التحبير شرح التحرير في أصول الفقه بَاب الْإِجْمَاع
(4/1520)
قَوْله: {بَاب الْإِجْمَاع}
{لُغَة: الْعَزْم والاتفاق} .
قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَجْمعُوا أَمركُم} [يُونُس: 71] ،
أَي: اعزموا.
وَيصِح إِطْلَاقه على الْوَاحِد، يُقَال: أجمع فلَان على
كَذَا، أَي: عزم عَلَيْهِ، وَيُقَال: أجمع الْقَوْم على كَذَا،
أَي: اتَّفقُوا عَلَيْهِ.
فَكل أَمر من الْأُمُور اتّفقت عَلَيْهِ طَائِفَة فَهُوَ
إِجْمَاع لُغَة. وأجمعت الْمسير وَالْأَمر، وأجمعت عَلَيْهِ
يتَعَدَّى بِنَفسِهِ وبالحرف: عزمت عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيث: " من لم يجمع الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام
لَهُ "، أَي: من لم يعزم عَلَيْهِ فينويه.
(4/1521)
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} ، أَي: الْإِجْمَاع
فِي اصْطِلَاح عُلَمَاء الشَّرِيعَة: {اتِّفَاق مجتهدي الْأمة
فِي عصر على أَمر، وَلَو فعلا، بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -} .
فَقَوله: {اتِّفَاق} : احْتِرَاز من الِاخْتِلَاف، فَلَا يكون
إِجْمَاعًا مَعَ الِاخْتِلَاف وَسَيَأْتِي الْخلاف فِيمَا إِذا
خَالف وَاحِد، أَو اثْنَان، أَو أَكثر محرراً مفصلا.
وَالْمرَاد بالِاتِّفَاقِ: اتِّحَاد الِاعْتِقَاد، فَيعم
الْأَقْوَال، وَالْأَفْعَال وَالسُّكُوت والتقرير، وَسَيَأْتِي
حكم الْإِجْمَاع السكوتي، والفعلي.
وَقَوله: {مجتهدي الْأمة} : احْتِرَاز من غير الْمُجْتَهد
فَلَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع على الصَّحِيح، وَتَأْتِي
قَرِيبا أَحْكَام الْعَاميّ، وَمن لم يكمل شُرُوط
الِاجْتِهَاد، من أصولي، وفروعي، ونحوي، وَغَيرهم فِي
الْأَحْكَام.
وَقَوله: {الْأمة} : احْتِرَاز من غير هَذِه الْأمة، وَفِي غير
هَذِه الْأمة من سَائِر الْأُمَم خلاف فِي إِجْمَاعهم، يَأْتِي
محرراً إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(4/1522)
وَقَوله: {فِي عصر} : يَشْمَل أَي عصر
كَانَ، احْتِرَاز عَن قَول من قَالَ: إِن الْإِجْمَاع مَخْصُوص
بالصحابة على مَا يَأْتِي ذكر الْخلاف فِيهِ.
وَقَوله: {على أَمر} : يعم جَمِيع الْأُمُور من الْفِعْل،
وَالْأَمر الدنيوي، واللغوي، وَغَيرهمَا، وَيَأْتِي لَك علمه
فِي موَاضعه مفصلا.
وَقَوله: {وَلَو فعلا} إِنَّمَا أبرزته وَإِن كَانَ دَاخِلا
فِي قَوْله: {على أَمر} ؛ للإيضاح وَالْبَيَان والتأكيد.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا اتَّفقُوا على فعل
فَعَلُوهُ، أَو فعل الْبَعْض، وَسكت الْبَعْض مَعَ علمهمْ، هَل
يكون إِجْمَاعًا أم لَا؟
والأرجح أَن ينْعَقد بِهِ الْإِجْمَاع لعصمة الْأمة، فَيكون
كالقول الْمجمع عَلَيْهِ، وكفعل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب من أَصْحَابنَا، وَقطع بِهِ أَبُو
إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ فِي "
المنخول " وَصرح بِهِ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فِي "
الْمُعْتَمد "، وَتَبعهُ فِي " الْمَحْصُول ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ قَول الْجُمْهُور، ... ... ...
... ... ... .
(4/1523)
حَتَّى أحالوا الْخَطَأ مِنْهُم إِذا لم
يشترطوا انْقِرَاض الْعَصْر.
وَقيل: لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع بِهِ، وَنَقله أَبُو
الْمَعَالِي عَن ابْن الباقلاني، بل كَون ذَلِك فِي وَقت
وَاحِد رُبمَا لَا يتَصَوَّر.
وَيتَفَرَّع على الْمَسْأَلَة إِذا فعلوا فعلا قربَة، وَلَكِن
لَا يعلم هَل فَعَلُوهُ وَاجِبا، أَو مَنْدُوبًا؟
فَمُقْتَضى الْقيَاس أَنه كَفعل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأَنا أمرنَا باتبَاعهمْ كم أمرنَا
باتباعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي "
التَّمْهِيد ": الْإِجْمَاع اتِّفَاق عُلَمَاء الْعَصْر على
حكم حَادِثَة.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " فِي مَكَان آخر: على أَمر، فعل
أَو ترك.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " كَمَا قَالَا إِلَّا أَنه
أبدل عُلَمَاء بفقهاء،
(4/1524)
فَقَالَ: هُوَ اتِّفَاق فُقَهَاء الْعَصْر
على حكم حَادِثَة.
قَالَ: وَقَالَ قوم: عُلَمَاء، وَذَلِكَ حد بالمشترك؛ لِأَن
اتِّفَاق النُّحَاة والمفسرين غير حجَّة، وهم عُلَمَاء، وَلَا
يعْتد بهم فِي حَادِثَة.
وَهَذَا فِيهِ خلاف يَأْتِي قَرِيبا.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": اتِّفَاق عُلَمَاء
الْعَصْر على حكم شَرْعِي.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها
": على أَمر ديني، فَلَا يَشْمَل الْأَمر الدنيوي، واللغوي
وَنَحْوهمَا على مَا يَأْتِي آخر الْإِجْمَاع مفصلا، وَكَذَا
قَالَ الْغَزالِيّ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُرَاده بقوله: (أمة مُحَمَّد -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) ، فَلَا يرد عَلَيْهِ
أَنه لَا يُوجد اتِّفَاقهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَأَنه
لَا يطرد بِتَقْدِير عدم مُجْتَهد فِي عصر، اتّفقت عوامه على
أَمر ديني، لكنه لَا ينعكس بِتَقْدِير اتِّفَاق الْمُجْتَهدين
على أَمر عَقْلِي، أَو عرفي، إِلَّا أَن يكون كَمَا قيل:
لَيْسَ إِجْمَاعًا عِنْده. انْتهى.
قَوْله: {وَأنكر النظام وَبَعض الرافضة ثُبُوته} .
(4/1525)
وَرُوِيَ عَن أَحْمد، وَحمل على الْوَرع،
أَو على غير عَالم بِالْخِلَافِ، أَو على تعذر معرفَة الْكل،
أَو على الْعَام النطقي أَو بعده، أَو غير الصَّحَابَة} .
تنوعت أَقْوَال الْأَصْحَاب وَغَيرهم فِي حمل كَلَام الإِمَام
أَحْمد فِي كَونه أنكر الْإِجْمَاع.
وَأما النظام فَلهُ قَولَانِ فِي ثُبُوته، وَالْأَشْهر عَنهُ
إِنْكَاره.
وَأما الإِمَام أَحْمد فَقَالَ فِي رِوَايَة عبد الله: من
ادّعى الْإِجْمَاع فقد كذب، لَعَلَّ النَّاس اخْتلفُوا. هَذِه
دَعْوَى بشر المريسي والأصم.
(4/1526)
وَفِي رِوَايَة الْمَرْوذِيّ: كَيفَ يجوز
أَن يَقُول: أَجمعُوا، إِذا سَمِعْتُمْ يَقُولُونَ: أَجمعُوا
فَاتَّهمهُمْ، وَإِنَّمَا وضع هَذَا لوضع الْأَخْبَار،
وَقَالُوا: الْأَخْبَار لَا تجب بهَا حجَّة، وَقَالُوا:
القَوْل بِالْإِجْمَاع، وَإِن ذَلِك قَول ضرار.
وَقَالَ فِي رِوَايَة أبي الْحَارِث: لَا يَنْبَغِي لأحد أَن
يَدعِي الْإِجْمَاع، وَأول من قَالَ: أَجمعُوا، ضرار.
هَذَا الْوَارِد عَن الإِمَام أَحْمد فِي ذَلِك.
وَقد اخْتلف الْأَصْحَاب فِي صفة حمل هَذِه الرِّوَايَات:
فَقَالَ القَاضِي: ظَاهره منع صِحَة الْإِجْمَاع، وَإِنَّمَا
هَذَا على الْوَرع، أَو فِيمَن لَيست لَهُ معرفَة بِخِلَاف
السّلف لما يَأْتِي.
وَكَذَا أجَاب أَبُو الْخطاب.
(4/1527)
وَحمله ابْن عقيل على الْوَرع، أَو لَا
يُحِيط علما بِهِ غَالِبا.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هَذَا نهي عَن [دَعْوَى]
الْإِجْمَاع الْعَام النطقي.
وَقَالَ أَيْضا: الظَّاهِر إِمْكَان وُقُوعه، وَأما إِمْكَان
الْعلم بِهِ فَأنكرهُ غَيره وَاحِد من الْأَئِمَّة، كَمَا
يُوجد فِي كَلَام أَحْمد وَغَيره.
وَذكر الْآمِدِيّ أَن بَعضهم خَالف فِي تصَوره، وَأَن
الْقَائِلين بِهِ خَالف بَعضهم فِي إِمْكَان مَعْرفَته،
مِنْهُم: أَحْمد فِي رِوَايَة.
وَتبع ابْن حمدَان الْآمِدِيّ، وَقَالَ: مُرَاد أَحْمد تعذر
معرفَة كل المجمعين لَا أَكْثَرهم.
وَقَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": وَأما مَا
رُوِيَ من قَول الإِمَام أَحْمد: من ادّعى الْإِجْمَاع فقد كذب
فَهُوَ إِنَّمَا قَالَه إنكاراً على فُقَهَاء الْمُعْتَزلَة
الَّذين يدعونَ إِجْمَاع النَّاس على مَا يَقُولُونَهُ،
وَكَانُوا من أقل النَّاس
(4/1528)
معرفَة بأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحمل ابْن تَيْمِية قَوْله ذَلِك على
إِجْمَاع غير الصَّحَابَة؛ لانتشارهم، أما الصَّحَابَة فمعرفون
محصورون. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": قلت: الَّذِي
أنكرهُ أَحْمد دَعْوَى إِجْمَاع الْمُخَالفين بعد الصَّحَابَة،
أَو بعدهمْ وَبعد التَّابِعين، أَو بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة
المحمودة، وَلَا يكَاد يُوجد فِي كَلَامه احتجاج بِإِجْمَاع
بعد عصر التَّابِعين، أَو بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة. انْتهى.
قَالُوا: إِن كَانَ عَن دَلِيل قَاطع فَعدم نَقله مُسْتَحِيل
عَادَة، والظني يمْتَنع اتِّفَاقهم فِيهِ عَادَة لتباين
قرائحهم، ودواعيهم الْمُقْتَضِيَة لاختلافهم.
رد بمنعها للاستغناء عَن نَقله الْقَاطِع بِالْإِجْمَاع،
وَكَون الظني جلياً تتفق فِيهِ القرائح.
قَالُوا: تفرقهم فِي أَطْرَاف الأَرْض يمْنَع نقل الحكم
إِلَيْهِم عَادَة.
رد بِالْمَنْعِ لجدهم فِي الْأَحْكَام، وبحثهم عَنْهَا.
قَالُوا: الْعَادة تحيل ثُبُوته عَنْهُم لخفاء بَعضهم أَو
كذبه، أَو رُجُوعه قبل
(4/1529)
قَول غَيره، ثمَّ لَو جَازَ الْعلم
بِثُبُوتِهِ لم يَقع الْعلم بِهِ؛ لِأَن الْعَادة تحيل نَقله
لبعد التَّوَاتُر، وَلَا يُفِيد الْآحَاد، وَرُبمَا لَو علم
بحصرهم، وَبِأَن تعذره لَا يمْنَع كَونه حجَّة كَقَوْل
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِأَن
الْعلمَاء كالأعلام لَا سِيمَا الصَّحَابَة، وبالقطع
بِتَقْدِيم النَّص الْقَاطِع على الظَّن.
ورده بعض أَصْحَابنَا والآمدي: بِاتِّفَاق أهل الْكتاب على
بَاطِل، وَلم نَعْرِف مستندهم من قَول مُتبع يقلدونه.
وَنقض بعض أَصْحَابنَا والآمدي وَغَيرهم بِالْإِجْمَاع على
أَرْكَان الْإِسْلَام وَطَرِيق علمهَا لَيْسَ ضَرُورِيًّا،
والوقوع دَلِيل التَّصَوُّر وَزِيَادَة.
قَوْله: {وَهُوَ حجَّة قَاطِعَة} ، هَذَا مَذْهَب الْأَئِمَّة
الْأَعْلَام وأتباعهم، مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة
وأتباعهم، وَغَيرهم من الْمُتَكَلِّمين وَغَيرهم.
(4/1530)
وَخَالف النظام، وَبَعض المرجئة، والشيعة،
والخوارج، وَغَيرهم.
وَقَالَ الْآمِدِيّ، والرازي: هُوَ حجَّة ظنية، لَا
قَطْعِيَّة، نَقله عَنْهُمَا الْبرمَاوِيّ.
وَقيل: حجَّة ظنية فِي الْإِجْمَاع السكوتي وَنَحْوه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: فصل الْمُحَقِّقُونَ بَين الْإِجْمَاع
الَّذِي لَا خلاف فِي ثُبُوته فَيكون انْعِقَاده قَطْعِيا،
وَبَين الَّذِي فِيهِ خلاف، كالإجماع السكوتي، وَمَا لم ينقرض
عصره، وَالْإِجْمَاع [بعد] الِاخْتِلَاف، وَمَا ندر الْمُخَالف
فِيهِ عِنْد من يرَاهُ، وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يكون قَطْعِيا.
انْتهى.
اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول بقوله تَعَالَى: (وَمن يُشَاقق
الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ
(4/1531)
الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ
نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيراً} [النِّسَاء:
115] .
احْتج بهَا الإِمَام الشَّافِعِي، وَغَيره؛ لِأَنَّهُ توعد على
مُتَابعَة غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّمَا يجوز لمفسدة
مُتَعَلقَة بِهِ وَلَيْسَت من جِهَة المشاقة، وَإِلَّا كَانَت
كَافِيَة.
والسبيل: الطَّرِيق، فَلَو خص بِكفْر أَو غَيره كَانَ اللَّفْظ
مُبْهما، وَهُوَ خلاف الأَصْل، وَالْمُؤمن حَقِيقَة فِي
الْحَيّ المتصف بِهِ.
ثمَّ عُمُومه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة يبطل المُرَاد. وَهُوَ
الْحَث على مُتَابعَة سبيلهم، وَالْجَاهِل غير مُرَاد.
ثمَّ الْمَخْصُوص حجَّة، والسبيل عَام، والتأويل بمتابعة
الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو
بمتابعتهم فِي الْإِيمَان، أَو الِاجْتِهَاد لَا ضَرُورَة
إِلَيْهِ، فَلَا يقبل.
وَلَيْسَ تبين الْهدى شرطا للوعيد بالاتباع بل للمشاقة؛ لِأَن
إِطْلَاقهَا لمن عرف الْهدى أَولا؛ وَلِأَن تَبْيِين
الْأَحْكَام الفروعية لَيْسَ شرطا فِي المشاقة، فَإِن من تبين
لَهُ صدق الرَّسُول وَتَركه فقد شاقه وَلَو جهلها.
وَقَول الإمامية المُرَاد بِهِ من فيهم مَعْصُوم؛ لِأَن سبيلهم
حِينَئِذٍ حق
(4/1532)
بِخِلَاف الظَّاهِر، وَتَخْصِيص بِلَا
ضَرُورَة، وَلَا دَلِيل لَهُم على الْعِصْمَة.
وَمَا قيل من أَن الْآيَة ظَاهِرَة، وَلَا دَلِيل على أَن
الظَّاهِر حجَّة إِلَّا الْإِجْمَاع فَيلْزم الدّور، مَمْنُوع
لجَوَاز نَص قَاطع على أَنه حجَّة، أَو اسْتِدْلَال قَطْعِيّ؛
لِأَن الظَّاهِر مظنون، وَهُوَ حجَّة؛ لِئَلَّا يلْزم رفع
النقيضين، أَو اجْتِمَاعهمَا، أَو الْعَمَل بالمرجوح وَهُوَ
خلاف الْعقل.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ}
[النِّسَاء: 59] والمشروط عدم عِنْد عدم شَرطه، فاتفاقهم كَاف.
وَاعْترض: عدم الرَّد إِلَى الْكتاب وَالسّنة عِنْد
الْإِجْمَاع إِن بني الْإِجْمَاع على أَحدهمَا فَهُوَ كَاف،
وَإِلَّا فَفِيهِ تَجْوِيز الْإِجْمَاع بِلَا دَلِيل، ثمَّ لَا
نسلم عدم الشَّرْط؛ فَإِن الْكَلَام مَفْرُوض فِي نزاع مجتهدين
متأخرين لإِجْمَاع سَابق.
(4/1533)
رد الأول: بِأَن الْإِجْمَاع إِن احْتَاجَ
إِلَى مُسْتَند فقد يكون قِيَاسا.
وَالثَّانِي: مُشكل جدا، قَالَه الْآمِدِيّ.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب أَن مُرَاد الْآيَة: فِيمَا لَا نعلم
أَنه خطأ، وَإِن ظنناه رددناه إِلَى الله وَرَسُوله.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تفَرقُوا} [آل عمرَان: 103]
وَخلاف الْإِجْمَاع تفرق، وَالنَّهْي عَن التَّفَرُّق لَيْسَ
فِي الِاعْتِصَام للتَّأْكِيد وَمُخَالفَة الظَّاهِر، وتخصيصه
بهَا قبل الْإِجْمَاع لَا يمْنَع الِاحْتِجَاج بِهِ، وَلَا
يخْتَص الْخطاب بالموجودين زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -؛ لِأَن التَّكْلِيف لكل من وجد مُكَلّفا كَمَا
سبق.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة ... .} [آل عمرَان:
110] ، فَلَو اجْتَمعُوا على بَاطِل كَانُوا قد اجْتَمعُوا على
مُنكر لم ينهوا عَنهُ، ومعروف لم يؤمروا بِهِ، وَهُوَ خلاف مَا
وَصفهم الله بهم؛ وَلِأَنَّهُ جعلهم أمة وسطا، أَي: عُدُولًا،
وَرَضي بِشَهَادَتِهِم مُطلقًا.
وعَلى ذَلِك اعتراضات وأجوبة يطول الْكتاب بذكرها. وَعَن أبي
مَالك الْأَشْعَرِيّ مَرْفُوعا " إِن الله تَعَالَى أجاركم من
ثَلَاث
(4/1534)
خلال: أَن لَا يَدْعُو عَلَيْكُم نَبِيكُم
فَتَهْلكُوا جَمِيعًا، وَأَن لَا يظْهر أهل الْبَاطِل على أهل
الْحق، وَأَن لَا تجتمعوا على ضَلَالَة " رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد.
وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " لَا تَجْتَمِع هَذِه الْأمة على
ضَلَالَة أبدا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.
وَعَن أنس مَرْفُوعا: " إِن أمتِي لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة،
فَإِذا رَأَيْتُمْ الِاخْتِلَاف فَعَلَيْكُم بِالسَّوَادِ
الْأَعْظَم الْحق وَأَهله " رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَابْن أبي
عَاصِم.
(4/1535)
وَعَن أبي ذَر مَرْفُوعا: " عَلَيْكُم
بِالْجَمَاعَة، فَإِن الله تَعَالَى لم يجمع أمتِي إِلَّا على
هدى " رَوَاهُ أَحْمد.
وَعَن أبي ذَر مَرْفُوعا: " من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فقد
خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه " رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو
دَاوُد.
وَلَهُمَا عَن مُعَاوِيَة مَرْفُوعا: " أَن هَذِه الْأمة:
سَتَفْتَرِقُ على ثَلَاث وَسبعين - يَعْنِي مِلَّة - ثِنْتَانِ
وَسَبْعُونَ فِي النَّار وَوَاحِدَة فِي الْجنَّة، وَهِي
الْجَمَاعَة ".
(4/1536)
وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " إِن الله لَا
يجمع أمتِي - أَو قَالَ - أمة مُحَمَّد على ضَلَالَة، وَيَد
الله على الْجَمَاعَة، وَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار " رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ.
وَعَن أبي بصرة الْغِفَارِيّ مَرْفُوعا: سَأَلت الله أَن لَا
يجمع أمتِي على ضَلَالَة فَأَعْطَانِيهَا " رَوَاهُ أَحْمد.
وَعَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: " من رأى من أميره شَيْئا
يكرههُ فليصبر؛ فَإِنَّهُ من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَمَاتَ
فميتته جَاهِلِيَّة ".
وَعَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: " من خرج من الطَّاعَة وَفَارق
الْجَمَاعَة فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة " مُتَّفق
عَلَيْهِ.
وَعَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: " ثَلَاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ
قلب مُسلم: إخلاص الْعَمَل لله، والنصيحة للْمُسلمين، وَلُزُوم
جَمَاعَتهمْ " رَوَاهُ الشَّافِعِي
(4/1537)
وَلأَحْمَد مثله.
وَعَن ثَوْبَان مَرْفُوعا: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي
ظَاهِرين على الْحق، لَا يضرهم من خذلهم حَتَّى يَأْتِي أَمر
الله وهم كَذَلِك ".
وَفِي حَدِيث جَابر: " إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَفِي حَدِيث جَابر بن سَمُرَة: " حَتَّى تقوم السَّاعَة "
رَوَاهُ مُسلم.
وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة،
وَإِيَّاكُم والفرقة، فَإِن الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد،
وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ أبعد، من أَرَادَ بحبوحة الْجنَّة
فليلزم الْجَمَاعَة ".
(4/1538)
رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَأحمد، وَعبد بن
حميد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَغَيرهم.
وَعَن ابْن مَسْعُود: " مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ
عِنْد الله حسن، وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ
عِنْد الله سيئ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ.
قَالَ الْآمِدِيّ وَغَيره: السّنة أقرب الطّرق إِلَى كَون
الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة.
فَإِن قيل: آحَاد، سلمنَا التَّوَاتُر، لَكِن يحْتَمل أَنه
أَرَادَ عصمتهم عَن الْكفْر بِلَا تَأْوِيل وشبهة، أَو عَن
الْخَطَأ فِي الشَّهَادَة فِي الْآخِرَة، أَو فِيمَا يُوَافق
الْمُتَوَاتر.
وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ كل الْأمة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة،
ثمَّ لم يلْزم أَنه حجَّة على الْمُجْتَهدين، لَا سِيمَا إِن
قيل: كل مُجْتَهد مُصِيب.
رد بِالْقطعِ بمجموعها: إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قصد تَعْظِيم أمته، وَبَيَان عصمتها من
الْخَطَأ، كالقطع بجود حَاتِم الطَّائِي، فَهُوَ متواترة معنى.
(4/1539)
وَفِي كَلَام القَاضِي، وَهُوَ معنى كَلَام
الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": لَا بُد لكثرتها من صِحَة بعض
لَفظهَا؛ وَلِأَن الْأمة تلقتها بِالْقبُولِ، وَالظَّن يُفِيد
فِي مَسْأَلَة علمية لوُجُوب الْعَمَل بِهِ، وَلَو وجد مُنكر
لاشتهر عَادَة، والاحتجاج فِي الْأُصُول بِمَا لَا صِحَة لَهُ
مُسْتَحِيل عَادَة.
وَأجَاب القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل أَيْضا: بِأَن
الْإِجْمَاع مَسْأَلَة شَرْعِيَّة، طَرِيقه طَرِيق مسَائِل
الْفُرُوع.
وَقَالَ الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا: مَا ذكره ابْن عقيل
وَغَيره: يثبت مسَائِل
(4/1540)
أصُول الْفِقْه بِالظَّنِّ، وَلَا يفسق
الْمُخَالف، وَبِه قَالَ أَكثر الْفُقَهَاء والمتكلمين.
وَخَالف بعض الأشعرية وَهُوَ ابْن اللبان فِي الأولى كبعض
الْمُتَكَلِّمين فِي الثَّانِيَة، وَيَأْتِي هَذَا آخر
الْإِجْمَاع.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: أَجمعُوا على الْقطع بتخطئة الْمُخَالف،
وَالْعَادَة تحيل إِجْمَاع عدد كثير من الْمُحَقِّقين على قطع
فِي شَرْعِي من غير قَاطع، فَوَجَبَ تَقْدِير نَص فِيهِ.
وَأَجْمعُوا - أَيْضا - على تَقْدِيمه على الدَّلِيل
الْقَاطِع، فَكَانَ قَاطعا وَإِلَّا تعَارض الإجماعان لتقديم
الْقَاطِع على غَيره إِجْمَاعًا، وَهَذَانِ الإجماعان لَا
يلْزم أَن عددهما عدد التَّوَاتُر وَإِن لزم فيهمَا فَلَا
يلْزم فِي كل إِجْمَاع.
ورد الْآمِدِيّ، وَبَعضه فِي كَلَام غَيره: بِأَن من قَالَ
ذَلِك اعْتبر فِي الْإِجْمَاع عدد التَّوَاتُر، وَأَنه يلْزمه
أَن لَا يخْتَص الْإِجْمَاع بِأَهْل الْحل وَالْعقد من
(4/1541)
الْمُسلمين، بل عَام فِي كل من بلغ
[عَددهمْ] عدد التَّوَاتُر وَإِن لم يَكُونُوا مُسلمين فضلا
عَن أهل الْحل وَالْعقد.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا: أَن أَجود الْأَدِلَّة الْإِجْمَاع
الثَّانِي.
وَاسْتدلَّ: يمْتَنع عَادَة إِجْمَاعهم على مظنون، فَدلَّ على
قَاطع.
رد: بِمَنْعه فِي قِيَاس جلي، وأخبار آحَاد بعد علمهمْ
بِوُجُوب الْعَمَل بمظنون.
قَالُوا: {تبياناً لكل شَيْء} [النَّحْل: 89] ، {فَردُّوهُ
إِلَى الله وَالرَّسُول} [النِّسَاء: 59] ، {فَحكمه إِلَى
الله} [الشورى: 10] ،) وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا
تعلمُونَ} [الْأَعْرَاف: 33] .
رد: لَا يلْزم أَن لَا يكون الْإِجْمَاع تبياناً وَلَا حجَّة
عِنْد التوافق.
ثمَّ يلْزم عَلَيْهِ السّنة، ثمَّ إِنَّمَا ثَبت حجَّة
بِالْكتاب وَالسّنة وَالظَّن لَا يُعَارض الْقطع.
(4/1542)
قَالُوا: فِي " الصِّحَاح ": " لَا ترجعوا
بعدِي كفَّارًا "، وَقَوله: " حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ
النَّاس رؤساً جُهَّالًا ".
رد: المُرَاد بعض الْأمة، والعصمة إِنَّمَا تثبت للمجموع.
ثمَّ الْجَوَاز عَقْلِي لَا يلْزم مِنْهُ الْوُقُوع، وَيَأْتِي
خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد.
قَالُوا: روى أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ: أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما بعث معَاذًا إِلَى
الْيمن قَالَ: " كَيفَ تقضي إِذا عرض لَك قَضَاء؟ " قَالَ:
أَقْْضِي بِكِتَاب الله تَعَالَى، قَالَ: " فَإِن لم تَجِد؟ "
قَالَ: فبسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ -. قَالَ: " فَإِن لم تَجِد؟ "، قَالَ: أجتهد رَأْي وَلَا
آلو. فَضرب بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي
وفْق رَسُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- لما يُرْضِي رَسُول الله ".
وَفِي إِسْنَاده مَجْهُول، وَلَيْسَ بِمُتَّصِل.
(4/1543)
وَرَوَاهُ سعيد فِي " سنَنه "، قَالَ: (لما
بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
معَاذًا إِلَى الْيمن) ، وَفِيه بعد الْكتاب: (بِمَا يقْضِي
بِهِ نبيه) ثمَّ قَالَ: (أَقْْضِي بِمَا قضى الصالحون) ، ثمَّ
قَالَ: (أؤم الْحق جهدي) ، فَقَالَ: " الْحَمد لله الَّذِي جعل
رَسُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يقْضِي بِمَا يُرْضِي بِهِ رَسُول الله ". مُرْسل جيد.
(4/1544)
رد: بِأَن الْإِجْمَاع لم يكن حجَّة فِي
زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالُوا: كغيرهم من الْأُمَم قبل النّسخ.
ورده أَبُو الْخطاب وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم:
بِأَنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْن عقيل: يحْتَمل أَن نقُوله: وَالْفرق بتطرق النّسخ
على الْأُمَم، وتجدد الْأَنْبِيَاء.
وَتَأْتِي هَذِه الْمَسْأَلَة قَرِيبا.
قَوْله: {بِالشَّرْعِ} ، أَي: دلَالَة كَون الْإِجْمَاع حجَّة
قَاطِعَة بِالشَّرْعِ فَقَط، وَذَلِكَ للدلالة الْوَارِدَة من
الْكتاب وَالسّنة فِي ذَلِك كَمَا تقدم ذكره، وَبَيَانه فِي
الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا.
وَهَذَا عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، وَقطع بِهِ كثير مِنْهُم.
وَقيل: وَالْعقل أَيْضا، أَعنِي أَن دلَالَة كَون الْإِجْمَاع
حجَّة قَاطِعَة تحصل بِالْعقلِ أَيْضا.
(4/1545)
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": دلَالَة
كَون الْإِجْمَاع حجَّة هُوَ الشَّرْع، وَقيل: الْعقل أَيْضا.
نثبت حجَّته إِمَّا بِالسَّمْعِ، وَإِمَّا بِالْعقلِ، والسمع
إِمَّا الْكتاب وَإِمَّا السّنة، وَتثبت السّنة بالتواتر
الْمَعْنَوِيّ، وَثُبُوت بَعْضهَا، وَبِأَن الْعَادة وَالدّين
يمنعاه من تَصْدِيق مَا لم يثبت، وَمن مُعَارضَة القواطع بِمَا
لَيْسَ بقاطع، وَالْعقل إِمَّا الْعَادة الطبيعية وَإِمَّا دين
السّلف الشَّرْعِيّ الْمَانِع من الْقطع بِمَا لَيْسَ بِحَق،
انْتهى.
وَيُؤْخَذ هَذَا من كَلَام ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح،
وَغَيرهمَا، حَيْثُ بحثوا أَنه يَسْتَحِيل عَادَة اجْتِمَاع
مثل هَذَا الْعدَد الْكثير من الْعلمَاء الْمُحَقِّقين على قطع
فِي حكم شَرْعِي من غير اطلَاع على دَلِيل قَاطع فَوَجَبَ
تَقْدِير نَص قَاطع فِيهِ كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَلَا يعْتَبر فِيهِ قَول مَعْصُوم} عِنْد أَئِمَّة
الْإِسْلَام المقتدى بهم، وَخَالف فِي ذَلِك الرافضة فاشترطوه.
وخلافهم ملغي لَا اعْتِبَار بِهِ، بل الْمَعْصُوم لَا يُوجد
فِي غير الْأَنْبِيَاء، فَعَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة
أَجْمَعِينَ، وَذَلِكَ بِنَاء مِنْهُم على زعمهم أَن
(4/1546)
لَا يجوز خلو الزَّمَان عَن مَعْصُوم.
وَلَو تنزلنا وَسلمنَا ذَلِك فالحجة إِنَّمَا هِيَ فِي قَول
الْمَعْصُوم لَا فِي الْإِجْمَاع فَلَا حَاجَة إِلَى
الْإِجْمَاع مَعَ قَول الْمَعْصُوم.
قَوْله: {لَيْسَ إِجْمَاع الْأُمَم الخالية حجَّة عِنْد الْمجد
وَالْأَكْثَر، وَخَالف الْأُسْتَاذ} وَجمع.
{وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي: إِن كَانَ سندهم قَطْعِيا،
وَإِلَّا الْوَقْف} ، والطوفي: إِن كَانَ سَنَد إجماعنا
عقلياً، وَإِلَّا الْوَقْف. ووقف الباقلاني مُطلقًا.
اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة:
(4/1547)
فَذهب الْمجد من أَصْحَابنَا،
وَالْأَكْثَر: أَن إِجْمَاع الْأُمَم الْمَاضِيَة لَيْسَ
بِحجَّة.
وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَقَالَ: هَذَا
قَول الْأَكْثَرين. وَصرح بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره وَخَالف
أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ وَبَعض الشَّافِعِيَّة
وَغَيرهم، وَقَالُوا: كَانُوا حجَّة قبل النّسخ.
قَالَ ابْن عقيل: يحْتَمل أَن نقُوله: وَالْفرق لكَون النّسخ
يتَطَرَّق على الْأُمَم بتجدد الْأَنْبِيَاء، كَمَا تقدم
عَنهُ.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِلَى آخِره، قَالَ الْبرمَاوِيّ:
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِن كَانَ سندهم قَطْعِيا فحجة،
أَو ظنياً فالوقف.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِن
قطع أهل الْإِجْمَاع من
(4/1548)
كل أمة بقَوْلهمْ فَهُوَ حجَّة؛ لاستناده
إِلَى قَاطع فِي الْعَادة، وَالْعَادَة لَا تخْتَلف باخْتلَاف
الْأُمَم، وَإِلَّا كَانَ مُسْتَنده مظنوناً وَالْوَجْه
الْوَقْف.
قَالَ الطوفي: قَوْله أقرب إِلَى الصَّوَاب، ثمَّ قَالَ:
وَالْمُخْتَار فِي الْمَسْأَلَة؛ إِن كَانَ مُسْتَند
الْإِجْمَاع فِي هَذِه الْأمة عقلياً فَلَا يخْتَلف، وَإِن
كَانَ مُسْتَند هَذِه الْأمة سمعياً فالوقف فِي إِجْمَاع
غَيرهَا من الْأُمَم؛ إِذْ لم يبلغنَا الدَّلِيل السمعي على
أَن إِجْمَاعهم حجَّة فنثبته، وَلَا يلْزم من عدم بُلُوغ ذَلِك
عدم وجوده فننفيه. انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني بِالْوَقْفِ، فَإِنَّهُ
قَالَ: لست أَدْرِي كَيفَ الْحَال؟ يَعْنِي: هَل كَانَ
إِجْمَاعهم حجَّة أَو لَا؟
تَنْبِيه: لهَذِهِ الْمَسْأَلَة الْتِفَات إِلَى أصلين:
أَحدهمَا: شرع من قبلنَا هَل هُوَ شرع لنا أم لَا؟ على مَا
يَأْتِي.
الثَّانِي: أَن حجية الاجماع ثَابِتَة بِمَاذَا؟ إِن قُلْنَا
بِالْقُرْآنِ أَو بِالنِّسْبَةِ فَلَا يدْخل غير هَذِه الْأمة
من الْأُمَم فِي ذَلِك.
وَإِن قُلْنَا: دَلِيله أَنه يَسْتَحِيل فِي الْعَادة
اجْتِمَاع مثل هَذَا الْعدَد الْكثير من الْعلمَاء
الْمُحَقِّقين على قطع فِي حكم شَرْعِي من غير اطلَاع على
دَلِيل قَاطع فَوَجَبَ فِي كل إِجْمَاع تَقْدِير نَص قَاطع
فِيهِ مَحْكُوم بتخطئة مخالفه، كَمَا تقدم
(4/1549)
فِي اسْتِدْلَال ابْن الْحَاجِب وَغَيره
بذلك، فَلَا يخْتَص ذَلِك بِهَذِهِ الْأمة.
ثمَّ لَو سلم أَنه حجَّة فَالْكَلَام فِي الْإِجْمَاع الَّذِي
يسْتَدلّ بِهِ فِي شرعنا، وَذَلِكَ إِن وَقع. وَإِن قُلْنَا
إِن شرعهم شرع لنا فَمن أَيْن يعرف وينقل إِلَيْنَا؟
(4/1550)
قَوْله: {فصل}
{لَا يعْتَبر قَول الْعَامَّة} فِي الْإِجْمَاع عِنْد
الْعلمَاء، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ
سَوَاء كَانَت مسَائِله مَشْهُورَة أَو خُفْيَة، فَلَا
اعْتِبَار لمخالفتهم، وَلَا بموافقتهم، وَإِنَّمَا يعْتَبر
قَول الْمُجْتَهدين فَقَط.
واعتبره قوم مُطلقًا، فَقَالُوا: لابد من موافقتهم حَتَّى يصير
إِجْمَاعًا.
واعتبره قوم فِي الْمسَائِل الْمَشْهُورَة، كَالْعلمِ بِوُجُود
التَّحْرِيم بِالطَّلَاق الثَّلَاث، وَأَن الْحَدث فِي
الْجُمْلَة ينْقض الطَّهَارَة، وَأَن الْحيض يمْنَع أَدَاء
الصَّلَاة، ووجوبها، وَنَحْوهَا دون الْمسَائِل الْخفية،
كدقائق الْفِقْه.
إِذا علم ذَلِك فَاخْتَلَفُوا فِي معنى ذَلِك:
فَقَالَ الْآمِدِيّ: إِن قيام الْحجَّة يفْتَقر إِلَى وفاقهم.
(4/1551)
وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره عَن
الباقلاني، وغلطوا ناقله.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْقَوْل بِاعْتِبَارِهِ.
حَكَاهُ ابْن الصّباغ، وَابْن برهَان عَن بعض الْمُتَكَلِّمين،
وَنَقله الإِمَام، وَابْن السَّمْعَانِيّ، والهندي عَن
القَاضِي الباقلاني، وَكَذَا قَالَ ابْن الْحَاجِب: إِن ميل
القَاضِي إِلَى اعْتِبَاره، أَي: الْمُقَلّد.
لَكِن إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ":
يَقْتَضِي أَن القَاضِي لَا يعْتَبر خلافهم وَلَا وفاقهم.
(4/1552)
وَفَسرهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ": أَن
مَعْنَاهُ أَن الْأمة أَجمعت لَا افتقار كَلَام الْحجَّة
إِلَيْهِم. وَخَالفهُ الْآمِدِيّ وَغَيره كَمَا تقدم قبل.
