التحبير شرح التحرير في أصول الفقه

 (بَاب السّنة)

(3/1420)


( {بَاب} [السّنة] )

{السّنة لُغَة: الطَّرِيقَة} ، وَمِنْه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا " إِلَى آخِره.

(3/1421)


قَالَ الْخطابِيّ: إِذا أطلقت السّنة فَهِيَ المحمودة، وَإِن أُرِيد بهَا غَيرهَا فمقيدة كَقَوْلِه: " من سنّ سنة سَيِّئَة ".
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (السّنة لُغَة: الطَّرِيقَة وَالْعَادَة) .
قَالَ الله تَعَالَى: {قد خلت من قبلكُمْ سنَن فسيروا فِي الأَرْض} [آل عمرَان: 137] ، أَي: طرق.
وَقَالَ الطوفي: (الطَّرِيقَة والسيرة) .
وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (السّنة: الطَّرِيقَة، وَالسّنة: السِّيرَة، حميدة كَانَت أَو ذميمة) .

(3/1422)


قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (السّنة: السِّيرَة، وَمن الله حكمه وَأمره وَنَهْيه) انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا اصْطِلَاحا} .
السّنة فِي الِاصْطِلَاح: تطلق على مَا يُقَابل الْقُرْآن كَمَا هُنَا، وَمِنْه أَحَادِيث وَردت كَثِيرَة، مِنْهَا: فِي " صَحِيح مُسلم " حَدِيث: " يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله، فَإِن كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ " الحَدِيث.

(3/1423)


وَتارَة تطلق: على مَا يُقَابل الْفَرْض وَنَحْوه من الْأَحْكَام، كَمَا سبق فِي بَاب الْمَنْدُوب.
وَرُبمَا لَا يُرَاد إِلَّا مَا يُقَابل الْفَرْض، كفروض الْوضُوء وسننه، وَكَذَا الصَّلَاة وَالصَّوْم وَغَيرهمَا، فَإِنَّهُ لَا يُقَابل بِهِ الْحَرَام وَلَا الْمَكْرُوه فيهمَا، وَإِن كَانَت الْمُقَابلَة لَازِمَة لَهُ، لَكِنَّهَا لَا تقصد.
وَتارَة تطلق: على مَا يُقَابل الْبِدْعَة، فَيُقَال: أهل السّنة، وَأهل الْبِدْعَة.
وَالْمَقْصُود هُنَا بَيَان الأول.
وَقَوْلنَا: (اصْطِلَاحا) ، احْتِرَاز من السّنة فِي الْعرف الشَّرْعِيّ الْعَام، فَإِنَّهَا تطلق على مَا هُوَ أَعم مِمَّا ذكرنَا، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، قَالَه الطوفي، فَإِن عِبَارَته فِي " مُخْتَصره " كعبارتنا، وَحَاصِله: أَن للسّنة عرفا خَاصّا فِي اصْطِلَاح الْعلمَاء.
قَوْله: {قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غير الْقُرْآن وَلَو بِكِتَابَة، وَفعله وَلَو بِإِشَارَة، وَزيد: الْهم [بِالْفِعْلِ] ، وَإِقْرَاره} .
أَكثر الْأُصُولِيِّينَ حصروا السّنة فِي الِاصْطِلَاح فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء: فِي قَوْله، وَفِي فعله، وَفِي إِقْرَاره، وَزيد: الْهم بِالْفِعْلِ وَلم يفعل، على مَا يَأْتِي.
أَحدهَا: القَوْل من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ نَوْعَانِ:

(3/1424)


أَحدهمَا: أَن يكون وَحيا كالقرآن وَالْأَحَادِيث الإلهية، فَإِنَّهُ لَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه من السّنة، كَمَا يَأْتِي.
وَالثَّانِي: غير ذَلِك، وَلَو كَانَ أمرا بِكِتَابَة، كَمَا أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليا بِالْكِتَابَةِ يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَأمر بِالْكِتَابَةِ إِلَى الْمُلُوك، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اكتبوا لأبي شاه "، يَعْنِي: الْخطْبَة الَّتِي خطبهَا، وَغير ذَلِك.
لَكِن الْأُسْتَاذ [أَبُو] مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ، جعله قسما بِرَأْسِهِ غير القَوْل.

(3/1425)


الثَّانِي: الْفِعْل.
وَاعْلَم أَن القَوْل وَإِن كَانَ فعلا لِأَنَّهُ عمل بجارحة اللِّسَان، لَكِن الْغَالِب اسْتِعْمَاله فِي مُقَابلَة الْفِعْل كَمَا هُنَا، حَتَّى وَلَو كَانَ الْفِعْل بِإِشَارَة على الصَّحِيح، لِأَنَّهُ كالأمر بِهِ، كَمَا فِي حَدِيث كَعْب بن مَالك لما تقاضى ابْن أبي حَدْرَد دينا لَهُ عَلَيْهِ فِي مسد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَارْتَفَعت أصواتهما حَتَّى سمعهما النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي بَيته، فَخرج إِلَيْهِمَا حَتَّى كشف [سجف] حجرته، فَنَادَى، فَقَالَ: " يَا كَعْب "، قَالَ: لبيْك يَا رَسُول الله، فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَن ضع الشّطْر من دينك، فَقَالَ كَعْب: قد فعلت يَا رَسُول [الله] ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُم فاقضه "، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَاسم ابْن أبي حَدْرَد: عبد الله، وَاسم أَبِيه: سَلامَة بن عُمَيْر.

(3/1426)


وَمثله إِشَارَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[إِلَى] أبي بكر أَن يتَقَدَّم فِي الصَّلَاة، مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَطَاف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على بعير كلما أَتَى على الرُّكْن أَشَارَ إِلَيْهِ.
وَفِي حَدِيث زَيْنَب بنت جحش: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه "، وَعقد تسعين.

(3/1427)


وَفِي " الصَّحِيح ": " فِي الْجُمُعَة سَاعَة لَا يُوَافِقهَا مُسلم قَائِم يُصَلِّي يسْأَل الله خيرا إِلَّا أعطَاهُ "، وَقَالَ بِيَدِهِ، وَوضع أنملته على بطن الْوُسْطَى والخنصر، قُلْنَا: يزهدها.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَشَارَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ نَحْو الْيمن، فَقَالَ: " أَلا إِن الْإِيمَان هَاهُنَا " الحَدِيث.
وَفِي أبي دَاوُد عَن أبي حميد: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُشِير بِأُصْبُعِهِ فِي تشهده ".
وَفِي حَدِيث ابْن عمر فِي مُسلم: " قبض أَصَابِعه كلهَا، وَأَشَارَ بالأصبع الَّتِي تلِي الْإِبْهَام ".

(3/1428)


وَفِي رِوَايَة: " عقد ثَلَاثَة وَخمسين، وَأَشَارَ بالسبابة ".
وَفِي أبي دَاوُد عَن الزبير - رَضِي الله عَنهُ -: " كَانَ يُشِير بالسبابة وَلَا يحركها ".
وَفِي حَدِيث: " الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا "، وَأَشَارَ بأصابعه الْعشْرَة " ثمَّ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا "، وَقبض فِي الثَّالِثَة الْإِبْهَام، إِشَارَة إِلَى أَن الشَّهْر يكون ثَلَاثِينَ، وَيكون تسعا وَعشْرين، إِلَى غير ذَلِك.

(3/1429)


وَفِي الْقُرْآن: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} الْآيَة [مَرْيَم: 29] .
وَقَوله تَعَالَى: {ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رمزا} [آل عمرَان: 41] ، وَغير ذَلِك.
وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك من قسم الْأَقْوَال: لِأَنَّهُ منزل منزلَة القَوْل، وَلِهَذَا فِي رِوَايَة فِي مُسلم فِي حَدِيث ابْن أبي حَدْرَد: " فَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُول النّصْف "، وَلذَلِك أجْرى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِشَارَة من الْجَارِيَة - فِي حَدِيث الأوضاح - مجْرى قَوْلهَا: إِن الْيَهُودِيّ قَتلهَا.
وَمن ذَلِك قَول أَصْحَابنَا وَغَيرهم: إِشَارَة الْأَخْرَس بِمَنْزِلَة قَوْله، فِي الصَّلَاة، وَالْبيع، وَالطَّلَاق، وَغير ذَلِك، كَالْإِقْرَارِ، لَا فِي الشَّهَادَة وَنَحْوهَا.
تَنْبِيه: من الْفِعْل - أَيْضا - عمل الْقلب، وَالتّرْك، فَإِنَّهُ كف النَّفس، وَسبق: أَنه لَا تَكْلِيف إِلَّا بِفعل على الصَّحِيح، فَإِذا نقل عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أَرَادَ ذَلِك، كَانَ من السّنة الفعلية، كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَ

(3/1430)


أَن ينحي مخاط أُسَامَة، قَالَت عَائِشَة: دَعْنِي يَا رَسُول الله حَتَّى أَنا الَّذِي أفعل، قَالَ: " يَا عَائِشَة أحبيه فَإِنِّي أحبه "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي المناقب.
وَحَدِيث أنس: " أَرَادَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يكْتب إِلَى رَهْط أَو أنَاس من الْعَجم، فَقيل: إِنَّهُم لَا يقبلُونَ كتابا إِلَّا بِخَاتم، فَاتخذ خَاتمًا من فضَّة "، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَمثله حَدِيث جَابر: " أَرَادَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن ينْهَى أَن يُسمى بيعلى، أَو ببركة، وافلح، ويسار، وَنَافِع، وَنَحْو ذَلِك، ثمَّ رَأَيْته سكت بعد عَنهُ فَلم يقل شَيْئا، ثمَّ قبض وَلم ينْه عَن ذَلِك " رَوَاهُ مُسلم، وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث.

(3/1431)


وَإِذا نقل عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه ترك كَذَا، كَانَ - أَيْضا - من السّنة الفعلية، كَمَا ورد " أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قدم إِلَيْهِ الضَّب فَأمْسك عَنهُ وَترك أكله، أمسك الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - وتركوه، حَتَّى بَين لَهُم: أَنه حَلَال وَلكنه يعافه "، وَلِهَذَا لما صلى التَّرَاوِيح وَتركهَا خشيَة أَن تفرض على الْأمة، وَزَالَ هَذَا الْمَعْنى بِمَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَادوا إِلَى الصَّلَاة، وَنَازع بعض الْعلمَاء فِي ذَلِك.
وَلَكِن الْمُفِيد لهَذَا النَّوْع حَتَّى يرْوى عَنهُ، إِمَّا قَوْله: إِنَّه ترك كَذَا، أَو قيام الْقَرَائِن عِنْد الرَّاوِي الَّذِي يروي عَنهُ أَنه ترك كَذَا، إِذا لَا بُد من ذَلِك حَتَّى يعرف.
تَنْبِيه آخر: قَوْلنَا: (غير الْوَحْي) .

(3/1432)


قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَالْمرَاد من أَقْوَاله وأفعاله: مَا لم يكن على وَجه الإعجاز) .
قَالَ القَاضِي عضد الدّين وَغَيره: (وَالْمرَاد بِالسنةِ هُنَا: مَا صدر عَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من فعل أَو قَول غير الْقُرْآن) .
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَالْمرَاد هُنَا: قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي لم يَأْتِ بِهِ قُرْآنًا) .
قَوْله: (وَزيد الْهم) .
أَي: بِفعل، رَأَيْت ذَلِك للشَّافِعِيَّة، ومثلوه: بِمَا إِذا هم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِفعل وعاقه عَنهُ عائق، كَانَ ذَلِك الْفِعْل مَطْلُوبا شرعا؛ لِأَنَّهُ لَا يهم إِلَّا بِحَق مَحْبُوب مَطْلُوب شرعا؛ لأ [نه] مَبْعُوث لبَيَان الشرعيات، وَذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيث عبد الله بن زيد بن عَاصِم فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان

(3/1433)


وَالْحَاكِم وَقَالَ: (صَحِيح على شَرط مُسلم) : " استسقى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء، فَأَرَادَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يَأْخُذ بأسفلها فَيَجْعَلهُ أَعْلَاهَا، فَلَمَّا ثقلت قَلبهَا على عَاتِقه ".
فَالْمُرَاد: لَوْلَا ثقل الخميصة، فاستحب الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - لأجل هَذَا الحَدِيث للخطيب فِي الاسْتِسْقَاء مَعَ تَحْويل الرِّدَاء تنكيسه، بِجعْل أَعْلَاهُ أَسْفَله.
قلت: مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه لَا يزِيد على التَّحْوِيل.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (قلت: وَكَذَا همه بمعاقبة [المتخلفين] عَن الْجَمَاعَة، اسْتدلَّ بِهِ على وُجُوبهَا.

