشْر: 2] ، {يَا أولي الْأَلْبَاب} [الْبَقَرَة: 179، 197، والمائدة: 100، وَالطَّلَاق: 10] وَغير ذَلِك مِمَّا [لَا] يحصر، وَالْكفْر غير مَانع لِإِمْكَان إِزَالَته، كالأمر بِالْكِتَابَةِ والقلم حَاضر يُمكنهُ تنَاوله.
وَأَيْضًا فقد ورد الْوَعيد على ذَلِك، أَو يتضمنه نَحْو: {مَا سلككم فِي سقر} [المدثر: 42] الْآيَة، وذم قوم شُعَيْب بِنَقص الْمِكْيَال، وَقوم لوط بإتيان الذُّكُور، وَقوم هود لشدَّة الْبَطْش، مَعَ ذمّ الْكل بالْكفْر.

(3/1146)


وَقَالَ تَعَالَى - بعد ذكر قتل النَّفس والزنى -: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} [الْفرْقَان: 68] ، وَلذَلِك يحد على الزِّنَى من أحكامنا، وَلَا يحد على الْمُبَاح.
وأوضح من ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله زدناهم عذَابا فَوق الْعَذَاب} [النَّحْل: 88] ، أَي: فَوق عَذَاب الْكفْر، وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ على بَقِيَّة عبادات الشَّرْع.
وَاحْتج فِي [الْعدة] و " التَّمْهِيد ": " بِأَنَّهُ مُخَاطب بِالْإِيمَان، وَهُوَ شَرط الْعِبَادَة، وَمن خُوطِبَ بِالشّرطِ كالطهارة، كَانَ مُخَاطبا بِالصَّلَاةِ) .
وَكَذَا احْتج ابْن عقيل: (بخطابه بِصدق الرُّسُل، وَهِي مَشْرُوطَة بِمَعْرِِفَة الله تَعَالَى، وَهِي على النّظر.
وَإِن هَذَا - لقُوته - مُفسد لكل شُبْهَة للخصم) .

(3/1147)


فَائِدَة: أَكثر من يَقُول بِأَنَّهُم مخاطبون يَقُولُونَ: الْعَاقِبَة بترك الْفِعْل، وَأَبُو الْمَعَالِي يَقُول: بترك التَّوَصُّل إِلَى الْفِعْل، وَهُوَ خلف لَفْظِي، فَإِذا مضى الزَّمَان الأول يَعْصِي عِنْد أبي الْمَعَالِي بالْكفْر، وَعند الْأَكْثَر بِهِ وبالفروع.
فَإِذا جرينا على مَا قَالَه أَبُو الْمَعَالِي: أَن الْمُكَلف بِهِ التَّوَصُّل، استقام مَا يتَكَرَّر فِي الْفِقْه: أَن الْكَافِر فِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج لم تجب عَلَيْهِ، فينفع فِي الْجمع بَين قَوْلهم فِي الْأُصُول: إِنَّه مُكَلّف، وَفِي الْفِقْه: إِنَّه غير مُكَلّف.
وَهُوَ أحسن من جمع الرَّازِيّ، وَالنَّوَوِيّ، وَغَيرهمَا: بِأَن مُرَاد الْفُقَهَاء عدم الْمُطَالبَة فِي الدُّنْيَا، وَمُرَاد الْأُصُولِيِّينَ الْعقَاب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة، وَقد صرح بذلك خلق كثير من الْعلمَاء مِنْهُم أَصْحَابنَا على مَا يَأْتِي.

(3/1148)


قلت: قَوْله: (إِن جمعه أحسن من جمع الرَّازِيّ وَالنَّوَوِيّ) ، فِيهِ نظر، فَإِن أَكثر الْعلمَاء يَقُول خلاف مَا قَالَه أَبُو الْمَعَالِي، لِأَن الْجمع على قَول الْأَكْثَر، إِلَّا مَا قَالَه هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب ": (اتّفق أَصْحَابنَا على أَن الْكَافِر الْأَصْلِيّ لَا تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَغَيرهَا من فروع الْإِسْلَام، وَالصَّحِيح فِي كتب الْأُصُول: أَنه مُخَاطب بالفروع، كَمَا هُوَ مُخَاطب بِأَصْل الْإِيمَان.
قَالَ: وَلَيْسَ مُخَالفا لما تقدم؛ لِأَن المُرَاد هُنَاكَ غير المُرَاد هُنَا، فَالْمُرَاد هُنَاكَ: أَنهم لَا يطالبون بهَا فِي الدُّنْيَا مَعَ كفرهم، وَإِذا أسلم أحدهم لم يلْزمه قَضَاء الْمَاضِي، وَلم يتَعَرَّضُوا لعقاب الْآخِرَة.
ومرادهم فِي كتب الْأُصُول: أَنهم يُعَذبُونَ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة زِيَادَة على عَذَاب الْكفْر، فيعذبون عَلَيْهَا وعَلى الْكفْر جَمِيعًا، لَا على الْكفْر وَحده، وَلم يتَعَرَّضُوا للمطالبة فِي الدُّنْيَا، فَذكرُوا فِي الْأُصُول حكم طرف، وَفِي الْفُرُوع حكم الطّرف الآخر) انْتهى كَلَامه.
{وَعنهُ} : مخاطبون {بالنواهي} فَقَط، فَلَا يخاطبون بغَيْرهَا،

(3/1149)


{اخْتَارَهُ ابْن حَامِد [من أَصْحَابنَا] ، وَالْقَاضِي [أَبُو يعلى] فِي " الْمُجَرّد "، وَبَعض الْحَنَفِيَّة} وَهُوَ الْجِرْجَانِيّ.
{قَالَ الْأُسْتَاذ} أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني فِي " أُصُوله ": ( { [لَا خلاف] بَين الْمُسلمين} أَن خطاب الزواجر من الزِّنَى وَالْقَذْف [يتَوَجَّه] عَلَيْهِم كالمسلمين) .

(3/1150)


5
- وَقواهُ السُّبْكِيّ؛ لِأَن الْكَفّ مُمكن حَالَة الْكفْر، بِخِلَاف فعل الطَّاعَات، - وَأَيْضًا - فَإِنَّهُم يعاقبون على ترك الْإِيمَان بِالْقَتْلِ، والسبي، وَأخذ الْجِزْيَة، وَالْحَد فِي الزِّنَى وَالْقَذْف، وَقطع السّرقَة، وَلَا يُؤمر بِقَضَاء شَيْء من الْعِبَادَات.
وَقد نقل صَاحب " اللّبَاب " هَذَا القَوْل عَن أبي حنيفَة، وَعَامة أَصْحَابه، وَحكي عَن بعض الشَّافِعِيَّة.
{وَقيل} : مخاطبون {بِغَيْر الْجِهَاد} .
صرح بِهِ أَبُو الْمَعَالِي فِي " النِّهَايَة "، فَقَالَ: (وَالذِّمِّيّ لَيْسَ مُخَاطبا بِقِتَال

(3/1151)


الْكفَّار) ، وَكَذَلِكَ الرَّافِعِيّ فِي كتاب السّير.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (وَمر بِي فِي بعض الْكتب الَّتِي لَا أستحضرها الْآن: أَنهم مكلفون بِمَا عدا الْجِهَاد) .
{وَقيل} : لَا يُخَاطب إِلَّا {الْمُرْتَد فَقَط} .
حَكَاهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي فِي " الملخص "، والطرطوشي فِي " الْعمد "، وَيفهم من كَلَام الْفُقَهَاء فِي بعض مسَائِل الْفِقْه.
قلت: الْفرق بَينه وَبَين غَيره وَاضح، وَذَلِكَ لِأَن مؤاخذته بسابق الْتِزَامه حكم الْإِسْلَام، وَلِهَذَا قُلْنَا: يلْزمه قَضَاء مَا فَاتَهُ فِي الرِّدَّة من الْعِبَادَات، على تفاصيل فِي الْفِقْه.
{ [وَعَن أَحْمد] لَا} يخاطبون {مُطلقًا، [اخْتَارَهُ أَكثر]

(3/1152)


الْحَنَفِيَّة، و [أَبُو] حَامِد [الإِسْفِرَايِينِيّ] } ، وَعبد الْجَبَّار من الْمُعْتَزلَة.
قَالَ ابْن كج فِي كِتَابه فِي " الْأُصُول ": (إِنَّه ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي) .
وَقَالَ [الأبياري] : (إِنَّه ظَاهر مَذْهَب مَالك) .

(3/1153)


لِأَنَّهُ لَو كلف بِالْعبَادَة لصحت، ولأمكنه الِامْتِثَال، وَفِي الْكفْر لَا يُمكنهُ، وبإسلامه تسْقط.
رد: معنى التَّكْلِيف اسْتِحْقَاق الْعقَاب، وَيصِح بِشَرْطِهِ، وَيسلم ويفعلها كالمحدث.
وَلَا مُلَازمَة بَين التَّكْلِيف وَالْقَضَاء، بِدَلِيل الْجُمُعَة، مَعَ أَنه بِأَمْر جَدِيد.
وَفِيه تنفير عَن الْإِيمَان.
وأبطله فِي " الْوَاضِح " بالمرتد، لَا تصح مِنْهُ وَهُوَ مُخَاطب.
فَقيل لَهُ: [لالتزامه] حكم الْإِسْلَام.
فَقَالَ: وَهَذَا ألزمهُ الشَّرْع.
وَذكر غَيره فِيهِ الْخلاف.
قَالُوا: الْمنْهِي عَنهُ يَصح تَركه مَعَ كفره، وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ حكمه وَهُوَ الْحَد وَالتَّعْزِير، وَهُوَ محرم كالكفر.
أجَاب ابْن عقيل وَغَيره: وَهُوَ لَا يَصح مِنْهُ إِلَّا على وَجه مكابدة النَّفس لاحترام الناهي، وَالْحَد لالتزامه [حكمنَا] عُقُوبَة، وَلنَا: كَفَّارَة، أَو بلوى، ونمنعه من الْمحرم لَا الْكفْر.

(3/1154)


وَقَالَ بَعضهم: (لَا يَكْفِي مُجَرّد ترك وَفعل) فِيهِ نظر.
وَاسْتدلَّ: لَو اشْترط فِي التَّكْلِيف بمشروط وجود شَرطه، لم تجب صَلَاة على مُحدث، وَلَا قبل نِيَّتهَا.
ورد: بِأَن الشَّرْط تَابع يجب بِوُجُوب مشروطه.
{وَقيل: بِالْوَقْفِ} .
هَذَا قَول - أَيْضا - فِي الْمَسْأَلَة، وَذَلِكَ لتعارض الْأَدِلَّة.
{وَحكي عَن الْأَشْعَرِيّ، وَبَعض [أَصْحَابه] } ، حَكَاهُ سليم الرَّازِيّ فِي " التَّقْرِيب " عَن بعض الأشاعرة، وَحَكَاهُ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ عَن الْأَشْعَرِيّ نَفسه.
قَوْله: {كالإيمان إِجْمَاعًا} .
لَا نزاع أَنهم مخاطبون بِالْإِيمَان، وَالْمرَاد بِهِ العقائد الْأَوَائِل الَّتِي لَا تتَوَقَّف على سبق شَيْء.
وَيلْحق بهَا كَمَا قَالَ الباقلاني: (تَصْدِيق الرُّسُل، والكف عَن أذاهم بقتل، أَو قتال، أَو غير ذَلِك، وَإِن كَانَ ذَلِك من الْفُرُوع.