وَالَّذِي فِي " التَّقْرِيب " تَحْرِير الْخلاف على وَجه آخر،
فَإِن الْقَائِل بِعَدَمِ اعْتِبَار الْعَامَّة قَالَ لقَوْله
تَعَالَى: " فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ}
[النَّحْل: 43] ، [الْأَنْبِيَاء: 7] ، وَنَحْوه فَرد الْعَوام
إِلَى قَول الْمُجْتَهدين.
وَالْقَائِل باعتبارهم قَالَ: إِن قَول الْأمة إِنَّمَا كَانَ
حجَّة لعصمتها من الْخَطَأ، فَلَا يمْتَنع أَن تكون الْعِصْمَة
للهيئة الاجتماعية من الْكل، فَلَا يلْزم ثُبُوتهَا للْبَعْض.
فَقَالَ الباقلاني مَا حَاصله: أَن الْخلاف يرجع إِلَى
إِطْلَاق الِاسْم يَعْنِي أَن الْمُجْتَهدين إِذا أَجمعُوا هَل
يصدق أَن الْأمة أَجمعت وَيحكم بِدُخُول الْعَوام فيهم تبعا
أَو لَا؟
فَعنده لَا يصدق، وَإِن كَانَ ذَلِك [لَا يقْدَح] فِي حجيته،
وَهُوَ خلاف لَفْظِي؛ لِأَن مخالفتهم لَا تقدح فِي الْإِجْمَاع
قطعا.
(4/1553)
وَتبع ابْن الباقلاني كثير من
الْمُتَأَخِّرين على أَن الْخلاف لَفْظِي رَاجع إِلَى
التَّسْمِيَة.
لَكِن أَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد " نقل عَن قوم أَن
الْإِجْمَاع لَا يحْتَج بِهِ إِلَّا مَعَ وفَاق الْعَامَّة.
انْتهى.
وَحكى القَاضِي عبد الْوَهَّاب، وَابْن السَّمْعَانِيّ أَنه
يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع على عَام، وَهُوَ مَا لَيْسَ بمقصور
على الْعلمَاء وَأهل النّظر، كالمسائل الْمَشْهُورَة بِخِلَاف
دقائق الْفِقْه.
قيل: وَبِهَذَا التَّفْصِيل يَزُول الْإِشْكَال، وَيَنْبَغِي
تَنْزِيل إِطْلَاق المطلقين عَلَيْهِ.
وَخص القَاضِي الباقلاني الْخلاف بالخاص، وَقَالَ: لَا يعْتَبر
خلاف الْعَام اتِّفَاقًا وَجرى عَلَيْهِ الرَّوْيَانِيّ فِي "
الْبَحْر ".
(4/1554)
تَنْبِيه:
قَوْلنَا: لَا يعْتَبر قَول الْعَامَّة أولى من قَول
الْمُقَلّد؛ لِأَن الْعَاميّ أَعم من أَن يكون مُقَلدًا أَو
لَا، فالتعبير بِهِ أولى لشُمُوله.
قَوْله: {وَلَا من عرف الحَدِيث فَقَط، أَو اللُّغَة، أَو علم
الْكَلَام، وَنَحْوه} ، كعلم الْعَرَبيَّة، والمعاني،
وَالْبَيَان، والتصريف؛ لِأَنَّهُ من جملَة المقلدين فَلَا
تعْتَبر مخالفتهم. قَوْله: {وَكَذَا من عرف الْفِقْه فَقَط}
فِي مَسْأَلَة فِي أُصُوله، أَو أصُول
(4/1555)
الْفِقْه فِي مَسْأَلَة فِي الْفِقْه.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأَصْحَابه،
وَأكْثر الْعلمَاء؛ لأَنهم أَيْضا من جملَة المقلدين؛ لِأَن من
شَرط الْإِجْمَاع اتِّفَاق الْمُجْتَهدين، فَمن لم يكن من
الْمُجْتَهدين فَهُوَ من المقلدين؛ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَة
بَينهمَا.
فعلى هَذَا لَا يعْتَقد بقوله، وَلَا بِخِلَافِهِ.
وَقيل: بِاعْتِبَار كل من الطَّائِفَتَيْنِ: الْفُقَهَاء
والأصوليين لما فِي كل مِنْهُمَا من الْأَهْلِيَّة
الْمُنَاسبَة للفنين لتلازم العلمين، وَهُوَ قوي.
وَقيل: يعْتَبر قَول الأصولي فِي الْفِقْه دون الفروعي فِي
الْأُصُول؛ لِأَنَّهُ أقرب إِلَى مَقْصُود الِاجْتِهَاد دون
عَكسه، اخْتَارَهُ الباقلاني. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهُوَ
الْحق.
(4/1556)
وَقيل: عَكسه، فَيعْتَبر قَول الفروعي فِي
الْأُصُول دون الأصولي فِي الْفُرُوع؛ لِأَنَّهُ أعرف بمواضع
الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف.
قَوْله: {وَكَذَا من فَاتَهُ بعض شُرُوط الِاجْتِهَاد} ،
يَعْنِي: لَا اعْتِبَار بقوله فِي الْإِجْمَاع؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ من الْمُجْتَهدين.
وَمعنى هَذَا لِابْنِ عقيل وَغَيره، فَإِنَّهُ قَالَ فِي
الْوَاضِح: لم يعْتد بقول من لم يكن مُجْتَهدا كَامِلا. قَالَ
الْمجد: من أحكم أَكثر أدوات الِاجْتِهَاد، وَلم يبْق لَهُ
إِلَّا خصْلَة أَو خصلتان، اتّفق الْفُقَهَاء والمتكلمون على
أَنه لَا يعْتد بِخِلَافِهِ خلافًا للباقلاني.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": أما قَول الأصولي غير
الفروعي وَعَكسه، والنحوي فِي مَسْأَلَة مبناها النَّحْو،
كَمَسْأَلَة مسح الرَّأْس المبنية على أَن الْبَاء للإلصاق،
أَو للتَّبْعِيض، ومسائل الشَّرْط وَالْجَزَاء،
وَالِاسْتِثْنَاء وَنَحْوه، فَفِي اعْتِبَار قَوْلهم الْخلاف
فِي تجزيء الِاجْتِهَاد، وَالْأَشْبَه اعْتِبَار قَول الأصولي
والنحوي فَقَط لتمكنهما من دَرك الحكم بِالدَّلِيلِ،
وَالْمَسْأَلَة اجتهادية. وَالصَّحِيح أَن الِاجْتِهَاد
يتَجَزَّأ على مَا يَأْتِي بَيَانه.
(4/1557)
وَقَالَ الطوفي - أَيْضا -: وَسَبقه إِلَى
ذَلِك الْقَرَافِيّ، وَجَمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم: ابْن
قَاضِي ابْن الْجَبَل، والبيضاوي، وشراحه، بِمَا يَقْتَضِي
أَنه وفَاق يعْتَبر فِي إِجْمَاع كل فن قَول أَهله؛ إِذْ
غَيرهم بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ عَامَّة. انْتهى.
وَهُوَ مُتَوَجّه، فعلى هَذَا يعْتَبر فِي إِجْمَاع كل فن، من
فقه، وأصول، وَنَحْو، وطب، وَغَيرهَا قَول أَهله، وَهُوَ ظَاهر
جدا.
قَوْله: {وَلَا كَافِرًا مُطلقًا} ، يَعْنِي: لَا يعْتد بقول
الْكَافِر مُطلقًا، سَوَاء كَانَ متأولاً، وَهُوَ الْمُخطئ فِي
الْأُصُول، أَو غَيره كالمرتد، وَنَحْوه لخُرُوج الْكل عَن
الْملَّة فَلَا يتناولهم مُسَمّى الْأمة الْمَشْهُود لَهُم
بالعصمة.
أما الْكَافِر الْأَصْلِيّ، وَالْمُرْتَدّ فَلَا نزاع بَين
الْأمة أَن قَوْلهم لَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع، وَلَو انْتهى
إِلَى رُتْبَة الِاجْتِهَاد لما علم من اخْتِصَاص الْإِجْمَاع
بِأمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
مَحل الْخلاف فِي المبتدع إِذا كفرناه ببدعته.
(4/1558)
وتحرير القَوْل فِي ذَلِك: أَن عِنْد من
كفره ببدعته لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع، وَمن لَا يكفره
فَهُوَ عِنْده من المبتدعة الَّذين يحكم بفسقهم، وَهُوَ الْقسم
الْآتِي بعد هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَقطع بذلك الْعلمَاء مِنْهُم: ابْن الْحَاجِب، وَابْن
مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم.
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": لَا يعْتد بقول كَافِر
سَوَاء كَانَ بِتَأْوِيل أَو بِغَيْر تَأْوِيل.
وَقَالَهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " وَزَاد: وَقيل: المتأول
كالكافر عِنْد الْمُكَفّر دون غَيره.
وَلَا فَائِدَة فِي هَذَا القَوْل، وَلَا ثَمَرَة؛ إِذْ مَحل
الْمَسْأَلَة فِي الْمَحْكُوم بِكُفْرِهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: قَالَ أهل السّنة: لَا
يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع وفَاق الْقَدَرِيَّة، والخوارج،
والرافضة.
وَقَالَ الصَّيْرَفِي: هَل يقْدَح خلاف الْخَوَارِج فِي
الْإِجْمَاع؟ فِيهِ قَولَانِ.
(4/1559)
قَوْله: {وَلَا فَاسق مُطلقًا} ، لَا يعْتد
بقول الْفَاسِق مُطلقًا، سَوَاء كَانَ من جِهَة الِاعْتِقَاد
أَو الْأَفْعَال.
فالاعتقاد كالرفض، والاعتزال، وَنَحْوهمَا، وَالْأَفْعَال كشرب
الْخمر، وَالزِّنَا، والربا، وَالسَّرِقَة، وَنَحْوهَا.
هَذَا هُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي، وَابْن عقيل،
وَالْأَكْثَر. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن
السَّمْعَانِيّ: وَذهب إِلَيْهِ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ.
وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ من الْحَنَفِيَّة: هَذَا
الصَّحِيح عندنَا. قَالَ ابْن برهَان: هُوَ قَول كَافَّة
الْفُقَهَاء والمتكلمين؟ وَتقدم قَرِيبا كَلَام الْأُسْتَاذ
أبي مَنْصُور، والصيرفي. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يقبل قَوْله،
وَلَا يُقَلّد فِي فَتْوَى، كالكافر، وَالصَّبِيّ.
وَعند أبي الْخطاب وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَالْغَزالِيّ
فِي " المنخول ":
(4/1560)
يعْتد بقوله؛ لِأَن الْمعْصِيَة فِي
الْفِعْل دون الِاعْتِقَاد، وَذَلِكَ لَا يزِيل اسْم
الْإِيمَان.
وَنسب هَذَا القَوْل إِلَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَيْضا.
وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، وَنَصره.
وَكَذَا الْهِنْدِيّ، وَابْن الْعِرَاقِيّ، وَغَيرهم؛
لِأَنَّهُ مُجْتَهد من الْأمة فتناولته الْأَدِلَّة بِخِلَاف
الْكَافِر، وَالصَّبِيّ قَاصِر، وَلَا يلْزم من اعْتِبَار
قَوْله فِي الْإِجْمَاع اعْتِبَار قَوْله مُنْفَردا.
{وَقيل: إِن ذكر مُسْتَندا صَالحا اعْتد بقوله} ، وَإِلَّا
فَلَا، فَإِذا بَين مأخذه، وَكَانَ صَالحا للأخذ بِهِ
اعتبرناه. قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَلَا بَأْس بِهَذَا
القَوْل وَهَذَا كُله فِي الْفَاسِق بِلَا تَأْوِيل، أما
الْفَاسِق بِتَأْوِيل فمعتبر فِي الْإِجْمَاع كالعدل، انْتهى.
(4/1561)
{وَقيل: يعْتَبر فِي نَفسه، اخْتَارَهُ أبي
الْمَعَالِي} ، فَإِذا وَافق الْجَمَاعَة كَانَ الْإِجْمَاع
حجَّة على الْكل، وَإِن خالفهم كَانَ الْإِجْمَاع حجَّة
عَلَيْهِم، لَا عَلَيْهِ.
صرح بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره على هَذِه الصّفة.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ":
يَنْبَغِي أَن يكون الْأَمر بِالْعَكْسِ.
قلت: وَالَّذِي يظْهر أَن هَذَا خطأ؛ فَإِن الْعَكْس إِذا
وَافق كَانَ حجَّة عَلَيْهِ لَا عَلَيْهِم، وَلَا قَائِل بِهِ،
وتابع فِي ذَلِك أَصله، وَهُوَ " شرح الزَّرْكَشِيّ "،
فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَنْبَغِي عَكسه، أَنه ينْعَقد إِجْمَاع
غَيره عَلَيْهِ، وَلَا ينْعَقد إجماعه على غَيره. انْتهى.
فَقَوله: أخيراً وَلَا ينْعَقد إجماعه على غَيره سَهْو؛
لِأَنَّهُ إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع مَعَ مُوَافَقَته
انْعَقَد على غَيره بِلَا نزاع، وَهُوَ وَالله أعلم إِنَّمَا
أَرَادَ إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع لغيره، وَلم يُوَافق هُوَ
أَنه يكون إِجْمَاعًا فِي حَقه أَيْضا، وَهَذَا مُتَوَجّه؟
وَأما هُوَ إِذا وَافق الْجَمَاعَة لَا ينْعَقد على غَيره،
فَهَذَا غير مُسلم.
(4/1562)
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن
الباقلاني، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ: لَا يعْتد فِي
الْإِجْمَاع بقول الظَّاهِرِيَّة؛ بجحدهم الْقيَاس، وَعدم
معرفتهم للمعاني.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: ينظر فِيمَا قَالُوهُ، فَإِن لم يسغْ
فِيهِ الِاجْتِهَاد لم يعْتد بِهِ، وَإِن سَاغَ فِيهِ
الِاجْتِهَاد اعْتد بِهِ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: وَفِي الِاعْتِدَاد بقول
مجتهدي الظَّاهِرِيَّة أَقْوَال: الْمَنْع. اخْتَارَهُ أَبُو
بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ.
وَالثَّانِي: الْجَوَاز، كغيرهم. وَالثَّالِث: الْفرق بَين مَا
للِاجْتِهَاد فِيهِ مساغ وَغَيره، كتفريقهم فِي تنجيس المَاء
بَين الْبَوْل فِيهِ، وصبه فِيهِ، فَيعْتَبر قَوْله فِي الأول
دون الثَّانِي اخْتَارَهُ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح.
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: ترك اعْتِقَاده
الْعَمَل بِبَعْض الْأَدِلَّة لَا يُخرجهُ عَن كَونه
مُجْتَهدا، وَإِلَّا لزم أَن لَا يعْتَبر قَول من خَالف فِي
الْمَرَاسِيل،
(4/1563)
والعموم، وَأَن الْأَمر على الْوُجُوب،
وَغير ذَلِك. انْتهى.
وَقَالَ الأبياري فِي " شرح الْبُرْهَان ": إِن كَانَت
الْمَسْأَلَة مِمَّا يتَعَلَّق بالآثار، والتوقيف، وَاللَّفْظ
اللّغَوِيّ وَلَيْسَ للْقِيَاس فِيهَا مجَال فَلَا يَصح أَن
ينْعَقد الْإِجْمَاع دونهم إِلَّا على قَول من يرى أَن
الِاجْتِهَاد قَضِيَّة وَاحِدَة لَا تتجزأ، وَإِن قُلْنَا
بالتجزيء فَلَا يمْتَنع أَن يَقع النّظر فِي نوع هم فِيهِ
محققون. انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي الباقلاني أَيْضا، وَأَبُو الْمَعَالِي: لَا
يعْتد بقول منكري الْقيَاس، فَدخل فِي هَذَا كل من أنكر
الْقيَاس من الظَّاهِرِيَّة وَغَيرهم.
وَقيل: إِن كَانَ الْقيَاس جلياً، وَإِلَّا اعْتد بهم.
وَقَالَ أَيْضا أَبُو بكر الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي،
وَالْغَزالِيّ: لَا يعْتد بقول الْأَصَم.
(4/1564)
وَهَذَا الْأَصَم هُوَ عبد الرَّحْمَن بن
كيسَان، قَالَه ابْن الصّلاح وَغَيره.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي رده على الرافضي هُوَ عبد
الرَّحْمَن بن كيسَان الْأَصَم المعتزلي من فضلائهم، وَله
تَفْسِير، وَمن تلاميذه إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن علية.
ولإبراهيم هَذَا مناظرات فِي الْفِقْه وأصوله مَعَ الشَّافِعِي
وَغَيره.
(4/1565)
5
- قَوْله: {فصل}
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم لَا يخْتَص الْإِجْمَاع بالصحابة} .
وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء، وَذَلِكَ للأدلة الَّتِي
تقدّمت فِي قبُول الْإِجْمَاع من غير تَفْرِيق بَين عصر وعصر
قبلهم للأدلة؛ وَلِأَن مَعْقُول السمعي إِثْبَات الْحجَّة
الإجماعية مُدَّة التَّكْلِيف، وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بعصر
الصَّحَابَة.
وَعَن أَحْمد: يخْتَص بهم، وَقَالَهُ الظَّاهِرِيَّة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَا يكَاد يُوجد عَن أَحْمد
احتجاج بِإِجْمَاع بعد التَّابِعين أَو بعد الْقُرُون
الثَّلَاثَة. انْتهى.
قلت: آخر الْقُرُون الثَّلَاثَة إِلَى زَمَنه، فَيكون احْتج
بِالْإِجْمَاع إِلَى زَمَنه بِخِلَاف مَا إِذا قُلْنَا بعد
التَّابِعين.
(4/1566)
قَالَ ابْن حزم: ذهب دَاوُد وأصحابنا إِلَى
أَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة فَقَط،
وَهُوَ قَول لَا يجوز خِلَافه؛ لِأَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا
يكون عَن تَوْقِيف، وَالصَّحَابَة هم الَّذين شهدُوا
التَّوْقِيف.
قَالَ: فَإِن قيل: فَمَا تَقولُونَ فِي إِجْمَاع من بعدهمْ،
أَيجوزُ أَن يجمعوا على خطأ؟ قُلْنَا: هَذَا لَا يجوز لأمرين:
أَحدهمَا: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- أمننا من ذَلِك بقوله: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي
ظَاهِرين على الْحق ".
الثَّانِي: أَن سَعَة الأقطار بِالْمُسْلِمين، وَكَثْرَة
الْعدَد، وَلَا يُمكن أحدا ضبط أَقْوَالهم، وَمن ادّعى هَذَا
لم يخف على أحد كذبه. انْتهى.
وَمُقْتَضَاهُ أَن الظَّاهِرِيَّة لَا يمْنَعُونَ الِاحْتِجَاج
بِإِجْمَاع من بعد الصَّحَابَة وَلَكِن يستبعدون الْعلم بِهِ،
كَمَا حمل كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي أحد محامله على ذَلِك
كَمَا تقدم.
وَاحْتج لِلْقَوْلِ الثَّانِي أَيْضا بِظَاهِر الْآثَار
السَّابِقَة فَكَانُوا كل الْأمة، وَلَيْسَ من بعدهمْ كلهَا
دونهم، وموتهم لم يخرجهم مِنْهَا.
(4/1567)
رد: فيقدح موت الْمَوْجُود حِين الْخطاب
فِي انْعِقَاد إِجْمَاع البَاقِينَ، وَمن أسلم بعد الْخطاب لَا
يعْتد بِخِلَافِهِ، وَيبْطل أَيْضا بِسَائِر خطاب التَّكْلِيف،
فَإِنَّهُ عَم وَمَا اخْتصَّ.
قَالُوا: مَا لَا قطع فِيهِ سَائِغ فِيهِ الِاجْتِهَاد
بِإِجْمَاع الصَّحَابَة، فَلَو اعْتد بِإِجْمَاع غَيرهم تعَارض
الإجماعان.
رد: لم يجمعوا على أَنَّهَا اجتهادية مُطلقًا، وَإِلَّا لما
أجمع من بعدهمْ فِيهَا، لتعارض الإجماعين، وبلزومه فِي
الصَّحَابَة قبل إِجْمَاعهم فَكَانَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ
الْإِجْمَاع.
قَوْله: {فصل: أَحْمد وَأَصْحَابه وَالْأَكْثَر: لَا إِجْمَاع
مَعَ مُخَالفَة وَاحِد أَو اثْنَيْنِ} ، كالثلاثة قطع بِهِ فِي
" التَّمْهِيد " وَغَيره.
وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ لَا يُسمى
إِجْمَاعًا مَعَ الْمُخَالفَة؛ لِأَن الدَّلِيل لم ينْهض
إِلَّا فِي كل الْأمة؛ لِأَن الْمُؤمن لفظ عَام، وَالْأمة
مَوْضُوعَة للْكُلّ.
(4/1568)
وَقيل: ينْعَقد الْإِجْمَاع مَعَ مُخَالفَة
وَاحِد لَا مُخَالفَة أَكثر؛ لِأَنَّهُ نَادِر لَا اعْتِبَار
بِهِ.
وَقيل: ينْعَقد مَعَ مُخَالفَة اثْنَيْنِ، اخْتَارَهُ ابْن
جرير الطَّبَرِيّ، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ، وَابْن
حمدَان من أَصْحَابنَا فِي " الْمقنع "، وَبَعض
الْمَالِكِيَّة، وَبَعض الْمُعْتَزلَة، وَإِلَيْهِ ميل أبي
مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ فِي " الْمُحِيط ".
وَقيل: ينْعَقد مَعَ مُخَالفَة اثْنَيْنِ فِي غير أصُول
الدّين، أما فِي أصُول الدّين فَلَا ينْعَقد بمخالفة أحد.
حَكَاهُ الْقَرَافِيّ عَن الأخشيد من الْمُعْتَزلَة.
(4/1569)
وَقيل: هُوَ حجَّة مَعَ الْمُخَالفَة، لَا
إِجْمَاع، اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَغَيره، فَقَالَ: لَو
ندر الْمُخَالف مَعَ كَثْرَة المجمعين لم يكن إِجْمَاعًا قطعا،
وَالظَّاهِر أَنه حجَّة؛ لتعذر أَن يكون الرَّاجِح متمسك
الْمُخَالف؛ لِأَنَّهُ لَا يدل ظَاهرا على وجود رَاجِح، أَو
قَاطع؛ لِأَنَّهُ لَو قدر كَون متمسك الْمُخَالف راجحاً
والكثيرون لم يطلعوا عَلَيْهِ، أَو اطلعوا وخالفوه غَلطا، أَو
عمدا كَانَ فِي غَايَة الْبعد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ مَبْنِيّ على أَن حجية الْإِجْمَاع
لِاسْتِحَالَة الْعَادة، وَقد سبق ضعفه.
وَنَحْوه قَول الْهِنْدِيّ: الظَّاهِر أَن من قَالَ إِنَّه
إِجْمَاع فَإِنَّمَا يَجعله إِجْمَاعًا ظنياً لَا قَطْعِيا.
انْتهى.
وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ الْحَنَفِيّ: إِن لم يسوغوا اجْتِهَاد
الْمُخَالف، كإباحة الْمُتْعَة، وَربا الْفضل انْعَقَد،
وَإِلَّا فَلَا، كالعول؛ فَإِن
(4/1570)
الْمُتْعَة، وَربا الْفضل، وَعدم الْعَوْل،
قَالَ بِهِ ابْن عَبَّاس، لَكِن عدم الْعَوْل يسوغ فِيهِ
الِاجْتِهَاد؛ فَلهَذَا لم ينكروا عَلَيْهِ فِيهِ، وأنكروا
عَلَيْهِ فِي الْمُتْعَة وَربا الفضب؛ فَلهَذَا يُقَال: إِنَّه
رَجَعَ عَنْهُمَا.
وَحكى هَذَا السَّرخسِيّ عَن أبي بكر الرَّازِيّ.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، الْآمِدِيّ، والطوفي،
وَجمع: الْخلاف فِي الْأَقَل أَيْضا فَشَمَلَ الثَّلَاثَة،
وَالْأَرْبَعَة، وَنَحْوهم.
قَالَ الْمُوفق: وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد.
(4/1571)
قَالَ فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ":
إِنَّه الَّذِي يَصح عَن ابْن جرير.
وَقَالَ بَعضهم: إِن بلغ الْأَقَل عدد التَّوَاتُر منع،
وَإِلَّا فَلَا.
احْتج للْأَكْثَر: تنَاول الْأَدِلَّة للْجَمِيع حَقِيقَة،
والعصمة للْأمة، وَلَا تصدق بِدُونِهِ، وَقد خَالف ابْن
مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس فِي مسَائِل جُمْهُور الصَّحَابَة
فجوز لَهُم.
قَالُوا: أنكر عَلَيْهِ الْمُتْعَة، وَحصر الرِّبَا فِي
النَّسِيئَة، والعينة على زيد ابْن أَرقم.
قُلْنَا: لخلاف مَشْهُور السّنة، ثمَّ قد أنكر على الْمُنكر
فَلَا إِجْمَاع، وَأَيْضًا إنكارهم إِنْكَار مناظرة، لَا
للْإِجْمَاع فَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، فَحكمه إِلَى الله،
لقَوْله تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى
الله} [النِّسَاء: 59] .
قَالُوا: يُطلق الْكل على الْأَكْثَر.
(4/1572)
قُلْنَا: معَارض بِمَا دلّ على قلَّة أهل
الْحق من نَحْو: {كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة}
[الْبَقَرَة: 249] ، {وَقَلِيل مَا هم} [ص: 24] ، {وَقَلِيل من
عبَادي الشكُور} [سبأ: 13] ، وَعَكسه كَثْرَة أهل الْبَاطِل،
نَحْو: {أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} [العنكبوت: 63] ، { ... لَا
يعلمُونَ} [الْأَنْعَام: 37] ، { ... لَا يشكرون} [الْبَقَرَة:
243] ، {لَا يُؤمنُونَ} [الْبَقَرَة: 100] ، وَإِذا من
الْجَائِز إِصَابَة الْأَقَل وخطؤ الْأَكْثَر، كَمَا كشف
الْوَحْي عَن إِصَابَة عمر فِي أسرى بدر، وكما انْكَشَفَ
الْحَال عَن إِصَابَة أبي بكر فِي أَمر الرِّدَّة.
ثمَّ عمدتهم حمل الْكل على الْأَكْثَر وَهُوَ مجَاز.
(4/1573)
قَوْله: {وَلَا إِجْمَاع للصحابة مَعَ
مُخَالفَة تَابِعِيّ مُجْتَهد} عِنْد أَحْمد، وَأبي الْخطاب،
وَابْن عقيل، والموفق، وَالْأَكْثَر مِنْهُم: عَامَّة
الْفُقَهَاء، والمتكلمين مِنْهُم: أَكثر الْحَنَفِيَّة،
والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ أَيْضا القَاضِي
أَبُو يعلى.
لِأَنَّهُ مُجْتَهد من الْأمة فَلَا ينْهض الدَّلِيل
بِدُونِهِ.
وَلِأَن الصَّحَابَة سوغوا اجتهادهم وفتواهم مَعَهم فِي
الوقائع الْحَادِثَة فِي زمانهم فَكَانَ سعيد بن الْمسيب
يُفْتِي فِي الْمَدِينَة وفيهَا خلق من الصَّحَابَة،
(4/1574)
وَشُرَيْح فِي الْكُوفَة وَبهَا أَمِير
الْمُؤمنِينَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَحكم عَلَيْهِ فِي
خُصُومَة عرضت لَهُ عِنْده على خلاف رَأْيه وَلم يُنكر
عَلَيْهِ، وَكَذَا الْحسن الْبَصْرِيّ، وَغَيرهم كَانُوا يفتون
بآرائهم زمن الصَّحَابَة من غير نظر أَنهم أَجمعُوا أَو لَا.
وَلَو لم يعْتَبر قَوْلهم فِي الْإِجْمَاع مَعَهم لسألوا قبل
إقدامهم على الْفَتْوَى: هَل أَجمعُوا أم لَا؟ لكِنهمْ لم
يسْأَلُوا، فَدلَّ على اعْتِبَار قَوْلهم مَعَهم مُطلقًا.
وَدَعوى أَنهم إِنَّمَا جوزوا لَهُم الْفَتْوَى مَعَ
الِاخْتِلَاف دَلِيل عَلَيْهِ، بل الدَّلِيل على خِلَافه.
وَسُئِلَ أنس عَن مَسْأَلَة فَقَالَ: اسألوا مَوْلَانَا
الْحسن، فَإِنَّهُ غَابَ وحضرنا، وَحفظ ونسينا.
فقد سوغوا اجتهادهم وَلَوْلَا صِحَّته واعتباره لما سوغوه.
وَإِذا اعْتبر قَوْلهم فِي الِاجْتِهَاد فليعتبر فِي
الْإِجْمَاع؛ إِذْ لَا يجوز مَعَ تسويغ الِاجْتِهَاد ترك
الأعتداد بقَوْلهمْ وفَاقا.
(4/1575)
والأدلة السَّابِقَة تتناولهم، واختصاص
الصَّحَابَة بالأوصاف السالفة لَا يمْنَع من الِاعْتِدَاد
بذلك، وَإِلَّا لزم أَن لَا يقبل الْأَنْصَار مَعَ خلاف
الْمُهَاجِرين، والمهاجرون مَعَ الْعشْرَة، وَلَا قَوْلهم مَعَ
الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وهلم جرا؛ لظُهُور التَّفَاوُت
والتفاضل، وَلم يقل بِهِ أحد.
وَعَن أَحْمد: يكون إِجْمَاعًا، اخْتَارَهُ الْخلال والحلواني،
وَاخْتَارَهُ القَاضِي أَيْضا، فَلهُ اختياران؛ لأَنهم شاهدوا
التَّنْزِيل فهم أعلم بالتأويل، والتابعون مَعَهم كالعامة مَعَ
الْعلمَاء؛ وَلذَلِك قدم تفسيرهم.
وَأنْكرت عَائِشَة على أبي سَلمَة لما خَالف ابْن عَبَّاس فِي
عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا، وزجرته بقولِهَا: (أَرَاك كالفروج
يَصِيح بَين الديكة) ، وَلَو كَانَ قَوْلهم مُعْتَبرا لما
أنكرته.
(4/1576)
ورد ذَلِك بِأَن كَونهم أعلم لَا يَنْفِي
اعْتِبَاره اجْتِهَاد الْمُجْتَهد، وكونهم مَعَهم كالعامة مَعَ
الْعلمَاء تهجم مَمْنُوع، والصحبة لَا توجب الِاخْتِصَاص،
وإنكار عَائِشَة إِمَّا أَنَّهَا لم تره مُجْتَهدا أَو لتَركه
التأدب مَعَ ابْن عَبَّاس حَال المناظرة من رفع صَوت وَنَحْوه،
وَقَوْلها، (يَصِيح) يشْعر بِهِ.
قَوْله: {وَإِن صَار مُجْتَهدا بعده} ، أَي: بعد الْإِجْمَاع
{فعلى انْقِرَاض الْعَصْر} .
الْكَلَام كَانَ أَولا فِيمَا إِذا كَانَ مُجْتَهدا حَال
الْإِجْمَاع، وَالْكَلَام الْآن فِيمَا إِذا صَار مُجْتَهدا
بعد الْإِجْمَاع فَاخْتَلَفُوا: هَل يعْتَبر فِي صِحَة
الْإِجْمَاع قَوْله أم لَا؟ .
وَالصَّحِيح - وَعَلِيهِ الْأَكْثَر - أَنه مَبْنِيّ على
انْقِرَاض الْعَصْر من اشْترط لصِحَّة الْإِجْمَاع انْقِرَاض
الْعَصْر قبل الِاخْتِلَاف قَالَ: هَذَا لَيْسَ بِإِجْمَاع إِن
خَالف، وَمن قَالَ: لَا يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر قَالَ:
الْإِجْمَاع انْعَقَد، وَلَا اعْتِبَار لمُخَالفَة من صَار من
أهل الْإِجْمَاع بعد ذَلِك، وَسَيَأْتِي أصل الْمَسْأَلَة
وَالْخلاف فِيهَا.
قَوْله: {ونفاه الْمُوفق وَغَيره وَقَالَ: لَا يعْتَبر قَوْله
مُطلقًا} ، يَعْنِي: سَوَاء قُلْنَا هُوَ مَبْنِيّ على
انْقِرَاض الْعَصْر أم لَا؟
(4/1577)
وَحَكَاهُ السَّرخسِيّ عَن أَصْحَابهم،
وَاخْتَارَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " لسبقه
بِالْإِجْمَاع، كإسلامه بعد الْإِجْمَاع.
لَكِن قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": إِن هَذَا لم
يقلهُ أحد، وَمن نقل مقدم على من نفى.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": نعم، لَو بلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد
بعد إِجْمَاعهم فَهُوَ مَسْبُوق بِالْإِجْمَاع، فَهُوَ كمن
أسلم بعد تَمام الْإِجْمَاع. انْتهى.
وَقَالَ الْمجد: إِذا أجمع أهل الْعَصْر على حكم فَنَشَأَ قوم
مجتهدون قبل انقراضهم فخالفوهم، وَقُلْنَا: انْقِرَاض الْعَصْر
شَرط، فَهَل يرْتَفع الْإِجْمَاع على مذهبين؟ وَإِن قُلْنَا:
لَا يعْتَبر الانقراض، فَلَا. انْتهى.
قَوْله: {وَلَا يعْتَبر مُوَافَقَته} ، يَعْنِي: إِذا انْعَقَد
الْإِجْمَاع ثمَّ حدث مُجْتَهد من التَّابِعين، فَإِن وافقهم
فَلَا كَلَام، وَإِن سكت لم يقْدَح فِي الْإِجْمَاع؛ لِأَن
سُكُوته لَا يدل على الْمُخَالفَة.
وَهَذَا ذكره بعض أَصْحَابنَا، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي "
أُصُوله ".
(4/1578)
وَخَالف ابْن عقيل، وَأَبُو الْخطاب،
والآمدي، فَظَاهره أَنه يعْتَبر مُوَافَقَته.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلَعَلَّ المُرَاد عدم
مُخَالفَته، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَالضَّابِط أَن اللَّاحِق
إِمَّا أَن يتأهل قبل الانقراض أَو بعده، وعَلى الأول فإمَّا
أَن يُوَافق أَو يُخَالف أَو يسكت. قلت: سر الْمَسْأَلَة أَن
الْمدْرك لَا يعْتَبر وفاقه، بل يعْتَبر عدم خِلَافه إِذا
قُلْنَا بِهِ. انْتهى.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي مَسْأَلَة
انْقِرَاض الْعَصْر: فَإِن قيل: نسلم ونقول: يعْتَبر انْقِرَاض
المجمعين فِي وَقت الْحَادِثَة، لَا من حدث بعْدهَا، قيل:
فَمَا اعتبرتم إِذا انْقِرَاض الْعَصْر، وَإِنَّمَا اعتبرتم من
وجد وَقت الْحَادِثَة، وَهَذَا لم يقلهُ أحد؛ وَلِأَن من حدث
يجوز لَهُ الْمُخَالفَة، فَإِذا مَاتَ غَيره لم أسقطت قَوْله،
وَمَا كَانَ يجوز لَهُ؟ ! انْتهى.
قَوْله: {فَائِدَة: تَابع التَّابِعِيّ مَعَ التَّابِعِيّ
كَهُوَ مَعَ الصَّحَابِيّ ذكره
(4/1579)
القَاضِي وَغَيره} ، وَلَا فرق، يَعْنِي:
هَذَا مَا قُلْنَا فِي التَّابِعِيّ مَعَ الصَّحَابِيّ
قُلْنَاهُ فِي تَابع التَّابِعِيّ مَعَ التَّابِعِيّ.
قلت: لَو قيل: بِاعْتِبَار قَول تَابع التَّابِعِيّ مَعَ
التَّابِعِيّ، وَإِن لم نعتبره فِي التَّابِعِيّ بِحَال كَانَ
لَهُ وَجه وَقُوَّة للْفرق.
(4/1580)
قَوْله: {فصل:}
{إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة لَيْسَ بِحجَّة} عِنْد جَمَاهِير
الْعلمَاء للأدلة الْمُتَقَدّمَة فِي ذَلِك؛ وَلِأَنَّهُم بعض
الْأمة لَا كلهَا؛ لِأَن الْعِصْمَة من الْخَطَأ إِنَّمَا
ينْسب للْأمة كلهَا لَا للْبَعْض، وَلَا مدْخل للمكان فِي
الْإِجْمَاع؛ إِذْ لَا أثر لفضيلته فِي عصمَة أَهله بِدَلِيل
مَكَّة المشرفة.
وَخَالف مَالك فِي ذَلِك.
قَالَ المحاسبي فِي كتاب " فهم السّنَن ": قَالَ مَالك: إِذا
كَانَ الْأَمر بِالْمَدِينَةِ ظَاهرا مَعْمُولا بِهِ لم أر
لأحد خِلَافه، وَلَا يجوز لأحد مُخَالفَته. انْتهى.
وَاحْتج بِأَن القَوْل الْبَاطِل خبث والخبث منفي عَن
الْمَدِينَة بقول الصَّادِق، وَإِذا انْتَفَى الْبَاطِل بَقِي
الْحق فَوَجَبَ اتِّبَاعه.
(4/1581)
فَقَالَ بعض أَصْحَابه بِظَاهِرِهِ؛
وَلذَلِك أطلق كثير من الْعلمَاء القَوْل بِهِ عَن مَالك،
لَكِن قَالَ بَعضهم: ذَلِك فِي زمن الصَّحَابَة،
وَالتَّابِعِينَ، وَعَلِيهِ جرى ابْن الْحَاجِب، وَغَيره.
وَقَالَ بَعضهم: فِي زمن الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، وَمن
يليهم.
ذكره الْمجد، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح، وَحَكَاهُ ابْن
الباقلاني، وَابْن السَّمْعَانِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَادّعى ابْن تَيْمِية أَنه مَذْهَب
الشَّافِعِي وَأحمد.
وَقَالَ الْبَاجِيّ من أَصْحَاب مَالك: أَرَادَ فِيمَا طَرِيقه
النَّقْل المستفيض كالصاع، وَالْمدّ، وَعدم الزَّكَاة فِي
الخضروات مِمَّا تَقْتَضِي الْعَادة أَن يكون فِي زمن النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، إِذا لم يُغير عَمَّا
كَانَ عَلَيْهِ لعلمه، فَأَما مسَائِل الِاجْتِهَاد فَهُوَ
وَغَيره سَوَاء.
