التحبير شرح التحرير في أصول الفقه (بَاب الْكتاب)
(3/1236)
(قَوْله: {بَاب الْكتاب: الْقُرْآن} )
الْكتاب: هُوَ الْقُرْآن عِنْد الْعلمَاء الْأَعْيَان،
بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا سمعنَا كتابا أنزل من بعد
مُوسَى} [الْأَحْقَاف: 30] بعد قَوْله: {يَسْتَمِعُون
الْقُرْآن} [الْأَحْقَاف: 29] ، والمسموع وَاحِد، وَقَالَ فِي
الْآيَة الْأُخْرَى: {إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا (1) يهدي
إِلَى الرشد} [الْجِنّ: 1 - 2] ، وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على
اتِّحَاد اللَّفْظَيْنِ، فَلَا عِبْرَة بِمن خَالف، فَإِنَّهُ
خطأ، وَالله أعلم.
(3/1237)
تَنْبِيه: الْكتاب فِي الأَصْل جنس، ثمَّ
غلب على الْقُرْآن من بَين الْكتب فِي عرف أهل الشَّرْع.
قَوْله: {وَهُوَ [كَلَام] منزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معجز متعبد بتلاوته} .
وَذكر ابْن الْحَاجِب وَغَيره: أَنه (الْكَلَام الْمنزل
للإعجاز بِسُورَة مِنْهُ) ، وَفِيه مَا فِيهِ، على مَا يَأْتِي
فِي الاحترازات.
فَالْكَلَام - فِي حَده -: جنس لكل مَا تكلم بِهِ من الْكتب
وَغَيرهَا.
والمنزل: احْتِرَاز عَن كَلَام النَّفس.
وَقَوله: للإعجاز، ليخرج سَائِر الْكتب الْمنزلَة،
وَالْأَحَادِيث الربانية.
وَقَوله: بِسُورَة مِنْهُ، لتدخل السُّورَة الْوَاحِدَة وَإِن
قصرت: كسورة الْكَوْثَر، وَتخرج الْآيَة، وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيح فِي الْآيَة.
(3/1238)
وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي " الْأَبْكَار ": "
الْتزم القَاضِي ابْن الباقلاني فِي أحد جوابيه [الإعجاز] فِي
سُورَة الْكَوْثَر وأمثالها، تعلقا بقوله تَعَالَى: {فَأتوا
بِسُورَة مثله} [يُونُس: 38] ، وَالصَّحِيح مَا ارْتَضَاهُ فِي
الْجَواب الآخر، وَهُوَ [اخْتِيَار] الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق
وَجَمَاعَة: أَن التحدي إِنَّمَا وَقع بِسُورَة تبلغ فِي الطول
مبلغا تبين فِيهِ رتب [ذَوي] البلاغة، فَإِنَّهُ قد يصدر من
غير البليغ أَو مِمَّن هُوَ أدنى فِي البلاغة من الْكَلَام
البليغ مَا يماثل الْكَلَام البليغ الصَّادِر عَمَّن هُوَ أبلغ
مِنْهُ، وَرُبمَا زَاد عَلَيْهِ، فَتعين تَقْيِيد الْإِطْلَاق
فِي قَوْله: {فَأتوا بِسُورَة} ؛ لِأَن تَقْيِيد الْمُطلق
بِالدَّلِيلِ وَاجِب ". انْتهى.
وَزَاد بَعضهم: (المتعبد بتلاوته) ، ليخرج الْآيَات
[الْمَنْسُوخ]
(3/1239)
لَفظهَا، سَوَاء بَقِي الحكم [أم لَا،
فَإِنَّهَا] بعد النّسخ صَارَت غير قُرْآن لسُقُوط التَّعَبُّد
بتلاوتها، وَلذَلِك لَا تُعْطى حكم الْقُرْآن.
وَالَّذِي اخترناه أَنه: (كَلَام منزل على مُحَمَّد - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معجز متعبد بتلاوته) .
فَفِيهِ تَنْقِيح زَائِد على حد ابْن الْحَاجِب وَغَيره.
فقولنا: (كَلَام) جنس، وَهُوَ أولى من اللَّفْظ، لِأَن
الْكَلَام أخص من اللَّفْظ، فَهُوَ جنس قريب، وَأولى من
القَوْل، لموافقته الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَجره
حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، وَلم نقل
(الْكَلَام) بِالْألف وَاللَّام، لِأَن الْحَقِيقَة لَا يُؤْتى
فِيهَا بدال على كمية.
وَمَا بعده: الْفَصْل الْمخْرج لغيره، فَخرج بقولنَا: (منزل) ،
مَا يُقَال من الْكَلَام النَّفْسِيّ.
وَخرج بقولنَا: (على مُحَمَّد) ، مَا أنزل على غَيره من
الْأَنْبِيَاء: كتوراة مُوسَى، وإنجيل عِيسَى، وزبور دَاوُد،
وصحف إِبْرَاهِيم، وشيث، وَفِي حَدِيث أبي ذَر الَّذِي رَوَاهُ
ابْن حبَان وَغَيره: " أَن الله تَعَالَى أنزل مائَة
وَأَرْبَعَة كتب ".
(3/1240)
وَخرج بقولنَا: (معجز) ، السّنة،
فَإِنَّهَا وَإِن كَانَت منزلَة، وَرُبمَا كَانَت معْجزَة -
أَيْضا -، لَكِن لم يقْصد بإنزالها الإعجاز، وَإِنَّمَا
قُلْنَا: السّنة منزلَة، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن
الْهوى (3) إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} [النَّجْم: 3 - 4] ،
وَمِمَّا يخرج بِهَذَا الْقَيْد: مَا فِي السّنة - أَيْضا - من
حِكَايَة أَقْوَال الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَيْسَ بقرآن -
أَيْضا - لِأَنَّهُ لم ينزل للإعجاز.
وَالْمرَاد بالإعجاز: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَمر أَن يتحداهم بِمَا جَاءَ بِهِ فَيَقُول: هَل
تقدرون أَن تَأْتُوا بِمثل مَا قلته؟ فيعجز عَن ذَلِك، فقد
أعجزهم ذَلِك القَوْل، فَهُوَ معجز.
وَالسّنة معْجزَة بِالْقُوَّةِ، لكنه لم يطْلب مِنْهُم أَن
يَأْتُوا بِمِثْلِهَا، وَالْقُرْآن معجز بِالْفِعْلِ، لكَونه
تحداهم أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ، بِأَمْر الله لَهُ بالتحدي
بِهِ، وَلم
(3/1241)
يَأْمُرهُ أَن يتحدى بِالسنةِ، فَهَذَا
الْفرق بَين الإعجازين.
قلت: وَفِيه نظر.
وَقَوْلنَا: (معجز) ، يَشْمَل الْآيَة، وَسَيَأْتِي الْخلاف
فِي الإعجاز بهَا، وَالْفَرْض أَنه نزل لبَيَان الْأَحْكَام
والمواعظ، وَلكنه مَعَ ذَلِك مَقْصُود بِهِ الإعجاز.
وَقَوْلنَا: (معجز) ، أحسن من قَول من قَالَ: (للإعجاز) ،
لِأَنَّهُ يَقْتَضِي [انحصار عِلّة الْإِنْزَال فِي الإعجاز] ،
وَالْفَرْض: أنزل لبَيَان الْأَحْكَام والمواعظ، وَمَعَ ذَلِك
قصد بِهِ الإعجاز - أَيْضا - كَمَا تقدم.
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: وَقع التحدي بِالْقُرْآنِ كُله، كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن
يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ}
[الْإِسْرَاء: 88] ، أَي: فَأتوا بِمثلِهِ إِن ادعيتم
الْقُدْرَة، فَلَمَّا عجزوا تحداهم بِعشر سور، بقوله تَعَالَى:
{فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13] ، فَلَمَّا عجزوا
تحداهم بِسُورَة بقوله تَعَالَى: {فَأتوا بِسُورَة من مثله}
[الْبَقَرَة: 23] ، أَي: من مثل الْقُرْآن، أَو من مثل
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَلَمَّا
عجزوا، تحداهم بِدُونِ ذَلِك
(3/1242)
بقوله تَعَالَى: {فليأتوا بِحَدِيث مثله
إِن كَانُوا صَادِقين} [الطّور: 34] .
الثَّانِيَة: إِن قيل: هَذَا التَّعْرِيف لَا يَخْلُو إِمَّا
أَن يكون لمجموع الْقُرْآن، أَو للأعم من ذَلِك وَمن بعضه،
فَإِن كَانَ للْأولِ فَيَقْتَضِي: أَن الْبَعْض لَا يُسمى
قُرْآنًا، وَأَن لَا يَحْنَث إِذا حلف لَا يقْرَأ قُرْآنًا،
فَقَرَأَ شَيْئا مِنْهُ، وَلَا قَائِل بِهِ، وَإِن كَانَ
الثَّانِي، فَكل كلمة بل كل حرف من الْقُرْآن قُرْآن، وانقسامه
- حِينَئِذٍ - إِلَى هَذِه الْأَقْسَام، انقسام الْكُلِّي
إِلَى جزئياته لَا الْكل إِلَى أَجْزَائِهِ، فالحد حِينَئِذٍ
للماهية من حَيْثُ هِيَ، فَيصير قيد الإعجاز لَغوا، لِأَن
الْكَلِمَة والحرف لَيْسَ فِيهِ إعجاز قطعا.
وَالْجَوَاب: الْتِزَام [الْألف] وَاللَّام فِي الْقُرْآن -
حِينَئِذٍ - للْعهد فِي جملَته، فالبعض - حِينَئِذٍ - وَإِن
كَانَ قُرْآنًا لكنه لم يُطلق على الْقُرْآن بِاللَّامِ
العهدية كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَقد قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي:
(لَو قَالَ لعَبْدِهِ: إِن قَرَأت الْقُرْآن فَأَنت حر، أَنه
لَا يعْتق إِلَّا بِقِرَاءَة الْجَمِيع) .
(3/1243)
وَقَول بَعضهم: لَو حلف لَا يقْرَأ
الْقُرْآن يَحْنَث بِبَعْضِه، فَمَحْمُول على اللَّام
للْجِنْس، حَتَّى يكون بِمَثَابَة (قُرْآنًا) بالتنكير.
وَالْحَاصِل: أَن النّظر إِلَى لفظ الْقُرْآن باعتبارين:
أَحدهمَا: بِاعْتِبَار جملَته وهيئته وترتيبه، فَاللَّام فِيهِ
- حِينَئِذٍ - للْعهد.
وَالثَّانِي: بِاعْتِبَار حَقِيقَته من حَيْثُ هِيَ، لَا
بِالنّظرِ إِلَى لَازم كمية وترتيب وَنَحْو ذَلِك، فَاللَّام
فِيهِ - حِينَئِذٍ - للْجِنْس، فَإِن قصد مَعهَا استغراق،
كَانَ كل حرف وَكلمَة وَجُمْلَة وَآيَة وَسورَة جزئيات لَا
أَجزَاء، بِخِلَاف الِاعْتِبَار الأول فَإِنَّهَا فِيهِ
أَجزَاء لَا جزئيات، وَلَعَلَّ من يَقُول فِي تَعْرِيفه:
الْكَلَام الْمنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - للإعجاز بِسُورَة مِنْهُ، إِنَّمَا يقْصد
مُرَاعَاة [الِاعْتِبَار] الأول، وَأما من يُرَاعِي
الِاعْتِبَار الثَّانِي فَيكون: مَا أنزل للإعجاز، وَلَا
حَاجَة أَن يَقُول: بِسُورَة مِنْهُ، أَو يَقُول ذَلِك،
وَيُرِيد: أَن " من " فِيهِ لابتداء الْغَايَة، لَا
للتَّبْعِيض.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: (هُوَ الْقَابِل للتنزيل) .
وَقَالَ: (هُوَ الْأَقْرَب، واحترزنا بِالْأولِ عَن غَيره من
الْكتب، وَعَما أنزل وَلم يتل، وَبِالثَّانِي عَن الْكَلَام
النَّفْسِيّ.
(3/1244)
وَلم نقل: الْكَلَام المعجز، لِأَن
السُّورَة كَذَلِك، وَإِنَّمَا هِيَ بعض الْكتاب) .
تَنْبِيه: قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " - تبعا للغزالي
-: (الْقُرْآن: مَا نقل إِلَيْنَا بَين دفتي الْمُصحف نقلا
متواترا) ، وَهُوَ حد دوري، فَإِنَّهُ إِن أُرِيد بِهِ دفع مَا
يتَوَهَّم أَن الْقُرْآن شَيْء آخر غير الْمَكْتُوب فِي
الْمَصَاحِف، فَهَذَا الْقدر يحصل، فَلَا يكون بَاطِلا.
وَإِن أُرِيد بِهِ الْحَد الْجَامِع الْمَانِع فَهُوَ تَعْرِيف
دوري، وَذَلِكَ لِأَن النَّقْل والتواتر فرع تصَوره، فَهُوَ
دور لتوقف تصَوره عَلَيْهِمَا، وتوقفهما عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَضعف هَذَا الْحَد:
بِأَن عدم نَقله، لَا يُخرجهُ عَن حَقِيقَته، وَبِأَن النَّقْل
والتواتر فرع تصَوره، فَهُوَ دور) .
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (حد الشَّيْء بِمَا يتَوَقَّف
عَلَيْهِ، إِذْ وجود الْمُصحف وَنَقله مُتَوَقف على تصور
الْقُرْآن) .
وَأخذُوا ذَلِك من كَلَام ابْن الْحَاجِب فَإِنَّهُ قَالَ فِي
" مُخْتَصره ": (وَقَوْلهمْ: مَا نقل بَين دفتي الْمُصحف
تواترا، حد للشَّيْء بِمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ، لِأَن وجود
الْمُصحف وَنَقله فرع تصور الْقُرْآن) انْتهى.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَقد يُقَال: نَحن [بعد] مَا
علمنَا أَن
(3/1245)
هَاهُنَا مَا نقل بَين الدفتين، وَمَا لم
ينْقل: كالمنسوخ وتلاوته، وَمَا نقل وَلم يتواتر نَحْو:
(ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات) ، أردنَا تَخْصِيص الِاسْم
بالقسم الأول دون الْأَخيرينِ، ليعلم أَن ذَلِك هُوَ
الدَّلِيل، وَعَلِيهِ الْأَحْكَام من منع التِّلَاوَة، والمس
مُحدثا، وَإِلَّا فَهُوَ اسْم علم شخصي، والتعريف لَا يكون
إِلَّا للحقائق الْكُلية قد نبهنا على أَن ضَابِط مَعْرفَته:
التَّوَاتُر [من] متون الصُّحُف وصدور الْحفاظ، دون
التَّحْدِيد والتعريف، وَهُوَ الْحق) . انْتهى. فنفى الدّور
الَّذِي ذَكرُوهُ.
قَوْله: {وَالْكَلَام عِنْد الأشعرية: مُشْتَرك بَين
[الْحُرُوف] المسموعة وَالْمعْنَى النَّفْسِيّ، وَهُوَ:
نِسْبَة بَين مفردين قَائِمَة بالمتكلم، وَعند [الإِمَام]
أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم: لَا اشْتِرَاك.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: [وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك،
وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وأئمة
الحَدِيث] : (لم يزل الله متكلما، [كَيفَ شَاءَ، وَإِذا شَاءَ]
، بِلَا كَيفَ) .
قَالَ القَاضِي: (إِذا [أَرَادَ] أَن يسمعنا) .
(3/1246)
وَقَالَ [الإِمَام] أَحْمد - أَيْضا -: (لم
يزل [الله] يَأْمر بِمَا يَشَاء وَيحكم) .} كَمَا تقدم.
هَذِه الْمَسْأَلَة من أعظم مسَائِل أصُول الدّين، وَهِي
مَسْأَلَة طَوِيلَة الذيل، حَتَّى قيل: إِنَّه لم يسم علم
الْكَلَام إِلَّا لأَجلهَا، وَلذَلِك اخْتلف فِيهَا أَئِمَّة
الْإِسْلَام المعتبرين والمقتدى بهم اخْتِلَافا كثيرا متباينا،
وَنحن نذْكر - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - أَقْوَالهم،
وَالْقَائِل بِكُل قَول، وَنَذْكُر دلائلهم ومآخذهم، ونستوعب
الْأَقْوَال الَّتِي فِيهَا، فَإِن غَالب المصنفين لم
يستوعبها، وَرُبمَا لم يكن اطلع على بعض مَا يَأْتِي، وَإِن
حصل منا بعض تكْرَار فِي نقل المقالات وأقوال الْعلمَاء،
لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من فَائِدَة، و - أَيْضا - الْقَصْد
الْإِتْيَان بِمَا قَالَه النَّاقِل، وَإِن تكَرر بعضه مَعَ
غَيره.
فَنَقُول - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَعَلِيهِ الِاعْتِمَاد،
وَبِه الْعِصْمَة -: قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد
عبد الله بن سعيد بن كلاب وَأَتْبَاعه، مِنْهُم: الشَّيْخ
الإِمَام
(3/1247)
أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل
الْأَشْعَرِيّ وَأَصْحَابه، وَأَتْبَاعه: الْكَلَام مُشْتَرك
بَين الْأَلْفَاظ المسموعة وَبَين الْكَلَام النَّفْسِيّ،
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد اسْتعْمل لُغَة وَعرفا فيهمَا،
وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة، فَيكون مُشْتَركا.
أما اسْتِعْمَاله فِي الْعبارَة فكثير كَقَوْلِه تَعَالَى:
{حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، {يسمعُونَ كَلَام
الله ثمَّ يحرفونه} [الْبَقَرَة: 75] .
وَيُقَال: سَمِعت كَلَام فلَان وفصاحته، يَعْنِي: أَلْفَاظه
الفصيحة.
وَأما اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى النَّفْسِيّ، وَهُوَ
مَدْلُول الْعبارَة، فكقوله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي
أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا نقُول} [المجادلة: 8] ،
(وأسروا قَوْلكُم أَو
(3/1248)
اجهروا بِهِ} [الْملك: 13] ، وَقَول عمر -
رَضِي الله عَنهُ - فِي يَوْم السَّقِيفَة: (زورت فِي نَفسِي
كلَاما) ، وَقَول الشَّاعِر:
(إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَإِنَّمَا ... جعل اللِّسَان
على الْفُؤَاد دَلِيلا)
وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة.
وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: (لما كَانَ سَمعه بِلَا انخراق، وَجب
أَن يكون كَلَامه بِلَا حرف وَلَا صَوت) .
وَذكر الْغَزالِيّ: (أَن قوما جعلُوا الْكَلَام حَقِيقَة فِي
الْمَعْنى، مجَازًا فِي الْعبارَة، وقوما عكسوا، وقوما قَالُوا
بالاشتراك، فَهِيَ ثَلَاثَة أَقْوَال، ونقلت عَن
الْأَشْعَرِيّ) .
(3/1249)
وَقَوْلنَا: (نِسْبَة بَين مفردين) ، نعني
بِالنِّسْبَةِ بَين المفردين - أَي: بَين الْمَعْنيين المفردين
-: تعلق أَحدهمَا بِالْآخرِ، أَو إِضَافَته إِلَيْهِ، على
جِهَة الْإِسْنَاد الإفادي، أَي: بِحَيْثُ إِذا عبر عَن تِلْكَ
النِّسْبَة بِلَفْظ يطابقها وَيُؤَدِّي مَعْنَاهَا، كَانَ
ذَلِك اللَّفْظ إِسْنَادًا إفاديا.
وَمعنى قيام النِّسْبَة بالمتكلم مَا قَالَ الْفَخر
الرَّازِيّ، وَهُوَ: أَن الشَّخْص إِذا قَالَ لغيره:
[اسْقِنِي] مَاء، فَقبل أَن يتَلَفَّظ بِهَذِهِ الصِّيغَة
قَامَ بِنَفسِهِ تصور حَقِيقَة السَّقْي، وَحَقِيقَة المَاء،
وَالنِّسْبَة الطلبية بَينهمَا، فَهَذَا هُوَ الْكَلَام
النَّفْسِيّ، وَالْمعْنَى الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَصِيغَة
قَوْله: [اسْقِنِي] مَاء، عبارَة عَنهُ وَدَلِيل عَنهُ) .
وَقَالَ الْقَرَافِيّ: (كل عَاقل يجد فِي نَفسه الْأَمر
وَالنَّهْي، وَالْخَبَر عَن كَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ،
وَعَن حُدُوث الْعَالم، وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ غير مُخْتَلف
فِيهِ، ثمَّ يعبر عَنهُ بعبارات ولغات مُخْتَلفَة، فالمختلف
هُوَ الْكَلَام اللساني، وَغير الْمُخْتَلف [هُوَ] الْكَلَام
النَّفْسِيّ الْقَائِم بِذَات الله تَعَالَى،
(3/1250)
وَيُسمى ذَلِك الْعلم الْخَاص: سمعا؛ لِأَن
إِدْرَاك الْحَواس إِنَّمَا هِيَ عُلُوم خَاصَّة أخص من مُطلق
الْعلم، فَكل إحساس علم، وَلَيْسَ كل علم إحساسا، وَإِذا وجد
هَذَا الْعلم الْخَاص فِي نفس مُوسَى، الْمُتَعَلّق بالْكلَام
النَّفْسِيّ الْقَائِم بِذَات الله، سمي باسمه الْمَوْضُوع
لَهُ فِي اللُّغَة، وَهُوَ السماع) . انْتهى.
هَذَا [حَقِيقَة] مَذْهَبهم، لَكِن الْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعه
قَالُوا: الْقُرْآن الْمَوْجُود عندنَا: حِكَايَة كَلَام الله.
وَابْن كلاب وَأَتْبَاعه قَالُوا: الْقُرْآن الْمَوْجُود بَين
النَّاس: عبارَة عَن كَلَام الله لَا عينه.
قَالَ ابْن حجر: (وَرَأَيْت الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عكس
عَنْهُمَا، فَجعل الْعبارَة عَن الْأَشْعَرِيّ، والحكاية عَن
ابْن كلاب) .
وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: (كَلَام الله الْقَائِم بِذَاتِهِ يسمع
عِنْد تِلَاوَة كل تال وَقِرَاءَة كل قاريء) .
وَقَالَ الباقلاني: (إِنَّمَا يسمع التِّلَاوَة دون المتلو،
وَالْقِرَاءَة دون المقروء) .
(3/1251)
وَذهب الإِمَام أَحْمد - إِمَام أهل السّنة
على الْإِطْلَاق من غير مدافعة - وَأَصْحَابه، وَإِمَام أهل
الحَدِيث - بِلَا شكّ - مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ،
(3/1252)
فارغة
(3/1253)
وَجُمْهُور الْعلمَاء، - قَالَه ابْن
مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي الْأَمر، وَابْن قَاضِي الْجَبَل:
(إِن الْكَلَام لَيْسَ مُشْتَركا بَين الْعبارَة ومدلولها، بل
الْكَلَام هُوَ الْحُرُوف المسموعة من الصَّوْت) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْمَعْرُوف عِنْد أهل السّنة
والْحَدِيث: أَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت، وَهُوَ قَول
جَمَاهِير فرق الْأمة، فَإِن جَمَاهِير الطوائف يَقُولُونَ:
إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، مَعَ تنازعهم فِي أَن
كَلَامه هَل هُوَ مَخْلُوق أَو قَائِم بِنَفسِهِ؟ قديم أَو
حَادث أَو مازال يتَكَلَّم إِذا شَاءَ؟ فَإِنَّهُ قَول
الْمُعْتَزلَة، والكرامية، والشيعة، وَأكْثر المرجئة،
والسالمية، وَغير هَؤُلَاءِ من الْحَنَفِيَّة، والمالكية،
وَالشَّافِعِيَّة، والحنبلية، والصوفية، وَلَيْسَ من طوائف
الْمُسلمين من أنكر: أَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت إِلَّا ابْن
كلاب وَمن اتبعهُ، كَمَا أَن
(3/1254)
لَيْسَ فِي طوائف الْمُسلمين من قَالَ: إِن
الْكَلَام معنى وَاحِد قَائِم بالمتكلم، إِلَّا هُوَ وَمن
اتبعهُ) انْتهى.
إِذا علم ذَلِك؛ فَعِنْدَ الإِمَام أَحْمد وَغَيره من أهل
السّنة: أَن حَقِيقَة فِي الْعبارَة مجَاز فِي مدلولها، وَقد
نَص الإِمَام أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهمَا: على أَن
الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، وَقَالُوا: هَذِه
الْأَحَادِيث تمر كَمَا جَاءَت، على مَا يَأْتِي، من صَرِيح
نصوصهم فِي ذَلِك.
قَالَ الطوفي: (إِنَّمَا كَانَ حَقِيقَة فِي الْعبارَة مجَازًا
فِي مدلولها لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن [الْمُتَبَادر] إِلَى فهم أهل اللُّغَة من
إِطْلَاق الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ الْعبارَات، والمبادرة
دَلِيل الْحَقِيقَة.
(3/1255)
الثَّانِي: أَن الْكَلَام مُشْتَقّ من
الْكَلم، لتأثيره فِي نفس السَّامع، والمؤثر فِي نفس السَّامع
إِنَّمَا هُوَ الْعبارَات، لَا الْمعَانِي النفسية
بِالْفِعْلِ، نعم هِيَ مُؤثرَة للفائدة بِالْقُوَّةِ والعبارة
مُؤثرَة بِالْفِعْلِ، فَكَانَت أولى بِأَن تكون حَقِيقَة،
وَمَا يكون مؤثرا بِالْقُوَّةِ مجَازًا.
قَوْلهم: اسْتعْمل لُغَة وَعرفا فيهمَا.
قُلْنَا: نعم لَكِن بالاشتراك، أَو بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا
ذَكرْنَاهُ، وَالْمجَاز فِيمَا ذكرتموه، وَالْأول مَمْنُوع.
قَوْلهم: الأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة.
قُلْنَا: وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك، ثمَّ قد تعَارض
الْمجَاز والاشتراك الْمُجَرّد، وَالْمجَاز أولى، ثمَّ إِن لفظ
الْكَلَام أَكثر مَا اسْتعْمل فِي الْعبارَات، وَكَثْرَة موارد
الِاسْتِعْمَال تدل على الْحَقِيقَة.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم} [المجادلة:
8] فمجاز، لِأَنَّهُ إِنَّمَا دلّ على الْمَعْنى النَّفْسِيّ
بِالْقَرِينَةِ، وَهِي قَوْله: {فِي أنفسهم} ، وَلَو أطلق لما
فهم إِلَّا الْعبارَة، وَكَذَلِكَ كل مَا جَاءَ من هَذَا
الْبَاب إِنَّمَا يُفِيد مَعَ الْقَرِينَة، وَمِنْه قَول عمر -
رَضِي الله عَنهُ -: (زورت فِي نَفسِي كلَاما) ، إِنَّمَا
أَفَادَ ذَلِك بِقَرِينَة قَوْله: (فِي نَفسِي) .
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ}
[الْملك: 13] ، فَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَن الْإِسْرَار نقيض
الْجَهْر، وَكِلَاهُمَا عبارَة، إِحْدَاهمَا أرفع صَوتا من
الْأُخْرَى.
وَأما الشّعْر فَهُوَ للأخطل، وَيُقَال: إِن الْمَشْهُور
فِيهِ: إِن الْبَيَان
(3/1256)
لفي الْفُؤَاد.
وَبِتَقْدِير أَن يكون كَمَا ذكرْتُمْ، فَهُوَ مجَاز عَن
مَادَّة الْكَلَام، وَهُوَ التصورات المصححة لَهُ، إِذْ من لَا
يتَصَوَّر معنى مَا يَقُول لَا يُوجد مِنْهُ كَلَام، ثمَّ هُوَ
مُبَالغَة من هَذَا الشَّاعِر فِي تَرْجِيح الْفُؤَاد على
اللِّسَان ". انْتهى كَلَام الطوفي.
وَقد نقل ابْن الْقيم فِي " النونية " أَن الشَّيْخ تَقِيّ
الدّين رد كَلَام النَّفس من تسعين وَجها.