(3/1155)


وَتردد بعض الْمُتَأَخِّرين فِي كلمتي الشَّهَادَة، هَل هِيَ من الْفُرُوع - فَيجْرِي فِيهَا الْخلاف - أَو لَا، بل هم مكلفون بهَا قطعا؟
وَالَّذِي يَنْبَغِي: الْقطع بِالثَّانِي، بل هِيَ من الْإِيمَان على الْمَذْهَب الصَّحِيح، بل أعظمه، فَإِذا المُرَاد بالفروع: مَا سوى ذَلِك، من صَلَاة، وَزَكَاة، وَصَوْم، وَحج، وَنَحْوهَا.
قَوْله: { [وملتزمهم فِي إِتْلَاف] ، وَجِنَايَة، وترتب أثر عقد [كغيرهم، إِجْمَاعًا] } .
إِنَّمَا ذكرنَا هَذِه الْمَسْأَلَة لكَون السُّبْكِيّ قَالَ: (لَا يَشْمَل الْخلاف إتلافا، وَلَا جِنَايَة، وَلَا ترَتّب أثر عقد) ، وَقَالُوا [عَن] كَلَامه إِنَّه تَنْقِيح لمحل الْخلاف، وَهُوَ أَن الْخلاف لَا يَشْمَل ذَلِك، بل هم [مؤاخذون] بالإتلافات، والجنايات، وَمَا يَتَرَتَّب على العقد من الْآثَار من غير نزاع، وَهَذَا وَاضح، وَهُوَ فِي كتب الْفُقَهَاء من أَرْبَاب الْمذَاهب، لَكِن هَذِه

(3/1156)


الْأَحْكَام من خطاب الْوَضع لَا من خطاب التَّكْلِيف، فَلَا مدْخل لهَذِهِ الْمَسْأَلَة فِيمَا تقدم حَتَّى تخرج، بل هم أولى من الصَّبِي وَالْمَجْنُون فِي الضَّمَان بِالْإِتْلَافِ وَالْجِنَايَة. وَلَا بُد من وجود الشُّرُوط فِي معاملاتهم، وَانْتِفَاء الْمَوَانِع، وَالْحكم بِصِحَّتِهَا وفسادها، وترتب آثَار كل عَلَيْهِ، من بيع وَنِكَاح وَطَلَاق وَغَيرهَا.
وَيشْهد لذَلِك: أَن أَبَا حنيفَة قَالَ بِصِحَّة أنكحتهم مَعَ قَوْله بِعَدَمِ تكليفهم بالفروع.
وَمحل ذَلِك فِي الْكَافِر الْمُلْتَزم، فَأَما الْحَرْبِيّ فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي الْإِتْلَاف وَالْجِنَايَة وَغَيرهمَا، وَلذَلِك قُلْنَا فِي الْمَتْن: (ملتزمهم) .
قَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " عَن كَلَام السُّبْكِيّ: (هَذَا كَلَام لَا طائل تَحْتَهُ، وَذَلِكَ لِأَن مَحل النزاع: أَن مَاله شَرط شَرْعِي، هَل يجوز التَّكْلِيف بِهِ قبل وجود الشَّرْط أم لَا؟ وَمَا لَا خطاب تَكْلِيف فِيهِ لَا صَرِيحًا وَلَا ضمنا فَهُوَ خَارج عَن الْبَحْث، ثمَّ مَسْأَلَة تَكْلِيف الْكَافِر بالفروع من جزئيات تِلْكَ الْقَاعِدَة الْمَذْكُورَة، [فِيمَا] كَانَ لَهُ شَرط شَرْعِي: كالإيمان، وَالطَّهَارَة، وَستر الْعَوْرَة للصَّلَاة، وَأما مَا لَا شَرط لَهُ شَرْعِي يتَوَقَّف عَلَيْهِ

(3/1157)


كالإتلاف، وَالْجِنَايَة، وترتب آثَار الْعُقُود، فَلَا وَجه للْخلاف فِيهِ، وَالْحَاصِل: أَن مَا ذكره خَارج عَن مَحل النزاع) انْتهى.
وَهُوَ كَمَا قَالَ:
قَوْله: {تَنْبِيه: [فَائِدَة هَذِه الْمَسْأَلَة] : عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر فِي الْآخِرَة، بِكَثْرَة الْعقَاب} فِي الْآخِرَة.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (حسب) يَعْنِي: لَا غير ذَلِك.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هُوَ قَول الْجُمْهُور بِنَاء على كَثْرَة الْعقَاب وَخِفته، فَإِنَّهُ إِذا قيل: يخاطبون، وفعلوا تِلْكَ الْأَفْعَال، قد يكون سَببا لتخفيف الْعقَاب، وَإِن كَانَ مُؤْذِيًا.
ثمَّ قَالَ: قلت: { [ذكر أَبُو بكر غُلَام الْخلال - من أَصْحَابنَا - وَجْهَيْن] } فِي عمل الْكَافِر، {هَل يجازى [بِهِ] فِي دُنْيَاهُ، أَو يُخَفف عَنهُ فِي عقباه} ) انْتهى.

(3/1158)


وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (إِذا علم أَنه مُكَلّف كَانَ أدعى لَهُ إِلَى الاستجابة، وَينْتَفع بِهِ إِذا آمن) .
{وَقَالَ ابْن الصَّيْرَفِي [الْحَرَّانِي] } - من أَصْحَابنَا -: { [يتَفَرَّع عَنهُ مسَائِل] } مِنْهَا: ظِهَار الذِّمِّيّ يَصح عندنَا، لَا عِنْدهم:

(3/1159)


لتعقبه كَفَّارَة لَيْسَ من أَهلهَا.
وَمِنْهَا: أَن الْكفَّار لَا يملكُونَ أَمْوَالنَا بِالِاسْتِيلَاءِ فِي صَحِيح الْمَذْهَب، لحُرْمَة التَّنَاوُل، وَعِنْدهم: يملكونها؛ لِأَن حُرْمَة التَّنَاوُل من فروع الْإِسْلَام.
وَمِنْهَا: وجوب الصَّلَاة على الْمُرْتَد، يَعْنِي: الْقَضَاء.
وَاخْتَارَهُ فِي الْمَسْأَلَة الْوُسْطَى الطوفي.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَهُوَ مُتَوَجّه، لكنه لَيْسَ بِصَحِيح الْمَذْهَب) .
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَقيل: يظْهر أثر ذَلِك فِي الدُّنْيَا من وُجُوه:
أَحدهَا: قد يكون سَببا لإسلامه.

(3/1160)


وَالثَّانِي: وُقُوع الْإِسْلَام فِي صَدره، إِذا علم غفران مَا أوقعه من الْفساد بِإِسْلَامِهِ.
وَالثَّالِث: إِقَامَة الْحُدُود عَلَيْهِم، كَمَا هُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ.
وَالرَّابِع: اسْتِحْبَاب قَضَاء الصَّوْم إِذا أسلم فِي أثْنَاء الشَّهْر، مُلَاحظَة لعدم الْخطاب.
وَالْخَامِس: اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي الْكَافِر إِذا طلق أَو أعتق، هَل يلْزمه ذَلِك أم لَا؟
وَالسَّادِس: الْوَقْف وَالصَّدَََقَة، إِذا باعوها بعد صُدُور أَسبَابهَا [لَا نمنعهم] من ذَلِك على القَوْل بِعَدَمِ الْخطاب) انْتهى.
وَقَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": (من فوائدها: تيسير الْإِسْلَام عَلَيْهِ، وَالتَّرْغِيب فِيهِ، وَالْحكم بتَخْفِيف الْعَذَاب عَنهُ بِفعل الْخَيْر وَترك الشرور، إِذا علم أَنه مُخَاطب بهَا ويفعلها) .

(3/1161)


وأحال على فَوَائِد أخر، ذكرهَا فِي " شرح الْمَحْصُول ".
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار " - فِيمَن أسلم على أَكثر من [عشر] نسْوَة -: (قَول الْحَنَفِيَّة: النَّهْي عَن الْجمع قَائِم فِي حَال الشّرك، لَا يَصح، لِأَن عِنْدهم الْكفَّار غير مخاطبين، وَهُوَ رِوَايَة لنا) انْتهى.

(3/1162)


(قَوْله: {فصل} )

{لَا تَكْلِيف إِلَّا بِفعل، ومتعلقه فِي النَّهْي: كف النَّفس، عِنْد الْأَكْثَر} .
وَهُوَ الْأَصَح عِنْد الْفُقَهَاء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
إِذا كلف بِغَيْر نهي، كالأمر، كَانَ مُكَلّفا بِفعل [بِلَا] نزاع بَين الْعلمَاء، وَإِنَّمَا تَرَكُوهُ لوضوحه، وَعدم الْخلاف فِيهِ، لِأَن مُقْتَضَاهُ: إِيجَاد فعل مَأْمُور بِهِ: كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْم، وَنَحْوهمَا.
وَذكروا مَا هُوَ مَحل الْخلاف، وَهُوَ النَّهْي، فمتعلقه فِيهِ: كف النَّفس، كَالْكَفِّ عَن الزِّنَا وَنَحْوه.

(3/1163)


{وَقيل: ضد الْمنْهِي عَنهُ} - وَنسب إِلَى الْجُمْهُور - أَي ضد من أضداده كَانَ، إِذْ بتلبسه بضده يكون تَارِكًا لَهُ، فَإِذا قَالَ: لَا تتحرك، فَمَعْنَاه: افْعَل مَا يضاد الْحَرَكَة.
وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، والبيضاوي.
لَكِن قَالَ الكوراني: (هَذَا عين الأول، إِذْ كف النَّفس من جزئيات فعل الضِّدّ) ، وَهُوَ كَذَلِك.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": (وَقيل: لَا يَقْتَضِي الْكَفّ، إِلَّا أَن يتلبس بضده فيثاب عَلَيْهِ، لَا على التّرْك) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَذكره بعض أَصْحَابنَا: قَول الْأَشْعَرِيّ، والقدرية، وَابْن أبي الْفرج الْمَقْدِسِي، وَغَيرهم.

(3/1164)


قَالُوا فِي مَسْأَلَة الْإِيمَان: التّرْك فِي الْحَقِيقَة فعل، لِأَنَّهُ ضد الْحَال الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا) .
{وَقيل: [يشْتَرط] قصد التّرْك} ، أَي: يشْتَرط للكف قصد التّرْك، حَتَّى يَأْثَم إِذا لم يقْصد [التّرْك، نَقله] فِي " المسودة ".
قَالَ الكوراني: (هَذَا القَوْل خَارج عَن مَحل النزاع؛ لِأَن الْكَلَام فِي مُتَعَلق النَّهْي، وماذا يصلح لَهُ عقلا، وَأما مُقَارنَة الْقَصْد؛ فَإِنَّمَا يعْتد بِهِ لتَحْصِيل الثَّوَاب، فَلَا وَجه لإيراده فِي معرض تَقْسِيم الْمذَاهب، وَلذَلِك ترى الْمُحَقِّقين لم يذكرُوا ذَلِك) انْتهى.
قلت: كَأَن النَّاقِل لذَلِك، وَالْقَائِل بِهِ، يلمح أَنا إِذا قُلْنَا: إِنَّه كف النَّفس، هَل يشْتَرط فِي الْكَفّ قصد التّرْك أم لَا؟ فَقدم أَنه لَا يشْتَرط، وَذكر قولا بالاشتراط، فَهَذَا القَوْل شَرط فِي صِحَة التّرْك مَقْصُودا، من غير مُلَاحظَة ضد، فَهُوَ الْمُكَلف: كَالصَّوْمِ، وَلذَلِك وَجَبت فِيهِ النِّيَّة.
وَإِن الملاحظ إِيقَاع الضِّدّ فَهُوَ الْمُكَلف بِهِ: كَالزِّنَا وَالشرب. انْتهى.

(3/1165)


{وَعَن أبي هَاشم وَجمع} : أَنه {الْعَدَم الْأَصْلِيّ} .
وَهُوَ انْتِفَاء الْفِعْل مَعَ قطع النّظر فِي التَّلَبُّس بضده، أَي: عدم الْحَرَكَة فِي مثالنا.
لَكِن الْعَدَم لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة، فَإِن أَرَادَ الإعدام، رَجَعَ إِلَى القَوْل الأول.
وَقيل: إِن الْوَاجِب فِي المنهيات إِذا ذكرهَا: اعْتِقَاد تَحْرِيمهَا، وَهُوَ على أول الْحَال من الِاعْتِقَاد، ذكره أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِي كِتَابه " الدَّلَائِل والأعلام ".
وَجه القَوْل الأول - وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدهم -: أَنه لَو كلف بِنَفْي الْفِعْل لَكَانَ مستدعى حُصُوله مِنْهُ، وَلَا يتَصَوَّر، لِأَنَّهُ غير مَقْدُور لَهُ، لِأَنَّهُ نفي مَحْض.
ورده أَبُو هَاشم فَقَالَ: بل هُوَ مَقْدُور، وَلِهَذَا يمدح بترك الزِّنَا.
وردوه: بِأَن عدم الْفِعْل مُسْتَمر، فَلم تُؤثر الْقُدْرَة فِيهِ.
ورده أَبُو هَاشم: بِأَن الْمُقَارن مِنْهُ للقدرة مَقْدُور.