(4/1582)
وَحَكَاهُ القَاضِي فِي " التَّقْرِيب "
عَن شَيْخه الْأَبْهَرِيّ، وَجرى عَلَيْهِ الْقَرَافِيّ فِي "
شرح الْمُنْتَخب "، وَإِن خَالف فِي مَوضِع آخر، وَاخْتَارَهُ
ابْن عقيل فِي كِتَابه " النظريات " الْكِبَار فَقَالَ:
عِنْدِي أَن إِجْمَاعهم حجَّة فِيمَا طَرِيقه النَّقْل،
وَإِنَّمَا لَا يكون حجَّة فِي بَاب الِاجْتِهَاد، لِأَن مَعنا
مثل مَا مَعَهم من الرَّأْي، وَلَيْسَ لنا مثل مَا مَعَهم من
الرِّوَايَة، وَلَا سِيمَا نقلهم فِيمَا تعم بِهِ بلواهم، وهم
أهل نخيل وثمار، فنقلهم مقدم على كل نقل، لَا سِيمَا فِي هَذَا
الْبَاب. انْتهى.
وَقيل: أَرَادَ المنقولات المستمرة، كالأذان، وَالْإِقَامَة،
نقل هَذَا القَوْل وَالَّذِي قبله ابْن مُفْلِح، وغاير
بَينهمَا وتابعناه، وَكثير من الْعلمَاء يَجْعَل الْقَوْلَيْنِ
قولا وَاحِدًا.
(4/1583)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقَالَ القَاضِي من
أَصْحَاب مَالك: إِنَّمَا أَرَادَ فِيمَا طَرِيقه النَّقْل،
كالصاع، وَالْمدّ، وَالْأَذَان، وَالْإِقَامَة، وَعدم
الزَّكَاة فِي الخضروات مِمَّا تَقْتَضِي الْعَادة أَن يكون
فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا
تقدم. انْتهى.
احْتج لمَالِك بِحَدِيث: " إِنَّمَا الْمَدِينَة كالكير
تَنْفِي خبثها وينصع طيبها "، مُتَّفق عَلَيْهِ عَن جَابر.
وَخطأ علمائها خبث، وَهُوَ منفي عَنْهُم فَبَقيَ الْحق
فَوَجَبَ اتِّبَاعه، فَيكون حجَّة.
وَأما قَوْله: " ينصع طيبها " فبالصاد وَالْعين
الْمُهْمَلَتَيْنِ، وأوله يَاء مثناة من تَحت " وطيبها "
بِالتَّشْدِيدِ مَرْفُوع؛ لِأَنَّهُ فَاعل على الْمَشْهُور،
ويروى بِالنّصب و " تنصع " بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق،
وَالْفَاعِل ضمير الْمَدِينَة.
لَكِن قَالَ الْقَزاز: لم أجد لنصع فِي الطّيب وَجها،
وَإِنَّمَا وَجه الْكَلَام
(4/1584)
يتضوع طيبها، أَي: يفوح، ويروى: وينضخ
بمعجمتين.
وَالْجَوَاب: أَن فضل الْبِقَاع لَا أثر لَهُ فِي عدم خطأ
ساكنيها [إِلَّا] من عصمه الله، كَمَا تقدم.
قَالُوا: لَا يجمعُونَ إِلَّا على رَاجِح؛ لأَنهم أفضل
وَأكْثر.
رد بمنعهما، فَإِن الصَّحَابَة بغَيْرهَا أَكثر، مِنْهُم:
عَليّ، وَابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس، وَأَبُو عُبَيْدَة،
وَأَبُو مُوسَى، ومعاذ، وَغَيرهم، ثمَّ الْمَفْضُول مُعْتَبر
مَعَ الْفَاضِل.
(4/1585)
وَقيل: إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة وَمَكَّة
حجَّة، وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا؛ لأَنهم لَيْسُوا كل الْأمة
الَّذين جعلت الْحجَّة فِي قَوْلهم، وَلَا أثر للبقاع وَإِن
شرفت كَمَا تقدم.
وَقيل: وَإِجْمَاع أهل الْبَصْرَة مَعَ أهل الْكُوفَة حجَّة،
وَهُوَ ضَعِيف - لما تقدم - وَأولى.
وَقيل: وَإِجْمَاع أَحدهمَا حجَّة، وَهُوَ أَضْعَف من الَّذِي
قبله.
قَالَ القَاضِي الباقلاني: وَإِنَّمَا صَار من صَار إِلَى
ذَلِك؛ لاعتقادهم تَخْصِيص الْإِجْمَاع بالصحابة، وَكَانَت
هَذِه الثَّلَاثَة الْأَمَاكِن موطن الصَّحَابَة، وَمَا خرج
عَنْهَا أحد مِنْهُم إِلَّا شذوذاً. انْتهى.
فَلَا يظنّ أَن الْقَائِل بذلك يَقُول بِهِ فِي كل عصر،
وَبِهَذَا قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ.
(4/1586)
ومدرك الْمُخَالف: انتشار الصَّحَابَة -
رَضِي الله عَنْهُم - فِي هَذِه الْبِلَاد دون غَيرهَا.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ": قيل:
إِجْمَاع الْبَصْرَة مَعَ الْكُوفَة هُوَ حجَّة. قيل: كل بلد
مِنْهُمَا بمفرده.
وَنقل الْغَزالِيّ عَن قوم إِجْمَاع مَكَّة وَالْمَدينَة.
(4/1587)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد وَالْأَكْثَر قَول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة لَيْسَ
بِإِجْمَاع، وَلَا حجَّة مَعَ مُخَالفَة مُجْتَهد} ، وَهُوَ
الصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ عِنْد الْأَئِمَّة؛ لأَنهم
لَيْسُوا كل الْأمة الَّذين جعلت الْحجَّة فِي قَوْلهم.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة: بِأَن قَوْلهم إِجْمَاع وَحجَّة.
اخْتَارَهُ ابْن الْبَنَّا من أَصْحَابنَا، وَأَبُو خازم -
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي - حَنَفِيّ الْمَذْهَب،
وَكَانَ قَاضِيا، وَحكم بذلك زمن المعتضد فِي تَوْرِيث ذَوي
(4/1588)
الْأَرْحَام، فأنفذ حكمه، وَكتب بِهِ إِلَى
الْآفَاق، فَلم يعْتَبر خلاف زيد فِي منع تَوْرِيث ذَوي
الْأَرْحَام بِنَاء على أَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة
يورثونهم، وَلما رد أَبُو سعيد البرذعي عَلَيْهِ باخْتلَاف
الصَّحَابَة، قَالَ: الْعَمَل بقول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، لَا يلْزم من احتجاج أبي خازم أَن
يكون إِجْمَاعًا، بل حجَّة فَقَط، وَحِينَئِذٍ لَا معنى لتخصيص
أبي خازم بذلك، وَلَا كَونه رِوَايَة عَن أَحْمد؛ فَإِنَّهُ
مَنْقُول قَول عَن الشَّافِعِي فقد قَالَ ابْن كج فِي كِتَابه:
اخْتِلَاف الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ، وَكَانَت الْخُلَفَاء
الْأَرْبَعَة مَعَ أحد الْفَرِيقَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِي فِي
مَوضِع: يُصَار إِلَى قَوْلهم، وَفِي مَوضِع: لَا بل يطْلب
دلَالَة سواهُمَا.
(4/1589)
وَاسْتدلَّ كثير من الْأُصُولِيِّينَ من
أَصْحَابنَا، وَغَيرهم لهَذَا الْمَذْهَب بقول النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُم بِسنتي
وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي، تمسكوا
بهَا، وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ ". رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو
دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ، وَالْحَاكِم
فِي " الْمُسْتَدْرك " وَقَالَ: على شَرطهمَا.
وَالْمرَاد بالخلفاء هم الْأَرْبَعَة لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخلَافَة من بعدِي ثَلَاثُونَ سنة
ثمَّ يصير ملكا عَضُوضًا ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: "
خلَافَة النُّبُوَّة ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ يُؤْتِي الله الْملك
من يَشَاء ". وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ.
(4/1590)
وَاسْتدلَّ للْأولِ بِأَن ابْن عَبَّاس
خَالف جَمِيع الصَّحَابَة فِي خمس مسَائِل فِي الْفَرَائِض
انْفَرد بهَا، وَابْن مَسْعُود فِي أَربع، وَغَيرهمَا فِي غير
ذَلِك، وَلم يحْتَج عَلَيْهِم أحد بِإِجْمَاع الْخُلَفَاء
الْأَرْبَعَة، وَأَنه لَا حجَّة فِي الحَدِيث السَّابِق
لمعارضته لحَدِيث: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ " لكنه ضَعِيف،
وَبِتَقْدِير صِحَّته فَلَا مُعَارضَة؛ فَإِن المُرَاد مِنْهُ
أَن الْمُقَلّد يتَخَيَّر فيهم، لَا أَن قَول كل حجَّة.
وَأما حَدِيث: " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء ... "
فسياقه فِيمَا يكون حجَّة من حجج الشَّرْع.
وَإِنَّمَا الْجَواب: أَن المُرَاد أَن لَا يبتدع الْإِنْسَان
بِمَا لم يكن فِي السّنة، وَلَا فِيمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَة
فِي زمن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة لقرب عَهدهم بتلقي الشَّرْع.
(4/1591)
وَعنهُ: قَوْلهم حجَّة، لَا إِجْمَاع كَمَا
تقدم فِي تَأْوِيل قَول أبي خازم.
وَعنهُ: وَقَول الشَّيْخَيْنِ - أَعنِي: أَبَا بكر وَعمر -
رضوَان الله عَلَيْهِمَا - يَعْنِي حجَّة - لقَوْله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقتدوا بالذين من بعدِي أبي
بكر وَعمر " رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ،
وَقَالَ: حَدِيث حسن. وَابْن حبَان فِي " صَحِيحه ".
ورد ابْن مُفْلِح وَغَيره: بِأَن " الْخُلَفَاء " عَام
فَأَيْنَ دَلِيل الْحصْر، ثمَّ يدل على أَنه حجَّة أَو يحمل
على تقليدهم فِي فتيا أَو إِجْمَاع لم يخالفهم غَيرهم.
(4/1592)
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أَنه إِجْمَاع،
وَقَالَهُ بعض الْعلمَاء وَهُوَ ضَعِيف.
قَالَ الْآمِدِيّ: قَالَ بعض النَّاس: قَول أبي بكر وَعمر
إِجْمَاع.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكره تعض أَصْحَابنَا عَن أَحْمد،
وَعنهُ: يحرم خلاف أحدهم، اخْتَارَهُ الْبَرْمَكِي، وَغَيره من
أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، قَالَ ابْن مُفْلِح. قَول
أحدهم لَيْسَ بِحجَّة، فَيجوز لبَعْضهِم خِلَافه رِوَايَة
وَاحِدَة عِنْد أبي الْخطاب.
وَذكر القَاضِي، وَابْن عقيل رِوَايَة: لَا يجوز.
قَوْله: وَلَا يلْزم الْأَخْذ بقول أفضلهم، وَعجب أَحْمد من
قَائِل ذَلِك.
(4/1593)
وَقَالَ فِي مُقَدّمَة " رَوْضَة الْفِقْه
" لبَعض أَصْحَابنَا إِذا اخْتلف الصَّحَابَة وَفِي أحدهم قَول
إِمَام فَفِي تَرْجِيحه على القَوْل الآخر رِوَايَتَانِ، فَإِن
كَانَ مَعَ كل مِنْهُمَا إِمَام وَأَحَدهمَا أفضل فَفِي
تَرْجِيحه رِوَايَتَانِ. انْتهى.
فَذكر رِوَايَة بترجيح أحد الْقَوْلَيْنِ إِذا كَانَ فيهم
إِمَام أَو أفضل، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَمَا عقده أحدهم كصلح بني تغلب، وخراج وجزية لَا
يجوز نقضه} عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا نَقله ابْن عقيل عَن
الْأَصْحَاب كعقد عمر صلح بني تغلب، وَعقد خراج السوَاد،
والجزية، وَمَا جرى مجْرَاه.
(4/1594)
قَالَ أَبُو حَامِد الشَّافِعِي: لَا ينْقض
على أصح قولي الشَّافِعِي، وَسَبقه ابْن الْقَاص واستغره
السبخي فِي " شَرحه " قَالَ: يشبه أَن يكون تَفْرِيعا على
الْقَدِيم فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ، وَأما على الْجَدِيد
فَلَا فرق. انْتهى.
وَقَالَ ابْن عقيل: يجوز نقضه إِذا رأى ذَلِك فَيكون حكمه حكم
رَأْيه فِي جَمِيع الْمسَائِل. قَالَ: لِأَن الْمصَالح تخْتَلف
باخْتلَاف الْأَزْمِنَة.
قَوْله: {وَلَا قَول أهل الْبَيْت عِنْد الْأَرْبَعَة،
وَغَيرهم} ، أَعنِي أَنه لَيْسَ
(4/1595)
بِإِجْمَاع، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح
الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة للأدلة السَّابِقَة
الْعَامَّة فِي ذَلِك وَغَيره.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد " وَبَعض الْعلمَاء
والشيعة: إِنَّه إِجْمَاع، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ
الدّين، قَالَ: وَمثله إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة زمن
الْخُلَفَاء، وَإِجْمَاع السّنة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": وَقد ذكر
القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد " هُوَ وَطَائِفَة من الْعلمَاء:
أَن العترة لَا تَجْتَمِع على خطأ، كَمَا فِي حَدِيث
التِّرْمِذِيّ، فَهَذِهِ ثَلَاث إجماعات: العترة،
وَالْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وَأهل
(4/1596)
الْمَدِينَة، وتقترن بهَا أهل السّنة،
فَإِن أهل السّنة لَا يجمعُونَ على ضَلَالَة كإجماع أهل بَيته،
ومدينته وخلفائه. انْتهى.
وَاسْتدلَّ لذَلِك بقوله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيد الله
ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} [الْأَحْزَاب: 33] .
لَكِن قيل: الرجس هُوَ الْإِثْم.
وَقيل: الشّرك وَالْخَطَأ؛ لِأَنَّهُ لكل مستقذر.
وَقيل: المُرَاد بِأَهْل الْبَيْت أَزوَاجه؛ لسياق الْقُرْآن.
وَقيل: أَهله، وأزواجه.
وَقيل: فَاطِمَة، وَعلي، وَحسن وحسين؛ لرِوَايَة شهر بن
حَوْشَب عَن أم سَلمَة: أَن هَذِه الْآيَة لما نزلت جلل
عَلَيْهِم بكساء وَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي،
وخاصتي فَأذْهب عَنْهُم الرجس، وطهرهم تَطْهِيرا "، فَقَالَت
أم سَلمَة: وَأَنا مَعكُمْ؟ قَالَ: " إِنَّك إِلَى خير ".
رَوَاهُ أَحْمد، وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ.
(4/1597)
5
- وَعَن جَابر مَرْفُوعا: " إِنِّي تركت فِيكُم مَا إِن
أَخَذْتُم بِهِ لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بَيْتِي ".
وَعَن زيد بن أَرقم مَرْفُوعا: " إِنِّي تَارِك فِيكُم مَا إِن
تمسكتم بِهِ لن تضلوا بعدِي، أَحدهمَا أعظم من الآخر وَهُوَ
كتاب الله تَعَالَى، وعترتي أهل بَيْتِي لن يفترقا حَتَّى
يردوا على الْحَوْض " رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيّ.
وَفِي مُسلم من حَدِيث زيد بن أَرقم: " إِنِّي تَارِك فِيكُم
ثقلين، أَولهمَا: كتاب الله، فِيهِ الْهدى والنور، فَخُذُوا
بِكِتَاب الله واستمسكوا بِهِ، ثمَّ قَالَ: وَأهل بَيْتِي،
أذكركم الله فِي أهل بَيْتِي ".
لَكِن هَذِه الْأَخْبَار آحَاد، وَلَيْسَ بِحجَّة عِنْد
الشِّيعَة، وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره أَنه لَا
يثبت بِهِ أصل، وَلِأَن زيدا قَالَ: أهل بَيته من حرم
الصَّدَقَة: آل عَليّ، وَآل عقيل، وَآل جَعْفَر، وَآل عَبَّاس.
وَهُوَ أعلم بِمَا روى.
(4/1598)
وَالْخَبَر فِي الْخُلَفَاء أصح وَلم يقل
بِهِ الشِّيعَة، ونمنع أَن الْخَطَأ من الرجس. وَفِي "
الْوَاضِح ": دلّ سِيَاق الْآيَة أَنه أَرَادَ دفع التُّهْمَة.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: مُفْرد حلي بِاللَّامِ وَلَا
يسْتَغْرق، وَلم يحْتَج أهل الْبَيْت بذلك، وَلَا ذَكرُوهُ،
وَلَا أَنْكَرُوا على مخالفهم حَتَّى عَليّ - رَضِي الله عَنهُ
- زمن ولَايَته، وَلَو كَانَ ذَلِك حجَّة كَانَ تَركه خطأ،
ولوجب ذكره، وَمَعْلُوم لَو ذكره لنقل وَقَبله مِنْهُ
أَصْحَابه وَغَيرهم كَمَا فِي غَيره.
قَوْله: {وهم عَليّ وَفَاطِمَة ونجلاهما فِي الْأَصَح} ،
وَذَلِكَ لما فِي التِّرْمِذِيّ: أَنه لما نزل قَوْله
تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل
الْبَيْت} [الْأَحْزَاب: 33] أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أدَار عَلَيْهِم الكساء وَقَالَ: "
هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي، وخاصتي، اللَّهُمَّ أذهب عَنْهُم الرجس
وطهرهم تَطْهِيرا " كَمَا تقدم ذكره.
وَرُبمَا قَالَت الشِّيعَة إِن أهل الْبَيْت: عَليّ - رَضِي
الله عَنهُ - وَحده، كَمَا نَقله عَنْهُم أَبُو إِسْحَاق
الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع ".
(4/1599)
فَائِدَة:
المُرَاد بالشيعة: من ينْسب إِلَى حب عَليّ - رَضِي الله عَنهُ
-، وَيَزْعُم أَنه من شيعته، وَقد كَانَ فِي الأَصْل لقباً
للَّذين ألفوه فِي حَيَاته كسلمان، وَأبي ذَر، والمقداد،
وعمار، وَغَيرهم - رَضِي الله عَنْهُم -، ثمَّ صَار لقباً بعد
ذَلِك على من يرى تفضيله على كل الصَّحَابَة، وَأُمُور أُخْرَى
قَالُوا بهَا، لَا يرضاها عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أبدا،
وَلَا أحد من ذُريَّته مِمَّن يقْتَدى بِهِ، ثمَّ تفَرقُوا
فرقا كَثِيرَة، وَهَؤُلَاء هم المُرَاد بِإِطْلَاق
الْأُصُولِيِّينَ وَغَيرهم الشِّيعَة.
(4/1600)
قَوْله: {فصل}
{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر لَا يشْتَرط عدد التَّوَاتُر فِيهِ}
، أَي: فِي الْإِجْمَاع، كدليل السّمع، وَنَقله ابْن برهَان
عَن مُعظم الْعلمَاء؛ لِأَن الْمَقْصُود اتِّفَاق مجتهدي
الْأمة، وَقد حصل الِاتِّفَاق.
{وَخَالف أَبُو الْمَعَالِي} ، وَأَبُو بكر الباقلاني،
وَطَوَائِف من الْمُتَكَلِّمين فَقَالُوا: لَا ينْعَقد عقلا.
(4/1601)
وَمعنى قَوْلهم: - عقلا - أَنهم إِذا لم
يبلغُوا عدد التَّوَاتُر لَا يمْتَنع عقلا تواطؤهم على
الْخَطَأ، لَكِن إِنَّمَا هَذَا تَفْرِيع على أَن عِلّة حجية
الْإِجْمَاع ذَلِك، وَالْمُعْتَمد - كَمَا تقدم - إِنَّمَا
هُوَ الْقُرْآن وَالسّنة لَا الْعقل.
قَوْله: {فَلَو بَقِي وَاحِد فإجماع فِي ظَاهر كَلَام
أَصْحَابنَا} ، قَالَه ابْن مُفْلِح وتابعناه، وَاخْتَارَهُ
الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَابْن
سُرَيج، وَابْن عقيل، وَعَزاهُ الْهِنْدِيّ للأكثرين.
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " فِيمَا إِذا خَالف وَاحِد
أَو اثْنَان: وَمِنْهَا أَنه لَو قل عدد الِاجْتِهَاد فَلم
يبْق إِلَّا الْوَاحِد والاثنان لفتنة أَو غَيرهَا استوعبتهم -
وَالْعِيَاذ بِاللَّه - كَمَا قل الْقُرَّاء فِي قتال أهل
الرِّدَّة بِكَثْرَة من قتل من الْمُسلمين، كَانَ [من] بَقِي
من الْمُجْتَهدين مُسْتقِلّا بِالْإِجْمَاع وَلم ينخرم
الْإِجْمَاع؛ لعدم الْكَثْرَة، إِذا كَانَ هَذَا الْعدَد
الْقَلِيل يصلح لإِثْبَات أصل الْإِجْمَاع الْمَقْطُوع بِهِ
فَأولى أَن يصلح لفك الْإِجْمَاع واختلاله بمخالفته. انْتهى.
(4/1602)
وَقَالَ الْغَزالِيّ: إِن وَافقه الْعَوام
واعتبرنا قَوْلهم كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا.
وَقيل: يكون حجَّة، وَلَا نُسَمِّيه إِجْمَاعًا.
وَقيل: لَا نُسَمِّيه حجَّة وَلَا إِجْمَاعًا، اخْتَارَهُ كثير
من الْعلمَاء، مِنْهُم: التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي،
وَغَيرهمَا لشعور الْإِجْمَاع بِالْإِجْمَاع.
وعَلى كل حَال للشَّافِعِيَّة قَولَانِ، الْمُرَجح أَنه لَيْسَ
بِإِجْمَاع.
(4/1603)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية،
وَحكي عَن الشَّافِعِي، وَأكْثر أَصْحَابه: لَو قَالَ مُجْتَهد
قولا وانتشر وَلم يُنكر قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب فإجماع} .
أَي: ظَنِّي وَذَلِكَ لِأَن الظَّاهِر الْمُوَافقَة لبعد
سكوتهم عَادَة؛ وَلذَلِك يَأْتِي فِي قَول الصَّحَابِيّ
والتابعي فِي معرض الْحجَّة: كَانُوا يَقُولُونَ أَو يرَوْنَ
وَنَحْوه، وَمَعْلُوم أَن كل أحد لم يُصَرح بِهِ، وسكوتهم
يشْعر بالموافقة وَإِلَّا لأنكر ذَلِك، وَهُوَ مستمد من
سُكُوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعل أحد
بِلَا دَاع كَمَا تقدم.
قَالَ الْبَاجِيّ: هُوَ قَول أَكثر المالكيين، وَالْقَاضِي أبي
الطّيب،
(4/1604)
وَشَيخنَا أبي إِسْحَاق، وَأكْثر أَصْحَاب
الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن برهَان: إِلَيْهِ ذهب كَافَّة أهل الْعلم. وَنَقله
فِي " الْبَحْر " عَن الْأَكْثَرين.
وَفِي " شرح الْوَسِيط " للنووي: الصَّوَاب من مَذْهَب
الشَّافِعِي أَنه حجَّة، وَإِجْمَاع، وَهُوَ مَوْجُود فِي كتب
الْعِرَاقِيّين. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُرَجح أَنه إِجْمَاع ظَنِّي، لَا
قَطْعِيّ؛ لِأَن الْقطع مَعَ قيام الِاحْتِمَال فِي السُّكُوت
لَا يُمكن.
(4/1605)
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل، والآمدي،
والرازي: هُوَ ظَنِّي خلافًا لبَعض الْفُقَهَاء.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُنُون "، وَالْقَاضِي أَبُو بكر
بن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَحكي عَن الشَّافِعِي
أَيْضا، حَكَاهُ الْآمِدِيّ، وَدَاوُد، وَأَبُو هَاشم: لَا
يكون إِجْمَاعًا، وَلَا حجَّة؛ لاحْتِمَال توقف السَّاكِت أَو
ذَهَابه إِلَى تصويب كل مُجْتَهد. حَكَاهُ الباقلاني عَن
الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ، وَقَالَ: إِنَّه آخر أَقْوَاله.
وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّه ظَاهر
الْمَذْهَب حَيْثُ قَالَ: لَا ينْسب إِلَى سَاكِت قَول - وَهِي
من عباراته الرشيقة -.
(4/1606)
وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " المنخول ": نَص
عَلَيْهِ فِي الْجَدِيد.
وَاسْتدلَّ - أَيْضا - بِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه لم يجْتَهد، أَو
اجْتهد، ووقف، أَو خَالف وكتم للتروي وَالنَّظَر، أَو لِأَن كل
مُجْتَهد مُصِيب، أَو وقر الْقَائِل أَو هابه.
ورده أَصْحَاب القَوْل الأول بِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر، لَا
سِيمَا فِي حق الصَّحَابَة مَعَ طول بقائهم، واعتقاد
الْإِصَابَة لَا يمْنَع النّظر لتعرف الْحق، كالمعروف من
حَالهم.
وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة، والصيرفي، والآمدي، وَابْن
الْحَاجِب فِي " الْمُخْتَصر الْكَبِير "، وَتردد فِي "
الصَّغِير "، وَحكى عَن الشَّافِعِي أَنه حجَّة لَا إِجْمَاع.
وَنَقله فِي " الْمُعْتَمد " عَن أبي هَاشم، وَنَقله ابْن
برهَان وَالشَّيْخ فِي " اللمع " عَن الصَّيْرَفِي.
(4/1607)
وَقَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة من
الشَّافِعِيَّة: يكون حجَّة فِي الْفتيا لَا الحكم. حَكَاهُ
الْمجد فِي " المسودة ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: يكون إِجْمَاعًا إِن كَانَ فتيا لَا حكما،
حَكَاهُ الْأَكْثَر عَنهُ هَكَذَا.
وَفِي " الْمَحْصُول " عَنهُ: أَنه إِن كَانَ من حَاكم
وَبَينهمَا فرق لاحْتِمَال أَن يكون فتيا من حَاكم، لَا حكما.
وَهُوَ مَا نَقله عَن الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر "، وَابْن
برهَان فِي " الْأَوْسَط ".
قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: إِن الْعَادة تقضي بِأَن ترك
الْإِنْكَار فِي الْفتيا الْمُوَافقَة ظَاهر، بِخِلَاف ترك
الْإِنْكَار فِي حكم الْحَاكِم؛ فَإِنَّهُ قد يحضر الْفُقَهَاء
مجَالِس الْحُكَّام، ويشاهدون خطأهم فِي الْأَحْكَام ويتركون
الْإِنْكَار عَلَيْهِم؛ لمهابتهم أَو غير ذَلِك.
(4/1608)
رد: هَذَا لَا يمْنَع من إبداء الْخلاف،
كَمَا قيل لعمر وَغَيره فِي قضايا.
وَقَالَ الْمروزِي عَكسه، يَعْنِي عكس قَول ابْن أبي
هُرَيْرَة، يَعْنِي: أَنه حجَّة، أَو إِجْمَاع فِي الحكم لَا
الْفتيا؛ لِأَن الْأَغْلَب فِي الحكم أَن يكون عَن مُشَاورَة.
{وَقيل: إِجْمَاع فِيمَا يفوت استدراكه} إِن كَانَ فِي شَيْء
يفوت تَدَارُكه، كإراقة دم أَو اسْتِبَاحَة فرج، كَانَ
إِجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ.
{وَقيل: إِجْمَاع فِيمَا يَدُوم ويتكرر وُقُوعه} ، والخوض
فِيهِ فالسكوتي فِيهِ إِجْمَاع. اخْتَارَهُ إِمَام
الْحَرَمَيْنِ فِي آخر الْمَسْأَلَة.
وَقيل: إِن كَانَ فِي عصر الصَّحَابَة كَانَ إِجْمَاعًا،
وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر "
وَالْمَاوَرْدِيّ.
(4/1609)
{وَقيل: إِن كَانَ السَّاكِت أقل} فإجماع،
وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ السَّرخسِيّ من الْحَنَفِيَّة.
{وَقيل: إِن انقرض الْعَصْر} كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا كَانَ
حجَّة.
اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب؛ لِأَن الِاحْتِمَال يضعف.
قَالَ ابْن مُفْلِح: اخْتَار أَبُو الْخطاب، والجبائي،
والآمدي، وَغَيرهم اعْتِبَار انْقِرَاض الْعَصْر ليضعف
الِاحْتِمَال. انْتهى.
وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق فِي " اللمع ": إِنَّه الْمَذْهَب.
(4/1610)
وَقَالَ أَبُو الْخطاب - أَيْضا - فِي "
التَّمْهِيد "، وَالشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "،
والطوفي: إِن لم يكن القَوْل فِي تَكْلِيف فَلَا إِجْمَاع،
وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، كَقَوْل الْقَائِل مثلا:
عمار أفضل من حُذَيْفَة، وَبِالْعَكْسِ، لَا يدل السُّكُوت
فِيهِ على شَيْء؛ إِذْ لَا تَكْلِيف على النَّاس فِيهِ؛
وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَة إِلَى إِنْكَاره، أَو تصويبه،
وَيَأْتِي قَرِيبا فِي تعداد الشُّرُوط، وَلم يفرق كثير من
أَصْحَابنَا وَغَيرهم، بل أطْلقُوا.
تَنْبِيه: حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّه إِجْمَاع، أَو حجَّة لَا بُد
يشْتَرط لَهُ شُرُوط، مِنْهَا: كَون ذَلِك فِي الْمسَائِل
التكليفية كَمَا تقدم فِي القَوْل الَّذِي قبل هَذَا عَن أبي
الْخطاب وَغَيره، وَكَلَام الْبرمَاوِيّ وَغَيره يَقْتَضِي
أَنه مَحل وفَاق.
وَأَن يكون فِي مَحل الِاجْتِهَاد.
وَأَن يطلعوا على ذَلِك.
وَأَن لَا يكون هُنَاكَ أَمارَة سخط، وَإِن لم يصرحوا بِهِ.
(4/1611)
وَأَن يمْضِي قدر مهل النّظر عَادَة فِي
تِلْكَ الْحَالة.
وَأَن لَا يُنكر ذَلِك مَعَ طول الزَّمَان.
فَخرج مَا لَيْسَ من مسَائِل التَّكْلِيف كَمَا تقدم، وَمَا
إِذا كَانَ الْقَائِل مُخَالفا للثابت الْقطعِي فالسكوت عَنهُ
لَيْسَ دَلِيلا على مُوَافَقَته، وَخرج أَيْضا مَا لم يطلع
عَلَيْهِ الساكتون فَإِنَّهُ لَا يكون حجَّة قطعا.
وَهل المُرَاد الْقطع باطلاعهم، أَو غَلَبَة الظَّن بذلك؛
لانتشاره وشهرته كَمَا صرح بِهِ الْأُسْتَاذ نقلا عَن مَذْهَب
الشَّافِعِي، واختياراً لَهُ، وَأما إِن احْتمل وَاحْتمل
فَلَا، كَمَا نَقله ابْن الْحَاجِب عَن الْأَكْثَر،
وَمُقَابِله قَول أَنه حجَّة.
وَخرج أَيْضا مَا إِذا كَانَ هُنَاكَ أَمارَة سخط فَإِنَّهُ
لَيْسَ بِحجَّة بِلَا خلاف، كَمَا أَنه إِذا كَانَ مَعَه
أَمارَة رضى يكون إِجْمَاعًا.
(4/1612)
قَالَه الرَّوْيَانِيّ، وَالْقَاضِي عبد
الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَفِي كَلَام الرَّازِيّ مَا هُوَ
كَالصَّرِيحِ فِي أَن الْخلاف جَار مَعَ أَمارَة سخط.
وَخرج أَيْضا بِهِ مَا إِذا لم تمض مُدَّة للنَّظَر؛
لاحْتِمَال أَن يكون السَّاكِت فِي مهلة للنَّظَر.
وَمن شَرط مَحل الْخلاف أَيْضا أَن لَا يطول الزَّمَان مَعَ
تكَرر الْوَاقِعَة، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مَحل الْخلاف
السَّابِق، كَمَا هُوَ مُقْتَضى كَلَام أبي الْمَعَالِي، وَصرح
بِهِ ابْن التلمساني.
وَأَن يكون قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب، فَأَما بعد استقرارها
فَلَا أثر للسكوت قطعا، كإفتاء مقلد سكت عَنهُ المخالفون
للْعلم بمذهبهم، ومذهبه، كحنبلي
(4/1613)
يُفْتِي بِنَقْض الْوضُوء بِمَسّ الذّكر،
فَلَا يدل سكُوت من يُخَالِفهُ - كالحنفية - على مُوَافَقَته،
وَالله أعلم.
تَنْبِيه: يَنْبَغِي أَن يدْخل فِي الْمَسْأَلَة مَا إِذا فعل
بعض أهل الْإِجْمَاع فعلا وَلم يصدر مِنْهُم قَول، وَسكت
الْبَاقُونَ عَلَيْهِ، أَن يكون هَذَا إِجْمَاعًا سكوتياً
بِنَاء على مَا سبق.
من الْمُرَجح فِي أصل الْإِجْمَاع أَنه لَا فرق بَين القَوْل
وَالْفِعْل، بل يتَوَلَّد من ذَلِك أَن الْفَاعِل لَو كَانَ من
غير أهل الِاجْتِهَاد، وإطلع عَلَيْهِ أهل الْإِجْمَاع، وَلم
ينكروا عَلَيْهِ، وَلَا دَاعِي لعدم إنكارهم - أَن يكون ذَلِك
حجَّة؛ لِأَن تقريرهم كتقرير الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شخصا على فعل كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَإِن لم ينتشر} فَتَارَة يكون من صَحَابِيّ أَو من
تَابِعِيّ، وَتارَة يكون من غَيرهمَا، فَإِن كَانَ أَحدهمَا
{فَيَأْتِي ذَلِك فِي مَذْهَب الصَّحَابِيّ} مفصلا.
(4/1614)
وَلَعَلَّ هَذِه الْمَسْأَلَة غير تِلْكَ،
بل يحْتَمل أَن تكون تِلْكَ أَعم من هَذِه؛ لِأَن لهَذِهِ
شُرُوطًا لَا تشْتَرط فِي تِلْكَ، وَهُوَ الظَّاهِر وَإِلَّا
تنَاقض كَلَامهم، وَإِن كَانَ من غَيرهمَا فَالْأَصَحّ أَنه
لَيْسَ بِإِجْمَاع، وَلَا حجَّة لعدم الدَّلِيل على ذَلِك،
وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
وَعند بَعضهم أَنه إِجْمَاع وَحجَّة؛ لِئَلَّا يَخْلُو
الْعَصْر عَن الْحق.
رد بِجَوَازِهِ لعدم علمهمْ، نَقله ابْن مُفْلِح.
وَقيل: يكون حجَّة اخْتَارَهُ بَعضهم.
وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ: الْحق أَنه إِن كَانَ فِيمَا تعم
بِهِ الْبلوى - أَي: يَقع النَّاس فِيهِ كثيرا - كنقض الْوضُوء
بِمَسّ الذّكر فَهُوَ حجَّة، وَإِلَّا فَلَا. وَجزم بِهِ
الْبَيْضَاوِيّ.
لَكِن حاكي هَذِه الْأَقْوَال لم يفرق بَين الصَّحَابِيّ
وَغَيره فَجعل الْأَقْوَال شَامِلَة لكل مُجْتَهد.
(4/1615)
وَاعْلَم أَن المُرَاد عدم الانتشار هُنَا
والشهرة، لَا الْعلم ببلوغ الْخَبَر للْبَاقِي، وَاشْترط
الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عدم الانتشار، يُريدَان بِهِ نفي
الْعلم باطلاعهم وَلم يريدا بِهِ عدم الشُّهْرَة فَلَا خلاف
فِي الْمَعْنى، قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ.
وَفرض ابْن الْحَاجِب أصل الْمَسْأَلَة فِيمَا إِذا عرف
الْبَاقِي قَول الْمُجْتَهد فَقَالَ: إِذا أفتى وَاحِد
وَعرفُوا بِهِ وَلم يُنكره أحد.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وانتشر، وفسروه بِمَا قَالَه
الْقَرَافِيّ وَغَيره.
(4/1616)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن فورك، وسليم، وَحكي عَن
الْأَشْعَرِيّ، والمعتزلة: يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر.
وَالْأَكْثَر لَا يشْتَرط، مِنْهُم: الطوفي فِي " مُخْتَصره "،
وَأَبُو الْخطاب وَقَالَ: أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد، وَحَكَاهُ
ابْن قَاضِي الْجَبَل رِوَايَة. وَقيل: للسكوتي، كالآمدي
وَغَيره.
(4/1617)
وَقيل: للقياسي. وَقيل: فِيهِ مهلة. وَقيل:
إِن بَقِي عدد التَّوَاتُر. وَقيل: فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة}
.
اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة اخْتِلَافا كثيرا،
فَالَّذِي عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه،
وَاخْتَارَهُ ابْن فورك، وسليم الرَّازِيّ، وَنَقله ابْن
برهَان عَن الْمُعْتَزلَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر ابْن برهَان أَنه مَذْهَبهم،
وَنَقله الْأُسْتَاذ عَن
(4/1618)
الْأَشْعَرِيّ، أَنه يعْتَبر انْقِرَاض
الْعَصْر.
وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء أَنه لَا يعْتَبر
ذَلِك، وَقَالَهُ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة. قَالَ الباقلاني:
هُوَ قَول الْجُمْهُور.
وَقَالَ الْبَاجِيّ: هُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء والمتكلمين.
وَقَالَ أَبُو سُفْيَان: هُوَ قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة،
وَصَححهُ الدبوسي، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ، وَاخْتَارَهُ ابْن
قَاضِي الْجَبَل، وميل ابْن مُفْلِح إِلَيْهِ.
وَقيل: يعْتَبر الانقراض للْإِجْمَاع السكوتي؛ لضَعْفه دون
غَيره، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَغَيره.
(4/1619)
وَنقل عَن الْأُسْتَاذ أبي مَنْصُور
الْبَغْدَادِيّ وَقَالَ: إِنَّه قَول الحذاق من أَصْحَاب
الشَّافِعِي.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: هُوَ قَول أَكثر الْأَصْحَاب.
وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق،
وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيّ. وَجعل سليم الرَّازِيّ مَحل
الْخلاف فِي غير السكوتي، وَأَن الانقراض فِي السكوتي لَا خلاف
فِيهِ.
وَقيل: يعْتَبر الانقراض للْإِجْمَاع القياسي دون غَيره، نَقله
ابْن الْحَاجِب عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَيَأْتِي أَن ابْن
الْعِرَاقِيّ خطأه فِي ذَلِك،
(4/1620)
لَكِن الْهِنْدِيّ وَغَيره نقل عَنهُ
التَّفْصِيل بَين أَن يعلم أَن متمسكهم ظَنِّي فَيعْتَبر طول
الزَّمَان، أَو لَا فَلَا.