وَقَالَ الْغَزالِيّ: (من أحَال سَماع مُوسَى كلَاما لَيْسَ
بِحرف وَلَا صَوت، فليحل يَوْم الْقِيَامَة رُؤْيَة ذَات لَيست
بجسم وَلَا عرض) انْتهى.
قَالَ الطوفي: (كل هَذَا تكلّف وَخُرُوج عَن الظَّاهِر، بل عَن
الْقَاطِع، من غير ضَرُورَة إِلَّا خيالات لاغية، وأوهام
متلاشية، وَمَا ذكره معَارض: بِأَن الْمعَانِي لَا تقوم شَاهدا
إِلَّا بالأجسام، فَإِن أَجَازُوا معنى قَامَ بِالذَّاتِ
الْقَدِيمَة،
(3/1257)
وَلَيْسَت جسما، فليجيزوا خُرُوج صَوت من
الذَّات الْقَدِيمَة وَلَيْسَت جسما، إِذْ كلا الْأَمريْنِ
خلاف الشَّاهِد وَمن أحَال كلَاما لفظيا من غير جسم فليحل ذاتا
مرئية غير جسم وَلَا فرق) .
ثمَّ قَالَ الطوفي: (وَالْعجب من هَؤُلَاءِ الْقَوْم، مَعَ
أَنهم عقلاء فضلاء، يجيزون أَن الله تَعَالَى يخلق لمن يَشَاء
من عباده علما ضَرُورِيًّا، وسمعا لكَلَامه النَّفْسِيّ من غير
توَسط صَوت وَلَا حرف، وَأَن ذَلِك من [خاصية] مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَام، مَعَ أَن ذَلِك قلب لحقيقة السّمع فِي الشَّاهِد،
إِذْ حَقِيقَة السّمع فِي
(3/1258)
فِي الشَّاهِد [اتِّصَال] الْأَصْوَات
بحاسته، ثمَّ يُنكرُونَ علينا القَوْل بِأَن الله تَعَالَى
يتَكَلَّم بِصَوْت وحرف من فَوق السَّمَاء لكَون ذَلِك
مُخَالفا للشَّاهِد، فَإِن جَازَ قلب حَقِيقَة السّمع شَاهدا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلَامه، فَلم لَا تجوز مُخَالفَة
الشَّاهِد بِالنِّسْبَةِ إِلَى استوائه وَكَلَامه على مَا
قُلْنَاهُ.
فَإِن قَالُوا: لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل وجود حرف وَصَوت لَا من
[جسم] ، وَوُجُود فِي جِهَة لَيْسَ بجسم.
قُلْنَا: إِن عنيتم استحالته بِالْإِضَافَة إِلَى الشَّاهِد،
فسماع كَلَام بِدُونِ توَسط صَوت وحرف كَذَلِك أَيْضا، وَإِن
عنيتم استحالته مُطلقًا، فَلَا يسلم، إِذْ الْبَارِي - جلّ
جَلَاله - على خلاف الْمُشَاهدَة والمعقول فِي ذَاته
وَصِفَاته، وَقد وَردت النُّصُوص بِمَا قُلْنَا، فَوَجَبَ
القَوْل بِهِ) انْتهى.
(3/1259)
فارغة
(3/1260)
فارغة
(3/1261)
فارغة
(3/1262)
فارغة
(3/1263)
فارغة
(3/1264)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو نصر عبيد الله بن
سعيد بن حَاتِم السجسْتانِي - عَن
(3/1265)
قَول الْأَشْعَرِيّ: (لما كَانَ سَمعه
بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون كَلَامه بِلَا حرف وَلَا صَوت) -:
(هَذَا غير مُسلم، وَلَا يَقْتَضِي مَا قَالَه، وَإِنَّمَا
يَقْتَضِي أَن سَمعه لما كَانَ بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون
كَلَامه من غير لِسَان وشفتين وحنك، وَأَيْضًا لَو كَانَ
الْكَلَام غير حرف، وَكَانَت الْحُرُوف عبارَة عَنهُ، لم يكن
بُد من أَن يحكم لتِلْك الْعبارَة بِحكم، إِمَّا أَن يكون
أحدثها فِي صدر أَو لوح، أَو أنطق بهَا بعض عبيده، فَتكون
منسوبة إِلَيْهِ، فَيلْزم من يَقُول ذَلِك أَن يفصح بِمَا
عِنْده فِي السُّور والآي والحروف، أَهِي عبارَة جِبْرِيل أَو
مُحَمَّد - عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام -؟ وَأَيْضًا
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن
نقُول لَهُ كن فَيكون} [النَّحْل: 40] و " كن " حرفان، وَلَا
يَخْلُو الْأَمر من أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون المُرَاد
بقوله: " كن "، التكوين كالمعتزلة، أَو أَن يكون المُرَاد بِهِ
ظَاهره، وَأَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ إنجاز شَيْء قَالَ
لَهُ: كن - على الْحَقِيقَة - فَيكون.
وَقد قَالَ الْأَشْعَرِيّ: (إِنَّه على ظَاهره، لَا بِمَعْنى
التكوين) ، فَيكون على ظَاهره، وَهُوَ حرفان، وَهُوَ مُخَالف
لمذهبه، وَإِن قَالَ: لَيْسَ بِحرف، صَار بِمَعْنى التكوين
كالمعتزلة) انْتهى.
قلت: قَالَ الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي شرح
البُخَارِيّ فِي بَاب
(3/1266)
كَلَام الرب مَعَ جِبْرِيل: (وَالْمَنْقُول
عَن السّلف اتِّفَاقهم على أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير
مَخْلُوق، تَلقاهُ جِبْرِيل عَن الله - عز وَجل -،
وبلغه جِبْرِيل إِلَى
مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وبلغه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أمته) انْتهى.
وَصَحَّ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره من السّلف أَنهم قَالُوا عَن
الْقُرْآن: (مِنْهُ [خرج] وَإِلَيْهِ يعود) .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (تنَازع الْعلمَاء فِي أَن
الرب تَعَالَى هَل يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته أم لَا؟ على
قَوْلَيْنِ:
فَابْن كلاب وَمن وَافقه قَالُوا: لَا يتَكَلَّم بمشيئته
وَقدرته، بل كَلَامه لَازم لذاته كحياته.
ثمَّ من [هَؤُلَاءِ] من عرف أَن الْحُرُوف والأصوات لَا تكون
قديمَة الْعين، فَلم يُمكنهُ أَن يَقُول: إِن الْقَدِيم هُوَ
الْحُرُوف والأصوات، لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا متعاقبة،
وَالصَّوْت لَا يبْقى زمانين، فضلا عَن أَن يكون قَدِيما،
(3/1267)
فَقَالَ: الْقَدِيم معنى وَاحِد،
لِامْتِنَاع معَان لَا نِهَايَة لَهَا، وَامْتِنَاع
التَّخْصِيص بِعَدَد دون عدد.
فَقَالُوا: هُوَ معنى وَاحِد، وَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى
لَا يتَكَلَّم بالْكلَام الْعَرَبِيّ والعبري، وَقَالُوا: إِن
معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَسَائِر كَلَام
الله معنى وَاحِد، وَمعنى آيَة الْكُرْسِيّ وَآيَة الدّين معنى
وَاحِد، إِلَى غير ذَلِك من اللوازم الَّذِي يَقُول جُمْهُور
الْعُقَلَاء: إِنَّهَا معلولة الْفساد بضرورة الْعقل.
وَمن هَؤُلَاءِ من عرف أَن الله تكلم بِالْقُرْآنِ
الْعَرَبِيّ، والتوراة العبرية، وَأَنه نَادَى مُوسَى بِصَوْت،
وينادي عباده بِصَوْت، وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله حُرُوفه
ومعانيه، لَكِن اعتقدوا مَعَ ذَلِك أَنه قديم وَأَن الله
تَعَالَى لم يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، فالتزموا: أَنه حُرُوف
وأصوات قديمَة الْأَعْيَان لم تزل وَلَا تزَال، وَقَالُوا: إِن
الْبَاء لم تسبق السِّين، وَإِن السِّين لم تسبق الْمِيم،
وَإِن جَمِيع الْحُرُوف مقترنة بَعْضهَا بِبَعْض اقترانا
[قَدِيما] أزليا، لم يزل وَلَا يزَال، وَقَالُوا: هِيَ مترتبة
فِي حَقِيقَتهَا وماهيتها، غير مترتبة فِي وجودهَا، وَقَالَ
كثير مِنْهُم، إِنَّهَا مَعَ ذَلِك شَيْء وَاحِد، إِلَى غير
ذَلِك من اللوازم الَّتِي يَقُول جُمْهُور الْعُقَلَاء:
إِنَّهَا مَعْلُومَة الْفساد بضرورة الْعقل.
وَمن هَؤُلَاءِ من يَقُول: هُوَ قديم، وَلَا يفهم معنى
الْقَدِيم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بمشيئته
وَقدرته، مَعَ أَنه غير مَخْلُوق، وَهَذَا قَول جَمَاهِير أهل
السّنة وَالنَّظَر، وأئمة أهل السّنة والْحَدِيث.
لَكِن من هَؤُلَاءِ من اعْتقد: أَن الله لم يُمكنهُ أَن
يتَكَلَّم فِي الْأَزَل بمشيئته، كَمَا لم يُمكنهُ - عِنْدهم -
أَن يفعل فِي الْأَزَل شَيْئا.
(3/1268)
فالتزموا: أَنه تكلم بمشيئته بعد أَن لم
يكن متكلما، كَمَا أَنه فعل بعد أَن لم يكن فَاعِلا، وَهَذَا
قَول كثير من أهل الْكَلَام والْحَدِيث وَالسّنة.
وَأما السّلف وَالْأَئِمَّة فَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى
يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، وَإِن كَانَ مَعَ ذَلِك قديم
النَّوْع، بِمَعْنى أَنه لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، فَإِن
الْكَلَام صفة كَمَال، وَمن يتَكَلَّم أكمل مِمَّن لَا
يتَكَلَّم، وَمن يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، أكمل مِمَّن لَا
يكون متكلما بمشيئته وَقدرته، وَمن لَا يزَال متكلما بمشيئته
وَقدرته، أكمل مِمَّن يكون مُمكنا لَهُ بعد أَن يكون مُمْتَنعا
مِنْهُ، أَو قدر أَن ذَلِك مُمكن، فيكف إِذا كَانَ مُمْتَنعا،
لِامْتِنَاع أَن يصير الرب قَادِرًا بعد أَن لم يكن، وَأَن
يكون التَّكَلُّم وَالْفِعْل مُمكنا بعد أَن كَانَ غير مُمكن)
انْتهى نقل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله " فِي الْأَمر:
(الْأَمر قسم من أَقسَام الْكَلَام، وَالْكَلَام: الْأَلْفَاظ
المنتظمة لمعانيها، وَالْإِنْسَان قبل تلفظه يقوم بِقَلْبِه
طلب فَيفزع إِلَى اللَّفْظ، كَمَا إِذا قَالَ: " أسقني مَاء "،
كَأَنَّهُ يجد طلبا قَائِما بِقَلْبِه، فيقصد اللَّفْظ.
وَاخْتلف النَّاس فِي حَقِيقَة ذَلِك الطّلب، فَقَالَت
طَائِفَة: هُوَ قسم من أَقسَام الْعلم، وَقَالَت أُخْرَى:
إِرَادَة الْفِعْل، وَقَالَت الأشعرية: هُوَ كَلَام النَّفس،
وَهُوَ مُغَاير للْعلم والإرادة.
(3/1269)
وَأنْكرت الجماهير والمعتزلة قيام معنى
بِالنَّفسِ غير الْعلم والإرادة، وَقَالُوا: الْقَائِم
بِالْقَلْبِ هُوَ صُورَة مَا يُرِيد النُّطْق بِهِ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: (الَّذِي يجده
الْإِنْسَان فِي نَفسه قبل أَن يتَكَلَّم هُوَ استحضار صور
الْكَلَام، وَالْعلم بِمَا يَقُوله شَيْئا فَشَيْئًا، والعزم
على إِيرَاده بِاللِّسَانِ، كَمَا يستحضر صُورَة الْكِتَابَة
قبل أَن يكْتب، وَلَا مُقْتَضى لإِثْبَات أَمر غير مَا
ذَكرْنَاهُ) .
قَالَ: (وَلَو ثَبت لم يكن كلَاما فِي اللُّغَة، وَلَا يُسمى
الْإِنْسَان لأَجله متكلما، وَلذَلِك يَقُول أهل اللُّغَة
للساكت: (إِنَّه غير مُتَكَلم) ، وَإِن جَازَ أَن يقوم بِهِ
ذَلِك الْمَعْنى، وَلَا يَقُولُونَ للساكت: (إِنَّه غير مُرِيد
وَلَا عَالم) .
قَالَ: وَقَول أهل اللُّغَة: (فِي نَفسِي كَلَام) ، مجَاز،
وَالْمرَاد بذلك: عزم على الْكَلَام، كَقَوْلِهِم: (فِي نَفسِي
السّفر) .
قَالَ: (وَلَو ثَبت فِي النَّفس معنى هُوَ الْكَلَام عَن
الاعتقادات والعزم، لَكَانَ مُحدثا، لِأَن الَّذِي يشيرون
إِلَيْهِ مُرَتّب يَتَجَدَّد فِي النَّفس بعضه بعد بعض، ومرتب
حسب تَرْتِيب الْكَلَام المسموع، فَإِن كَانَ كَلَام الله معنى
مَا فِي النَّفس من الْكَلَام فِي الشَّاهِد، اسْتَحَالَ قدمه،
وَإِن لم يكن مَعْنَاهُ بَطل
(3/1270)
قَوْلهم: إِن مَا أَثْبَتْنَاهُ مَعْقُول
فِي الشَّاهِد) .
وَقَالَت الأشاعرة: ذَلِك الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ هُوَ
الْكَلَام، والحروف والأصوات دلالات عَلَيْهِ ومعرفات،
وَإنَّهُ حَقِيقَة وَاحِدَة هِيَ الْأَمر وَالنَّهْي
وَالْخَبَر والاستخبار، وَإِنَّهَا صِفَات لَهُ لَا أَنْوَاع،
إِن عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ عَرَبيا، أَو السريانية
كَانَ سريانيا، وَكَذَلِكَ فِي سَائِر اللُّغَات، وَإنَّهُ لَا
يَتَبَعَّض وَلَا يتَجَزَّأ.
ثمَّ اخْتلفُوا، فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره:
(الْكَلَام الْمُطلق حَقِيقَة، هُوَ مَا فِي النَّفس شَاهدا
أَو غَائِبا، وَإِطْلَاق الْكَلَام على الْحُرُوف والأصوات
مجَاز) .
وَقَالَ جمهورهم: يُطلق على كل مِنْهُمَا بالاشتراك
اللَّفْظِيّ.
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ حَقِيقَة فِي اللساني، مجَاز فِي
النَّفْسِيّ، وَلَيْسَ
(3/1271)
الْخلاف [جَارِيا] فِي نفس الْكَلَام، بل
مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والتصديق
والتكذيب، وَنَحْو ذَلِك من عوارض الْكَلَام.
قَالَ الرَّازِيّ فِي " الْأَرْبَعين ": (مَاهِيَّة ذَلِك
الطّلب مُغَايرَة لذَلِك اللَّفْظ، وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه:
أَحدهَا: أَن مَاهِيَّة هَذَا الْمَعْنى لَا تتبدل باخْتلَاف
الْأَمْكِنَة والأزمنة، والألفاظ الدَّالَّة على هَذَا
الْمَعْنى تخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمِنَة والأمكنة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: عَلَيْهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: إِن أردْت اخْتِلَاف أجناسها، فَهَذَا مُسلم وَلَا
ينفعك، وَإِن أردْت اخْتِلَاف قدرهَا وصفتها فَمَمْنُوع، لأَنا
لَا نسلم أَن الطّلب الْحَاصِل بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيّ الفصيح
مَعَ الصَّوْت الجهوري مماثل للطلب بِاللَّفْظِ الأعجمي مَعَ
الصَّوْت الضَّعِيف، وَهَذَا لِأَن الْقَائِم بِالنَّفسِ قد
يتَفَاوَت، فَيكون طلب أقوى من غَيره وأكمل.
الثَّانِي: هَب أَن الْمَدْلُول مُتحد، وَالدَّال مُخْتَلف،
لَكِن لم لَا جيوز وجود الْمَدْلُول مَشْرُوطًا بِالدَّلِيلِ،
فَهُوَ وَإِن غايره لَكِن لَا يُوجد إِلَّا بِوُجُودِهِ، أَلا
ترى أَن كَون الْإِنْسَان مخبرا لغيره لَا بُد فِيهِ من أَمر
ظَاهر، يدل على مَا فِي بَاطِنه من الْمَعْنى، وَذَلِكَ
الْأَمر الظَّاهِر وَإِن اخْتلف، لَكِن لَا يكون مخبرا إِلَّا
بِهِ، وَإِذا لَاحَ لَك ذَلِك، لم يكن مُجَرّد كَون الْمَعْنى
مغايرا كَافِيا فِي مَطْلُوبه، وَهَذَا كَمَا أَن الْمَعْنى
قَائِم بِالروحِ، وَاللَّفْظ قَائِم بِالْبدنِ، ثمَّ إِن وجود
الرّوح فِي هَذَا
(3/1272)
الْعَالم لَا يُمكن إِلَّا مَعَ الْبدن، و
- أَيْضا - فَكل من المتلازمين دَلِيل على الآخر، لَا
يَقْتَضِي ذَلِك وجود الْمَدْلُول بِدُونِ الدَّلِيل: كالأمور
المتضايفة كالأبوة والبنوة) .
قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الثَّانِي: أَن جَمِيع
الْعُقَلَاء يعلمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَن قَول الْقَائِل:
افْعَل، دَلِيل على ذَلِك الطّلب [الْقَائِم] بِالْقَلْبِ،
وَالدَّلِيل مُغَاير للمدلول) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هَب أَن الْأَمر كَذَلِك، لَكِن
لم يجمعوا على أَنه يُوجد الْمَدْلُول دون دَلِيله) .
قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الثَّالِث: أَن جَمِيع
الْعُقَلَاء يعلمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَن قَول الْقَائِل:
افْعَل، لَا يكون طلبا وأمرا إِلَّا عِنْد اصْطِلَاح النَّاس
على هَذَا الْوَضع.
وَأما كَون ذَلِك الْمَعْنى الْقَائِم بِالْقَلْبِ طلبا،
فَإِنَّهُ أَمر ذاتي حَقِيقِيّ لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى
الْوَضع والاصطلاح) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: مَا ذكرت مَمْنُوع، فَإِن
أَكثر النَّاس لَا يجْعَلُونَ اللُّغَات اصطلاحية، بل إِمَّا
توقيفية بإلهام أَو بِغَيْر إلهام، والنزاع فِي ذَلِك
مَشْهُور.
وَلَو سلم، فَلم قلت بِإِمْكَان وجوده بِدُونِ اللَّفْظ) .
قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الرَّابِع: هُوَ أَنهم قَالُوا:
إِن قَوْلنَا: " ضرب
(3/1273)
يضْرب "، إِخْبَار، وَقَوْلنَا: " اضْرِب
وَلَا تضرب "، أَمر وَنهي، وَلَو أَن الواضعين قلبوا الْأَمر
وَقَالُوا بِالْعَكْسِ، لَكَانَ جَائِزا، أما لَو قَالُوا: إِن
حَقِيقَة الطّلب يُمكن أَن تقلب خَبرا، أَو حَقِيقَة الْخَبَر
يُمكن أَن تقلب طلبا، لَكَانَ ذَلِك محالا) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: لَو سلم، لم يلْزم أَن لَا
يكون وجود أَحدهمَا مَشْرُوطًا بِالْآخرِ، و - أَيْضا -
أَنْتُم ادعيتم: أَن حَقِيقَة الطّلب وَحَقِيقَة الْخَبَر
شَيْء وَاحِد، بل ادّعى الرَّازِيّ: أَن حَقِيقَة الطّلب
دَاخِلَة فِي حَقِيقَة الْخَبَر، فَقَالَ فِي كَون كَلَام الله
وَاحِدًا أَمر وَنهي وَخبر: إِنَّه يرجع إِلَى حرف وَاحِد،
وَهُوَ الْكَلَام كُله خبر؛ لِأَن الْأَمر عبارَة عَن تَعْرِيف
[الْغَيْر] أَنه لَو فعله لصار مُسْتَحقّا [للمدح، وَلَو تَركه
صَار] مُسْتَحقّا للذم، وَكَذَا القَوْل فِي النَّهْي، وَإِذا
كَانَ مرجع الْكل إِلَى شَيْء وَاحِد، وَهُوَ الْخَبَر، صَحَّ
أَن كَلَام الله وَاحِد) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: احْتج الْجُمْهُور بِالْكتاب
وَالسّنة واللغة وَالْعرْف.
أما الْكتاب: فَقَوله تَعَالَى: {آيتك أَلا تكلم النَّاس
ثَلَاث لَيَال سويا (10) فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب فَأوحى
إِلَيْهِم أَن سبحوا بكرَة وعشيا} [مَرْيَم: 10 - 11] ، فَلم
يسم الْإِشَارَة كلَاما.
وَقَالَ لِمَرْيَم: {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ
أكلم الْيَوْم إنسيا} [مَرْيَم: 26] .
(3/1274)
وَفِي " الصَّحِيح ": أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن الله
تَعَالَى عَفا لأمتي عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا حدثت
بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تكلم أَو تعْمل بِهِ ".
وَقسم أهل اللِّسَان الْكَلَام إِلَى: اسْم، وَفعل، وحرف.
وَاتفقَ الْفُقَهَاء كَافَّة: على أَن من حلف لَا يتَكَلَّم،
لَا يَحْنَث بِدُونِ النُّطْق، وَإِن حدثته نَفسه.
فَإِن قيل: الْأَيْمَان مبناها على الْعرف.
قيل: الأَصْل عدم التَّغْيِير، وَأهل الْعرف يسمون النَّاطِق
متكلما، وَمن عداهُ ساكتا أَو [أخرسا] .
(3/1275)
قَالُوا: قَوْله تَعَالَى: {إِذا جَاءَك
المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم
إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ}
[المُنَافِقُونَ: 1] ، أكذبهم الله تَعَالَى فِي شَهَادَتهم،
وَمَعْلُوم صدقهم فِي النُّطْق اللساني، فَلَا بُد من إِثْبَات
كَلَام فِي النَّفس لكَون الْكَذِب عَائِدًا إِلَيْهِ،
[فَقَوله] تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا
الله بِمَا نقُول} [المجادلة: 3] ، وَقَوله تَعَالَى:
{استكبروا فِي أنفسهم} [الْفرْقَان: 21] ، وَقَوله تَعَالَى:
{وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ} [الْملك: 13] ، وَقَوله
تَعَالَى: {ونعلم مَا [توسوس] بِهِ نَفسه} [ق: 16] .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (أما الأول: فَلِأَن الشَّهَادَة
الْإِخْبَار عَن الشَّيْء مَعَ اعْتِقَاده، فَلَمَّا لم
يَكُونُوا معتقدين ذَلِك أكذبهم الله تَعَالَى.
وَعَن الثَّانِي وَجْهَان:
الأول: أَنه قَول بحروف وأصوات خُفْيَة، وَلِهَذَا فسره بِمَا
بعده.
الثَّانِي: أَنه قَول مُقَيّد، فَهُوَ مجَاز، وَهُوَ الْجَواب
عَن الْإِسْرَار والجهر.
وَعَن الثَّالِث: أَن الاستكبار رُؤْيَة للنَّفس، وَهُوَ خَارج
عَن ذَلِك.
قَالُوا: قَول عمر: " زورت فِي نَفسِي كلَاما ".
قُلْنَا: زور: صور مَا يُرِيد النُّطْق بِهِ، أَو كَقَوْل
الْقَائِل: زورت فِي نَفسِي نبأ أَو سفرا ".
قَالُوا: قَول الأخطل:
(إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد ... ... ... ... ... ... ... )
إِلَى آخِره.
(3/1276)
قُلْنَا: الْبَيْت مَوْضُوع على الأخطل،
فَلَيْسَ هُوَ فِي نسخ ديوانه، وَإِنَّمَا هُوَ لِابْنِ ضمضام،
وَلَفظه: إِن الْبَيَان، وَسَيَأْتِي فِي كَلَام الشَّيْخ
الْمُوفق.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: " فَإِن قيل: إِذا جعلتم الْحَقَائِق
الَّتِي هِيَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار شَيْئا
وَاحِدًا، لزمكم أَن ترد الصِّفَات إِلَى معنى وَاحِد.
قُلْنَا: هُوَ سُؤال وَارِد، وَلَعَلَّ عِنْد غَيرنَا حلّه "
انْتهى.
وَقَالَ أَبُو نصر السجْزِي: " قَوْلهم: لَا يَتَبَعَّض، يرد
عَلَيْهِ أَن مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
سمع بعض كَلَام الله، وَلَا يُمكن أَن يُقَال: سمع الْكل) .
وَقَالَ ابْن درباس الشَّافِعِي: " وَكَذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى: {ففهمناها سُلَيْمَان} [الْأَنْبِيَاء: 79] ، مَعَ
التَّصْرِيح باختصاص مُوسَى بالْكلَام ".) انْتهى كَلَام ابْن
قَاضِي الْجَبَل وَنَقله.
(3/1277)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي فتيا
لَهُ تسمى بالأزهرية: (وَمن قَالَ: إِن الْقُرْآن عبارَة عَن
كَلَام الله تَعَالَى، وَقع فِي محذورات:
أَحدهَا: قَوْلهم: " إِن هَذَا لَيْسَ هُوَ كَلَام الله "،
فَإِن نفي هَذَا الْإِطْلَاق خلاف مَا علم بالاضطرار من دين
الْإِسْلَام، وَخلاف مَا دلّ عَلَيْهِ الشَّرْع وَالْعقل.
وَالثَّانِي: قَوْلهم: " عبارَة "، إِن أَرَادوا: أَن هَذَا
الثَّانِي هُوَ الَّذِي عبر عَن كَلَام الله الْقَائِم
بِنَفسِهِ، لزم أَن يكون كل تال معبر عَمَّا فِي نفس الله،
والمعبر عَن غَيره هُوَ المنشيء للعبارة، فَيكون كل قاريء هُوَ
المنشيء لعبارة الْقُرْآن، وَهَذَا مَعْلُوم الْفساد
بِالضَّرُورَةِ.
وَإِن أَرَادوا: أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ عبارَة عَن
مَعَانِيه فَهَذَا حق، إِذْ كل كَلَام، فلفظه عبارَة عَن
مَعْنَاهُ، لَكِن هَذَا لَا يمْنَع أَن يكون الْكَلَام متناولا
للفظ.
وَالْمعْنَى الثَّالِث: أَن الْكَلَام قد قيل: إِنَّه حَقِيقَة
فِي اللَّفْظ، مجَاز فِي الْمَعْنى، وَقيل: حَقِيقَة فِي
الْمَعْنى مجَاز فِي اللَّفْظ، وَقيل: بل حَقِيقَة فِي كل
مِنْهُمَا.
وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ السّلف وَالْأَئِمَّة: أَنه
حَقِيقَة فِي مجموعهما، كَمَا أَن الْإِنْسَان، قيل: هُوَ
حَقِيقَة فِي الْبدن فَقَط، وَقيل: بل فِي الرّوح فَقَط،
وَالصَّوَاب: أَنه حَقِيقَة فِي الْمَجْمُوع.
(3/1278)
فالنزاع فِي النَّاطِق، كالنزاع فِي
مَنْطِقه.