(3/1434)


وَقد يُقَال: الْهم خَفِي فَلَا يطلع عَلَيْهِ إِلَّا بقول أَو فعل، فَيكون الِاسْتِدْلَال بِأَحَدِهِمَا، فَلَا يحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى زِيَادَة) انْتهى.
وعَلى القَوْل الأول: الْفرق بَينه وَبَين مَا تقدم من عمل الْقلب وَالتّرْك: أَن الَّذِي هُنَا أخص؛ لِأَن الْهم عزم على الشَّيْء بتصميم وتأكيد، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: (وَإِقْرَاره) .
أَي: الثَّالِث من السّنة: إِقْرَاره على الشَّيْء يفعل أَو يُقَال، وَيَأْتِي قَرِيبا حكم مَا إِذا سكت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن إِنْكَار فعل أَو قَول بِحَضْرَتِهِ، أَو زَمَنه وَيعلم [بِهِ] .
فإقرار من رَآهُ فعل أَو قَالَ شَيْئا على ذَلِك من السّنة قطعا، وَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِك هُنَاكَ.
وَزَاد الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: الْكِتَابَة، كَمَا تقدم.
ورد: بأنما ذَلِك من قبيل القَوْل.
وَزَاد - أَيْضا - التَّنْبِيه على الْعلَّة، ورتب الْأَقْسَام: القَوْل، ثمَّ الْفِعْل، ثمَّ الْإِشَارَة، ثمَّ الْكِتَابَة، ثمَّ التَّنْبِيه على الْعلَّة على قَوْله، ورد أَيْضا.

(3/1435)


قَوْله: { [وَهُوَ حجَّة للعصمة] } .
أَعنِي: أَن كل مَا سبق من أَقْوَاله وأفعاله وَإِقْرَاره وهمه من أَنْوَاع السّنة حجَّة؛ لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصُوم، والعصمة ثَابِتَة لَهُ ولسائر الْأَنْبِيَاء - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ -.
وَتَأْتِي تفاصيل أَفعاله، وَمَعَ أَقْوَاله - أَيْضا - وَمَا يجوز عَلَيْهِ، وَمَا لَا يجوز عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَهِي: سلب الْقُدْرَة على الْمعْصِيَة} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي حد الْعِصْمَة: فَقيل: (هِيَ سلب الْقُدْرَة على الْمعْصِيَة) ،

(3/1436)


فَلَا يُمكنهُ فعلهَا؛ لِأَن الله تَعَالَى سلبه الْقُدْرَة عَلَيْهَا، كَمَا سلبه معرفَة الْكِتَابَة وَالشعر وَغَيرهمَا.
قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْعِصْمَة بِالْكَسْرِ: الْمَنْع، واعتصم بِاللَّه: امْتنع بِلُطْفِهِ من الْمعْصِيَة) .
وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (عصمه الله تَعَالَى من الْمَكْرُوه [يعصمه] ، من بَاب ضرب: حفظه ووقاه، واعتصمت بِاللَّه: امْتنعت بِهِ، وَالِاسْم الْعِصْمَة) انْتهى.
{وَقيل: [يُمكن فعلهَا مِنْهُ، وَلَكِن تصرف دواعيه عَنْهَا] } بِمَا يلهمه الله عَنهُ من ترغيب وترهيب.
{و} قَالَ التلمساني: (الْعِصْمَة {عِنْد [الأشعرية] } : تهيؤ العَبْد للموافقة مُطلقًا، وَذَلِكَ رَاجع إِلَى خلق الْقُدْرَة على كل طَاعَة، فَإِذن الْعِصْمَة {توفيق عَام} .

(3/1437)


{و} قَالَت {الْمُعْتَزلَة: خلق ألطاف تقرب إِلَى الطَّاعَة} .
وَلم يردوها إِلَى الْقُدْرَة؛ لِأَن الْقُدْرَة عِنْدهم على الشَّيْء صَالِحَة لضده.
قَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: (لَا تطلق الْعِصْمَة فِي غير الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة إِلَّا بِقَرِينَة إِرَادَة مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، وَهُوَ السَّلامَة من الشَّيْء) ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ": (واسأله الْعِصْمَة) ، وَجرى على ذَلِك كثير من الْعلمَاء.
وَالْحَاصِل: أَن السَّلامَة أَعم من وجوب السَّلامَة، فقد تُوجد السَّلامَة فِي غير النَّبِي وَالْملك اتِّفَاقًا لَا وجوبا، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
{ [و] } قَالَ أَبُو مُحَمَّد { [الْجَوْزِيّ] } فِي كِتَابه " الْإِيضَاح " فِي الجدل: (الْعِصْمَة {حفظ الْمحل بالتأثيم [أَو] التَّضْمِين} ) .
فَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: أَنه لَا يفعل وَلَا يتْرك شَيْئا يحصل بِهِ إِثْم وَلَا ضَمَان، بل هُوَ مَحْفُوظ من ذَلِك، فَتكون (الْبَاء) بِمَعْنى (من) ، يَعْنِي:

(3/1438)


حفظ الْمحل من التأثيم أَو التَّضْمِين، فَهُوَ مَعْصُوم من فعل الْمحرم قطعا، وَيَأْتِي حكم الْمَكْرُوه.
وَيحْتَمل: أَن تكون (الْبَاء) بَاء السَّبَبِيَّة، وَيكون معنى الْكَلَام: حفظ الْمحل بِسَبَب التأثيم أَو التَّضْمِين، فَإِذا علم أَن الْفِعْل أَو التّرْك يُوجب إِثْمًا أَو تضمينا تَركه، فَكَانَ التأثيم أَو التَّضْمِين حاجزا و [مَانِعا] عَن فعل مَا يُوجب ذَلِك، وَالله أعلم.
قَوْله: { [فامتناع الْمعْصِيَة] مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل الْبعْثَة عقلا مَبْنِيّ على التقبيح الْعقلِيّ، فَمن أثْبته كالروافض منعهَا} ؛ للتنفير، فتنافي الْحِكْمَة، { [وقالته] الْمُعْتَزلَة فِي الْكَبَائِر، [وَمن نفى التقبيح الْعقلِيّ لم يمْنَعهَا] } .
إِنَّمَا قدمنَا هَذِه الْمَسْأَلَة لأجل مَا بعْدهَا؛ لِأَن الِاسْتِدْلَال بأفعالهم وأقوالهم مُتَوَقف على عصمتهم، وَقد ذهب أَكثر الْعلمَاء: إِلَى أَنه لَا يمْتَنع عقلا أَن يصدر قبل الْبعْثَة من الْأَنْبِيَاء مَعْصِيّة كَبِيرَة أَو صَغِيرَة، وَخَالفهُم

(3/1439)


الروافض مُطلقًا، فَقَالُوا: لَا يجوز أَن يصدر مِنْهُم قبل الْبعْثَة صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة وَوَافَقَهُمْ الْمُعْتَزلَة فِي الْكَبَائِر وجوزوا الصَّغَائِر كالأكثر، فَوَافَقُوا الروافض فِي الْكَبَائِر، ووافقوا أَكثر الْعلمَاء فِي الصَّغَائِر.
ومعتمد الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِك؛ أَن فِيهِ هضما واحتقارا، فتنفر الطباع عَن اتباعهم، فيخل بالحكمة من بعثتهم، وَذَلِكَ قَبِيح عقلا.
وَقد علمت مِمَّا مضى بطلَان قَاعِدَة التقبيح الْعقلِيّ، وَقد رد ذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي ردا بليغا كَافِيا شافيا وَأطَال فِي ذَلِك.
قَوْله: { [وَبعد الْبعْثَة] } : مَعْصُوم من تعمد مَا يخل بصدقه، فِيمَا دلّت

(3/1440)


المعجزة على صدقه [فِيهِ] ، من رِسَالَة وتبليغ إِجْمَاعًا} حَكَاهُ الْآمِدِيّ وَغَيره من الْعلمَاء.
فالإجماع مُنْعَقد على عصمتهم من تعمد الْكَذِب فِي الْأَحْكَام وَمَا يتَعَلَّق بهَا؛ لِأَن المعجزة قد دلّت على صدقهم فِيهَا، فَلَو جَازَ كذبهمْ فِيهَا لبطل دلَالَة المعجزة.
قَوْله: {وَلَا يَقع [سَهوا وغلطا] عِنْد الْأَكْثَر} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز وُقُوع الْكَذِب مِنْهُم غَلطا وسهوا.

(3/1441)


قَالَ ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (هُوَ مَعْصُوم فِيمَا يُؤَدِّي عَن الله، وَلَيْسَ مَعْصُوما فِي ذَلِك من الْخَطَأ والزلل وَالنِّسْيَان والسهو والصغائر فِي الْأَشْهر فِيهَا، {وَجوزهُ} - أَيْضا - {القَاضِي} أَبُو يعلى من أَصْحَابنَا، {و} القَاضِي أَبُو بكر {الباقلاني، والآمدي} ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا قَول الْجُمْهُور، وَأَنه يدل عَلَيْهِ الْقُرْآن.
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة - حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ - لما سلم من رَكْعَتَيْنِ من ربَاعِية فَقَالَ لَهُ، فَقَالَ: " لم أنس وَلم تقصر "، فَقَالَ: بلَى قد نسيت.

(3/1442)


وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود: " إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون، فَإِذا نسيت فذكروني "، مُتَّفق عَلَيْهِمَا.
قَالَ الباقلاني: دلَالَة المعجزة على صدقهم فِيمَا صدر عَنْهُم قصدا واعتقادا، وَمَا صدر عَنْهُم غَلطا فالمعجزة لَا تدل على صدقهم فِيهِ) انْتهى.
وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْأَكْثَر أَنه لَا يَقع مِنْهُم ذَلِك.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَأما الْكَذِب غَلطا، فجوزه القَاضِي - يَعْنِي الباقلاني - وَمنعه الْبَاقُونَ؛ لما مر من دلَالَة المعجزة على الصدْق) .
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وللعلماء فِي جَوَازه غَلطا ونسيانا قَولَانِ، بِنَاء: على أَن المعجزة هَل دلّت على صدقه فِيهِ؟ وَاخْتلف فِيهِ كَلَام ابْن عقيل) انْتهى.
وَحَاصِله: أَن دلَالَة المعجزة، هَل دلّت على صدقهم مُطلقًا فِي الْعمد والسهو؟ أَو مَا دلّت إِلَّا على مَا صدر عَنْهُم عمدا.

(3/1443)


وَتَأَول من منع الْوُقُوع الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي سَهْو النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَنَّهُ قصد بذلك التشريع، كَمَا فِي حَدِيث: " وَلَكِن أُنسى ".
وَمِنْهُم من يعبر فِي هَذَا: بِأَنَّهُ تعتمد ذَلِك ليَقَع النسْيَان فِيهِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ خطأ: لتصريحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالنِّسْيَانِ فِي قَوْله: " إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون، فَإِذا نسيت فذكروني ".
وَلِأَن الْأَفْعَال العمدية تبطل الصَّلَاة، وَالْبَيَان كَاف بالْقَوْل فَلَا ضَرُورَة إِلَى الْفِعْل.
{وَذكر القَاضِي عِيَاض} وَغَيره: الْخلاف فِي الْأَفْعَال، وَأَنه {لَا [يجوز] فِي الْأَقْوَال البلاغية إِجْمَاعًا، [وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل] } فِي

(3/1444)


" الْإِرْشَاد "، فَإِنَّهُ قَالَ: (الْأَنْبِيَاء لم يعصموا من الْأَفْعَال، بل فِي نفس الْأَدَاء، فَلَا يجوز عَلَيْهِم الْكَذِب فِي الْأَقْوَال فِيمَا [يؤدونه] عَن الله، وَلَا فِيمَا شَرعه من الْأَحْكَام، عمدا وَلَا سَهوا وَلَا نِسْيَانا) انْتهى.
قَوْله: {ثمَّ لَا يقر عَلَيْهِ إِجْمَاعًا} .
يَعْنِي: إِذا قُلْنَا يَقع ذَلِك مِنْهُم غَلطا ونسيانا، فَإِذا وَقع لم يقر عَلَيْهِ إِجْمَاعًا، بل يعلم بِهِ.
{قَالَ الْأَكْثَر} : يعلم بِهِ {على الْفَوْر} .
{ [وَقَالَ طَائِفَة] :} يعلم بِهِ فِي {مُدَّة حَيَاته} ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي، ورد الأول.
قَوْله: {وَمَا لَا يخل بصدقه: فمعصوم من كَبِيرَة عمدا إِجْمَاعًا} .