وَقيل: يعْتَبر الانقراض إِن كَانَ فِيهِ مهلة، وَإِلَّا
فَلَا. فَينْعَقد قبل الانقراض فِيمَا لَا مهلة فِيهِ مِمَّا
لَا يُمكن استدراكه من قتل نفس واستباحة فرج دون غَيره حَكَاهُ
ابْن السَّمْعَانِيّ عَن بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَهُوَ
نَظِير مَا سبق فِي السكوتي.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي " الْحَاوِي " أَن مَا لَا
يتَعَلَّق بِهِ إِتْلَاف يشْتَرط فِيهِ الانقراض قطعا وَمَا
لَا يُمكن استدراكه فِيهِ وَجْهَان.
وَقيل: لَا يعْتَبر الانقراض إِن بَقِي عدد التَّوَاتُر، وَإِن
بَقِي أقل من عدد التَّوَاتُر لم يكترث بِالْبَاقِي، ونحكم
بانعقاد الْإِجْمَاع بِخِلَاف مَا إِذا بَقِي أَكثر، حَكَاهُ
الباقلاني فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب "، وَأَشَارَ إِلَيْهِ
ابْن برهَان فِي " الْوَجِيز ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ الْمُشْتَرط أَن لَا يبْقى دون عدد
التَّوَاتُر، فَحِينَئِذٍ لَا يكترث
(4/1621)
بِالْبَاقِي وَيحكم بانعقاد الْإِجْمَاع
بِخِلَاف مَا إِذا بَقِي أَكثر. وَلَعَلَّ " لَا " زَائِدَة
فِي قَوْله: أَن لَا يبْقى وَأَنه أَن يبْقى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: الْخَامِس: إِن بَقِي مِنْهُم كثير
وَضبط بِعَدَد التَّوَاتُر لم يكن إِجْمَاعهم حجَّة، وَإِن
كَانَ الْبَاقِي مِنْهُم قَلِيلا وَهُوَ دون عدد التَّوَاتُر
انْعَقَد الْإِجْمَاع. انْتهى.
وَحَاصِله: أَنه إِذا مَاتَ مِنْهُم جمع وَبَقِي مِنْهُم عدد
التَّوَاتُر وَرَجَعُوا أَو بَعضهم لم ينْعَقد الْإِجْمَاع،
وَإِن بَقِي مِنْهُم دون عدد التَّوَاتُر وَرَجَعُوا أَو
بَعضهم لم يُؤثر فِي الْإِجْمَاع.
وَقيل: يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة
دون إِجْمَاع غَيرهم، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الطَّبَرِيّ.
اسْتدلَّ لِأَحْمَد وَمن تَابعه: بقوله تَعَالَى: {لِتَكُونُوا
شُهَدَاء على النَّاس} [الْبَقَرَة: 143] ومنعهم من الرُّجُوع
بعض كَونهم شُهَدَاء على أنفسهم.
أُجِيب: لَا مُنَافَاة، بل هِيَ أولى؛ لانْتِفَاء التُّهْمَة.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: بِكَوْن عَليّ خَالف عمر - رَضِي الله
عَنْهُمَا - بعد مَوته فِي
(4/1622)
بيع أم الْوَلَد، وَأَن حد الْخمر
ثَمَانُون، وَعمر خَالف أَبَا بكر - رَضِي الله عَنْهُمَا -
فِي قسْمَة الْفَيْء ففضل عمر وَسوى أَبُو بكر.
أُجِيب عَن الأول: بِأَنَّهُ لَا يدل على سبق الْإِجْمَاع،
وَقَول عُبَيْدَة: (رَأْيك فِي الْجَمَاعَة - أَي: زمن
الِاجْتِمَاع والألفة - أحب إِلَيْنَا من رَأْيك
(4/1623)
وَحدك) كَيفَ وَقد قَالَ جَابر: بعناهن على
زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأبي
بكر، وَشطر من ولَايَة عمر) ؟ ! وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس.
وَعَن الثَّانِي: أَنه خَالف السكوتي، ثمَّ هُوَ فعل.
وَعَن الثَّالِث: بِأَنَّهُ خَالف فِي زَمَنه.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: بِأَنَّهُ اجْتِهَاد فساغ الرُّجُوع،
وَإِلَّا منع الِاجْتِهَاد الِاجْتِهَاد. أُجِيب: لَا يجوز؛
إِذْ صَار الأول قَطْعِيا.
وَاسْتدلَّ: بِأَن الْمَنْع يلْزم مِنْهُ إِلْغَاء الْخَبَر
الصَّحِيح بِتَقْدِير الِاطِّلَاع عَلَيْهِ إِذا خَالف
إِجْمَاعهم.
(4/1624)
أُجِيب: لُزُوم الإلغاء مَمْنُوع لتوقفه
على تَقْدِيره، وَهُوَ بعيد، أَو مُمْتَنع؛ لِأَن الْبَارِي
تَعَالَى عصمهم عَن الِاتِّفَاق على خلاف الْخَبَر الصَّحِيح،
وَلَو سلم فالإجماع قَطْعِيّ يقدم على الْخَبَر الظني.
قَالَ ابْن مُفْلِح: رد بِأَنَّهُ بعيد.
وَقيل: محَال للعصمة، ثمَّ يلْزم لَو انقرضوا فَلَا أثر لَهُ؛
لِأَن الْإِجْمَاع قَاطع؛ وَلِأَنَّهُ إِن كَانَ عَن نَص لم
يتَغَيَّر، وَإِلَّا لم يجز نقض اجْتِهَاد بِمثلِهِ لَا سِيمَا
لقِيَام الْإِجْمَاع هُنَا.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِذا عَارضه نَص أول الْقَابِل
لَهُ وَإِلَّا تساقطا.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: بِأَن مَوته عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة
وَالسَّلَام شَرط دوَام الحكم فَكَذَا هُنَا.
(4/1625)
أُجِيب: لِإِمْكَان نسخه فيرفع قَطْعِيّ
بِمثلِهِ.
وَاسْتدلَّ لقَوْل الْأَكْثَر بأدلة الْإِجْمَاع، وَبِأَنَّهُ
لَو اعْتبر امْتنع الْإِجْمَاع للتلاحق، احْتج بِهِ أَبُو
الْخطاب وَجَمَاعَة.
ورده القَاضِي وَجَمَاعَة: بِأَنَّهُ لَا يعْتَبر التَّابِعِيّ
مَعَ الصَّحَابَة فِي رِوَايَة، ثمَّ إِن اعْتبر لم يعْتَبر
تَابع تَابِعِيّ أدْركهُ مُجْتَهدا؛ لِأَنَّهُ لم يعاصر
الصَّحَابَة. زَاد ابْن عقيل: ولندرة إِدْرَاكه مُجْتَهدا.
وللأكثر أَن يَقُولُوا: التَّابِعِيّ فِي هَذَا الْإِجْمَاع
كالصحابي لاعْتِبَار قَوْله فِيهِ فَلَا فرق.
وَاسْتدلَّ للْأَكْثَر أَيْضا: الْحجَّة قَوْلهم فَلم يعْتَبر
مَوْتهمْ كالرسول.
رد: مَحل النزاع وَقَول الرَّسُول عَن وَحي فَلم يُقَابله
غَيره، وَقَوْلهمْ عَن اجْتِهَاد.
قَوْله: {حَيْثُ اعْتبر الانقراض} ، وَهُوَ موت من اعْتبر
فِيهِ {سَاغَ لَهُم
(4/1626)
ولبعضهم الرُّجُوع لدَلِيل، وَلَو عقب
الْإِجْمَاع} ؛ لِأَن الْإِجْمَاع لم يسْتَقرّ؛ لِأَنَّهُ
إِنَّمَا يسْتَقرّ بِمَوْت من اعْتبر فِيهِ، وَالْمُعْتَبر
فِيهِ هم المجتهدون لَا غير على الصَّحِيح كَمَا تقدم.
وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": شرطُوا انْقِرَاض كلهم أَو
غالبهم أَو عُلَمَائهمْ، أَقْوَال، اعْتِبَار الْعَاميّ
والنادر - يَعْنِي من يَقُول فِي الْإِجْمَاع: نعتبر
الْعَامَّة والفرد النَّادِر - يعْتَبر مَوْتهمْ، وَمن يَقُول:
لَا يعْتَبر قَول النَّادِر اعْتبر موت الْغَالِب، وَمن
يَقُول: لَا يعْتَبر إِلَّا قَول الْعَالم الْمُجْتَهد اعْتبر
مَوته فَقَط.
هَكَذَا شرح شراحه، لَكِن قَالَ الكوراني: لَيْسَ بسديد؛
لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن الْمَذْكُورين من أَحْمد، وَابْن
فورك، وسليم مُخْتَلفُونَ فِي الْمَسْأَلَة؛ بَعضهم شَرط
مُوَافقَة الْعَاميّ، وَبَعْضهمْ لَا يُبَالِي بمخالفة
النَّادِر، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك؛ إِذْ لم ينْقل عَن أحد
مِنْهُم مَا لزم من هَذَا الْكَلَام، مَعَ أَن الْكَلَام فِي
حجية الْإِجْمَاع قبل الانقراض، وَقد تقدم فِي المُصَنّف -
يَعْنِي التَّاج - أَن من شَرط وفَاق الْعَاميّ إِنَّمَا شَرط
فِي إِطْلَاق الْأمة لَا فِي الحجية، فَتَأمل. انْتهى.
(4/1627)
وَلذَلِك عدلنا عَن مثل هَذِه الْعبارَة
وَقُلْنَا: وَهُوَ موت من اعْتبر فِيهِ، وَمن يعْتَبر
انْقِرَاض الْعَصْر لَا يعْتَبر فِيهِ إِلَّا الْمُجْتَهدين
فَيعْتَبر مَوْتهمْ لَا غير، فَسلم مِمَّا يرد عَلَيْهِ.
إِذا علم ذَلِك فالمشترطون للانقراض لَا يمْنَعُونَ كَون
الْإِجْمَاع حجَّة قبل الانقراض، بل يَقُولُونَ: نحتج بِهِ،
لَكِن لَو رَجَعَ رَاجع قدح، أَو حدث مُخَالف قدح.
وَنَظِيره: أَن مَا يَقُوله الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو يَفْعَله حجَّة فِي حَيَاته، وَإِن
احْتمل أَن يتبدل بنسخ عملا بِالْأَصْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ،
فَإِذا رَجَعَ [بَعضهم] تبين أَنهم كَانُوا على خطأ لَا يقرونَ
عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛
فَإِن قَوْله وَفعله حق فِي الْحَالين.
قَوْله: {وَحَيْثُ لَا يعْتَبر} - يَعْنِي: انْقِرَاض الْعَصْر
- {لَا يعْتَبر تمادي الزَّمن مُطلقًا} ، بل يكون اتِّفَاقهم
حجَّة بِمُجَرَّدِهِ، حَتَّى لَو رَجَعَ بَعضهم لَا يعْتد
بِهِ، وَيكون خارقاً للْإِجْمَاع، وَلَو نَشأ مخالفه لَا يعْتد
بقوله، بل يكون الْإِجْمَاع حجَّة عَلَيْهِ، وَلَو ظهر للْكُلّ
مَا يُوجب الرُّجُوع فَرجع كلهم مُجْمِعِينَ لم يجز ذَلِك، بل
إِجْمَاعهم الأول حجَّة عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم، حَتَّى لَو
جَاءَ غَيرهم مُجْمِعِينَ على خلاف ذَلِك لم يجز أَيْضا،
وَإِلَّا لتصادم الإجماعان.
(4/1628)
وَاسْتدلَّ لهَذَا أَبُو الْمَعَالِي فِي "
النِّهَايَة "، حَيْثُ اسْتدلَّ لمقابل قَول ابْن عَبَّاس: إِن
الْأُم لَا تحجب إِلَى السُّدس إِلَّا بِثَلَاثَة إخْوَة.
قَوْله: {وَاشْترط أَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ فِي "
المنخول " فِي الظني مَعَ تكْرَار الْوَاقِعَة} .
قَالَ الْغَزالِيّ: والمدار فِي طول الزَّمَان على الْعرف.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِن كَانَ الحكم ظنياً، لَا إِن
قطعُوا بالحكم.
وَيرد على نقل التَّاج السُّبْكِيّ عَن أبي الْمَعَالِي
قَوْله: واشترطه إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الظني، إِن إِمَام
الْحَرَمَيْنِ لم يقْتَصر على طول الزَّمَان، بل شَرط مَعَ
تكْرَار
(4/1629)
الْوَاقِعَة، وَعبارَته فِي " الْبُرْهَان
": وَشرط مَا ذَكرْنَاهُ أَن يغلب عَلَيْهِم فِي الزَّمن
الطَّوِيل ذكر تِلْكَ الْوَاقِعَة، وترداد الْخَوْض فِيهَا،
فَلَو وَقعت الْوَاقِعَة فسبقوا إِلَى حكم فِيهَا، ثمَّ
تناسوها إِلَى سواهَا فَلَا أثر للزمان وَالْحَالة هَذِه.
ثمَّ بنى على ذَلِك أَنهم لَو قَالُوا عَن ظن، ثمَّ مَاتُوا
على الْفَوْر لَا يكون إِجْمَاعًا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى ضبط
الزَّمن فَقَالَ: الْمُعْتَبر زمن لَا يفْرض فِي مثله
اسْتِقْرَار الجم الْغَفِير على رَأْي إِلَّا عَن قَاطع أَو
نَازل منزلَة الْقَاطِع. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَظهر بذلك أَن نقل ابْن الْحَاجِب
عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِن كَانَ عَن قِيَاس اشْترط
انْقِرَاض الْعَصْر، وَإِلَّا فَلَا - غلط عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ
لَا ينظر إِلَى الانقراض، وَإِنَّمَا يعْتَبر طول الْمدَّة
وتكرر الْوَاقِعَة.
(4/1630)
قَوْله: {فصل}
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} من الْعلمَاء {لَا إِجْمَاع إِلَّا
عَن دَلِيل} ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك؛ لِأَن الْإِجْمَاع لَا
يكون إِلَّا من الْمُجْتَهدين، والمجتهد لَا يَقُول فِي الدّين
بِغَيْر دَلِيل؛ فَإِن القَوْل بِغَيْر دَلِيل خطأ.
وَأَيْضًا فَكَانَ يَقْتَضِي إِثْبَات شرع مُسْتَأْنف بعد
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ
بَاطِل؛ وَلِأَنَّهُ محَال عَادَة فكالواحد من الْأمة وَلَا
عِبْرَة بمخالفة صَاحب النظام فِيهِ.
(4/1631)
وَالدَّلِيل إِمَّا كتاب، كإجماعهم على حد
الزِّنَا وَالسَّرِقَة، وَغَيرهمَا مِمَّا لَا ينْحَصر، أَو
سنة، كإجماعهم على تَوْرِيث كل من الْجدَّات السُّدس،
وَنَحْوه، وَيَأْتِي الْقيَاس بعد ذَلِك.
وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين فِي ذَلِك فَقَالَ: يجوز أَن يحصل
بالبخت والمصادفة، وَالْمعْنَى: أَن الْإِجْمَاع قد يكون عَن
توفيق من الله تَعَالَى من غير مُسْتَند.
وَأَجَابُوا عَمَّا سبق بِأَن الْخَطَأ إِنَّمَا هُوَ من
الْوَاحِد من الْأمة، أما فِي كل الْأمة فَلَا.
وأفسد ذَلِك بِأَن الْخَطَأ إِذا اجْتمع لَا يَنْقَلِب
صَوَابا؛ لِأَن الصَّوَاب فِي قَول الْكل إِنَّمَا هُوَ
مُرَاعَاة عدم الْخَطَأ من كل فَرد.
وَقَالُوا: لَو كَانَ عَن دَلِيل كَانَ الدَّلِيل هُوَ
الْحجَّة فَلَا فَائِدَة فِيهِ.
(4/1632)
رد ذَلِك: بِأَن قَول النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجَّة فِي نَفسه وَهُوَ عَن
دَلِيل هُوَ الْوَحْي، ثمَّ فَائِدَته سُقُوط الْبَحْث عَنَّا
عَن دَلِيله وَحُرْمَة الْخلاف الْجَائِز قبله، وَبِأَنَّهُ
يُوجب عدم انْعِقَاده عَن دَلِيل وَظهر للآمدي ضعف الْأَدِلَّة
من الْجَانِبَيْنِ فَقَالَ: يجب أَن يُقَال: إِن أَجمعُوا عَن
غير دَلِيل لم يكن إِلَّا حَقًا، فَجعل الْخلاف فِي الْجَوَاز
لَا فِي الْوُقُوع.
ورد: بِأَن الْخُصُوم استدلوا بصور لَا مُسْتَند فِيهَا على
زعمهم، فلولا أَنه مَحل النزاع مَا استدلوا بهَا.
قَوْله: {وَيجوز عَن اجْتِهَاد، وَقِيَاس} ، هَذَا الصَّحِيح،
وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء {وَوَقع وَتحرم مُخَالفَته
عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
وَخَالف ابْن جرير، والظاهرية، والشيعة فِي الْجَوَاز، وَقوم
فِي
(4/1633)
الْقيَاس الْخَفي، وَقوم فِي الْوُقُوع
[وَبَعْضهمْ] فِي تَحْرِيم مُخَالفَته.
أما الْوُقُوع فَقَالُوا: مثل إِرَاقَة نَحْو الشيرج إِذا
وَقعت فِيهِ الْفَأْرَة قِيَاسا على السّمن، وَتَحْرِيم شَحم
الْخِنْزِير قِيَاسا على لَحْمه الْمَنْصُوص عَلَيْهِ،
وَنَحْوه.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لنا، وُقُوعه لَا يلْزم مِنْهُ محَال،
وأجمعت الصَّحَابَة على خلَافَة أبي بكر، وقتال مانعي
الزَّكَاة، وَتَحْرِيم شَحم الْخِنْزِير،
(4/1634)
وَالْأَصْل عدم النَّص، ثمَّ لَو كَانَ نَص
لظهر وَاحْتج بِهِ.
وَخَالف ابْن جرير، والظاهرية والشيعة فِي الْجَوَاز، وَنقل
عَن مُحَمَّد بن جرير أَنه مَنعه عقلا لاخْتِلَاف الدَّوَاعِي
والأغراض، وتفاوتهم فِي الذكاء والفطنة.
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": وَقَالَ قوم: لَا
يتَصَوَّر ذَلِك؛ إِذْ كَيفَ يتَصَوَّر اتِّفَاق أمة مَعَ
اخْتِلَاف طبائعها، وتفاوت أفهامها على مظنون؟ أم كَيفَ
تَجْتَمِع على قِيَاس مَعَ اخْتلَافهمْ فِي الْقيَاس؟ انْتهى.
وَخَالف بَعضهم فِي الْقيَاس الْخَفي فَمَنعه فِيهِ،
وَأَجَازَهُ فِي الْقيَاس الْجَلِيّ.
(4/1635)
وَبَعْضهمْ خَالف فِي قِيَاس الشّبَه دون
قِيَاس الْمَعْنى.
وَبَعْضهمْ خَالف فِي الْوُقُوع فَقَالَ: يجوز أَن يَقع عَن
قِيَاس، وَلَكِن لم يَقع.
ورد ذَلِك بِإِقَامَة الصّديق وَغَيره.
وَبَعْضهمْ خَالف فِي تَحْرِيم مُخَالفَته، وَحكي عَن أبي
حنيفَة.
قَالَ بَعضهم: وَقع وَلَكِن لَا تحرم مُخَالفَته.
قَالَ المخالفون فِي الْجَوَاز: الْخلاف فِي الْقيَاس فِي كل
عصر.
(4/1636)
رد ذَلِك بِمَنْعه فِي الصَّحَابَة، بل
حَادث، فَهُوَ كَخَبَر الْوَاحِد، والعموم فيهمَا خلاف، وانعقد
عَنْهُمَا بِلَا خلاف.
قَالَ: الْقيَاس فرع معرض للخطأ، وَلَا يَصح دَلِيلا لأصل
مَعْصُوم عَنهُ.
رد: الْقيَاس فرع الْكتاب وَالسّنة لَا للْإِجْمَاع، فَلم يبن
الْإِجْمَاع على فَرعه، وَحكم هَذَا الْقيَاس قَطْعِيّ لعصمتهم
عَن الْخَطَأ.
ورده الْآمِدِيّ بِأَن إِجْمَاعهم عَلَيْهِ يسْبقهُ إِجْمَاعهم
على صِحَّته فاستندوا إِلَى قَطْعِيّ، ثمَّ ألزم بِخَبَر
الْوَاحِد فَإِنَّهُ ظَنِّي وَالْإِجْمَاع الْمُسْتَند
إِلَيْهِ قَطْعِيّ.
وَلابْن عقيل: مَعْنَاهُ، قَالُوا: يلْزم تَحْرِيم مُخَالفَة
الْمُجْتَهد، وَهِي جَائِزَة إِجْمَاعًا.
[رد] الْمجمع عَلَيْهِ مُخَالفَة مُجْتَهد مُنْفَرد لَا
الْأمة.
(4/1637)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَالْأَكْثَر، إِذا اخْتلفُوا على
قَوْلَيْنِ حرم إِحْدَاث ثَالِث} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " عِنْد أَحْمد،
وَأَصْحَابه، وَعَامة الْعلمَاء. انْتهى.
كَمَا لوأجمعوا على قَول وَاحِد فَإِنَّهُ محرم إِحْدَاث قَول
ثَان، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ". قَالَ
الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: هَذَا قَول الْجُمْهُور.
(4/1638)
{وَقَالَ الْآمِدِيّ، والرازي، والطوفي،
وَجمع: إِن رفع} القَوْل الثَّالِث {الْمجمع عَلَيْهِ} حرم
إحداثه، وَإِن لم يرفع الْمجمع عَلَيْهِ جَازَ، فَالَّذِي يرفع
الْمجمع عَلَيْهِ.
إِذا رد بكرا بِعَيْب بعد وَطئهَا مجَّانا، أَو أسقط الْجد
بالإخوة، فَهَذَا القَوْل يحرم إحداثه.
فَإِنَّهُم اخْتلفُوا فِي الْبكر إِذا وَطئهَا المُشْتَرِي،
ثمَّ وجد بهَا عَيْبا. قيل: ترد مَعَ الْأَرْش.
(4/1639)
وَقيل: لَا ترد بِوَجْه.
فَالْقَوْل إِنَّهَا ترد مجَّانا رَافع لإِجْمَاع
الْقَوْلَيْنِ على منع الرَّد قهرا مجَّانا، وَإِنَّمَا قلت:
قهرا؛ لِأَنَّهُمَا إِذا تَرَاضيا على الرَّد مَعَ الْأَرْش،
أَو على الْإِمْسَاك، وَأخذ أرش الْعَيْب الْقَدِيم، جَازَ.
فَإِن تشاحا فَالصَّحِيح إِجَابَة من يَدْعُو إِلَى
الْإِمْسَاك، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَلَكِن الصَّحِيح من مَذْهَبنَا أَن المُشْتَرِي مُخَيّر بَين
الْإِمْسَاك، وَأخذ الْأَرْش، وَبَين الرَّد وَإِعْطَاء
الْأَرْش إِن لم يكن دلّس البَائِع، فَإِن دلّس لم يلْزم
المُشْتَرِي أرش.
وَكَذَا الْأُخوة مَعَ الْجد، قيل: بالمقاسمة، وَقيل: يسقطهم.
فَالْقَوْل بِأَنَّهُم يسقطونه رَافع الْمجمع عَلَيْهِ.
فَإِن قلت: فِي " الْمحلى " لِابْنِ حزم قَول بحجب الْجد بهم.
(4/1640)
قلت: يحْتَمل أَن هَذَا إِن ثَبت سَابق،
أَجمعُوا بعده على خِلَافه، أَو مُتَأَخّر عَن الْإِجْمَاع
فَهُوَ حِينَئِذٍ فَاسد غير مُعْتَد بِهِ.
وَمِثَال مَا لَا يرفع مجمعا عَلَيْهِ: الْفَسْخ فِي النِّكَاح
بالعيوب الْخَمْسَة: الْجُنُون، والجذام، والبرص، والجب،
والعنة، وَنَحْوهَا، إِن كَانَ فِي الزَّوْج والرتق، والقرن،
وَنَحْوهمَا إِن كَانَ فِي الزَّوْجَة.
فَقيل: لكل مِنْهُمَا أَن يفْسخ بهَا. وَقيل: لَا، كَمَا نقل
عَن أبي حنيفَة: أَنه يفْسخ بِبَعْض دون بعض.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن الْمَرْأَة تفسخ دون الرجل
لتمكنه من الْخَلَاص بِالطَّلَاق، قَول ثَالِث لكنه لم يرفع
مجمعا عَلَيْهِ، بل وَافق فِي كل مَسْأَلَة قولا، وَإِن خَالفه
فِي أُخْرَى.
وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل كثير من الْعلمَاء؛ وصححوه. نعم،
اعْتَرَضَهُ بعض الْحَنَفِيَّة بِأَن هَذَا التَّفْصِيل لَا
معنى لَهُ؛ إِذْ لَا نزاع فِي أَن القَوْل الثَّالِث إِن
استلزم إبِْطَال مجمع عَلَيْهِ يكون مردوداً، لَكِن الْخصم
يَقُول: إِنَّه يسْتَلْزم ذَلِك فِي جَمِيع الصُّور، وَإِن
كَانَ فِي بعض لَا يسْتَلْزم فَالْكَلَام فِي الْكل.
(4/1641)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا يخفى ضعف ذَلِك؛
فَإِن الْمحَال المتعددة كل حكم النّظر فِيهِ لمحله لَا
لمشاركة غَيره لَهُ فِيهِ، أَو عدم الْمُشَاركَة. انْتهى.
{وَقَالَ أَبُو الْخطاب وَبَعض الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم، وَهُوَ
ظَاهر كَلَام أَحْمد: لَا يحرم مُطلقًا} ذكره فِي "
التَّمْهِيد " ظَاهر كَلَام أَحْمد؛ لِأَن بعض الصَّحَابَة
قَالَ: لَا يقْرَأ الْجنب حرفا.
وَقَالَ بَعضهم: يقْرَأ مَا شَاءَ.
فَقَالَ الإِمَام أَحْمد: يقْرَأ بعض آيَة.
وَفِي تَعْلِيق القَاضِي فِي قِرَاءَة الْجنب: قُلْنَا بِهَذَا
مُوَافقَة لكل قَول وَلم يخرج عَنْهُم. انْتهى.
(4/1642)
وَلِأَنَّهُ لم يخرق إِجْمَاعًا سَابِقًا
فَإِنَّهُ قد لَا يرفع شَيْئا مِمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ،
قَالَه الْبرمَاوِيّ، وَحَكَاهُ ابْن الْقطَّان عَن دَاوُد،
وَحَكَاهُ الصَّيْرَفِي وَغَيره عَن بعض الْمُتَكَلِّمين.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: رَأَيْت بعض أَصْحَاب أبي
حنيفَة يختاره وينصره.
وَنَقله ابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ عَن بعض
الْحَنَفِيَّة، والظاهرية.
نعم، أنكر ابْن حزم على من نسبه إِلَى دَاوُد.
قَوْله: {وَإِن اخْتلفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ على قَوْلَيْنِ
إِثْبَاتًا ونفياً فَلِمَنْ بعدهمْ التَّفْصِيل عِنْد القَاضِي
وَغَيره، وَحكي عَن الْأَكْثَر} .
(4/1643)
حَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن أَكثر
الْعلمَاء، نَقله ابْن مُفْلِح.
وَمنع ذَلِك قوم مُطلقًا، وَنَقله الْآمِدِيّ عَن أَكثر
الْعلمَاء.
وَقَالَ القَاضِي أَيْضا فِي " الْكِفَايَة ": إِن صَرَّحُوا
بالتسوية لم يجز، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: كإيجاب بعض الْأمة
النِّيَّة للْوُضُوء، وَلَا يعْتَبر الصَّوْم للاعتكاف، ويعكس
آخر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَبعد بعض أَصْحَابنَا هَذَا
التَّمْثِيل.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: إِن
صَرَّحُوا بالتسوية لم يجز لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمُقْتَضى
للْحكم ظَاهرا، وَإِن لم يصرحوا فَإِن اخْتلف طَرِيق الحكم
فِيهَا كالنية فِي الْوضُوء وَالصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف
جَازَ، وَإِلَّا يلْزم من وَافق إِمَامًا فِي مَسْأَلَة
مُوَافَقَته فِي جَمِيع مذْهبه، وَإِجْمَاع الْأمة خِلَافه.
وَإِن اتّفق الطَّرِيق كَزَوج، وأبوين، وَامْرَأَة وأبوين،
وكإيجاب نِيَّة فِي وضوء وَتيَمّم، وَعَكسه لم يجز، وَهُوَ
ظَاهر كَلَام أَحْمد.
(4/1644)
وَهَذَا التَّفْصِيل قَالَه القَاضِي عبد
الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَذكر ابْن برهَان لأَصْحَابه فِي
الْجَوَاز وَعَدَمه وَجْهَيْن.
وَقَالَ الْحلْوانِي، وَالشَّيْخ موفق الدّين: إِن صَرَّحُوا
بالتسوية لم يجز، وَإِلَّا جَازَ لموافقته كل طَائِفَة.
قَالَ أَبُو الطّيب الشَّافِعِي: هُوَ قَول أَكْثَرهم.
وَقَالَ الْهِنْدِيّ: إِذا تعدد مَحل الحكم - لَكِن أَجمعُوا
على أَن لَا فصل بَينهمَا، بل مَتى حكم بِحكم على أحد المحلين
كَانَ الآخر مثله، امْتنع إِحْدَاث قَول بالتفصيل بِلَا خلاف.
لَكِن رد عَلَيْهِ: بِأَن الْخلاف مَشْهُور، حَكَاهُ الباقلاني
فِي " التَّقْرِيب ". [و] حَكَاهُ فِي " اللمع " احْتِمَالا
لأبي الطّيب.
(4/1645)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِن لم ينصوا على
ذَلِك، وَلَكِن علم اتِّحَاد الْجَامِع بَينهمَا فَهُوَ جَار
مجْرى النَّص على عدم الْفرق، كالعمة وَالْخَالَة من ورث
إِحْدَاهمَا ورث الْأُخْرَى، وَمن منع منع؛ لِأَن المأخذ
وَاحِد وَهُوَ الْقَرَابَة الرحمية. انْتهى.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ الشَّافِعِي: إِذا لم يفصل أهل
الْعَصْر بَين مَسْأَلَتَيْنِ، بل أجابوا فيهمَا بِجَوَاب
وَاحِد، فَلَيْسَ لمن بعدهمْ التَّفْصِيل بَينهمَا، وَجعل
حكمهمَا مُخْتَلفا إِن لزم مِنْهُ خرق الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ
فِي صُورَتَيْنِ:
الأولى: أَن يصرحوا بِعَدَمِ الْفرق بَينهمَا.
الثَّانِيَة: أَن يتحد الْجَامِع بَينهمَا، كتوريث الْعمة
وَالْخَالَة، فَإِن الْعلمَاء بَين مورث لَهما ومانع،
وَالْجَامِع بَينهمَا عِنْد الطَّائِفَتَيْنِ كَونهمَا من ذَوي
الْأَرْحَام فَلَا يجوز منع وَاحِدَة وتوريث أُخْرَى، فَإِن
التَّفْصِيل بَينهمَا خارق لإجماعهم فِي الأولى نصا، وَفِي
الثَّانِيَة تضمناً، وَيجوز التَّفْصِيل فِيمَا عدا هَاتين
الصُّورَتَيْنِ.
وَقيل: بِمَنْع التَّفْصِيل بَينهمَا مُطلقًا، وَإِن ذَلِك
خارق للْإِجْمَاع، وَكَلَام الباقلاني، والرازي يدل عَلَيْهِ.
(4/1646)
وَقَول الْآمِدِيّ: لَا خلاف هُنَا فِي
الْجَوَاز - مَرْدُود.
ثمَّ قَالَ: تَنْبِيه: توهم بَعضهم أَنه لَا فرق بَين هَذِه
الْمَسْأَلَة، وَالَّتِي قبلهَا؛ لِأَن الْآمِدِيّ وَابْن
الْحَاجِب جمعا بَينهمَا، وَحكما عَلَيْهِمَا بِحكم وَاحِد؛
لِأَن فِي كل مِنْهُمَا إِحْدَاث قَول ثَالِث، لَكِن الْفرق
بَينهمَا أَن هَذِه فِيمَا إِذا كَانَ مَحل الحكم مُتَعَددًا،
وَتلك فِيمَا إِذا كَانَ متحداً؛ لذا فرق الْقَرَافِيّ
وَغَيره.
قَالَ: وَيُمكن أَن يُقَال: تِلْكَ مَفْرُوضَة فِي الْأَعَمّ
من كَون الْمحل مُتَعَددًا، أَو كَونه متحداً، وَهَذِه فِي
كَونه مُتَعَددًا، فَالْأولى أَعم. انْتهى.
(4/1647)
قَوْله: {فصل}
{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر يجوز إِحْدَاث دَلِيل آخر، زَاد
القَاضِي: من غير أَن يقْصد بَيَان الحكم بِهِ بعد ثُبُوته} ؛
لِأَنَّهُ قَول عَن اجْتِهَاد غير مُخَالف إِجْمَاعًا؛ لأَنهم
لم ينصوا على فَسَاد غير مَا ذَكرُوهُ، أَيْضا وَقع كثيرا وَلم
يُنكر؛ وَلِأَن الشَّيْء قد يكون عَلَيْهِ أَدِلَّة كَثِيرَة.
وَقيل: لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ.
رد: لَا يخفى فَسَاد ذَلِك؛ لِأَن الْمَطْلُوب من الْأَدِلَّة
أَحْكَامهَا، لَا أعيانها فعين الحكم بَاقٍ، وَأَيْضًا
المُرَاد مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَإِلَّا لزم الْمَنْع فِيمَا
حدث بعدهمْ.
(4/1648)
قَالُوا: لَو كَانَ مَعْرُوفا لأمروا بِهِ،
لقَوْله تَعَالَى: {تأمرون بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمرَان: 110] .
رد: لَو كَانَ مُنْكرا لنهوا، لقَوْله: {وتنهون عَن الْمُنكر}
[آل عمرَان: 110] .
قَالُوا: لَو كَانَ حَقًا كَانَ الْعُدُول عَنهُ خطأ.
رد: للاستغناء عَنهُ.
وَفصل ابْن حزم وَغَيره بَين أَن يكون الْمُحدث نصا آخر لم
يطلع عَلَيْهِ الْأَولونَ فَيمْتَنع، أَو لَا، فَلَا يمْتَنع.
وَحكى صَاحب " الكبريت الْأَحْمَر " قولا رَابِعا الْوَقْف.
وَذهب ابْن برهَان إِلَى قَول خَامِس بالتفصيل بَين الدَّلِيل
الظَّاهِر فَلَا يجوز إِحْدَاث غَيره، وَبَين الْخَفي فَيجوز
لجَوَاز اشتباهه على الْأَوَّلين.
قَوْله: {وَكَذَا إِحْدَاث عِلّة، ذكره أَبُو الْخطاب،
والموفق، والطوفي، وَغَيرهم} ، بل عَلَيْهِ الْأَكْثَر، بِنَاء
على جَوَاز تَعْلِيل
(4/1649)
الحكم الْوَاحِد بعلتين على مَا يَأْتِي -
وَهُوَ الصَّحِيح - فِي بَاب الْقيَاس.
وَقيل: لَا يجوز أَيْضا بِنَاء - أَيْضا - على منع الحكم
بعلتين؛ لِأَن علتهم مَقْطُوع بِصِحَّتِهَا، فَفِيهِ دَلِيل
على فَسَاد غَيرهَا.
وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا: إِن ثَبت الحكم بعلة، فَهَل
يجوز للصحابة تَعْلِيله بِأُخْرَى؟
قيل: يجوز، كالدليل مَعَ عدم تنافيهما.
وَمن النَّاس: من منع لإبطال الْفَائِدَة، كالعقلية.
قَالَ عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: الْعلَّة إِن كَانَت بِحكم
عَقْلِي لم يجز إِحْدَاث عِلّة أُخْرَى؛ لِأَن الحكم الْعقلِيّ
لَا يُعلل بعلتين.
قَوْله: {وَكَذَا إِحْدَاث تَأْوِيل} ، يَعْنِي: يجوز إِحْدَاث
تَأْوِيل آخر {مَا لم يكن فِيهِ إبِْطَال الأول} ، وَذكر
الْآمِدِيّ الْجَوَاز عَن الْجُمْهُور، وَتَبعهُ بعض
أَصْحَابنَا.
(4/1650)
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
وَقيل: لَا يجوز إحداثه وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب
الْمَالِكِي، قَالَ: لِأَن الْآيَة - مثلا - إِذا احتملت
مَعَاني، وَأَجْمعُوا على تَأْوِيلهَا بأحدها صَار كالإفتاء
فِي حَادِثَة تحْتَمل أحكاماً بِحكم فَلَا يجوز أَن يؤول
بِغَيْرِهِ، كَمَا لَا يُفْتى بِغَيْر مَا أفتوا بِهِ.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَمنعه بَعضهم.
{قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَا يحْتَمل مَذْهَبنَا غير
هَذَا، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَمرَاده دفع تَأْوِيل أهل الْبدع
الْمُنكر عِنْد السّلف} . انْتهى.
وَذَلِكَ كَمَا أَنه لَا يجوز إِحْدَاث مَذْهَب ثَالِث كَذَلِك
لَا يجوز إِحْدَاث تَأْوِيل؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ فِيهَا
تأوي لآخر لكلفوا طلبه كَالْأولِ.
قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَاقْتصر على ذكر
الْقَوْلَيْنِ وتعليلهما من غير نصر أَحدهمَا.
(4/1651)
قَوْله: {أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر
أصحابهما، والأشعري، وَغَيرهم اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي على
أحد قولي الْعلمَاء، وَقد اسْتَقر خلافهم} .
لَا يرفع الْخلاف، وَلَا يكون إِجْمَاعًا؛ لِأَن مَوته لَا
يكون مسْقطًا لقَوْله فَيبقى.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق: هُوَ قَول عَامَّة أَصْحَابنَا.
قَالَ سليم الرَّازِيّ: هُوَ قَول أَكْثَرهم، وَأكْثر
الأشعرية.
وَكَذَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ، وَنَقله ابْن الْحَاجِب
عَن الْأَشْعَرِيّ.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَإِلَيْهِ ميل الشَّافِعِي وَمن
عباراته الرشيقة: الْمذَاهب
(4/1652)
لَا تَمُوت بِمَوْت أَرْبَابهَا. وَنَقله
ابْن الباقلاني عَن جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين، وَاخْتَارَهُ.