وَإِذا كَانَ كَذَلِك، فالمتكلم إِذا تكلم بِكَلَام لَهُ لفظ
وَمعنى، وَبلغ عَنهُ بِلَفْظ وَمَعْنَاهُ، فَإِذا قيل: مَا
بلغه الْمبلغ من اللَّفْظ إِن هَذَا عبارَة عَن الْقُرْآن،
وَأَرَادَ بِهِ الْمَعْنى الَّذِي للمبلغ عَنهُ، نفى عَنهُ
اللَّفْظ الَّذِي للمبلغ عَنهُ، وَالْمعْنَى الَّذِي قَامَ
بالمبلغ، فَمن لم يثبت إِلَّا الْقُرْآن المسموع، الَّذِي هُوَ
عبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، قيل لَهُ: فَهَذَا
الْكَلَام المنظوم الَّذِي كَانَ مَوْجُودا قبل قِرَاءَة
الْقُرَّاء، هُوَ مَوْجُود قطعا وثابت، فَهَل هُوَ دَاخل فِي
الْعبارَة والمعبر عَنهُ أَو غَيرهمَا؟
فَإِن جعلته غَيرهمَا بَطل اقتصارك على الْعبارَة والمعبر
عَنهُ، وَإِن جعلته أَحدهمَا، لزمك إِن لم تثبت إِلَّا هَذِه
الْعبارَة وَالْمعْنَى الْقَائِم بِالذَّاتِ أَن تَجْعَلهُ نفس
مَا يسمع من الْقُرَّاء، فَيجْعَل عين مَا يبلغهُ المبلغون
هُوَ عين مَا يسمعوه، وَهُوَ الَّذِي فَرَرْت مِنْهُ.
وَأَيْضًا فَيُقَال لَهُ: القاريء الْمبلغ إِذا قَرَأَ، فَلَا
بُد لَهُ فِيمَا يقوم بِهِ من لفظ وَمعنى، وَإِلَّا كَانَ
اللَّفْظ الَّذِي قَامَ بِهِ عبارَة عَن الْقُرْآن، فَيجب أَن
يكون عبارَة عَن الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِهِ لَا عَن معنى
قَامَ بِغَيْرِهِ، فَقَوْلهم: هَذَا هُوَ الْعبارَة عَن
الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، أخطأوا من وَجْهَيْن.
أخطأوا فِي بَيَان مَذْهَبهم فَإِن حَقِيقَة قَوْلهم: إِن
اللَّفْظ المسموع من القاريء حِكَايَة اللَّفْظ الَّذِي عبر
بِهِ عَن معنى الْقُرْآن مُطلقًا، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ
(3/1279)
عبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم
بِالذَّاتِ، وَلَفظه وَمَعْنَاهُ حِكَايَة عَن ذَلِك اللَّفْظ
وَالْمعْنَى.
ثمَّ إِذا عرف مَذْهَبهم بَقِي خطؤهم فِي أصُول:
مِنْهَا: زعمهم: أَن مَعَاني الْقُرْآن معنى وَاحِد، هُوَ
الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر، وَأَن معنى التَّوْرَاة
وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن معنى وَاحِد، وَمعنى آيَة
الْكُرْسِيّ معنى آيَة الدّين، وَفَسَاد هَذَا مَعْلُوم
بِالضَّرُورَةِ.
وَمِنْهَا: زعمهم أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ لم يتَكَلَّم الله
بِهِ) .
وَأطَال فِي ذَلِك وَبرهن عَلَيْهِ بِمَا يطول هُنَا ذكره.
وَقَالَ بعد ذَلِك: (وَأول من قَالَ هَذَا فِي الْإِسْلَام عبد
الله بن سعيد بن كلاب، وَجعل الْقُرْآن الْمنزل حِكَايَة عَن
ذَلِك الْمَعْنى، فَلَمَّا جَاءَ الْأَشْعَرِيّ وَاتبع ابْن
كلاب فِي أَكثر مقَالَته، ناقشه على قَوْله: إِن هَذَا
حِكَايَة عَن ذَلِك، وَقَالَ: الْحِكَايَة تماثل المحكي،
فَهَذَا اللَّفْظ يَصح من الْمُعْتَزلَة، لِأَن ذَلِك
الْمَخْلُوق حُرُوف وأصوات عِنْدهم، وحكاية مثله.
وَأما على أصل ابْن كلاب فَلَا يَصح أَن يكون حِكَايَة بل
يَقُول: إِنَّه عبارَة عَن الْمَعْنى، فَأول من قَالَ بالعبارة
الْأَشْعَرِيّ.
وَكَانَ الباقلاني - فِيمَا ذكر عَنهُ - إِذا درس مَسْأَلَة
الْقُرْآن يَقُول: هَذَا قَول الْأَشْعَرِيّ، وَلم يتَبَيَّن
لي صِحَة هَذَا القَوْل، أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ.
(3/1280)
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد
الإِسْفِرَايِينِيّ يَقُول: (مَذْهَب الشَّافِعِي وَسَائِر
الْأَئِمَّة فِي الْقُرْآن خلاف قَول الْأَشْعَرِيّ،
وَقَوْلهمْ هُوَ قَول الإِمَام أَحْمد) .
وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ ذكر أَن
الْأَشْعَرِيّ [خَالف] فِي مَسْأَلَة الْكَلَام قَول
الشَّافِعِي وَغَيره، وَأَنه أَخطَأ فِي ذَلِك.
وَكَذَلِكَ سَائِر أَئِمَّة أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ
وَغَيرهمَا يذكرُونَ قَوْلهم فِي حد الْكَلَام وأنواعه من
الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر الْعَام وَالْخَاص وَغير ذَلِك،
ويجعلون الْخلاف فِي ذَلِك مَعَ الْأَشْعَرِيّ، كَمَا هُوَ
مُبين فِي أصُول الْفِقْه الَّتِي صنفها أَئِمَّة أَصْحَاب أبي
حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهم) .
(3/1281)
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: (وَمن قَالَ من
الْمُعْتَزلَة والكلابية: " إِن الْقُرْآن الْمنزل حِكَايَة
ذَلِك "، وظنوا أَن الْمبلغ حاك لذَلِك الْكَلَام، وَلَفظ
الْحِكَايَة قد يُرَاد بِهِ محاكاة النَّاس فِيمَا
يَقُولُونَهُ ويفعلونه اقْتِدَاء بهم وموافقة لَهُم.
فَمن قَالَ: " إِن الْقُرْآن حِكَايَة كَلَام الله تَعَالَى "
بِهَذَا الْمَعْنى فقد غلط وضل ضلالا مُبينًا، فَإِن الْقُرْآن
لَا يقدر النَّاس على أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ، وَلَا يقدر أحد
أَن يَأْتِي بِمَا يحكيه، وَقد يُرَاد بِلَفْظ الْحِكَايَة
النَّقْل والتبليغ كَمَا يُقَال: فلَان حكى عَن فلَان أَنه
قَالَ كَذَا، كَمَا يُقَال عَنهُ: نقل عَنهُ، فَهُنَا بِمَعْنى
التَّبْلِيغ للمعنى، وَقد يُقَال: حكى عَنهُ أَنه قَالَ كَذَا
وَكَذَا، لما قَالَه بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فالحكاية هُنَا
بِمَعْنى التَّبْلِيغ للفظ وَالْمعْنَى، لَكِن يفرق بَين أَن
يَقُول: حكيت كَلَامه، على وَجه الْمُمَاثلَة لَهُ وَبَين أَن
يَقُول: حكيت عَنهُ كَلَامه وَبَلغت عَنهُ، أَنه قَالَ مثل
قَوْله من غير تَبْلِيغ عَنهُ، وَقد يُرَاد بِهِ الْمَعْنى
الآخر، وَهُوَ أَنه بلغ عَنهُ مَا قَالَه، فَإِن أُرِيد
الْمَعْنى الأول جَازَ أَن يُقَال: هَذَا حِكَايَة كَلَام
فلَان، وَهَذَا مثل كَلَام فلَان، وَلَيْسَ هُوَ مبلغا عَنهُ
كَلَامه، وَإِن أُرِيد الْمَعْنى الثَّانِي وَهُوَ مَا إِذا
حكى الْإِنْسَان عَن غَيره مَا يَقُوله وبلغه عَنهُ، فَهُنَا
يُقَال: هَذَا كَلَام فلَان، وَلَا يُقَال: هَذَا حِكَايَة
فلَان، كَمَا لَا يُقَال: هَذَا مثل كَلَام فلَان، بل قد
يُقَال: هَذَا كَلَام فلَان بِعَيْنِه، بِمَعْنى: أَنه لم
يُغير وَلم يحرف وَلم يزدْ وَلم ينقص) . وَأطَال فِي ذَلِك.
قلت: قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الْقُرْآن كَيفَ تصرف فَهُوَ غير
مَخْلُوق،
(3/1282)
وَلَا نرى القَوْل بالحكاية والعبارة) ،
وَغلط من قَالَ بهما وجهله. فَقَالَ: (من قَالَ الْقُرْآن
عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى فقد غلط وَجَهل) .
وَقَالَ: (النَّاسِخ والمنسوخ فِي كتاب الله دون الْعبارَة
والحكاية) .
(3/1283)
وَقَالَ: (هَذِه بِدعَة لم يقلها السّلف،
وَقَوله تَعَالَى: {تكليما} ، يبطل الْحِكَايَة، مِنْهُ بَدَأَ
وَإِلَيْهِ يعود) .
نَقله ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين "، وَفِي ذَلِك
كِفَايَة فِي الرَّد على من قَالَ: هُوَ عبارَة أَو حِكَايَة.
قلت: وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: (لسنا نشك أَن الْقُرْآن فِي
الْمُصحف على الْحَقِيقَة، لَا على الْمجَاز، كَمَا يَقُوله
بعض أَصْحَاب الْكَلَام: إِن الَّذِي فِي الْمُصحف دَلِيل على
الْقُرْآن) انْتهى.
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام موفق الدّين ابْن قدامَة الْمَقْدِسِي
فِي تصنيف مُفْرد لَهُ فِي ذَلِك: (أجمعنا على أَن الْقُرْآن
كَلَام الله تَعَالَى، وَقد أخبر الله تَعَالَى بذلك
(3/1284)
بقوله: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله}
[التَّوْبَة: 6] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَقد كَانَ فريق مِنْهُم
يسمعُونَ كَلَام الله} [الْبَقَرَة: 75] ، وَقَالَ النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِن قُريْشًا قد
مَنَعُونِي أَن أبلغ كَلَام رَبِّي "، وَقَالَ أَبُو بكر
الصّديق - رَضِي الله عَنهُ -: " مَا هَذَا كَلَامي وَلَا
كَلَام صَاحِبي وَلكنه كَلَام الله تَعَالَى ".
وَالْكَلَام: هُوَ الْحُرُوف الْمَنْظُومَة، والكلمات
المفهومة، والأصوات الْمَعْلُومَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ من
وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع.
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث
لَيَال سويا (10) فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب فَأوحى
إِلَيْهِم أَن سبحوا بكرَة وعشيا} [مَرْيَم: 10 - 11] .
وَقَالَ لِمَرْيَم: {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ
أكلم الْيَوْم إنسيا} ، إِلَى قَوْله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ
قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا} [مَرْيَم:
26 - 29] .
(3/1285)
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ
إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن} [سُورَة النبأ: 38] .
وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا يَوْم لَا ينطقون} [المرسلات: 35] ،
ومعناهما وَاحِد.
وَقَالَ تَعَالَى: {وتكلمنا أَيْديهم وَتشهد أَرجُلهم} [يس:
65] ، يَعْنِي بِهِ: النُّطْق، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى:
{وَقَالُوا لجلودهم لم شهدتم علينا قَالُوا أنطقنا الله
الَّذِي أنطق كل شَيْء} [فصلت: 21] .
وَقَالَ تَعَالَى: {ويكلم النَّاس فِي المهد وكهلا} [آل
عمرَان: 46] يَعْنِي بِهِ: النُّطْق.
وَأما السّنة فَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
" عُفيَ لأمي عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا حدثت بِهِ
أَنْفسهَا مَا لم تكلم أَو تعْمل بِهِ "، وَقَوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا
يَصح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس "، وَقَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لم يتَكَلَّم فِي المهد
إِلَّا ثَلَاثَة ... " الحَدِيث.
(3/1286)
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " كل [كَلَام] ابْن آدم عَلَيْهِ لَا لَهُ ... "
الحَدِيث، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
من كثر كَلَامه كثر سقطه ".
(3/1287)
وَأما الْإِجْمَاع: فَإِن النَّاس فِي
أشعارهم، ومنثور كَلَامهم، وعرفهم، وأحكامهم، على أَن
الْكَلَام: النُّطْق، وَأَجْمعُوا: أَنه إِذا حلف: لَا
يتَكَلَّم، لَا يَحْنَث إِلَّا بالنطق.
قَالَ: وَاعْترض الْقَائِل بِكَلَام النَّفس على ذَلِك
بِوُجُوه:
أَحدهَا: قَول الأخطل:
(إِن الْكَلَام [لفي] الْفُؤَاد ... ... ... ... ... ... ... )
إِلَى آخِره.
الثَّانِي: سلمنَا أَن كَلَام الْآدَمِيّ صَوت وحرف، وَلَكِن
كَلَام الله تَعَالَى بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ صفته، فَلَا يشبه
صِفَات الْآدَمِيّين، وَلَا كَلَامه كَلَامهم.
الثَّالِث: أَن مذهبكم فِي الصِّفَات أَن لَا تفسر، فَكيف
فسرتم كَلَام الله بِمَا ذكرْتُمْ؟
الرَّابِع: أَن الْحُرُوف لَا تخرج إِلَّا من مخارج وأدوات،
وَالصَّوْت لَا يكون إِلَّا من جسم، وَالله تَعَالَى يتعالى
عَن ذَلِك.
(3/1288)
الْخَامِس: أَن الْحُرُوف يدخلهَا
التَّعَاقُب، فالباء تسبق السِّين، وَالسِّين تسبق الْمِيم،
وكل مَسْبُوق مَخْلُوق.
السَّادِس: أَن هَذَا يدْخلهُ التجزؤ والتعداد، وَالْقَدِيم
لَا يتَجَزَّأ وَلَا يَتَعَدَّد.
قَالَ شيخ الْإِسْلَام الْمُوفق: الْجَواب عَن الأول من
وُجُوه:
الأول: أَن هَذَا شَاعِر نَصْرَانِيّ عَدو لله وَرَسُوله
وَدينه، أفيجب اطراح كَلَام الله وَرَسُوله وَسَائِر الْخلق
تَصْحِيحا لكَلَامه، وَحمل كَلَامهم على الْمجَاز صِيَانة
لكلمته هَذِه عَن الْمجَاز.
وَأَيْضًا فتحتاجون إِلَى إِثْبَات هَذَا الشّعْر بِبَيَان
إِسْنَاده، وَنقل الثِّقَات لَهُ، وَلَا يقتنع بشهرته، وَقد
يشْتَهر الْفَاسِد، وَقد سَمِعت شَيخنَا أَبَا مُحَمَّد بن
الخشاب - إِمَام أهل الْعَرَبيَّة فِي زَمَانه - يَقُول: (قد
فتشت دواوين الأخطل العتيقة فَلم أجد هَذَا الْبَيْت فِيهَا) .
الثَّانِي: لَا نسلم أَن لَفظه هَكَذَا إِنَّمَا قَالَ:
(إِن الْبَيَان من الْفُؤَاد ... ... ... ... ... ... ... )
فحرفوه وَقَالُوا: الْكَلَام.
الثَّالِث: أَن هَذَا مجَاز أَرَادَ بِهِ: أَن الْكَلَام من
عقلاء النَّاس - فِي الْغَالِب - إِنَّمَا يكون بعد التروي
فِيهِ، واستحضار مَعَانِيه فِي الْقلب، كَمَا قيل: (لِسَان
الْحَكِيم من وَرَاء قلبه، فَإِن كَانَ لَهُ قَالَ، وَإِن لم
يكن لَهُ سكت، وَكَلَام الْجَاهِل على طرف لِسَانه) .
(3/1289)
وَالدَّلِيل على أَن هَذَا مجَاز وُجُوه
كَثِيرَة:
أَحدهَا: مَا ذكرنَا، وَمَا تَرَكْنَاهُ أَكثر مِمَّا ذكرنَا
مِمَّا يدل على أَن الْكَلَام هُوَ النُّطْق، وَحمله على
حَقِيقَته بِحمْل كلمة الأخطل على مجازها، أولى من الْعَكْس.
الثَّانِي: أَن الْحَقِيقَة يسْتَدلّ عَلَيْهَا بسبقها إِلَى
الذِّهْن وتبادر الأفهام إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا يفهم من
إِطْلَاق الْكَلَام مَا ذَكرْنَاهُ.
الثَّالِث: تَرْتِيب الْأَحْكَام على مَا ذكرنَا دون مَا
ذَكرُوهُ.
الرَّابِع: قَول أهل الْعَرَبيَّة، الَّذين هم أهل اللِّسَان،
وهم أعرف بِهَذَا الشَّأْن.
الْخَامِس: الِاشْتِقَاق الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
السَّادِس: لَا يَصح إِضَافَة مَا ذَكرُوهُ إِلَى الله
تَعَالَى، فَإِنَّهُ جعل الْكَلَام فِي
(3/1290)
الْفُؤَاد، وَالله تَعَالَى لَا يُوصف
بذلك، وَجعل اللِّسَان دَلِيلا عَلَيْهِ، وَلِأَن الَّذِي عبر
عَنهُ الأخطل بالْكلَام هُوَ: التروي والفكر واستحضار
الْمعَانِي، وَحَدِيث النَّفس ووسوستها، وَلَا يجوز إِضَافَة
شَيْء من ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، بِلَا خلاف بَين
الْمُسلمين.
قَالَ: وَمن أعجب الْأُمُور: أَن خصومنا ردوا على الله وعَلى
رَسُوله، وخالفوا جَمِيع الْخلق من الْمُسلمين وَغَيرهم،
فِرَارًا من التَّشْبِيه على زعمهم، ثمَّ صَارُوا إِلَى
تَشْبِيه أقبح وأفحش من كل تَشْبِيه، وَهَذَا نوع من التغفيل،
وَمن أدل الْأَشْيَاء على فَسَاد قَوْلهم: تَركهم قَول الله
تَعَالَى وَقَول رَسُوله، وَمَا لَا يُحْصى من الْأَدِلَّة،
وتمسكوا بِكَلِمَة قَالَهَا هَذَا الشَّاعِر النَّصْرَانِي،
جعلوها أساس مَذْهَبهم، وَقَاعِدَة عقدهم، وَلَو أَنَّهَا
انْفَرَدت عَن مُبْطل وخلت عَن معَارض لما جَازَ أَن يبْنى
عَلَيْهَا هَذَا الأَصْل الْعَظِيم، فَكيف وَقد عارضها مَا لَا
يُمكن رده، فمثلهم كَمثل رجل بنى قصرا على أَعْوَاد الكبريت
فِي مجْرى [النّيل] .
وَأما قَوْلهم: عَن كَلَام الله يجب أَن لَا يكون حروفا يشبه
كَلَام الْآدَمِيّين، قُلْنَا: جَوَابه من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن الِاتِّفَاق فِي أصل الْحَقِيقَة لَيْسَ بتشبيه
كَمَا أَن اتِّفَاق الْبَصَر فِي أَنه أدْرك المبصرات، والسمع
فِي أَنه أدْرك المسموعات، وَالْعلم فِي أَنه أدْرك المعلومات
لَيْسَ بتشبيه، كَذَلِك هَذَا.
(3/1291)
الثَّانِي: أَنه لَو كَانَ ذَلِك
تَشْبِيها، كَانَ تشبيههم أقبح وأفحش على مَا ذكرنَا.
الثَّالِث: أَنهم إِن نفوا هَذِه الصّفة، لكَون هَذَا
تَشْبِيها، يَنْبَغِي أَن ينفوا سَائِر الصِّفَات من الْوُجُود
والحياة والسمع وَالْبَصَر وَغَيرهَا.
الرَّابِع: أَنا - نَحن - لم نفسر هَذَا، إِنَّمَا فسره
الْكتاب وَالسّنة.
أما قَوْلهم: أَنْتُم فسرتم هَذِه الصّفة.
قُلْنَا: إِنَّمَا لَا يجوز تَفْسِير الْمُتَشَابه الَّذِي سكت
السّلف عَن تَفْسِيره، وَلَيْسَ كَذَلِك الْكَلَام، فَإِنَّهُ
من الْمَعْلُوم بَين الْخلق لَا تَشْبِيه فِيهِ، وَقد فسره
الْكتاب وَالسّنة.
الثَّانِي: أننا - نَحن - فسرناه بِحمْلِهِ على حَقِيقَته،
تَفْسِيرا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة، وهم فسروه بِمَا لم
يرد بِهِ كتاب وَلَا سنة، وَلَا يُوَافق الْحَقِيقَة، وَلَا
يجوز نسبته إِلَى الله تَعَالَى.
وَأما قَوْلهم: إِن الْحُرُوف تحْتَاج إِلَى مخارج وأدوات.
قُلْنَا: احتياجها إِلَى ذَلِك فِي حَقنا، لَا يُوجب ذَلِك فِي
كَلَام الله تَعَالَى، تَعَالَى الله عَن ذَلِك.
فَإِن قَالُوا: بل يحْتَاج الله كحاجتنا، قِيَاسا لَهُ علينا،
أخطأوا من وُجُوه:
أَحدهَا: أَنه يلْزمهُم فِي سَائِر الصِّفَات الَّتِي سلموها:
كالسمع، وَالْبَصَر، وَالْعلم، والحياة، لَا يكون ذَلِك فِي
حَقنا إِلَّا فِي جسم، وَلَا يكون الْبَصَر إِلَّا فِي حدقة،
وَلَا السّمع إِلَّا من انخراق، وَالله تَعَالَى بِخِلَاف
ذَلِك.
(3/1292)
الثَّانِي: أَن هَذَا تَشْبِيه لله بِنَا،
وَقِيَاس لَهُ علينا، وَهَذَا كفر.
الثَّالِث: أَن بعض الْمَخْلُوقَات لم تحتج إِلَى مخارج فِي
كَلَامهَا: كالأيدي، والأرجل، والجلود، الَّتِي تَتَكَلَّم
يَوْم الْقِيَامَة، وَالْحجر الَّذِي سلم على النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والحصى الَّذِي سبح فِي
كفيه، والذراع المسمومة الَّتِي كَلمته.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: " كُنَّا نسْمع تَسْبِيح الطَّعَام
وَهُوَ يُؤْكَل ".
(3/1293)
وَلَا خلاف فِي أَن الله تَعَالَى قَادر
على إنطاق الْحجر الْأَصَم بِلَا أدوات، فَكيف عجزوا الله
تَعَالَى عَن الْكَلَام بِلَا أدوات.
قلت أَنا: الَّذِي يقطع بِهِ عَنْهُم، أَنهم لَا يَقُولُونَ:
إِن الله يحْتَاج كحاجتنا، قِيَاسا لَهُ علينا، فَإِنَّهُ عين
التَّشْبِيه، وهم لَا يَقُولُونَ ذَلِك ويفرون مِنْهُ،
وَالظَّاهِر: أَن الشَّيْخ قَالَ ذَلِك على تَقْدِير قَوْلهم
لَهُ.
ثمَّ قَالَ: وَقَوْلهمْ: إِن التَّعَاقُب يدْخل فِي الْحُرُوف.
قُلْنَا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي حق من ينْطق بالمخارج
والأدوات، وَلَا يُوصف الله بذلك.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو نصر: (إِنَّمَا يتَعَيَّن التَّعَاقُب
فِيمَن يتَكَلَّم بأداة تعجز عَن أَدَاء شَيْء إِلَّا بعد
الْفَرَاغ من غَيره، وَأما الْمُتَكَلّم بِلَا جارحة فَلَا
يتَعَيَّن فِي كَلَامه التَّعَاقُب، وَقد اتّفقت الْعلمَاء على
أَن الله تَعَالَى يتَوَلَّى الْحساب بَين خلقه يَوْم
الْقِيَامَة فِي حَالَة وَاحِدَة، وَعند كل وَاحِد مِنْهُم:
أَن الْمُخَاطب فِي الْحَال هُوَ وَحده، وَهَذَا خلاف
التَّعَاقُب) انْتهى.
ثمَّ قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: وَقَوْلهمْ: (إِن الْقَدِيم لَا
يتَجَزَّأ وَلَا يَتَعَدَّد) ، غير صَحِيح، فَإِن أَسمَاء الله
تَعَالَى مَعْدُودَة: قَالَ الله تَعَالَى: {وَللَّه
الْأَسْمَاء الْحسنى} [الْأَعْرَاف: 180] ، وَقَالَ النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن لله تِسْعَة
وَتِسْعين اسْما
(3/1294)
من أحصاها دخل الْجنَّة "، وَهِي قديمَة.
وَقد نَص الشَّافِعِي: أَن أَسمَاء الله تَعَالَى غير مخلوقة.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: (من قَالَ إِن أَسمَاء الله مخلوقة
فقد كفر) .
وَكَذَلِكَ كتب الله، فَإِن التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل
وَالزَّبُور وَالْفرْقَان مُتعَدِّدَة، وَهِي كَلَام الله
تَعَالَى غير مخلوقة، وَإِنَّمَا هَذَا شَيْء أَخَذُوهُ من علم
الْكَلَام، وَهِي مطرح عِنْد جَمِيع الْأَئِمَّة.
قَالَ أَبُو يُوسُف: (من طلب الْعلم بالْكلَام تزندق) .
وَقَالَ الشَّافِعِي: (مَا ارتدى بالْكلَام أحد فأفلح) .
وَقَالَ أَحْمد: (مَا أحب الْكَلَام أحد فَكَانَ عاقبته إِلَى
خير) .
(3/1295)
وَقَالَ ابْن خويز منداد الْمَالِكِي:
(الْبدع عِنْد مَالك وَسَائِر أَصْحَابه هِيَ: كتب الْكَلَام،
والتنجيم، وَشبه ذَلِك، لَا تصح إِجَارَتهَا، وَلَا تقبل
شَهَادَة أَهله) .
قلت أَنا: قَالَ الْحَافِظ أَبُو نصر: (فَإِن قيل: الصَّوْت
والحرف إِذا ثبتا فِي الْكَلَام اقتضيا عددا، وَالله تَعَالَى
وَاحِد من كل جِهَة.
قيل لَهُم: قد بَينا مرَارًا أَن اعْتِمَاد أولي الْحق فِي
هَذِه الْأَبْوَاب على السّمع، وَقد ورد السّمع بِأَن
الْقُرْآن ذُو عدد، وَأقر الْمُسلمُونَ بِأَنَّهُ كَلَام الله
حَقِيقَة لَا مجَازًا، وَهُوَ صفة، وَقد عد الْأَشْعَرِيّ
صِفَات الله [سبع عشرَة] صفة، وَبَين أَن مِنْهَا مَا لَا يعلم
إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَإِذا جَازَ أَن يُوصف بِصِفَات
مَعْدُودَة لم يلْزمنَا بِدُخُول الْعدَد فِي الْحُرُوف شَيْء)
انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: (الْوَجْه الثَّانِي: أَن الله
تَعَالَى كلم مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
ويكلم الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة، قَالَ الله تَعَالَى:
{وكلم الله مُوسَى تكليما}
(3/1296)
[النِّسَاء: 164] ، وَقَالَ تَعَالَى:
{وَكَلمه ربه} [الْأَعْرَاف: 143] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا
مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي}
[الْأَعْرَاف: 144] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وناديناه من جَانب
الطّور الْأَيْمن} [مَرْيَم: 52] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ
ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى} [النازعات: 16] .
وأجمعنا على أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سمع كَلَام الله
تَعَالَى من الله، لَا من الشَّجَرَة، وَلَا من حجر، وَلَا
غَيره، لِأَنَّهُ لَو سمع من غير الله كَانَ بنوا إِسْرَائِيل
أفضل فِي ذَلِك مِنْهُ، لأَنهم سمعُوا من أفضل مِمَّن سمع
مِنْهُ مُوسَى، لكَوْنهم سمعُوا من مُوسَى، فَلم سمي إِذا كليم
الرَّحْمَن، وَإِذا ثَبت هَذَا؛ لم يجز أَن يكون الْكَلَام
الَّذِي سَمعه مُوسَى إِلَّا صَوتا وحرفا، فَإِنَّهُ لَو كَانَ
معنى فِي النَّفس وفكرة وروية لم يكن ذَلِك تكليما لمُوسَى،
وَلَا هُوَ شَيْء يسمع، وَلَا يتَعَدَّى الْفِكر والرؤى، وَلَا
يُسمى مناداة.