(3/1445)


مَا تقدم هُوَ فِي حكم مَا يخل بصدقه، فِيمَا دلّت المعجزة على صدقه فِيهِ، من رِسَالَة وتبليغ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: فعله أَو قَوْله عمدا، فَهُوَ مَعْصُوم مِنْهُ إِجْمَاعًا.
وَالثَّانِي: قَوْله غَلطا أَو نِسْيَانا، فَهَل هُوَ مَعْصُوم مِنْهُ، أَو يجوز وُقُوعه مِنْهُ؟ فِيهِ الْخلاف الْمُتَقَدّم.
وَمَا قيل هُنَا: فِي حكم [مَا لَا يخل بتصديقه] مِمَّا دلّت المعجز على صدقه فِيهِ، نَوْعَانِ - أَيْضا - كَبَائِر وصغائر، والكبائر - أَيْضا - قِسْمَانِ: أَحدهمَا: فعلهَا عمدا، وَالثَّانِي: سَهوا.
فَالْأول: وَهُوَ فعل الْكَبِيرَة عمدا، فَهُوَ مَعْصُوم من فعلهَا إِجْمَاعًا، وَلَا عِبْرَة بالحشوية وَبَعض الْخَوَارِج.
وَكَذَا هُوَ مَعْصُوم من فعل مَا يُوجب خسة أَو إِسْقَاط مُرُوءَة عمدا.
قَالَ جمَاعَة: (إِجْمَاعًا) ، مِنْهُم الْآمِدِيّ وَمن تبعه.

(3/1446)


وَقد قطع بعض أَصْحَابنَا: (بِأَن مَا يسْقط الْعَدَالَة لَا يجوز عَلَيْهِ) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَلَعَلَّه مُرَاد غَيره) .
قلت: بل يتَعَيَّن أَنه مُرَاد غَيره.
وَهل مُسْتَند الْمَنْع: السّمع، أَو الْعقل؟ مَبْنِيّ على التحسين والتقبيح العقليين.
وَالْقسم الثَّانِي: فعله سَهوا، فَهَل يجوز وُقُوعه مِنْهُ، أَو هُوَ مَعْصُوم مِنْهُ كالعمد؟ فِيهِ قَولَانِ.
فَعِنْدَ القَاضِي - من أَصْحَابنَا - وَالْأَكْثَر يجوز ذَلِك، وَاخْتلف كَلَام ابْن عقيل فِي ذَلِك. وَقَالَ ابْن أبي مُوسَى: (لَا يجوز ذَلِك عَلَيْهِ) .

(3/1447)


[قَالَ] : (وَتجوز الهمة بهَا لَا الْفِعْل) .
وَالنَّوْع الثَّانِي الصَّغَائِر، وَهُوَ أَيْضا قِسْمَانِ:
أَحدهمَا: فعلهَا عمدا، وَالثَّانِي: سَهوا.
فَالْأول: وَهُوَ فعلهَا عمدا، هَل يجوز وُقُوعهَا مِنْهُ أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: الْجَوَاز، وَهُوَ قَول القَاضِي، وَابْن عقيل، والأشعرية، والمعتزلة، وَغَيرهم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: عدم الْجَوَاز، وَهُوَ قَول فِي مَذْهَبنَا، ذكره ابْن أبي مُوسَى.

(3/1448)


وَعند الْحَنَفِيَّة: (مَعْصُوم من مَعْصِيّة وَهِي مَقْصُودَة، لَا زلَّة، وَهُوَ: فعل لم يقْصد جر إِلَيْهِ مُبَاح) .
الْقسم الثَّانِي: فعل الصَّغَائِر سَهوا، فَذهب الْأَكْثَر إِلَى

(3/1449)


الْجَوَاز، وَمنع الشِّيعَة مِنْهَا، وَمنع الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني، وَجمع من أَصْحَابنَا وَغَيرهم من الذَّنب مُطلقًا، أَعنِي: سَوَاء كَانَ كَبِيرا أَو

(3/1450)


صَغِيرا، عمدا أَو سَهوا، مَا يخل بصدقه أَو لَا، وَاخْتَارَهُ - أَيْضا - أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْإِرْشَاد "، وَالْقَاضِي عِيَاض، وَأَبُو بكر ابْن مُجَاهِد، وَابْن

(3/1451)


فورك، نَقله عَنهُ ابْن حزم فِي " الْملَل والنحل "، وَابْن حزم، وَابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط "، وَنَقله فِي " الْوَجِيز " عَن اتِّفَاق الْمُحَقِّقين.
وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي " زَوَائِد الرَّوْضَة " عَن الْمُحَقِّقين، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَقَالَ: (هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب أَصْحَابنَا) .
وَهُوَ قَول أبي الْفَتْح الشهرستاني، وَابْن عَطِيَّة الْمُفَسّر، وَشَيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ، والسبكي، وَولده التَّاج.
فالعصمة ثَابِتَة لَهُ ولسائر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من كل ذَنْب، صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا، عمدا كَانَ أَو سَهوا، فِي الْأَحْكَام وَغَيرهَا، مبرؤون من جَمِيع

(3/1452)


ذَلِك، لقِيَام الْحجَّة على ذَلِك، ولأنا أمرنَا باتبَاعهمْ فِي أفعالهم وآثارهم وسيرهم على الْإِطْلَاق، من غير الْتِزَام قرينَة، وَسَوَاء فِي ذَلِك قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا، تعاضدت الْأَخْبَار بتنزيههم عَن هَذِه النقيصة مُنْذُ ولدُوا، ونشأتهم على كَمَال أوصافهم فِي توحيدهم وَإِيمَانهمْ عقلا أَو شرعا - على الْخلاف فِي ذَلِك - وَلَا سِيمَا فِيمَا بعد الْبعْثَة فِيمَا يُنَافِي المعجزة.
قَالَ ابْن عَطِيَّة: (وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي لأستغفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ فِي الْيَوْم سبعين مرّة "، إِنَّمَا هُوَ [رُجُوعه من حَالَة إِلَى أرفع] مِنْهَا، لتزيد علومه، واطلاعه على أَمر الله، فَهُوَ يَتُوب من الْمنزلَة الأولى إِلَى الْأُخْرَى، وَالتَّوْبَة هُنَا لغوية) انْتهى، وَتقدم تَأْوِيل سَهْوه قَرِيبا.

(3/1453)


(قَوْله: {فصل} )

{مَا كَانَ من أَفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُخْتَصًّا بِهِ فَوَاضِح} .
وَله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَصَائِص كَثِيرَة، وَذكرهَا أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي كتاب النِّكَاح، وأفردت بالتصانيف.

(3/1454)


قَالَ الإِمَام أَحْمد - رَضِي الله عَنهُ -: (خص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بواجبات، ومحظورات، ومباحات، وكرامات) .
قَوْله: {أَو جبليا} .
أَعنِي: مَا كَانَ من أَفعاله جبليا وَاضحا: كالقيام وَالْقعُود، والذهاب وَالرُّجُوع، وَالْأكل وَالشرب، وَالنَّوْم والاستيقاظ، وَنَحْوهَا، {فمباح، قطع بِهِ الْأَكْثَر} وَلم يحكوا فِيهِ خلافًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودا بِهِ التشريع، وَلَا تعبدنا بِهِ، وَلذَلِك نسب إِلَى الجبلة، وَهِي: الْخلقَة؛ لَكِن لَو تأسى بِهِ متأس فَلَا بَأْس، كَمَا فعل ابْن عمر، فَإِنَّهُ كَانَ إِذا حج يجر بِخِطَام نَاقَته حَتَّى [يبركها] حَيْثُ بَركت نَاقَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تبركا بآثاره.
وَإِن تَركه لَا رَغْبَة عَنهُ وَلَا استكبارا، فَلَا بَأْس.
وَنقل ابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ فِي " المنخول " قولا: إِنَّه ينْدب التأسي بِهِ.

(3/1455)


وَنقل [أَبُو] إِسْحَاق الأسفراييني وَجْهَيْن، هَذَا، وَعَزاهُ لأكْثر الْمُحدثين، وَالثَّانِي: لَا يتبع فِيهِ أصلا.
فَتَصِير الْأَقْوَال ثَلَاثَة: مُبَاح، ومندوب، وممتنع.
ويحكى قَول رَابِع: بِالْوُجُوب فِي الْجبلي وَغَيره.
قيل: وَهُوَ زلل.
وَحكى ابْن قَاضِي الْجَبَل: النّدب عَن بعض الْحَنَابِلَة والمالكية.
وَحَكَاهُ الْقَرَافِيّ فِي " التَّنْقِيح "، وَقطع بِهِ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع " فَقَالَ: (أما الْجبلي: فالندب، لاستحباب التأسي بِهِ) .
قَوْله: { [فَإِن] احْتمل الْجبلي وَغَيره} ، من حَيْثُ إِنَّه واظب عَلَيْهِ: {كجلسة الاسْتِرَاحَة، وركوبه فِي الْحَج، ودخوله مَكَّة من

(3/1456)


كداء، ولبسه السبتي والخاتم، وذهابه ورجوعه فِي الْعِيد، وَنَحْوه} : كتطيبه عِنْد الْإِحْرَام، وَعند تحلله، وغسله بِذِي

(3/1457)


طوى، والاضطجاع بعد سنة الْفجْر، وَنَحْوهَا، {فمباح [عِنْد] الْأَكْثَر} ، حَكَاهَا إِلْكيَا الهراسي؛ لإِجْمَاع الصَّحَابَة عَلَيْهِ، وَقطع بِهِ ابْن الْقطَّان، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، وَغَيرهم.
{وَقيل: مَنْدُوب، وَهُوَ أظهر} وَأَصَح، {وَهُوَ ظَاهر فعل} الإِمَام

(3/1458)


{أَحْمد، فَإِنَّهُ تسرى، واختفى [ثَلَاثَة أَيَّام] } ، ثمَّ انْتقل إِلَى مَوضِع آخر، اقْتِدَاء بِفعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّسَرِّي، واختفائه فِي الْغَار ثَلَاثًا {وَقَالَ: " مَا بَلغنِي حَدِيث إِلَّا عملت بِهِ، حَتَّى أعطي الْحجام دِينَارا ".
وَورد} أَيْضا {عَن} الإِمَام {الشَّافِعِي} ذَلِك، فَإِنَّهُ جَاءَ عَنهُ أَنه قَالَ

(3/1459)


لبَعض أَصْحَابه: " اسْقِنِي قَائِما، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شرب قَائِما ".
ومنشأ الْخلاف فِي ذَلِك: تعَارض الأَصْل وَالظَّاهِر، فَإِن الأَصْل عدم التشريع، وَالظَّاهِر فِي أَفعاله التشريع؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوث لبَيَان الشرعيات.
قلت: أَكثر مَا حكيناه من الْأَمْثِلَة مَنْدُوب، نَص عَلَيْهِ إمامنا وَأَصْحَابه: كذهابه من طَرِيق ورجوعه فِي أُخْرَى فِي الْعِيد، حَتَّى نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد فِي الْجُمُعَة أَيْضا، ودخوله مَكَّة من كداء، وتطيبه عِنْد الْإِحْرَام، وغسله بِذِي طوى، والاضطجاع بعد سنة الْفجْر.
وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن الإِمَام أَحْمد فِي جلْسَة الاسْتِرَاحَة، هَل هِيَ مُسْتَحبَّة أم لَا؟ وَالْمذهب أَنَّهَا لَيست مُسْتَحبَّة.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (أَكثر الْأَحَادِيث على هَذَا) .

(3/1460)


وَعنهُ رِوَايَة: أَنَّهَا تسْتَحب، لحَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يجلس إِذا رفع رَأسه من السُّجُود قبل أَن ينْهض " مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَحمله الْمُوفق وَجَمَاعَة: على أَن جُلُوسه كَانَ فِي آخر عمره حِين ضعف.