(3/1166)


(قَوْله: {فصل} )

أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: يَصح [التَّكْلِيف] بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثه} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هُوَ قَول عَامَّة أَصْحَابنَا والمتكلمين، خلافًا لشذوذ) .
قَالَ الْآمِدِيّ: (اتّفق النَّاس على جَوَاز التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثه، سوى شذوذ من أَصْحَابنَا) .
قَالَ [الْقَرَافِيّ فِي] هَذِه الْمَسْأَلَة: (أغمض مَسْأَلَة فِي أصُول الْفِقْه،

(3/1167)


مَعَ قلَّة جدواها، وَأَنه لَا يظْهر لَهَا أثر فِي الْفُرُوع.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (هِيَ من أشكل مسَائِل أصُول الْفِقْه، لما فِيهَا من اضْطِرَاب الْمَنْقُول، وغموض الْمَعْقُول، وَهِي فِي الْحَقِيقَة دخيلة فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ من عظائم مسَائِل الْكَلَام، وَهِي قَليلَة الجدوى فِي الْفِقْه) .
قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: (الْإِجْمَاع على أَن أَمر الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتناولنا، وَهُوَ مقدم، وَهِي أوَامِر فَالْقَوْل بالإعلام بَاطِل، وَلم يفْتَقر إِلَى أَمر آخر) .
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: (قد قيل: إِن كَانَ لغير غَرَض لم يجز فِي الْمدَّة الطَّوِيلَة) .
قَوْله: {حَقِيقَة عِنْد ابْن عقيل، و [الْأَكْثَر] ، [وَإِن كَانَ فِيهِ إِعْلَام] } .
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: (الْأَكْثَرُونَ أَنه حَقِيقَة) ، نَقله ابْن قَاضِي الْجَبَل.

(3/1168)


قَالَ فِي " المسودة ": (قَالَ ابْن عقيل: إِذا تقدم الْأَمر على الْفِعْل كَانَ أمرا عندنَا على الْحَقِيقَة أَيْضا، وَإِن كَانَ فِي [طيه] إيذان وإعلام) .
{وَقيل: [أَمر إِعْلَام] } وإيذان، لَا حَقِيقَة، قَالَه جمع مِنْهُم: الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه.
وَضَعفه إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَان " بعد أَن نَقله عَن أَصْحَاب الْأَشْعَرِيّ بِمَا مَعْنَاهُ: (أَنه يلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل، وَأَنه لَا يرتضيه لنَفسِهِ عَاقل) .
وَتقدم كَلَام الْمُحَقِّقين.
{وَقيل: عِنْد الْمُبَاشرَة} ، اخْتَارَهُ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع ".
وَنسب قَائِله إِلَى التَّحْقِيق.
قَالَ: (وَإِن الملام قبلهَا على التَّلَبُّس بالكف الْمنْهِي) .

(3/1169)


هَذَا جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر، هَذَا على القَوْل الْأَخير، تَقْدِيره: إِن القَوْل بِهِ يُؤَدِّي إِلَى سلب التكاليف، فَإِنَّهُ [يَقُول] : لَا أفعل حَتَّى أكلف، وَالْفَرْض: أَنه لَا يُكَلف حَتَّى يفعل.
وَجَوَابه: إِنَّه قبل الْمُبَاشرَة متلبس بِالتّرْكِ، وَهُوَ فعل، فَإِنَّهُ كف النَّفس عَن الْفِعْل، فقد بَاشر التّرْك، فَتوجه إِلَيْهِ التَّكْلِيف بترك التّرْك حَالَة مُبَاشَرَته للترك، وَذَلِكَ بِالْفِعْلِ، وَصَارَ الملام على ذَلِك.
وَهَذَا جَوَاب نَفِيس، أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي فِي مَسْأَلَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَهُوَ عَجِيب، فَإِن النَّهْي عَن الضِّدّ فرع تعلق الْأَمر، فَإِذا لم يتَعَلَّق على قَوْله، فَكيف يلام على التَّلَبُّس بالكف الْمنْهِي) انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: (اخْتلفُوا فِي جَوَاز تعلق التَّكْلِيف بِهِ فِي أول زمَان حُدُوثه، فَذهب الْأَكْثَر إِلَى جَوَازه، ذكره الْمجد فِي المسودة) .
قَالَ ابْن برهَان: (هَذَا مَذْهَبنَا) ، وَهُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعه، خلافًا للمعتزلة، وَوَافَقَهُمْ الرَّازِيّ.

(3/1170)


قَوْله: {وَيسْتَمر حَال حُدُوث الْفِعْل، عِنْد الْأَشْعَرِيّ، وَالْأَكْثَر} ، كَمَا تقدم قبل هَذَا قَرِيبا؛ لِأَن الْفِعْل فِي هَذِه الْحَالة مَقْدُور، وكل مَقْدُور يجوز التَّكْلِيف بِهِ.
أما الأولى؛ فَلِأَن الْقُدْرَة، إِمَّا حَال الْفِعْل، أَو قبله مستمرة إِلَى حِين صُدُور الْفِعْل، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ، فالقدرة عِنْد الْفِعْل حَاصِلَة، فَيصح بِهِ.
وَأما الثَّانِيَة: فَلِأَن الْمَقْدُور يَصح إيجاده، والتكليف إِنَّمَا هُوَ الْأَمر بالإيجاد، والتكليف هُنَا تعلق بِمَجْمُوع الْفِعْل من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع، لَا بِأول جُزْء مِنْهُ، فَلَا يَنْقَطِع التَّكْلِيف إِلَّا بِتمَام الْفِعْل، وَيكون التَّكْلِيف بإيجاد مَا لم يُوجد مِنْهُ، لَا بإيجاد مَا قد وجد، فَلَا تَكْلِيف بإيجاد موجوده فَلَا محَال.
{وَقَالَت الْمُعْتَزلَة، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، والرازي، والطوفي، وَغَيرهم: يَنْقَطِع} .

(3/1171)


احْتج ابْن عقيل للمعتزلة وَمن تَبِعَهُمْ: (بِأَنَّهُ لَيْسَ بمقدور حَال وجوده، وَحَال حُدُوثه، وَإِلَّا كَانَ مَقْدُورًا حَال بَقَائِهِ، لوُجُوده فِي الْحَالين) .
وَأجَاب عَنهُ: (بِأَنَّهُ حَال حُدُوثه مفعول مُتَعَلق بفاعل، بِخِلَاف حَال بَقَائِهِ، وكالإرادة يَصح تعلقهَا بِهِ حَال حُدُوثه لَا بَقَائِهِ عِنْد الْجَمِيع) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هَذَا ضَعِيف، بل هُوَ مَقْدُور وَمُرَاد فِي الْحَالين) .
وألزم الْآمِدِيّ الْمُعْتَزلَة: (أَن لَا يكون الْفِعْل أول زمن حُدُوثه أثرا لقدرة قديمَة، أَو حَادِثَة، على اخْتِلَاف المذهبين، وَلَا [موجدة] لَهُ، لما فِيهِ من [إِيجَاد] الْمَوْجُود، وجوابهم فِي [إِيجَاد] الْقُدْرَة لَهُ، جَوَابنَا فِي تعلق الْأَمر بِهِ) .
قَوْله: {وَلَا يَصح أَمر بموجود، عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} .

(3/1172)


قَالَ الْمجد فِي " المسودة " - وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح -: (لَا يَصح الْأَمر بالموجود عِنْد أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور) .
وَقَالَ ابْن عقيل: (يَنْبَنِي على أصل - بَان بِهَذَا أَن أَصْحَابنَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ ودانوا بِهِ - هُوَ: أَن الْأَمر [بالمستحيل] لَا يجوز، خلافًا للأشعري) انْتهى.
قَالَ الْمجد: (وَأَجَازَهُ بعض الْمُتَكَلِّمين) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَهَذَا القَوْل أَجود) .
قَالَ: (وَهَذِه تشبه إِرَادَة الْمَوْجُود ومحبة الْمَوْجُود، وتشبه مَسْأَلَة افتقار الْمَوْجُود إِلَى الْمُؤثر، وَأَن [عِلّة] الافتقار الْإِمْكَان والحدوث) انْتهى.
{وَقَالَ ابْن عقيل: (يَصح أَن يقارن الْأَمر الْفِعْل حَال وجوده} ووقوعه من الْمُكَلف، [و] لَيْسَ من شَرط صِحَة الْأَمر [تقدمه] على الْفِعْل، { [وَبِه قَالَ عَامَّة سلف الْأمة، وَعَامة الْفُقَهَاء] ، خلافًا

(3/1173)


للمعتزلة} ، فعندهم: لَا بُد أَن يتَقَدَّم الْأَمر الْفِعْل، {فبعضهم: جوزه بِوَقْت، وَأَكْثَرهم: بأوقات) } .
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (اخْتلفت الْمُعْتَزلَة فِي مِقْدَار التَّقَدُّم، بعد اتِّفَاقهم مَعَ الْجُمْهُور على وَقت يحصل للْمَأْمُور بِهِ السماع والفهم، فبعضهم: بأزمنة كَثِيرَة، وَقيل: بِوَقْت وَاحِد) .
وَقَالَ الباقلاني: (يجب تقدمه بوقتين، الأول: السماع، وَالثَّانِي: الْفَهم، والتكليف يَقع فِي الثَّالِث) .
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (اخْتلفُوا فِي مِقْدَار زمن التَّقَدُّم، فَقيل: بِوَقْت وَاحِد، وَالْأَكْثَر: بأوقات.
ثمَّ اخْتلفُوا من وَجه آخر، هَل يشْتَرط أَن يكون فِيمَا قبل الْفِعْل بأوقات [لطف] ومصلحة زَائِدَة على التَّبْلِيغ من الْمبلغ وَالْقَبُول من الْمُخَاطب أم لَا؟) .

(3/1174)


وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْأَكْثَر قَالَ بأوقات كَثِيرَة، وَبَعْضهمْ: بِوَقْت وَاحِد، وَبَعْضهمْ علق تَقْدِيمه بأوقات على الْمصلحَة، وعلق بَعضهم جَوَاز تقدمه بأوقات: أَن يكون فِي تِلْكَ الْأَوْقَات كلهَا تتكامل شُرُوط التَّكْلِيف من الْعَمَل وَالصِّحَّة والسلامة) انْتهى.
تَنْبِيه: هَذِه الْمَسْأَلَة وَالْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا ذكر ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي صفة الْخلاف طَرِيقين فَقَالَ: (يجوز التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثه خلافًا لشذوذ، وَيمْتَنع بعد حُدُوثه، وَاخْتلف فِي جَوَاز تعلق التَّكْلِيف بِهِ فِي أول زمَان حُدُوثه، وَقيل: الْخلاف فِي دوَام التَّكْلِيف إِلَى حَال حُدُوثه فَقَط، فيدوم عِنْد الْأَكْثَر، وَعند الْمُعْتَزلَة: يَنْقَطِع تعلق الْأَمر بِالدُّخُولِ فِي الملابسة، لانْتِفَاء الْعَدَم الَّذِي هُوَ زمن التَّعَلُّق، وَعند الْجُمْهُور: يسْتَمر التَّعَلُّق من فرَاغ الملابسة، وَفِي حَال الملابسة، قَولَانِ) .
وَذكر قبل ذَلِك: أَن الْأَمر بالموجود بَاطِل، قَالَ: (وَصَححهُ شَيخنَا) .
فَذكر الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا ذكر فِي الْمَتْن، وَكَذَلِكَ ذكرهمَا فِي " المسودة ".
قَوْله: {تَنْبِيه: يشْتَرط علم الْمُكَلف [بِكَوْنِهِ مَعْلُوم الْحَقِيقَة، ومأمورا بِهِ، و] من الله تَعَالَى، وَلَا يَكْفِي مُجَرّد الْفِعْل} .

(3/1175)


يشْتَرط فِي الْمُكَلف بِهِ: أَن يكون مَعْلُوم الْحَقِيقَة للمكلف، فَيعلم حَقِيقَته، وَإِلَّا لم يتَوَجَّه قَصده إِلَيْهِ، لعدم تصور قصد مَا لَا يعلم حَقِيقَته، وَإِذا لم يتَوَجَّه قَصده إِلَيْهِ لم يَصح وجوده مِنْهُ، لِأَن توجه الْقَصْد إِلَى الْفِعْل من لَوَازِم إيجاده، فَإِذا انْتَفَى اللَّازِم - وَهُوَ الْقَصْد - انْتَفَى الْمَلْزُوم، وَهُوَ الإيجاد.
وَمن شَرطه - أَيْضا - أَن يعلم الْمُكَلف أَنه مَأْمُور بِهِ، وَإِلَّا لم يتَصَوَّر مِنْهُ قصد الطَّاعَة والامتثال بِفِعْلِهِ، وَلِهَذَا لَا يَكْفِي مُجَرّد الْفِعْل لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ "، وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم: (من منع تَكْلِيف الْمحَال، لم يجوز تَكْلِيف غافل.
وَنقض: بِوُجُوب الْمعرفَة.
ورد: باستثنائه) .
قَالَ: (وَفِيه نظر) .

(3/1176)


5
- (قَوْله: {فصل} )

{ [الْمَحْكُوم عَلَيْهِ] : [الْآدَمِيّ] } .
تقدم أَحْكَام الْمَحْكُوم بِهِ، وَأَحْكَام الْمَحْكُوم فِيهِ، وَهِي الْأَفْعَال، وَالْكَلَام الْآن على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، وَهُوَ: الْآدَمِيّ.