فَإِن قَالُوا: نَحن لَا نُسَمِّيه صَوتا مَعَ كَونه مسموعا.
قُلْنَا: الْجَواب من وُجُوه.
أَحدهَا: أَن هَذَا مُخَالفَة فِي اللَّفْظ مَعَ الْمُوَافقَة
فِي الْمَعْنى، فإننا لَا نعني بالصوت إِلَّا مَا كَانَ
مسموعا.
الثَّانِي: أَن لفظ الصَّوْت قد جَاءَت بِهِ الْأَخْبَار
والْآثَار، وسأذكرها - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - على حِدة.
وَقَالَ الشَّيْخ الْمُوفق بعد ذَلِك: (النزاع فِي أَن الله
تَعَالَى تكلم بِحرف وَصَوت أم لَا؟ وَمذهب أهل السّنة
اتِّبَاع مَا ورد فِي الْكتاب وَالسّنة، وَقد بَينا - بالأدلة
القاطعة - أَن هَذَا الْقُرْآن الَّذِي عندنَا هُوَ كَلَام
الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ
(3/1297)
مسموع مقروء متلو مَحْفُوظ مَكْتُوب،
وكيفما قريء وتلي وَسمع وَحفظ فَهُوَ الْقُرْآن الْقَدِيم،
وَذكرنَا الْآيَات وَالْأَخْبَار الدَّالَّة على أَنه مسموع
متلو مَكْتُوب مَحْفُوظ) انْتهى كَلَام شيخ الْإِسْلَام موفق
الدّين، بِمَا أدخلْنَاهُ فِيهِ من كَلَام أبي نصر مُمَيّزا.
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي
" شرح البُخَارِيّ ": (قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " الْكَلَام: مَا
ينْطق بِهِ الْمُتَكَلّم، وَهُوَ مُسْتَقر فِي نَفسه كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيث عمر " - يَعْنِي: فِي قصَّة السَّقِيفَة -
وَفِيه: " وَكنت زورت فِي نَفسِي مقَالَة "، وَفِي رِوَايَة: "
كلَاما "، قَالَ: " فَسَماهُ كلَاما قبل التَّكَلُّم بِهِ ".
قَالَ: " فَإِن كَانَ الْمُتَكَلّم ذَا مخارج سمع كَلَامه ذَا
حُرُوف وأصوات، وَإِن كَانَ غير ذِي مخارج فَهُوَ بِخِلَاف
ذَلِك، والباري - عز وَجل - لَيْسَ بِذِي مخارج، فَلَا يكون
كَلَامه بحروف وأصوات "، ثمَّ ذكر حَدِيث جَابر عَن عبد الله
بن أنيس، وَقَالَ: " اخْتلف الْحفاظ فِي الِاحْتِجَاج بروايات
ابْن عقيل لسوء حفظه، وَلم يثبت لفظ الصَّوْت فِي حَدِيث
صَحِيح [عَن] النَّبِي
(3/1298)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
غير حَدِيثه، فَإِن كَانَ ثَابتا فَإِنَّهُ يرجع إِلَى غَيره،
كَمَا فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود - يَعْنِي: الَّذِي [قبله]-
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة - يَعْنِي: الَّذِي بعده -: إِن
الْمَلَائِكَة يسمعُونَ عِنْد حُضُور الْوَحْي صَوتا،
فَيحْتَمل أَن يكون الصَّوْت للسماء، أَو للْملك الْآتِي
بِالْوَحْي، أَو لأجنحة الْمَلَائِكَة، وَإِذا احْتمل ذَلِك لم
يكن نصا فِي الْمَسْأَلَة ".
وَأَشَارَ فِي مَوضِع آخر إِلَى أَن الرَّاوِي أَرَادَ فينادي
نِدَاء، فَعبر عَنهُ بالصوت انْتهى.
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: وَهَذَا حَاصِل كَلَام من نفى
الصَّوْت من الْأَئِمَّة، وَيلْزم مِنْهُ: أَن الله تَعَالَى
لم يسمع أحدا من مَلَائكَته وَلَا رسله كَلَامه، بل ألهمهم
إِيَّاه، وَحَاصِل الِاحْتِجَاج للنَّفْي: الرُّجُوع إِلَى
الْقيَاس على أصوات المخلوقين، لِأَنَّهَا الَّتِي عهد
أَنَّهَا ذَات مخارج، وَلَا يخفى مَا فِيهِ، إِذْ الصَّوْت قد
يكون من غير مخارج، كَمَا أَن الرُّؤْيَة قد تكون من غير
اتِّصَال أشعة كَمَا سبق.
سلمنَا، لَكِن نمْنَع الْقيَاس الْمَذْكُور، وَصفَة الْخَالِق
لَا تقاس على صفة الْمَخْلُوق، وَإِذا ثَبت ذكر الصَّوْت
بِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَجب الْإِيمَان بِهِ، ثمَّ
إِمَّا التَّفْوِيض، وَإِمَّا التَّأْوِيل، وَبِاللَّهِ
التَّوْفِيق) انْتهى.
(3/1299)
وَلَقَد أَجَاد وأنصف وَاتبع الْحق الَّذِي
لَا محيد عَنهُ.
وَمَا أحسن مَا قَالَه الشَّيْخ الشهَاب الدّين السهروردي فِي
كتاب " العقيدة " لَهُ، نَقله ابْن حجر: (أخبر الله فِي
كِتَابه، وَثَبت عَن رَسُوله: الاسْتوَاء، وَالنُّزُول،
وَالنَّفس، وَالْيَد، وَالْعين، فَلَا يتَصَرَّف فِيهَا بتشبيه
وَلَا تَعْطِيل، إِذْ لَوْلَا إِخْبَار الله وَرَسُوله مَا
تجاسر عقل أَن [يحوم] حول ذَلِك الْحمى) .
قَالَ الطَّيِّبِيّ: (هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الْمُعْتَمد،
وَبِه يَقُول السّلف الصَّالح) . انْتهى.
والأشعري نَفسه قد أثبت لله تَعَالَى: [سبع عشرَة] صفة - كَمَا
تقدم - وَبَين أَن مِنْهَا مَا لَا يعلم إِلَّا بِالسَّمْعِ.
(3/1300)
قلت: وَكَذَا نقُول: إِنَّه قد ثَبت
وَصَحَّ عَن الصَّادِق المصدوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - ذكر الصَّوْت، وَصَححهُ الْحفاظ المقتدى بهم،
فَلَا يتَصَرَّف فِيهِ بتشبيه وَلَا تَعْطِيل، فقد صحت
أَحَادِيث كَثِيرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِإِضَافَة الصَّوْت إِلَى الله تَعَالَى.
وَقد خرج ابْن شكر الْمصْرِيّ - وَهُوَ من فضلاء أهل الحَدِيث
ونقادهم - فِيهِ أَرْبَعَة عشر حَدِيثا، وَذكر أَنَّهَا
ثَابِتَة عِنْد الْمُحدثين. نَقله الطوفي فِي " شَرحه ".
قلت: وَكَذَلِكَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ...
(3/1301)
وَغَيره، جمع الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي
ذكر الصَّوْت الْمُضَاف إِلَى الله تَعَالَى، وسأذكرها - إِن
شَاءَ الله - بعد على حِدة.
وَالْقُرْآن مَمْلُوء بِنَحْوِ ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى:
{فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، وَقَالَ
تَعَالَى: {وَكَلمه ربه} [الْأَعْرَاف: 143] ، وَقَالَ
تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي
وبكلامي} [الْأَعْرَاف: 144] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وناديناه من
جَانب الطّور الْأَيْمن} [مَرْيَم: 52] ، {إِذْ ناداه ربه
بالواد الْمُقَدّس طوى} [النازعات: 16] ، {وَإِذ نَادَى رَبك
مُوسَى} [الشُّعَرَاء: 10] فِي آي كَثِيرَة، وَقَالَ الله
تَعَالَى، وَيَقُول الله تَعَالَى فِي غير مَا آيَة فالقرآن
مَمْلُوء بذلك، وَكَذَلِكَ السّنة الصَّحِيحَة، وَمن المستبعد
جدا أَن يكون هَذَا الْخطاب كُله مجَازًا، لَا حَقِيقَة فِيهِ
وَلَو فِي مَوضِع وَاحِد، وبموضع وَاحِد مِنْهُ يحصل
الْمَطْلُوب.
قَالَ الطوفي: (فَإِن قيل: هُوَ حَقِيقَة، وَلَكِن - كَمَا
قَرَّرْنَاهُ فِي الْكَلَام النَّفْسِيّ - بالاشتراك، كَمَا
قُلْتُمْ: إِن الصِّفَات الْوَارِدَة فِي الشَّرْع لله
تَعَالَى حَقِيقَة، لَكِن مُخَالفَة للصفات الْمُشَاهدَة،
وَهِي مقولة بالاشتراك.
(3/1302)
قُلْنَا: نَحن اضطرنا إِلَى القَوْل
بالاشتراك فِي الصِّفَات وُرُود نُصُوص الشَّرْع الثَّابِتَة
بهَا، فَأنْتم [مَا اضطركم] إِلَى إِثْبَات الْكَلَام
النَّفْسِيّ؟
فَإِن قيل: دَلِيل الْعقل الدَّال: أَنه لَا صَوت إِلَّا من
جسم.
قُلْنَا: فَمَا أفادكم إثْبَاته شَيْئا، لِأَن الْكَلَام
النَّفْسِيّ الَّذِي أثبتموه لَا يخرج فِي الْحَقِيقَة عَن أَن
يكون علما أَو تصورا - على مَا سبق تَقْرِيره عَن أئمتكم -،
فَإِن كَانَ علما، فقد رجعتم معتزلة، ونفيتم الْكَلَام
بِالْكُلِّيَّةِ، وموهتم على النَّاس بتسميتكم الْعلم كلَاما،
وَإِن كَانَ تصورا، فالتصور فِي الشَّاهِد: حُصُول صُورَة
الشَّيْء فِي الْعقل، وَإِنَّمَا يعقل فِي الْأَجْسَام، وَإِن
عنيتم تصورا مُخَالفا للتصور فِي الشَّاهِد [لائقا بِجلَال]
الله، فأثبتوا كلَاما [هُوَ عبارَة على] خلاف الشَّاهِد، لائقة
بِجلَال الله تَعَالَى) انْتهى.
وَهُوَ كَلَام متين لَا محيد عَنهُ [للنمصف] .
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شرح
البُخَارِيّ ": (قَالَ ابْن حزم فِي " الْملَل والنحل ": "
أجمع أهل الْإِسْلَام: على أَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى -
عَلَيْهِ السَّلَام -، وعَلى أَن الْقُرْآن كَلَام الله،
وَكَذَا غَيره من الْكتب الْمنزلَة والصحف، ثمَّ اخْتلفُوا.
(3/1303)
فَقَالَت الْمُعْتَزلَة: إِن كَلَام الله
تَعَالَى صفة فعل مخلوقة، وَإنَّهُ كلم مُوسَى بِكَلَام أحدثه
فِي الشَّجَرَة.
وَقَالَ أَحْمد وَمن تبعه: كَلَام الله هُوَ علمه لم يزل،
وَلَيْسَ بمخلوق.
وَقَالَت الأشعرية: كَلَام الله صفة ذَات لم تزل، وَلَيْسَ
بمخلوق، وَهُوَ غير علم الله تَعَالَى، وَلَيْسَ لله إِلَّا
كَلَام وَاحِد.
وَاحْتج لِأَحْمَد بِأَن الدَّلَائِل القاطعة قَامَت على أَن
الله تَعَالَى لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه بِوَجْه من
الْوُجُوه، فَلَمَّا كَانَ كلامنا غَيرنَا، وَكَانَ مخلوقا،
وَجب أَن يكون كَلَام الله لَيْسَ غَيره، وَلَيْسَ مخلوقا،
وَأطَال فِي الرَّد على الْمُخَالفين لذَلِك.
وَقَالَ [غَيره] : اخْتلفُوا:
فَقَالَت الْجَهْمِية، والمعتزلة، وَبَعض الزيدية والإمامية،
وَبَعض الْخَوَارِج: كَلَام الله مَخْلُوق، خلقه بمشيئته
وَقدرته فِي بعض الْأَجْسَام: كالشجرة حِين كلم مُوسَى.
(3/1304)
وَحَقِيقَة قَوْلهم: أَن الله تَعَالَى لَا
يتَكَلَّم، [وَإِن] نسب إِلَيْهِ ذَلِك فبطريق الْمجَاز.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: يتَكَلَّم حَقِيقَة، لَكِن يخلق ذَلِك
الْكَلَام فِي غَيره.
وَقَالَت الْكلابِيَّة: الْكَلَام صفة وَاحِدَة، قديمَة
الْعين، لَازِمَة لذات الله كالحياة، وَإنَّهُ لَا يتَكَلَّم
بمشيئته وَقدرته، وتكليمه من كَلمه إِنَّمَا هُوَ خلق إِدْرَاك
لَهُ يسمع بِهِ الْكَلَام، ونداؤه لمُوسَى لم يزل، لكنه أسمعهُ
ذَلِك النداء حِين [ناداه] .
ويحكى عَن أبي مَنْصُور الماتريدي من الْحَنَفِيَّة نَحوه،
لَكِن قَالَ: خلق صَوتا حِين ناداه فأسمعه كَلَامه.
وَزعم بَعضهم: أَن هَذَا مُرَاد السّلف الَّذين قَالُوا: إِن
الْقُرْآن لَيْسَ بمخلوق.
[وَأخذ بقول ابْن كلاب القلانسي، والأشعري، وأتباعهما،
وَقَالُوا: إِذا كَانَ الْكَلَام قَدِيما لعَينه، لَازِما لذات
الرب، وَثَبت أَنه لَيْسَ بمخلوق] ، فالحروف لَيست قديمَة
لِأَنَّهَا متعاقبة، وَمَا كَانَ مَسْبُوقا لغيره لم يكن
قَدِيما، وَالْكَلَام الْقَدِيم معنى قَائِم بِالذَّاتِ لَا
يَتَعَدَّد وَلَا يتَجَزَّأ، بل
(3/1305)
هُوَ معنى وَاحِد، إِن عبر عَنهُ
بِالْعَرَبِيَّةِ فقرآن، أَو بالعبرانية فتوراة مثلا.
وَذهب بعض الْحَنَابِلَة وَغَيرهم: إِلَى أَن الْقُرْآن
الْعَرَبِيّ كَلَام الله، وَكَذَا التَّوْرَاة، وَأَن الله
تَعَالَى لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، وَأَنه تكلم بحروف
الْقُرْآن، وأسمع من شَاءَ من الْمَلَائِكَة والأنبياء صَوته.
وَقَالُوا: إِن هَذِه الْحُرُوف والأصوات قديمَة لَازِمَة
الذَّات، لَيست متعاقبة، بل لم تزل قَائِمَة بِذَات مقترنة لَا
تسبق، والتعاقب إِنَّمَا يكون فِي حق الْمَخْلُوق بِخِلَاف
الْخَالِق.
وَذهب أَكثر هَؤُلَاءِ: إِلَى أَن الْأَصْوَات والحروف هِيَ
المسموعة من القارئين، وأبى ذَلِك كثير مِنْهُم فَقَالُوا:
لَيست هِيَ المسموعة من القارئين.
وَذهب بَعضهم: إِلَى أَنه مُتَكَلم بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيّ
بمشيئته وَقدرته، بالحروف والأصوات الْقَائِمَة بِذَاتِهِ،
وَهُوَ غير مَخْلُوق، لكنه فِي الْأَزَل لم يتَكَلَّم؛
لِامْتِنَاع وجود الحادثات فِي الْأَزَل، فَكَلَامه حَادث فِي
ذَاته لَا مُحدث.
وَذَهَبت الكرامية: إِلَى أَنه حَادث فِي ذَاته ومحدث.
وَذكر الْفَخر الرَّازِيّ فِي " المطالب الْعَالِيَة ": (أَن
قَول من قَالَ: إِنَّه تَعَالَى مُتَكَلم بِكَلَام يقوم
بِذَاتِهِ بمشيئته واختياره هُوَ أصح الْأَقْوَال نقلا وعقلا)
، وَأطَال فِي تَقْرِير ذَلِك.
وَالْمَحْفُوظ عَن جُمْهُور السّلف ترك الْخَوْض فِي ذَلِك
والتعمق فِيهِ، والاقتصار على القَوْل بِأَن الْقُرْآن كَلَام
الله تَعَالَى، وَأَنه غير مَخْلُوق، ثمَّ
(3/1306)
السُّكُوت عَمَّا وَرَاء ذَلِك) ، انْتهى
كَلَام الْحَافِظ ابْن حجر.
وَقَالَ - أَيْضا - بعد ذَلِك: (وَاخْتلف أهل الْكَلَام فِي
أَن كَلَام الله تَعَالَى هَل هُوَ بِحرف وَصَوت أم لَا؟
فَقَالَت الْمُعْتَزلَة: لَا يكون الْكَلَام [إِلَّا بِحرف]
وَصَوت، وَالْكَلَام الْمَنْسُوب إِلَى الله تَعَالَى قَائِم
بِالشَّجَرَةِ.
وَقَالَت الأشاعرة: كَلَام الله لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت،
وأثبتت الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَحَقِيقَته: معنى قَائِم
بِالنَّفسِ، وَإِن اخْتلفت عَنهُ الْعبارَة: كالعربية
والعجمية، واختلافها لَا يدل على اخْتِلَاف الْمعبر عَنهُ،
وَالْكَلَام النَّفْسِيّ هُوَ ذَلِك الْمعبر عَنهُ.
وأثبتت الْحَنَابِلَة: أَنه الله تَعَالَى مُتَكَلم بِحرف
وَصَوت، أما الْحُرُوف فللتصريح بهَا فِي ظَاهر الْقُرْآن،
وَأما الصَّوْت فَمن منع قَالَ: إِن الصَّوْت هُوَ الْهَوَاء
الْمُنْقَطع المسموع من الحنجرة.
وَأجَاب من أثْبته: بِأَن الصَّوْت الْمَوْصُوف بذلك هُوَ
الْمَعْهُود من الْآدَمِيّين: كالسمع، وَالْبَصَر، وصفات الرب
بِخِلَاف ذَلِك، فَلَا يلْزمه الْمَحْذُور الْمَذْكُور مَعَ
اعْتِقَاد التَّنْزِيه وَعدم التَّشْبِيه، وَأَنه يجوز أَن
يكون من غير الحنجرة فَلَا يلْزم التَّشْبِيه.
(3/1307)
وَقد قَالَ عبد الله بن أَحْمد فِي " كتاب
السّنة ": (سَأَلت أبي عَن قوم يَقُولُونَ: لما كلم الله
مُوسَى لم يتَكَلَّم بِصَوْت. فَقَالَ لي أبي: [بلَى] تكلم
بِصَوْت، هَذِه الْأَحَادِيث تروى كَمَا جَاءَت، وَذكر حَدِيث
ابْن مَسْعُود وَغَيره) .
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر - أَيْضا - فِي مَكَان آخر: (و
[مُحَصل] مَا نقل عَن أهل الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
خَمْسَة أَقْوَال:
الأول: قَول الْمُعْتَزلَة: أَنه مَخْلُوق.
وَالثَّانِي: قَول الْكلابِيَّة: أَنه قديم قَائِم بِذَات
الرب، لَيْسَ بحروف وَلَا أصوات، وَالْكَلَام الَّذِي بَين
النَّاس عبارَة عَنهُ.
وَالثَّالِث: قَول السالمية: أَنه حُرُوف وأصوات قديمَة
الْأَعْين، وَهُوَ عين هَذِه الْحُرُوف الْمَكْتُوبَة والأصوات
المسموعة.
وَالرَّابِع: قَول الكرامية: أَنه مُحدث لَا مَخْلُوق.
وَالْخَامِس: أَن كَلَام الله غير مَخْلُوق، وَأَنه لم يزل
متكلما إِذا شَاءَ، نَص على ذَلِك أَحْمد فِي كتاب " الرَّد
على الْجَهْمِية "، وافترق أَصْحَابه فرْقَتَيْن:
مِنْهُم من قَالَ هُوَ لَازم لذاته، والحروف والأصوات مقترنة
لَا متعاقبة، وَيسمع كَلَامه من شَاءَ.
وَأَكْثَرهم قَالَ: إِنَّه يتَكَلَّم بِمَا شَاءَ، مَتى شَاءَ،
وَإنَّهُ نَادَى مُوسَى حِين كَلمه، وَلم يكن ناداه من قبل.
(3/1308)
وَالَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ قَول الأشعرية:
أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، مَكْتُوب فِي
الْمَصَاحِف، مَحْفُوظ فِي الصُّدُور، مقروء بالألسنة، قَالَ
الله تَعَالَى: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله}
[التَّوْبَة: 6] ، وَقَالَ تَعَالَى: {بل هُوَ آيَات بَيِّنَات
فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} [العنكبوت: 49] ، وَفِي "
الصَّحِيح ": " لَا تسافروا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو
كَرَاهِيَة أَن يَنَالهُ الْعَدو "، وَلَيْسَ المُرَاد مَا فِي
الصُّدُور، بل مَا فِي الْمُصحف.
وَأجْمع السّلف على [أَن] الَّذِي بَين الدفتين كَلَام الله.
وَقَالَ بَعضهم: الْقُرْآن يُطلق وَيُرَاد بِهِ المقروء،
وَهُوَ الصّفة الْقَدِيمَة، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ
الْقِرَاءَة، وَهِي الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على ذَلِك، وبسبب
ذَلِك وَقع الِاخْتِلَاف.
وَأما قَوْلهم: إِنَّه منزه عَن الْحُرُوف والأصوات، فمرادهم
الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَائِم بِالذَّاتِ المقدسة، فَهُوَ
من الصِّفَات الْمَوْجُودَة الْقَدِيمَة، وَأما الْحُرُوف،
فَإِن كَانَت حركات أَو أدوات: كاللسان والشفتين فَهِيَ
أَعْرَاض، وَإِن كَانَت كِتَابَة فَهِيَ أجسام، وَقيام
الْأَجْسَام والأعراض بِذَات الله محَال، وَيلْزم من [أثبت
ذَلِك] ، أَن يَقُول بِخلق الْقُرْآن وَهُوَ يَأْبَى ذَلِك
ويفر مِنْهُ،
(3/1309)
فألجأ ذَلِك [بَعضهم إِلَى] ادِّعَاء قدم
الْحُرُوف كَمَا التزمته السالمية.
وَمِنْهُم من الْتزم قيام ذَلِك بِذَاتِهِ، وَمن شدَّة اللّبْس
فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كثر نهي السّلف عَن الْخَوْض، واكتفوا
باعتقاد: أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، وَلم
يزِيدُوا على ذَلِك شَيْئا وَهُوَ أسلم الْأَقْوَال، وَالله
الْمُسْتَعَان) انْتهى.
وَقد جمع أَكثر أَقْوَال الْعلمَاء فِي ذَلِك.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية فِي " الرَّد
على الرافضي ": (هَذِه الْمَسْأَلَة - وَهِي كَلَام الله
تَعَالَى - اضْطربَ النَّاس فِيهَا، وَعَامة الْكتب المصنفة
فِي الْكَلَام وأصول الدّين لم يذكر أَصْحَابهَا جَمِيع
الْأَقْوَال، بل مِنْهُم من يذكر قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُم من
يذكر ثَلَاثَة أَقْوَال، وَمِنْهُم من يذكر أَرْبَعَة،
وَمِنْهُم من يذكر خَمْسَة، وَأَكْثَرهم لَا يعْرفُونَ قَول
السّلف، وَقد بلغت أَقْوَالهم إِلَى تِسْعَة:
أَحدهَا: أَن كَلَام الله تَعَالَى: هُوَ مَا يفِيض على
النُّفُوس من الْمعَانِي، إِمَّا من الْعقل الفعال عِنْد
بَعضهم، أَو من غَيره، وَهُوَ قَول الصابئة والمتفلسفة،
وَمِنْهُم: ابْن سينا وَأَمْثَاله.
وَالثَّانِي: أَنه مَخْلُوق خلقه الله تَعَالَى مُنْفَصِلا
عَنهُ، وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم.
وَالثَّالِث: معنى وَاحِد قَائِم بِذَات الله تَعَالَى، [هُوَ]
الْأَمر وَالنَّهْي
(3/1310)
وَالْخَبَر والاستخبار، [إِن] عبر عَنهُ
بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِن عبر عَنهُ بالعبرية
كَانَ توراة، وَهُوَ قَول ابْن كلاب وَمن وَافقه كالأشعري
وَغَيره.
الرَّابِع: أَنه حُرُوف وأصوات أزلية، مجتمعة فِي الْأَزَل:
وَهُوَ قَول طَائِفَة من أهل الْكَلَام والْحَدِيث، وَذكره
الْأَشْعَرِيّ عَن طَائِفَة، وَهُوَ الَّذِي يذكر عَن السالمية
وَنَحْوهم.
الْخَامِس: أَنه حُرُوف وأصوات، لَكِن تكلم الله بهَا بعد أَن
لم يكن متكلما، وَهُوَ قَول الكرامية وَغَيرهم.
السَّادِس: أَن كَلَامه يرجع إِلَى مَا يحدث من علمه، وإرادته
الْقَائِم بِذَاتِهِ، وَهُوَ قَول صَاحب " الْمُعْتَبر "،
ويميل إِلَيْهِ الرَّازِيّ فِي " المطالب ".
السَّابِع: أَن كَلَامه يتَضَمَّن معنى قَائِما بِذَاتِهِ،
هُوَ مَا خلقه [فِي] غَيره، وَهُوَ قَول أبي مَنْصُور
الماتريدي.
(3/1311)
الثَّامِن: أَنه مُشْتَرك بَين الْمَعْنى
الْقَدِيم الْقَائِم بِالذَّاتِ، وَبَين مَا يخلقه فِي غَيره
من الْأَصْوَات، وَهَذَا قَول أبي الْمَعَالِي وَمن تبعه.
التَّاسِع: [أَن يُقَال] : لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ،
وَمَتى شَاءَ، وَكَيف شَاءَ، بِكَلَام يقوم بِهِ، وَهُوَ
يتَكَلَّم بِهِ بِصَوْت يسمع، وَأَن نوع الْكَلَام قديم، وَإِن
لم يكن الصَّوْت الْمعِين قَدِيما، وَهَذَا القَوْل هُوَ
الْمَأْثُور عَن أَئِمَّة الحَدِيث وَالسّنة) انْتهى مُلَخصا.
وَمن أعظم [الْقَائِلين] بِهَذَا القَوْل الْأَخير الإِمَام
أَحْمد، فَإِنَّهُ قَالَ: (لم يزل الله تَعَالَى متكلما كَيفَ
شَاءَ بِلَا تكييف) ، وَفِي لفظ: (إِذا شَاءَ) .
قَالَ القَاضِي: (إِذا شَاءَ أَن يسمعنا) .
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد - أَيْضا -: (لم يزل الله تَعَالَى
يَأْمر بِمَا شَاءَ وَيحكم) .
(3/1312)
وَقَالَ: (الْقُرْآن كَيفَ تصرف فَهُوَ غير
مَخْلُوق، وَلَا نرى القَوْل بالحكاية والعبارة، وَمن قَالَ:
الْقُرْآن عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى، فقد غلط وَجَهل) .
وَقَالَ - أَيْضا -: (الْعبارَة والحكاية بِدعَة لم يقلها
السّلف، وَقَوله: " تكليما " يبطل الْحِكَايَة، مِنْهُ بَدَأَ
وَإِلَيْهِ يعود) .
كَمَا تقدم فِي الْكَلَام على الْعبارَة والحكاية.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - أَيْضا -: (لم يكن فِي
كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَلَا الْأَئِمَّة: أَن الصَّوْت
الَّذِي تكلم بِهِ قديم، بل يَقُولُونَ: لم يزل الله متكلما
إِذا شَاءَ بِمَا شَاءَ، كَمَا يَقُوله الإِمَام أَحْمد،
وَابْن الْمُبَارك، وَغَيرهمَا) .