(3/1461)


وَحَاصِل ذَلِك: أَن من رجح فعل ذَلِك والاقتداء بِهِ والتأسي، قَالَ: لَيْسَ من الْجبلي، بل من الشَّرْعِيّ الَّذِي يتأسى بِهِ فِيهِ، وَمن رأى أَن ذَلِك يحْتَمل الْجبلي وَغَيره، فيحمله على الْجبلي، فألحقه بِهِ.
قَوْله: {وَمَا كَانَ بَيَانا [بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا] كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، [وَفعله] عِنْد الْحَاجة كَقطع [السَّارِق] من [الْكُوع] } ،

(3/1462)


وَإِدْخَال الْمرَافِق والكعبين [فِي الْغسْل] ، { [فبيان] } لقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] ، وَلقَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [الْمَائِدَة: 6] ، وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد الْعلمَاء، وواجب عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِعْلَام بِهِ، لوُجُوب التَّبْلِيغ عَلَيْهِ.
فَإِن قلت: لَا يتَعَيَّن التَّبْلِيغ بِالْفِعْلِ.
قلت: لَا يخرج ذَلِك عَن كَونه وَاجِبا، فَإِن الْوَاجِب الْمُخَير تُوصَف كل من خصاله بِالْوُجُوب.

(3/1463)


قَالَ الْعَضُد: (وَمَعْرِفَة كَونه بَيَانا، إِمَّا بقول، وَإِمَّا بِقَرِينَة.
فَالْقَوْل نَحْو: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، و " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ".
والقرينة مثل: أَن يَقع الْفِعْل بعد إِجْمَال: كَقطع يَد السَّارِق من الْكُوع دون الْمرْفق والعضد، بَعْدَمَا نزل قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] ، وَالْغسْل إِلَى الْمرَافِق بِإِدْخَال الْمرَافِق [أَو إخْرَاجهَا] بَعْدَمَا نزلت: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} [الْمَائِدَة: 6] انْتهى.
قَوْله: { [وَمَا لم يكن كَذَلِك] } .
يَعْنِي: لَا مُخْتَصًّا بِهِ، وَلَا جبليا، وَلَا مترددا، وَلَا بَيَانا، فَهُوَ { [قِسْمَانِ] :} أَحدهمَا: { [مَا] علمت صفته من وجوب [أَو ندب أَو إِبَاحَة] ، [فَقَالَ أَصْحَابنَا وَأكْثر الْعلمَاء] } من الْفُقَهَاء والمتكلمين: كالحنفية،

(3/1464)


والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم: {أمته مثله} فِي ذَلِك؛ لِأَن الأَصْل مُشَاركَة أمته لَهُ، حَتَّى يدل دَلِيل على غير ذَلِك.
{و} قَالَ {القَاضِي} - من أَصْحَابنَا - وَبَعض الشَّافِعِيَّة {و} أَبُو عَليّ { [ابْن خَلاد] } من الْمُعْتَزلَة: أمته مثله {فِي الْعِبَادَات [فَقَط] } دون الْمُعَامَلَات والمناكحات وَغَيرهمَا.
{ [ووقف بعض أَصْحَابنَا] } وَالْفَخْر الرَّازِيّ، فَإِن الإِمَام أَحْمد

(3/1465)


قَالَ فِي رِوَايَة ابْن إِبْرَاهِيم: (الْأَمر من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سوى الْفِعْل، لِأَنَّهُ يفعل الشَّيْء لجِهَة الْفضل، ويفعله وَهُوَ خَاص بِهِ، وَإِذا أَمر بالشَّيْء فَهُوَ للْمُسلمين) .
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (ظَاهره الْوَقْف فِي تعديته إِلَى أمته وَإِن علمت صفته؛ لتعليله بِاحْتِمَال تَخْصِيصه) .
وَذكر بعض أَصْحَابنَا أَنه أَقيس، وَقَالَهُ بعض الْأُصُولِيِّينَ.
{و} قَالَ القَاضِي أَبُو بكر {الباقلاني: [حكمه حكم مَا لم تعلم] صفته} - على مَا يَأْتِي بعد هَذَا فَيجْرِي فِيهِ قَول بالندب، وَقَول بِالْإِبَاحَةِ، وَقَول بِالْوَقْفِ.

(3/1466)


{و} قَالَ {الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: ( { [من الْمُمكن أَنه يجب علينا وَإِن لم يجب عَلَيْهِ] } ؛ كَمَا تجب مُتَابعَة الإِمَام فِيمَا لَا يجب عَلَيْهِ، وَنبهَ عَلَيْهِ الْقُرْآن بقوله: {مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله} الْآيَة [التَّوْبَة: 120] ، فَأوجب عَلَيْهِم، وَلَو لم يتَعَيَّن ذَلِك الْغَزْو. - قَالَ -: وَقد يُقَال هَذَا فِيمَا صدر مِنْهُ اتِّفَاقًا) . قَوْله: {فَائِدَة: [تعرف] الصّفة} .
أَعنِي: صفة فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَل هُوَ وَاجِب، أَو مَنْدُوب، أَو مُبَاح؟ { [بِأُمُور] :
[مِنْهَا: النَّص] } مِنْهُ على ذَلِك، بِأَن يَقُول: هَذَا وَاجِب عَليّ، أَو مُسْتَحبّ، أَو مُبَاح، أَو معنى ذَلِك، بِذكر خَاصَّة من خواصه، أَو نَحْو ذَلِك.

(3/1467)


{و} مِنْهَا: {تسويته بِفعل قد علمت جِهَته} ، بِأَن يَقُول: هَذَا مثله، أَو مسَاوٍ لَهُ وَنَحْوه.
{ [وَمِنْهَا: الْقَرِينَة: بِأَن] تبين صفة أحد الثَّلَاثَة} ، أما الْوُجُوب، فكالأذان فِي الصَّلَاة، فقد تقرر فِي الشَّرْع: أَن الْأَذَان وَالْإِقَامَة من أَمَارَات الْوُجُوب، وَلِهَذَا لَا يطلبان فِي صَلَاة عيد وكسوف واستسقاء، فيدلان على وجوب الصَّلَاة؛ لِأَنَّهُمَا شعار مُخْتَصّ بالفرائض.
قيل: أَو يكون مَمْنُوعًا مِنْهُ [لَو لم] يجب: كالختان، كَمَا نقل عَن ابْن سُرَيج فِيهِ، وَقطع الْيَد فِي السّرقَة، فَإِن الْجرْح والإبانة مَمْنُوع مِنْهُمَا، فجوازهما يدل على وجوبهما، وَقطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَكَذَا زِيَادَة [رُكُوع وَقيام] فِي رَكْعَتي الْكُسُوف، وَحجَّة بَعضهم من كَونهَا إِذا صليت

(3/1468)


كَسَائِر الصَّلَوَات جَازَ، وَنقض ذَلِك: بسجود السَّهْو والتلاوة فِي الصَّلَاة، فَإِنَّهُمَا سنة مَعَ أَنَّهُمَا مبطلان لَو لم يشرعا، وَكَذَا رفع الْيَدَيْنِ على التوالي فِي تَكْبِيرَات الْعِيد وَنَحْوه، وَمثل بَعضهم: بإحداد [زَوْجَة] الْمُتَوفَّى عَنْهَا.
فَإِن قيل: قد يُجَاب: بِأَن الدَّلِيل دلّ على [سنية] هَذِه الْأُمُور، وَالْكَلَام حَيْثُ لَا دَلِيل.
قيل: الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ إِثْبَات الْقَاعِدَة باستقراء الشَّرْع، حَتَّى ينزل عَلَيْهَا مَا لم يعرف، فَإِذا انتقضت بِمَا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل، ارْتَفع مَا ثَبت بالاستقراء.
وَمن قَرَائِن الْوُجُوب أَيْضا: أَن يكون قَضَاء لما علم وُجُوبه، أَو نَحْو ذَلِك.
وَأما النّدب: فكقصد الْقرْبَة مُجَردا عَن دَلِيل وجوب وقرينته، وَالدَّلِيل على ذَلِك كثير.

(3/1469)


وَزَاد الْبَيْضَاوِيّ: (أَن يعلم كَونه قَضَاء لفعل مَنْدُوب؛ لِأَن الْقَضَاء يَحْكِي الْأَدَاء) .
وَأما الْإِبَاحَة: فكالفعل الَّذِي ظهر بِالْقَرِينَةِ أَنه لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة.
{ [وَمِنْهَا: أَن يكون الْفِعْل امتثالا لأمر علم أَنه أَمر إِيجَاب أَو ندب] } ، فَيكون هَذَا الْفِعْل تَابعا لأصله فِي حكمه، كَالصَّلَاةِ بَيَانا بعد قَوْله: {أقِيمُوا الصَّلَاة} [الْأَنْعَام: 72] وكالقطع من الْكُوع بَيَانا لآيَة السّرقَة، وَنَحْو ذَلِك.
نعم، فِي الْوَارِد بَيَانا لفعل أَمر آخر، وَهُوَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجب عَلَيْهِ بَيَان الشَّرْع للْأمة بقوله أَو فعله، فَإِذا أَتَى بِالْفِعْلِ بَيَانا أَتَى بِوَاجِب، وَإِن كَانَ الْفِعْل بَيَانا لأمر ندب أَو إِبَاحَة بِالنِّسْبَةِ للْأمة.
فللفعل حِينَئِذٍ جهتان: جِهَة التشريع وَصفته الْوُجُوب، وجهة مَا يتَعَلَّق بِفعل الْأمة تَابع لأصله من ندب أَو إِبَاحَة.
قَوْله: {وَمَا لَا تعلم صفته} .
هَذَا هُوَ الْقسم الثَّانِي: [مِمَّا لم] يكن جبليا، وَلَا مُخْتَصًّا بِهِ، وَلَا مترددا، وَلَا بَيَانا، { [وَهُوَ نَوْعَانِ] } :

(3/1470)


أَحدهمَا: { [مَا يقْصد بِهِ] الْقرْبَة، [فَهُوَ وَاجِب] علينا وَعَلِيهِ، عِنْد أَحْمد [وَأكْثر أَصْحَابه] } ، مِنْهُم: ابْن حَامِد، وَالْقَاضِي، وَابْن أبي مُوسَى، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَذكره عَن أَصْحَابنَا، والحلواني، قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، { [والمالكية] } ، وَابْن سُرَيج، والإصطخري، وَابْن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

(3/1471)


خيران، وَابْن أبي هُرَيْرَة، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ الصَّحِيح عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ، وَقَالَ: (هُوَ أشبه بِمذهب الشَّافِعِي) ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي " المعالم ".
{ [وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة: أَنه مَنْدُوب] ، وَاخْتَارَهُ التَّمِيمِي، وَالْقَاضِي} أَيْضا فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد "، وَحَكَاهُ السَّرخسِيّ عَن

(3/1472)


الْحَنَفِيَّة، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا، والظاهرية، والمعتزلة، والصيرفي، والقفال الْكَبِير، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو شامة، وَحكي عَن الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب.
قَالَ الْمجد ابْن تَيْمِية: (نقل هَذِه الرِّوَايَة عَن أَحْمد: إِسْحَاق بن

(3/1473)


إِبْرَاهِيم، والأثرم، وَجَمَاعَة، بِأَلْفَاظ صَرِيحَة) .
{وَقيل} : إِنَّه {مُبَاح، اخْتَارَهُ الْفَخر} إِسْمَاعِيل {فِي جدله، والجصاص، [وَالْفَخْر الرَّازِيّ] } وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، {وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ مَذْهَب مَالك] } ، وَاسْتشْكل الْإِبَاحَة فِيمَا يقْصد بِهِ الْقرْبَة.
{وَعَن} الإِمَام {أَحْمد} رِوَايَة - أَيْضا - { [بِالْوَقْفِ] } حَتَّى يقوم

(3/1474)


دَلِيل على حكمه { [اخْتَارَهَا] أَبُو الْخطاب، وَحكي عَن التَّمِيمِي} ، وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين، {والأشعرية، و [غَيرهم] } وَصَححهُ القَاضِي أَبُو الطّيب، وَحكي عَن جُمْهُور الْمُحَقِّقين: كالصيرفي، وَالْغَزالِيّ، وأتباعهما، وَقَالَهُ الْكَرْخِي الْحَنَفِيّ.
فَقيل: الْوَقْف بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة.
وَقيل: بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب فَقَط.
قَوْله: { [وَمَا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة] } .