(3/1177)


{ [فَيشْتَرط فِيهِ] : [الْعقل، و] فهم الْخطاب، عِنْد الْعلمَاء} .
وَذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاق الْعُقَلَاء.
فَلَا بُد مِنْهُمَا جَمِيعًا، إِذْ لَا يلْزم من الْعقل الْفَهم، لجَوَاز أَن يكون عَاقِلا لَا يفهم: كَالصَّبِيِّ، وَالنَّاسِي، والسكران، والمغمى عَلَيْهِ، [فَإِنَّهُم] فِي حكم الْعُقَلَاء مُطلقًا، أَو من بعض الْوُجُوه، و [هم لَا يفهمون] ، وَذَلِكَ لِأَن التَّكْلِيف خطاب، وخطاب من لَا عقل لَهُ وَلَا فهم محَال: كالجماد، والبهيمة، وَأَن الْمُكَلف بِهِ مَطْلُوب حُصُوله من الْمُكَلف، طَاعَة وامتثالا، لِأَنَّهُ مَأْمُور، والمأمور يجب أَن يقْصد إِيقَاع الْمَأْمُور بِهِ على سَبِيل الطَّاعَة والامتثال، وَالْقَصْد إِلَى ذَلِك إِنَّمَا يتَصَوَّر بعد الْفَهم، [لِأَن من] لَا يفهم لَا يُقَال لَهُ: افهم، وَلَا يُقَال لمن لَا يسمع: اسْمَع، وَلمن لَا يبصر: أبْصر.

(3/1178)


وَذكر بعض الْعلمَاء: أَن بعض من جوز المستحيل قَالَ بِهِ، لعدم الِابْتِلَاء، وَهُوَ قَول شَاذ، سَاقِط، لَا يعْتد بِهِ وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ.
{ [فعولى الأول: لَا] يُكَلف مراهق} على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، لِأَنَّهُ لم يكمل فهمه فِيمَا يتَعَلَّق بِالْمَقْصُودِ، فنصب الشَّارِع لَهُ عَلامَة ظَاهِرَة، وَهُوَ الْبلُوغ، فَجعله أَمارَة لظُهُور الْعقل وكماله لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يكبر "، وَفِي رِوَايَة: " يَحْتَلِم "، وَفِي رِوَايَة: " حَتَّى يبلغ "، " وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يعقل ".

(3/1179)


وَلِأَن غير الْبَالِغ ضَعِيف الْعقل والبنية، وَلَا بُد من ضَابِط يضْبط الْحَد الَّذِي تتكامل فِيهِ بنيته وعقله، فَإِنَّهُ يتزايد تزايدا خَفِي التدريج، فَلَا يعلم بِنَفسِهِ، وَالْبُلُوغ ضَابِط لذَلِك، وَلِهَذَا يتَعَلَّق بِهِ أَكثر الْأَحْكَام، فَكَذَلِك الصَّلَاة.
{ [وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة: (يُكَلف الْمُرَاهق] .
اخْتَارَهُ ابْن عقيل} فِي " مناظرته "، واختارها أَبُو الْحسن التَّمِيمِي، نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، لَكِن فِي الصَّلَاة.

(3/1180)


وَعنهُ رِوَايَة ثَالِثَة: (يُكَلف ابْن عشر) أَيْضا.
اخْتَارَهُ أَبُو بكر، حَكَاهُ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة " عَنهُ، لَكِن فِي الصَّلَاة لَا غير.
{وَعنهُ} رِوَايَة رَابِعَة: (يُكَلف { [مُمَيّز] ) } أَيْضا.
ذكرهَا الْمُوفق وَغَيره، واختارها أَبُو بكر، وَصَاحب " الْإِرْشَاد "، لَكِن فِي الصَّوْم لَا غير.
فَأخذ الْأَصْحَاب رِوَايَة تَكْلِيف الْمُرَاهق من قَول الإِمَام أَحْمد فِي ابْن أَربع عشرَة: (إِذا ترك الصَّلَاة قتل) .
وَدَلِيل وُجُوبهَا على ابْن عشر قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مروا الصَّبِي بِالصَّلَاةِ لسبع سِنِين، واضربوه عَلَيْهَا لعشر، وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، أَمر بالعقوبة، وَلَا تشرع الْعقُوبَة إِلَّا لترك وَاجِب، لِأَن حد

(3/1181)


الْوَاجِب مَا عُوقِبَ على تَركه، وَالْأول: الصَّحِيح، للْحَدِيث الْمُتَقَدّم، وَالضَّرْب إِنَّمَا هُوَ للتمرين ليعتادها.
قَوْله: {وَوُجُوب زَكَاة، وَنَفَقَة، وَضَمان، من ربط الحكم بِالسَّبَبِ} .
أَعنِي: على القَوْل الصَّحِيح: أَنه غير مُكَلّف، فوجوب هَذِه الْأَشْيَاء عَلَيْهِ من ربط الْأَحْكَام بالأسباب، لتعلقها بِمَالِه، أَو ذمَّته الإنسانية الَّتِي بهَا يستعد لقُوَّة الْفَهم فِي ثَانِي الْحَال: كَالْمَجْنُونِ، بِخِلَاف الْبَهِيمَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح - بعد هَذَا -: (وَبِمَا سبق يُجَاب عَن طَلَاقه إِن صَحَّ، وَهُوَ الْأَشْهر عَن أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه) ، وَكَذَلِكَ ظِهَاره، وَذَلِكَ: أَنه من بَاب ربط الْأَحْكَام بالأسباب، وَيكون من خطاب الْوَضع.
قَالَ: (وَظهر أَن تَخْرِيج بَعضهم لَهُ على تَكْلِيفه ضَعِيف، وَمثله نَظَائِره) انْتهى.

(3/1182)


وَمرَاده بِالْبَعْضِ: الطوفي فِي " مُخْتَصر الرَّوْضَة "، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْن مُفْلِح، فَإِن الصَّحِيح: أَنه غير مُكَلّف، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنه يَصح طَلَاقه، فَلَيْسَ بمخرج عَلَيْهِ.
قَوْله: {ويكلف سَكرَان يُمَيّز قطعا} .
إِن ميز السَّكْرَان بَين الْأَعْيَان، فَحكمه حكم سَائِر الْعُقَلَاء، بِلَا نزاع، لِأَنَّهُ عَاقل يفهم، مُكَلّف كَغَيْرِهِ من الْعُقَلَاء.
قَوْله: {وَكَذَا من لَا يُمَيّز عِنْد أَحْمد، [وَأكْثر أَصْحَابه، وَأبي حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ] } .
إِذا كَانَ لَا يُمَيّز بَين الْأَعْيَان، أَو يخلط فِي كَلَامه وقراءته، فَهَذَا مَحل الْخلاف، وَسَيَأْتِي تحريره.
وَالصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، القَاضِي،

(3/1183)


وَغَيره، وَالشَّافِعِيّ، وَالْحَنَفِيَّة: أَنه مُكَلّف.
قَالَ ابْن برهَان: (مَذْهَب الْفُقَهَاء قاطبة أَنه مُخَاطب) .
وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله: (السكر لَيْسَ بمرفوع عَنهُ الْقَلَم) .
وَفِي رِوَايَة أبي بكر ابْن هاني: (السَّكْرَان لَيْسَ بمرفوع عَنهُ الْقَلَم، فَيسْقط عَنهُ مَا صنع) .
وَفِي رِوَايَة حَنْبَل: (لَيْسَ السَّكْرَان بِمَنْزِلَة الْمَجْنُون الْمَرْفُوع عَنهُ الْقَلَم، هَذَا جِنَايَته من نَفسه) .

(3/1184)


وَحكى الإِمَام أَحْمد عَن الإِمَام الشَّافِعِي أَنه كَانَ يَقُول: (وجدت السَّكْرَان لَيْسَ بمرفوع عَنهُ الْقَلَم) .
وَنَصّ عَلَيْهِ فِي " الْأُم " أَيْضا.
وَعَن أَحْمد فِي أَقْوَاله وأفعاله رِوَايَات:
إِحْدَاهمَا: أَنه كالصاحي، وَهَذَا الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
وَالثَّانيَِة: أَنه كَالْمَجْنُونِ.
وَالثَّالِثَة: كَالْمَجْنُونِ فِي أَقْوَاله، وكالصاحي فِي أَفعاله.
وَالرَّابِعَة: فِي الْحُدُود كالصاحي، وَفِي غَيرهَا كَالْمَجْنُونِ.
قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة الْمَيْمُونِيّ: (تلْزم الْحُدُود وَلَا تلْزم الْحُقُوق) ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بكر.

(3/1185)


وَالْخَامِسَة: أَنه فِيمَا يسْتَقلّ بِهِ - كقتله، وعتقه، وَنَحْوهمَا - كالصاحي، وَفِيمَا لَا يسْتَقلّ بِهِ - كَبَيْعِهِ، وشرائه، ومعاوضاته - كَالْمَجْنُونِ، حَكَاهَا ابْن حَامِد، وَأَوْمَأَ إِلَيْهَا فِي رِوَايَة البرزاطي، فَقَالَ: (لَا أَقُول فِي طَلَاقه شَيْئا) ، قيل لَهُ: (فبيعه وشراؤه؟) ، فَقَالَ: (أما بَيْعه وشراؤه فَغير جَائِز) .
قَالَ الزَّرْكَشِيّ: (قلت: وَنقل عَنهُ ابْن هَانِيء مَا يحْتَمل عكس الرِّوَايَة الْخَامِسَة فَقَالَ: لَا أَقُول فِي طَلَاق السَّكْرَان وعتقه شَيْئا، وَلَكِن بَيْعه وشراؤه جَائِز) .

(3/1186)


وَعنهُ سابعة: لَا تصح ردته فَقَط.
أما الْعِبَادَة؛ فيقضيها إِذا أَفَاق، عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، {وَخَالف} أَبُو ثَوْر، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ {ابْن عقيل، والموفق} فِي الرَّوْضَة، {والطوفي، وَأكْثر

(3/1187)


الْمُتَكَلِّمين} : لَيْسَ بمكلف، لعدم تحرزه من المضار وقصده للْفِعْل بلطف ومداراة، بِخِلَاف طِفْل، وَمَجْنُون، وبهيمة، فَهُوَ أولى.
وَقَالَ ابْن عقيل: (تحصل الغرامة، وَالْقَضَاء بالغرامات، بِأَمْر مُبْتَدأ) .
ورده ابْن مُفْلِح، وَقَالَ: (فَيلْزمهُ لَا غرم لَو لم يعقل) .
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": (هُوَ غير مُكَلّف) ، وَاخْتلف كَلَامه فِي " الْمُغنِي ".
وَخرج بعض أَصْحَابنَا فِي إثمه رِوَايَتَيْنِ.
وَجزم الْآمِدِيّ وَغَيره بِعَدَمِ تَكْلِيفه، لِأَن الْإِتْيَان بِالْفِعْلِ الْمعِين، على وَجه الِامْتِثَال، يتَوَقَّف على الْعلم بِالْأَمر بِالْفِعْلِ الْمَأْمُور بِهِ، لِأَن الِامْتِثَال: عبارَة عَن قصد إِيقَاع الْمَأْمُور بِهِ على وَجه الطَّاعَة، وَيلْزم من ذَلِك علم الْمَأْمُور بتوجه الْأَمر نَحوه، وبالفعل، فَهُوَ مُسْتَحِيل عقلا فِيهِ لعدم الْفَهم حَال كَونه كَذَلِك.