وَقَالَ فِي " الرَّد على الرافضي ": (من الْعلمَاء من يَقُول
لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ وَكَيف شَاءَ، كَمَا يَقُول
أَئِمَّة السّنة والْحَدِيث: كَعبد الله بن الْمُبَارك، وَأحمد
بن حَنْبَل، وَغَيرهمَا من أَئِمَّة السّنة) .
وَقَالَ: (قد تنَازع النَّاس فِي معنى كَون الْقُرْآن غير
مَخْلُوق، هَل المُرَاد بِهِ أَن نفس الْكَلَام قديم أزلي
كَالْعلمِ، أَو أَن الله تَعَالَى لم يزل مَوْصُوفا بِأَنَّهُ
مُتَكَلم يتَكَلَّم إِذا شَاءَ؟ على قَوْلَيْنِ، ذكرهمَا
الْحَارِث المحاسبي عَن أهل السّنة، وَأَبُو بكر عبد الْعَزِيز
فِي كتاب [الشافي] عَن أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد،
(3/1313)
وذكرهما أَبُو عبد الله بن حَامِد فِي
كِتَابه الْأُصُول) . انْتهى كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ الْحَافِظ زين الدّين ابْن رَجَب الْحَنْبَلِيّ فِي
كتاب مَنَاقِب الإِمَام أَحْمد ": (وَمن الْبدع الَّتِي أنكرها
الإِمَام أَحْمد فِي الْقُرْآن: قَول من قَالَ: إِن الله تكلم
بِغَيْر صَوت، فَأنْكر هَذَا القَوْل وبدع قَائِله.
قَالَ: وَقد قيل: إِن الْحَارِث المحاسبي إِنَّمَا هجره
الإِمَام أَحْمد لأجل ذَلِك) انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَهَذَا سَبَب تحذير
الإِمَام أَحْمد من الْحَارِث المحاسبي وَنَحْوه من
الْكلابِيَّة) .
وَقَالَ: (إِنَّمَا أَمر الإِمَام أَحْمد بهجر الْحَارِث
المحاسبي وَغَيره من أَصْحَاب ابْن كلاب لما أظهرُوا ذَلِك.
كَمَا أَمر السّري السَّقطِي ... ... ... ... ... ... ... ...
... ...
(3/1314)
[الْجُنَيْد] أَن يَتَّقِي بعض كَلَام
الْحَارِث، فَذكرُوا أَن الْحَارِث رَحمَه الله تَابَ من
ذَلِك، وَكَانَ لَهُ من الْعلم وَالْفضل والزهد وَالْكَلَام
فِي الْحَقَائِق مَا هُوَ مَشْهُور عَنهُ.
وَحكى عَنهُ أَبُو بكر الكلاباذي صَاحب " مقالات الصُّوفِيَّة
": أَنه كَانَ يَقُول: إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت،
وَهَذَا يُوَافق قَول من قَالَ: إِنَّه رَجَعَ عَن قَول ابْن
كلاب.
قَالَ أَبُو بكر الكلاباذي: (وَقَالَ طَائِفَة من
الصُّوفِيَّة: كَلَام الله حُرُوف وأصوات، وَإنَّهُ لَا يعرف
كَلَام إِلَّا كَذَلِك. مَعَ إقرارهم أَنه صفة لله فِي ذَاته،
وَأَنه غير مَخْلُوق.
- قَالَ: - وَهُوَ الْحَارِث المحاسبي، وَمن الْمُتَأَخِّرين
ابْن سَالم) . انْتهى.
(3/1315)
قَالَ ابْن رَجَب فِي " المناقب ": (قَالَ
عبد الله بن أَحْمد فِي " كتاب السّنة " لَهُ: فِي بَاب مَا
جحدته الْجَهْمِية من كَلَام الله تَعَالَى مَعَ مُوسَى بن
عمرَان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (سَأَلت أبي
عَن قوم يَقُولُونَ: لما كلم الله مُوسَى، لم يتَكَلَّم
بِصَوْت، فَقَالَ أبي: بلَى، تكلم بِصَوْت، هَذِه الْأَحَادِيث
يمرونها كَمَا جَاءَت، وَقَالَ أبي: حَدِيث ابْن مَسْعُود: "
إِذا تكلم الله سمع لَهُ صَوت كمر سلسلة على الصفوان ".
وَقَالَ الْخلال: ثَنَا مُحَمَّد بن عَليّ ثَنَا يَعْقُوب بن
بختان قَالَ:
(3/1316)
سُئِلَ أَبُو عبد الله عَمَّن زعم أَن الله
لم يتَكَلَّم بِصَوْت، فَقَالَ: " بلَى تكلم بِصَوْت ".
هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ صحتا عَن الإِمَام أَحْمد بِلَا شكّ.
وَقَالَ البُخَارِيّ فِي كِتَابه " خلق أَفعَال الْعباد ":
(وَيذكر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنه كَانَ يحب أَن يكون الرجل خفيض الصَّوْت، وَأَن الله
تَعَالَى يُنَادي بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب،
فَلَيْسَ هَذَا لغير الله تَعَالَى.
وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن صَوت الله تَعَالَى لَا يشبه صَوت
الْخلق، لِأَن الله تَعَالَى يسمع من بعد كَمَا يسمع من قرب،
وَأَن الْمَلَائِكَة يصعقون من صَوته، فَإِذا [تنادى]
الْمَلَائِكَة لم يصعقوا، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تجْعَلُوا
لله أندادا} [الْبَقَرَة: 22] ، فَلَيْسَ لصفة الله ند وَلَا
مثل، وَلَا يُوجد شَيْء من صِفَاته بالمخلوقين) هَذَا لَفظه
بِعَيْنِه.
ثمَّ ذكر بعده حَدِيث عبد الله بن أنيس، ثمَّ حَدِيث ابْن
مَسْعُود، وسيأتيان فِي جملَة الْأَحَادِيث.
(3/1317)
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شَرحه ":
(قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثمَّ
يناديهم بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب "، حمله
بعض الْأَئِمَّة على مجَاز الْحَذف، أَي: يَأْمر من يُنَادي،
واستبعده بعض من أثبت الصَّوْت: بِأَن فِي قَوْله: " يسمعهُ من
بعد "، إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ من الْمَخْلُوقَات،
لِأَنَّهُ لم يعْهَد مثل هَذَا فيهم، وَبِأَن الْمَلَائِكَة
إِذا سَمِعُوهُ صعقوا، وَإِذا سمع بَعضهم بَعْضًا لم يصعقوا.
قَالَ: فعلى هَذَا فصوته صفة من صِفَات ذَاته لَا تشبه صَوت
غَيره، إِذْ لَيْسَ يُوجد شَيْء من صِفَاته فِي صِفَات
المخلوقين.
قَالَ: وَهَكَذَا قَرَّرَهُ المُصَنّف - يَعْنِي بِهِ
البُخَارِيّ - فِي كتاب " خلق أَفعَال الْعباد ") انْتهى.
وَقَالَ الإِمَام مَالك الصَّغِير، أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن
أبي زيد القيرواني فِي " عقيدة " لَهُ: (وَأَن الله تَعَالَى
كلم مُوسَى بِذَاتِهِ، وأسمعه كَلَامه، لَا كلَاما قَامَ فِي
غَيره) انْتهى.
(3/1318)
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ فِي " عقيدته ":
(وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ - بِلَا كَيْفيَّة
- قولا، وأنزله على رَسُوله وَحيا، وَصدقه الْمُؤْمِنُونَ على
ذَلِك حَقًا، وأيقنوا أَنه كَلَام الله بِالْحَقِيقَةِ)
انْتهى.
فَقَالَ: الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ - بِلَا
كَيْفيَّة - قولا، فَقَالَ: كَلَام الله قَول، وَهُوَ صَرِيح.
وَنقل الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (أَن
الْفَقِيه أَبَا بكر - أحد الْأَئِمَّة من تلامذة إِمَام
الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة - أمْلى اعْتِقَاده وَفِيه:
(3/1319)
" لم يزل الله متكلما وَلَا مثل لكَلَامه
"، فاستصوبه ابْن خُزَيْمَة) .
وَذكر القَاضِي أَبُو حُسَيْن [ابْن] القَاضِي أبي يعلى فِي
كِتَابه " المرتضى من الدَّلَائِل ": (أَن الْقَادِر بِاللَّه
جمع الْعلمَاء من سَائِر الْفرق، وَكتب رِسَالَة فِي
الِاعْتِقَاد، وقرئت على الْعلمَاء كلهم، وأقروا بهَا،
وَكَتَبُوا خطوطهم عَلَيْهَا، وَأَنه لَيْسَ لَهُ اعْتِقَاد
إِلَّا هَذَا، وقرئت مرَارًا فِي أَمَاكِن كَثِيرَة، وفيهَا:
(3/1320)
" أَن الْقُرْآن كَلَام الله، غير
مَخْلُوق، تكلم بِهِ تكلما، وأنزله على رَسُوله مُحَمَّد -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على لِسَان جِبْرِيل -
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -، بعد مَا سَمعه جِبْرِيل من
الله تَعَالَى، فتلاه جِبْرِيل على مُحَمَّد، وتلاه مُحَمَّد
على أَصْحَابه، وتلاه أَصْحَابه على الْأمة، وَلم يصر
بِتِلَاوَة المخلوقين لَهُ مخلوقا، [لِأَنَّهُ] ذَلِك
الْكَلَام بِعَيْنِه الَّذِي تكلم الله بِهِ، وَأطَال فِي
ذَلِك) انْتهى.
وَقد تقدم أَن الْحَافِظ ابْن حجر حكى إِجْمَاع السّلف على أَن
الْقُرْآن كَلَام [الله] غير مَخْلُوق، تَلقاهُ جِبْرِيل عَن
الله، وبلغه جِبْرِيل إِلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وبلغه مُحَمَّد إِلَى أمته.
(3/1321)
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب " صيد
الخاطر ": (نهى الشَّرْع عَن الْخَوْض فِيمَا يثير غُبَار
شُبْهَة، وَلَا يقوى على قطع طَرِيقه إقدام الْفَهم، وَإِذا
كَانَ قد نهى عَن الْخَوْض فِي الْقدر، فَكيف يُجِيز الْخَوْض
فِي صِفَات الْمُقدر؟ وَمَا ذَاك إِلَّا لأحد أَمريْن:
إِمَّا لخوف إثارة شُبْهَة تزلزل العقائد.
أَو لِأَن قوى الْبشر تعجز عَن إِدْرَاك الْحَقَائِق) .
وَاسْتدلَّ لما ذهب إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَالْإِمَام عبد
الله بن الْمُبَارك، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل
البُخَارِيّ، وَالْإِمَام عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، وأئمة
الحَدِيث وَالسَّلَف، بِالْكتاب، وَالسّنة، والْآثَار،
والفطرة، وَالْعقل.
أما الْكتاب فقد تقدم فِي غيرما آيَة؛ إِذْ الْقُرْآن مَمْلُوء
من المناداة، والمناجاة، وَالْقَوْل بالماضي، والمضارع،
وَالْكَلَام بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، والمصدر الْمُؤَكّد
الْمُضَاف إِلَى اسْم الله تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: {وكلم الله مُوسَى تكليما (164) } [النِّسَاء:
164] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا
وَكَلمه ربه} [الْأَعْرَاف: 143] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا
مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي}
[الْأَعْرَاف:
(3/1322)
144 -] ، وَقَالَ: {يُرِيدُونَ أَن يبدلوا
كَلَام الله} [الْفَتْح: 15] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِن حق
القَوْل مني} [السَّجْدَة: 13] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وناديناه
من جَانب الطّور الْأَيْمن} [مَرْيَم: 52] ، وَقَالَ تَعَالَى:
{وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى أَن ائْتِ الْقَوْم الظَّالِمين}
[الشُّعَرَاء: 10] ، وَقَالَ تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث
مُوسَى (15) إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى} [النازعات:
15 - 16] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فاستمع لما يُوحى} [طه: 13] ،
وَكَانَ يكلمهُ من وَرَاء حجاب لَا ترجمان بَينهمَا، واستماع
الْبشر فِي الْحَقِيقَة لَا يَقع إِلَّا للصوت، وَمن زعم أَن
غير الصَّوْت يجوز فِي الْعقل أَن يسمعهُ من كَانَ على هَذِه
الْبَيِّنَة الَّتِي نَحن عَلَيْهَا [احْتَاجَ] إِلَى دَلِيل،
وَقد قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطيء الواد
الْأَيْمن فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة أَن يَا
مُوسَى إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين} [الْقَصَص: 30] ،
والنداء عِنْد الْعَرَب: صَوت لَا غير، وَلم يرد عَن الله
وَلَا عَن رَسُوله وَلَا أحد من السّلف أَنه من الله غير صَوت،
ومُوسَى مُكَلم بِلَا وَاسِطَة إِجْمَاعًا.
وَقد قَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره " فِي قَوْله تَعَالَى
فِي سُورَة طه: {نُودي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنا رَبك} [طه:
11 - 12] : (قَالَ وهب: " نُودي من الشَّجَرَة فَقيل: يَا
مُوسَى، فَأجَاب سَرِيعا مَا يدْرِي من دَعَاهُ، فَقَالَ:
إِنِّي أسمع صَوْتك وَلَا أرى مَكَانك؛ فَأَيْنَ أَنْت؟
(3/1323)
قَالَ: أَنا فَوْقك، ومعك، وأمامك، وخلفك،
وَأقرب إِلَيْك من نَفسك، فَعلم أَن ذَلِك لَا يَنْبَغِي
إِلَّا لله فأيقن بِهِ) انْتهى.
وَذكر أَبُو نصر السجسْتانِي فِي كِتَابه " الرَّد على من أنكر
الْحَرْف وَالصَّوْت ": عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر [بن] عبد
الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن جرير بن جَابر عَن كَعْب أَنه
قَالَ: " لما كلم الله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَلمه
بالألسنة كلهَا قبل لِسَانه، فَطَفِقَ مُوسَى يَقُول: وَالله
يَا رب مَا أفقه هَذَا، حَتَّى كَلمه بِلِسَانِهِ آخر
الْأَلْسِنَة بِمثل صَوته ".
قَالَ: وَهُوَ مَحْفُوظ عَن الزُّهْرِيّ، رَوَاهُ عَنهُ ابْن
أبي عَتيق
(3/1324)
والزبيدي، وَمعمر، وَيُونُس بن يزِيد،
وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وهم كلهم أَئِمَّة، وَلم يُنكره
وَاحِد مِنْهُم.
وَقَوله: " بِمثل صَوته "، مَعْنَاهُ: أَن مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَام حَسبه مثل صَوته فِي تمكنه من سَمَاعه وَبَيَانه
عِنْده.
ويوضحه قَوْله تَعَالَى: " لَو كلمتك بكلامي لم تَكُ شَيْئا
وَلم تستقم لَهُ " انْتهى.
وَذكر الشَّيْخ موفق الدّين فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَام: (أَنه لما رآى النَّار هالته وفزع مِنْهَا، فناداه
ربه: " يَا مُوسَى " فَأجَاب سَرِيعا - استئناسا بالصوت -
فَقَالَ: لبيْك لبيْك، أسمع صَوْتك وَلَا أرى مَكَانك فَأَيْنَ
أَنْت؟ قَالَ: فَوْقك، وأمام، ووراءك، وَعَن يَمِينك، وَعَن
شمالك، فَعلم أَن هَذِه الصّفة لَا تنبغي إِلَّا لله تَعَالَى،
قَالَ: فَكَذَلِك أَنْت يَا إلهي، أفكلامك أسمع أم كَلَام
رَسُولك؟ قَالَ: بل كَلَامي يَا مُوسَى) .
وَقَالَت بَنو إِسْرَائِيل لمُوسَى: (بِمَ شبهت صَوت رَبك؟) .
(3/1325)
قَالَ: " إِنَّه لَا شبه لَهُ ".
وَرُوِيَ: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما سمع كَلَام
الْآدَمِيّين مقتهم، لما وقر فِي مسامعه من كَلَام الله
تَعَالَى.
وَأما السّنة: فقد نقل الطوفي فِي " شَرحه " عَن الْحَافِظ
ابْن شكر أَنه قَالَ: صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعَة عشر حَدِيثا فِي الصَّوْت،
كَمَا تقدم ذَلِك.
وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه "، وَفِي " خلق أَفعَال
الْعباد " جملَة من ذَلِك.
وَكَذَلِكَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي " تصنيفه ".
وَجمع الْحَافِظ الضياء الْمَقْدِسِي جُزْءا فِي ذَلِك.
وَذكرت من ذَلِك فِي هَذَا الْكتاب جملَة صَالِحَة، فَمِنْهَا:
(3/1326)
الحَدِيث الأول: مَا روى جَابر بن عبد الله
- رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: خرجت إِلَى الشَّام إِلَى عبد
الله بن أنيس الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ عبد الله بن أنيس: سَمِعت
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: "
يحْشر الله الْعباد - أَو قَالَ: يحْشر الله النَّاس - قَالَ:
وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّام عُرَاة غرلًا بهما.
قَالَ: قلت: مَا بهما؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهم شَيْء، فينادي
بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب: أَنا الْملك
[أَنا] الديَّان، لَا يَنْبَغِي لأحد من أهل الْجنَّة أَن
يدْخل الْجنَّة وَأحد من أهل النَّار يُطَالِبهُ بمظلمة، وَلَا
يَنْبَغِي لأحد من أهل النَّار أَن يدْخل النَّار وَأحد من أهل
الْجنَّة يُطَالِبهُ بمظلمة ".
قَالُوا: كَيفَ وَإِنَّا نأتي الله غرلًا بهما؟
قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ والسيئات ".
أخرج أَصله البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه " تَعْلِيقا مستشهدا
بِهِ، إِلَى قَوْله: " الديَّان "، وَأخرجه بِتَمَامِهِ ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
(3/1327)
[فِي] " الْأَدَب الْمُفْرد "، وَأخرجه
الإِمَام أَحْمد، وَأَبُو يعلى، [و] الطَّبَرَانِيّ.
وَفِي طَرِيق أُخْرَى ذكرهَا الْحَافِظ الضياء بِسَنَدِهِ
إِلَى جَابر، قَالَ جَابر: (بَلغنِي عَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيث فِي الْقصاص، وَكَانَ
صَاحب الحَدِيث بِمصْر، فاشتريت بَعِيرًا، فشددت عَلَيْهِ
رحلا، فسرت عَلَيْهِ حَتَّى وَردت مصر، فقصدت إِلَى بَاب الرجل
الَّذِي بَلغنِي عَنهُ الحَدِيث، فقرعت الْبَاب، فَخرج إِلَيّ
مَمْلُوك لَهُ، فَنظر فِي وَجْهي وَلم يكلمني، فَدخل على
سَيّده فَقَالَ:
(3/1328)
أَعْرَابِي على الْبَاب، فَقَالَ: سل من
أَنْت؟ فَقلت: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، فَخرج إِلَيّ
مَوْلَاهُ، فَلَمَّا تراءينا اعتنق أَحَدنَا صَاحبه، فَقَالَ:
يَا جَابر مَا جِئْت تعرف؟ فَقلت: حَدِيث بَلغنِي عَن النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْقصاص، وَلَا
أَظن أحدا مِمَّن مضى أَو مِمَّن بَقِي أحفظ لَهُ مِنْك،
قَالَ: نعم يَا جَابر: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِن الله تبَارك وَتَعَالَى
يبعثكم يَوْم الْقِيَامَة من قبوركم حُفَاة عُرَاة غرلًا بهما،
ثمَّ يُنَادي بِصَوْت رفيع غير فظيع، يسمع من بعد كمن قرب:
أَنا الديَّان، لَا تظالم الْيَوْم، أما وَعِزَّتِي لَا
يجاوزني الْيَوْم ظَالِم، وَلَو لطمة كف بكف أَو يَد على يَد
".
أَلا وَإِن أَشد مَا أَتَخَوَّف على أمتِي من بعدِي عمل قوم
لوط، فلترتقب أمتِي الْعَذَاب إِذا تكافأ النِّسَاء بِالنسَاء
وَالرِّجَال بِالرِّجَالِ) .
الحَدِيث الثَّانِي: مَا روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله
عَنهُ - أَن نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- قَالَ: " إِذا قضى الله الْأَمر فِي السَّمَاء ضربت
الْمَلَائِكَة بأجنحتها تَصْدِيقًا لقَوْله، كَأَنَّهُ سلسلة
على صَفْوَان فَإِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا: مَاذَا قَالَ
ربكُم؟ قَالُوا: الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير ... " إِلَى
آخِره، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ،
وَابْن ماجة.
(3/1329)
الحَدِيث الثَّالِث: مَا روى ابْن
مَسْعُود، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " إِن الله تَعَالَى إِذا تكلم بِالْوَحْي، سمع
أهل السَّمَاء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصَّفَا،
فيصعقون، فَلَا يزالون كَذَلِك حَتَّى يَأْتِيهم جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِذا جَاءَهُم جِبْرِيل فزع عَن
قُلُوبهم، فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل مَاذَا قَالَ ربكُم؟
قَالَ: يَقُول الْحق، قَالَ: فينادون: الْحق الْحق "، أخرجه
أَبُو دَاوُد، وَرِجَاله ثِقَات.
الحَدِيث الرَّابِع: مَا رَوَاهُ ابْن مَسْعُود - أَيْضا -
قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ -: " إِن الله - عز وَجل - إِذا تكلم بِالْوَحْي سمع أهل
السَّمَوَات السَّبع صلصلة كصلصلة السلسلة على الصَّفَا،
قَالَ: فيفزعون حَتَّى يَأْتِيهم جِبْرِيل، فَإِذا فزع عَن
قُلُوبهم يَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل مَاذَا قَالَ رَبك؟
قَالَ: فَيَقُول: الْحق، قَالُوا: الْحق الْحق ".
رَوَاهُ أَحْمد بن الصَّباح بن أبي سُرَيج، عَن أبي ... ...
... ... ... ... ...
(3/1330)
مُعَاوِيَة.
الحَدِيث الْخَامِس: بِمَعْنى الَّذِي قبله.
قَالَ شيخ الْإِسْلَام موفق الدّين فِي " تصنيفه ": روى عبد
الله بن أَحْمد قَالَ: سَأَلت أبي فَقلت: يَا أبه، الْجَهْمِية
يَزْعمُونَ أَن الله لَا يتَكَلَّم
(3/1331)
بِصَوْت، فَقَالَ: كذبُوا، إِنَّمَا يدورون
على التعطيل، ثمَّ قَالَ الإِمَام أَحْمد: ثَنَا [عبد
الرَّحْمَن] بن مُحَمَّد الْمحَاربي قَالَ حَدثنِي الْأَعْمَش
عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن عبد الله بن مَسْعُود
قَالَ: " إِذا تكلم الله بِالْوَحْي سمع صَوته أهل السَّمَاء
".
قَالَ السجْزِي: (وَمَا فِي رُوَاة هَذَا الْخَبَر إِلَّا
إِمَام مَقْبُول) انْتهى.
وتتمة الحَدِيث: " فَيَخِرُّونَ سجدا حَتَّى إِذا فُزّع عَن
قُلُوبهم: قَالَ: سكن عَن قُلُوبهم، نَادَى أهل السَّمَاء
مَاذَا قَالَ ربكُم؟ قَالُوا: الْحق قَالَ كَذَا
(3/1332)
وَكَذَا ".
قَالَ القَاضِي أَبُو حُسَيْن وَغَيره: (وَمثل هَذَا لَا
يَقُوله ابْن مَسْعُود إِلَّا توقيفا، لِأَنَّهُ إِثْبَات صفة
الذَّات) انْتهى، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الحَدِيث السَّادِس: مَا روى بهز عَن أَبِيه عَن جده أَن
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(3/1333)
قَالَ: " إِذا نزل جِبْرِيل بِالْوَحْي على
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فزع أهل
السَّمَوَات لانحطاطه، وسمعوا صَوت الْوَحْي كأشد مَا يكون
صَوت الْحَدِيد على الصَّفَا، فَكلما مر بِأَهْل سَمَاء فُزّع
عَن قُلُوبهم، فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل بِمَ أمرت؟
فَيَقُول: نور الْعِزَّة الْعَظِيم، كَلَام الله بِلِسَان
عَرَبِيّ ".
الحَدِيث السَّابِع: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله
تَعَالَى: {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ
ربكُم قَالُوا الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير} [سبأ: 23] .
قَالَ: " لما أوحى الْجَبَّار عز وَجل إِلَى مُحَمَّد - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَا الرَّسُول من
الْمَلَائِكَة ليَبْعَثهُ بِالْوَحْي، فَسمِعت الْمَلَائِكَة
صَوت الْجَبَّار يتَكَلَّم بِالْوَحْي، فَلَمَّا كشف عَن
قُلُوبهم، سَأَلُوا عَمَّا قَالَ؟ قَالُوا: الْحق، وَعَلمُوا
أَن الله لَا يَقُول إِلَّا حَقًا، وَأَنه منجز مَا وعد.
(3/1334)
- قَالَ ابْن عَبَّاس -: وَصَوت الْوَحْي
كصوت الْحَدِيد على الصَّفَا، فَلَمَّا سَمِعُوهُ خروا سجدا،
فَلَمَّا رفعوا رؤوسهم قَالُوا: [مَاذَا قَالَ] ربكُم؟
قَالُوا: الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير ".
الحَدِيث الثَّامِن: مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَقُول
الله تَعَالَى: يَا آدم، فَيَقُول: لبيْك وَسَعْديك، فينادي
بِصَوْت: إِن الله يَأْمُرك أَن تخرج من ذريتك بعثا إِلَى
النَّار " رَوَاهُ البُخَارِيّ وَغَيره.
الحَدِيث التَّاسِع: مَا رَوَاهُ النواس بن سمْعَان، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يوحي بِأَمْر تكلم بِالْوَحْي،
أخذت السَّمَوَات مِنْهُ رَجْفَة شَدِيدَة من خوف الله
تَعَالَى، فَإِذا سمع بذلك أهل السَّمَاء صعقوا وخروا سجدا،
فَيكون أَوَّلهمْ يرفع رَأسه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام
فيكلمه الله من وحيه بِمَا أَرَادَ، فينتهي بِهِ جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَام على الْمَلَائِكَة، كلما مر بسماء سَأَلَهُ
أَهلهَا: مَاذَا قَالَ رَبنَا يَا جِبْرِيل؟ فَيَقُول
جِبْرِيل: قَالَ الْحق وَهُوَ الْعلي
(3/1335)
الْكَبِير، فَيَقُولُونَ كلهم مِثْلَمَا
قَالَ جِبْرِيل، فينتهي بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام
حَيْثُ أَمر من السَّمَاء وَالْأَرْض ".
رَوَاهُ الْحَافِظ ضِيَاء الدّين بِسَنَدِهِ إِلَى عبد الله بن
مُحَمَّد بن جَعْفَر بن حَيَّان، مُتَّصِلا إِلَى النواس بن
سمْعَان.
الحَدِيث الْعَاشِر: مَا رَوَاهُ جَابر بن عبد الله - رَضِي
الله عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ رَسُول [الله]- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعرض نَفسه على النَّاس بالموقف،
وَيَقُول: " أَلا رجل يحملني إِلَى قومه؛ فَإِن قُريْشًا قد
مَنَعُونِي أَن أبلغ كَلَام رَبِّي " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد،
وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة.
الحَدِيث الْحَادِي عشر: مَا رَوَاهُ جَابر - أَيْضا - قَالَ:
لما قتل أبي يَوْم
(3/1336)
أحد، قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا جَابر، أَلا أخْبرك
بِمَا قَالَ الله تَعَالَى لأَبِيك، قَالَ: بلَى، قَالَ: وَمَا
كلم الله أحدا إِلَّا من وَرَاء حجاب إِلَّا أَبَاك، فَكلم
الله أَبَاك كفاحا، فَقَالَ: يَا عبد الله تمن عَليّ أعطك،
قَالَ: يَا رب تردني فأقتل فِيك ثَانِيَة، فَقَالَ: سبق مني
القَوْل: إِنَّهُم إِلَيْهَا لَا يرجعُونَ، فَقَالَ: يَا رب
أخبر من ورائي، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين
قتلوا فِي سَبِيل الله} الْآيَة [آل عمرَان: 169] " رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة.