وَقَالَ: {أَبُو الْخطاب، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو
الطّيب الطَّبَرِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه} ، وَغَيرهم،
مِنْهُم: الْحَارِث المحاسبي، والإصطخري، وَابْن خيران،
والقفال الْكَبِير، وَابْن الصّباغ.
وَنَقله فِي " الْمقنع " عَن أبي حنيفَة، وَنَقله الكيا عَن
الجبائي وَابْنه، وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ.
وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح عَن الْمُعْتَزلَة.
(4/1653)
وَحَكَاهُ الباقلاني عَن الْأَشْعَرِيّ:
يجوز أَن يكون حجَّة وإجماعاً ويرتفع الْخلاف، وَاخْتَارَهُ
الْمُتَأَخّرُونَ.
وَقيل: إِجْمَاع ظَنِّي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قيل: وَالْحق فِي الْمَسْأَلَة أَنه
إِجْمَاع ظَنِّي، لَا قَطْعِيّ، وَإِلَيْهِ يُشِير كَلَام
إِمَام الْحَرَمَيْنِ.
وَفِي كتاب " تَقْوِيم الْأَدِلَّة " لأبي زيد الدبوسي عَن
الْحَنَفِيَّة: أَنه من أدنى مَرَاتِب الْإِجْمَاع.
وَقيل: يكون حجَّة وَلَيْسَ بِإِجْمَاع، نَقله ابْن الْقطَّان
عَن قوم، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَجه الحجية أَن لهَؤُلَاء مزية
على أُولَئِكَ لانفرادهم فِي عصر، فَهُوَ الْمُعْتَبر، قَالَ:
وَلَيْسَ بِشَيْء.
(4/1654)
وَقيل: لَيْسَ بِإِجْمَاع، وَلَا حجَّة،
أَعنِي على القَوْل بِالْجَوَازِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَو
كَانَ حجَّة لتعارض الإجماعان، وَأَيْضًا لم يحصل اتِّفَاق
الْأمة؛ لِأَن فِيهِ قولا مُخَالفا؛ لِأَن القَوْل لَا يَمُوت
[بِمَوْت] صَاحبه، وَأَيْضًا لَو كَانَ حجَّة فَإِن موت بعض
الصَّحَابَة الْمُخَالفين للباقين الْقَائِلين بقول وَاحِد
يُوجب ذَلِك، أَي: إِجْمَاعًا هُوَ حجَّة؛ وَذَلِكَ لِأَن
البَاقِينَ كل الْأمة الْأَحْيَاء فِي ذَلِك الْعَصْر، وَهُوَ
الْمُعْتَبر؛ إِذْ لَا عِبْرَة بِالْمَيتِ، وَاللَّازِم بَاطِل
اتِّفَاقًا.
وَأجَاب عَنْهَا كلهَا القَاضِي عضد الدّين فِي " الشَّرْح "،
وَغَيره فليعاود.
وَعند جمَاعَة من الْعلمَاء: أَن ذَلِك مُمْتَنع، وَحَكَاهُ
الْآمِدِيّ عَن الإِمَام أَحْمد، والأشعري، واختياره يمْتَنع،
نَقله ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بَعْدَمَا ذكر
الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين فَدلَّ أَن هَذَا غير القَوْل
الأول.
وَابْن الْحَاجِب لم يذكر عَن الإِمَام أَحْمد والأشعري
وَجَمَاعَة غير الِامْتِنَاع وَعَدَمه تبعا للآمدي،
وَالظَّاهِر أَن ابْن مُفْلِح ذكر النَّقْل الثَّانِي طَريقَة
أُخْرَى فِي صفة حِكَايَة الْخلاف، وَهُوَ أولى وأوضح.
(4/1655)
وَوجه ذَلِك: أَن الْقَائِل بالْقَوْل
الأول أَجمعُوا على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل مِنْهُمَا،
وَالْقَائِل بالْقَوْل الثَّانِي يمنعهُ فَامْتنعَ لِئَلَّا
يلْزم تخطئة الْأَوَّلين؛ لِأَن كَون الْحق فِي أَخذه، وَتَركه
مَعًا محَال.
رد بِأَن الْإِجْمَاع الأول مَمْنُوع؛ لِأَن أحد الْقَوْلَيْنِ
خطأ، وَلَا إِجْمَاع على خطأ، ثمَّ هُوَ إِجْمَاع بِشَرْط عدم
إِجْمَاع ثَان، ثمَّ الأول إِجْمَاع على أَحدهمَا، وَالثَّانِي
يُوَافق مُقْتَضَاهُ.
رد الأول بِإِصَابَة كل مُجْتَهد، وَالثَّانِي بِإِطْلَاق
الْأمة، وَلم يشْتَرط، ثمَّ يلْزم الشَّرْط مَعَ إِجْمَاعهم
على قَول وَاحِد، كَمَا يَقُوله أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ
المعتزلي، وَالثَّالِث باستلزامه وَامْتِنَاع الْأَخْذ
بالْقَوْل الآخر.
قَالُوا: يمْتَنع ذَلِك عَادَة.
رد بِمَنْعه وَقد عرف وَجه الأول.
وَقَالُوا: لَو كَانَ حجَّة لَكَانَ موت فريق وَبَقَاء الآخر
أَو بعضه إِجْمَاعًا؛ لأَنهم كل الْأمة.
(4/1656)
أجَاب أَبُو الْخطاب وَغَيره: بالتزامه
ثمَّ الْفرق، وَقَالَهُ الْأَكْثَر بمخالفة أهل الْعَصْر
بِخِلَاف مَسْأَلَتنَا.
وَاحْتج الثَّانِي بأدلة الْإِجْمَاع.
رد بِالْمَنْعِ لتحَقّق الْمَاضِي لَا من سيوجد.
تَنْبِيه: هَل وَقع مثل ذَلِك أم لَا؟
الظَّاهِر فِي حد الْخمر وُقُوعه.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: الْحق أَنه بعيد إِلَّا فِي
الْقَلِيل، أَي: إِذا كَانَ الْمُخَالف فِي الأَصْل قَلِيلا
كاختلافهم فِي بيع أم الْوَلَد، ثمَّ زَالَ باتفاقهم على
الْمَنْع، وكاختلافهم فِي نِكَاح الْمُتْعَة، ثمَّ أَجمعُوا
على الْمَنْع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَا إِنَّمَا يَصح التَّمْثِيل بِهِ
لما سَيَأْتِي فِي الصُّورَة الثَّانِيَة: إِن يَخْتَلِفُوا
على قَوْلَيْنِ، ثمَّ يرجع أحد الْفَرِيقَيْنِ إِلَى قَول
الآخر.
(4/1657)
قَوْله: وَقبل: استقراره إِجْمَاع قطعا،
أَي: إِذا وَقع الِاتِّفَاق بعد الِاخْتِلَاف وَكَانَ اتِّفَاق
أهل عصر بعده على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَكَانَ قبل اسْتِقْرَار
خلاف الْأَوَّلين، أَي: قبل مُضِيّ مُدَّة على ذَلِك الْخلاف
يعلم بهَا إِن كَانَ قَائِل يصمم على قَوْله: لَا ينثني عَنهُ،
فَهَذَا اتَّفقُوا على جَوَازه، وَذَلِكَ كخلاف الصَّحَابَة
لأبي بكر فِي قتال مانعي الزَّكَاة، وإجماعهم بعد ذَلِك على
قِتَالهمْ، وَإِجْمَاع الْعَصْر الثَّانِي عَلَيْهِ أَيْضا،
وكخلافهم فِي دَفنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فِي أَي: مَكَان: ثمَّ أَجمعُوا على دَفنه فِي بَيت عَائِشَة؛
إِذْ الْخلاف لم يكن اسْتَقر.
وَنقل الْهِنْدِيّ عَن الصَّيْرَفِي أَنه لَا يجوز.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن الَّذِي فِي كتاب الصَّيْرَفِي
ظَاهره يشْعر بموافقة الْجَمَاعَة؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو
إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ": إِن الْمَسْأَلَة تصير
(4/1658)
حِينَئِذٍ إجماعية بِلَا خلاف، وَوَقع
للقرافي عكس هَذَا فَزعم أَن مَحل الْخلاف الْآتِي فِي
الْمَسْأَلَة الْآتِيَة بعد هَذَا: إِذا لم يسْتَقرّ خِلَافه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ عَجِيب! فَإِن مَحَله إِذا
اسْتَقر.
تَنْبِيه: قَوْله: {لَو مَاتَ أَرْبَاب أحد الْقَوْلَيْنِ، أَو
ارْتَدَّ لم يصر قَول الْبَاقِي إِجْمَاعًا، ذكره القَاضِي
أَبُو يعلى مَحل وفَاق وَصَححهُ الباقلاني فِي التَّقْرِيب،
لِأَن حكم الْمَيِّت فِي حكم الْبَاقِي الْمَوْجُود.
وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى ": إِنَّه الرَّاجِح،
وَجزم بِهِ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ،
وَهَذَا قَول الْأَكْثَرين، كَمَا حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب،
وَابْن مُفْلِح وَغَيرهمَا فِي بحث الْمَسْأَلَة الَّتِي
قبلهَا.
(4/1659)
وَقيل: يصير إِجْمَاعًا وَحجَّة؛ لأَنهم
صَارُوا كل الْأمة، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ، والهندي،
وَغَيرهمَا، وَقدمه الْبرمَاوِيّ، وَغَيره.
وَبنى السُّهيْلي الْخلاف على الْخلاف فِي إِجْمَاع
التَّابِعين بعد اخْتِلَاف الصَّحَابَة هُوَ بِنَاء ظَاهر.
فَائِدَة: لَو مَاتَ بعض أَرْبَاب أحد الْقَوْلَيْنِ، وَرجع من
بَقِي مِنْهُم إِلَى قَول الآخرين، قَالَ ابْن كج: فِيهَا
وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَنه إِجْمَاع؛ لأَنهم أهل الْعَصْر.
وَالثَّانِي: الْمَنْع؛ لِأَن الصّديق جلد فِي حلد الْخمر
أَرْبَعِينَ، وَقد أجمع الصَّحَابَة على ثَمَانِينَ فِي زمن
عمر، فَلم يجْعَلُوا الْمَسْأَلَة إِجْمَاعًا؛ لِأَن الْخلاف
كَانَ قد تقدم، وَقد مَاتَ مِمَّن قَالَ بذلك بعض، وَرجع بعض
إِلَى قَول عمر.
قَوْله: {اتِّفَاق مجتهدي عصر بعد اخْتلَافهمْ إِجْمَاع
وَحجَّة} ، يَعْنِي:
(4/1660)
أَن اتِّفَاقهم بعد اخْتلَافهمْ، وَقبل
استقراره إِجْمَاع، وَكَذَا هُوَ حجَّة فِي الْأَصَح.
ويمثل لَهُ بِمَا وَقع لأبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ -
فِي قتال أهل الرِّدَّة، وَفِي اخْتلَافهمْ فِي أَي مَوضِع
يدْفن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ اتِّفَاقهم
سَرِيعا فيهمَا؛ لِأَن التَّمْثِيل بهما فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَاحِد.
وَقَالَ قوم: هُوَ إِجْمَاع لَا حجَّة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: فَإِن كَانَ ذَلِك قبل اسْتِقْرَار
الْخلاف فإجماع، وَكَذَا حجَّة خلافًا لقوم يَقُولُونَ: إِنَّه
إِجْمَاع لَا حجَّة؛ وَلِهَذَا جمع ابْن الْحَاجِب بَينهمَا،
وَهل ذَلِك وفَاق أَو على خلاف فِيهِ - كَمَا سبق عَن
الصَّيْرَفِي وَغَيره -؟ انْتهى.
قَوْله: {وَكَذَا بعد اسْتِقْرَار عندنَا وَعند الْأَكْثَر} .
(4/1661)
وَذكر القَاضِي من أَصْحَابنَا أَنه مَحل
وفَاق، يَعْنِي: أَنه يكون إِجْمَاعًا وَحجَّة - كَمَا سبق -
بل هُنَا أولى بِأَن يكون إِجْمَاعًا وَحجَّة من مَسْأَلَة
اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي على أحد قولي الأول؛ إِذْ لم يبْق
قَائِل بِخِلَافِهِ لَا حَيّ وَلَا ميت.
وَقيل: إِن كَانَ الْمُسْتَند قَطْعِيا كَانَ إِجْمَاعًا
وَحجَّة، وَإِن الْمُسْتَند ظنياً فَلَا، وَخَالف الباقلاني،
والآمدي، وَجمع، وَقَالُوا: لَيْسَ إِجْمَاعًا، بل هُوَ
مُمْتَنع؛ لتناقض الإجماعين للِاخْتِلَاف أَولا ثمَّ
الِاتِّفَاق ثَانِيًا، كَمَا إِذا كَانُوا على قَول فَرَجَعُوا
عَنهُ إِلَى آخر.
وَإِلَيْهِ ميل الْغَزالِيّ وَغَيره، وَنَقله ابْن برهَان فِي
" الْوَجِيز " عَن الشَّافِعِي، وَجزم بِهِ أَبُو إِسْحَاق فِي
" اللمع "، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَاخْتَارَهُ أَبُو
الْمَعَالِي إِن طَال زمن الْخلاف، نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح،
وَتَابعه التَّاج السُّبْكِيّ: فَمَعَ طول الزَّمَان يمْتَنع،
وَمَعَ الْقرب يجوز.
(4/1662)
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَحكي عَن إِمَام
الْحَرَمَيْنِ، وَالْفرق أَن اسْتِمْرَار الْخلاف مَعَ طول
الزَّمَان يَقْتَضِي الْعرف فِيهِ بِأَنَّهُ لَو كَانَ ثمَّ
وَجه لسُقُوط أحد الْوَجْهَيْنِ لظهر، لَكِن لم يذكرهُ فِي
اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي على أحد قولي الْعَصْر الأول.
وَحَكَاهُ الْإِسْنَوِيّ كَمَا هُنَا، لَكِن لم يغاير بَينه
وَبَين قَول ابْن الباقلاني، والآمدي، وَهُوَ الَّذِي يظْهر.
وَقيل يكون حجَّة لَا إِجْمَاعًا - كَمَا سبق -.
وَقيل: إِن كَانَ فِي الْفُرُوع لَا يجْزم مَعَه بِتَحْرِيم
الذّهاب لِلْقَوْلِ الآخر، بِخِلَاف مَا فِيهِ تأثيم وتضليل.
{وَمنع الصَّيْرَفِي الِاتِّفَاق بعد الْخلاف} ، وَهُوَ محجوج
بالوقوع كَمَسْأَلَة الْخلَافَة لأبي بكر، وَغَيرهَا.
(4/1663)
قَوْله: {وَمن شَرط انْقِرَاض الْعَصْر
جوزه قطعا} .
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: لما ذكر الْمَسْأَلَة، وَالْخلاف
فِيهَا، وَلَا يخفى أَن مَحل الْخلاف إِذا لم يشْتَرط
انْقِرَاض الْعَصْر، فَأَما إِن شرطناه فَإِنَّهُ يجوز قطعا،
وَقَالَهُ غَيره، وَهُوَ وَاضح.
وَقيل لأبي الْخطاب: من لم يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر يَقُول:
لَيْسَ بِإِجْمَاع، فَقَالَ: لَا يَصح الْمَنْع لِاتِّفَاق
الصَّحَابَة على قتال مانعي الزَّكَاة، والخلافة، وَقسم أَرض
السوَاد بعد اخْتلَافهمْ.
قَالَ ابْن الْحَاجِب، وكل من اشْترط انْقِرَاض الْعَصْر
قَالَ: إِجْمَاع.
(4/1664)
قَوْله: {فصل}
إِذا اقْتضى دَلِيل حكما لَا دَلِيل لَهُ غَيره امْتنع عدم علم
الْأمة بِهِ} . إِذا كَانَ فِي الْوَاقِعَة دَلِيل أَو خبر
يَقْتَضِي حكما على الْمُكَلّفين، وَلَيْسَ لذَلِك الحكم
دَلِيل آخر لم يجز عدم علم الْأمة بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِن عمل
بذلك الحكم كَانَ عملا بِهِ عَن غير دَلِيل، بل عَن تشه،
وَالْعَمَل بالحكم عَن التشهي لَا يجوز، وَإِن لم يعْمل بِهِ
كَانَ تركا للْحكم المتوجه على الْمُكَلف. قَالَه
الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ".
قَوْله: {وَإِن كَانَ لَهُ دَلِيل رَاجِح عمل على وَفقه جَازَ
عدم الْعلم،
(4/1665)
وَهَذَا ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا} .
قَالَه ابْن مُفْلِح؛ لِأَن عدم الْعلم لَيْسَ من فعلهم،
وخطأهم من أَوْصَافه، فَلَا يكون خطأ فَلَا إِجْمَاع مِنْهُم،
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَغَيره.
وَقيل: لَا يجوز.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": أما إِذا
كَانَ فِي الْوَاقِع دَلِيل أَو خبر رَاجِح - أَي بِلَا معَارض
- وَقد عمل وفْق ذَلِك الدَّلِيل أَو الْخَبَر بِدَلِيل آخر
فَهَل يجوز عدم علم الْأمة بِهِ، أَو لَا؟ فَمنهمْ من جوزه،
وَمِنْهُم من نَفَاهُ.
وَاحْتج المجوز بِأَن اشْتِرَاك جَمِيعهم فِي عدم الْعلم بذلك
الْخَبَر، أَو الدَّلِيل الرَّاجِح لم يُوجب محذوراً؛ إِذْ
لَيْسَ اشْتِرَاك جَمِيعهم فِي عدم الْعلم إِجْمَاعًا حَتَّى
يجب متابعتهم فِيهِ، بل عدم علمهمْ بذلك الدَّلِيل أَو
الْخَبَر كَعَدم حكمهم فِي وَاقعَة لم يحكموا فِيهَا بِشَيْء
فَجَاز لغَيرهم أَن يسْعَى فِي طلب ذَلِك الدَّلِيل أَو
الْخَبَر ليعلم.
(4/1666)
وَاحْتج النَّافِي بِأَنَّهُ لَو جَازَ عدم
علمهمْ جَمِيعهم بذلك الدَّلِيل، أَو الْخَبَر لحرم تَحْصِيل
الْعلم بِهِ، وَالثَّانِي ظَاهر الْفساد، بَيَان الْمُلَازمَة
أَنه حِينَئِذٍ يكون عدم علمهمْ سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَلَو
طلبُوا الْعلم لاتبعوا غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ.
وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن عدم علمهمْ لَا يكون سَبِيلا
لَهُم؛ لِأَن السَّبِيل مَا اخْتَارَهُ الْإِنْسَان من قَول
أَو عمل، وَعدم علمهمْ مَا اختاروه فَلَا يكون سَبِيلا لَهُم.
انْتهى.
(4/1667)
قَوْله: {فصل}
{ارتداد الْأمة جَائِز عقلا} قطعا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحال،
وَلَا يلْزم مِنْهُ محَال.
قَالَ الْآمِدِيّ: لَا خلاف فِي تصور ارتداد الْأمة الإسلامية
فِي بعض الْأَعْصَار عقلا.
قَوْله: {وَلَا يجوز سمعا فِي الْأَصَح، وَهُوَ ظَاهر كَلَام
أَصْحَابنَا} . قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره، وَصرح بِهِ
الطوفي وَغَيره، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب،
وَصَححهُ التَّاج السُّبْكِيّ، وَغَيرهم، وَذَلِكَ لأدلة
(4/1668)
الْإِجْمَاع، وَقَول النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمتِي لَا تَجْتَمِع على
ضَلَالَة " وانعقد الْإِجْمَاع.
وَخَالف ابْن عقيل وَغَيره، وَقَالُوا: الرِّدَّة تخرجهم عَن
أمته؛ لأَنهم إِذا ارْتَدُّوا، لم يَكُونُوا مُؤمنين فَلم
يتناولهم الْأَدِلَّة.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ يصدق بعد ارتدادهم أَن أمة مُحَمَّد
ارْتَدَّت، وَهُوَ أعظم الْخَطَأ فَيمْتَنع الْأَدِلَّة
السمعية.
وَقيل: على هَذَا الْجَواب: إِن إِطْلَاق أمة مُحَمَّد -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِم بالمجاز،
وَالْأمة الْمَذْكُورَة فِي الْأَدِلَّة السمعية لم تتَنَاوَل
إِلَّا من هُوَ من الْأمة حَقِيقَة فَانْدفع الْجَواب.
وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ: بِأَن ارتدادهم الَّذِي هُوَ أعظم
الْخَطَأ هُوَ الْمُوجب لسلب اسْم الْأمة عَنْهُم حَقِيقَة
فَزَالَ اسْم الْأمة عَنْهُم بعد الارتداد بِالذَّاتِ؛ لِأَن
الْمَعْلُول مُتَأَخّر عَن الْعلَّة بِالذَّاتِ فَعِنْدَ
حُصُول ارتدادهم صدق عَلَيْهِم اسْم الْأمة حَقِيقَة فتتناولهم
الْأَدِلَّة السمعية، قَالَه الْأَصْفَهَانِي.
(4/1669)
قَوْله: {وَيجوز اتِّفَاقهم على جهل مَا لم
تكلّف بِهِ فِي الْأَصَح} ؛ لعدم الْخَطَأ بِعَدَمِ
التَّكْلِيف، كتفضيل عمار على حُذَيْفَة، أَو عَكسه، وَنَحْوه؛
لِأَن ذَلِك لَا يقْدَح فِي أصل من الْأُصُول.
وَقيل: لَا يجوز اتفاقها على ذَلِك، وَإِلَّا كَانَ الْجَهْل
سَبِيلا لَهَا فَيجب اتباعها فِيهِ وَهُوَ بَاطِل.
أُجِيب: بِمَنْع أَنه سَبِيل لَهَا؛ لِأَن سَبِيل الشَّخْص مَا
يختاره من قَول أَو فعل، وَعدم الْعلم بالشَّيْء لَيْسَ من
ذَلِك، أما مَا كلفوا بِهِ فَيمْتَنع جهل جَمِيعهم بِهِ، ككون
الْوتر وَاجِبا أم لَا، وَنَحْوه.
قَوْله: {وَلَا يجوز انقسامها فرْقَتَيْن، كل فرقة مخطئة فِي
مَسْأَلَة مُخَالفَة لِلْأُخْرَى، عِنْد الْأَكْثَر} .
(4/1670)
قَالَ الْقَرَافِيّ: اخْتلفُوا هَل يَصح
أَن يجمعوا على خطأ فِي مَسْأَلَتَيْنِ؟ كَقَوْل بَعضهم بِمذهب
الْخَوَارِج، والبقية بِمذهب الْمُعْتَزلَة، وَفِي الْفُرُوع
مثل أَن يَقُول الْبَعْض بِأَن العَبْد يَرث، وَيَقُول
الْبَاقِي بِأَن الْقَاتِل عمدا يَرث، فَقيل: لَا يجوز؛
لِأَنَّهُ إِجْمَاع على الْخَطَأ، وَقيل: يجوز؛ لِأَن كل خطأ
من هذَيْن الخطأين لم يساعد عَلَيْهِ الْفَرِيق الآخر، وَلم
يُوجد فِيهِ إِجْمَاع.
ثمَّ قَالَ: تَنْبِيه: الْأَحْوَال ثَلَاثَة:
الْحَالة الأولى: اتِّفَاقهم على الْخَطَأ فِي مَسْأَلَة
وَاحِدَة، كإجماعهم على أَن العَبْد يَرث فَلَا يجوز ذَلِك
عَلَيْهِم.
الثَّانِيَة: أَن يُخطئ كل فريق فِي مَسْأَلَة أَجْنَبِيَّة
عَن الْمَسْأَلَة الْأُخْرَى، فَيجوز، فَإنَّا نقطع أَن كل
مُجْتَهد يجوز أَن يُخطئ، وَمَا من مَذْهَب من الْمذَاهب
إِلَّا وَقد وَقع فِيهِ مَا يُنكر وَإِن قل، فَهَذَا لَا بُد
للبشر مِنْهُ.
الثَّالِثَة: أَن يخطئوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ فِي حكم
الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة، مثل هَذِه الْمَسْأَلَة: فَإِن
العَبْد وَالْقَاتِل كِلَاهُمَا يرجع إِلَى فرع وَاحِد، وَهُوَ
مَانع الْمِيرَاث، فَوَقع الْخَطَأ فِيهِ كُله، فَمن نظر إِلَى
اتِّحَاد الأَصْل منع، وَمن نظر إِلَى تعدد الْفَرْع أجَاز،
فَهَذَا تَلْخِيص هَذِه الْمَسْأَلَة. انْتهى.
ومثلوا ذَلِك أَيْضا بِاتِّفَاق شطر الْأمة على أَن
التَّرْتِيب فِي الْوضُوء وَاجِب، وَفِي الصَّلَاة الْفَائِتَة
غير وَاجِب.
(4/1671)
والفرقة الْأُخْرَى على عكس ذَلِك فِي
الصُّورَتَيْنِ.
فَذهب الْأَكْثَر إِلَى الْمَنْع؛ لِأَن خطأهم فِي
الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا يخرجهم عَن أَن يَكُونُوا قد اتَّفقُوا
على الْخَطَأ، وَلَو فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَهُوَ منفي
عَنْهُم، وَجوزهُ الْمُتَأَخّرُونَ؛ لِأَن الْمُخطئ فِي كل
مَسْأَلَة بعض الْأمة، ومثار الْخلاف أَن المخطئين فِي
الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا كل الْأمة أَو بَعضهم.
قَوْله: {وَلَا إِجْمَاع يضاد إِجْمَاعًا، خلافًا للبصري} -
أَعنِي: أَبَا عبد الله - ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه إِذا
انْعَقَد الْإِجْمَاع فِي مَسْأَلَة على حكم لَا يجوز أَن
ينْعَقد بعده إِجْمَاع يضاده لاستلزامه تعَارض دَلِيلين
قطعيين.
وَجوزهُ أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ وَقَالَ: لَا امْتنَاع من
تَخْصِيص بَقَاء كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة بِمَا إِذا
لم يطْرَأ عَلَيْهِ إِجْمَاع آخر، لَكِن لما أَجمعُوا على وجوب
الْعَمَل بالمجمع عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْأَعْصَار أمنا من
وُقُوع هَذَا الْجَائِز، فاستفيد عدم الْجَوَاز من الْإِجْمَاع
الثَّانِي دون الْإِجْمَاع الأول.
(4/1672)
قَالَ الْقَرَافِيّ: لما قَالَ الْأَولونَ
ككون أَحدهمَا خطأ لَا مُخَالفَة - وإجماعهم على الْخَطَأ غير
جَائِز - لُزُوم كَون أَحدهمَا خطأ لَا يلْزم لاحْتِمَال أَن
ينزل الله تَعَالَى نصوصاً بِتَقْدِيم الإجماعات بَعْضهَا على
بعض بالمناسبة للقواعد، وَيكون ذَلِك مدْركا للترجيح فِي
الْعَصْر الأول وَالثَّانِي.
قيل: هَذَا التجويز لم يَقع. انْتهى.
تَنْبِيه: نقل ابْن قَاضِي الْجَبَل أَن ابْن الْخَطِيب وَافق
أَبَا عبد الله الْبَصْرِيّ على الْجَوَاز فَقَالَ: هَل يجوز
انْعِقَاد الْإِجْمَاع بعد الْإِجْمَاع على خِلَافه؟ جوزه
أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، وَابْن الْخَطِيب خلافًا
للأكثرين. انْتهى.
قلت: لم نجد من نقل ذَلِك عَن الرَّازِيّ إِلَّا ابْن قَاضِي
الْجَبَل، وأرباب مذْهبه أعلم بمقالته؛ إِذْ لَو كَانَ قَالَه
لنقلوه وَلما خَفِي عَنْهُم.
(4/1673)
قَوْله: {فصل}
{الْأَخْذ بِأَقَلّ مَا قيل - كدية كتابي الثُّلُث -} لَيْسَ
بِإِجْمَاع للْخلاف فِي الزَّائِد خلافًا لمن ظَنّه.
اخْتلفُوا فِي ثُبُوت الْأَقَل وَلَا أَكثر فِي مَسْأَلَة، لَا
يَصح التَّمَسُّك بِالْإِجْمَاع فِي إِثْبَات مَذْهَب
الْقَائِل بِالْأَقَلِّ.
مثل قَول الشَّافِعِي: إِن دِيَة الْيَهُودِيّ ثلث دِيَة
الْمُسلم؛ فَإِنَّهُ لَا يَصح أَن يتَمَسَّك فِي إثْبَاته
بِالْإِجْمَاع، وَيَقُول: إِن الْأمة لَا تخرج عَن الْقَائِل
بِالْكُلِّ، وبالنصف، وبالثلث وَالْكل قَائِلُونَ بِالثُّلثِ،
وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح؛ لِأَن قَوْله
(4/1674)
يشْتَمل على وجوب الثُّلُث، وَنفي
الزَّائِد، وَالْإِجْمَاع لم يدل على نفي الزَّائِد، بل على
وجوب الثُّلُث فَقَط، وَهُوَ بعض الْمُدعى، فَالثُّلُث وَإِن
كَانَ مجمعا عَلَيْهِ، لَكِن نفي الزِّيَادَة لم يكن مجمعا
عَلَيْهِ فالمجموع لَا يكون مجمعا عَلَيْهِ، وَالْقَائِل
بِالثُّلثِ مَطْلُوبه مركب من أَمريْن:
الثُّلُث وَنفي الزِّيَادَة، فَلَا يكون مذْهبه مُتَّفقا
عَلَيْهِ.
فَإِن إبداء نفي الزِّيَادَة بِوُجُود الْمَانِع من
الزِّيَادَة أَو بِنَفْي شَرط الزِّيَادَة، أَو إبداء نفي
الزِّيَادَة بالاستصحاب لم يكن حِينَئِذٍ نفي الزِّيَادَة
ثَابتا بِالْإِجْمَاع.
وَتمسك الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ -، وَأَتْبَاعه بذلك
إِنَّمَا هُوَ للبراءة الْأَصْلِيَّة؛ وَلذَلِك كَانَ فرض
الْمَسْأَلَة فِيمَا إِذا كَانَ فِيهِ الأَصْل بَرَاءَة
الذِّمَّة؛ فَإِن الأَصْل فِي مَسْأَلَة الدِّيَة - مثلا -
بَرَاءَة ذمَّة الْقَاتِل من الزَّائِد على الْأَقَل
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَافق الشَّافِعِي القَاضِي أَبُو
بكر
(4/1675)
وَالْجُمْهُور؛ وَذَلِكَ كدية
الْكِتَابِيّ. قيل: إِنَّهَا كدية الْمُسلم، وَقيل: على
النّصْف مِنْهَا، وَقيل: على الثُّلُث، فَأخذ الشَّافِعِي
بِالثُّلثِ، وَهُوَ مركب من الْإِجْمَاع، والبراءة
الْأَصْلِيَّة - كَمَا تقدم - فَإِن إِيجَاب الثُّلُث مجمع
عَلَيْهِ، وَوُجُوب الزِّيَادَة عَلَيْهِ مَدْفُوع
بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة.
وَالصُّورَة أَنه لم يقم دَلِيل على إِيجَاب الزِّيَادَة؛
وَلذَلِك أدخلوه فِي مسَائِل الْإِجْمَاع. وَقد عرفت أَنه
لَيْسَ إِجْمَاعًا مَحْضا، بل مركب من أَمريْن.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني: إِن النَّاقِل عَن
الشَّافِعِي أَنه من الْإِجْمَاع لَعَلَّه زل فِي كَلَامه.
وَقَالَ الْغَزالِيّ: هُوَ سوء ظن بِهِ، فَإِن الْمجمع
عَلَيْهِ وجوب هَذَا الْقدر، وَلَا مُخَالفَة فِيهِ، والمختلف
فِيهِ سُقُوط الزِّيَادَة، وَلَا إِجْمَاع فِيهِ، وَحِينَئِذٍ
فَلَيْسَ تمسكاً بِالْإِجْمَاع، بل بِمَجْمُوع هذَيْن
الدَّلِيلَيْنِ. انْتهى.
أما إِذا قَامَ دَلِيل على الزِّيَادَة، فَإِن الشَّافِعِي
يَأْخُذ بِهِ، كَمَا قَالَ: بالتسبيع فِي غسل ولوغ الْكَلْب
لقِيَام الدَّلِيل عَلَيْهِ، وَلم يتَمَسَّك بِأَقَلّ مَا قيل،
وَهُوَ الِاقْتِصَار على ثَلَاث غسلات.
(4/1676)
وَلذَلِك لم يَأْخُذ بِالثَّلَاثَةِ
بانعقاد الْجُمُعَة لقِيَام الدَّلِيل على الْأَكْثَر. قَالَ:
الْإِسْنَوِيّ: وَقد اعْتمد الشَّافِعِي على هَذَا الدَّلِيل
فِي إِثْبَات الْأَحْكَام إِذا كَانَ الْأَقَل جُزْءا من
الْأَكْثَر، وَلم يجد دَلِيلا غَيره. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذِه قَاعِدَة تنْسب إِلَى الشَّافِعِي
وَهُوَ الْأَخْذ بِأَقَلّ مَا قيل وَصورتهَا - كَمَا قَالَ
ابْن السَّمْعَانِيّ - أَن يخْتَلف الْعلمَاء فِي مُقَدّر
بِالِاجْتِهَادِ فَيُؤْخَذ بِأَقَلِّهَا إِذا لم يدل على
الزَّائِد دَلِيل، وَرُبمَا قصر على اخْتِلَاف الصَّحَابَة -
كَمَا فسره بِهِ ابْن الْقطَّان.
وَهُوَ الشَّاشِي: هُوَ أَن يرد فعل من النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُبينًا لمجمل، وَيحْتَاج إِلَى
تحديده، فيصار إِلَى أقل مَا يُوجد، وَهَذِه كَمَا قَالَ
الشَّافِعِي فِي أقل الْجِزْيَة: إِنَّه دِينَار؛ لِأَن
الدَّلِيل قَامَ على أَنه لابد من تَوْقِيت، فَصَارَ إِلَى أقل
مَا حُكيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- أَنه أَخذ فِي الْجِزْيَة، قَالَ: وَهَذَا أصل فِي
التَّوْقِيت، قد صَار إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي مسَائِل
كَثِيرَة: كتحديده مَسَافَة الْقصر بمرحلتين، وَمَا لَا ينجس
بملاقاة النَّجس حَتَّى يتَغَيَّر بقلتين وَأَن دِيَة
الْيَهُودِيّ ثلث دِيَة الْمُسلم، وَمثله مَا ذهب إِلَيْهِ فِي
الدِّيَة أَنَّهَا أَخْمَاس، وَقيل: أَربَاع - فالأخماس أقل
فالأقل دَائِما مجمع عَلَيْهِ؛ لِاجْتِمَاع الْكل فِيهِ.
انْتهى.
(4/1677)
{وَقيل: يَأْخُذ بِالْأَكْثَرِ} ، نقل ابْن
حزم عَن قوم الْأَخْذ بِأَكْثَرَ مَا قيل ليعلم بَرَاءَة
الذِّمَّة.
ورد ذَلِك بِأَن مَحَله حَيْثُ يعلم شغلها، وَلم يعلم
الزَّائِد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: إِذا اخْتلفت
الْبَيِّنَتَانِ فِي قيمَة متْلف، فَهَل يجب الْأَقَل، أَو
نسقطهما؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، فَهَذَا يبين أَن فِي إِيجَاب
الْأَقَل بِهَذَا المسلك خلافًا، وَهُوَ مُتَوَجّه، كَذَا
قَالَ، وَلنَا قَول: يجب الْأَكْثَر. انْتهى.
(4/1678)
قَوْله: {فصل}
{ابْن حَامِد، وَجمع، يكفر مُنكر حكم إِجْمَاع قَطْعِيّ} ،
وَالْقَاضِي [و] أَبُو الْخطاب، وَجمع لَا، ويفسق والطوفي،
والآمدي، وَمن تبعه يكفر بِنَحْوِ الْعِبَادَات الْخمس، وَهُوَ
معنى كَلَام أَصْحَابنَا فِي الْفِقْه: يكفر بِنَحْوِ
الْعِبَادَات الْخمس.
(4/1679)
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَهُ بعض
أَصْحَابنَا - مَعَ أَنه حكى الأول عَن أَكثر الْعلمَاء -
وَلَا أَظن أحدا لَا يكفر من جحد هَذَا. انْتهى.
وَلِهَذَا وَغَيره قُلْنَا: وَالْحق أَن مُنكر الْمجمع
عَلَيْهِ الضَّرُورِيّ، وَالْمَشْهُور الْمَنْصُوص عَلَيْهِ.
كَافِر قطعا، وَكَذَا الْمَشْهُور فَقَط، لَا الْخَفي فِي
الْأَصَح فيهمَا.
فَهُنَا أَرْبَعَة أَقسَام:
الأول: الْمجمع عَلَيْهِ الضَّرُورِيّ، وَلَا شكّ فِي تَكْفِير
مُنكر ذَلِك، وَقد قطع الإِمَام أَحْمد، وَالْأَصْحَاب: بِكفْر
جَاحد الصَّلَاة، وَكَذَا لَو أنكر ركنا من أَرْكَان
الْإِسْلَام، لَكِن لَيْسَ كفره من حَيْثُ كَون مَا جَحده
مجمعا عَلَيْهِ فَقَط، بل مَعَ كَونه مِمَّا اشْترك النَّاس
فِي مَعْرفَته فَإِنَّهُ يصير بذلك كَأَنَّهُ جَاحد لصدق
الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمعنى كَونه مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ أَن يَسْتَوِي خَاصَّة
أهل الدّين، وعامتهم فِي مَعْرفَته حَتَّى يصير كالمعلوم
بِالْعلمِ الضَّرُورِيّ فِي عدم تطرق
(4/1680)
الشَّك إِلَيْهِ، لَا أَنه يسْتَقلّ الْعقل
بإدراكه فَيكون علما ضَرُورِيًّا، كأعداد الصَّلَوَات،
وركعاتها، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، وَالْحج، وزمانها،
وَتَحْرِيم الزِّنَا، وَالْخمر، وَالسَّرِقَة، وَنَحْوهَا.
وَإِن لم يكن مَعْلُوما من الدّين بِالضَّرُورَةِ، وَلَكِن
مَنْصُوص عَلَيْهِ مَشْهُور عِنْد الْخَاصَّة والعامة فيشارك
الْقسم الَّذِي قبله فِي كَونه مَنْصُوصا، ومشهوراً،
وَيُخَالِفهُ من حَيْثُ إِنَّه لم ينْتَه إِلَى كَونه
ضَرُورِيًّا فِي الدّين فيكفر بِهِ جاحده أَيْضا.