(3/1188)


فَائِدَة: فِي حد السَّكْرَان الَّذِي وَقع فِيهِ الْخلاف: قَالَ القَاضِي وَغَيره: (هُوَ الَّذِي يخلط فِي كَلَامه وقراءته، وَيسْقط تَمْيِيزه بَين الْأَعْيَان، وَلَا يشْتَرط فِيهِ أَن يكون بِحَيْثُ لَا يُمَيّز بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وَبَين الذّكر وَالْأُنْثَى. وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فِي رِوَايَة حَنْبَل، قَالَ: (هُوَ إِذا وضع ثِيَابه فِي ثِيَاب غَيره فَلم يعرفهَا، 4 أَو وضع نَعله فِي نعَالهمْ فَلم يعرفهُ، وَإِذا هذى فَأكْثر كَلَامه، وَكَانَ مَعْرُوفا بِغَيْر ذَلِك) .
وَضَبطه بَعضهم: (بِأَنَّهُ الَّذِي يخْتل فِي كَلَامه المنظوم، ويبيح بسره المكتوم) انْتهى.
اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول: بقوله تَعَالَى: {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} [النِّسَاء: 43] ، وتأويله بِأَن المُرَاد: مثل: لَا تمت وَأَنت ظَالِم، أَو: مبدأ النشاط والطرب، خلاف الظَّاهِر.
قَالَ جمَاعَة: احْتج من قَالَ بتكليف السَّكْرَان بِالْآيَةِ، بِأَن المُرَاد

(3/1189)


الطافح، بِدَلِيل: {حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} ، فقد وَجه [إِلَيْهِ] النَّهْي فِي حَال سكره.
ونوزعوا فِي الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور بِاحْتِمَال أَن يكون ذَلِك من خطاب الْوَضع، بِمَعْنى أَن صلَاته فِي سكره ممتنعة، أَي: بَاطِلَة، أَو أَن المُرَاد النَّهْي عَن السكر عِنْد إِرَادَة الصَّلَاة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} [الْبَقَرَة: 132] ، وكما يُقَال: لَا تمت وَأَنْتُم ظَالِم، أَي: لَا تظلم فيؤول بك الْأَمر إِلَى الْمَوْت فِي حَال الظُّلم، وَأَن المُرَاد بالسكر هُنَا: أَن يكون ثملا حَاضر الوعي.
وَقد قَالَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره: (إِن الْآيَة يجب تَأْوِيلهَا على أحد هذَيْن الْأَمريْنِ، الْأَخيرينِ) .
وَلَكِن الْكل سَاقِط أما الأول؛ فَلِأَنَّهُ لَو كَانَ من خطاب الْوَضع لم يَأْثَم، وَالْفَرْض أَنه آثم.
وَالثَّانِي، فَمثل ذَلِك مجَاز لَا يعدل إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد تعذر الْحَقِيقَة، أَو قيام دَلِيل على إِرَادَته وَلَا مَانع من الْحَقِيقَة، فَوَجَبَ الْمصير للْحَمْل عَلَيْهَا.

(3/1190)


وَأما الثَّالِث، فَلِأَنَّهُ يلْزم أَن من بِهِ مباديء النشاة وَله تَمْيِيز تحرم عَلَيْهِ الصَّلَاة، وَهُوَ بَاطِل، على أَن لفظ الثمل لَيْسَ هُوَ كَمَا [فهم] من حملهَا على النشوان الَّذِي فِيهِ أَوَائِل الطَّرب، فَإِنَّهُ خلاف قَول أهل اللُّغَة إِن الثمل: هُوَ الطافح، وَلذَلِك جَاءَ فِي حَدِيث حَمْزَة: " فَعرف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه ثمل ".
لَكِن فِي تَكْلِيفه إِشْكَال، من حَيْثُ إِنَّه يلْزم أَن يكون مُكَلّفا بالعبادات كلهَا، وَمِنْهَا الصَّلَاة، ومكلفا بِأَن لَا يُصَلِّي لهَذِهِ الْآيَة، وهما متنافيان.
وَيُمكن الْجَواب: بِأَنَّهُ مَنْهِيّ عَن قرْبَان الصَّلَاة وَهُوَ سَكرَان، ثمَّ يزِيل السكر وَيُصلي، كَمَا يُؤمر من هُوَ مُحدث بِإِزَالَة الْحَدث وَيُصلي، مَعَ أَنه مَنْهِيّ عَن الصَّلَاة حَال [حَدثهُ] ، فَهُوَ مَأْمُور مَنْهِيّ باعتبارين، فَإِن كَانَ إِزَالَته

(3/1191)


لَيست مقدورة لَهُ، فَهُوَ معاقب تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، لِأَن التَّفْرِيع على كَونه لَيْسَ عَاقِلا، وَأَنه تعلق بِهِ الْخطاب، غَايَته - هُنَا - أَن يكون مُكَلّفا بِمَا لَا يطيقه، فَهُوَ من جَوَاز التَّكْلِيف بالمحال، وَالله أعلم.
وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على تَكْلِيفه: أَن النَّص لم يذكرهُ فِي جملَة من رفع عَنهُ الْقَلَم.
وَقَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: (إِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى، وعَلى المفتري ثَمَانُون جلدَة) إِسْنَاده جيد، رَوَاهُ مَالك وَالدَّارَقُطْنِيّ.
وَجمع عمر أَصْحَابه - رَضِي الله عَنْهُم - فاستشارهم، فَقَالَ عَليّ: (إِذا سكر افترى) رَوَاهُ أَحْمد.

(3/1192)


فارغة

(3/1193)


وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: (وُقُوع طَلَاقه من بَاب ربط الْأَحْكَام بالأسباب) .
قَوْله: {كمعذور بِهِ، [أَو مغمى عَلَيْهِ] وآكل بنج، نصا، ونائم، وناس، وَفِي " الْمقنع ": ومخط، فِي الْأَصَح فِيهِنَّ} .
ذكرنَا فِي هَذِه الْجُمْلَة مسَائِل لَا يُكَلف صَاحبهَا على الْأَصَح من الْمَذْهَب.
إِحْدَاهَا: الْمَعْذُور بالسكر - كالمكره عَلَيْهِ - هَل يُكَلف أم لَا؟
فِيهِ خلاف، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَن حكمه حكم الْمغمى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُون فِي تَكْلِيفه وَعَدَمه، على مَا يَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (فَدلَّ: أَن السكر لَا يزِيل الْعقل، لكنه يغطيه: كالنوم وَالْإِغْمَاء، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم، وَفِي كَلَام أَصْحَابنَا مَا يدل على خلاف ذَلِك) .

(3/1194)


وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْجَامِع الْكَبِير " فِي كتاب الطَّلَاق: (فَأَما إِن أكره على شربهَا، احْتمل أَن يكون حكمه حكم الْمُخْتَار، لما فِيهِ من اللَّذَّة، وَاحْتمل أَن لَا يكون حكمه حكم الْمُخْتَار لسُقُوط المأثم عَنهُ وَالْحَد.
قَالَ: وَإِنَّمَا يخرج هَذَا على الرِّوَايَة الَّتِي تَقول: إِن الْإِكْرَاه يُؤثر فِي شربهَا، فَأَما إِن قُلْنَا: إِن الْإِكْرَاه لَا يُؤثر فِي شربهَا فَحكمه حكم الْمُخْتَار) انْتهى.
الثَّانِيَة: الْمغمى عَلَيْهِ، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنه غير مُكَلّف حَال إغمائه، بل هُوَ أولى من السَّكْرَان الْمُكْره فِي عدم التَّكْلِيف، وَنَصّ عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد.
وَقيل: مُكَلّف.

(3/1195)


فالمغمى عَلَيْهِ فرع مُتَرَدّد بَين النَّائِم وَالْمَجْنُون، فبالنظر إِلَى كَون عقله لم يزل، بل ستره الْإِغْمَاء فَهُوَ كالنائم، وَلِهَذَا قيل: بِأَنَّهُ إِذا شم البنج أَفَاق، وبالنظر إِلَى كَونه إِذا نبه لم ينتبه يشبه الْمَجْنُون، وَلِهَذَا اخْتلف فِي الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِهِ، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنه مُلْحق فِي الْأَحْكَام بالنائم.
وَفِيه أَحْكَام كَثِيرَة ذكرهَا فِي " قَوَاعِد الْأُصُول ".
الثَّالِثَة: آكل البنج، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: إِن أكله لغيره حَاجَة - إِذا زَالَ الْعقل - كَالْمَجْنُونِ، وَلَا يَقع طَلَاق من تنَاوله، وَنَصّ عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، لِأَنَّهُ لَا لَذَّة فِيهِ، وَفرق الإِمَام أَحْمد بَين آكله وَبَين شَارِب الْخمر، فألحقه بالمجنون.
وَعنهُ: هُوَ كَالسَّكْرَانِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.

(3/1196)


قَالَ: (لِأَنَّهُ قصد إِزَالَة الْعقل بِسَبَب محرم) .
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْجَامِع الْكَبِير ": (إِن زل عقله بالبنج نظرت، فَإِن تداوى بِهِ فَهُوَ مَعْذُور، وَيكون الحكم فِيهِ كَالْمَجْنُونِ، وَإِن تنَاول مَا يزِيل عقله لغير حَاجَة كَانَ حكمه كَالسَّكْرَانِ) .
وَالرَّابِعَة، وَالْخَامِسَة: النَّائِم وَالنَّاسِي، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنَّهُمَا غير مكلفين حَال النّوم وَالنِّسْيَان؛ [لِأَن] الْإِتْيَان بِالْفِعْلِ الْمعِين على وَجه الِامْتِثَال يتَوَقَّف على الْعلم بِالْفِعْلِ الْمَأْمُور بِهِ، لِأَن الِامْتِثَال: عبارَة عَن قصد إِيقَاع الْمَأْمُور بِهِ على وَجه الطَّاعَة، وَيلْزم من ذَلِك علم الْمَأْمُور بتوجه الْأَمر نَحوه وبالفعل، فَهُوَ مُسْتَحِيل عقلا لعدم الْفَهم، كَمَا تقدم فِي السَّكْرَان، بِدَلِيل عدم تحرزهم من المضار وَقصد الْفِعْل بلطف ومداراة، بِخِلَاف الطِّفْل وَالْمَجْنُون، فَإِنَّهُمَا يفهمان ويقصدان الْفِعْل عِنْد التلطف بهما، ويحترزان من المضار، بل والبهيمة كَذَلِك.

(3/1197)


ويخص النَّائِم وَالنَّاسِي لقَوْل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رفع الْقَلَم عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ "، و " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان ".

(3/1198)


وَألْحق ابْن حمدَان فِي " مقنعه " المخطيء بهما، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد نَص عَلَيْهِ صَاحب الشَّرِيعَة - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - وَقَوله تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} [الْأَحْزَاب: 5] ، وَهُوَ معنى الحَدِيث، والْحَدِيث فِيهِ ضعف.
فَقَالَ فِي " الْمقنع ": (المخطيء غير مُكَلّف بِمَا هُوَ مخط فِيهِ.
ثمَّ قَالَ: قلت: فالنائم والمغمى عَلَيْهِ أَسْوَأ حَالا من المخطيء، فَلَا يكلفان، وَالْقَضَاء إِن وَجب فبخطاب وضع وإخبار، لوُجُود سَببه فِي حَقّهمَا، وَهُوَ الْأَهْلِيَّة الْقَرِيبَة حصولا، حَقِيقَة، لَا بِأَمْر أول أَو ثَان) .
فَائِدَة: المخطيء: اسْم فَاعل من أَخطَأ يخطيء إخطاء خلاف الْعمد، وَاسم الْمصدر: الْخَطَأ - بِفَتْح الْخَاء والطاء -، وَأما خطيء - بِكَسْر الطَّاء - يخطأ بِفَتْحِهَا، بِوَزْن علم يعلم - فَمَعْنَاه: أَثم، والمصدر: الخطء - بِكَسْر الْخَاء

(3/1199)


وَسُكُون الطَّاء -، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن قَتلهمْ كَانَ خطئا كَبِيرا} [الْإِسْرَاء: 31] ، أَي: إِثْمًا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتغْفر لنا ذنوبها إِنَّا كُنَّا خاطئين} [يُوسُف: 97] ، وَقد يُطلق الخاطيء بِمَعْنى المخطيء.
قَوْله: {وَالْمكْره الْمَحْمُول كالآلة غير مُكَلّف، عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} .
وَهُوَ مِمَّا لَا يُطَاق.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (إِذا انْتهى الْإِكْرَاه إِلَى سلب الْقُدْرَة وَالِاخْتِيَار، فَهَذَا غير مُكَلّف إِجْمَاعًا) انْتهى.

(3/1200)


وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: مُكَلّف، حَكَاهُ عَنْهُم ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".

(3/1201)


{وَلنَا وَجه: [أَنه إِذا حلف: لَا يفعل كَذَا، فأكره على فعله حَتَّى بَقِي كالآلة، فَإِنَّهُ يَحْنَث] } ، وَحكي رِوَايَة عَن أَحْمد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَذكر بعض أَصْحَابنَا وَجها، وَبَعْضهمْ رِوَايَة فِي الْيَمين: يَحْنَث) .
وَحكى الطوفي فِي " مُخْتَصره " عَن الْأَصْحَاب: أَنه مُكَلّف مُطلقًا كالحنفية.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَهُوَ سَهْو) ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وحكاية ابْن قَاضِي الْجَبَل الْإِجْمَاع فِيهِ نظر أَيْضا، إِلَّا أَن يُرِيد أَنه غير مأثوم، فَمُسلم.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمُكْره كالآلة يمْتَنع تَكْلِيفه، قيل: بِاتِّفَاق، لَكِن الْآمِدِيّ أَشَارَ إِلَى أَن تطرقه الْخلاف من التَّكْلِيف بالمحال، لتصور الِابْتِلَاء مِنْهُ، بِخِلَاف الغافل.