الحَدِيث الثَّانِي عشر: مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة قَالَ:
قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
إِن الله تَعَالَى قَرَأَ {طه} و {يس} قبل أَن يخلق آدم بِأَلف
عَام، فَلَمَّا سَمِعت
(3/1337)
الْمَلَائِكَة قَالَت: طُوبَى لأمة ينزل
هَذَا عَلَيْهِم، وطوبى لأجواف تحمل هَذَا، وطوبى لألسن تكلم
بِهِ " رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة.
(3/1338)
الحَدِيث الثَّالِث عشر: مَا رَوَاهُ أَبُو
أُمَامَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " مَا أذن الله لعبد فِي شَيْء أفضل من
رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهمَا، وَإِن الْبر ليذر على رَأس العَبْد
مَا دَامَ فِي صلَاته، وَمَا تقرب الْعباد إِلَى الله بِمثل
مَا خرج مِنْهُ ".
(3/1339)
قَالَ أَبُو النَّضر: يَعْنِي الْقُرْآن.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ - أَيْضا - بِلَفْظ:
(3/1340)
" مَا أذن الله لعبد "، وَسَاقه - أَيْضا -
من غير طَرِيقه.
الحَدِيث الرَّابِع عشر: مَا رَوَاهُ عُثْمَان - رَضِي الله
عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الرب
تَعَالَى على خلقه، وَذَلِكَ أَنه مِنْهُ ".
(3/1341)
رَوَاهُ الْحَافِظ - أَيْضا - بِسَنَدِهِ.
وروى - أَيْضا - بِسَنَدِهِ عَن عِكْرِمَة، قَالَ: " صليت مَعَ
ابْن عَبَّاس على جَنَازَة، فَسمع رجلا يَقُول: يَا رب
الْقُرْآن اغْفِر لَهُ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: اسْكُتْ فَإِن
الْقُرْآن كَلَام الله لَيْسَ بمربوب، مِنْهُ خرج وَإِلَيْهِ
يعود ".
الحَدِيث الْخَامِس [عشر] : مَا رَوَاهُ أَبُو شُرَيْح، قَالَ:
خرج علينا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَقَالَ: " أَبْشِرُوا، أَبْشِرُوا، ألستم تَشْهَدُون أَن لَا
إِلَه إِلَّا الله، وَأَنِّي رَسُول الله؟ "، قَالُوا: بلَى،
قَالَ: " فَإِن هَذَا الْقُرْآن سَبَب، طرفه بيد الله، وطرفه
[بِأَيْدِيكُمْ] ، فَتمسكُوا بِهِ، فَإِنَّكُم لن تضلوا وَلنْ
تهلكوا بعده أبدا "، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة "، وروى مَعْنَاهُ
أَبُو دَاوُد
(3/1342)
الطَّيَالِسِيّ.
وَفِي " الصَّحِيح ": " مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا سيكلمه ربه
يَوْم الْقِيَامَة لَيْسَ بَينه وَبَينه ترجمان ".
هَذَا آخر الْأَحَادِيث الَّتِي نقلناها من جُزْء الْحَافِظ
ضِيَاء الدّين وَغَيره، الْمُشْتَمل على الْأَحَادِيث
الْوَارِدَة فِي الْحَرْف وَالصَّوْت، وَهِي قريب من
ثَلَاثِينَ حَدِيثا، بَعْضهَا صِحَاح، وَبَعضهَا حسان مُحْتَج
بهَا، وَقد أخرج غالبها الْحَافِظ
(3/1343)
ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ "، وغالبها
احْتج بهَا الإِمَام أَحْمد، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ وَغَيرهمَا من أَئِمَّة الحَدِيث على
أَن الله تَعَالَى تكلم بِصَوْت، وهم أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن،
والمقتدى بهم فِيهِ، والمرجع إِلَيْهِم، وَقد صححوا هَذِه
الْأَحَادِيث واعتمدوا عَلَيْهَا، واعتقدوا مَا فِيهَا، منزهين
لله عَمَّا لَا يَلِيق بجلاله من شُبُهَات الْحُدُوث
وَغَيرهَا، كَمَا قَالُوا فِي سَائِر الصِّفَات.
فَإِذا رَأينَا أحدا من النَّاس مَا يقدر عشر معشار أحد
هَؤُلَاءِ يَقُول: لم يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيث وَاحِد أَنه تكلم بِصَوْت،
ورأينا هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة - أَئِمَّة الْإِسْلَام الَّذين
اعْتمد أهل الْإِسْلَام على أَقْوَالهم، وَعمِلُوا بهَا،
ودونوها، ودانوا الله بهَا - صَرَّحُوا بِأَن الله تَعَالَى
تكلم بِصَوْت لَا يُشبههُ صَوت مَخْلُوق بِوَجْه من الْوُجُوه
الْبَتَّةَ، معتمدين على مَا صَحَّ عِنْدهم عَن صَاحب
الشَّرِيعَة الْمَعْصُوم فِي أَقْوَاله وأفعاله، الَّذِي لَا
ينْطق عَن الْهوى، إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى، مَعَ
اعْتِقَادهم - الجازمين بِهِ، لَا يَعْتَرِيه شكّ وَلَا وهم
(3/1344)
وَلَا خيال - نفي التَّشْبِيه والتمثيل
والتكييف، وَأَنَّهُمْ قَائِلُونَ فِي صفة الْكَلَام، كَمَا
يَقُولُونَ فِي جَمِيع صِفَات الله تَعَالَى، من النُّزُول،
والمجيء، والاستواء، والسمع، وَالْبَصَر، وَالْيَد، وَغَيرهَا،
كَمَا قَالَه سلف هَذِه الْأمة الصَّالح مَعَ إثباتهم لَهَا،
{فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال} [يُونُس: 32] ، {وَمن لم
يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} [النُّور: 40] .
قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي " تصنيفه ": [وَإِذا] كَانَ
حَقِيقَة التَّكَلُّم والمناداة شَيْئا، وتواردت الْأَخْبَار
والْآثَار بِهِ، فَمَا إِنْكَاره إِلَّا عناد وَاتِّبَاع للهوى
الْمُجَرّد، وصدوف عَن الْحق، وَترك الصِّرَاط الْمُسْتَقيم)
انْتهى.
وحد الصَّوْت: مَا يتَحَقَّق سَمَاعه، فَكل مُتَحَقق سَمَاعه
صَوت، وكل مَا لَا يَتَأَتَّى سَمَاعه الْبَتَّةَ لَيْسَ
بِصَوْت، وَحجَّة الْحَد كَونه مطردا منعكسا.
وَقَول من قَالَ: إِن الصَّوْت هُوَ الْخَارِج من هَوَاء بَين
جرمين، فَغير صَحِيح، لِأَنَّهُ يُوجد سَماع الصَّوْت من غير
ذَلِك، كتسليم الْأَحْجَار، وتسبيح الطَّعَام وَالْجِبَال،
وَشَهَادَة الْأَيْدِي والأرجل، وحنين الْجذع،
(3/1345)
وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء
إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} [الْإِسْرَاء: 44] ، وَقَالَ
تَعَالَى: {يَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَتقول هَل
من مزِيد} [ق: 30] ، وَمَا لشَيْء من ذَلِك منخرق بَين جرمين.
وَقد أقرّ الْأَشْعَرِيّ: أَن السَّمَوَات وَالْأَرْض
{قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} [فصلت: 11] ، حَقِيقَة لَا
مجَازًا، وَالله أعلم.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَلَا نزاع بَين الْعلمَاء
أَن كَلَام الله لَا يُفَارق ذَات الله سُبْحَانَهُ، وَأَنه
لَا يباينه كَلَامه وَلَا شَيْء من صِفَاته، بل لَيْسَ شَيْء
من صفة مَوْصُوف تبَاين موصوفها وتنتقل إِلَى غَيره، فَكيف
يتَوَهَّم عَاقل أَن كَلَام الله يباينه وينتقل إِلَى غَيره؟
وَلِهَذَا قَالَ الإِمَام أَحْمد: " كَلَام الله من الله
لَيْسَ ببائن مِنْهُ ".
وَقد جَاءَ فِي الْأَحَادِيث والْآثَار: " أَنه مِنْهُ بَدَأَ
- أَو مِنْهُ خرج - وَإِلَيْهِ يعود " - كَمَا تقدم -، وَنَصّ
عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَغَيره، وَمعنى ذَلِك: أَنه هُوَ
الْمُتَكَلّم بِهِ، [لم يخرج من غَيره] ، وَلَا يَقْتَضِي
ذَلِك: أَنه يباينه وانتقل عَنهُ
قَالَ: وَمَعْلُوم أَن كَلَام الْمَخْلُوق لَا يباين مَحَله)
انْتهى.
(3/1346)
قلت: قَالَ ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة
المبتدئين ": (قَالَ أَحْمد: " مِنْهُ بَدَأَ [وَإِلَيْهِ]
يعود ".
وَقَالَ أَيْضا: " مِنْهُ بَدَأَ علمه، وَإِلَيْهِ يعود حكمه
".
وَقَالَ تَارَة: " مِنْهُ خرج، وَهُوَ الْمُتَكَلّم بِهِ،
وَإِلَيْهِ يعود ".
وَقَالَ تَارَة: " الْقُرْآن من علم الله ".
قَالَ ابْن جلبة - يَعْنِي: من أَصْحَابنَا -: عوده على حد
حَقِيقَة الْعُلُوم، وَهِي رَاجِعَة إِلَى الله تَعَالَى،
وارتفاع الْقُرْآن دفْعَة عَن النَّاس، وترفع تِلَاوَته
وَأَحْكَامه فَيَعُود إِلَى الله تَعَالَى حَقِيقَة، نَص
عَلَيْهِ أَحْمد) انْتهى.
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ فِي " اعْتِقَاد " [صنفه] :
(قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، وَعبد الله بن ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ...
(3/1347)
مَسْعُود، وَعبد الله بن عَبَّاس: "
الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود ".
وَرُوِيَ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن
دِينَار يَقُول: " أدْركْت مَشَايِخنَا وَالنَّاس مُنْذُ سبعين
سنة يَقُولُونَ: الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ
وَإِلَيْهِ يعود " رَوَاهُ ابْن جرير، والحافظ هبة الله بن
الْحسن بن مَنْصُور الطبريان.
وروى التِّرْمِذِيّ عَن خباب بن الْأَرَت: أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّكُم لن
(3/1348)
تتقربوا إِلَى الله بِأَفْضَل مِمَّا خرج
مِنْهُ "، يَعْنِي: الْقُرْآن) انْتهى نقل الْحَافِظ عبد
الْغَنِيّ.
وَذهب الإِمَام أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه: إِلَى أَن
الْقِرَاءَة هُوَ المقروء والتلاوة هِيَ المتلو.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (وَأما مَا نقل عَن الإِمَام أَحْمد أَنه
سوى بَينهمَا فَإِنَّمَا أَرَادَ حسم الْمَادَّة لِئَلَّا
يتدرج أحد إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن، كَمَا نقل عَنهُ
أَنه أنكر على من قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق، أَو
غير مَخْلُوق، حسما للمادة) انْتهى.
وَإِلَّا فَلَا يخفى الْفرق بَينهمَا، وَهُوَ ظَاهر.
فَإِن قيل: أَي الْمذَاهب أقرب إِلَى الْحق من هَذِه
الْأَقْوَال التِّسْعَة؟
قلت: إِن صحت الْأَحَادِيث بِذكر الصَّوْت فَلَا كَلَام فِي
أَنه أولى وَأَحْرَى
(3/1349)
وَأَصَح من جَمِيع الْمذَاهب، مَعَ
الِاعْتِقَاد فِيهِ بِمَا يَلِيق بِجلَال الله وعظمته
وكبريائه، من غير تَشْبِيه بِوَجْه من الْوُجُوه الْبَتَّةَ،
وَقد صحت الْأَحَادِيث بِحَمْد الله تَعَالَى، وصححها
الْأَئِمَّة الْكِبَار الْمُعْتَمد عَلَيْهِم: كَالْإِمَامِ
أَحْمد، وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، وَالْإِمَام
مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَالْإِمَام عُثْمَان بن
سعيد الدَّارمِيّ، وَغَيرهم، حَتَّى الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن
حجر فِي زمننا قَالَ: (قد صحت الْأَحَادِيث فِي ذَلِك) - كَمَا
تقدم عَنهُ - وَكَذَلِكَ [صححها غَيره] من الْمُحدثين، وَفِي
ذَلِك كِفَايَة وهداية، وَلَوْلَا أَن الصَّادِق المصدوق
الْمَعْصُوم قَالَ ذَلِك لما قُلْنَاهُ وَلَا حمنا حوله، كَمَا
قَالَ السهروردي ذَلِك فِي " عقيدته " - كَمَا تقدم عَنهُ -
فَإِن صِفَات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تعرف إِلَّا
بِالنَّقْلِ الْمَحْض من الْكتاب الْعَزِيز، أَو من صَاحب
الشَّرِيعَة - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - وَتَصْحِيح
هَؤُلَاءِ وإثباتهم للأحاديث بِذكر الصَّوْت، أولى من نفي من
نفى أَنه لم يَأْتِ فِي حَدِيث وَاحِد ذكر الصَّوْت، من وُجُوه
عديدة مِنْهَا:
أَن الْمُثبت مقدم على النَّافِي.
وَمِنْهَا: عظم الْمُصَحح وجلالة قدره وَكَثْرَة اطِّلَاعه،
لَا سِيمَا فِي إِثْبَات صفة لله تَعَالَى مَعَ الزّهْد
الْعَظِيم والورع المتين، أفيليق بِالْإِمَامِ أَحْمد،
وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، أَو البُخَارِيّ، أَو
غَيرهم من السّلف الصَّالح، أَن يثبتوا
(3/1350)
لله تَعَالَى صفة من صِفَاته من غير
دَلِيل؟ ويدينون الله بهَا، ويعتقدونها، ويهجرون من
يُخَالِفهَا، من غير دَلِيل صَحَّ عِنْدهم، وَهل [يعْتَقد
هَذَا مُسلم] يُؤمن بِاللَّه وباليوم الآخر؟ فضلا عَن إِمَام
من أَئِمَّة الْإِسْلَام المقتدى بأقواله وأفعاله.
ثمَّ بعد هَذَا الْمَذْهَب من الْمذَاهب الْبَاقِيَة مَا ذكره
الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شَرحه " بقوله: (وَمن شدَّة اللّبْس
فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كثر نهي السّلف عَن الْخَوْض فِيهَا،
واكتفوا باعتقاد: أَن الْقُرْآن كَلَام الله - عز وَجل - غير
مَخْلُوق، وَلم يزِيدُوا على ذَلِك شَيْئا، وَهُوَ أسلم
الْأَقْوَال وَالله الْمُسْتَعَان) انْتهى.
وَالظَّاهِر - وَالله أعلم - إِنَّمَا اكْتفى السّلف بذلك حسما
لمادة الْكَلَام فِي ذَلِك، وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من
وُقُوع النَّاس فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة
وَالَّتِي قبلهَا بِكَثِير، لإثارة شبه كَثِيرَة توجب الْخبط
فِي العقائد، وسد الذريعة، كَمَا سد الإِمَام أَحْمد الْبَاب
فِي أَن من قَالَ: (لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق) جهمي، وَمن
قَالَ: (لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غير مَخْلُوق " مُبْتَدع.
وَإِنَّمَا أطلت الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، ونقلت
كَلَام الْعلمَاء المعتبرين
(3/1351)
فِيهَا، ليعلم ذَلِك، وَيعلم أَقْوَال
الْعلمَاء، وَالْقَائِل بِكُل قَول، وَيعرف قَائِله وَقدره
ومكانته فِي الْعلم وَعند الْعلمَاء، إِذْ غَالب النَّاس فِي
هَذِه الْأَزْمِنَة يَقُول: (من قَالَ: إِن الله يتَكَلَّم
بِصَوْت، يكون كَافِرًا) ، فَهَذَا الإِمَام أَحْمد - رَحمَه
الله وَرَضي عَنهُ - قد صرح فِي غير رِوَايَة بِأَن الله
يتَكَلَّم بِصَوْت بقدرته ومشيئته إِذا شَاءَ وَكَيف شَاءَ،
وهجر من قَالَ: إِنَّه لَا يتَكَلَّم بِصَوْت وبدعه.
وَهَذَا الإِمَام الْكَبِير عبد الله بن الْمُبَارك، إِمَام
الدُّنْيَا على الْإِطْلَاق، الَّذِي اجْتمع فِيهِ من خِصَال
الْخَيْر مَا لَا يجْتَمع غَالِبا فِي غَيره، قد قَالَ: (إِن
الله يتَكَلَّم بقدرته ومشيئته بِصَوْت كَيفَ شَاءَ وَمَتى
شَاءَ وَإِذا شَاءَ بِلَا كَيفَ) .
وَهَذَا الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل
البُخَارِيّ، من أعظم أَئِمَّة الْمُسلمين بِلَا مدافعة فِي
ذَلِك، قد قَالَ فِي كِتَابه: " خلق أَفعَال الْعباد ": (إِن
الله يتَكَلَّم بِصَوْت، وَإِن صَوته لَا يشابه صَوت
المخلوقين، وَإنَّهُ يتَكَلَّم كَيفَ شَاءَ وَمَتى شَاءَ) ،
وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث أم سَلمَة، ذكره
(3/1352)
الْحَافِظ ابْن حجر، وَكَذَلِكَ غَيره من
السّلف.
وَهَذَا الطَّحَاوِيّ، الْحَافِظ الْجَلِيل، قد قَالَ فِي "
عقيدته ": (إِن الْقُرْآن كَلَام الله، مِنْهُ بَدَأَ - بِلَا
كَيْفيَّة - قولا، وأنزله على رَسُوله وَحيا) - كَمَا تقدم
ذَلِك عَنهُ -.
وَقَالَ ابْن أبي زيد فِي " عقيدته ": (إِن الله كلم مُوسَى
بِذَاتِهِ، وأسمعه كَلَامه لَا كلَاما قَامَ فِي غَيره) .
وَهَؤُلَاء أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد فِي زَمَنه، وَإِلَى
يَوْمنَا هَذَا، لم يُغَادر مِنْهُم أحد، قَالُوا كَمَا قَالَ
إمَامهمْ، وصنفوا فِي ذَلِك التصانيف الْكَثِيرَة.
فَإِذا نظر الْإِنْسَان [الْمنصف] فِي كَلَام الْعلمَاء
الْأَئِمَّة الْأَعْلَام المقتدى بهم، واطلع على مَا قَالُوهُ
فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، علم الْحق، وَعذر الْقَائِل، وأحجم
[عَن] المقالات الَّتِي لَا تلِيق بِمُسلم يُؤمن بِاللَّه
وَالْيَوْم الآخر، وَعلم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة من جملَة
مسَائِل الصِّفَات.
(3/1353)
وَلِهَذَا قَالَ الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن
حجر: (قد صحت الْأَحَادِيث بذلك، فَمَا بَقِي إِلَّا
التَّسْلِيم أَو التَّأْوِيل) ، كَمَا تقدم عَنهُ.
فَلَيْسَ لأحد أَن يدْفع حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَقُول بعقله هَذِه الْأَحَادِيث
مشكلة، وَيلْزم مِنْهَا الْمَحْذُور الْعَظِيم.
فَقَوْل من نتبع؟ قَول هَذَا الْقَائِل، أَو قَول من اتبع
الْأَحَادِيث على حكم صِفَات الله اللائقة بجلاله وعظمته،
وَالله أعلم.
ونسأله التَّوْفِيق لما يرضيه عَنَّا من القَوْل وَالْعَمَل
وَالنِّيَّة، إِنَّه سميع قريب مُجيب.
قَوْله: {وَقَالَ [الإِمَام أَحْمد] : (الْقُرْآن معجز
بِنَفسِهِ) } .
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (من قَالَ: الْقُرْآن مَقْدُور على
مثله، وَلَكِن منع الله قدرتهم، كفر، بل هُوَ معجز بِنَفسِهِ،
وَالْعجز شَمل الْخلق) .
(3/1354)
{قَالَ [جمَاعَة من أَصْحَابنَا: (كَلَام
أَحْمد يَقْتَضِي] أَنه معجز فِي لَفظه ونظمه وَمَعْنَاهُ) .
[وَهُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة] وَغَيرهم، وَخَالف القَاضِي
فِي الْمَعْنى} ، وَاحْتج لذَلِك: بِأَن الله تَعَالَى تحدى
بِمثلِهِ فِي اللَّفْظ وَالنّظم.
قيل للْقَاضِي: لَا نسلم أَن الإعجاز فِي اللَّفْظ بل فِي
الْمَعْنى.
فَقَالَ: (الدّلَالَة على أَن الإعجاز فِي اللَّفْظ وَالنّظم
دون الْمَعْنى أَشْيَاء، مِنْهَا: أَن الْمَعْنى يقدر على مثله
كل أحد، يبين صِحَة هَذَا: قَوْله تَعَالَى: {قل فَأتوا بِعشر
سور مثله مفتريات} [هود: 13] ، وَهَذَا يَقْتَضِي: أَن التحدي
بألفاظها، وَلِأَنَّهُ قَالَ: {مثله مفتريات} ، وَالْكذب لَا
يكون مثل الصدْق، فَدلَّ أَن المُرَاد مثله فِي اللَّفْظ
وَالنّظم) انْتهى.
و {قَالَ ابْن حَامِد} : (فَهَل يسْقط الإعجاز فِي الْحُرُوف
الْمُقطعَة أم هُوَ بَاقٍ؟ {الْأَظْهر من جَوَاب الإِمَام
أَحْمد: أَن الإعجاز [فِيهَا] بَاقٍ، خلافًا للأشعرية) } .
(3/1355)
قَوْله: {وَفِي بعض آيَة إعجاز، ذكره
القَاضِي وَغَيره} ، لقَوْله تَعَالَى: {فليأتوا بِحَدِيث
مثله} [الطّور: 34] ، وَالظَّاهِر: أَنه أَرَادَ مَا فِيهِ
الإعجاز، وَإِلَّا فَلَا يَقُول فِي مثل قَوْله تَعَالَى:
{ثمَّ نظر} [المدثر: 21] ، وَنَحْوهَا: إِن فِي بَعْضهَا
إعجازا، وفيهَا أَيْضا، وَهُوَ وَاضح.
{وَقَالَ أَبُو الْخطاب} - فِي النّسخ وَغَيره -
{وَالْحَنَفِيَّة: (لَا} إعجاز فِي بعض آيَة، بل فِي آيَة) .
وَهَذَا - أَيْضا - لَيْسَ على إِطْلَاقه، [وَقَالَ] : (بعض
الْآيَات الطوَال فِيهَا إعجاز) .
{ [وَقَالَ] بَعضهم: (وَلَا فِي آيَة) } .
وَفِيه كَمَا فِي الَّذِي قبله.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الشَّامِل " وَغَيره:
(إِنَّمَا يتحدى بِالْآيَةِ إِذا كَانَت
(3/1356)
مُشْتَمِلَة على مَا بِهِ التَّعْجِيز، لَا
فِي نَحْو: {ثمَّ نظر} [المدثر: 21] .
فَيكون الْمَعْنى فِي قَوْله تَعَالَى: {فليأتوا بِحَدِيث
مثله} [الطّور: 34] ، أَي: مثله فِي الاشتمال على مَا بِهِ
يَقع الإعجاز لَا مُطلقًا) .
{و} قَالَ ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح ": (لَا إعجاز وَلَا
تحدي بآيتين) } .
قلت: وَفِيه نظر على إِطْلَاقه - كَمَا تقدم - اللَّهُمَّ
إِلَّا أَن يُقَال: مُرَاده وَمُرَاد غَيره فِي الْجُمْلَة،
وَهُوَ أولى عِنْدِي.
وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين: (الْقُرْآن كُله معجز، لَكِن
مِنْهُ مَا لَو انْفَرد لَكَانَ معجزا بِذَاتِهِ، وَمِنْه مَا
إعجازه مَعَ الانضمام) .
تَنْبِيه: ظَاهر مَا تقدم: أَن الإعجاز يحصل بِسُورَة، وَلَو
قَصِيرَة بطرِيق أولى وَأَحْرَى، ك: {إِنَّا أعطيناك
الْكَوْثَر} [الْكَوْثَر: 1] ، وَهُوَ ظَاهر قَوْله: {فَأتوا
بِسُورَة مثله} [يُونُس: 38] .
وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي " الْأَبْكَار ": (الْتزم القَاضِي
أَبُو بكر بن الباقلاني فِي أحد جوابيه: أَن الإعجاز فِي
سُورَة الْكَوْثَر وأمثالها، تمسكا وتعلقا بقوله تَعَالَى:
{فَأتوا بِسُورَة من مثله} [الْبَقَرَة: 23] ، وَالصَّحِيح:
مَا ارْتَضَاهُ فِي الْجَواب الآخر، وَهُوَ اخْتِيَار
الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الأسفراييني وَجَمَاعَة: أَن التحدي
إِنَّمَا وَقع بِسُورَة تبلغ فِي الطول مبلغا تبين فِيهِ رتب
[ذَوي] البلاغة، فَإِنَّهُ قد يصدر من غير البليغ، أَو مِمَّن
هُوَ أدنى فِي البلاغة، من
(3/1357)
الْكَلَام البليغ مَا يماثل الْكَلَام
البليغ الصَّادِر عَمَّن هُوَ أبلغ مِنْهُ، وَرُبمَا زَاد
عَلَيْهِ.
قَالَ: فَيتَعَيَّن تَقْيِيد الْإِطْلَاق فِي قَوْله تَعَالَى:
{فَأتوا بِسُورَة} [الْبَقَرَة: 23، وَيُونُس: 38] ، لِأَن
تَقْيِيد الْمُطلق بِالدَّلِيلِ وَاجِب) انْتهى.
قَوْله: {قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، [وَغَيرهمَا] : (فِي
بعضه إعجاز أَكثر من بعض) } .
قلت: وَهُوَ صَحِيح، وَقد صرح بِهِ أَئِمَّة عُلَمَاء البلاغة.
(3/1358)
(قَوْله: {فصل} )
{الْقرَاءَات السَّبع متواترة عِنْد [الْعلمَاء] } ، إِذا
تَوَاتَرَتْ عَن قَارِئهَا.
واحترزنا بذلك؛ عَمَّا يحْكى عَن بَعضهم آحادا، فَإِن ذَلِك من
الشاذ الْآتِي بَيَانه.
فالقراءات [السَّبع] متواترة عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة
وَغَيرهم من الْأَئِمَّة من عُلَمَاء السّنة، نَقله
[السرُوجِي] من أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي كتاب
(3/1359)
الصَّوْم من الْغَايَة.
وَقَالَ: (قَالَت الْمُعْتَزلَة: آحادا) انْتهى.
[وَمِمَّنْ] ادّعى أَنَّهَا آحَاد، الأبياري شَارِح "
الْبُرْهَان "، قَالَ: (وأسانيدهم تشهد لذَلِك) .
(3/1360)
وَقَالَ صَاحب " البديع " من
الْحَنَفِيَّة: (إِنَّهَا مَشْهُورَة) .
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (وَعِنْدِي فِي [كَونهَا]
متواترة نظر، وَالتَّحْقِيق: أَن الْقرَاءَات متواترة عَن
الْأَئِمَّة السَّبْعَة، أما تواترها عَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْأَئِمَّة فَمحل نظر،
فَإِن أَسَانِيد الْأَئِمَّة السَّبْعَة بِهَذِهِ الْقرَاءَات
[السَّبع] إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - مَوْجُودَة فِي كتب الْقِرَاءَة، وَهِي نقل الْوَاحِد عَن
الْوَاحِد، لم تستكمل شُرُوط التَّوَاتُر) انْتهى.
قلت: لَا يشك أحد أَن الْقرَاءَات [السَّبع] متواترة من
الصَّحَابَة إِلَيْهِم، وانه لم يكن مَذْكُورا مِنْهَا إِلَّا
طَرِيقين أَو ثَلَاثَة، لَكِن لَو سُئِلَ كل أحد من الْقُرَّاء
السَّبْعَة لبين لَهُ طرقا تبلغ التَّوَاتُر.