وَإِن لم يكن مَنْصُوصا عَلَيْهِ لكنه بلغ مَعَ كَونه مجمعا
عَلَيْهِ فِي الشُّهْرَة مبلغ الْمَنْصُوص بِحَيْثُ تعرفه
الْخَاصَّة، والعامة فَهَذَا أَيْضا يكفر منكره فِي أصح قولي
الْعلمَاء، حَكَاهَا الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق وَغَيره؛
لِأَنَّهُ يتَضَمَّن تكذيبهم تَكْذِيب الصَّادِق.
وَقيل: لَا يكفر لعدم التَّصْرِيح بالتكذيب، وَإِن لم يكن
مَنْصُوصا عَلَيْهِ، وَلَا بلغ فِي الشُّهْرَة مبلغ
الْمَنْصُوص؛ بل هُوَ خَفِي، لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص،
كإنكار اسْتِحْقَاق بنت الابْن السُّدس مَعَ الْبِنْت،
وَتَحْرِيم نِكَاح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا أَو خالاتها، أَو
إِفْسَاد الْحَج بِالْوَطْءِ قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة،
وَنَحْوه، فَهَذَا
(4/1681)
لَا يكفر جاحده، وَلَا منكره لعذر الخفاء،
خلافًا لبَعض الْفُقَهَاء فِي قَوْله: إِنَّه يكفر؛ لتكذيبه
الْأمة.
ورد: بِأَنَّهُ لم يكذبهم صَرِيحًا، إِذا فرض أَنه لم يكن
مَشْهُورا، فَهُوَ مِمَّا يخفى على مثله، فَهَذَا تَحْقِيق
هَذِه الْمَسْأَلَة وتحريرها، وَقد حَرَّره أَئِمَّة
الشَّافِعِيَّة، وَأما الْآمِدِيّ فَقَالَ: اخْتلفُوا فِي
تَكْفِير جَاحد الْمجمع عَلَيْهِ، فأثبته بعض الْفُقَهَاء،
وَأنْكرهُ الْبَاقُونَ مَعَ اتِّفَاقهم على أَن إِنْكَار حكم
الْإِجْمَاع الظني غير مُوجب كفرا، وَالْمُخْتَار التَّفْصِيل،
وَهُوَ أَن اعْتِقَاد الْإِجْمَاع إِمَّا أَن يكون دَاخِلا فِي
مَفْهُوم اسْم الْإِسْلَام كالعبادات الْخمس، وَوُجُوب
اعْتِقَاد التَّوْحِيد، والرسالة، أَو لَا يكون كَذَلِك،
كَالْحكمِ بِحل البيع وَصِحَّة الْإِجَارَة وَنَحْوه، فَإِن
كَانَ الأول فجاحده كَافِر؛ لمزايلة حَقِيقَة الْإِسْلَام
لَهُ، وَإِن كَانَ الثَّانِي فَلَا. انْتهى.
(4/1682)
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: إِنْكَار حكم
الْإِجْمَاع الْقطعِي ثَالِثهَا الْمُخْتَار أَن نَحْو
الْعِبَادَات الْخمس يكفر، وَقد اخْتلف فِي مرادهما بالعبادات
الْخمس أَرْكَان الْإِسْلَام أَو الصَّلَوَات الْخمس؟
وأيا مَا كَانَ فَيلْزم حِكَايَة قَول إِن منكرها لَا يكفر،
وَلَا يعرف هَذَا؛ وَإِن منكري الْخَفي فِيهِ قَول إِنَّه
يكفر، وَقد أنكرهُ كثير، وَسبق أَن بَعضهم قَالَ بِهِ.
وَمن يؤول كَلَام ابْن الْحَاجِب يَقُول: مُرَاده أَن
الْقَائِل بِأَنَّهُ لَا يكفر لمُخَالفَة مُجَرّد الْإِجْمَاع،
وَإِن كَانَ يكفر من حَيْثُ إِنَّه ضَرُورِيّ فِي الدّين
فَيكون مُكَذبا لصَاحب الشَّرْع.
ويزداد الْآمِدِيّ إشْكَالًا فِي قَوْله: إِنَّه لَا يكفر
إِلَّا بِمَا يكون دَاخِلا تَحت حَقِيقَة الْإِسْلَام فَيخرج
إِنْكَار حل البيع مَعَ أَنه يكفر؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوص مجمع
عَلَيْهِ، لَكِن لَيْسَ فِي كَلَام الْآمِدِيّ التَّصْرِيح
بِأَن الْمذَاهب ثَلَاثَة كَابْن الْحَاجِب.
(4/1683)
وَذكر ابْن مُفْلِح عَن أَصْحَابنَا
التَّكْفِير وَعَدَمه، وَذكر قَول الْآمِدِيّ، وَقَالَ: هُوَ
معنى كَلَام أَصْحَابنَا فِي كتب الْفِقْه، يكفر بجحد حكم
ظَاهر مجمع عَلَيْهِ، كالعبادات الْخمس، وَاخْتَارَهُ بعض
أَصْحَابنَا. مَعَ أَنه حكى الأول عَن الْأَكْثَر، وَلَا أَظن
أحدا لَا يكفر من جحد هَذَا، وَذكر الْمجد فِي " المسودة ":
أَن على قَول بعض الْمُتَكَلِّمين الْإِجْمَاع حجَّة ظنية لَا
يكفر، وَلَا يفسق. انْتهى.
(4/1684)
قَوْله: {فصل}
{لَا يَصح التَّمَسُّك بِالْإِجْمَاع فِيمَا يتَوَقَّف صِحَة
الْإِجْمَاع عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، كوجود الْبَارِي، وَصِحَّة
الرسَالَة وَدلَالَة المعجزة} ؛ لاستلزامه عَلَيْهِ، لُزُوم
الدّور.
قَوْله: {وَيصِح فِيمَا لَا يتَوَقَّف وَهُوَ ديني كالرؤية
وَنفي الشَّرِيك، وَوُجُوب الْعِبَادَات، وَنَحْوهَا} .
فَإِن الْإِجْمَاع لَا يتَوَقَّف على ذَلِك لِإِمْكَان تَأَخّر
مَعْرفَتهَا عَن الْإِجْمَاع بِخِلَاف الأول، وَسَوَاء كَانَ
الديني عقلياً كرؤية الْبَارِي وَنفي الشَّرِيك، أَو
شَرْعِيًّا كوجوب الصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام،
وَغَيرهَا.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: لَا خلاف فِيهِ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: صَحَّ اتِّفَاقًا، وَقطع بِهِ فِي
" الْمقنع "، وَغَيره.
(4/1685)
قَوْله: {أَو عَقْلِي، كحدوث الْعَالم} ،
وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر.
وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول ": وَأما حُدُوث الْعَالم فَيمكن
إثْبَاته [بِهِ] ؛ لِأَنَّهُ يمكننا إِثْبَات الصَّانِع بحدوث
الْأَعْرَاض، ثمَّ نَعْرِف صِحَة النُّبُوَّة بِهِ، ثمَّ
نَعْرِف بِهِ الْإِجْمَاع، ثمَّ نَعْرِف بِهِ حُدُوث
الْأَجْسَام. انْتهى.
وَخَالف فِي هَذِه إِمَام الْحَرَمَيْنِ مُطلقًا، وَأَبُو
إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي كليات أصُول الدّين، قَالَ: كحدوث
الْعَالم، وَإِثْبَات النُّبُوَّة دون جزئياته كجواز
الرُّؤْيَة. انْتهى.
قَالَ الكوراني: لَا معنى للْإِجْمَاع فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِن
كَانَ قَطْعِيا بالاستدلال فَمَا فَائِدَة الْإِجْمَاع فِيهِ
إِلَّا تعاضد الْأَدِلَّة، لَا إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء.
قَالَ الإِمَام فِي " الْبُرْهَان ": أما مَا ينْعَقد
الْإِجْمَاع فِيهِ، فالسمعيات وَلَا اثر للوفاق فِي المعقولات؛
فَإِن المتبع فِي العقليات الْأَدِلَّة القاطعة، فَإِذا أنتصبت
لم يعارضها شقَاق، وَلم يعضدها وفَاق، هَذَا كَلَامه. ثمَّ
(4/1686)
نقُول: أَي فَائِدَة فِي الْإِجْمَاع فِي
العقليات مَعَ أَنه لَا يجوز التَّقْلِيد فِيهَا، وَلَو كَانَ
الْإِجْمَاع حجَّة فِيهَا كَسَائِر الْأَحْكَام لم يجز إِلَّا
التَّقْلِيد فِيهَا، وَعدم الْمُخَالفَة. انْتهى.
قَوْله: {أَو دُنْيَوِيّ، كرأي فِي حَرْب وَنَحْوه} ، كتدبير
أَمر الرّعية والجيوش.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيهِ مذهبان مشهوران، الْمُرَجح
مِنْهُمَا: وجوب الْعَمَل فِيهِ بِالْإِجْمَاع، وَهُوَ ظَاهر
كَلَام القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، وَغَيرهم فِي حد
الْإِجْمَاع، وَاخْتَارَهُ ابْن حمدَان، والآمدي، وَأَتْبَاعه،
وَهُوَ أظهر؛ لِأَن الدَّلِيل السمعي دلّ على التَّمَسُّك بِهِ
مُطلقًا من غير تَقْيِيد فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهِ؛ لِأَن
الأَصْل عدم التَّقْيِيد.
(4/1687)
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَذَا قَول
الْجُمْهُور، وللقاضي عبد الْجَبَّار المعتزلي فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: الْمَنْع، وَوَجهه اخْتِلَاف الْمصَالح بِحَسب
الْأَحْوَال، فَلَو كَانَ حجَّة لزم ترك الْمصلحَة وَإِثْبَات
الْمفْسدَة، وَقطع بِهِ الْغَزالِيّ، وَصَححهُ السَّمْعَانِيّ،
وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " فِي حد
الْإِجْمَاع.
والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَابْن حمدَان فِي " مقنعه "،
وَغَيرهم.
قَالَ الكوراني: لَا معنى للْإِجْمَاع فِي ذَلِك؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ أقوى من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-، وَهُوَ لَيْسَ دَلِيلا لَا يُخَالف فِيهِ، يدل عَلَيْهِ
قصَّة التلقيح حَيْثُ قَالَ: " أَنْتُم أعلم بِأُمُور دنياكم "
وَالْمجْمَع عَلَيْهِ لَا يجوز خِلَافه، وَمَا ذَكرُوهُ من
أُمُور الْحَرْب وَنَحْوهَا، إِن أَثم مُخَالف ذَلِك فلكونه
شَرْعِيًّا وَإِلَّا فَلَا معنى لوُجُوب اتِّبَاعه. انْتهى.
(4/1688)
{وَقيل: هُوَ حجَّة بعد اسْتِقْرَار
الرَّأْي} ، لَا قبله، ذكره ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {أَو لغَوِيّ} ، يعْتد بِالْإِجْمَاع فِي أَمر
لغَوِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا خلاف فِي ذَلِك ككون الْفَاء للتعقيب.
فَقطع بِهِ.
وَقيل: يعْتد بِالْإِجْمَاع فِيهِ إِن تعلق بِالدّينِ،
وَإِلَّا فَلَا. ذكره الْقُرْطُبِيّ، نَقله عَنهُ ابْن قَاضِي
الْجَبَل.
قَوْله: {تَنْبِيه} : قَالَ أَصْحَابنَا وَأكْثر الْعلمَاء:
يثبت الْإِجْمَاع بِخَبَر الْوَاحِد.
قَالَ ابْن عقيل: هُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء.
(4/1689)
وَقَالَ أَبُو سُفْيَان: هُوَ مَذْهَب
شُيُوخنَا الْحَنَفِيَّة. انْتهى.
وَنَقله ابْن مُفْلِح عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة،
وَالشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْأَصْفَهَانِي عَن أَكثر
الشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْقَرَافِيّ عَن مَالك، وَنَقله
الْإِسْنَوِيّ عَن الْآمِدِيّ، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب،
والتاج السُّبْكِيّ فِي " مختصريهما "، وَنَقله الْبرمَاوِيّ
عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، والآمدي.
وَذَلِكَ أَن نقل الْوَاحِد للْخَبَر الظني مُوجب للْعَمَل
بِهِ قطعا، فَنقل الْوَاحِد للدليل الْقطعِي الَّذِي هُوَ
الْإِجْمَاع أولى بِوُجُوب الْعَمَل؛ لِأَن
(4/1690)
احْتِمَال الضَّرَر فِي مُخَالفَة
الْمَقْطُوع أَكثر من احْتِمَاله فِي مُخَالفَة المظنون،
وَاحْتِمَال الْغَلَط لَا يقْدَح فِي وجوب الْعَمَل قطعا
كَخَبَر الْوَاحِد.
قَالَ ابْن عقيل: هَذَا نزاع عبارَة؛ إِذْ تحتهَا اتِّفَاق
فَإِن خبر الْوَاحِد لَا يُعْطي علما وَلَكِن يُفِيد ظنا،
وَنحن إِذا قُلْنَا: إِنَّه يثبت بِهِ الْإِجْمَاع فلسنا
قاطعين بِالْإِجْمَاع، وَلَا بحصوله بِخَبَر الْوَاحِد، بل
هُوَ بِمَنْزِلَة ثُبُوت قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والمنازع قَالَ: الْإِجْمَاع دَلِيل
قَطْعِيّ، وَخبر الْوَاحِد دَلِيل ظَنِّي، فَلَا يثبت
قَطْعِيا. انْتهى.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَالْغَزالِيّ، وَبَعض الْحَنَفِيَّة،
وَغَيرهم: لَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد؛ وَذَلِكَ لِأَن
الْإِجْمَاع أصل فَلَا يثبت بِالظَّاهِرِ.
ورد ذَلِك بِالْمَنْعِ.
قَالُوا: الْإِجْمَاع دَلِيل قَطْعِيّ فَلَا يثبت بِخَبَر
الْوَاحِد.
(4/1691)
قَالَ أَبُو الْخطاب وَغَيره: الْعلم لَا
يحصل إِلَّا بالتواتر.
قَالَ الكوراني: هَذَا قَول الْأَكْثَرين، وَحَكَاهُ الإِمَام
أَيْضا عَن الْأَكْثَرين، وَحَكَاهُ الْقَرَافِيّ عَن
الْأَكْثَرين أَيْضا.
وَقَالَ الْآمِدِيّ وَغَيره: سَنَده وَمَتنه قَطْعِيّ.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: قَالَ الْآمِدِيّ: وَالْخلاف يَنْبَنِي
على أَن دَلِيل أصل الْإِجْمَاع هَل هُوَ مَقْطُوع بِهِ أَو
مظنون؟
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِنْهُم من نَازع الْمَنْع على كَون
الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة، وَنقل ذَلِك عَن الْجُمْهُور.
وَقَالَ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ": إِنَّه الصَّحِيح.
(4/1692)
قَوْله: {فصل}
{يشْتَرك الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع فِي السَّنَد -
وَيُقَال: الْإِسْنَاد، والمتن} - لما فَرغْنَا من الأبحاث
الْمَخْصُوصَة بِكُل وَاحِد من الْأَدِلَّة الثَّلَاثَة،
وَهِي: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، شرعنا فِي الأبحاث
الْمُشْتَركَة بَين الثَّلَاثَة؛ فَلذَلِك قُلْنَا: ويشترك
الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فِي السَّنَد، وَالْمرَاد
هُنَا مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَال بالأدلة، وَهِي:
الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، وَالَّذِي
تثبت [بِهِ] الثَّلَاثَة الأول السَّنَد.
وَاعْلَم أَن الْكَلَام فِي الشَّيْء إِنَّمَا يكون بعد
ثُبُوته، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من حَيْثُ دلَالَة
الْأَلْفَاظ؛ لِأَنَّهُ بعد الصِّحَّة يتَوَجَّه النّظر إِلَى
مَا
(4/1693)
دلّ عَلَيْهِ ذَلِك الثَّابِت، ثمَّ يتلوه
مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من حَيْثُ اسْتِمْرَار الحكم وبقاؤه،
فَلم ينْسَخ، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الدَّلِيل
الرَّابِع وَهُوَ الْقيَاس من بَيَان أَرْكَانه، وشروطه،
وَأَحْكَامه؛ لِأَنَّهُ فرع على الثَّلَاثَة الأول.
قَالَ الْعَضُد: وَلَا شكّ أَن الطَّرِيق إِلَى الشَّيْء مقدم
عَلَيْهِ وضعا، وَقَوْلنَا: يشْتَرك كَذَا فِي السَّنَد
إِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد بالثبوت صِحَة وصولها إِلَيْنَا
لَا ثُبُوتهَا فِي نَفسهَا وَكَونهَا حَقًا.
إِذا علم ذَلِك فَالسَّنَد - وَيُقَال لَهُ أَيْضا:
الْإِسْنَاد - هُوَ: الْإِخْبَار عَن طَرِيق الْمَتْن قولا أَو
فعلا تواتراً أَو آحاداً، وَلَو كَانَ الْإِخْبَار بِوَاسِطَة
مخبر آخر فَأكْثر عَمَّن ينْسب الْمَتْن إِلَيْهِ والمتن: هُوَ
الْمخبر بِهِ.
وأصل السَّنَد فِي اللُّغَة: مَا يسند إِلَيْهِ، أَو مَا
ارْتَفع من الأَرْض، وَأخذ الْمَعْنى الاصطلاحي من الثَّانِي
أَكثر مُنَاسبَة؛ فَلذَلِك قَالَ ابْن طريف: أسندت الحَدِيث
رفعته إِلَى الْمُحدث، فَيحْتَمل أَنه اسْم مصدر من
(4/1694)
اسند يسند، أطلق على الْمسند إِلَيْهِ،
وَأَن يكون مَوْضُوعا لما يسند إِلَيْهِ.
والمسند - بِكَسْر النُّون -: من يروي الحَدِيث بِإِسْنَادِهِ،
سَوَاء كَانَ عِنْده علم بِهِ، أَو لَيْسَ لَهُ إِلَّا مُجَرّد
رِوَايَة.
وَأما مَادَّة الْمَتْن فَإِنَّهَا فِي الأَصْل رَاجِعَة إِلَى
معنى الصلابة، وَيُقَال: لما صلب من الأَرْض متن، وَالْجمع
متان، وَيُسمى أَسْفَل الظّهْر من الْإِنْسَان، والبهيمة متْنا
وَالْجمع متون.
فالمتن هُنَا: مَا تضمنه الثَّلَاثَة من أَمر، وَنهي، وعام،
وخاص، ومجمل، ومبين، ومنطوق، وَمَفْهُوم، وَنَحْوهَا.
قَوْله: {وَالْخَبَر يُطلق مجَازًا} ، من جِهَة اللُّغَة {على
الدّلَالَة المعنوية،
(4/1695)
وَالْإِشَارَة الحالية} ، كَقَوْلِهِم:
عَيْنَاك تُخبرنِي بِكَذَا، والغراب يخبر بِكَذَا.
وَقَالَ أَبُو الطّيب:
(وَكم لظلام اللَّيْل عنْدك من يَد ... تخبر أَن المانوية
تكذب)
قَوْله: {وَحَقِيقَة} ، أَي: يُطلق حَقِيقَة على الصِّيغَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَيُطلق حَقِيقَة على قَول
مَخْصُوص؛ وَذَلِكَ لتبادر الْفَهم عِنْد الْإِطْلَاق إِلَى
ذَلِك.
قَوْله: {وَهِي تدل بمجردها عَلَيْهِ} أَعنِي الصِّيغَة، تدل
على كَونه خَبرا عِنْد القَاضِي أبي يعلى وَغَيره.
(4/1696)
وناقش ابْن عقيل القَاضِي فِي ذَلِك كَمَا
يَأْتِي فِي الْأَمر والعموم، وَقَالَ: الصِّيغَة هِيَ
الْخَبَر فَلَا يُقَال لَهُ صِيغَة، وَلَا هِيَ دَالَّة
عَلَيْهِ.
وَاخْتَارَ كثير من أَصْحَابنَا مَا قَالَه القَاضِي
وَقَالُوا: لِأَن الْخَبَر هُوَ اللَّفْظ وَالْمعْنَى، لَا
اللَّفْظ فَقَط، فتقديره لهَذَا الْمركب جُزْء يدل بِنَفسِهِ
على الْمركب، وَإِذا قيل: الْخَبَر الصِّيغَة فَقَط بَقِي
الدَّلِيل هُوَ الْمَدْلُول عَلَيْهِ. انْتهى.
وَاخْتَارَهُ أَيْضا ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَقَالَ: لِأَن
الْأَمر وَالنَّهْي والعموم هُوَ اللَّفْظ وَالْمعْنَى
جَمِيعًا، لَيْسَ هُوَ اللَّفْظ فَقَط، فتقديره لهَذَا الْمركب
خبر يدل بِنَفسِهِ على الْمركب كَمَا تقدم.
وَقَالَت: {الْمُعْتَزلَة: لَا صِيغَة لَهُ، وَيدل اللَّفْظ
عَلَيْهِ بِقَرِينَة} هِيَ قصد الْمخبر إِلَى الْإِخْبَار،
كالأمر عِنْدهم.
(4/1697)
وَقَالَت {الأشعرية: هُوَ الْمَعْنى
النَّفْسِيّ} .
وَقَالَ {الْآمِدِيّ: يُطلق على الصِّيغَة وعَلى الْمَعْنى،
وَالْأَشْبَه لُغَة حَقِيقَة فِي الصِّيغَة} لتبادرها عِنْد
الْإِطْلَاق.
قَوْله: {وَيحد عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ، اخْتلف
الْعلمَاء - رَحِمهم الله - فِي الْخَبَر هَل يحد أم لَا؟ على
قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه يحد، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر،
وَلَهُم فِيهِ حُدُود كَثِيرَة، قل أَن يسلم مِنْهَا حد من
خدش:
(4/1698)
أَحدهَا: مَا قَالَه أَبُو الْخطاب فِي "
التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَأكْثر
الْمُعْتَزلَة كالجبائية، وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَعبد
الْجَبَّار، وَغَيرهم أَنه فِي اللُّغَة: {كَلَام يدْخلهُ
الصدْق وَالْكذب} .
وَنقض بِمثل: مُحَمَّد ومسيلمة صادقان.
وَبقول من يكذب دَائِما: كل أخباري كذب. فخبره لَا يدْخلهُ
صدق، وَإِلَّا كذبت أخباره وَهُوَ مِنْهَا.
وَلَا كذب، وَإِلَّا كذبت أخباره مَعَ هَذَا وَصدق فِي قَوْله:
كل أخباري كذب فيتناقض، وَيلْزم الدّور لتوقف معرفتهما على
معرفَة الْخَبَر؛ لِأَن الصدْق: الْخَبَر المطابق، وَالْكذب:
ضِدّه.
(4/1699)
وبأنهما متقابلان فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي
خبر وَاحِد، فَيلْزم امْتنَاع الْخَبَر، أَو وجوده مَعَ عدم
صدق الْحَد، وبخبر الْبَارِي.
وَأجِيب عَن الأول: بِأَنَّهُ فِي معنى خبرين؛ لإفادته حكما
لشخصين، لَا يوصفان بهما، بل يُوصف بهما الْخَبَر الْوَاحِد من
حَيْثُ هُوَ خبر.
ورد: لَا يمْنَع ذَلِك من وَصفه بهما بِدَلِيل الْكَذِب فِي
قَول الْقَائِل: كل مَوْجُود حَادث، وَإِن أَفَادَ حكما
لأشخاص.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ كذب؛ لِأَنَّهُ أضَاف الْكَذِب إِلَيْهِمَا
مَعًا وَهُوَ لأَحَدهمَا، وَسلمهُ بَعضهم، وَلَكِن لم يدْخلهُ
الصدْق.
وَأجِيب: بِأَن معنى الْحَد بِأَن اللُّغَة لَا تمنع القَوْل
الْمُتَكَلّم بِهِ صدقت أَو كذبت.
ورد: بِرُجُوعِهِ إِلَى التَّصْدِيق والتكذيب وَهُوَ غير
الصدْق وَالْكذب فِي
(4/1700)
الْخَبَر، وَقَوله: كل أخباري كذب إِن طابق
فَصدق وَإِلَّا فكذب، وَلَا يَخْلُو عَنْهُمَا.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يتَنَاوَل قَوْله مَا سوى هَذَا
الْخَبَر؛ إِذْ الْخَبَر لَا يكون بعض الْمخبر.
قَالَ: وَنَصّ أَحْمد على مثله، وَلَا جَوَاب على الدّور، وَقد
قيل: لَا تتَوَقَّف معرفَة الصدْق وَالْكذب على الْخَبَر
لعلمهما ضَرُورَة.
وَأجِيب عَن الْأَخير وَمَا قبله: بِأَن الْمَحْدُود جنس
الْخَبَر وَهُوَ قَابل لَهما كالسواد وَالْبَيَاض فِي جنس
اللَّوْن.
ورد: لابد من وجود الْحَد فِي كل خبر، وَإِلَّا لزم وجود
الْخَبَر دون حَده.
(4/1701)
وَأجِيب: الْوَاو وَإِن كَانَت للْجمع
لَكِن المُرَاد الترديد بَين الْقسمَيْنِ تجوزاً، لَكِن يصان
الْحَد عَن مثله.
وَالْحَد الثَّانِي: قَالَه القَاضِي فِي " الْعدة "، وَغَيره:
إِن الْخَبَر كلما دخله الصدْق أَو الْكَذِب.
وَالْحَد الثَّالِث: قَالَه الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "
غَيره: مَا يدْخلهُ {التَّصْدِيق أَو التَّكْذِيب} .
فَيرد عَلَيْهِمَا الدّور الْمُتَقَدّم، وَمَا قبل الدّور
أَيْضا، وبمنافاة " أَو " للتعريف؛ لِأَنَّهَا للترديد؛
فَلهَذَا أَتَى الطوفي فِي " مُخْتَصره " وَغَيره بِالْوَاو
وَهُوَ الْحَد الرَّابِع.
وَأجِيب: المُرَاد قبُوله فِي أَحدهمَا وَلَا تردد فِيهِ.
(4/1702)
قَالَ الْغَزالِيّ وَغَيره: التَّعْبِير
بالتصديق والتكذيب أحسن من الصدْق وَالْكذب؛ لِأَن من الْخَبَر
مَا لَا يحْتَمل الْكَذِب، كَقَوْلِنَا: مُحَمَّد رَسُول الله،
وَمِنْه مَا لَا يحْتَمل الصدْق، كَقَوْلِنَا: مُسَيْلمَة
صَادِق، مَعَ أَن كلا من المثالين يحْتَمل التَّصْدِيق
والتكذيب؛ وَلذَلِك كذب بعض الْكفَّار الأول، وَصدق الثَّانِي.
وَفِيه نظر؛ فَإِن الْخَبَر من حَيْثُ هُوَ مُحْتَمل الصدْق
وَالْكذب، وَفِي سُقُوط أحد الِاحْتِمَالَيْنِ فِي بعض الصُّور
لعَارض لَا يُخرجهُ على ماهيته لذَلِك، وَأَيْضًا لِأَن
التَّصْدِيق والتكذيب كَون الْخَبَر صدقا أَو كذبا، فتعريفه
بِهِ دور. قَالَه الرَّازِيّ.
الْحَد الْخَامِس: قَالَه أَبُو الْحُسَيْن المعتزلي: إِن
الْخَبَر {كَلَام يُفِيد بِنَفسِهِ نِسْبَة} ، والكلمة عِنْده
كَلَام؛ لِأَنَّهُ حَده بِمَا انتظم من حُرُوف مسموعة متميزة،
فَقَالَ: بِنَفسِهِ؛ ليخرج نَحْو: قَائِم، فَإِنَّهُ يُفِيد
نِسْبَة إِلَى الضَّمِير بِوَاسِطَة الْمَوْضُوع، وَيرد
النّسَب التقييدية: كحيوان نَاطِق، وَمثل:
(4/1703)
مَا أحسن زيدا.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَمثل: قُم، وَنَحْوه؛ فَإِنَّهُ يُفِيد
بِنَفسِهِ نِسْبَة الْقيام إِلَى الْمَأْمُور، أَو الطّلب
إِلَى الْآمِر مَعَ أَنه قَالَ: هُوَ أقربها.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: أخرجه بِنَفسِهِ، فَإِن الْمَأْمُور بِهِ
وَجب بواسطتها استدعاء الْأَمر بِنَفسِهِ من طلب الْفِعْل.
الْحَد السَّادِس: قَالَه ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "،
وَجَمَاعَة: هُوَ الْكَلَام الْمَحْكُوم فِيهِ بِنِسْبَة
خارجية. قَالَ: وَيَعْنِي الْخَارِج عَن كَلَام النَّفس، فنحو:
طلبت الْقيام، حكم بِنِسْبَة لَهَا خارجي بِخِلَاف " قُم ".
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: وَيَعْنِي بالْكلَام مَا تضمن
كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ، فَيخرج عَنهُ الْكَلِمَة،
والمركب الإضافي والمركب التقييدي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاحِد
(4/1704)
مِنْهَا بِكَلَام، وَالْمرَاد
بِالنِّسْبَةِ الخارجية الْأَمر الْخَارِج عَن كَلَام النَّفس
الَّذِي تعلق بِهِ كَلَام النَّفس بالمطابقة واللامطابقة،
وَيُسمى ذَلِك الْأَمر النِّسْبَة الخارجية، فَيدْخل فِي هَذَا
التَّعْرِيف مثل: طلبت الْقيام فَإِنَّهُ قد حكم بِنِسْبَة
لَهَا خارجي، وَهُوَ نِسْبَة طلب الْقيام إِلَى الْمُتَكَلّم
فِي الزَّمَان الْمَاضِي، وَهَذِه النِّسْبَة خارجية عَن الحكم
النَّفْسِيّ تعلق بهَا الحكم النَّفْسِيّ بالمطابقة
واللامطابقة بِخِلَاف قُم، فَإِنَّهُ مُتَعَلق بالحكم
النَّفْسِيّ وَلَيْسَ لَهُ تعلق خارجي. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْخَبَر مَا لَهُ من الْكَلَام خَارج،
أَي: لنسبته وجود خارجي فِي زمن غير زمن الحكم بِالنِّسْبَةِ.
انْتهى.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": هُوَ قَول يدل على
نِسْبَة مَعْلُوم إِلَى مَعْلُوم، أَو سلبها عَنهُ، وَيحسن
السُّكُوت عَلَيْهِ.
القَوْل الثَّانِي: إِن الْخَبَر لَا يحد، كالوجود والعدم.
وَلَهُم فِي تَعْلِيل عدم حَده مأخذان:
أَحدهمَا: أَن كَونه لَا يحد لعسره كَمَا تقدم فِي الْعلم
فليعاود، فَإِنَّهُ مثله فِي ذَلِك.
(4/1705)
المأخذ الثَّانِي: قَالَه الرَّازِيّ فِي "
الْمَحْصُول "، والسكاكي: إِن تصَوره ضَرُورِيّ؛ لِأَن كل أحد
يعلم بِالضَّرُورَةِ أَنه مَوْجُود.
أَي: يعلم معنى قَوْله: (أَنه مَوْجُود) من حَيْثُ وُقُوع
النِّسْبَة فِيهِ على وَجه يحْتَمل الصدْق وَالْكذب، وَهُوَ
خبر خَاص، فمطلق الْخَبَر الَّذِي هُوَ جُزْء هَذَا الْخَبَر
الْخَاص أولى أَن يكون ضَرُورِيًّا؛ وَلِأَن كل أحد يجد
تَفْرِقَة بَين الْخَبَر وَالْأَمر وَغَيرهمَا ضَرُورَة،
والتفرقة بَين شَيْئَيْنِ مسبوقة بتصورهما.
لَا يُقَال: الِاسْتِدْلَال دَلِيل أَنه غير ضَرُورِيّ؛
لِأَنَّهُ لَا يسْتَدلّ على ضَرُورِيّ؛ وَلِأَن كَون الْعلم
ضَرُورِيًّا أَو نظرياً قَابل للاستدلال بِخِلَاف
الِاسْتِدْلَال على حُصُول الْخَبَر ضَرُورَة؛ فَإِنَّهُ منَاف
لضَرُورَة الْخَبَر.
ورد الدَّلِيل الأول: بِأَن الْمُطلق لَو كَانَ جُزْءا لزم
انحصار الْأَعَمّ فِي الْأَخَص وَهُوَ محَال.
(4/1706)
فَإِن قيل: مُشْتَركَة فِيهِ بَين جزئياته
- أَي: أَنه مَوْجُود فِيمَا تَحْتَهُ - فَكَانَ جُزْءا من
مَعْنَاهَا [رد] لَيْسَ معنى كَونه مُشْتَركَة فِيهِ هَذَا، بل
بِمَعْنى أَن حد الطبيعة الَّتِي عرض لَهَا أَنَّهَا كُلية
مُطلقَة مُطَابقَة لحد مَا تحتهَا من الطبائع الْخَاصَّة.
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ كل عَام جُزْءا من معنى الْخَاص؛ لِأَن
الْأَعْرَاض الْعَامَّة خَارِجَة عَن مَفْهُوم مَعْنَاهُ،
كالأبيض وَالْأسود بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ من معنى
الْإِنْسَان أَو نَحوه.
ورد الدَّلِيل الأول أَيْضا: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من حُصُول
الْعلم بالْخبر تصَوره، أَو تقدم تصَوره؛ لِأَن الْعلم
الضَّرُورِيّ بالثبوت لَا يسْتَلْزم الْعلم بالتصور؛ لتغاير
التَّصَوُّر والثبوت، وَمَعَ عدم تلازم تصور الْخَاص وثبوته لم
يلْزم تصور الْمُطلق مِنْهُ.
(4/1707)
ورد هَذَا: بِأَنَّهُ لم يدع أَن حُصُول
الْخَبَر تصَوره، بل الْعلم بِحُصُول تصَوره وَلَا يُمكن
مَنعه.
ورد الدَّلِيل الثَّانِي: بِأَنَّهُ لَا يلْزم سبق تصور
أَحدهمَا بطرِيق الْحَقِيقَة، فَلم تعلم حقيقتهما، ثمَّ يلْزم
أَن لَا يحد الْمُخَالف الْأَمر وَقد حَده؛ وَلِأَن حقائق
أَنْوَاع اللَّفْظ من خبر وَأمر وَغَيرهمَا مَبْنِيَّة على
الْوَضع والاصطلاح؛ وَلِهَذَا لَو أطلقت الْعَرَب الْأَمر على
الْمَفْهُوم من الْخَبَر الْآن أَو عَكسه لم يمْتَنع، فَلم تكن
ضَرُورِيَّة.
قَالَ الْمحلي: كل من الْعلم وَالْخَبَر والوجود والعدم قيل:
ضَرُورِيّ فَلَا حَاجَة إِلَى تَعْرِيفه، وَقيل: لعسر
تَعْرِيفه. انْتهى.
وَيَأْتِي فِي الْأَمر: هَل يشْتَرط فِي الْخَبَر الْإِرَادَة
كالأمر أم لَا؟
قَوْله: {وَغير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيه} قد علم أَن للْكَلَام
أنواعاً فلابد من
(4/1708)
من بَيَانهَا، وَالْفرق بَينهَا ليحصل
الِاسْتِدْلَال بهَا على المُرَاد، وَلِلنَّاسِ فِي تقسيمه
طرق، فَمنهمْ من يقسمهُ إِلَى: خبر، وإنشاء، وَهَذَا هُوَ
الَّذِي قدمنَا؛ لِأَنَّهُ إِن احْتمل الصدْق وَالْكذب فَهُوَ
الْخَبَر، وَإِلَّا فَهُوَ الْإِنْشَاء.
وَذَلِكَ الْإِنْشَاء إِمَّا طلب أَو غَيره، وَهُوَ
الْمَشْهُور باسم الْإِنْشَاء، والطلب إِمَّا أَمر أَو نهي أَو
اسْتِفْهَام، نَحْو: قُم، وَلَا تقعد، وَهل عنْدك أحد؟
وَقد ذكر من الْإِنْشَاء: الْأَمر، وَالنَّهْي، والاستفهام،
وَالتَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء.
وَظَاهر قَوْلنَا: وَغير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيه، أَن
الْإِنْشَاء هُوَ التَّنْبِيه، وتابعنا فِي ذَلِك ابْن
مُفْلِح، وتابع ابْن مُفْلِح ابْن الْحَاجِب؛ وَلِهَذَا قَالَ
الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": لم يفرق المُصَنّف
بَين الْإِنْشَاء والتنبيه، وَقَالَ بَعضهم: الْكَلَام الَّذِي
لَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب يُسمى إنْشَاء، فَإِن دلّ
بِالْوَضْعِ على طلب الْفِعْل يُسمى أمرا، وَإِن دلّ على طلب
الْكَفّ عَن الْفِعْل
(4/1709)
يُسمى نهيا، وَإِن دلّ على طلب الإفهام
يُسمى استفهاماً، وَإِن لم يدل بِالْوَضْعِ على طلب يُسمى
تَنْبِيها، ويندرج فِيهِ التمنى، والترجي، وَالْقسم، والنداء.
انْتهى.
وَقَالَهُ أَيْضا القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر
"، وَيَأْتِي لَفظه بعد قَوْله: وَغير الطّلب إنْشَاء، وَذكر
فِي " جمع الْجَوَامِع " أَيْضا أَن الْإِنْشَاء والتنبيه
مُتَرَادِفَانِ.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه ": وهما لفظان
مُتَرَادِفَانِ، سمي بالتنبيه؛ لِأَنَّك نبهت بِهِ على مقصودك،
وسمى بالإنشاء؛ لِأَنَّك ابتكرته من غير أَن يكون مَوْجُودا
قبل ذَلِك فِي الْخَارِج من قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا
أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء} [الْوَاقِعَة: 35] ، ويندرج فِيهِ
التَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء.
وَالْفرق بَين الترجي وَالتَّمَنِّي: أَن الترجي لَا يسْتَعْمل
إِلَّا فِي الْمُمكن بِخِلَاف التَّمَنِّي فَإِنَّهُ يسْتَعْمل
فِي الْمُمكن والمستحيل، تَقول: لَيْت الشَّبَاب يعود، وَلَا
تَقول: لَعَلَّ الشَّبَاب يعود. انْتهى.
(4/1710)
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ":
التَّنْبِيه قسم بِرَأْسِهِ غير الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة،
تَحْتَهُ أَقسَام: أَحدهَا: الْعرض، نَحْو: أَلا تنزل عندنَا؟
والتحضيض، نَحوه: هلا تنزل عندنَا؟ وَهُوَ أَشد وأبلغ من
الْعرض، وَالتَّمَنِّي [نَحْو] : لَيْت الشَّبَاب يعود
والرجاء، نَحْو: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح}
[الْمَائِدَة: 52] .