(3/1202)


وَفِي مَذْهَبنَا وَجه أَن الصَّائِم إِذا أوجر مكْرها يفْطر، لَكِن لَيْسَ لكَونه مُكَلّفا، بل لِأَن الْفطر عِنْده: مَا يصل إِلَى الْجوف مُطلقًا، فَيرجع إِلَى خطاب الْوَضع، فَلَا تَكْلِيف بِفعل الملجأ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِب الْوُقُوع، وَلَا بِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنع) .
قَوْله: {وبالتهديد وَالضَّرْب مُكَلّف عندنَا وَعند الْأَكْثَر خلافًا للمعتزلة والطوفي} .
وَالْمذهب: الأول - وَهُوَ مَذْهَب أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم: الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم - لصِحَّة الْفِعْل مِنْهُ وَتَركه، وَنسبَة الْفِعْل إِلَيْهِ حَقِيقَة، وَلِهَذَا يَأْثَم الْمُكْره بِالْقَتْلِ بِلَا خلاف، قَالَه الْمُوفق فِي " الْمُغنِي "، مَعَ أَنه علل أحد الْقَوْلَيْنِ لنا وللشافعية فِيمَا إِذا علق طَلَاقا بقدوم زيد، فَقدم مكْرها: لَا يَحْنَث، لزوَال اخْتِيَاره بِالْإِكْرَاهِ.
وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة والطوفي - من أَصْحَابنَا - إِلَى أَنه غير مُكَلّف.
فَقَالَ فِي " مُخْتَصره ": (وَالْعدْل الظَّاهِر الشَّرْعِيّ، يَقْتَضِي عدم تَكْلِيفه) .

(3/1203)


وَقَالَ قبل ذَلِك فِي بِنَاء الْمَسْأَلَة: (وَالْحق: أَن الْخلاف فِيهِ مَبْنِيّ على خلق الْأَفْعَال، وَمن رَآهَا خلق الله قَالَ بتكليف الْمُكْره، إِذْ جَمِيع الْأَفْعَال وَاجِبَة بِفعل الله تَعَالَى، فالتكليف بإيجاد الْمَأْمُور بِهِ مِنْهَا، وَترك الْمنْهِي، غير مَقْدُور، وَهَذَا أبلغ، وَمن لَا فَلَا) انْتهى.
قَالَت الْمُعْتَزلَة: (لَا يجوز تَكْلِيفه بِعبَادة، لِأَن من أصلهم وجوب إثابة الْمُكَلف، والمحمول على الشَّيْء لَا يُثَاب عَلَيْهِ) .
وَأطلق جمَاعَة عَنْهُم: لَا يُكَلف، وألزمهم الباقلاني: الْإِكْرَاه على الْقَتْل.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (وَهِي هفوة عَظِيمَة؛ لأَنهم لم يمنعوا النَّهْي عَن الشَّيْء مَعَ الْإِكْرَاه، بل الِاضْطِرَار إِلَى فعل شَيْء مَعَ الْأَمر بِهِ) .
فَمحل الْخلاف فِي التَّكْلِيف بِعَين الْمُكْره عَلَيْهِ، وَتَحْرِيم الْقَتْل تَكْلِيف بِتَرْكِهِ.
وَفِي كَلَام أبي الْمَعَالِي نظر، لِأَن القَاضِي إِنَّمَا رد عَلَيْهِم بذلك، لِأَن

(3/1204)


الْقُدْرَة عِنْدهم شَرط فِي تَكْلِيفه، وَلَا تتَحَقَّق إِلَّا بِأَن يقدر على الشَّيْء وضده عِنْدهم أَيْضا، فتحريم الْقَتْل الَّذِي أكره عَلَيْهِ دَلِيل على أَنه قَادر، فَلَا وَجه لمنعهم التَّكْلِيف بِعَين الْمُكْره عَلَيْهِ مُطلقًا، هَذَا كُله معنى كَلَام ابْن التلمساني.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَأما الْمُكْره غير الملجأ فَلَا يمْتَنع تَكْلِيفه، وَمُقَابِله ينْقل عَن الْحَنَفِيَّة، وَرُبمَا نقل عَن الْمُعْتَزلَة، لَكِن الأثبت فِي النَّقْل عَنْهُم، كَمَا قَالَ ابْن التلمساني، أَنه يمْتَنع التَّكْلِيف بِفعل الْمُكْره، لاشْتِرَاط كَون الْمَأْمُور بِهِ بِحَيْثُ يُثَاب عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُثَاب هُنَا، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ لداعي الْإِكْرَاه لَا لداعي الشَّرْع، وَلَا يمْتَنع التَّكْلِيف بِتَرْكِهِ، فَإِنَّهُ إِذا ترك كَانَ أبلغ فِي إِجَابَة دَاعِي الشَّرْع) .
تَنْبِيه: هَذِه الْمَسْأَلَة مُخْتَلفَة الحكم فِي الْفُرُوع فِي الْمَذْهَب، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَقْوَال، وَالْأَفْعَال، فِي حق الله وَحقّ العَبْد، على مَا لَا يخفى، وَالْأَشْهر عندنَا: نَفْيه فِي حق الله تَعَالَى، وثبوته فِي حق العَبْد.
وَضَابِط الْمَذْهَب - أَيْضا -: أَن الْإِكْرَاه لَا يُبِيح [الْأَفْعَال، وَإِنَّمَا

(3/1205)


يُبِيح] الْأَقْوَال، وَإِن اخْتلف فِي بعض الْأَفْعَال، وَاخْتلف التَّرْجِيح.
وَلِصَاحِب الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة مسَائِل فِي ذَلِك كَثِيرَة، مُخْتَلفَة الْأَحْكَام.
قَوْله: {ويبيح الْإِكْرَاه مَا قبح ابْتِدَاء، خلافًا للمعتزلة} .
بِنَاء مِنْهُم على التحسين والتقبيح العقليين، وَقد مضى الْكَلَام فِي ذَلِك بِمَا فِيهِ مقنع.
وَاسْتدلَّ الْجَمَاعَة لذَلِك: بِإِبَاحَة كلمة الْكفْر بِالْإِكْرَاهِ بِالْآيَةِ، وبالإجماع، وَفِيهِمَا كِفَايَة.

(3/1206)


قَوْله: {وَالْمكْره بِحَق مُكَلّف، عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
وَقد ذكر الْفُقَهَاء فِي الْأَحْكَام من البيع وَغَيره، وَمن ذَلِك إِكْرَاه الْحَرْبِيّ وَالْمُرْتَدّ على الْإِسْلَام، فَإِنَّهُ يَصح مِنْهُمَا، وهما مكلفان بذلك، وإكراه الْحَاكِم الْمَدْيُون بِالْوَفَاءِ مَعَ الْقُدْرَة، وَنَحْو ذَلِك من الْأَحْكَام.
{فَائِدَة [تتَعَلَّق بهَا] :} قَالَ الإِمَام {أَحْمد و [أَكثر الْعلمَاء] : (لَا يجب على الله [تَعَالَى] شَيْء) .

(3/1207)


قَالَ ابْن عقيل [وَغَيره] : (لَا عقلا وَلَا شرعا) .
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَجمع [من] أَصْحَابنَا وَغَيرهم: (يجب عَلَيْهِ شرعا بفضله وَكَرمه) ، وَحكي عَن أهل السّنة.
قَالَ الشَّيْخ [تَقِيّ الدّين] : (أَكثر النَّاس يثبت استحقاقا زَائِدا على مُجَرّد الْوَعْد) .
وَعند الْمُعْتَزلَة: يجب عَلَيْهِ رِعَايَة الْأَصْلَح} .
وَجه تعلق هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَسْأَلَة الْإِكْرَاه: أَن الله تَعَالَى توعد العَاصِي، وتارك الْوَاجِب عَلَيْهِ من الْعِبَادَات وَغَيرهَا بالعقوبة، ووعد الْمُطِيع، وفاعل الْوَاجِب عَلَيْهِ من الْعِبَادَات وَغَيرهَا بالثواب، وَكَذَلِكَ فَاعل المستحبات، فَلَا يُقَال: [إِن من يتوعده] تَعَالَى يكون الْفَاعِل مكْرها كَمَا لَو أكرهه أحد من النَّاس على ذَلِك، هَذَا مَا ظهر لي من ذَلِك، فَإِن ابْن مُفْلِح أَدخل هَذِه الْمَسْأَلَة فِي مَسْأَلَة الْمُكْره.
إِذا علم ذَلِك: فَأكْثر أهل السّنة قَالُوا: لَا يجب على الله تَعَالَى شَيْء، مِنْهُم: الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْأَئِمَّة وأتباعهم، بل يثيب الْمُطِيع بفضله

(3/1208)


وَرَحمته وَكَرمه، حَتَّى قَالَ ابْن عقيل وَغَيره من الْعلمَاء: (لَا يجب على الله [شَيْء] لَا عقلا وَلَا شرعا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَمعنى كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا: أَنه يجب عَلَيْهِ شرعا بفضله وَكَرمه، وَلِهَذَا أوجبوا إِخْرَاج الْمُوَحِّدين من النَّار بوعده) .
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} [الرّوم: 47] : (أَي: وَاجِبا أوجبه هُوَ) .
وَذكره بعض الشَّافِعِيَّة عَن أهل السّنة.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (أَكثر النَّاس يثبت استحقاقا زَائِدا على مُجَرّد الْوَعْد، لهَذِهِ الْآيَة، وَلِحَدِيث معَاذ: " أَتَدْرِي مَا حق الله على الْعباد، وَمَا حق الْعباد على الله ".

(3/1209)


وَعند الْمُعْتَزلَة: يجب عَلَيْهِ رِعَايَة الْأَصْلَح، وَهِي قَاعِدَة من قواعدهم، وَلِهَذَا قَالُوا هُنَا: لَا يجوز تَكْلِيف الْمُكْره بِعبَادة، لِأَن من أصلهم: وجوب إثابة الْمُكَلف، والمحمول على الشَّيْء كرها لَا يُثَاب عَلَيْهِ.
وَعِنْدنَا وَعند الْأَكْثَر: لَا يقف الْأَمر على الْمصلحَة، بل يجوز أَن يَأْمر بِمَا لَا مصلحَة فِيهِ للْمَأْمُور، وَلَكِن التَّكْلِيف إِنَّمَا وَقع على وَجه الْمصلحَة، بِنَاء على أَنه قد يَأْمر بِمَا لَا يُرِيد كَونه، وَأَنه لَا يجب عَلَيْهِ رِعَايَة الصّلاح والأصلح، وَأَنه سُبْحَانَهُ لَا يقبح مِنْهُ شَيْء، بل يفعل مَا يَشَاء.
هَذَا كَلَام القَاضِي، نَقله الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَذكر مَأْخَذ الْمَسْأَلَة وَطوله فِي " المسودة ".

(3/1210)


(قَوْله {فصل} )

{لَا يُكَلف مَعْدُوم حَال عَدمه إِجْمَاعًا، [ويعمه] الْخطاب إِذا كلف كَغَيْرِهِ} - من صَغِير وَمَجْنُون - {عِنْد أَصْحَابنَا، والأشعرية، وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
وَقَالَت [الْمُعْتَزلَة وَجمع] ، وَحكي عَن أبي الْخطاب: لَا [يعمه] إِلَّا بِدَلِيل.

(3/1211)


وَقيل: يَشْمَلهُ تبعا [لموجود] .
وَقيل: إعلاما لَا إلزاما} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (يجوز تَكْلِيف الْمَعْدُوم، بِمَعْنى: أَن الْخطاب يعمه إِذا وجد أَهلا، وَلَا يحْتَاج إِلَى خطاب آخر عِنْد أَصْحَابنَا، وَحكي عَن الأشعرية، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن طَائِفَة من السّلف وَالْفُقَهَاء.
فَلَيْسَ الْخلاف لفظيا كَمَا يَقُوله الْجِرْجَانِيّ الْحَنَفِيّ، وَإِنَّمَا قَول الأشعرية: يجوز تَكْلِيف الْمَعْدُوم، بِمَعْنى: تعلق الطّلب الْقَدِيم بِالْفِعْلِ من الْمَعْدُوم حَال وجوده وفهمه.

(3/1212)


والمعتزلة قَالُوا هم وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن أبي

(3/1213)


الْخطاب: " لَا يعمه الحكم إِلَّا بِدَلِيل، نَص، أَو إِجْمَاع، أَو قِيَاس ".
وَلِهَذَا قَالَ الْجِرْجَانِيّ: " الْخلاف لَفْظِي ".
وللحنفية فِي عُمُوم الحكم لَهُ بِغَيْر دَلِيل، قَولَانِ.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: " لم يزل الله تَعَالَى يَأْمر بِمَا يَشَاء وَيحكم ".
وَقَالَ - أَيْضا -: " لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ ".
وَقَالَ القَاضِي: " إِذا أَرَادَ أَن يسمعنا ".