وَأَيْضًا فَالَّذِي نتحققه وَلَا نشك فِيهِ: أَن الجم
الْغَفِير أخذت الْقُرْآن عَن الصَّحَابَة، بِحَيْثُ أَنه لَا
يُمكن حصر من أَخذ مِنْهُم وَلَا عَنْهُم، وَكَذَلِكَ من
بعدهمْ.
وَمَا أحسن مَا قَالَ بَعضهم: (انحصار الْأَسَانِيد فِي
طَائِفَة لَا يمْنَع مَجِيء الْقرَاءَات عَن غَيرهم، فقد كَانَ
يتلقاه من أهل كل بلد بِقِرَاءَة إمَامهمْ
(3/1361)
الجم الْغَفِير عَن مثلهم، وَكَذَلِكَ
دَائِما، فالتواتر حَاصِل لَهُم، وَلَكِن الْأَئِمَّة الَّذين
قصدُوا ضبط الْحُرُوف، وحفظوا شيوخهم فِيهَا، جَاءَ السَّنَد
من جهتهم، وَهَذَا كالأخبار الْوَارِدَة فِي حجَّة الْوَدَاع
هِيَ آحَاد، وَلم تزل حجَّة الْوَدَاع منقولة عَمَّن يحصل بهم
التَّوَاتُر عَن مثلهم فِي كل عصر، فَيَنْبَغِي أَن يتفطن
لذَلِك، وان لَا يغتر بقول الْقُرَّاء فِي ذَلِك) انْتهى.
قَوْله: {قَالَ ابْن الْحَاجِب [وَمن تبعه] : (لَا من قبيل صفة
الْأَدَاء) ، وَقَالَ أَبُو شامة وَغَيره: (وَلَا صفة
الْأَلْفَاظ الْمُخْتَلف فِيهَا بَين الْقُرَّاء) ، وَهُوَ
ظَاهر كَلَام أَحْمد وَجمع} .
وَهَذَا بَيَان وَتَقْيِيد لما أطلقهُ الْجُمْهُور من تَوَاتر
الْقرَاءَات [السَّبع] ، فَإِنَّهُ لَيْسَ على إِطْلَاقه، بل
يسْتَثْنى مِنْهُ مَا قَالَه ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَهُوَ
مَا كَانَ من قبيل صفة الْأَدَاء: كالمد، والإمالة، وَتَخْفِيف
الْهمزَة، وَنَحْوه.
(3/1362)
وَمرَاده بالتمثيل بِالْمدِّ، والإمالة:
مقادير الْمَدّ، وَكَيْفِيَّة الإمالة، لَا أصل الْمَدّ
والإمالة، فَإِن ذَلِك متواتر قطعا.
فالمقادير كمد حَمْزَة وورش فَإِنَّهُ قدر سِتّ ألفات، وَقيل:
خمس، وَقيل: أَربع، ورجحوه، وَمد عَاصِم قدر ثَلَاث ألفات،
وَالْكسَائِيّ
(3/1363)
قدر أَلفَيْنِ وَنصف، وقالون قدر
أَلفَيْنِ، والسوسي قدر ألف وَنصف، وَنَحْو ذَلِك.
وَكَذَلِكَ الإمالة، تَنْقَسِم إِلَى مَحْضَة، وَهِي: أَن ينحى
بِالْألف إِلَى الْيَاء، وبالفتحة إِلَى الكسرة، وَإِلَى بَين
بَين، وَهِي كَذَلِك، إِلَّا أَنَّهَا تكون إِلَى الْألف
والفتحة أقرب، وَهِي المختارة عِنْد الْأَئِمَّة، أما أصل
الإمالة فمتواتر قطعا.
وَكَذَلِكَ التَّخْفِيف فِي [الْهَمْز، وَالتَّشْدِيد فِيهِ] ،
مِنْهُم من يسهل،
(3/1364)
وَمِنْهُم من يُبدلهُ، وَنَحْو ذَلِك،
فَهَذِهِ الْكَيْفِيَّة هِيَ الَّتِي لَيست متواترة، وَلِهَذَا
كره الإِمَام أَحْمد وَجَمَاعَة من السّلف قِرَاءَة حَمْزَة،
لما فِيهَا من طول الْمَدّ وَالْكَسْر والإدغام وَنَحْو ذَلِك،
لِأَن الْأمة إِذا اجْتمعت على فعل شَيْء لم يكره فعله.
وَهل يظنّ عَاقل: أَن الصّفة الَّتِي فعلهَا النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتواترت إِلَيْنَا، يكرهها أحد
من الْعلمَاء، أَو من الْمُسلمين.
فَعلمنَا بِهَذَا أَن هَذِه الصِّفَات لَيست متواترة، وَهُوَ
وَاضح.
وَكَذَلِكَ قِرَاءَة الْكسَائي، لِأَنَّهَا كَقِرَاءَة حَمْزَة
فِي الإمالة والإدغام كَمَا نَقله [السرُوجِي] فِي الْغَايَة،
فَلَو كَانَ ذَلِك متواترا لما كرهه أحد من الْأَئِمَّة.
وَزَاد أَبُو شامة: الْأَلْفَاظ الْمُخْتَلف فِيهَا بَين
الْقُرَّاء، أَي: اخْتلف
(3/1365)
الْقُرَّاء فِي صفة تأديتها، كالحرف المشدد
يُبَالغ بَعضهم فِيهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يزِيد حرفا، وَبَعْضهمْ
لَا يرى ذَلِك، وَبَعْضهمْ يرى التَّوَسُّط بَين الْأَمريْنِ،
وَهُوَ ظَاهر، وَيُمكن دُخُوله تَحت قَول ابْن الْحَاجِب فِي
الِاحْتِرَاز عَنهُ: (فِيمَا لَيْسَ من قبيل الْأَدَاء) ، على
أَن بَعضهم نَازع بِمَا لَا تَحْقِيق فِيهِ.
لَكِن قَالَ ابْن الْجَزرِي: (لَا نعلم أحدا تقدم ابْن
الْحَاجِب إِلَى ذَلِك، وَقد نَص على ذَلِك كُله أَئِمَّة
الْأُصُول، كَالْقَاضِي أبي بكر وَغَيره، وَهُوَ الصَّوَاب،
لِأَنَّهُ إِذا ثَبت تَوَاتر اللَّفْظ ثَبت تَوَاتر هَيْئَة
أَدَائِهِ؛ لِأَن اللَّفْظ لَا يقوم إِلَّا بِهِ، وَلَا يَصح
إِلَّا بِوُجُودِهِ) انْتهى.
(3/1366)
( [فصل]
)
{وَمَا لم يتواتر فَلَيْسَ بقرآن} .
إِذا علم أَن الْقُرْآن لَا يكون إِلَّا متواترا، نَشأ عَنهُ
أَن الْقرَاءَات الشاذة لَيست قُرْآنًا، لِأَنَّهَا آحَاد،
وَذَلِكَ لِأَن التَّوَاتُر يُفِيد الْقطع، وَثُبُوت الْقُرْآن
لَا بُد فِيهِ من التَّوَاتُر، لكَونه مَقْطُوعًا بِهِ،
لِأَنَّهُ معجز عَظِيم، فَكَانَ مِمَّا تتوافر الدَّوَاعِي
عَادَة على نقل جمله وتفاصيله، لدوران الْإِسْلَام عَلَيْهِ،
فَلَا بُد من تواتره وَالْقطع بِهِ، وَمَا لم يتواتر لَا يثبت
كَونه قُرْآنًا، وَقطع بِهَذَا كثير من الْعلمَاء، حَتَّى
أَنْكَرُوا على من حكى خلافًا.
لَكِن الصَّحِيح: أَن من غير الْمُتَوَاتر ظَاهرا مَا يكون
قُرْآنًا، كَمَا لَو صَحَّ سَنَده وَلم يتواتر، على مَا
يَأْتِي قَرِيبا محررا.
(3/1367)
وَالله أعلم.
{والبسملة بعض آيَة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ...
(3/1368)
فارغة
(3/1369)
[فِي] [سُورَة] [النَّمْل إِجْمَاعًا} ،
فَهِيَ قرآ] ن قطعا، وَلَيْسَت فِي أول بَرَاءَة إِجْمَاعًا،
إِمَّا لكَونهَا أَمَانًا، وَهَذِه [السُّورَة نزلت]
بِالسَّيْفِ،
(3/1370)
كَمَا قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقد كشفت
أسرار الْمُنَافِقين، وَلذَلِك تسمى الفاضحة.
وَإِمَّا لِأَنَّهَا مُتَّصِلَة بالأنفال سُورَة وَاحِدَة.
وَإِمَّا لغير ذَلِك، على أَقْوَال.
وَأما حكم الْبَسْمَلَة فِي غير ذَلِك، فَالصَّحِيح الَّذِي
عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم: الإِمَام أَحْمد
وَالْإِمَام أَبُو حنيفَة وَالْإِمَام الشَّافِعِي: أَنَّهَا
قُرْآن، نَقله ابْن مُفْلِح عَنْهُم فِي " أُصُوله " و " فروعه
".
لَكِن النَّقْل عَن الشَّافِعِي: أَنه قطع بِأَنَّهَا آيَة من
أول الْفَاتِحَة، وَاخْتلف قَوْله فِيمَا سواهَا.
فَفِي قَول: أَنَّهَا آيَة من أول كل سُورَة.
(3/1371)
وَفِي قَول: بعض آيَة.
وَفِي قَول: لَا آيَة، وَلَا بعض آيَة.
وَفِي قَول رَابِع: أَنَّهَا آيَة مُفْردَة للفصل بَين
السُّور، وَهُوَ غَرِيب لم يَنْقُلهُ أحد من أَصْحَاب
الشَّافِعِي، وَلكنه فِي " الطارقيات " لِابْنِ خالويه عَن
الرّبيع، قَالَ: (سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: أول الْحَمد "
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم "، وَأول الْبَقَرَة " الم ")
.
(3/1372)
قَالَ ابْن الصّلاح: (وَله حسن، وَهُوَ
أَنَّهَا لما ثبتَتْ أَولا فِي سُورَة الْفَاتِحَة، كَانَت فِي
بَاقِي السُّور إِعَادَة لَهَا وتكرارا، فَلَا تكون فِي تِلْكَ
السُّور ضَرُورَة، وَلذَلِك لَا يُقَال: هِيَ آيَة من أول كل
سُورَة، بل هِيَ آيَة فِي أول كل سُورَة) .
قَالَ بَعضهم: (وَهُوَ أحسن الْأَقْوَال، وَبِه تَجْتَمِع
الْأَدِلَّة، فَإِن إِثْبَاتهَا فِي الْمُصحف بَين السُّور،
وَقد أجمع الصَّحَابَة أَلا يكون فِي الْمُصحف غير قُرْآن،
[وَأَن] مَا بَين دفتي الْمُصحف كَلَام الله، فَإِن فِي ذَلِك
دَلِيلا وَاضحا على ثُبُوتهَا) .
قَالَ جمَاعَة: (وَهَذَا من أحسن الْأَدِلَّة، وَلم يقم دَلِيل
على كَونهَا آيَة من أول كل سُورَة) .
(3/1373)
قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ:
(هِيَ آيَة مُفْردَة، أنزلت للفصل بَين السُّور) .
قَالَ ابْن رَجَب فِي تَفْسِير الْفَاتِحَة: (وَهُوَ الصَّحِيح
عَن أبي حنيفَة) .
قلت: وَهَذَا مَنْصُوص الإِمَام أَحْمد، وَعَلِيهِ أَصْحَابه.
قَالَ ابْن رَجَب: (هَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء مِنْهُم:
عَطاء، وَالشعْبِيّ، وَالزهْرِيّ، وَالثَّوْري، وَابْن
الْمُبَارك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد،
(3/1374)
وَإِسْحَاق، [وَأَبُو] عبيد، وَدَاوُد،
وَمُحَمّد بن الْحسن) .
وَهُوَ أَيْضا قَول أَكثر الْقُرَّاء، من السَّبْعَة وَغَيرهم.
{ [وَذهب] الإِمَام مَالك، وَأَصْحَابه} ، وَالْأَوْزَاعِيّ،
وَابْن جرير الطَّبَرِيّ، وَغَيرهم: إِلَى أَنَّهَا لَيست
بقرآن بِالْكُلِّيَّةِ، {و} قَالَه {بعض الْحَنَفِيَّة،
وَرُوِيَ عَن أَحْمد} .
(3/1375)
لَكِن قَالَ ابْن رَجَب فِي تَفْسِير
الْفَاتِحَة: (فِي ثُبُوت هَذِه الرِّوَايَة عَن أَحْمد نظر،
بل هِيَ ذكر كالاستعاذة) .
قَوْله: {وَلَيْسَت من الْفَاتِحَة على [أصح الرِّوَايَتَيْنِ]
} عَن الإِمَام أَحْمد، وَعَلَيْهَا مُعظم أَصْحَابه.
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: أَنَّهَا من الْفَاتِحَة،
اخْتَارَهَا ابْن بطة، وَأَبُو حَفْص، العكبريان من
أَصْحَابنَا.
وَهُوَ مَنْصُوص الشَّافِعِي كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَلَا تَكْفِير [من] الْجَانِبَيْنِ} .
(3/1376)
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَيست من الْقُرْآن
الْقطعِي، بل من الْحكمِي، وَهُوَ الْأَصَح للشَّافِعِيَّة؛
بِنَاء على أَنَّهَا هَل هِيَ قُرْآن على سَبِيل الْقطع
كَسَائِر الْقُرْآن، أَو على سَبِيل الحكم لاخْتِلَاف
الْعلمَاء فِيهَا؟
وَقد حكى النَّوَوِيّ: (أَنه لَا يكفر النَّافِي بِأَنَّهَا
قُرْآن إِجْمَاعًا) ، وَإِن كَانَ العمراني حكى فِي زوائده عَن
صَاحب " الْفُرُوع ": (أَنا إِذا قُلْنَا: إِنَّهَا من
الْفَاتِحَة قطعا كفرنا نافيها، [وفسقنا] تاركها) ، لَكِن لَا
الْتِفَات لذَلِك.
(3/1377)
وَمن ذَلِك: قَالَ ابْن الْحَاجِب:
(وَقُوَّة الشُّبْهَة فِي " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم "،
منعت من التَّكْفِير من الْجَانِبَيْنِ) المثبتين لَهَا
كالشافعية، والنافين لَهَا كالأئمة الثَّلَاثَة، وَالْقَاضِي
أبي بكر، لَكِن هَذَا إِنَّمَا هُوَ إِذا أثبتناها قُرْآنًا
قَطْعِيا، أما إِذا أثبتناها حكميا، فَلَيْسَ هُنَا مُقْتَضى
للتكفير حَتَّى يدْفع بِالشُّبْهَةِ، وَكَذَا إِذا قُلْنَا:
قطع بتواترها عِنْد الْقَائِل بِهِ دون غَيره، أَو أَن الْقطع
بالقرائن، على أَن الْقطع لَا يُوجب تَكْفِير النَّافِي، بل
لَا بُد أَن يكون الْمَقْطُوع بِهِ مجمعا عَلَيْهِ، مَعْلُوما
من الدّين بِالضَّرُورَةِ.
ثمَّ قَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَالْقطع أَنَّهَا لم تتواتر ...
إِلَى آخِره) .
وَهُوَ عَجِيب، فَأَي قطع مَعَ قُوَّة الشُّبْهَة على قَوْله؟
وَكَذَلِكَ مُبَالغَة الباقلاني فِي تخطئة القَوْل بِأَنَّهَا
من الْقُرْآن، لَا يلاقي مدعي: أَن ذَلِك حكى لَا قَطْعِيّ،
أَو بتواتر حصل لَهُ، أَو يقطع
(3/1378)
بقرائن، وَكَونه قُرْآنًا حكميا أصح
الْأَوْجه الثَّلَاثَة؛ لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى تَوَاتر،
وَبِه تنْدَفع الإشكالات كلهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى) قَالَ
ذَلِك الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ".
قَوْله: {وَتكره قِرَاءَة مَا صَحَّ مِنْهُ} .
أَي: من غير الْمُتَوَاتر، وَهُوَ الشاذ، نَص عَلَيْهِ
الإِمَام أَحْمد، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، وَغَيره،
كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا يغشى (1) وَالنَّهَار
إِذا تجلى (2) وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} [اللَّيْل: 1 -
3] .
(3/1379)
قَالَ الرَّافِعِيّ: من الشَّافِعِيَّة:
(تسوغ الْقِرَاءَة بالسبع، وَكَذَا بِالْقِرَاءَةِ الشاذة، إِن
لم يكن فِيهَا تَغْيِير معنى، وَلَا زِيَادَة حرف، وَلَا
نقصانه) انْتهى، وَظَاهره مُطلقًا.
قَوْله: {وَلَا تصح الصَّلَاة [بِهِ] عِنْد الْأَئِمَّة
الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
لِأَنَّهُ لَيْسَ بقرآن، لِأَن الْقُرْآن لَا يكون إِلَّا
متواترا - كَمَا تقدم - وَهَذَا غير متواتر، فَلَا يكون
قُرْآنًا، فَلَا تصح الصَّلَاة بِهِ.
{وَعنهُ: تصح، [وَرَوَاهُ ابْن وهب] عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ
ابْن
(3/1380)
الْجَوْزِيّ، وَالشَّيْخ} تَقِيّ الدّين،
وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَقدمه ابْن تَمِيم، وَصَاحب "
الْفَائِق " من أَصْحَابنَا، لصَلَاة الصَّحَابَة بَعضهم خلف
بعض، وَكَذَلِكَ لم يزل الْمُسلمُونَ يصلونَ خلف أَصْحَاب
هَذِه الْقرَاءَات: كالحسن الْبَصْرِيّ، وَطَلْحَة بن مصرف،
وَابْن مُحَيْصِن، وَالْأَعْمَش، وَغَيرهم من أضرابهم، وَلم
يُنكر ذَلِك أحد عَلَيْهِم.
(3/1381)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هَذِه
الرِّوَايَة أنصهما عَن أَحْمد) انْتهى.
وَاخْتَارَ الْمجد - جده - ابْن تَيْمِية: أَنَّهَا لَا تجزيء
عَن ركن الْقِرَاءَة.
{و [قطع] النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة "} بِصِحَّة الصَّلَاة
بِالْقِرَاءَةِ الشاذة، إِن لم يكن فِيهَا تَغْيِير معنى،
وَلَا زِيَادَة حرف وَلَا نقصانه.
وَهُوَ معنى قَوْلنَا: {إِن بَقِي الْمَعْنى وَالصّفة} .
فالرافعي جوز الْقِرَاءَة بذلك، وَالنَّوَوِيّ صحّح الصَّلَاة
بِهِ.
{ [وَعَن أَحْمد] تحرم} الْقِرَاءَة بِهِ، ذكرهمَا ابْن
مُفْلِح فِي " فروعه "، وَغَيره، {وَحكي إِجْمَاعًا} .
[قَالَ ابْن عبد الْبر: (لَا تجوز الْقِرَاءَة بهَا
إِجْمَاعًا) ] .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب "، و " فَتَاوِيهِ ":
... ... ... ... ... ...
(3/1382)
(لَا فِي الصَّلَاة وَلَا فِي غَيرهَا) .
وَكَذَا قَالَ السخاوي: (لَا تجوز الْقِرَاءَة بهَا لخروجها
عَن إِجْمَاع الْمُسلمين) .
[وَاخْتَارَهُ] جمَاعَة.
{وَقيل: إِن غير الْمَعْنى} حرم، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ معنى
مَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ، كَمَا تقدم عَنْهُمَا.
قَوْله: {وَهُوَ مَا خَالف مصحف عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ
-} .
(3/1383)
اخْتلف الْعلمَاء فِي الشاذ، فَالصَّحِيح
من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَعَلِيهِ أَصْحَابه: أَن الشاذ
مَا خَالف مصحف عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ -
الَّذِي كتبه وأرسله إِلَى الْآفَاق.
{فَتَصِح الصَّلَاة [بِقِرَاءَة مَا وَافقه] ، وَصَحَّ} ،
سَنَده {وَإِن لم يكن من الْعشْرَة، [نَص عَلَيْهِ الإِمَام
أَحْمد] } .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (تصح بِمَا وَافق عُثْمَان،
وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة، زَاد بَعضهم: على الْأَصَح) .
وَقد رَأَيْت فِي كَلَام الإِمَام الْحَافِظ، الإِمَام فِي
الْقرَاءَات بِلَا مدافعة، ابْن الْجَزرِي، فِي النشر، أَنه
ذكر مَا يُوَافق ذَلِك، فَقَالَ: (كل قِرَاءَة وَافَقت [أحد]
الْمَصَاحِف العثمانية وَلَو احْتِمَالا، ووافقت الْعَرَبيَّة
وَلَو بِوَجْه وَاحِد، وَصَحَّ سندها، فَهِيَ الْقِرَاءَة
الصَّحِيحَة الَّتِي لَا يحل لمُسلم أَن ينكرها،
(3/1384)
سَوَاء كَانَت عَن السَّبْعَة، أَو عَن
الْعشْرَة، أَو عَن غَيرهم من الْأَئِمَّة المقبولين، وَمَتى
اخْتَلَّ ركن من هَذِه الْأَركان الثَّلَاثَة، أطلق عَلَيْهَا
ضَعِيفَة، أَو شَاذَّة، أَو بَاطِلَة، سَوَاء كَانَت عَن
السَّبْعَة، أَو عَمَّن هُوَ أكبر مِنْهُم، هَذَا هُوَ
الصَّحِيح عِنْد أَئِمَّة التَّحْقِيق من السّلف وَالْخلف، صرح
بذلك الداني، ومكي، والمهدوي، وَأَبُو شامة، وَهُوَ مَذْهَب
السّلف الَّذِي لَا يعرف عَن
(3/1385)
أحد مِنْهُم خِلَافه) انْتهى، وَأطَال فِي
ذَلِك وأجاد.
{وَقيل} : الشاذ {مَا وَرَاء السَّبْعَة} .
اخْتَارَهُ جمَاعَة كَثِيرَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمَشْهُور أَنَّهَا [مَا] وَرَاء
السَّبْعَة الْمَعْرُوفَة، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الرَّافِعِيّ)
.
{وَقَالَ الْبَغَوِيّ [وَجَمَاعَة كَثِيرَة] } الشاذ: { [مَا
وَرَاء الْعشْرَة] } .
قلت: {وَهُوَ [أصح] } .
فالثلاثة الزَّائِدَة على السَّبْعَة: يَعْقُوب، ... ... ...
... ... ... ...
(3/1386)
وَخلف، وَأَبُو جَعْفَر يزِيد بن
الْقَعْقَاع.
وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والسبكي، وَغَيرهمَا.
وَقَالُوا: [الْقرَاءَات الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، قد
تَوَاتَرَتْ كالسبعة] .
وَقد حكى الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره " الْإِجْمَاع على
جَوَاز الْقِرَاءَة بهَا.
قَالَ أَبُو حَيَّان - وَهُوَ من أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن -:
(لَا نعلم أحدا من الْمُسلمين حظر الْقِرَاءَة بالقراءات
[الثَّلَاث] الزَّائِدَة على السَّبع، بل قرأتها فِي سَائِر
الْأَمْصَار) .
(3/1387)
قَالَ بعض الْعلمَاء: (القَوْل بِأَن
الثَّلَاثَة غير متواترة فِي غَايَة السُّقُوط، وَلَا يَصح
القَوْل بِهِ عَمَّن يعْتَبر قَوْله فِي الدّين) انْتهى.
{قَالَ الشَّيْخ [تَقِيّ الدّين] : (قَالَ أَئِمَّة السّلف:
مصحف عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - أحد الْحُرُوف السَّبْعَة}
.
وَرَأَيْت بعض العصريين اسْتشْكل ذَلِك وَلَيْسَ بمشكل، ثمَّ
رَأَيْت الْعَلامَة أَبَا شامة، الْفَقِيه، الْمُحدث، الإِمَام
فِي الْقرَاءَات، قَالَ فِي كِتَابه " المرشد ": (إِن
الْقرَاءَات الَّتِي بأيدي النَّاس من السَّبْعَة وَالْعشرَة
وَغَيرهم، هِيَ حرف من قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أنزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف ".)
انْتهى.
وَلم نر وَلم نسْمع أَن أحدا من الْعلمَاء الْقُرَّاء وَغَيرهم
اسْتشْكل ذَلِك، وَلَا اعْترض عَلَيْهِ، فصح كَلَام الشَّيْخ
تَقِيّ الدّين وَنَقله.
(3/1388)
قَوْله: {وَهُوَ حجَّة عِنْد أَحْمد، وَأبي
حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابهم} .
نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ الْبُوَيْطِيّ
فِي بَاب الرَّضَاع، وَفِي تَحْرِيم الْجمع، وَعَلِيهِ أَكثر
أَصْحَابه، كَالْقَاضِي الْحُسَيْن فِي الصّيام وَفِي
الرَّضَاع، وَالْمَاوَرْدِيّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْضا
وَالْقَاضِي أبي الطّيب فِي
(3/1389)
الصّيام، وَفِي بَاب وجوب الْعمرَة،
والمحاملي فِي الْأَيْمَان فِي كِتَابه " عدَّة الْمُسَافِر
وكفاية الْحَاضِر "، وَابْن يُونُس شَارِح " التَّنْبِيه فِي
كتاب الْفَرَائِض "، فِي الْكَلَام على مِيرَاث الْأَخ من
الْأُم، وَالرُّويَانِيّ، وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي بَاب حد
السّرقَة، وَغَيرهم.
(3/1390)
وَنَقله ابْن الْحَاجِب عَن أبي حنيفَة.
وَنَقله ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " عَن الْحَنَفِيَّة.
وَذكره ابْن عبد الْبر إِجْمَاع الْعلمَاء، وَاحْتج الْعلمَاء
على قطع يمنى السَّارِق بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " والسارقون
والسارقات فَاقْطَعُوا أَيْمَانهم ".
وَاحْتَجُّوا - أَيْضا - بِمَا نقل عَن مصحف ابْن مَسْعُود: "
فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات ".
(3/1391)
وَقَالُوا: لِأَنَّهُ إِمَّا قُرْآن أَو
خبر، وَكِلَاهُمَا مُوجب للْعَمَل.
وَقَول الْمُخَالف: (يحْتَمل أَنه مَذْهَب لَهُ ثمَّ نَقله
قُرْآنًا خطأ، لوُجُوب تَبْلِيغ الْوَحْي على الرَّسُول إِلَى
من يحصل بِخَبَرِهِ الْعلم) مَرْدُود، إِذْ نِسْبَة
الصَّحَابِيّ رَأْيه إِلَى الرَّسُول، كذب وافتراء لَا يلق
بِهِ، فَالظَّاهِر صدق النِّسْبَة، وَالْخَطَأ الْمَذْكُور إِن
سلم لَا يضر، إِذا المطرح كَونه قُرْآنًا لَا خَبرا كَمَا
ذكرنَا، وَهُوَ كَاف.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (قَالَ الْخصم: لم يُصَرح بِكَوْنِهِ
قُرْآنًا، ثمَّ لَو صرح بذلك فَعدم شَرط الْقِرَاءَة لَا
يمْنَع صِحَة سَمَاعه.
فَنَقُول، هُوَ مسموع من الشَّارِع، وكل قَوْله حجَّة، وَهَذَا
وَاضح) انْتهى.
{ [وَعَن أَحْمد: لَيْسَ بِحجَّة] ، ... ... ... ... ... ...
... ... ...
(3/1392)
[اخْتَارَهُ] الْآمِدِيّ [وَجمع] ، وَحكي
عَن [الإِمَام مَالك، و] الشَّافِعِي} .
وَنسبه ابْن الْحَاجِب إِلَى الشَّافِعِي، وَكَذَا الأبياري
شَارِح " الْبُرْهَان "، قَالَ فِيهِ: (إِنَّه الْمَشْهُور من
مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ) ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي "
شرح مُسلم ": (إِنَّه مَذْهَب الشَّافِعِي) ، قَالَ: (لِأَن
ناقلها لم ينقلها إِلَّا على أَنَّهَا قُرْآن، وَالْقُرْآن لَا
يثبت إِلَّا بالتواتر، وَإِذا لم يثبت قُرْآنًا، لم يثبت
خَبرا) .