وَاسْتغْنى بِذكر الترجي عَن الإشفاق، وَهُوَ مَا يكون فِي
الْمَكْرُوه، وَرُبمَا توسع بِإِطْلَاق الترجي على الْأَعَمّ،
وَقد اجْتمعَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَسَى أَن تكْرهُوا
شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ
لكم} [الْبَقَرَة: 216] فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة وَهِي: الْعرض
والتحضيض وَالتَّمَنِّي والترجي لَيْسَ طلبا صَرِيحًا، بل
إِيمَاء إِلَى الطّلب، فَهِيَ شَبيه بِالطَّلَبِ الصَّرِيح،
ولكونه لَيْسَ طلبا بِالْوَضْعِ جعله قوم، كالبيضاوي قسيماً
لَهُ بِحَيْثُ قَالَ: إِن الْكَلَام إِمَّا أَن يُفِيد طلبا
بِالْوَضْعِ، وَهُوَ الْأَمر وَالنَّهْي، والاستفهام، أَو لَا،
فَمَا لَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب تَنْبِيه وإنشاء ومحتملهما
الْخَبَر.
وَكَذَا عبر فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَلكنه لَا يعرف مِنْهُ
مَا يتَمَيَّز بِهِ التَّنْبِيه من الْإِنْشَاء وَلَا كَونه
فِيهِ طلبا مَا، على أَن البيانيين يطلقون عَلَيْهِ اسْم
(4/1711)
الطّلب فيجعلون الطّلب أمرا ونهياً
واستفهاماً وتنبيهاً. انْتهى.
قلت: قد صرح الْعِرَاقِيّ - كَمَا تقدم - أَن الْإِنْشَاء
والتنبيه مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ ظَاهر الْكِتَابَيْنِ
اللَّذين ذكرهمَا المُصَنّف.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب - كَمَا تقدم -: وَيُسمى غير الْخَبَر
إنْشَاء وتنبيهاً.
وَتقدم كَلَام الْأَصْفَهَانِي، وَالْقَاضِي عضد الدّين.
قَوْله: {وَصِيغَة عقد وَفسخ وَنَحْوهَا إنْشَاء} الصَّحِيح من
مَذْهَبنَا، وَمذهب أَكثر الْعلمَاء: أَن صِيغَة الْعُقُود
والفسوخ وَنَحْوهَا إنْشَاء، وَهُوَ الَّذِي يقْتَرن مَعْنَاهُ
بِوُجُود لَفظه، نَحْو: بِعْت، واشتريت، وأعتقت، وَطلقت،
وفسخت، وَنَحْوهَا مِمَّا يشابه ذَلِك مِمَّا تستحدث بِهِ
الْأَحْكَام فَهِيَ أَخْبَار فِي الأَصْل بِلَا شكّ، وَلَكِن
لما اسْتعْملت فِي الشَّرْع فِي معنى الْإِنْشَاء
(4/1712)
اخْتلف فِيهَا: هَل هِيَ بَاقِيَة على
أَصْلهَا من الْإِخْبَار أَو نقلت؟
فأصحابنا، وَالْأَكْثَر على الثَّانِي، وَالْحَنَفِيَّة على
الأول على معنى الْإِخْبَار عَن ثُبُوت الْأَحْكَام، فَمَعْنَى
قَوْلك: بِعْتُك: الْإِخْبَار عَمَّا فِي قَلْبك، فَإِن أصل
البيع هُوَ التَّرَاضِي، فَصَارَ بِعْت وَنَحْوهَا لفظا دَالا
على الرضى بِمَا فِي ضميرك، فَيقدر وجودهَا قبل اللَّفْظ
للضَّرُورَة، وَغَايَة ذَلِك أَن يكون مجَازًا وَهُوَ أولى من
النَّقْل.
وَدَلِيل الْأَكْثَر: أَنه لَو كَانَ خَبرا لَكَانَ إِمَّا عَن
مَاض، أَو حَال، أَو مُسْتَقْبل، والأولان باطلان لِئَلَّا
يلْزم أَن لَا يقبل الطَّلَاق وَنَحْوه التَّعْلِيق؛ لِأَنَّهُ
يَقْتَضِي توقف شَيْء لم يُوجد على مَا لم يُوجد،
(4/1713)
والماضي وَالْحَال قد وجدا لَكِن قبُوله
التَّعْلِيق إِجْمَاع، والمستقبل يلْزم مِنْهُ أَن لَا يَقع
بِهِ شَيْء؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة (سَأُطلقُ) وَالْغَرَض
خِلَافه، إِلَى غير ذَلِك من أدلته.
وَأَيْضًا: لَا خَارج لَهَا، وَلَا تقبل صدقا، وَلَا كذبا،
وَلَو كَانَت خَبرا لما قبلت تَعْلِيقا لكَونه مَاضِيا؛
وَلِأَن الْعلم الضَّرُورِيّ قَاطع بِالْفرقِ بَين: طلقت إِذا
قصد بِهِ الْوُقُوع، وَطلقت إِذا قصد بِهِ الْإِخْبَار.
وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا: هِيَ إِخْبَار فِي
الْعُقُود.
{وَلنَا وَجه أَن (طَلقتك) كِنَايَة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَقيل: طَلقتك كِنَايَة،
فَيتَوَجَّه عَلَيْهِ أَن يحْتَمل الْإِنْشَاء وَالْخَبَر،
وعَلى الأول هُوَ إنْشَاء، وَذكر القَاضِي فِي مَسْأَلَة
الْأَمر: أَن الْعُقُود الشَّرْعِيَّة بِلَفْظ الْمَاضِي
إِخْبَار، وَقَالَ شَيخنَا - يَعْنِي الشَّيْخ
(4/1714)
تَقِيّ الدّين -: هَذِه الصِّيَغ إنْشَاء
من حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ الَّتِي أَثْبَتَت الحكم، وَبهَا تمّ،
وَهِي إِخْبَار لدلالتها على الْمَعْنى الَّذِي فِي النَّفس.
انْتهى.
قَوْله: {وَلَو قَالَه لرجعية طلقت فِي الْأَصَح} أَعنِي على
القَوْل الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ إنْشَاء
للطَّلَاق، فعلى هَذَا لَا يقبل قَوْله: أَنه أَرَادَ
الْإِخْبَار.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا لَا تطلق، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي
أَنه قصد الْإِخْبَار عَن الطَّلَاق الْمَاضِي، {وَلَو ادّعى
طَلَاقا مَاضِيا توجه لنا خلاف} كالمسألة الَّتِي قبلهَا
وَغَيرهَا.
فَإِن قَوْله: طَلقتك يحْتَمل أَنه إِخْبَار عَن الطَّلَاق
الْمَاضِي الَّذِي كَانَ أوقعه، فَلم يَقع عَلَيْهَا غَيره،
لَكِن الظَّاهِر أَنه إنْشَاء، وَهُوَ الْمُتَعَارف بَين
النَّاس، وَهَذَا الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب.
(4/1715)
قَوْله: {وَأشْهد، إنْشَاء تضمن
إِخْبَارًا، وَقيل: إِخْبَار، وَقيل: إنْشَاء} ، فَإِذا قَالَ
الشَّاهِد: أشهد بِكَذَا، فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا - وَهُوَ الْمُخْتَار -: إِنَّهَا إنْشَاء تضمن
الْخَبَر بِمَا فِي النَّفس.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا إِخْبَار مَحْض، وَهُوَ ظَاهر كَلَام
أهل اللُّغَة.
قَالَ ابْن فَارس فِي " الْمُجْمل ": الشَّهَادَة خبر عَن علم.
وَقَالَ الرَّازِيّ: قَوْله: (أشهد) إِخْبَار عَن الشَّهَادَة
وَهِي الحكم الذهْنِي الْمُسَمّى كَلَام النَّفس.
وَالثَّالِث: إِنَّهَا إنْشَاء، وَإِلَيْهِ ميل الْقَرَافِيّ؛
لِأَنَّهُ لَا يدْخلهُ تَكْذِيب شرعا، وَأما قَوْله تَعَالَى:
{وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ}
(4/1716)
[المُنَافِقُونَ: 1] فراجع إِلَى تسميتهم
ذَلِك شَهَادَة؛ لِأَنَّهَا مَا واطأ فِيهَا الْقلب اللِّسَان،
وَإِنَّمَا اختير الأول لاضطراب النَّاس فِي ذَلِك، فَقَائِل
بِأَنَّهَا إِخْبَار - كَمَا فِي كتب اللُّغَة -، وَقَائِل
بِأَنَّهَا إنْشَاء؛ لِأَنَّهُ لَا يدْخلهُ تَكْذِيب شرعا،
فالقائل بالثالث، رأى كلا من الْقَوْلَيْنِ لَهُ وَجه فَجمع
بَينهمَا بِأَن قَالَ: ذَلِك يضمن إِخْبَارًا.
وَقَالَ الكوراني: إِن أردْت تَحْقِيق الْمَسْأَلَة فاسمع لما
أَقُول: اعْلَم أَنا قد قدمنَا أَن دلَالَة الْأَلْفَاظ
إِنَّمَا هِيَ على الصُّور الذهنية الْقَائِمَة بِالنَّفسِ،
فَإِن أُرِيد بالْكلَام الْإِشَارَة إِلَى أَن النِّسْبَة
الْقَائِمَة بِالنَّفسِ مُطَابقَة لأخرى خارجية فِي أحد
الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة فَالْكَلَام خبر، سَوَاء كَانَت
تِلْكَ الخارجية قَائِمَة بِالنَّفسِ أَيْضا كعلمت وظننت، أَو
بِغَيْرِهِ كخرجت وَدخلت، وَإِن لم يرد مُطَابقَة تِلْكَ
النِّسْبَة الذهنية لأخرى خارجية فَالْكَلَام إنْشَاء، فَإِذا
قَالَ الْقَائِل: أشهد بِكَذَا، لَا يشك أحد فِي أَنه لم يقْصد
أَن تِلْكَ النِّسْبَة الْقَائِمَة بِنَفسِهِ تطابق نِسْبَة
أُخْرَى فِي أحد الْأَزْمِنَة، بل مُرَاده الدّلَالَة على مَا
فِي نَفسه
(4/1717)
من ثُبُوت هَذِه النِّسْبَة، مثل: اضْرِب
وَلَا تضرب فَهُوَ إنْشَاء مَحْض، وَلَا يرجع الصدْق وَالْكذب
إِلَيْهِ، وَكَون الْمَشْهُود بِهِ خَبرا لَا يُخرجهُ عَن
كَونه إنْشَاء مَحْضا؛ لِأَن تِلْكَ النِّسْبَة مُسْتَقلَّة
بِحكم وأطرافه، وَهَذِه أُخْرَى كَذَلِك، وَلَو كَانَ كَون
الشَّيْء متضمناً لآخر يُخرجهُ عَن كَونه مَحْض ذَلِك الشَّيْء
لم يبْق إنْشَاء مَحْض قطّ؛ إِذْ قَوْلك: اضْرِب، مُتَضَمّن
لِقَوْلِك: الضَّرْب مِنْك مَطْلُوب، أَو أطلب مِنْك، وَهَذَا
مِمَّا لَا يَقُول بِهِ عَاقل. انْتهى.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": وَاعْلَم
أَن نقل الْمذَاهب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة هَكَذَا لَا يُوجد
مجموعاً، وَإِنَّمَا هُوَ مفرق فِي كَلَام الْأَئِمَّة
بالتلويح. انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: غير الْخَبَر طلب وإنشاء} . قَالَه جمع من
الْعلمَاء، ويرون بِأَن الْإِنْشَاء لَيْسَ فِيهِ الطّلب بل
قسيمه؛ لِأَن الْمَطْلُوب مستدعى الْحُصُول فِي الْمُسْتَقْبل،
والإنشاء مَدْلُوله يحصل فِي الْحَال، وَلَفظ الْإِنْشَاء
سَبَب لوُجُود مَعْنَاهُ، وَلَفظ الطّلب لَيْسَ سَببا لوُجُود
مَعْنَاهُ، وَإِن أُرِيد بالإنشاء إِحْدَاث شَيْء لم يكن
فَالْكل إنْشَاء؛ لِأَن الْخَبَر إِحْدَاث الْإِخْبَار بِهِ
وَلَا قَائِل
(4/1718)
بذلك، فعلى هَذَا إِن طلب بِالْوَضْعِ
تَحْصِيل فعل أَو ترك فَأمر وَنهي، نَحْو: قُم، وَلَا تقعد -
كَمَا تقدم -، وَإِن طلب إعلاماً بِشَيْء لَا لتَحْصِيل فعل
وَلَا ترك فَهُوَ اسْتِفْهَام، وَمَا أحسن مَا عبر عَنهُ
البيانيون فَقَالُوا فِي الْأَمر وَالنَّهْي: إنَّهُمَا طلب
مَا هُوَ حَاصِل فِي الذِّهْن أَن يحصل فِي الْخَارِج، وَفِي
الِاسْتِفْهَام الْعَكْس - أَي: طلب مَا فِي الْخَارِج أَن
يحصل فِي الذِّهْن.
قَوْله: {وَغَيره} ، أَي: غير الطّلب إنْشَاء، وَهُوَ: عرض،
وتحضيض، وتمن، وترج، وَقسم، ونداء.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر ": غير
الْخَبَر مَا لَا يشْعر بِأَن لمدلوله مُتَعَلقا خارجياً،
ويسميه المُصَنّف تَنْبِيها وإنشاء، ويندرج فِيهِ الْأَمر،
وَالنَّهْي، وَالتَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء،
والاستفهام. والمنطقيون يقسمونه إِلَى مَا يدل على الطّلب
لذاته، إِمَّا للفهم، وَهُوَ الِاسْتِفْهَام، وَإِمَّا لغيره
وَهُوَ الْأَمر، وَالنَّهْي، وَإِلَى غَيره، ويخصون
التَّنْبِيه والإنشاء بالأخير مِنْهُمَا، ويعدون مِنْهُ
التَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء، وَبَعْضهمْ
(4/1719)
يعد التَّمَنِّي، والنداء من الطّلب.
انْتهى.
وَكَلَام المناطقة مُوَافق لِلْقَوْلِ الَّذِي حكيناه قبل.
قَوْله: {وَقيل غير الْخَبَر طلب فَقَط} . من الْعلمَاء من قسم
الْكَلَام إِلَى خبر، وَطلب كَمَا قَالَ ابْن مَالك فِي
كافيته:
(قَول مُفِيد طلبا أَو خَبرا ... هُوَ الْكَلَام كاستمع وسترى)
وَكَأَنَّهُ رأى أَن الْإِنْشَاء فرع عَن الْخَبَر فيكتفي
بِذكر الْخَبَر أَو غير ذَلِك.
فَوَائِد: إِحْدَاهَا: الطّلب مَا يُفِيد بِذَاتِهِ
احْتِرَازًا عَمَّا يُفِيد باللازم
(4/1720)
أَو بِالْقَرِينَةِ نَحْو: أَنا أطلب مِنْك
أَن تُخبرنِي بِكَذَا، أَو أَن تسقيني مَاء، أَو أَن تتْرك
الْأَذَى، وَنَحْوه، فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ دَالا على الطّلب
لَكِن لَا بِذَاتِهِ، بل هَذِه إخبارات لازمها الطّلب، وَلَا
يُسمى الأول استفهاماً، وَلَا الثَّانِي أمرا، وَلَا الثَّالِث
نهيا لذَلِك.
وَكَذَا قَوْله: أَنا عطشان، كَأَنَّهُ قَالَ: اسْقِنِي، فَإِن
هَذَا طلب بِالْقَرِينَةِ لَا بِذَاتِهِ، وَرُبمَا عبر عَن
هَذَا الْقَيْد بِكَوْنِهِ بِالْوَضْعِ، وَرُبمَا عبر عَنهُ
بِمَا يفِيدهُ إِفَادَة أولية، وَالْكل صَحِيح، وَالله أعلم.
الثَّانِيَة: الْخَبَر مُشْتَمل على مَحْكُوم عَلَيْهِ، ومحكوم
بِهِ، ويعبر عَنهُ البيانيون بِمُسْنَد إِلَيْهِ، ومسند
ويعدونه إِلَى مُطلق الْكَلَام.
والمناطقة يسمون الْخَبَر قَضِيَّة لما فِيهَا من الْقَضَاء
بِشَيْء على شَيْء، ويسمون الْمقْضِي عَلَيْهِ مَوْضُوعا،
والمقضي بِهِ يسمونه مَحْمُولا، لِأَنَّك تضع الشَّيْء وَتحمل
عَلَيْهِ حكما، ويقسمون الْقَضِيَّة إِلَى طبيعية وَهِي: مَا
حكم فِيهَا بِأحد أَمريْن من حَيْثُ هُوَ على الآخر، من حَيْثُ
هُوَ لَا بِالنّظرِ إِلَى
(4/1721)
أَفْرَاده، نَحْو: الرجل خير من
الْمَرْأَة، وَنَحْو: المَاء مرو، وَغير الطبيعية وَهِي:
الَّتِي قصد الحكم فِيهَا على مشخص فِي الْخَارِج لَا على
الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ، ثمَّ ينظر فَإِن حكم فِيهَا على
جزئي معِين سميت شخصية، نَحْو: زيد قَائِم، أَو لَا على معِين،
فَإِذا ذكر فِيهَا سور الْكل أَو الْبَعْض فِي نفي أَو
إِثْبَات سميت محصورة، نَحْو: كل إِنْسَان كَاتب بِالْقُوَّةِ،
وَبَعض الْإِنْسَان كَاتب بِالْفِعْلِ، وَنَحْو: لَا شَيْء أَو
وَاحِد من الْإِنْسَان بجماد، وَلَيْسَ بعض الْإِنْسَان بكاتب
بِالْفِعْلِ، أَو بعض الْإِنْسَان لَيْسَ كَذَلِك.
وَإِن لم يكن للقضية سور وَالْمرَاد الحكم فِيهَا على
الْأَفْرَاد لَا على الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ سميت
مُهْملَة، نَحْو: الْإِنْسَان فِي خسر، وَالْحكم فِيهَا على
بعض ضَرُورِيّ، فَهُوَ المتحقق، وَلَا يصدق عَلَيْهَا كُلية،
لَكِن إِذا كَانَ فِيهَا " أل " كَمَا فِي " الْإِنْسَان كَاتب
" يُطلق عَلَيْهَا ابْن الْحَاجِب وَغَيره كثيرا أَنَّهَا
كُلية نظرا إِلَى إِفَادَة " أل " الْعُمُوم، فَهِيَ مثل " كل
"، وَإِن لم يكن ذَلِك من اصْطِلَاح المناطقة.
(4/1722)
الثَّالِثَة: سَأَلَ بَعضهم أَن سنة
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا
الْأَمر، وَالنَّهْي، والاستفهام، وأنواع التَّنْبِيه وَغير
ذَلِك فَكيف تسمى كلهَا أَخْبَارًا؟
فَيُقَال: أَخْبَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَأجَاب الباقلاني بجوابين أَحدهمَا: أَن الْكل
أخبر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
عَن حكم الله تَعَالَى فَأمره وَنَهْيه وشبههما هُوَ فِي
الْحَقِيقَة خبر عَن حكم الله تَعَالَى.
الثَّانِي: أَنَّهَا سميت أَخْبَارًا لنقل المتوسطين فهم
يخبرون بِهِ عَمَّن أخْبرهُم إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى من
أمره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو
نَهَاهُ، فَإِن ذَلِك يَقُول: أمرنَا، ونهينا، وَالَّذِي بعده
يَقُول: أخبرنَا فلَان عَن فلَان بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر، وَنهى.
الرَّابِعَة: ذكر الْقَرَافِيّ فروقاً بَين الْخَبَر والإنشاء:
أَحدهَا: قبُول الْخَبَر الصدْق وَالْكذب بِخِلَاف
الْإِنْشَاء.
الثَّانِي: أَن الْخَبَر تَابع للمخبر [عَنهُ] فِي أَي زمَان
كَانَ، مَاضِيا كَانَ أَو حَالا أَو مُسْتَقْبلا، والإنشاء
متبوع لمتعلقه فيترتب عَلَيْهِ بعده.
(4/1723)
الثَّالِث: أَن الْإِنْشَاء سَبَب لوُجُود
مُتَعَلّقه فيعقب آخر حرف مِنْهُ، أَو يُوجد مَعَ آخر حرف
مِنْهُ على الْخلاف فِي ذَلِك إِلَّا أَن يمْنَع مَانع،
وَلَيْسَ الْخَبَر سَببا، وَلَا مُعَلّقا عَلَيْهِ، بل مظهر
[لَهُ] فَقَط. انْتهى.
وَهَذِه الفروق رَاجِعَة إِلَى أَن الْخَبَر لَهُ خَارج يصدق
أَو يكذب.
تَنْبِيه: مِمَّا يَنْبَنِي على الْفرق بَينهمَا أَن الظِّهَار
هَل هُوَ خبر أَو إنْشَاء؟
قَالَ الْقَرَافِيّ: قد يتَوَهَّم أَنه إنْشَاء، وَلَيْسَ
كَذَلِك؛ لِأَن الله تَعَالَى أَشَارَ إِلَى كذب الْمظَاهر
ثَلَاث مَرَّات بقوله تَعَالَى: {ماهن أمهاتهم إِن أمهاتهم
إِلَّا الائي ولدنهم وَإِنَّهُم ليقولون مُنْكرا من القَوْل
وزوراً} [المجادلة: 2] قَالَ: وَلِأَنَّهُ حرَام، وَلَا سَبَب
لتحريمه إِلَّا كَونه كذبا.
وَأجَاب عَمَّن قَالَ سَبَب التَّحْرِيم إِنَّه قَائِم مقَام
الطَّلَاق الثَّلَاث، وَذَلِكَ حرَام على رَأْي وَأطَال فِي
ذَلِك.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: الظَّاهِر أَنه إنْشَاء خلافًا
لَهُ؛ لِأَن مَقْصُود النَّاطِق بِهِ تَحْقِيق مَعْنَاهُ
الخبري بإنشاء التَّحْرِيم، فالتكذيب ورد على مَعْنَاهُ
الخبري، لَا على مَا قَصده من إنْشَاء التَّحْرِيم، وَهَذَا
مثل قَوْله: أَنْت عَليّ حرَام، فَإِن
(4/1724)
قَصده إنْشَاء التَّحْرِيم، فَلذَلِك
وَجَبت الْكَفَّارَة حَيْثُ لم يقْصد بِهِ طَلَاقا، وَلَا
ظِهَارًا، إِلَّا من حَيْثُ الْإِخْبَار.
فالإنشاء ضَرْبَان: ضرب أذن الشَّارِع فِيهِ كَمَا أَرَادَهُ
المنشئ كَالطَّلَاقِ، وَضرب لم يَأْذَن فِيهِ الشَّرْع وَلكنه
رتب عَلَيْهِ حكما - وَهُوَ الظِّهَار - رتب فِيهِ تَحْرِيم
الْمَرْأَة إِذا عَاد حَتَّى يكفر، وَقَوله: إِنَّهَا حرَام
لَا بِقصد طَلَاق أَو ظِهَار رتب فِيهِ التَّحْرِيم حَتَّى
يكفر. انْتهى.
قَوْله: فَائِدَة: عشر حقائق تتَعَلَّق بمعدوم مستقبلي إِلَى
آخِره.
قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": وَجه اختصاصها
بالمستقبل، أَن الْأَمر، وَالنَّهْي، وَالدُّعَاء، والترجي،
وَالتَّمَنِّي طلب وَطلب الْمَاضِي مُتَعَذر وَالْحَال
مَوْجُود، وَطلب تَحْصِيل الْحَاصِل محَال فَتعين
الْمُسْتَقْبل، وَالشّرط وجزاؤه ربط أَمر، وتوقيف دُخُوله فِي
الْوُجُود على وجود آخر، والتوقف فِي الْوُجُود إِنَّمَا يكون
فِي الْمُسْتَقْبل، وَأما الْوَعْد والوعيد فَإِنَّهُ زجر عَن
مُسْتَقْبل أَو حث على مُسْتَقْبل بِمَا تتوقعه النَّفس من خبر
فِي الْوَعْد وَشر فِي الْوَعيد، والتوقع لَا يكون إِلَّا فِي
الْمُسْتَقْبل، وَالْإِبَاحَة تَخْيِير بَين الْفِعْل
(4/1725)
وَالتّرْك، والتخيير إِنَّمَا يكون فِي
مَعْدُوم مُسْتَقْبل؛ لِأَن الْمَاضِي وَالْحَال تعين فنعين
تعلق الْعشْرَة بالمستقبل. انْتهى.
وَكَانَ ذكر فِي نفس التَّنْقِيح خَمْسَة فَقَط، وَهِي
الْخَمْسَة الأول، ثمَّ زَاد فِي شَرحه الْخَمْسَة الْأُخَر
وزدت أَنا الْعرض والتحضيض؛ إِذْ [لَا] شكّ أَنَّهُمَا مختصان
بالمستقبل؛ إِذْ قَول الْقَائِل: أَلا تنزل عندنَا فنكرمك
لمستقبل مَعْدُوم، وَكَذَا قَوْله: هلا تنزل عندنَا فنكرمك،
لَكِن هَذَا أَشد من الْعرض وأبلغ.
(4/1726)
قَوْله: {فصل}
{الْأَكْثَر الْخَبَر صدق وَكذب} أَعنِي: أَنه مَحْصُور فِي
هذَيْن الْقسمَيْنِ لَا يخرج شَيْء عَنْهُمَا، وَلَا وَاسِطَة
بَينهمَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر؛
لِأَن الحكم الَّذِي هُوَ مَدْلُول الْخَبَر إِمَّا مُطَابق
للْخَارِج الْوَاقِع، أَو غير مُطَابق، فَإِن كَانَ مطابقاً
فَهُوَ الصدْق، وَسَوَاء كَانَ مَعَ اعْتِقَاد مُطَابقَة أَو
لَا، وَإِن لم يكن مطابقاً فَهُوَ كذب.
قَالَ الكوراني: الْإِنْشَاء كَلَام يحصل مَدْلُوله من
اللَّفْظ فِي الْخَارِج مثل: اضْرِب، وَلَا تضرب؛ إِذْ مدلولها
إِنَّمَا يحصل من لَفْظهمَا، وَالْخَبَر بِخِلَافِهِ، أَي:
مَاله مَدْلُول رُبمَا طابقته النِّسْبَة الذهنية، وَرُبمَا
لَا تطابقه، فَإِذا تصورت قيام زيد، وحكمت على زيد بِأَنَّهُ
قَائِم، فَإِن كَانَ قَائِما فقد طابق حكمك لما فِي الْخَارِج،
وَهُوَ قيام زيد فكلامك صدق، وَإِن لم
(4/1727)
يُطَابق فكذب، فَتحَرَّر أَن صدق الْخَبَر
مُطَابقَة حكم الْمُتَكَلّم للْوَاقِع وَكذبه عدمهَا، هَذَا
مَذْهَب أهل الْحق. انْتهى.
{وَقَالَ الجاحظ: المطابق مَعَ اعْتِقَاد الْمُطَابقَة صدق،
وَغير المطابق مَعَ عدمهَا} ، أَي: مَعَ عدم الْمُطَابقَة
{كذب، وَغَيرهمَا} وَاسِطَة {لَا صدق وَلَا كذب} ، فَشرط فِي
الصدْق أَن يُطَابق مَا فِي نفس الْأَمر مَعَ الِاعْتِقَاد،
وَالْكذب عدم مطابقته مَعَ اعْتِقَاد عدمهَا، فَإِن لم يعْتَقد
أَحدهمَا سَوَاء طابق أَو لَا فَلَيْسَ بِصدق وَلَا كذب،
فَيدْخل فِي الْوَاسِطَة بَينهمَا أَرْبَعَة أَقسَام.
فالأقسام عِنْده سِتَّة: صدق، وَكذب، وواسطة؛ لِأَن الْخَبَر
إِمَّا مُطَابق أَو غير مُطَابق، فَإِن كَانَ مطابقاً فإمَّا
أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد الْمُطَابقَة أَو لَا، وَالثَّانِي
إِمَّا أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد أَن لَا مُطَابقَة أَو
(4/1728)
لَا، فَإِن كَانَ غير مُطَابق فإمَّا أَن
يكون مَعَه اعْتِقَاد أَن لَا مُطَابقَة أَو لَا، وَالثَّانِي
إِمَّا أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد الْمُطَابقَة أَو لَا.
فَهَذِهِ سِتَّة أَقسَام: الأول مِنْهَا وَهُوَ الْخَبَر
المطابق مَعَ اعْتِقَاد الْمُطَابقَة صدق، وَالرَّابِع وَهُوَ
الْخَبَر غير المطابق مَعَ اعْتِقَاد عدم الْمُطَابقَة كذب،
وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة لَيست بِصدق وَلَا كذب، قَالَه
الْأَصْفَهَانِي، وَغَيره، وَقَالَ عَن الْأَرْبَعَة؛ لِأَن
المطابق مَعَ نفي اعْتِقَاد الْمُطَابقَة انقسم إِلَى
قسمَيْنِ، وَغير المطابق مَعَ نفي اعْتِقَاد اللامطابقة انقسم
أَيْضا إِلَى قسمَيْنِ. انْتهى.
قَالَ الكوراني: ذهب الجاحظ إِلَى أَن الصدْق مُطَابقَة
الْخَبَر الْوَاقِع مَعَ اعْتِقَاد أَنه وَاقع، وَكذبه عدم
الْمُطَابقَة مَعَ اعْتِقَاد أَنه غير وَاقع، فَالْأول صَادِق،
وَالثَّانِي كَاذِب، وَتبقى أَربع صور: وَاسِطَة بَين الصدْق
وَالْكذب، وَهُوَ معنى مَا تقدم.
(4/1729)
وَاسْتدلَّ لقَوْل الجاحظ بقوله تَعَالَى:
{افترى على الله كذبا أم بِهِ جنَّة} [سبأ: 8] وَالْمرَاد
بالحصر فِي الافتراء وَالْجُنُون ضَرُورَة عدم اعترافهم بصدقه،
فعلى تَقْدِير أَنه كَلَام مَجْنُون لَا يكون صدقا؛ لأَنهم لَا
يَعْتَقِدُونَ صدقه، وَلَا كذبه؛ لِأَنَّهُ قسيم الْكَذِب على
مَا زعموه فثبتت الْوَاسِطَة بَين الصدْق وَالْكذب.
وَأجِيب: بِأَن الْمَعْنى افترى على الله كذبا أم لم يفتر
فَيكون مَجْنُونا؛ لِأَن الْمَجْنُون لَا افتراء لَهُ لعدم
قَصده.
وَاسْتَدَلُّوا - أَيْضا - بِنَحْوِ قَول عَائِشَة - رَضِي
الله عَنْهَا - عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي
حَدِيث: " إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ، مَا كذب
وَلكنه وهم ".
وَأجِيب: بِأَن المُرَاد مَا كذب عمدا بل وهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": المُرَاد من الْآيَة
عِنْد الْجُمْهُور الْحصْر فِي كَونه
(4/1730)
خَبرا كذبا أَو لَيْسَ بِخَبَر لجنونه
فَلَا عِبْرَة بِكَلَامِهِ، وَأما الْمَدْح والذم فيتبعان
الْقَصْد، ويرجعان إِلَى الْمخبر، لَا إِلَى الْخَبَر،
وَمَعْلُوم عِنْد الْأمة صدق المكذب برَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَوْله: مُحَمَّد رَسُول
الله، مَعَ عدم اعْتِقَاده، وَكذبه فِي نفي الرسَالَة مَعَ
اعْتِقَاده، وَكثر فِي السّنة تَكْذِيب من أخبر يعْتَقد
الْمُطَابقَة فَلم يكن، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " كذب أَبُو السنابل ". انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: إِن اعْتقد فطابق فَصدق، وَإِلَّا فكذب} .
أَي: الْخَبَر المطابق للمخبر إِن كَانَ مُعْتَقدًا فَصدق،
وَإِلَّا فكذب، سَوَاء كَانَ مطابقاً أَو لم يكن، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك
لرَسُول الله وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن
الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} [المُنَافِقُونَ: 1] كذبهمْ الله
تَعَالَى لعدم اعْتِقَادهم مَعَ أَن قَوْلهم مُطَابق
للْخَارِج.
(4/1731)
ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ كذبهمْ فِي
شَهَادَتهم؛ لِأَن الشَّهَادَة الصادقة أَن يشْهد بالمطابقة
مُعْتَقدًا، وَقَالَ الْفراء: الْكَاذِبُونَ فِي ضمائرهم،
وَقيل: فِي تمنيهم. انْتهى.
تَنْبِيه: هَذَا القَوْل ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "،
وَالظَّاهِر أَنه تَابع ابْن الْحَاجِب، لَكِن ابْن الْحَاجِب
قَالَ: وَقيل: إِن كَانَ مُعْتَقدًا فَصدق وَإِلَّا فكذب.
انْتهى.
فَالْخَبَر عِنْد أَرْبَاب هَذَا القَوْل منحصر فِي الصدْق
وَالْكذب، لَكِن لَا على الْوَجْه الَّذِي عَلَيْهِ
الْجُمْهُور.
وَبَيَانه أَن الْخَبَر إِمَّا أَن يكون مطابقاً للْوَاقِع
ومعتقداً مطابقته أَو لَا، وَالْأول: صدق، وَالثَّانِي: كذب.
وَلَا فرق بَين الصدْق بِهَذَا التَّفْسِير، والصدق بتفسير
الجاحظ، وَأما الْكَذِب فَهُوَ أَعم بِهَذَا التَّفْسِير من
الْكَذِب عِنْد الجاحظ؛ فَإِن الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة
الَّتِي لَيست بِصدق، وَلَا بكذب عِنْد الجاحظ تكون كذبا
بِهَذَا التَّفْسِير، هَكَذَا قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ،
والأصفهاني فِي " شرحيهما للمختصر "، وَالَّذِي
(4/1732)
قَالَه القَاضِي عضد الدّين فِي " شَرحه "
عَن هَذَا القَوْل: إِن كَانَ الْمخبر مُعْتَقدًا لما يخبر
بِهِ فَصدق، وَإِلَّا فكذب، وَلَا عِبْرَة فيهمَا بمطابقة
الْوَاقِع وَعدمهَا. انْتهى.
وَهُوَ ظَاهر عبارَة ابْن الْحَاجِب فِي حكايته القَوْل كَمَا
تقدم لَفظه، فشرح القَاضِي عضد الدّين هَذَا القَوْل على أَن
الصدْق الِاعْتِقَاد، وَشرح القطب، والأصفهاني على أَنه
الِاعْتِقَاد مَعَ الْمُطَابقَة فَينْظر فِي أصل القَوْل، وَمن
قَالَه، وَعبارَته فيتضح الْمَعْنى، وَلَعَلَّ الْكَلَام
مُحْتَمل الْمَعْنيين الْمَذْكُورين.
قَوْله: {وَهُوَ لَفْظِي} ، أَي: الْخلاف فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة لَفْظِي، قَالَه الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب،
وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقَالَ بَعضهم: الْمَسْأَلَة لفظية،
وَحَكَاهُ فِي
(4/1733)
" التَّمْهِيد " عَن بعض الْمُتَكَلِّمين،
وَلم يُخَالِفهُ؛ لِأَن الْمَسْأَلَة رَاجِعَة إِلَى
الِاصْطِلَاح، والاصطلاح لَا مشاحة فِيهِ.
قَوْله: {وَمِنْه} ، أَي: من الْخَبَر مَا هُوَ {مَعْلُوم
صدقه، وَمَا هُوَ مَعْلُوم كذبه، وَمَا هُوَ مُحْتَمل لَهما} .
قد تقدم أَن الْخَبَر من حَيْثُ ذَاته مُحْتَمل للصدق
وَالْكذب، لَكِن قد يعرض لَهُ مَا يَقْتَضِي الْقطع بصدقه، أَو
كذبه فَالَّذِي يَقْتَضِي الْقطع بصدقه أَنْوَاع:
أَحدهَا: مَا يكون ضَرُورِيًّا بِنَفس الْخَبَر بِتَكَرُّر
الْخَبَر من غير نظر، كالخبر الَّذِي بلغت رُوَاته حد
التَّوَاتُر، وَسَوَاء كَانَ لفظياً، أَو معنوياً
(4/1734)
على مَا يَأْتِي تفسيرهما.
الثَّانِي: مَا يكون ضَرُورِيًّا بِغَيْر نفس الْخَبَر بل
لكَونه مُوَافقا للضروري ونعني بموافق الضَّرُورِيّ مَا يكون
مُتَعَلقَة مَعْلُوما لكل أحد من غير كسب وتكرر نَحْو:
الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ.
الثَّالِث: مَا يكون نظرياً، كَخَبَر الله، وَخبر رَسُوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَخبر كل الْأمة؛ لِأَن
الْإِجْمَاع حجَّة.
فَكل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة علم بِالنّظرِ
وَالِاسْتِدْلَال.
وَاعْترض على الْإِجْمَاع: بِأَنَّهُ [إِن] أُرِيد أَنه حجَّة
قَطْعِيَّة، كَمَا صرح بِهِ الْآمِدِيّ هُنَا فَهُوَ مُخَالف
لقَوْله، وَقَول الْفَخر الرَّازِيّ أَنه ظَنِّي - كَمَا تقدم
-؛ وَإِن أَرَادَ أَنه حجَّة ظنية فالظن لَا يُفِيد الْقطع.
(4/1735)
الرَّابِع: مَا يكون غير ضَرُورِيّ، وَغير
نَظَرِي، وَلكنه مُوَافق للنظري، وَهُوَ الْخَبَر الَّذِي علم
مُتَعَلّقه بِالنّظرِ، كَقَوْلِنَا: الْعَالم حَادث، وقسمه
ابْن مُفْلِح قسمَيْنِ وتابعناه:
أَحدهمَا: خبر من ثَبت بِخَبَر أَحدهَا صدقه، يَعْنِي صدقه
الله أَو رَسُوله، أَو الْإِجْمَاع وَثَبت ذَلِك.
الثَّانِي: خبر من وَافق أَحدهَا - أَي: أحد الثَّلَاثَة -،
وَهُوَ خبر الله، وَخبر رَسُوله، وَخبر الْإِجْمَاع فخبره
وَافق أَحدهَا.
وَالَّذِي يَقْتَضِي الْقطع بكذبه أَنْوَاع أَيْضا:
أَحدهَا: مَا علم خِلَافه بِالضَّرُورَةِ، كَقَوْل الْقَائِل:
النَّار بَارِدَة.
(4/1736)
الثَّانِي: مَا علم خِلَافه بالاستدلال،
كَقَوْل الفيلسوف: الْعَالم قديم.