(3/1214)


- وَيَأْتِي هَذَا فِي الْكَلَام على الْقُرْآن، هَل هُوَ بِحرف وَصَوت أم لَا؟ .
وَقَالَ الْآمِدِيّ: " يجوز تَكْلِيف الْمَعْدُوم عندنَا، خلافًا لباقي الطوائف ".
وَحكى غَيره الْمَنْع عَن الْحَنَفِيَّة والمعتزلة.
وَفِي كَلَام القَاضِي أبي يعلى وَغَيره: " أَن الْمَعْدُوم مَأْمُور ".
وَكَذَا ترْجم ابْن برهَان الْمَسْأَلَة: " بِأَن الْمَعْدُوم مَأْمُور مَنْهِيّ ".
وزيفه أَبُو الْمَعَالِي، وَقَالَ: " بل حَقِيقَة الْمَسْأَلَة: هَل يتَصَوَّر أَمر وَلَا مَأْمُور؟ ".) انْتهى نقل ابْن مُفْلِح.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": (الْأَمر يتَعَلَّق بالمعدوم، وأوامر الشَّرْع قد تناولت الْمَعْدُوم إِلَى قيام السَّاعَة، بِشَرْط وجوده على صفة من يَصح تَكْلِيفه، خلافًا للمعتزلة وَجَمَاعَة من الْحَنَفِيَّة) انْتهى.

(3/1215)


وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْأَمر يتَنَاوَل الْمَعْدُوم بِشَرْط وجوده، فَإِذا بلغ عَاقِلا، اشْتَمَل عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول الْحَنَابِلَة وَالشَّافِعِيَّة والأشعرية، خلافًا للمعتزلة وَالْحَنَفِيَّة) .
وَقَالَت طَائِفَة: (إِن كَانَ هُنَاكَ مَوْجُود يتَنَاوَلهُ الْخطاب، دخل الْمَعْدُوم تبعا، وَإِلَّا فَلَا) . حَكَاهُ أَبُو الْخطاب.
ثمَّ اخْتلفُوا، هَل يكون إعلاما أَو إلزاما؟ على قَوْلَيْنِ.
وَاحْتج الباقلاني على الْخطاب بِالْإِجْمَاع.
وَحكم الصَّبِي وَالْمَجْنُون فِي التَّنَاوُل بِشَرْط كَالْمَعْدُومِ، بل أولى، ذكره ابْن عقيل، والأشاعرة، وَلذَلِك قُلْنَا: (كَغَيْرِهِ) .
وعَلى قِيَاسه خرجت الشُّرُوط والموانع، من نوم وسكر وإغماء وَنَحْوهَا.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بقوله تَعَالَى: (وأوحي إِلَيّ هَذَا

(3/1216)


الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} [الْأَنْعَام: 19] ، قَالَ السّلف: (من بلغه الْقُرْآن فقد أنذر بإنذار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) .
وَقَول من قَالَ: إِذا امْتنع خطاب الصَّبِي وَالْمَجْنُون، فالمعدوم أَجْدَر، ضَعِيف، لِأَنَّهُ فهم عَن الْحَنَابِلَة تَنْجِيز التَّكْلِيف، وَلم يعلم [التَّعْلِيق] ، وَأَن حكم الصَّبِي وَالْمَجْنُون كَحكم الْمَعْدُوم، وَمن الْأَدِلَّة - أَيْضا - للمسألة: قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّبعُوهُ} .
وكالأمر بِالْوَصِيَّةِ لمعدوم متأهل، وخيفة الْمُوصي الْفَوْت، لَا أَثَره لَهُ.
وَيحسن لوم الْمَأْمُور فِي الْجُمْلَة، بِإِجْمَاع الْعُقَلَاء على تَأَخره عَن الْفِعْل مَعَ قدرته، وَتقدم أمره.
وَلِأَنَّهُ أزلي، وتعلقه بِغَيْرِهِ جُزْء من حَقِيقَته، وَالْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء

(3/1217)


الْجُزْء، وَكَلَام الْقَدِيم صفته، وَإِنَّمَا تطلب الْفَائِدَة فِي سَماع المخاطبين بِهِ إِذا [وجدوا] .
وَلِأَن التَّابِعين وَالْأَئِمَّة لم يزَالُوا يحتجون بالأدلة، وَهُوَ دَلِيل التَّعْمِيم، وَالْأَصْل عدم اعْتِبَار غَيره، وَلَو كَانَ لنقل.
قَالُوا: تَكْلِيف وَلَا مُكَلّف؛ محَال.
رد: مَبْنِيّ على التقبيح الْعقلِيّ، ثمَّ بِالْمَنْعِ فِي الْمُسْتَقْبل: كالكاتب يُخَاطب من يكاتبه بِشَرْط وُصُوله، ويناديه، وَأمر الْمُوصي والواقف، وَلَيْسَ مجَازًا، لِأَنَّهُ لَا يحسن نَفْيه.
قَالَ ابْن عقيل: (وَلَا أقرب إِلَى ذَلِك من أَسمَاء الله المشتقة) .
قَالُوا: لَا يُقَال للمعدوم: نَاس.
رد: بل يُقَال، بِشَرْط وجوده أَهلا.
قَالُوا: الْعَاجِز غير مُكَلّف، فَهُنَا أولى.
رد: بِالْمَنْعِ عِنْد كل قَائِل بقولنَا، بل مُكَلّف بِشَرْط قدرته وبلوغه وعقله، وَإِنَّمَا رفع عَنهُ الْقَلَم فِي الْحَال، أَو قلم الْإِثْم بِدَلِيل النَّائِم.
قَالُوا: لَو كَانَ، لمدح وذم.
ورده أَصْحَابنَا لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: الْمَنْع؛ لِأَن الله تَعَالَى مدح وذم.

(3/1218)


ثمَّ لعدم الِامْتِثَال والتفريط، وَهُوَ الثَّانِي.
قَالُوا: من شَرط الْقُدْرَة: [وجود] الْمَقْدُور.
رد: بِالْمَنْعِ؛ فَإِن الْقُدْرَة صفة لله وَلَا مَقْدُور.
قَالُوا: يلْزم التَّعَدُّد فِي الْقَدِيم.
وَلم يقل بِهِ أَكثر الأشعرية، فَأَجَابُوا: " بِأَن التَّعَدُّد بِحَسب الْوُجُود غير وَاقع فِي الْأَزَل، فَكَلَامه وَاحِد بِحَسب الذَّات، وَإِنَّمَا تعدد بِاعْتِبَار [متعلقاته] ، وَهُوَ لَا يُوجب تعددا وجوديا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالُوا.
قلت: تقدم الْكَلَام على ذَلِك عِنْد قَوْله: (أَسمَاء الله وَصِفَاته قديمَة) ، فِي قَوْلنَا: (شَرط الْمُشْتَقّ صدق أَصله) .
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (لَيْسَ النزاع فِي الْكَلَام النَّفْسِيّ، بل هَذِه خَاصَّة بِاللَّفْظِ اللّغَوِيّ؛ لأَنا مأمورون بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) انْتهى.

(3/1219)


(قَوْله: {فصل} )

{ [يَصح] [التَّكْلِيف] بِمَا علم الْآمِر انْتِفَاء شَرط وُقُوعه} فِي وقته، {عندنَا وَعند الْأَكْثَر} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (يَصح التَّكْلِيف بِمَا يعلم الْآمِر انْتِفَاء شَرط وُقُوعه عِنْد وقته) .

(3/1220)


قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (يجوز التَّكْلِيف بِمَا يعلم الله أَن الْمُكَلف لَا يُمكن مِنْهُ، مَعَ بُلُوغه حَال التَّمَكُّن، عِنْد القَاضِي، وَابْن عقيل، وَأبي الْخطاب، وَقَالَ: " إِنَّه يَقْتَضِيهِ مَذْهَب أَصْحَابنَا "، فَلهَذَا يعلم الْمُكَلف بالتكليف قبل وَقت الْفِعْل وفَاقا للأشعرية وَغَيرهم، وَذكره بعض أَصْحَابنَا إِجْمَاع الْفُقَهَاء) انْتهى.
وَقَالَ الْمُوفق وَغَيره: (تنبني على النّسخ قبل التَّمَكُّن) .
قَالَ بَعضهم: (تشبهها؛ لِأَن ذَلِك رفع الحكم بخطاب، وَهَذَا بتعجيز، وَنبهَ ابْن عقيل عَلَيْهِ) .
{ [وَنفى ذَلِك الْمُعْتَزلَة، وَأَبُو الْمَعَالِي] } .
وَزعم غلاة الْقَدَرِيَّة - مِنْهُم وَمن غَيرهم -: كمعبد الْجُهَنِيّ، وَعَمْرو

(3/1221)


ابْن عبيد: (أَنه لم يعلم أَفعَال الْعباد حَتَّى فَعَلُوهَا) .
قلت: هَذَا كفر، فلعنة الله على قَائِله، ثمَّ وجدت الشَّيْخ تَقِيّ الدّين قَالَه - فِي هَذِه عَنْهُم -: (إِنَّهُم كفار) .
مِثَال الْمَسْأَلَة: لَو أَمر الله رجلا بِصَوْم يَوْم، وَقد علم - سُبْحَانَهُ - مَوته قبله، وَشرط الصَّوْم الْحَيَاة، فَلَا يُمكن وُقُوعه لانْتِفَاء شَرطه.
وَهَذَا مَبْنِيّ على: أَن فَائِدَة الْخلاف قد تكون الِابْتِلَاء، وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ وجوب الْكَفَّارَة فِي تَرِكَة المجامع فِي نَهَار رَمَضَان، إِذا مَاتَ أَو جن فِي أثْنَاء النَّهَار.
وَجه الصِّحَّة: لَو لم يجز لم يعْص أحد، لِأَن شَرط الْفِعْل إِرَادَة قديمَة أَو حَادِثَة، على اخْتِلَاف الْقَوْلَيْنِ، لِاسْتِحَالَة تخلف المُرَاد عَن إِرَادَته تَعَالَى،

(3/1222)


فَإِذا تَركه، علم أَن الله لَا يُريدهُ، وَأَن العَاصِي لَا يُريدهُ.
وَأَيْضًا: لم يعلم تَكْلِيف، لعدم الْعلم بِبَقَاء الْمُكَلف قبله - وَهُوَ شَرط -، وَلَا مَعَه، وَلَا بعده، لانْقِطَاع التَّكْلِيف فيهمَا.
فَإِن فرض زَمَانه موسعا، كالواجب الموسع - بِحَيْثُ يعلم التَّمَكُّن - نقلنا الْكَلَام إِلَى أَجزَاء [ذَلِك] كالمضيق، والتكليف مَعْلُوم.
وَأَيْضًا: لم يعلم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وجوب الذّبْح.
وَاحْتج الْأَصْحَاب وَابْن الباقلاني: بِالْإِجْمَاع على [تحقق] الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم قبل التَّمَكُّن.
ورده أَبُو الْمَعَالِي: بِنَاء على ظن الْبَقَاء.
ورد: بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيف مَعَ الشَّك.
وَبِأَن احْتِمَال الْخَطَأ قَائِم فِي الظَّن، وَهُوَ مُمْتَنع فِي الْإِجْمَاع.
قَالُوا: لَو جَازَ، لم يكن إِمْكَان الْمُكَلف بِهِ شرطا فِي التَّكْلِيف، لِأَن هَذَا الْفِعْل لَا يُمكن.

(3/1223)


رد: بِأَن الْإِمْكَان الْمَشْرُوط: تَأتي الْفِعْل عَادَة عِنْد اجْتِمَاع شَرَائِطه فِي وقته، وَهُوَ حَاصِل، وَالَّذِي هُوَ شَرط وُقُوع الْفِعْل مَحل النزاع.
على أَنه يلْزم فِي جهل الْآمِر، لجَوَاز امْتنَاع الْفِعْل لانْتِفَاء شَرطه.
قَالُوا: لَو جَازَ لجَاز مَعَ علم الْمَأْمُور اعْتِبَارا بالآمر، وَالْجَامِع عدم الْحُصُول.
رد: بِأَن هَذَا يمْتَنع امتثاله، فَلَا يعزم فَلَا يُطِيع وَلَا يَعْصِي، وَلَا ابتلاء بِخِلَاف مَسْأَلَتنَا.
على أَن الْمجد - على مَا يَأْتِي - قَالَ: (يَنْبَغِي أَن نجوزه كَمَا نجوز تَوْبَة مجبوب من زنى، وأقطع من سَرقَة، وَفَائِدَته: الْعَزْم بتقديره الْقُدْرَة) .
فَمن جَامع صَحِيحا ثمَّ مرض، أَو جن، أَو حَاضَت أَو نفست، لم تسْقط الْكَفَّارَة عِنْد الإِمَام أَحْمد وَغَيره، خلافًا للحنفية، وَأحد قولي الشَّافِعِي، لأَمره عَلَيْهِ السَّلَام الْأَعرَابِي بِالْكَفَّارَةِ، وَلم يسْأَله.