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": (إِن
الشَّافِعِي إِنَّمَا لم يقل بالتتابع
(3/1393)
كَأبي حنيفَة، لِأَن عِنْده أَن الشاذ لَا
يعْمل بِهِ) ، وَتَبعهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول "،
والقشيري، وإلكيا، وَابْن السَّمْعَانِيّ، فَهَؤُلَاءِ
الْجَمَاعَة تابعوا أَبَا الْمَعَالِي.
ومستنده فِي ذَلِك: عدم إِيجَاب الشَّافِعِي التَّتَابُع فِي
الصّيام فِي كَفَّارَة الْيَمين مَعَ قِرَاءَة ابْن مَسْعُود.
قَالَ بَعضهم: (وَهُوَ عَجِيب، فَإِن عدم الْإِيجَاب يجوز أَن
يكون لعدم ثُبُوت ذَلِك عِنْد الشَّافِعِي، أَو لقِيَام
معَارض، وَالله أعلم) .
(3/1394)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَصَح: أَن الْمُحكم: مَا اتَّضَح [مَعْنَاهُ، والمتشابه]
عَكسه، لاشتراك، أَو إِجْمَال، أَو ظُهُور تَشْبِيه، [كصفات
الله تَعَالَى] } .
اخْتلف الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - فِي الْمُحكم
والمتشابه، فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُ آيَات محكمات هن أم
الْكتاب وَأخر متشابهات} [آل عمرَان: 7] ، على أَقْوَال
كَثِيرَة.
وَلَفظ الْمُحكم مفعل، من أحكمت الشَّيْء، أحكمه، إحكاما،
فَهُوَ مُحكم: إِذا أتقنته فَكَانَ فِي غَايَة مَا يَنْبَغِي
من الْحِكْمَة.
(3/1395)
وَمِنْه: بِنَاء مُحكم، أَي: ثَابت متقن
يبعد انهدامه.
والمتشابه: متفاعل من الشّبَه، والشبهة، والشبيهة: هُوَ مَا
بَينه وَبَين غَيره أَمر مُشْتَرك، يشْتَبه ويلتبس بِهِ.
وَأما مَعْنَاهُ: فأجود مَا قيل فِيهِ: أَن الْمُحكم: المتضح
الْمَعْنى، كالنصوص والظواهر، لِأَنَّهُ من الْبَيَان فِي
غَايَة الإحكام والإتقان.
والمتشابه: مُقَابِله، وَهُوَ غير المتضح الْمَعْنى، فتشتبه
بعض محتملاته بِبَعْض، للاشتراك وَعدم اتضاح مَعْنَاهُ.
فالاشتراك - مثلا - كَالْعَيْنِ، والقرء، وَنَحْوه من
المشتركات.
والإجمال كإطلاق اللَّفْظ بِدُونِ بَيَان المُرَاد مِنْهُ:
كالمتواطيء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن
تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67] ، وَكَقَوْلِه تَعَالَى:
{وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} [الْأَنْعَام: 141] ، وَلم يبين
مِقْدَار الْحق، وَسَيَأْتِي فِي الْمُجْمل.
أَو لظُهُور تَشْبِيه فِي صِفَات الله تَعَالَى، كآيات
الصِّفَات وأخبارها،
(3/1396)
فَاشْتَبَهَ المُرَاد مِنْهُ على النَّاس،
فَلذَلِك قَالَ قوم بِظَاهِرِهِ فشبهوا وجسموا، وفر قوم من
التَّشْبِيه فتأولوا وحرفوا فعطلوا، وتوسط قوم فَسَلمُوا
فأمروه كَمَا جَاءَ مَعَ اعْتِقَاد التَّنْزِيه فَسَلمُوا، وهم
أهل السّنة وأئمة السّلف الصَّالح.
وَقيل: الْمُحكم: مَا عرف المُرَاد بِهِ، إِمَّا بالظهور،
وَإِمَّا بالتأويل.
والمتشابه: مَا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ: كقيام السَّاعَة،
وَخُرُوج الدَّجَّال وَالدَّابَّة، والحروف الْمُقطعَة فِي
أَوَائِل السُّور.
وَقيل: الْمُحكم: مَا وضح مَعْنَاهُ، والمتشابه: نقيضه.
وَقيل: الْمُحكم: مَا لَا يحْتَمل من التَّأْوِيل إِلَّا وَجها
وَاحِدًا، والمتشابه: مَا احْتمل أوجها.
وَقيل: الْمُحكم: مَا كَانَ مَعْقُول الْمَعْنى، والمتشابه:
بِخِلَافِهِ: كأعداد
(3/1397)
الصَّلَوَات، واختصاص الصّيام برمضان دون
شعْبَان، قَالَه الْمَاوَرْدِيّ.
وَقيل: الْمُحكم: مَا اسْتَقل بِنَفسِهِ، والمتشابه: مَا لَا
يسْتَقلّ بِنَفسِهِ إِلَّا برده إِلَى غَيره.
وَقيل: الْمُحكم: مَا تَأْوِيله تَنْزِيله، والمتشابه: مَا لَا
يدرى إِلَّا بالتأويل.
وَقيل: الْمُحكم: مَا لم تَتَكَرَّر أَلْفَاظه، وَمُقَابِله
الْمُتَشَابه.
وَقيل: الْمُحكم: الْفَرَائِض، والوعد، والوعيد، والمتشابه،
الْقَصَص، والأمثال.
وَعَن عِكْرِمَة، وَقَتَادَة، وَغَيرهمَا: أَن الْمُحكم:
الَّذِي يعْمل بِهِ، والمتشابه: الَّذِي يُؤمن بِهِ وَلَا
يعْمل بِهِ.
(3/1398)
وَقيل غير ذَلِك.
قَوْله: {وَلَيْسَ فِيهِ مَا لَا معنى لَهُ} .
وَهَذَا مِمَّا يقطع بِهِ كل عَاقل، مِمَّن شم رَائِحَة
الْعلم، وَلَا يُخَالف فِي ذَلِك إِلَّا جَاهِل أَو معاند،
لِأَن مَا لَا معنى لَهُ هذيان، وَلَا يَلِيق النُّطْق بِهِ من
عَاقل، فَكيف بالباري سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثمَّ رَأَيْت جمَاعَة من الْعلمَاء صَرَّحُوا: بِأَن هَذَا لم
يقلهُ أحد من الْأمة،
(3/1399)
وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة
الْآتِيَة بعد هَذِه، وَلَكِن الرَّازِيّ، وَقَبله عبد
الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد "، أثبتوا
الْخلاف فِي ذَلِك، وتبعهم كثير من الْمُتَأَخِّرين، ومدرك
الْمَانِع: التحسين والتقبيح العقليين.
وَقَالُوا: (وَجوزهُ الحشوية، بل قَالُوا بِوُقُوعِهِ فِي
الْحُرُوف الْمُقطعَة [فِي أَوَائِل] السُّور، وَفِي قَوْله
تَعَالَى: {كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِين} [الصافات: 65] ،
وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} [الْبَقَرَة: 196]
، وَقَوله: {نفخة وَاحِدَة} [الحاقة: 13] ، {لَا تَتَّخِذُوا
إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51] وَنَحْوه) .
وَأجَاب الْجُمْهُور: بِأَن الْحُرُوف الْمُقطعَة، إِمَّا
أَسمَاء السُّور، أَو أَسمَاء الله، أَو سر الله فِي كِتَابه
مِمَّا اسْتَأْثر بِعِلْمِهِ، أَو غَيرهَا مِمَّا هُوَ
مَذْكُور فِي التفاسير.
(3/1400)
وَبِأَن رُؤُوس الشَّيَاطِين مثل فِي
الاستقباح، على عَادَة الْعَرَب فِي ضرب الْأَمْثَال بِمَا
يتخيلونه قبيحا.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (ورؤوس الشَّيَاطِين اسْتَقر
قبحها فِي الْأَنْفس، فَشبه بهَا، كَمَا قَالَ امْرُؤ
الْقَيْس:
(أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
فَشبه بأنياب الأغوال لقبحها المستقر، وَإِن لم يكن لَهَا
حَقِيقَة) .
كَذَلِك ذكره الْمَازرِيّ.
وَقَوله: {عشرَة كَامِلَة} [الْبَقَرَة: 196] ، فِيهِ
شَيْئَانِ: الْجمع والتأكيد بالكمال.
وَجَوَاب الْجمع: رفع الْمجَاز المتوهم فِي الْوَاو العاطفة،
إِذْ يجوز اسْتِعْمَالهَا بِمَعْنى (أَو) مجَازًا، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} [فاطر: 1] .
والتأكيد أَفَادَ عدم النَّقْص فِي الذَّات، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلين} [الْبَقَرَة: 233] ، أوعدم
النَّقْص فِي الْأجر، دفعا لتوهم النَّقْص بِسَبَب
التَّأْخِير.
(3/1401)
وَوصف النفخة: إبعاد للمجاز، وَتَقْرِير
لوحدتها بِسَبَب الْمُفْرد؛ لِأَن الْوَاحِد قد يكون
بِالْجِنْسِ.
وَقَوله: {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51] ؛ قَالَ صَاحب
" الْمثل السائر ": (التكرير فِي الْمَعْنى يدل على مَعْنيين
مُخْتَلفين، كدلالته على الْجِنْس وَالْعدَد، وَهُوَ بَاب من
التكرير مُشكل، لِأَنَّهُ يسْبق إِلَى الذِّهْن إِلَى تَكْرِير
مَحْض يدل على معنى وَاحِد، وَلَيْسَ كَذَلِك) .
فالفائدة - إِذا - فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَهَيْنِ
اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51] ، {إِلَه وَاحِد} [الْبَقَرَة: 163،
وفصلت: 6] ، هِيَ: أَن الِاسْم الْحَامِل لِمَعْنى الْإِفْرَاد
والتثنية دَال على الجنسية وَالْعدَد الْمَخْصُوص، فَإِذا
أريدت الدّلَالَة على أَن الْمَعْنى بِهِ وَاحِد مِنْهُمَا،
وَكَانَ الَّذِي تساق إِلَيْهِ هُوَ الْعدَد، شفع بِمَا يؤكده،
وَهَذَا دَقِيق المسلك.
فَائِدَتَانِ:
الأولى: ألحق الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " كَلَام الرَّسُول
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَلَام الله
(3/1402)
تَعَالَى، فَقَالَ: (لَا يجوز أَن
يتَكَلَّم الله وَرَسُوله بِشَيْء وَلَا يَعْنِي بِهِ شَيْئا،
خلافًا للحشوية) ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الثَّانِيَة: الحشوية - بِفَتْح الشين -، وَسموا حشوية؛ لأَنهم
كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي حَلقَة الْحسن الْبَصْرِيّ أَمَامه،
فَلَمَّا أنكر كَلَامهم قَالَ: ردوهم إِلَى حَشْو الْحلقَة،
أَي: جَانبهَا.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: (فتح الشين غلط، وَإِنَّمَا هُوَ
بالإسكان ".
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (الحشوية - بِسُكُون الشين - لِأَنَّهُ
إِمَّا من الحشو؛ لأَنهم يَقُولُونَ بِوُجُود الحشو الَّذِي
لَا معنى لَهُ فِي كَلَام الْمَعْصُوم، أَو لقَولهم بالتجسيم
وَنَحْو ذَلِك، وَيُقَال - أَيْضا - بِالْفَتْح لقصة الْحسن،
وَيُقَال فيهم غير ذَلِك) .
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " - فِي آخر تَحْقِيق
المناط - عَن أبي الْمَعَالِي: أَنه قَالَ: (لم يُنكر إِلْحَاق
معنى النُّصُوص، إِلَّا حشوية لَا يبالى بهم، دَاوُد
وَأَصْحَابه، وَأَن ابْن الباقلاني قَالَ: لَا يخرقون
الْإِجْمَاع) انْتهى.
قلت: وَقد حدث اصْطِلَاح كثير من النَّاس، على أَنهم يسيمون كل
من أثبت صِفَات الرب - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مِمَّا جَاءَ
بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة - كَمَا قَالَ
(3/1403)
السّلف الصَّالح -، وَلم يتأولها كَمَا
تأولوها: حشوية، اصْطِلَاحا اخترعوه تشنيعا عَلَيْهِم، فَالله
يحكم بَينهم فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
قَوْله: {وَمَا لَا يعْنى [بِهِ] غير ظَاهره إِلَّا بِدَلِيل}
.
أَعنِي: أَنه لَيْسَ فِي الْقُرْآن مَا يعْنى بِهِ غير ظَاهره
إِلَّا بِدَلِيل، وَهَذَا قَول أَئِمَّة الْمذَاهب وأتباعهم
وَغَيرهم، لِأَنَّهُ يرجع فِي ذَلِك إِلَى مَدْلُول اللُّغَة
فِيمَا اقْتَضَاهُ نظام الْكَلَام، وَلِأَن اللَّفْظ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى غير الظَّاهِر كَالْمهْلِ.
وَقَوْلنَا: (إِلَّا بِدَلِيل) ، احْتِرَاز من وُرُود الْعَام،
وَتَأَخر الْمُخَصّص لَهُ وَنَحْوه.
وَقَالَت المرجئة: يجوز ذَلِك، وَنَفَوْا ضَرَر الْعِصْيَان
مَعَ مجامعة الْإِيمَان، فَقَالُوا: (لَا يضر مَعَ الْإِيمَان
مَعْصِيّة كَمَا لَا ينفع مَعَ الْكفْر طَاعَة) ، زاعمين أَن
آيَات الْوَعيد لتخويف الْفُسَّاق وَلَيْسَت على ظَاهرهَا، بل
المُرَاد بِلَا خلاف الظَّاهِر، وَإِن لم يبين الشَّرْع ذَلِك.
وَاحْتَجُّوا: بقوله تَعَالَى: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا
تخويفا} [الْإِسْرَاء: 59] .
(3/1404)
وَجَوَابه من وُجُوه:
أَحدهَا: [إِنَّمَا كَانَ ذَلِك تخويفا] لنزول الْعَذَاب
ووقوعه.
الثَّانِي: أَنه بَاطِل بِأَحْكَام الدُّنْيَا من الْقصاص
وَقطع السَّارِق وَنَحْوهمَا.
الثَّالِث: أَنه إِذا فهم أَنه للتخويف لم يبْق تخويف.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (مَحل الْخلاف فِي آيَات الْوَعيد
وَأَحَادِيثه، لَا فِي الْأَوَامِر والنواهي) .
فَائِدَة: المرجئة - بِالْهَمْز -: طَائِفَة من الْقَدَرِيَّة،
لأَنهم يرجئون الْأَعْمَال عَن الْإِيمَان من الإرجاء: وَهُوَ
التَّأْخِير، وَرُبمَا قيل: (المرجية) بتَشْديد الْيَاء بِلَا
همز.
(3/1405)
قَوْله: {وَفِيه [مَا لَا يعلم مَعْنَاهُ]
إِلَّا الله، عِنْد أَصْحَابنَا [وَجُمْهُور الْعلمَاء] } .
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (لَيْسَ ببدع أَن يكون
فِيهِ مَا يتشابه، لنؤمن بمتشابهه ونقف عِنْده، فَيكون
التَّكْلِيف بِهِ هُوَ الْإِيمَان بِهِ جملَة، وَترك الْبَحْث
عَن تَفْصِيله، كَمَا كتم الرّوح والساعة والآجال وَغير ذَلِك
من الغيوب، وكلفنا التَّصْدِيق بِهِ دون أَن يطلعنا على علمه)
انْتهى.
وَهَذَا مَذْهَب سلف هَذِه الْأمة، وَقَالَهُ أَبُو الطّيب
الطَّبَرِيّ الشَّافِعِي، وَحَكَاهُ عَن الصَّيْرَفِي مِنْهُم.
{قَالَ ابْن برهَان: يجوز [ذَلِك] عندنَا} ، وَاخْتَارَهُ
صَاحب
(3/1406)
" الْمَحْصُول " بِنَاء على تَكْلِيف مَا
لَا يُطَاق، نَقله ابْن مُفْلِح عَن ابْن برهَان.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَحكى ابْن برهَان وَجْهَيْن: فِي أَن
كَلَام الله تَعَالَى هَل يشْتَمل على مَا لَا يفهم مَعْنَاهُ؟
ثمَّ قَالَ: وَالْحق التَّفْصِيل بَين الْخطاب الَّذِي
[يتَعَلَّق] بِهِ تَكْلِيف، فَلَا يجوز أَن يكون غير مَفْهُوم
الْمَعْنى، أَولا يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف، فَيجوز) .
{ [قَالَ] أَبُو الْمَعَالِي والقشيري: (مَا فِيهِ تَكْلِيف
يمْتَنع د [وام إجماله] ، وَإِلَّا فَلَا) } .
قَالَ ابْن مُفْلِح: { (وَهُوَ مُرَاد غَيره) } ، وتابعناه على
ذَلِك، وَاخْتَارَهُ - أَيْضا - التَّاج السُّبْكِيّ،
والبرماوي.
(3/1407)
{وَقَالَ الْمجد} ابْن تَيْمِية فِي "
المسودة ": (ثمَّ { [بحث] أَصْحَابنَا يَقْتَضِي فهمه
إِجْمَالا لَا تَفْصِيلًا) } ، وَعَن ابْن عقيل: (لَا، وَأَنه
يتَعَيَّن: " لَا أَدْرِي "، كَقَوْل أَكثر الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ، أَو تَأْوِيله) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ، مَعَ قَوْله: إِن
الْمُحَقِّقين قَالُوا فِي " {سميع بَصِير} [الْحَج: 61، 75،
والمجادلة: 1] : يسكت عَمَّا بِهِ يسمع ويبصر، أَو تَأْوِيله
بإدراكه، وتأويله بِمَا يُوجب تناقضا أَو تَشْبِيها زيغ) .
وَقَوله: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا
الله} [آل عمرَان: 7] ، أَي: كنه ذَلِك) انْتهى.
قَوْله: {وَالأَصَح: الْوَقْف على {إِلَّا الله} ، لَا
{والراسخون فِي الْعلم} } .
وَهُوَ الْمُخْتَار، وَهُوَ قَول السّلف.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هَذَا قَول عَامَّة السّلف
والأعلام) .
قَالَ الْخطابِيّ: (هُوَ مَذْهَب أَكثر الْعلمَاء، وَرُوِيَ
مَعْنَاهُ عَن ابْن
(3/1408)
مَسْعُود، وَأبي بن كَعْب، وَابْن عَبَّاس،
وَعَائِشَة) .
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ": (هُوَ قَول الْأَكْثَر،
مِنْهُم: أبي بن كَعْب، وَعَائِشَة، وَعُرْوَة بن الزبير،
وَرِوَايَة طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس،
(3/1409)
وَبِه قَالَ الْحسن، وَأكْثر التَّابِعين،
وَاخْتَارَهُ الْكسَائي، وَالْفراء، والأخفش، وَقَالُوا: " لَا
يعلم تَأْوِيل الْمُتَشَابه إِلَّا الله تَعَالَى ") . وَأطَال
فِي ذَلِك.
وَخَالف الْآمِدِيّ وَجمع، مِنْهُم: أَبُو الْبَقَاء - من
أَصْحَابنَا - فِي " إعرابه "، وَالنَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم
".
فَقَالَ: (الراسخون يعلمُونَ تَأْوِيله) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هُوَ قَول عَامَّة
الْمُتَكَلِّمين) .
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (قَالَ المؤولة - وهم
الْمُعْتَزلَة والأشعرية - وَمن وافقهم: الْوَقْف التَّام على
قَوْله تَعَالَى: {والراسخون فِي الْعلم} [آل عمرَان: 7] ) .
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: (لِابْنِ عَبَّاس قَولَانِ) ، وَهَذَا
قَول
(3/1410)
مُجَاهِد أَيْضا، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا:
(الأول مُحدث، لم يقلهُ أحد من السّلف، لَا أَحْمد وَلَا
غَيره) .
وَقيل: (الْخلاف فِي ذَلِك لَفْظِي، فَإِن من قَالَ: إِن
الراسخ فِي الْعلم يعلم تَأْوِيله، أَرَادَ: أَنه يعلم ظَاهره
لَا حَقِيقَته، وَمن قَالَ: لَا يعلم، أَرَادَ بِهِ: لَا يعلم
حَقِيقَته، وَإِنَّمَا ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى) .
وَالْحكمَة فِي إِنْزَال الْمُتَشَابه ابتلاء الْعُقَلَاء.
{وَقَالَ} أَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ} الشَّافِعِي،
{والسهيلي: (الْوَقْف على {إِلَّا الله} ، ويعلمه الراسخون) }
.
وَإِنَّمَا امْتنع الْعَطف، لمُخَالفَة علم الله تَعَالَى لعلم
الراسخين؛ لِأَن علمهمْ ضَرُورِيّ ونظري، بِخِلَاف علم الله
تَعَالَى، على مَا تقدم بَيَانه.
(3/1411)
{وَقيل بِالْوَقْفِ} مُطلقًا، فَلَا يجْزم
بِوَاحِد من هَذِه الْأَقْوَال، بل نقف لتعارض الْأَدِلَّة،
قَالَه الْقفال الشَّاشِي.
فَقَالَ: (الْقَوْلَانِ محتملان، وَلَا ننكر أَن يكون فِي
الْمُتَشَابه مَا لَا يعلم) .
وَمِنْهُم من جمع بَين الْقَوْلَيْنِ: (بِأَن الله تَعَالَى
يعلم ذَلِك على التَّفْصِيل، والراسخون يعلمونه على
الْإِجْمَال) .
وَهُوَ قريب من القَوْل بِأَن الْخلاف لَفْظِي.
الأول: لسياق الْآيَة، من ذمّ مبتغي التَّأْوِيل، وَقَوله:
{آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} [آل عمرَان: 7] ، وَلِأَن
(وَاو) ، (والراسخون) للابتداء، و (يَقُولُونَ) خَبره،
لِأَنَّهَا لَو كَانَت عاطفة عَاد ضمير (يَقُولُونَ) إِلَى
الْمَجْمُوع، ويستحيل على الله، وَكَانَ مَوضِع (يَقُولُونَ)
نصبا حَالا، فَفِيهِ اخْتِصَاص الْمَعْطُوف بِالْحَال.
قَالُوا: خص ضمير: (يَقُولُونَ) بالراسخين، للدليل الْعقلِيّ،
والمعطوف قد يخْتَص بِالْحَال مَعَ عدم اللّبْس، وَنَظِيره:
{وَالَّذين تبوؤا الدَّار وَالْإِيمَان [من قبلهم] يحبونَ}
[الْحَشْر: 9] فِيهَا الْقَوْلَانِ.
(3/1412)
وَقَوله: {نَافِلَة} ، قيل: حَالا من
يَعْقُوب، لِأَنَّهَا الزِّيَادَة.
وَقيل: مِنْهُمَا، لِأَنَّهَا الْعَطِيَّة.
وَقيل: هِيَ مصدر كالعاقبة مَعًا، وعامله معنى: {وهبنا} .
وَلنَا أَن نقُول: الأَصْل عدم ذَلِك، وَالْأَشْهر خِلَافه،
وَلِهَذَا فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: {إِن تَأْوِيله إِلَّا
عِنْد الله} ، وَفِي قِرَاءَة أبي: {وَيَقُول الراسخون فِي
الْعلم آمنا بِهِ} .
وَمثله عَن ابْن عَبَّاس، فروى عبد الرَّزَّاق فِي " تَفْسِيره
"، وَالْحَاكِم فِي " مُسْتَدْركه "، عَن ابْن عَبَّاس: أَنه
كَانَ يقْرَأ {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله وَيَقُول
الراسخون فِي الْعلم آمنا بِهِ} .
(3/1413)
فَهَذَا يدل على أَن الْوَاو للاستئناف؛
لِأَن هَذِه الرِّوَايَة وَإِن لم تثبت بهَا الْقِرَاءَة
فَأَقل درجاتها أَن تكون خَبرا بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى ترجمان
الْقُرْآن، فَيقدم كَلَامه فِي ذَلِك على من دونه.
قَالَه ابْن الأسيوطي.
وَقَالَ الْفراء و [أَبُو عُبَيْدَة] : (الله هُوَ
الْمُنْفَرد) .
قَالَ الْمُوفق: (فِي الْآيَة قَرَائِن تدل على أَن الله
سُبْحَانَهُ مُنْفَرد بِعلم تَأْوِيل الْمُتَشَابه) .
قَالُوا: فِيهِ إِخْرَاج الْقُرْآن عَن كَونه بَيَانا،
وَالْخطاب بِمَا لَا يفهم بعيد.
رد ذَلِك: بِالْمَنْعِ، وَفَائِدَته الِابْتِلَاء.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": (فَإِن قيل: كَيفَ يُخَاطب الله
الْخلق بِمَا لَا يعقلونه؟ أم كَيفَ ينزل على رَسُوله مَا لَا
يطلع على تَأْوِيله؟
قُلْنَا: يجوز أَن يكلفهم الْإِيمَان بِمَا لَا يطلعون على
تَأْوِيله، ليختبر
(3/1414)
طاعتهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ولنبلونكم
حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ} [مُحَمَّد:
31] ، {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا
لنعلم} الْآيَة [الْبَقَرَة: 143] {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس} [الْإِسْرَاء: 60] ،
وكما [اختبرهم] بِالْإِيمَان بالحروف الْمُقطعَة مَعَ أَنه لَا
يعلم مَعْنَاهَا، وَالله أعلم) انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَاحْتج بعض أهل اللُّغَة:
فَقَالَ: مَعْنَاهُ: والراسخون فِي الْعلم يعلمونه قائلين:
آمنا بِهِ، وَزعم أَن مَوضِع {يَقُولُونَ} نصب على الْحَال،
وَعَامة أهل اللُّغَة ينكرونه ويستبعدونه، لِأَن الْعَرَب لَا
تضمر الْفِعْل وَالْمَفْعُول مَعًا وتذكر حَالا إِلَّا مَعَ
ظُهُور الْفِعْل، فَإِذا لم يظْهر فعل، فَلَا يكون حَالا) .
قَوْله: {وَيحرم تَفْسِيره بِرَأْي واجتهاد بِلَا أصل} .
للآثار الْوَارِدَة فِي ذَلِك، وَذكره القَاضِي محتجا بقوله
تَعَالَى: {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ}
[الْبَقَرَة: 169، والأعراف: 33] ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] ، فأضاف
التَّبْيِين إِلَيْهِ.
(3/1415)
وَعَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " من قَالَ فِي
الْقُرْآن بِرَأْيهِ وَبِمَا لَا يعلم فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده
من النَّار " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ،
وَالنَّسَائِيّ.
وَعَن جُنْدُب عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: " من قَالَ فِي الْقُرْآن بِرَأْيهِ
فَأصَاب
(3/1416)
فقد أَخطَأ "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد،
وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة.
قَوْله: {وَيجوز بِمُقْتَضى اللُّغَة} .
أَي: يجوز تَفْسِير الْقُرْآن بِمُقْتَضى اللُّغَة، {عِنْد
الإِمَام أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه} ، مِنْهُم: القَاضِي،
وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْمجد ابْن تَيْمِية.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قلت: الْمَنْقُول عَن ابْن
عَبَّاس الِاحْتِجَاج فِي التَّفْسِير بِمُقْتَضى اللُّغَة
كثيرا) انْتهى.
(3/1417)
وَلِأَن الْقُرْآن عَرَبِيّ.
{ [وَعَن أَحْمد] : لَا} يجوز تَفْسِيره بِمُقْتَضى اللُّغَة
من غير دَلِيل، {اخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن} ابْن
القَاضِي أبي يعلى، {وَحمله الْمجد على الْكَرَاهَة، أَو صرفه
عَن ظَاهره بِقَلِيل من اللُّغَة} .
فَائِدَة: قَالَ الإِمَام أَحْمد: (ثَلَاث كتب لَيْسَ فِيهَا
أصُول: الْمَغَازِي، والملاحم، وَالتَّفْسِير) لَيْسَ غالبها
الصِّحَّة.
(3/1418)
فارغة
(3/1419)
|