(3/1475)


هَذَا هُوَ النَّوْع الثَّانِي [مِمَّا لم] تعلم صفته، وَهُوَ مَا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة، وَفِيه أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه { [مُبَاح] } ، اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، مِنْهُم أَصْحَابنَا، وَحكي عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": (فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُفِيد الْإِبَاحَة، إِذا لم يكن فِيهِ معنى الْقرْبَة، فِي قَول الْجُمْهُور) .
{ [وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه] وَاجِب} ، اخْتَارَهُ جمَاعَة، وَحكي عَن ابْن سُرَيج، والإصطخري، وَابْن خيران، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم، كَمَا تقدم.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (وَلَا وَجه لَهُ) على مَا يَأْتِي.
{ [وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه] مَنْدُوب} ، اخْتَارَهُ جمَاعَة - أَيْضا - وَحكي

(3/1476)


عَن الشَّافِعِي كَمَا تقدم، فَإِن كثيرا من الْعلمَاء حكى الْخلاف فِيمَا لم تعلم صفته، وأطلقوا الْخلاف، سَوَاء قصد بِهِ الْقرْبَة أَو لَا، وَجعلُوا بعض الْأَقْوَال مفصلة بَين مَا يقْصد بِهِ الْقرْبَة وَبَين مَا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة.
{و} اخْتَار {الْآمِدِيّ} : أَنه {مُشْتَرك [بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب] : فِيمَا قصد فِيهِ الْقرْبَة، [وَمَا لم يقْصد فِيهِ الْقرْبَة مُشْتَرك بَين الثَّلَاثَة] } ، أَعنِي: الْوُجُوب، وَالنَّدْب، وَالْإِبَاحَة، {وَمَا اخْتصَّ بِهِ أَحدهمَا [مَشْكُوك] فِيهِ} ، نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح، وَغَيره.
تَنْبِيه: كثير من المصنفين يجمع بَين نَوْعي مَا لم تعلم صفته، مِمَّا قصد بِهِ الْقرْبَة، وَمِمَّا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة، ويحكي الْخلاف مُطلقًا ثمَّ يفصل فِي القَوْل الثَّالِث وَالرَّابِع، وَبَعْضهمْ يفصل بَينهمَا فيذكر كل وَاحِد على حِدة، ويحكي الْخلاف فِيهِ كَمَا حكيناه فِي الْمَتْن.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " - لما حكى الْخلاف عَن أَحْمد وَأَصْحَابه

(3/1477)


وَغَيرهم، وعمم ذَلِك -: (وَمُرَاد أَحْمد وَالْأَصْحَاب: مَا فِيهِ قصد قربَة، وَإِلَّا فَلَا وَجه للْوُجُوب فِي غَيره، وَالنَّدْب فِيهِ مُحْتَمل) .
قَالَ: (وَكَذَا ذكر بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي بِهِ الْمجد فِي " المسودة " - الْخلاف لنا وَلِلنَّاسِ مَعَ قصد الْقرْبَة، وَإِلَّا فالإباحة، وَأَنه قَول الْجُمْهُور، وَأَن قوما قَالُوا بِالْوُجُوب، وَذكره بَعضهم عَن ابْن سُرَيج.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (قدره أجل من هَذَا) .
وَقَالَ جمَاعَة بالندب هُنَا احْتِيَاطًا، [وَذكر] أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ عَن أَحْمد: الْوُجُوب، وَالنَّدْب.
وَذكر الْآمِدِيّ عَن أَصْحَابنَا وَغَيرهم: الْوُجُوب، قَالَ: (غير أَن الْوُجُوب وَالنَّدْب فِيهِ أبعد) . انْتهى كَلَام الْمجد.
وَقَالَ أَيْضا: (فَأَما مَا لم يظْهر فِيهِ معنى الْقرْبَة، فيستبان فِيهِ ارْتِفَاع الْحَرج عَن الْأمة لَا غير، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور، وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيّ والمحققون من الْقَائِلين بِالْوُجُوب أَو النّدب فِيمَا إِذا قصد الْقرْبَة) .

(3/1478)


(فصل)

دَلِيل الْقَائِل بِالْوُجُوب: قَوْله تَعَالَى: {واتبعوه} [الْأَعْرَاف: 158] ، وَقَوله تَعَالَى: {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} [النُّور: 63] ، وَالْفِعْل أَمر كَمَا يَأْتِي، وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} [الْحَشْر: 7] ، وَقَوله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} [الْأَحْزَاب: 21] ، أَي: تأسوا بِهِ، وَقَوله تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني} [آل عمرَان: 31] ومحبته وَاجِبَة، فَيجب لازمها وَهُوَ اتِّبَاعه، وَقَوله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا} [الْأَحْزَاب: 37] فلولا الْوُجُوب لما رفع تَزْوِيجه الْحَرج عَن الْمُؤمنِينَ فِي أَزوَاج أدعيائهم.

(3/1479)


وَلما خلع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَعله فِي الصَّلَاة خلعوا نعَالهمْ، رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي سعيد، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَرُوِيَ مُرْسلا.
وَلما أَمرهم بالتحلل فِي صلح الْحُدَيْبِيَة - رَوَاهُ البُخَارِيّ - تمسكوا.
وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجل عَن الْغسْل بِلَا إِنْزَال، فَأجَاب بِفِعْلِهِ، رَوَاهُ مُسلم.
وَلِأَنَّهُ أحوط، كنسيان تعْيين الصَّلَاة، ومطلقة.

(3/1480)


وَلِأَن فعله كَقَوْلِه، فِي بَيَان مُجمل وَتَخْصِيص وَتَقْيِيد، فَكَانَ مطلقه [للْوُجُوب] .
وَلِأَن فِي مُخَالفَته تنفيرا وتركا للحق، لِأَن فعله حق.
ورد الأول: بِأَنَّهُ كالتأسي، وَهُوَ غير مَعْلُوم، قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " [وَغَيره] .
وَقَالَ الْآمِدِيّ: (فِي أَقْوَاله، للْإِجْمَاع: أَن الْمُتَابَعَة فِي الْفِعْل إِنَّمَا تجب بِوُجُوبِهِ، وَمُطلق الْفِعْل غير مَعْلُوم) .
ورد الثَّانِي: بِأَن المُرَاد: أَمر الله، ثمَّ المُرَاد بِهِ: القَوْل؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَة فِيهِ، وَلذكر الدُّعَاء قبله، التحذير من مُخَالفَة فعله يَسْتَدْعِي وُجُوبه، فَلَو اسْتُفِيدَ وُجُوبه من التحذير كَانَ دورا.

(3/1481)


وَكَذَلِكَ جَوَاب الثَّالِث: لَا يجب الْأَخْذ حَتَّى يجب الْفِعْل، فَلَو وَجب من الْآيَة دَار، ثمَّ المُرَاد: مَا أَمركُم، لمقابلة: {وَمَا نهاكم} .
وَجَوَاب الرَّابِع وَالْخَامِس: مَا سبق فِي التأسي والاتباع.
وَفِي السَّادِس: مُسَاوَاة حكمنَا بِحكمِهِ، وَلَا يلْزم وصف أَفعاله كلهَا بِالْوُجُوب ليجب فعلهَا.
وَلَيْسَ فِي الْخلْع وجوب.
ثمَّ لدَلِيل: إِمَّا: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، أَو غَيره.
والتحلل وَجب بِالْأَمر، لَكِن رجوا نسخه، فَلَمَّا تحلل أيسوا، وَبِقَوْلِهِ: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، رَوَاهُ مُسلم.
وَالْغسْل بِلَا إِنْزَال إِنَّمَا وَجب بالْقَوْل، فَفِي مُسلم عَن أبي مُوسَى: أَنهم ذكرُوا مَا يُوجب الْغسْل؟ فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عَائِشَة: مَا يُوجب الْغسْل؟ فَقَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع وَمَسّ الْخِتَان الْخِتَان، فقد وَجب الْغسْل "، أَو بِفعل هُوَ بَيَان لقَوْله: {وَإِن كُنْتُم جنبا} [الْمَائِدَة: 6] .

(3/1482)


وَالِاحْتِيَاط فِيمَا ثَبت وُجُوبه: كَصَلَاة فَائِتَة من يَوْم وَلَيْلَة، أَو الأَصْل ثُبُوته: كالثلاثين من رَمَضَان.
فَأَما مَا احْتمل الْوُجُوب وَغَيره فَلَا.
وَيمْنَع التنفير.
ولحصول الْمُفَارقَة فِي أَشْيَاء.
وَلَا يلْزم من كَونه حَقًا وُجُوبه.
فَإِن قيل: فعله كتركه.
رد: لَا يجب ترك مَا ترك الْأَمر بِهِ، وَيجب بِالْأَمر.
وَقَالَ ابْن عقيل: (إِن فعل وَترك، مغايرا بَين شَخْصَيْنِ، أَو مكانين، أَو زمانين، وَجب التّرْك، وَإِلَّا فَلَا.
على أَن بَيَانه عِلّة تَركه [أكل] الضَّب، وَفسخ الْحَج، يُعْطي: أَن تَركه يجب الِاقْتِدَاء بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُفَسر وَلَا يخص، وَلم يَجعله الْقَائِل بالندب ندبا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ) .
الْقَائِل بالندب: لِأَنَّهُ الْيَقِين، وغالب فعله.
رد: بِالْمَنْعِ، [وَبِمَا] سبق.

(3/1483)


الْقَائِل بِالْإِبَاحَةِ: لِأَنَّهَا متيقنة.
رد: بِمَا سبق.
الْقَائِل بِالْوَقْفِ: لاحْتِمَاله الْجَمِيع، وَلَا صِيغَة لَهُ، وَلَا تَرْجِيح.
رد: بِمَا سبق، وَبِأَن الْغَالِب [لَا اخْتِصَاص] ، وَلَا عمل بالنادر.
وَقَالَ ابْن عقيل: (المتبع لَا يجوز إِمْسَاكه عَن بَيَان مَا يَخُصُّهُ، لَا سِيمَا إِن ضرّ غَيره، لِأَنَّهُ غرور، وَلَو فِي طَرِيق أَو أكل أَو شرب، إِن علم أَنه قد يتبع، فَكيف [بِعِلْمِهِ] باتباعه) .
وَقَول التَّمِيمِي وَغَيره: بتجويز سَهْو أَو غَيره - حَتَّى قيل: يتَوَقَّف فِيهِ فِي دلَالَته على حكم حَقه - ضَعِيف، لما سبق، وَلِأَنَّهُ لَا يقر عَلَيْهِ.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ.
الأولى: التأسي: فعلك كَمَا فعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأجل أَنه فعل، وَكَذَا التّرْك} ،

(3/1484)


فالتأسي فِيهِ: تَركك لَهُ كَمَا ترك لأجل أَنه تَركه.
هَذَا فِي الْفِعْل وَتَركه، {و} أما {فِي القَوْل: [فالامتثال] على الْوَجْه الَّذِي اقْتَضَاهُ} .
{ [وَإِن لم يكن كَذَلِك فِي الْكل، فَهُوَ مُوَافقَة] لَا مُتَابعَة} ، إِذْ الْمُوَافقَة: الْمُشَاركَة فِي الْأَمر وَإِن لم يكن لأَجله، فالموافقة أَعم من التأسي، فَكل تأس مُوَافقَة، وَلَيْسَ كل مُوَافقَة تأس، فقد يُوَافق وَلَا يتأسى، فَلَا بُد من اجْتِمَاعهمَا لحُصُول الْمَقْصُود، وَهُوَ الْمُتَابَعَة.
قَوْله: {الثَّانِيَة: لَا يفعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَكْرُوه ليبين بِهِ الْجَوَاز، بل فعله يَنْفِي

(3/1485)


الْكَرَاهَة، قَالَه القَاضِي وَغَيره} من أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَقد قَالَ القَاضِي: لَا يفعل الْمَكْرُوه ليبين بِهِ الْجَوَاز، لِأَنَّهُ يحصل فِيهِ التأسي.
قَالَ: { [وَمرَاده] : وَلَا معَارض لَهُ، وَإِلَّا فقد يفعل} غَالِبا {شَيْئا ثمَّ يفعل خِلَافه لبَيَان الْجَوَاز، وَهُوَ كثير عندنَا} وَعند أَرْبَاب الْمذَاهب { [كَقَوْلِهِم فِي ترك] الْوضُوء مَعَ [الْجَنَابَة] لنوم [أَو أكل أَو معاودة] وَطْء} : تَركه لبَيَان الْجَوَاز، وَفعله غَالِبا للفضيلة ... ... ... ... ... ... ...