(3/1224)


وكما لَو سَافر، وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (لَا يُقَال 5: تَبينا أَن الصَّوْم غير مُسْتَحقّ؛ لِأَن الصَّادِق لَو أخبرهُ أَنه سيمرض أَو يَمُوت، لم يجز الْفطر، وَالصَّوْم لَا تتجزأ صِحَّته، بل لُزُومه) .
وَفِي " الِانْتِصَار " وَجه: (تسْقط بحيض ونفاس، لمنعهما الصِّحَّة، وَمثلهمَا موت، وَكَذَا جُنُون، إِن منع طريانه الصِّحَّة) .
وَمن علق طَلَاقا بشروعه فِي صَوْم أَو صَلَاة واجبين، فشرع، وَمَات فِيهِ، طلقت إِجْمَاعًا.
قَوْله: {وَيصِح مَعَ جهل الْآمِر اتِّفَاقًا} .
كأمر السَّيِّد عَبده بِشَيْء.

(3/1225)


وَاعْلَم أَن الْآمِر تَارَة يعلم انْتِفَاء شَرط وُقُوع الْمَأْمُور فِي وقته، وَهِي الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة، وَتارَة يجهل ذَلِك، وَهِي هَذِه الْمَسْأَلَة: كأمر السَّيِّد عَبده بخياطة ثوب غَدا، فَهَذَا يَصح اتِّفَاقًا، قَالَه جمع من الْعلمَاء.
لَكِن قَالَ الصفي الْهِنْدِيّ: (فِي كَلَام بَعضهم إِشْعَار بِخِلَاف فِيهِ) انْتهى.
وَتارَة يعلم الْآمِر والمأمور ذَلِك، فَهَذَا لَا يَصح، قطع بِهِ الأصوليون، لِامْتِنَاع امتثاله، فَلَا يعزم، فَلَا يُطِيع وَلَا يَعْصِي، وَلَا ابتلاء، بِخِلَاف الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا.
{وَقَالَ الْمجد} ابْن تَيْمِية فِي " المسودة ": {يَنْبَغِي أَن يَصح} .
فَقَالَ - بَعْدَمَا ذكر الْخلاف فِي الْحَالة الأولى -: (وَيَنْبَغِي على مساق هَذَا أَن يجوزوه، وَإِن علم الْمَأْمُور أَنه يَمُوت قبل الْوَقْت، كَمَا تجوز تَوْبَة مجبوب من زنى، وَتَكون فَائِدَته: الْعَزْم على الطَّاعَة بِتَقْدِير الْقُدْرَة) .
قَالَ: (وَلَيْسَت هَذِه مَبْنِيَّة على تَكْلِيف خلاف الْمَعْدُوم، وَلَا على تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وَإِن كَانَ لَهُ ضرب من التَّعَلُّق، لَكِن تشبه النّسخ قبل التَّمَكُّن، لِأَن ذَلِك رفع للْحكم بخطاب، وَهَذَا رفع للْحكم بتعجيز، {و} قد {نبه

(3/1226)


[ابْن عقيل على ذَلِك] ، وَيَنْبَنِي على أَنه قد يَأْمر بِمَا لَا يُرِيد، وَكَذَلِكَ القَاضِي نبه فِي الْكِفَايَة على الْفرق بَين هَذَا وتكليف مَا يعجز العَبْد عَنهُ، مثل: الطيران، وَالْمَشْي على المَاء، وقلب الْعَصَا حَيَّة) انْتهى.
قَوْله: [ {فَائِدَة: يَصح تَعْلِيق الْأَمر بِاخْتِيَار الْمُكَلف فِي الْوُجُوب وَعَدَمه، ذكره القَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن حمدَان، وَغَيرهم، وَقيل: لَا} .
لفظ ابْن عقيل: (يجوز أَن يرد الْأَمر من الله تَعَالَى مُعَلّقا على اخْتِيَار الْمُكَلف، يفعل أَو يتْرك مفوضا إِلَى اخْتِيَاره، بِنَاء على: أَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ، مَعَ كَونه مُخَيّرا بَين فعله وَتَركه) .
وبناه على أَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ، قَالَ: (خلافًا للمعتزلة) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (تشبه: أَن يُقَال للمجتهد: احكم بِمَا شِئْت، وَبحث أَصْحَابنَا فِي الْمَسْأَلَة يدل على أَنهم أَرَادوا أَمر الْإِيجَاب، فَلَا يَصح الْبناء على مَسْأَلَة: " الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ "، بل لحرف الْمَسْأَلَة شَيْئَانِ:

(3/1227)


أَحدهمَا: جَوَاز عدم التَّكْلِيف.
وَالثَّانِي: جَوَاز تَكْلِيف مَا يشاؤه العَبْد ويختاره.
فَهِيَ مَسْأَلَتَانِ فِي الْمَعْنى جَمعهمَا ابْن عقيل، وَفِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة قد ذكر ابْن عقيل مَا يدل على أَنهم يمْنَعُونَ من أَن يَأْمر الْمُكَلف بِمَا يَشَاء، وَأَن يَأْمُرهُ بِمَا يرَاهُ بعقله، بِخِلَاف مَا يرَاهُ من الْأَدِلَّة السمعية، فَيكون الْخلاف مَعَهم فِي أَن يَأْمُرهُ بِمَا يَعْتَقِدهُ، أَو بِمَا يُريدهُ، وأصحابنا جوزوا الْقسمَيْنِ.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة إِن قيل فِيهَا بِالْجَوَازِ الْعقلِيّ فقريب، وَأما الْوُقُوع، فَفِيهِ نوع مُخَالفَة لمسألة كل مُجْتَهد مُصِيب، مَعَ إِمْكَان الْجمع) انْتهى.

(3/1228)


(قَوْله: {تَنْبِيه الْأَدِلَّة: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس} ) .
لما فَرغْنَا - بِحَمْد الله - من أَحْكَام الْمُقدمَة، ومسائلها، وَمَا يتَعَلَّق بهَا، شرعنا فِي بَيَان مَوْضُوع علم أصُول الْفِقْه، وَهُوَ أَدِلَّة الْفِقْه، والمتفق عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة أَرْبَعَة: الْكتاب، وَالسّنة - وَهَذَا بِلَا نزاع - وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، وَالْمرَاد: اتِّفَاق الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَمن نحا نحوهم، وَلَا اعْتِبَار بِخِلَاف من لَا يعْتد بقوله كالنظام فِي مُخَالفَته فِي الْإِجْمَاع، على اخْتِلَاف النَّقْل عَنهُ، هَل مذْهبه: أَن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر، أَو يتَصَوَّر وَلَكِن يتَعَذَّر نَقله على وَجهه، أَو لَا يتَعَذَّر وَلَكِن لَا حجَّة فِيهِ؟ ، وَهَذَا الثَّالِث هُوَ الْمُحَقق عَنهُ.
والنظام اسْمه: إِبْرَاهِيم بن [سيار] الْبَصْرِيّ، شيخ الْمُعْتَزلَة، وَإِلَيْهِ تنْسب النظامية إِحْدَى فرق الْمُعْتَزلَة، ينْسب إِلَيْهِ عظائم مِنْهَا: إِنْكَار الْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، وَالْخَبَر الْمُتَوَاتر، وَنَحْو ذَلِك، مِمَّا جعل بِهِ زنديقا.

(3/1229)


وَسمي بالنظام؛ لِأَنَّهُ كَانَ ينظم الخرز فِي سوق الْبَصْرَة، وَيَزْعُم بعض الْمُعْتَزلَة: أَن ذَلِك لكَونه ينظم الْكَلَام.
يُقَال: إِنَّه سقط وَهُوَ سَكرَان فَمَاتَ سنة بضع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
وَكَذَا خَالف بعض الْخَوَارِج والرافضة فِيهِ، وَيَأْتِي ذَلِك فِي الْإِجْمَاع.
قَوْله: {فَهُوَ [مِنْهَا] } - أَي: من الْأُصُول - {خلافًا لأبي [الْمَعَالِي] } .
الصَّحِيح الَّذِي ذهب إِلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء وَقطع بِهِ كثير مِنْهُم: أَن الْقيَاس من جملَة أصُول الْفِقْه.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَجمع: لَيْسَ الْقيَاس من الْأُصُول، وتعلقوا بِأَنَّهُ لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن، وَالْحق هُوَ الأول، وَالثَّانِي ضَعِيف جدا، فَإِن الْقيَاس قد

(3/1230)


يُفِيد الْقطع كَمَا سَيَأْتِي، وَإِن قُلْنَا: لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن، فخبر الْوَاحِد وَنَحْوه لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن.
قَوْله: {وَيَأْتِي غَيرهَا} .
أَي: يَأْتِي غير هَذِه الْأَرْبَعَة، وَهِي الْأُصُول الَّتِي اشْتهر الْخلاف فِيهَا: كالاستصحاب، وَشرع من قبلنَا، والاستقراء، وَمذهب الصَّحَابِيّ، وَالِاسْتِحْسَان، وَنَحْوهَا، تَأتي أَحْكَامهَا محررة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: {فَالْأَصْل: الْكتاب} ، وَهُوَ الْقُرْآن.
لَا شكّ أَن الْقُرْآن هُوَ أصل الْأَدِلَّة كلهَا، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} [النَّحْل: 89] فَفِيهِ الْبَيَان لجَمِيع الْأَحْكَام.
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ": (لَيْسَ ينزل بِأحد فِي الدُّنْيَا نازلة إِلَّا وَفِي كتاب الله تَعَالَى الدَّلِيل على سَبِيل الْهدى) .
وَأورد بَعضهم مَا ثَبت ابْتِدَاء بِالسنةِ أَو غَيرهَا.
فَأجَاب ابْن السَّمْعَانِيّ: (بِأَنَّهُ مَأْخُوذ من كتاب الله تَعَالَى فِي الْحَقِيقَة، لِأَنَّهُ أوجب علينا فِيهِ اتِّبَاع الرَّسُول، وحذرنا من مُخَالفَته) .

(3/1231)


قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: ( [فَمن قبل] عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَن الله [قبل] ) انْتهى.
ثمَّ قيل: (الْقُرْآن: مَأْخُوذ من قَرَأَ: إِذا جمع، سمي بِهِ المقروء، كَمَا سمي الْمَكْتُوب كتابا) .
قَالَ [أَبُو عُبَيْدَة] : (سمي بذلك لِأَنَّهُ يجمع السُّور ويضمها) .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: (اخْتلف فِي الْقُرْآن: هَل هُوَ مُشْتَقّ أم لَا؟) .
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: (سمى الله تَعَالَى كِتَابه قُرْآنًا) ؛ عَنى بِهِ: اسْم علم لَا يسوغ إجراؤه على مُوجب اشتقاق.
قَالَ: وَيجوز أَن يُقَال: سمي قُرْآنًا من حَيْثُ إِنَّه يُتْلَى وَيقْرَأ بِأَصْوَات

(3/1232)


تنتظم [وتتوالى] ، وتتعاقب، ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح: أَنه مُشْتَقّ من قَرَأت الشَّيْء: جمعته) .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَكَلَام الشَّافِعِي مَحْمُول على أَنه صَار علما، وَلَو كَانَ فِي الأَصْل مشتقا، [لَا نفي] الِاشْتِقَاق أصلا) انْتهى.
قَوْله: {وَالسّنة مخبرة عَن حكم الله} تَعَالَى لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى (3) إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} [النَّجْم 3، 4] .
قَوْله: {وَالْإِجْمَاع [مُسْتَند] إِلَيْهِمَا وَإِلَى الْقيَاس} ؛ لِأَن أَصله: إِمَّا الْكتاب، أَو السّنة، على مَا تقدم، وَيَأْتِي: أَن الْإِجْمَاع لَا يكون إِلَّا عَن مُسْتَند، وَأَنه يكون عَن قِيَاس واجتهاد.
قَوْله: {وَالْقِيَاس مستنبط مِنْهَا} ، أَي: من الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، وَهُوَ ظَاهر؛ لِأَن الْقيَاس ينشأ عَن هَذِه الثَّلَاثَة.

(3/1233)


فارغة

(3/1234)


فارغة

(3/1235)