(3/1486)


فارغة

(3/1487)


{وتشبيكه [فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فِي الْمَسْجِد] ، لَا يَنْفِي الْكَرَاهَة لِأَنَّهُ نَادِر، و [قد] حمل الْحَنَفِيَّة وضوءه بسؤر الهر [لبَيَان] الْجَوَاز مَعَ الْكَرَاهَة} .
ثمَّ التأسي وَالْوُجُوب بِالسَّمْعِ لَا بِالْعقلِ، خلافًا لبَعض الْأُصُولِيِّينَ) .

(3/1488)


وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: (لَا يَقع الْمَكْرُوه من الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم السَّلَام -؛ لِأَن التأسي بهم مَطْلُوب، فَيلْزم أَن يتأسى بهم فِيهِ، فَيكون جَائِزا.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُم أكمل الْخلق، وَلَهُم أَعلَى الدَّرَجَات، فَلَا يلائم أَن يَقع مِنْهُم مَا نهى الله عَنهُ، وَلَو نهي تَنْزِيه، فَإِن الشَّيْء الحقير من الْكَبِير أَمر عَظِيم.
ويقرر ذَلِك بِأَمْر آخر، وَهُوَ: أَنه لَا يتَصَوَّر أَنه يَقع مِنْهُم ذَلِك مَعَ كَونه مَكْرُوها.
قَالَ ابْن الرّفْعَة: (الشَّيْء قد يكون مَكْرُوها، ويفعله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبَيَان الْجَوَاز، وَيكون أفضل فِي حَقه) .
وَخلاف الأولى كالمكروه، وَإِن لم يتَعَرَّضُوا لَهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي وضوء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرّة ومرتين: (قَالَ الْعلمَاء: إِن

(3/1489)


ذَلِك كَانَ أفضل فِي حَقه من التَّثْلِيث لبَيَان التشريع) .
قلت: وَمَا قَرّرته أولى من هَذَا، لِأَنَّهُ لم يتَعَيَّن بَيَان الْجَوَاز فِي الْفِعْل، فَفِي القَوْل مَا يُغني عَنهُ، وَفِي الْتِزَام أَن يكون للْفِعْل جهتان، من جِهَة التشريع يكون فَاضلا، وَمن جِهَة أَنه مَنْهِيّ عَنهُ يكون مَكْرُوها، وَهَذَا أَجود من قَول بَعضهم: إِن الْمَكْرُوه لَا يَقع مِنْهُم لندرته، لِأَن وُقُوعه من آحَاد النَّاس نَادِر، فَكيف من خَواص الْخلق، فَفِيهِ الْتِزَام أَنه يَقع) انْتهى.
وَمرَاده بالْكلَام الْأَخير من قَول بَعضهم: التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة.
تَنْبِيه: تلخص مِمَّا تقدم: أَن أَفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - محصورة فِي الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب، وَأما الْمحرم فَلَا يَفْعَله الْبَتَّةَ، وَاخْتلف فِي الْمَكْرُوه، وَالصَّحِيح: أَنه لَا يَفْعَله كَمَا قَالَه من أَصْحَابنَا القَاضِي وَغَيره، أَو يَفْعَله لبَيَان الْجَوَاز للمعارض، كَمَا قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره، أَو يَفْعَله نَادرا كَمَا قَالَ جمَاعَة، كَمَا تقدم ذَلِك كُله.

(3/1490)


(قَوْله: {فصل} )

{إِذا سكت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن إِنْكَار [فعل أَو قَول] ، بِحَضْرَتِهِ، أَو زَمَنه [عَالما بِهِ] ، دلّ على جَوَازه [حَتَّى لغيره فِي الْأَصَح] ، وَإِن سبق تَحْرِيمه فنسخ} ؛ لِئَلَّا يكون سُكُوته محرما، وَلِأَن فِيهِ تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، لإيهام الْجَوَاز والنسخ، ولاسيما إِن استبشر بِهِ.
وَلذَلِك احْتج الإِمَام أَحْمد وَالْإِمَام الشَّافِعِي فِي إِثْبَات النّسَب بالقيافة بِحَدِيث عَائِشَة: " أَن مجزز المدلجي رأى زيد بن

(3/1491)


حَارِثَة وَابْنه أُسَامَة، فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَقْدَام بَعْضهَا من بعض، فسُر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك وَأَعْجَبهُ "، مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَضعف ابْن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي هَذِه الْحجَّة، لِأَن ترك إِنْكَاره لموافقته الْحق، وسُر لإلزام من طعن فِي نسب أُسَامَة، لما يلْزم على اعْتِقَاده فِي إِثْبَات النّسَب بالقافة.
ورد: بِأَن مُوَافقَة الْحق لَا تجوز ترك إِنْكَار طَرِيق مُنكر، لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه حق، وَلَا يرْتَفع إِلْزَامه بالإنكار، لِأَنَّهُ ألزم باعتقاده وَإِن أنكرهُ ملزمه.
تَنْبِيه: لم يُقيد الْمَسْأَلَة بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ، كَمَا ذكره ابْن

(3/1492)


الْحَاجِب وَغَيره، إِذْ لَا حَاجَة إِلَيْهِ؛ لِأَن من خَصَائِصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن وجوب إِنْكَاره الْمُنكر لَا يسْقط عَنهُ بالخوف على نَفسه، وَإِن كَانَ ذَلِك إِنَّمَا هُوَ لعدم تحقق خَوفه، بعد إِخْبَار الله تَعَالَى عَنهُ بعصمته من النَّاس.
وَقَوْلنَا: (حَتَّى لغيره فِي الْأَصَح) .
أَعنِي: أَن الْجَوَاز لَا يخْتَص بالفاعل الَّذِي سكت عَنهُ، بل يتَعَدَّى إِلَى غَيره من النَّاس عِنْد الْمُعظم؛ لِأَن الأَصْل: اسْتِوَاء الْمُكَلّفين فِي الْأَحْكَام.
وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو بكر الباقلاني، فَقَالَ: (لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره، فَإِن التَّقْرِير لَا صِيغَة لَهُ) انْتهى.
وَمحل هَذِه الْأَحْكَام فِي غير الْكَافِر، وَلذَلِك قُلْنَا: (إِلَّا من كَافِر فِيمَا يَعْتَقِدهُ) : كذهابه إِلَى كَنِيسَة وَنَحْوهَا، فَإِنَّهُ لَا أثر لَهُ اتِّفَاقًا، حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره.

(3/1493)


وَقيل: (لَا يدل السُّكُوت على الْجَوَاز، فِي حق من يغريه الْإِنْكَار على الْفِعْل، وَلَا يجب الْإِنْكَار عَلَيْهِ) ، وَحَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَن الْمُعْتَزلَة، وَالأَصَح: وجوب الْإِنْكَار، ليزول توهم الْإِبَاحَة.
وَقيل: (لَا يدل السُّكُوت على الْجَوَاز فِي حق الْمُنَافِق) ، قَالَه أَبُو الْمَعَالِي.

(3/1494)


(قَوْله: {فصل} )

{فعلاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[وَلَو اخْتلفَا] ، وَأمكن اجْتِمَاعهمَا كَصَوْم وَصَلَاة، أَو لَا، لَكِن لَا [يتناقض] حكماهما، فَلَا تعَارض، وَكَذَا إِن تنَاقض، كصومه فِي وَقت وَأكله فِي مثله، لَكِن: إِن دلّ دَلِيل على وجوب تكَرر [الأول لَهُ، أَو لأمته] ، أَو أقرّ من أكل فِي مثله، فنسخ} .
الصَّادِر مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمَّا قَول، أَو فعل، أَو هما.
فَإِذا انْفَرد أَحدهمَا فَلَا كَلَام.
وَرُبمَا تعَارض دليلان من ذَلِك؛ إِمَّا قَولَانِ، أَو فعلان، أَو قَول وَفعل.

(3/1495)


أما الْقَوْلَانِ فَسَيَأْتِي حكم تعارضهما فِي التعادل والتراجيح.
وَأما تعَارض الْفِعْلَيْنِ، أَو الْفِعْل وَالْقَوْل، فمذكوران هُنَا.
فَنَقُول: فعلاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن تماثلا: كَفعل صَلَاة، ثمَّ فعلهَا مرّة أُخْرَى فِي [وَقت] آخر، أَو اخْتلفَا وَأمكن اجْتِمَاعهمَا: كَفعل صَوْم وَفعل صَلَاة، أَو لَا يُمكن اجْتِمَاعهمَا لَكِن لَا يتناقض حكماهما، فَلَا تعَارض بَينهمَا؛ لِإِمْكَان الْجمع، وَحَيْثُ أمكن الْجمع امْتنع التَّعَارُض، وَكَذَا إِن تنَاقض: كصومه فِي وَقت بِعَيْنِه وَأكله فِي مثله، لِإِمْكَان كَونه وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا أَو مُبَاحا فِي ذَلِك الْوَقْت، وَفِي الْوَقْت الآخر بِخِلَافِهِ، من غير أَن يكون أَحدهمَا رَافعا أَو مُبْطلًا لحكم الآخر، إِذْ لَا عُمُوم للْفِعْل.
لَكِن إِن دلّ دَلِيل على وجوب تكَرر صَوْمه عَلَيْهِ، أَو وجوب التأسي بِهِ فِي مثل ذَلِك الْوَقْت، فتلبس بضده: كَالْأَكْلِ مَعَ قدرته على الصَّوْم، دلّ أكله على نسخ دَلِيل تكْرَار الصَّوْم فِي حَقه، لَا نسخ حكم الصَّوْم السَّابِق، لعدم اقتضائه للتكرار، وَرفع [حكم] وجد محَال.
أَو أقرّ من أكل فِي مثله من الْأمة، فنسخ لدَلِيل تَعْمِيم الصَّوْم على الْأمة فِي حق ذَلِك الشَّخْص، أَو تَخْصِيصه، وَقد يُطلق النّسخ والتخصيص على الْمَعْنى، بِمَعْنى زَوَال التَّعَبُّد، مجَازًا.
قَوْله: {وَقيل فِي فَعَلَيهِ الْمُخْتَلِفين: الثَّانِي نَاسخ، وَإِلَّا تَعَارضا، وَمَال

(3/1496)


إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وَقَالَ الباقلاني وَأَبُو الْمَعَالِي [بجوازهما] مَا لم يتَضَمَّن أَحدهمَا حظرا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد فِي مسَائِل، [وآخرهما أفضل] } .
هَذِه طَريقَة ذكرهَا الْمجد فِي " المسودة "، فَقَالَ: (صَار كثير من الْعلمَاء إِلَى الْعَمَل بآخر الْفِعْلَيْنِ كالقولين، وَجعله نَاسِخا بِمَا يَقْتَضِيهِ لَو انْفَرد، وَجعل الأول مَنْسُوخا بِهِ.
قَالَ الْجُوَيْنِيّ: وَللشَّافِعِيّ صغو إِلَى ذَلِك، وَأَشَارَ إِلَى أَنه قدم حَدِيث [ابْن خَوات] ، على حَدِيث ابْن عمر فِي الْخَوْف لذَلِك، وَأَنه على هَذَا: مَتى لم يعلم التَّارِيخ تَعَارضا، وَعدل إِلَى الْقيَاس وَغَيره من الترجيحات.

(3/1497)


ثمَّ قَالَ الْجُوَيْنِيّ: (وَذهب الباقلاني: إِلَى أَن تعدد الْفِعْل مَعَ التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، يُفِيد جَوَاز الْأَمريْنِ، إِذا لم يكن فِي أَحدهمَا مَا يتَضَمَّن حظرا) .
وَرجح الْجُوَيْنِيّ ذَلِك، وَهُوَ ظَاهر كَلَام إمامنا فِي مسَائِل كَثِيرَة.
نعم؛ يكون آخر [الْفِعْل] أولى فِي الْفَضِيلَة وَالِاخْتِيَار، وعَلى هَذَا يحمل قَوْلهم: كُنَّا نَأْخُذ بالأحدث فالأحدث من فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِهَذَا جَاءَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس فِي الصَّوْم فِي السّفر، مَعَ أَنه قد صَحَّ عَنهُ التَّخْيِير فِي الْأَمريْنِ) ، انْتهى كَلَام الْمجد.

(3/1498)


(قَوْله: {فصل} )

إِذا تعَارض قَوْله وَفعله ... إِلَى آخِره.
مَا تقدم فَهُوَ فِي تعَارض فَعَلَيهِ، وَمَا ذكر هُنَا فَهُوَ فِي تعَارض قَوْله وَفعله، وَيَأْتِي فِي التَّرْجِيح إِذا تعَارض قولاه.
[وَاعْلَم أَنه إِذا] صدر مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَول وَفعل كل مِنْهُمَا يَقْتَضِي خلاف مَا يَقْتَضِيهِ الآخر، فَفِيهِ [اثْنَتَانِ] وَسَبْعُونَ مَسْأَلَة.

(3/1499)


وَوجه الْحصْر فِي ذَلِك: أَنه لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يدل دَلِيل على التّكْرَار والتأسي، أَو لَا يدل على شَيْء مِنْهُمَا، أَو يدل على الأول - وَهُوَ التكرر - دون الثَّانِي - وَهُوَ التأسي -، أَو بِالْعَكْسِ، فَيدل على التأسي دون التكرر، فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقسَام، كل [مِنْهَا] يتنوع إِلَى ثَمَانِيَة عشر نوعا، فَيصير الْمَجْمُوع اثْنَيْنِ وَسبعين، لِأَن كل وَاحِد من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون القَوْل [خَاصّا بِهِ، أَو بِنَا، أَو عَاما لَهُ وَلنَا، وعَلى كل تَقْدِير من ذَلِك لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون القَوْل] مقدما على الْفِعْل، أَو مُتَأَخِّرًا عَنهُ، أَو مَجْهُول التَّارِيخ، فَهَذِهِ تِسْعَة أَنْوَاع، من ضرب ثَلَاثَة فِي ثَلَاثَة، وعَلى كل تَقْدِير مِنْهَا لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يظْهر أَثَره فِي حَقه، أَو حَقنا، صَارَت ثَمَانِيَة عشرَة، مَضْرُوبَة فِي الْأَرْبَعَة الْأَقْسَام، كَمَا تقدم.
إِذا عرف ذَلِك؛ فَقَوله: {إِذا تعَارض [قَوْله وَفعله] [وَلم يدل دَلِيل على تكرره فِي حَقه، وَلَا على التأسي] } ، فَهَذَا هُوَ الْقسم الأول، فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا وَتَأَخر عَن الْفِعْل: كَفِعْلِهِ شَيْئا فِي وَقت، ثمَّ يَقُول بعد

(3/1500)


ذَلِك الْفِعْل على الْفَوْر، أَو متراخيا: لَا يجوز لي مثل هَذَا الْفِعْل فِي مثل هَذَا الْوَقْت، فَلَا تعَارض بَينهمَا أصلا فِي حَقه، وَلَا فِي حق أمته؛ لِإِمْكَان الْجمع، لعدم تكْرَار الْفِعْل، وَلم يكن رَافعا لحكم فِي الْمَاضِي وَلَا الْمُسْتَقْبل.
أما فِي حَقه؛ فَلِأَن القَوْل لم يتَنَاوَل الزَّمَان الَّذِي وَقع فِيهِ الْفِعْل، وَالْفِعْل - أَيْضا - لم يتَنَاوَل الزَّمَان الَّذِي تعلق بِهِ القَوْل، فَلَا يكون أَحدهمَا رَافعا لحكم الآخر.
وَأما فِي حق الْأمة، فَظَاهر؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لوَاحِد من القَوْل وَالْفِعْل تعلق بالأمة.
وَقَوله: {وَإِن تقدم} .
أَي: { [القَوْل] على الْفِعْل، كَقَوْلِه: يجب عَليّ كَذَا وَقت كَذَا، { [ويتلبس] [بضده فِيهِ] ، فالفعل نَاسخ} لحكمه، { [عِنْد من جوز النّسخ قبل التَّمَكُّن] } من الْفِعْل، كَمَا هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، على مَا يَأْتِي فِي النّسخ.

(3/1501)


وَمن لم يجوزه كالمعتزلة مَنعه، وَقَالَ: لَا يتَصَوَّر صُدُور مثل هَذَا الْفِعْل بعد القَوْل إِلَّا على سَبِيل الْمعْصِيَة، لِأَن النّسخ قبل التَّمَكُّن [غير جَائِز] عِنْدهم، وَيَأْتِي الْخلاف فِي ذَلِك فِي النّسخ.
وَإِن كَانَ الْفِعْل بعد التَّمَكُّن من مُقْتَضى القَوْل، لم يكن نَاسِخا لِلْقَوْلِ، إِلَّا أَن يدل دَلِيل على وجوب تكَرر مُقْتَضى القَوْل، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون الْفِعْل نَاسِخا، لتكرر مُقْتَضى القَوْل، ذكره الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَلم يذكرهُ ابْن الْحَاجِب، وَلَا ابْن مُفْلِح، وتابعتهما على ذَلِك.
قَوْله: {وَإِن جهل، [فكالجهل الْآتِي] } .
أَي: إِذا لم يعلم هَل القَوْل مقدم على الْفِعْل، أَو عَكسه؟ بل جهلنا ذَلِك، فَحكمه حكم الْجَهْل الْآتِي بعد ذَلِك، وَهُوَ قَوْلنَا: (فَإِن جهل فَلَا تعَارض فِي حَقنا، وَفِي حَقه الْخلاف) .
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا وَجَهل التَّارِيخ، فَحكمه حكم الْقسم الَّذِي دلّ على وجوب التّكْرَار والتأسي وَالْقَوْل خَاص بِهِ وَجَهل التَّارِيخ) انْتهى.
تَنْبِيه: تقدم ثَلَاث مسَائِل فِيمَا إِذا لم يدل دَلِيل على تكرره فِي حَقه،

(3/1502)


وَلَا على التأسي بِهِ، وَالْقَوْل خَاص بِهِ: إِذا تقدم القَوْل على الْفِعْل، وَعَكسه، وَالْجهل.
قَوْله: {وَإِن اخْتصَّ القَوْل بِنَا، [فَلَا تعَارض مُطلقًا] } .
أَعنِي: سَوَاء تقدم الْفِعْل، أَو تَأَخّر، لعدم اجْتِمَاع القَوْل وَالْفِعْل فِي مَحل وَاحِد، لِأَن الْفِعْل خَاص بِهِ، إِذْ لَا دَلِيل على وجوب التأسي بِهِ، وَالْقَوْل خَاص بِنَا، فَلم يتحد مَحلهمَا.
قَوْله: { [أَو عَم] } .
أَعنِي: عَم القَوْل لنا وَله، فَتَارَة يتَقَدَّم الْفِعْل، وَتارَة يتَقَدَّم القَوْل، وَتارَة يجهل.
فَإِن تقدم فَلَا تعَارض فِي حَقه كَمَا سبق، وَلَا فِي حَقنا، لِأَن فعله لم يتَعَلَّق بِنَا.
قَوْله: {وَإِن تقدم القَوْل، [فكالقول] الْخَاص بِهِ} .
فَهُوَ فِي حَقه كَمَا سبق فِي القَوْل الْخَاص بِهِ، {وَلَا تعَارض فِي حَقنا} ؛ لِأَنَّهُمَا لم يتواردا علينا.
قَوْله: {فَإِن كَانَ الْعَام ظَاهرا فِيهِ، فالفعل تَخْصِيص} ، كَمَا سَيَأْتِي.

(3/1503)


قَوْله: {وَإِن دلّ [عَلَيْهِمَا] } .
أَي: دلّ على التكرر فِي حَقه، وعَلى التأسي بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقسم الثَّانِي من الْأَرْبَعَة الْمُتَقَدّمَة، هُوَ عكس الأول.
فَإِذا دلّ الدَّلِيل على التكرر فِي حَقه، وعَلى وجوب تأسي الْأمة بِهِ، { [فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا] بِهِ [فَلَا تعَارض فِينَا] ، [سَوَاء تقدم القَوْل، أَو الْفِعْل] } ؛ لِأَن القَوْل لم يتناولهم.
{ [وَأما فِي حَقه؛ فالمتأخر نَاسخ] } ، لَكِن الْفِعْل ينْسَخ القَوْل الْمُتَقَدّم بعد التَّمَكُّن من الِامْتِثَال، وَقَبله فِيهِ الْخلاف، وَمُوجب للْفِعْل علينا.
قَوْله: { [وَإِن] جهل، فَلَا تعَارض [فِي حَقنا] } ؛ لِأَن القَوْل لم يعمنا.
{ [وَأما فِي حَقه، فَاخْتَارَ] [أَبُو الْخطاب] } فِي " التَّمْهِيد " { [و]

(3/1504)


ابْن حمدَان} فِي " الْمقنع " { [وجوب الْعَمَل] بالْقَوْل} ، لِأَن الْفِعْل يحْتَاج إِلَى القَوْل فِي بَيَان وَجه وُقُوعه.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (وَأما إِن لم يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر، فالتعلق بالْقَوْل) ، وَذكر الْقَوْلَيْنِ الآخرين وردهما.
{وَقيل} : يجب الْعَمَل {بِالْفِعْلِ} ؛ لِأَنَّهُ أقوى فِي الْبَيَان.
{ [وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب] } وَجَمَاعَة: {الْوَقْف} فِي الْمَسْأَلَة حَتَّى يتَبَيَّن التَّارِيخ؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل تقدم الْفِعْل على القَوْل، وَبِالْعَكْسِ، [وَلَا تَرْجِيح لتقدم أَحدهمَا على الآخر، فالقطع بِوُجُوب الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا على التَّعْيِين تحكم بِلَا دَلِيل، وَهُوَ بَاطِل] .
[ {و} قَالَ أَبُو الْخطاب - أَيْضا - {فِي التَّمْهِيد} - فِيمَا يرد بِهِ الْخَبَر: { (إِن ورد] خبر يُخَالف فعله، إِن لم يعمه فَلَا تعَارض، [وَإِن

(3/1505)


عَمه] تَعَارضا، [فتعمل بالتخصيص] ، ثمَّ التَّوَاتُر، ثمَّ التَّرْجِيح، ثمَّ الْوَقْف، [وَالله أعلم] ) } .
قَوْله: {وَإِن اخْتصَّ القَوْل بِنَا، [فَلَا تعَارض] [فِي حَقه]- عَلَيْهِ السَّلَام - سَوَاء تقدم القَوْل، أَو تَأَخّر، لعدم تنَاول القَوْل لَهُ.
[وَأما فِي حق الْأمة، إِن علم] [الْمُتَأَخر] } فَهُوَ {نَاسخ} ، سَوَاء كَانَ القَوْل مُتَقَدما وَالْفِعْل مُتَأَخِّرًا، أَو بِالْعَكْسِ، إِلَّا أَن يتَقَدَّم القَوْل على الْفِعْل، وَالْفِعْل بعد التَّمَكُّن من مُقْتَضى القَوْل، وَالْقَوْل لم يقتض التّكْرَار، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا مُعَارضَة فِي حَقنا - أَيْضا -، قَالَه الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ".
قَوْله: {فَإِن جهل} .
أَي: التَّارِيخ من تقدم القَوْل أَو الْفِعْل، { [فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة، وَهِي: الْعَمَل بالْقَوْل، أَو بِالْفِعْلِ، أَو الْوَقْف.

(3/1506)


{ [لَكِن اخْتَار] [ابْن الْحَاجِب و] ابْن قَاضِي الْجَبَل [وَغَيرهمَا] } . [الْعَمَل] } هُنَا {بالْقَوْل} .
وَاسْتدلَّ لهَذَا القَوْل بِوُجُوه.
أَحدهَا: أَن القَوْل أقوى دلَالَة من الْفِعْل؛ لِأَن القَوْل دلَالَته على الْوُجُوب وَغَيره بِلَا وَاسِطَة، لِأَن القَوْل وضع لذَلِك، بِخِلَاف الْفِعْل، فَإِنَّهُ لم يوضع لذَلِك.
الثَّانِي: أَن الْفِعْل مَخْصُوص بالمحسوس؛ لِأَنَّهُ لَا [ينبيء] عَن الْمَعْقُول، وَالْقَوْل يدل على الْمَعْقُول والمحسوس، فَيكون أَعم فَائِدَة، فَهُوَ أولى.
الثَّالِث: أَن القَوْل لم يخْتَلف فِي كَونه دَالا، وَالْفِعْل اخْتلف فِيهِ، والمتفق عَلَيْهِ أولى من الْمُخْتَلف فِيهِ.
الرَّابِع: أَن الْعَمَل بِالْفِعْلِ يبطل القَوْل بِالْكُلِّيَّةِ، أما فِي حَقه عَلَيْهِ السَّلَام: فلعدم تنَاول القَوْل لَهُ، وَأما فِي حق الْأمة: فلوجوب الْعَمَل بِالْفِعْلِ

(3/1507)


حِينَئِذٍ، وَالْعَمَل بالْقَوْل لَا يبطل الْفِعْل بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ يَنْفِي الْعَمَل بِالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَو [عَملنَا] بالْقَوْل أمكن الْجمع بَينهمَا من وَجه، وَلَو [عَملنَا] بِالْفِعْلِ لم يُمكن، وَالْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ وَلَو بِوَجْه أولى.
وَاسْتدلَّ لوُجُوب الْعَمَل بِالْفِعْلِ: أَن الْفِعْل أقوى دلَالَة من القَوْل؛ لِأَن الْفِعْل يتَبَيَّن بِهِ القَوْل، لِأَن مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، و " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، يدل على أَن فعله فِي الصَّلَاة ومناسك الْحَج مُبين لقَوْله: " صلوا "، و " خُذُوا ".
وَكَذَا خطوط الهندسة، تدل على أَن الْفِعْل مُبين لِلْقَوْلِ، فَيكون الْفِعْل أولى، وَلِهَذَا من بَالغ فِي تفهيم، أكد قَوْله بِإِشَارَة وَنَحْوهَا.
أُجِيب عَن ذَلِك: بِأَنَّهُ وَإِن كَانَ فِي الْفِعْل بَيَان، لَكِن الْبَيَان بالْقَوْل أَكثر، فَهُوَ أولى.
وَإِن سلم تساويهما فِي الْبَيَان، رجح جَانب القَوْل بِمَا ذكر من الْوُجُوه الْأَرْبَعَة.
{و} قَالَ { [أَبُو الْخطاب] [فِي التَّمْهِيد] : ( [إِذا تعَارض قَوْله

(3/1508)


وَفعله} من كل وَجه، فالمتأخر نَاسخ [فِيهِ وَفينَا] ، فَإِن جهل عمل بالْقَوْل} ) . انْتهى.
فَإِن قيل: لم لَا يُصَار إِلَى الْوَقْف هُنَا، كَمَا فِي حَقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا سبق؟
قيل: لِأَن القَوْل بالتوقف ضَعِيف هُنَا، لأَنا متعبدون بِالْعَمَلِ، والتوقف فِيهِ إبِْطَال الْعَمَل، وَنفي للتعبد بِهِ، بِخِلَاف الَّذِي قبله، وَهُوَ التَّوَقُّف فِي حق الرَّسُول، لعدم تعبدنا بِهِ.
قَوْله: {وَإِن عَم القَوْل، فالمتأخر نَاسخ [فِي حَقه وحقنا] } ، لوُجُوب تكْرَار الْفِعْل فِي حَقه، ولوجوب التأسي فِي حَقنا، قَالَه الْأَصْفَهَانِي وَغَيره.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَالْمرَاد: إِن اقْتضى القَوْل التّكْرَار، فالفعل نَاسخ للتكرار، إِلَّا فَلَا مُعَارضَة، وَذكره بَعضهم) انْتهى.
وَنحن أبرزنا المُرَاد.

(3/1509)


وَإِن تَأَخّر الْفِعْل، فاشتغل بِهِ قبل التَّمَكُّن من الْإِتْيَان بِمُقْتَضى القَوْل، نسخ [الْفِعْل القَوْل] عندنَا، إِلَّا أَن يتَنَاوَل القَوْل لَهُ ظَاهرا، فالفعل حِينَئِذٍ [مُخَصص] لِلْقَوْلِ.
وَعند الْمُعْتَزلَة: لَا يتَصَوَّر هَذَا الْفِعْل إِلَّا على سَبِيل الْمعْصِيَة، كَمَا تقدم عَنْهُم.
وَإِن اشْتغل بِالْفِعْلِ [بعد] التَّمَكُّن من الْإِتْيَان، فَإِن لم يقتض القَوْل التّكْرَار، فَلَا مُعَارضَة، لَا فِي حَقه، وَلَا فِي حَقنا، وَإِن اقْتضى القَوْل التّكْرَار، فالفعل نَاسخ للتكرار، قَالَه الْأَصْفَهَانِي، وَلم نذكرهُ فِي الْمَتْن، وتابعنا فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح، وَهُوَ تَابع ابْن الْحَاجِب، وَلم يفصل، وَحكم بِأَن الْمُتَأَخر نَاسخ للمتقدم مُطلقًا، ولعلهم اكتفوا بِمَا تقدم فِي أول الْمَسْأَلَة.
قَوْله: { [فَإِن] جهل فالثلاثة} .
أَي: إِن جهل التَّارِيخ، فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة، وَهِي: الْوَقْف، أَو الْعَمَل بالْقَوْل، أَو الْفِعْل، وَقد علم الْمُرَجح من ذَلِك فِيمَا تقدم.

(3/1510)


قَوْله: {وَإِن دلّ} أَي: الدَّلِيل {على [تكرره فِي حَقه] ، لَا [على التأسي بِهِ فِيهِ] } ، وَهَذَا الْقسم الثَّالِث.
{ [فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا بِنَا، فَلَا مُعَارضَة] } أصلا، لَا فِي حَقه، وَلَا فِي حق الْأمة، سَوَاء تقدم الْفِعْل، أَو القَوْل، لعدم تواردهما على مَحل وَاحِد، كَمَا تقدم نَظِيره.
قَوْله: {أَو بِهِ، أَو عَم} .
أَعنِي: إِذا اخْتصَّ القَوْل بِهِ فَقَط، أَو [عَم] ، فشمله وَشَمل الْأمة، {فَلَا [مُعَارضَة] [فِينَا] } - أَي: فِي الْأمة - تقدم الْفِعْل، أَو تَأَخّر، لعدم تنَاول الْفِعْل لَهُم.
{و} أما { [فِي حَقه] } - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - { [فالمتأخر] نَاسخ} ، إِن علم التَّارِيخ.
قَوْله: {فَإِن جهل} .
أَي: التَّارِيخ، فِي حَقه { [فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة.

(3/1511)


قَوْله: {وَإِن دلّ على [عَكسه] } .
أَي: دلّ الدَّلِيل على التأسي بِهِ، لَا على تكَرر الْفِعْل { [فِي حَقه] } ، وَهَذَا هُوَ الْقسم الرَّابِع.
{ [فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا بِهِ] ، وَتَأَخر} عَن الْفِعْل {فَلَا [مُعَارضَة] } .
أما فِي حَقه: فلعدم وجوب تكَرر الْفِعْل.
وَأما فِي حق الْأمة: فلعدم توارد القَوْل وَالْفِعْل على مَحل وَاحِد.
قَوْله: {وَإِن تقدم} .
أَي: القَوْل على الْفِعْل، {فالفعل نَاسخ فِي حَقه} ، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَإِن تقدم القَوْل على الْفِعْل، فالفعل نَاسخ لِلْقَوْلِ قبل التَّمَكُّن من الْإِتْيَان بِمُقْتَضى القَوْل، وَفِيه الْخلاف الْمَذْكُور) انْتهى.
قَوْله: {فَإِن جهل، فالثلاثة} .

(3/1512)


أَي: إِن جهل التَّارِيخ، فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّمَة، وَالْمُخْتَار لِابْنِ الْحَاجِب وَغَيره: الْوَقْف.
قَوْله: {وَإِن اخْتصَّ} القَوْل {بِنَا، [فَلَا تعَارض] [فِي حَقه] } ، تقدم القَوْل، أَو تَأَخّر، لعدم [تواردهما] على مَحل وَاحِد.
{ [وَأما فِي حق الْأمة] ، فالمتأخر نَاسخ} ، سَوَاء كَانَ قولا، أَو فعلا.
{فَإِن جهل [التَّارِيخ، فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة، وَالْمُخْتَار: الْعَمَل بالْقَوْل عِنْد ابْن الْحَاجِب، وَمن تَابعه: كَابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {وَإِن عَم، وَتقدم الْفِعْل، فَلَا [مُعَارضَة] [فِي حَقه] } - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعدم وجوب تكَرر الْفِعْل.
{ [وَأما فِي حق الْأمة، فَالْقَوْل الْمُتَأَخر] نَاسخ} للْفِعْل [قبل]

(3/1513)


وُقُوع التأسي بِهِ، وَبعده نَاسخ للتكرار فِي حَقهم، إِن دلّ دَلِيل على وجوب التّكْرَار فِي حَقهم، قَالَه الْأَصْفَهَانِي.
قَوْله: { [وَإِن] تقدم القَوْل، فالفعل نَاسخ} لِلْقَوْلِ فِي حَقه قبل التَّمَكُّن من الْإِتْيَان بِمُقْتَضى القَوْل، إِلَّا أَن يتَنَاوَل الْعُمُوم لَهُ ظَاهرا، فَإِنَّهُ يكون الْفِعْل تَخْصِيصًا لِلْقَوْلِ.
وَفِي حق الْأمة: إِن كَانَ الدَّلِيل على وجوب التأسي مَخْصُوصًا بذلك الْفِعْل فنسخ، وَإِلَّا فتخصيص.
قَوْله: {وَبعد التَّمَكُّن من الْعَمَل [بِمُقْتَضى القَوْل، لَا مُعَارضَة] ، [لَا فِي حَقه، وَلَا فِي حق الْأمة] ، إِلَّا أَن يَقْتَضِي القَوْل التّكْرَار، فالفعل نَاسخ [لَهُ] } ، وَهِي من تَتِمَّة الَّتِي قبلهَا.
{فَإِن جهل، [فَفِيهِ الْمذَاهب الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَاعْلَم أَن فِي بعض الْأَقْسَام تَفْصِيلًا، وتختلف فِيهِ الْأَحْكَام، وَابْن الْحَاجِب أهمله.

(3/1514)


- قَالَ -: وَنحن تعرضنا لبَعض مِنْهَا، وأعرضنا عَن الْبَعْض الآخر، اعْتِمَادًا على اسْتِخْرَاج المحصل الفطن أَحْكَامه بِقُوَّة الْبَاقِي) انْتهى.
وَنحن تابعنا على ذَلِك.
قَوْله: {فَائِدَة: فعل [الصَّحَابِيّ] مَذْهَب لَهُ فِي الْأَصَح} .
إِذا فعل الصَّحَابِيّ فعلا، فَهَل يكون ذَلِك الْفِعْل مذهبا لَهُ؟ فِيهِ وَجْهَان.
لهَذِهِ الْمَسْأَلَة تعلق بِمَا قبلهَا من الْأَفْعَال.
قتل بعض أَصْحَابنَا: (فعل الصَّحَابِيّ هَل هُوَ مَذْهَب لَهُ؟
فِيهِ وَجْهَان، وَفِي الِاحْتِجَاج بِهِ نظر، وَاحْتج القَاضِي فِي " الْجَامِع الْكَبِير " فِي قَضَاء الْمغمى عَلَيْهِ للصَّلَاة بِفعل عمار وَغَيره، وَقَالَ: (فعل الصَّحَابَة إِذا خرج مخرج الْقرْبَة يَقْتَضِي الْوُجُوب، كَفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَأتم السَّلَام -) .

(3/1515)


وَقد قَالَ قوم: (لَو تصور اتِّفَاق أهل الْإِجْمَاع على عمل، لَا قَول مِنْهُم فِيهِ، كَانَ كَفعل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لثُبُوت الْعِصْمَة) .
وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي، خلافًا لِابْنِ الباقلاني.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (الأول قَول الْجُمْهُور، حَتَّى أحالوا الْخَطَأ مِنْهُم فِيهِ، إِذا لم يشترطوا انْقِرَاض الْعَصْر) انْتهى.
قلت: تَأتي هَذِه الْمَسْأَلَة قَرِيبا فِي أول الْإِجْمَاع، وَالله أعلم.

(3/1516)


فارغة

(3/1517)