وَالثَّالِث: أَن يُوهم أمرا بَاطِلا من غير أَن يقبل
التَّأْوِيل لمعارضته للدليل الْعقلِيّ، كَمَا لَو اختلق بعض
الزَّنَادِقَة حَدِيثا كذبا على الله، أَو على رَسُوله، ويتحقق
أَنه كذب.
الرَّابِع: أَن يَدعِي شخص الرسَالَة عَن الله بِغَيْر
معْجزَة.
وَالَّذِي لَا يعلم صدقه وَلَا كذبه ثَلَاثَة أَنْوَاع:
(4/1737)
أَحدهَا: مَا يظنّ صدقه، كَخَبَر الْعدْل
لرجحان صدقه على كذبه، وَخبر الْعدْل يتَفَاوَت فِي الظَّن.
وَالثَّانِي: مَا يظنّ كذبه، كَخَبَر الْكذَّاب لرجحان كذبه
على صدقه وَهُوَ متفاوت أَيْضا.
وَالثَّالِث: مَا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَمْرَانِ فيشك فِيهِ
لعدم الْمُرَجح، كَخَبَر مَجْهُول الْحَال.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: وَقد خَالف فِي هَذَا التَّقْسِيم
بعض الظَّاهِرِيَّة - وَهُوَ التَّقْسِيم الْمُشْتَرك فِي صدقه
وَكذبه - فَقَالَ: كل خبر إِلَى آخِره، وَهُوَ قَوْلنَا وَقَول
قوم: كل خبر لم يعلم صدقه كذب بَاطِل.
(4/1738)
أَي: قَوْلهم ذَلِك بَاطِل.
وَاسْتَدَلُّوا لقَولهم بِأَنَّهُ لَو كَانَ صدقا لنصب
عَلَيْهِ دَلِيل، كَخَبَر مدعي الرسَالَة؛ فَإِنَّهُ إِذا
كَانَ صدقا دلّ عَلَيْهِ بالمعجزة.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسد لجَرَيَان مثله فِي نقيض مَا
أخبر بِهِ إِذا أخبر بِهِ آخر فَيلْزم اجْتِمَاع النقيضين،
وَيعلم بِالضَّرُورَةِ وُقُوع الْخَبَر بهما - أَي:
الْإِخْبَار بِشَيْء وبنقيضه - أَي: لَيْسَ هَذَا محالاً أَن
يَقع، بل مَعْلُوم الْوُقُوع.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يلْزم الْعلم بكذب كل شَاهد؛ إِذْ لَا
يعلم صدقه بِدَلِيل، وَالْعلم بكذب كل مُسلم فِي دَعْوَى
إِسْلَامه؛ إِذْ لَا دَلِيل على مَا فِي بَاطِنه، وَذَلِكَ
بَاطِل بِالْإِجْمَاع والضرورة.
وَأما الْقيَاس على خبر مدعي الرسَالَة فَلَا يَصح؛ لِأَنَّهُ
لَا يكذب لعدم الْعلم بصدقه، بل للْعلم بكذبه؛ لِأَنَّهُ خلاف
الْعَادة، فَإِن الْعَادة فِيمَا خالفها أَن يصدق بالمعجزة.
(4/1739)
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: مَدْلُول الْخَبَر الحكم بِالنِّسْبَةِ لَا
ثُبُوتهَا خلافًا للقرافي} .
مَدْلُول الْخَبَر الحكم بِثُبُوت النِّسْبَة لَا نفس
الثُّبُوت، فَإِذا قلت: زيد قَائِم، فمدلوله الحكم بِثُبُوت
قِيَامه، لَا نفس ثُبُوت قِيَامه؛ إِذْ لَو كَانَ الثَّانِي
لزم مِنْهُ أَن لَا يكون شَيْء من الْخَبَر كذبا، بل يكون كُله
صدقا، قَالَه الرَّازِيّ، وَجمع كثير، وَخَالف الْقَرَافِيّ
فِي ذَلِك فَقَالَ: إِن الْعَرَب لم تضع الْخَبَر إِلَّا
للصدق؛ لِاتِّفَاق اللغويين والنحويين على أَن معنى " قَامَ
زيد " حُصُول الْقيام مِنْهُ فِي الزَّمن الْمَاضِي، واحتماله
الْكَذِب لَيْسَ من الْوَضع بل من جِهَة الْمُتَكَلّم. انْتهى.
قَالَ الكوراني: اخْتلف فِي أَن مَدْلُول الْخَبَر هَل هُوَ
وُقُوع النِّسْبَة فِي ذَاتهَا، أَو إِيقَاع الْمُتَكَلّم؟
فطائفة قَالَت: إِنَّه الْإِيقَاع لَا الْوُقُوع وَإِلَّا لزم
أَن لَا يُوجد الْكَذِب فِي الْكَلَام.
(4/1740)
توضيح ذَلِك قَوْلك: إِن زيدا قَائِم، لَو
دلّ على ثُبُوت الْقيام فَحَيْثُ مَا وجد " زيد قَائِم "
فَيثبت قِيَامه، وَلم يتَصَوَّر الْكَذِب فِي الْكَلَام،
وَهُوَ مُخْتَار الإِمَام وَبَعض الْمُتَأَخِّرين.
وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام هُوَ: أَن الْخَبَر - مثل:
زيد قَائِم - إِذا صدر عَن الْمُتَكَلّم بِالْقَصْدِ يدل على
الْإِيقَاع، وَهُوَ الحكم الَّذِي صدر عَن الْمُتَكَلّم، وَيدل
أَيْضا على الْوُقُوع فَكل مِنْهُمَا يُسمى حكما، فاحتمال
الصدْق وَالْكذب، وَصدق الْخَبَر وَكذبه فِي نفس الْأَمر
إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار الْإِيقَاع؛ لِأَنَّهُ المتصف بذلك
لَا الْوُقُوع.
وَأما بِاعْتِبَار إِفَادَة الْمُخَاطب فَالْحكم هُوَ
الْوُقُوع؛ لِأَنَّك إِذا قلت: زيد قَائِم - إِنَّمَا تفِيد
الْمُخَاطب وُقُوع الْقيام، لَا أَنَّك أوقعت الْقيام على زيد،
فَإِنَّهُ لَا يعد فَائِدَة.
فَإِن قلت: لَو دلّ - زيد قَائِم - على الْوُقُوع لم يُوجد
الْكَذِب فِي خبر قطّ لِامْتِنَاع تخلف الْمَدْلُول عَن
الدَّلِيل؟ !
قلت: دلَالَة اللَّفْظ على الْمَعْنى وضعية لَا عقلية فَجَاز
التَّخَلُّف لمَانع، كَمَا فِي الْمجَاز؛ وَلذَلِك قَالَ بعض
أَئِمَّة الْعَرَبيَّة: إِن الصدْق هُوَ مَدْلُول
(4/1741)
الْخَبَر وَالْكذب احْتِمَال عَقْلِي.
قَالَ: فَإِذا تَأَمَّلت هَذَا ظهر لَك أَن قَول المُصَنّف:
(وَإِلَّا لم يكن شَيْء من الْخَبَر كذبا) لَيْسَ بِشَيْء؛
لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يتم لَو كَانَت الدّلَالَة عقلية فمورد
الصدْق وَالْكذب إِنَّمَا هُوَ ذَلِك الحكم الْمَفْعُول
للمتكلم، وَبِه يناط الحكم الشَّرْعِيّ واللغوي. انْتهى.
قَوْله: {قَالَ البيانيون: مورد الصدْق وَالْكذب النِّسْبَة
الَّتِي تضمنها} .
هَذِه قَاعِدَة مهمة أهملها الأصوليون، وَأخذت من البيانيين
كالسكاكي وَغَيره.
وتقريرها: أَن مورد الصدْق وَالْكذب فِي الْخَبَر هُوَ
النِّسْبَة الَّتِي تضمنها الْخَبَر، لَا وَاحِد من طرفيها،
وَهُوَ الْمسند والمسند إِلَيْهِ، فَإِذا قيل: زيد بن عَمْرو
قَائِم، فَقيل: صدقت أَو كذبت، فالصدق وَالْكذب راجعان إِلَى
الْقيام، لَا إِلَى الْبُنُوَّة الْوَاقِعَة فِي الْمسند
إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالك وَبَعض
(4/1742)
الشَّافِعِيَّة: إِذا شهد شَاهِدَانِ أَن
فلَان بن فلَان وكل فلَانا فَهِيَ شَهَادَة بِالْوكَالَةِ
فَقَط، وَلَا تنْسب إِلَيْهِمَا الشَّهَادَة بِالنّسَبِ
أَلْبَتَّة.
قلت: وقواعد مَذْهَبنَا تَقْتَضِي ذَلِك لَكِن الصَّحِيح عِنْد
الشَّافِعِيَّة أَنَّهَا تَتَضَمَّن الشَّهَادَة بِالنّسَبِ،
وَإِن كَانَ أصل الشَّهَادَة إِنَّمَا هُوَ بِالْوكَالَةِ.
قَالَ الكوراني: لَكِن جعل الْفُقَهَاء هُنَا الْمَقْصُود تبعا
كالمقصود أَصَالَة؛ لِأَن تِلْكَ النِّسْبَة الإضافية فِي
قُوَّة الخبرية. انْتهى. ذكره الْهَرَوِيّ
(4/1743)
وَالْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ
وَغَيرهم.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ": يَنْبَغِي
أَن يسْتَثْنى من ذَلِك مَا لَو كَانَت صفة الْمسند إِلَيْهِ
مَقْصُودَة بالحكم بِأَن يكون الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فِي
الْمَعْنى الْهَيْئَة الْحَاصِلَة فِي الْمسند إِلَيْهِ وَصفته
كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب
بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم " فَإِن المُرَاد الَّذِي جمع كرم
نَفسه وآبائه، وَكَذَلِكَ الصِّفَات الْوَاقِعَة فِي الْحُدُود
كالإنسان حَيَوَان نَاطِق، فَإِن الْمَقْصُود الصّفة والموصوف
مَعًا، وَلَو قصد إِخْبَار الْمَوْصُوف فَقَط لعسر. انْتهى.
قَالَ الْقَرَافِيّ: وَيرد على هَذِه الْقَاعِدَة الحَدِيث
الْمَرْفُوع فِي " صَحِيح البُخَارِيّ ": " يُقَال
لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ؟ فَقَالُوا: كُنَّا
نعْبد الْمَسِيح ابْن الله، فَيُقَال: كَذبْتُمْ! مَا اتخذ
الله من صَاحِبَة وَلَا ولد ". انْتهى.
(4/1744)
قَوْله: {الثَّانِيَة} : أَحْمد، وَابْن
عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق، وَغَيرهم: يكون الْكَذِب
فِي الزَّمن الْمُسْتَقْبل كَمَا يكون فِي الْمَاضِي، وَهَذَا
هُوَ الصَّحِيح.
قَالَ الإِمَام أَحْمد فِيمَن قَالَ: لَا آكل، ثمَّ أكل: هَذَا
كذب لَا يَنْبَغِي أَن يفعل.
وَقيل للْإِمَام أَحْمد - أَيْضا -: بِمَ يعرف الْكذَّاب؟
قَالَ: بخلف الْوَعْد. وَتَبعهُ على ذَلِك ابْن عقيل، وَابْن
الْجَوْزِيّ، وَالشَّيْخ موفق الدّين ابْن قدامَة، وَغَيرهم؛
لقَوْله تَعَالَى: {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَا
يبْعَث الله من يَمُوت} [النَّحْل: 38] ، وَقَوله تَعَالَى:
{ألم تَرَ إِلَى الَّذين نافقوا يَقُولُونَ لإخوانهم الَّذين
كفرُوا من أهل الْكتاب لَئِن أخرجتم ... ...} [الْحَشْر: 11] .
(4/1745)
فَقَالَ تَعَالَى: {وَالله يشْهد إِنَّهُم
لَكَاذِبُونَ} [الْحَشْر: 11] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ
الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا اتبعُوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم
وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شَيْء إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ}
[العنكبوت: 12] فأكذبهم الله تَعَالَى.
وَفِي " صَحِيح البُخَارِيّ " قَول سعد بن عبَادَة يَوْم فتح
مَكَّة: (الْيَوْم تستحل الْكَعْبَة) فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كذب سعد ".
وَفِي " صَحِيح مُسلم " قَول عبد حَاطِب لما جَاءَ يشكو على
حَاطِب: (ليدخلن النَّار) ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " كذبت لَا يدخلهَا ".
(4/1746)
ورد أَبُو جَعْفَر النّحاس على من أنكر
ذَلِك بقوله تَعَالَى: {ياليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا}
[الْأَنْعَام: 27] .
وَقيل: لَا يكون الْكَذِب إِلَّا فِي مَاض.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": قَالَ بعض أهل اللُّغَة:
لَا يسْتَعْمل الْكَذِب إِلَّا فِي خبر عَن مَاض بِخِلَاف مَا
هُوَ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي أثْنَاء النّسخ: وَهُوَ قَول مَشْهُور،
بل هُوَ الْمَفْهُوم عَن الشَّافِعِي؛ فَلذَلِك قَالَ: لَا يجب
الْوَفَاء بالوعد، وَضعف احتجاج قَائِل الْوُجُوب بِأَنَّهُ
كذب وَهُوَ حرَام؛ بِأَن الْوَعْد إنْشَاء لَا خبر، فخلفه خلف
وعد لَا كذب؛ وَلذَلِك جَاءَ فِي صفة الْمُنَافِق: إِذا حدث
كذب، وَإِذا وعد أخلف، فغاير بَينهمَا، وسمى الثَّانِي
إخلافاً، لَا كذبا.
وَكَذَا قَالَ الزجاجي بِأَن الْإِخْبَار بضد الصدْق إِذا
كَانَ مُسْتَقْبلا
(4/1747)
يُقَال فِيهِ: أخلف، وَلَا يُقَال: كذب.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْحق أَن الْخَبَر عَن الْمُسْتَقْبل
يقبل التَّصْدِيق والتكذيب، فَإِن تعلق بالمستقبل وَلم يقبل
ذَلِك - كالوعد - كَانَ إنْشَاء وَلَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ.
انْتهى.
(4/1748)
قَوْله: {فصل}
{الْخَبَر تَوَاتر وآحاد} .
هَذِه قسْمَة أُخْرَى للْخَبَر وَهُوَ أَنه يَنْقَسِم إِلَى
تَوَاتر وآحاد، وَسَيَأْتِي أَن من الْآحَاد مستفيض مَشْهُور،
وَهَذَا التَّقْسِيم للسند هُوَ الأكثري، وَرُبمَا أطلق على
الْمَتْن ذَلِك فَيُقَال: حَدِيث متواتر وآحاد على معنى
تَوَاتر أَو آحَاد سَنَده.
قَوْله: {فالتواتر تتَابع} شَيْئَيْنِ فَأكْثر {بمهلة} .
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترا}
[الْمُؤْمِنُونَ: 44] أَصْلهَا وترا، بدلت التَّاء من الْوَاو.
قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَقَالَ: هُوَ لُغَة تتَابع
وَاحِد بعد وَاحِد من الْوتر، ثمَّ قَالَ: قلت: قَالَ
الجواليقي: من غلط الْعَامَّة قَوْلهم: تَوَاتَرَتْ
(4/1749)
كتبك إِلَيّ - أَي: اتَّصَلت من غير
انْقِطَاع -، وَإِنَّمَا التَّوَاتُر الشَّيْء بعد الشَّيْء
بَينهمَا انْقِطَاع، وَهُوَ تفَاعل من الْوتر وَهُوَ الْعود.
انْتهى.
قَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": التَّوَاتُر
التَّتَابُع، يُقَال: تَوَاتَرَتْ الْخَيل إِذا جَاءَت يتبع
بَعْضهَا بَعْضًا، وَمِنْه {جَاءُوا تترى} أَي: مُتَتَابعين
وترا بعد وتر، الْوتر الْفَرد. انْتهى.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: خبر جمَاعَة مُفِيد للْعلم بِنَفسِهِ}
.
فَالْخَبَر: كالجنس يَشْمَل الْمُتَوَاتر وَغَيره، وبإضافته
إِلَى الْجَمَاعَة يخرج عَنهُ خبر الْوَاحِد. وَقَوله: مُفِيد
للْعلم، يخرج خبر جمَاعَة لَا يُفِيد الْعلم، بل الظَّن،
وَإِنَّمَا قيل بِنَفسِهِ ليخرج الْخَبَر الَّذِي صدق المخبرين
فِيهِ لسَبَب الْقَرَائِن الزَّائِدَة على مَا لَا يَنْفَكّ
عَن الْمُتَوَاتر عَادَة وَغَيرهَا، وَمَا لَا يَنْفَكّ عَن
الْمُتَوَاتر الشَّرَائِط الْمُعْتَبرَة فِي التَّوَاتُر كَمَا
سَيذكرُ.
(4/1750)
والقرائن الزَّائِدَة المفيدة للْعلم قد
تكون عَادِية كالقرائن الَّتِي تكون على من يخبر عَن موت
وَلَده من شقّ الْجُيُوب والتفجع، وَقد تكون عقلية كَخَبَر
جمَاعَة تَقْتَضِي البديهة أَو الِاسْتِدْلَال صدقهم، وَقد
تكون حسية كالقرائن الَّتِي تكون على من يخبر عَن عطشه.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: زَاد بَعضهم بِنَفسِهِ ليخرج مَا
امْتنع فيهم ذَلِك بالقرائن أَو مُوَافقَة دَلِيل عَقْلِي أَو
غير ذَلِك، وَلَا يحْتَاج لذَلِك؛ لِأَن الْمُفِيد للْقطع هُوَ
مَعَ الْقَرَائِن. انْتهى.
وَكَذَا قَالَه الْبرمَاوِيّ والتاج السُّبْكِيّ وَغَيرهم.
وَكَون خبر التَّوَاتُر يُفِيد الْعلم هُوَ قَول أَئِمَّة
الْمُسلمين وَغَيرهم،
(4/1751)
وَخَالف فِي ذَلِك من لَا يعبأ بِهِ على
مَا يَأْتِي.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: التَّوَاتُر خبر جمع يمْتَنع تواطؤهم
على الْكَذِب عَن محسوس أَو عَن خبر جمع مثلهم إِلَى أَن
يَنْتَهِي إِلَى محسوس، أَي: مَعْلُوم بِأَصْل الْحَواس
الْخمس، كمشاهدة أَو سَماع فَخرج بالقيد الأول خبر الْوَاحِد،
وَلَو كَانَ مستفيضاً.
وَخرج بالانتهاء إِلَى محسوس مَا كَانَ عَن مَعْقُول، أَي:
مَعْلُوم بِدَلِيل عَقْلِي، كإخبار أهل السّنة دهرياً بحدوث
الْعَالم فَإِنَّهُ لَا يُوجب لَهُ علما لتجويزه غلطهم فِي
الِاعْتِقَاد، بل هُوَ مُعْتَقد ذَلِك.
وَأَيْضًا فَعلم المخبرين بِهِ نَظَرِي، والتواتر يُفِيد
الْعلم الضَّرُورِيّ فَيصير الْفَرْع أقوى من الأَصْل.
(4/1752)
وَأَيْضًا: مثل ذَلِك [إِذا] لم يتَّفق
المخبرون على وَاحِد بِالنَّصِّ الَّذِي شَرط فِي التَّوَاتُر،
بل كل وَاحِد إِنَّمَا يخبر عَن اعْتِقَاد نَفسه وَإِن توافقوا
نوعا، وَلأَجل ذَلِك لم يكن الْإِجْمَاع من قبيل الْخَبَر
الْمُتَوَاتر.
والحجية فِيهِ إِنَّمَا هِيَ من حَيْثُ بِنَاء الشَّرْع على
توَافق اعْتِقَاد الْأُمَم، أَو أَن الْعَادة تحيل تواطؤهم على
اعْتِقَاد بَاطِل.
لَكِن قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور، والباقلاني، وَإِمَام
الْحَرَمَيْنِ، والسمعاني، والرازي، والمازري: إِن التَّقْيِيد
بالحس لَا معنى لَهُ، وَإِنَّمَا الْمدَار على الْعلم
الضَّرُورِيّ ليدْخل مَا اسْتندَ فِيهِ علم المخبرين إِلَى
قَرَائِن الْأَحْوَال، كإخبارهم عَن الخجل الَّذِي علموه
بِالضَّرُورَةِ من قَرَائِن الْحَال، فالحس وَإِن وجد لَكِن لم
يكتف بِهِ؛ لِأَن الْحمرَة إِنَّمَا تدْرك بالحس
(4/1753)
ذَاتهَا، وَحُمرَة الخجل كحمرة الْغَضَب،
وَإِنَّمَا يفرق بَينهمَا بِأَمْر يدق عَن ضبط الْعبارَة.
وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَن الْقَرَائِن تعود للحس؛ لِأَنَّهَا
إِمَّا حَالية وَإِمَّا مقالية.
فَائِدَة: يكون التَّوَاتُر فِي الْكتاب وَالسّنة
وَالْإِجْمَاع.
فَأَما الْكتاب فقد تقدم أَن الْقرَاءَات السَّبع متواترة،
وَكَذَلِكَ الْعشْر على الْأَصَح، وَتقدم أَحْكَام التَّوَاتُر
فِي ذَلِك.
وَأما الْإِجْمَاع فالمتواتر فِيهِ كثير.
وَأما السّنة فالمتواتر فِيهَا قَلِيل جدا، حَتَّى إِن بَعضهم
نَفَاهُ إِذا كَانَ لفظياً، وَهُوَ أَن يتواتر لَفظه
بِعَيْنِه، لَا مَا إِذا كَانَ معنوياً، كَأَن يتواتر معنى فِي
ضمن أَلْفَاظ مُخْتَلفَة، وَلَو كَانَ الْمَعْنى الْمُشْتَرك
فِيهِ بطرِيق اللُّزُوم، وَيُسمى
(4/1754)
التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ، وَسَيَأْتِي
التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي الْمَتْن هُوَ والتواتر اللَّفْظِيّ
قَرِيبا.
وَقد قَالَ الْأَكْثَر: إِن حَدِيث " من كذب عَليّ مُتَعَمدا
فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " متواتر؛ فَإِنَّهُ قد
نَقله من الصَّحَابَة الجم الْغَفِير.
قَالَ ابْن الصّلاح: يصلح أَن يكون هَذَا مِثَالا للمتواتر من
السّنة.
ويعقب عَلَيْهِ بِوَصْف غَيره من الْأَئِمَّة عدَّة أَحَادِيث
بِأَنَّهَا متواترة، كَحَدِيث ذكر حَوْض النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أورد الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب "
الْبَعْث
(4/1755)
والنشور " رِوَايَته عَن أَزِيد من
ثَلَاثِينَ صحابياً، وأفرده الْمَقْدِسِي بِالْجمعِ. قَالَ
القَاضِي عِيَاض: وَحَدِيثه متواتر بِالنَّقْلِ.
وَحَدِيث الشَّفَاعَة، قَالَ القَاضِي عِيَاض: بلغ
التَّوَاتُر.
وَحَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، قَالَ ابْن عبد الْبر:
رَوَاهُ نَحْو أَرْبَعِينَ صحابياً، واستفاض وتواتر.
وَقَالَ ابْن حزم فِي " الْمحلى ": نقل تَوَاتر يُوجب الْعلم،
قَالَ:
(4/1756)
وَمن ذَلِك أَحَادِيث النَّهْي عَن
الصَّلَاة فِي مرابض الْإِبِل، وَحَدِيث النَّهْي عَن اتِّخَاذ
الْقُبُور مَسَاجِد، وَحَدِيث قَول الْمُصَلِّي: رَبنَا وَلَك
الْحَمد، إِلَى آخِره.
وَجَوَابه: ذَلِك يحْتَمل أَن مُرَاد قَائِل ذَلِك بالتواتر
إِنَّمَا هُوَ الْمَشْهُور كَمَا يعبر بِهِ كثيرا عَنهُ، أَو
أَنَّهَا متواترة معنى أَو غير ذَلِك، وَإِلَّا فالواقع فقدان
شَرط التَّوَاتُر فِي بعض طبقاتها.
(4/1757)
وَقَالَ الْحَافِظ الشَّيْخ شهَاب الدّين
بن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": روى حَدِيث: " من كذب عَليّ
مُتَعَمدا ... " عَن ثَلَاثِينَ صحابياً بأسانيد صِحَاح
وَحسان، وَعَن خمسين صحابياً غَيرهم بأسانيد ضَعِيفَة، وَعَن
نَحْو عشْرين آخَرين بأسانيد سَاقِطَة، وَقد اعتنى جمَاعَة
بِجمع طرقه فأولهم عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَتَبعهُ يَعْقُوب
بن شيبَة فَقَالَ: رُوِيَ من عشْرين وَجها عَن الصَّحَابَة،
ثمَّ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَأَبُو بكر البرقاني فَقَالَ:
رُوِيَ عَن
(4/1758)
أَرْبَعِينَ صحابياً، ثمَّ ابْن صاعد
فَزَاد قَلِيلا، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: رَوَاهُ أَكثر من
ثَمَانِينَ نفسا.
وخرجها بعض النيسابوريين فزادت قَلِيلا.
وَجمع طرقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب " الموضوعات " فجاوز
التسعين، وَبِذَلِك جزم ابْن دحْيَة. وَقَالَ أَبُو مُوسَى
الْمَدِينِيّ: يرويهِ نَحْو مائَة صَحَابِيّ.
(4/1759)
وَقد جمعهَا الحافظان يُوسُف بن خَلِيل،
وَأَبُو عَليّ الْبكْرِيّ، وهما متعاصران فَوَقع لكل مِنْهُمَا
مَا لَيْسَ عِنْد الآخر، وَتحصل من مَجْمُوع ذَلِك رِوَايَة
مائَة من الصَّحَابَة على مَا فصل قبل، وَلأَجل كَثْرَة طرقه
أطلق عَلَيْهِ جمَاعَة أَنه متواتر.
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: وَنَازع بعض مَشَايِخنَا فِي
ذَلِك قَالَ: لِأَن شَرط التَّوَاتُر اسْتِوَاء طَرفَيْهِ،
وَمَا بَينهمَا فِي الْكَثْرَة، وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي كل
طَرِيق بمفردها.
وَأجِيب: بِأَن المُرَاد بِإِطْلَاق كَونه متواتراً رِوَايَة
الْمَجْمُوع عَن الْمَجْمُوع من ابْتِدَائه إِلَى انتهائه فِي
كل عصر، وَهَذَا كَاف فِي إِفَادَة الْعلم، فَإِن الْعدَد
(4/1760)
5 - الْمعِين لَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر،
بل مَا أَفَادَ الْعلم كفى، وَالصِّفَات العلمية فِي
الرِّوَايَة تقوم مقَام الْعدَد، أَو تزيد عَلَيْهِ، وَبَين
الرَّد على من ادّعى أَن مِثَال التَّوَاتُر لَا يُوجد إِلَّا
فِي هَذَا الحَدِيث، وَبَين أَن أمثلته كَثِيرَة مِنْهَا:
حَدِيث: " من بنى لله مَسْجِدا "، وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ،
وَرفع الْيَدَيْنِ والحوض، والشفاعة، ورؤية الله فِي
الْآخِرَة، وَالْأَئِمَّة من قُرَيْش،
(4/1761)
وَغير ذَلِك. انْتهى كَلَام الْحَافِظ.
قَوْله: ويتفاوت الْمَعْلُوم عِنْد أَحْمد، والمحققين،
مِنْهُم: الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والأرموي، والخونجي، وَابْن
مُفْلِح، وَغَيرهم.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَذِه الْمَسْأَلَة ذَات خلاف،
وَعَن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَانِ: الْأَصَح التَّفَاوُت؛
فَإنَّا نجد بِالضَّرُورَةِ الْفرق بَين كَون الْوَاحِد نصف
الِاثْنَيْنِ وَبَين مَا علمناه من جِهَة التَّوَاتُر مَعَ
كَون الْيَقِين حَاصِلا فيهمَا، قَالَ: وَوَقعت هَذِه
الْمَسْأَلَة بَين الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام وَبَين
(4/1762)
الخونجي، فنفى ابْن عبد السَّلَام
التَّفَاوُت، وأثبته الخونجي.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: كَيفَ يَنْفِي التَّفَاوُت
مَعَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ
الْمخبر كالمعاين؟ " وكما يفرق بَين علم الْيَقِين وَعين
الْيَقِين، ثمَّ هُنَا أَمر آخر وَهُوَ أَن من فسر الرُّؤْيَة
فِي الْآخِرَة بِزِيَادَة الْعلم، وَكَذَلِكَ الْكَلَام، كَيفَ
يُمكنهُ نفي التَّفَاوُت؟ انْتهى.
قَالَ ذَلِك لما أورد شُبْهَة السمنية والبراهمة، واحتجاجهم
بِوَجْهَيْنِ وذكرهما، وسأذكرهما بعد ذَلِك.
قَوْله: {وَحكي عَن البراهمة: لَا يفِيدهُ، واكتفوا بِالْعقلِ،
وَحصر السمنية الْعلم فِي الْحَواس الْخمس.
وَقيل: يُفِيد بالموجود لَا الْمَاضِي وَهُوَ عناد} .
(4/1763)
السمنية - بِضَم السِّين الْمُهْملَة
وبتشديد الْمِيم -: طَائِفَة من الْهِنْد عَبدة الْأَصْنَام،
يَقُولُونَ بالتناسخ، وينقل ذَلِك عَن البراهمة وهم طَائِفَة
لَا يجوزون على الله تَعَالَى بعثة الرُّسُل.
وَعَن السوفسطائية - بِضَم السِّين الْمُهْملَة الأولى
وبالفاء، وَرُبمَا قيل: السوفسطانية بنُون بعد الْألف -، قوم
يُنكرُونَ الْخَالِق.
قَالَ الْعلمَاء والعقلاء قَالُوا: الْمُتَوَاتر يُفِيد الْعلم
لعلمهم بِبِلَاد نائية، وأمم مَاضِيَة، وأنبياء وخلفاء وملوك
بِمُجَرَّد الْأَخْبَار، كعلمهم بالمحسات جزما خَالِيا عَن
التَّرَدُّد.
وَحكي عَن قوم - قيل: هم البراهمة، وهم لَا يجوزون على الله
بعث الرُّسُل، وَقيل: هُوَ السمنية، فرقة من عَبدة الْأَصْنَام
يَقُولُونَ بالتناسخ - أَنه لَا يُفِيد الْعلم.
(4/1764)
وَقيل: يُفِيد عَن الْمَوْجُود، لَا
الْمَاضِي؛ لِأَن تباينهم يمْنَع اجْتِمَاعهم على خبر،
كاجتماعهم على حب طَعَام وَاحِد، ثمَّ الْجُمْلَة مركبة من
وَاحِد، وَيُمكن كذبه فَكَذَا هِيَ، وَيلْزم تنَاقض المعلومين
بتعارض تواترين، وَحُصُول الْعلم بِنَقْل أهل الْكتاب مَا يضاد
الْإِسْلَام؛ وَلِأَن الضَّرُورِيّ لَا يخْتَلف وَلَا يُخَالف،
وَقد فرقنا ضَرُورَة بَين الْمُتَوَاتر والمحسات وخالفناكم.
ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ تشكيك فِي الضَّرُورِيّ فَلَا يسمع.
قَالَه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، وَتَابعه ابْن مُفْلِح
وَغَيره.
(4/1765)
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: قَالَ
الأرموي: وَالْجَوَاب أَن هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب، بل الْحق أَن
المعلومات مُتَفَاوِتَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهِي مَسْأَلَة خلاف، وَذكر مَا
تقدم قبل ذَلِك فِي مَسْأَلَة ابْن عبد السَّلَام فِي
التَّفَاوُت.
قَالَ ابْن مُفْلِح: الأول مَمْنُوع، وَلَا يلْزم من ثُبُوت
شَيْء للْوَاحِد ثُبُوته للجملة؛ فَإِن الْوَاحِد جُزْء
الْعشْرَة وَلَيْسَت جُزْءا مِنْهُ، والمعلوم الْوَاحِد متناه
لَا مَعْلُومَات الله واجتماع المتواترين فرض محَال، وأخبار
أهل الْكتاب فِيمَا ذَكرُوهُ لم تتواتر، والقاطع يُقَابله،
وَلَا نسلم أَن الضَّرُورِيّ لَا يتَفَاوَت، وَلَا يلْزم
مِنْهُ أَنه لَا يُفِيد الْعلم، ثمَّ للاستئناس والمخالفة
عناد، كَمَا حُكيَ عَن بعض السوفسطائية.
(4/1766)
[و] قَالَ ابْن عقيل: أَصْحَاب سوفسطا نعلم
أَنه لَا علم أصلا، وَعَن بَعضهم: لَا علم لنا بِمَعْلُوم،
وَعَن بَعضهم: لَا يُنكر الْعلم، لَكِن لَا يقوى عَلَيْهِ
الْبشر، وَعَن بَعضهم: من اعْتقد شَيْئا فَهُوَ كَمَا اعتقده،
وَالْجَوَاب وَاحِد. انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: من أَرَادَ أَن يدْفع الْعلم
اليقيني المستقر فِي الْقُلُوب بالشبه فقد سلك مَسْلَك
السوفسطائية؛ فَإِن السفسطة أَنْوَاع:
أَحدهَا: النَّفْي، والجحد، والتكذيب، إِمَّا بالوجود وَإِمَّا
بِالْعلمِ بِهِ.
وَالثَّانِي: الشَّك والريب، وَهَذِه طَريقَة الاادرية الَّذين
يَقُولُونَ: لَا نَدْرِي، فَلَا يثبتون وَلَا ينفون، لَكِن هم
فِي الْحَقِيقَة قد نفوا الْعلم، وَهُوَ نوع من النَّفْي،
فَعَادَت السفسطة إِلَى جحد الْحق الْمَعْلُوم أَو جحد الْعلم
بِهِ.
(4/1767)
وَالثَّالِث: قَول من يَجْعَل الْحَقَائِق
تبعا للعقائد، فلقول من اعْتقد الْعَالم قَدِيما فَهُوَ قديم،
وَمن اعتقده مُحدثا فَهُوَ مُحدث.
وَإِذا أُرِيد بذلك أَنه قديم عِنْده، مُحدث عِنْده فَهَذَا
هُوَ الصَّحِيح، فَإِن هَذَا هُوَ اعْتِقَاده، لَكِن السفسطة
أَن يُرَاد أَنه كَذَلِك فِي الْخَارِج. انْتهى.
{وَأنْكرت الملحدة والرافضة الْعلم بِالْعقلِ} لتناقض قضاياه
لاخْتِلَاف الْعُقَلَاء، وَهَذَا تنَاقض مِنْهُم مَعَ أَن
الْعقل حجَّة الله على الْمُكَلف، وَاخْتِلَاف الْعُقَلَاء
لقُصُور علم، أَو تَقْصِير فِي شَرط النّظر، ثمَّ جَمِيع ذَلِك
شبه لَا أثر لَهَا مَعَ الْعلم، كالحسيات مَعَ أَن النّظر
يخْتَلف فِيهَا وَالسَّمَاع.
وَقَالَت الْيَهُود من شَرط التَّوَاتُر أَن لَا يكذب بِهِ
أحد، وَهُوَ بَاطِل.
(4/1768)
قَوْله: {وَهُوَ لَفْظِي، كَحَدِيث: " من
كذب عَليّ " ومعنوي، وَهُوَ تغاير الْأَلْفَاظ مَعَ
الِاشْتِرَاك فِي معنى كلي، كَحَدِيث الْحَوْض، وسخاء حَاتِم}
.
التَّوَاتُر: لَفْظِي ومعنوي.
فاللفظي: اشتراكهم فِي لفظ بِعَيْنِه، كَقَوْلِه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من كذب عَليّ مُتَعَمدا "
الحَدِيث كَمَا تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ، وعَلى طرقه وعدتهم.
والمعنوي: تغاير الْأَلْفَاظ مَعَ الِاشْتِرَاك فِي معنى كلي،
كَحَدِيث الْحَوْض - أَعنِي حَوْض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا تقدم قَرِيبا -، وسخاء حَاتِم
وشجاعة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَغَيرهَا. وَذَلِكَ إِذا
كثرت الْأَخْبَار فِي الوقائع وَاخْتلف فِيهَا، لَكِن كل
وَاحِد مِنْهَا يشْتَمل على معنى مُشْتَرك بَينهَا بِجِهَة
التضمن أَو ... ... ... ... . .
(4/1769)
الِالْتِزَام، حصل الْعلم بِالْقدرِ
الْمُشْتَرك، وَهُوَ مثلا الشجَاعَة وَالْكَرم وَنَحْوهَا،
وَيُسمى التَّوَاتُر من جِهَة الْمَعْنى، وَذَلِكَ كوقائع
حَاتِم فِيمَا يحْكى من عطاياه من فرس، وإبل، وَعين، وثوب،
وَنَحْوهَا؛ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّن جوده فَيعلم، وَإِن لم يعلم
شَيْء من تِلْكَ القضايا بِعَيْنِه.
وكقضايا عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي حروبه من أَنه هزم فِي
خَيْبَر كَذَا، وَفعل فِي أحد كَذَا، إِلَى غير ذَلِك؛
فَإِنَّهُ يدل بالإلتزام على شجاعته، وَقد تَوَاتر ذَلِك
مِنْهُ، وَإِن كَانَ شَيْء من تِلْكَ الجزيئات لم يبلغ دَرَجَة
الْقطع.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل " التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ
كَالْعلمِ بشجاعة عَليّ وسخاء حَاتِم مَعَ اخْتِلَاف المخبرين
فِي الوقائع الدَّالَّة على ذَلِك لاشتراكها فِي الْمَدْلُول،
وَإِن كَانَت جِهَة دلالتها تَارَة بالتضمن وَتارَة بالإلتزام،
وَكثير من الوقائع على هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ: قلت:
التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ تغاير الْأَلْفَاظ مَعَ
الِاشْتِرَاك فِي معنى كلي، واللفظي اشتراكهم فِي اللَّفْظ.
انْتهى.
وَهَذَا الْأَخير الَّذِي قَالَه حسن؛ فَلذَلِك ذَكرْنَاهُ فِي
الْمَتْن بَدَلا عَن الأول فَإِنَّهُ أوضح.
(4/1770)
قَوْله: {أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: الْعلم
الْحَاصِل بِهِ ضَرُورِيّ} ؛ إِذْ لَو كَانَ نظرياً لافتقر
إِلَى توَسط المقدمتين، وَلما حصل لمن لَيْسَ من أهل النّظر
كالنساء وَالصبيان؛ وَلِأَن الضَّرُورِيّ مَا اضْطر الْعقل
إِلَى التَّصْدِيق بِهِ، وَهَذَا كَذَلِك، ولساغ الْخلاف فِيهِ
عقلاء كَسَائِر النظريات.
{وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْمَعَالِي، والدقاق،
وَغَيرهم: نَظَرِي} .
(4/1771)
وَقَالَهُ الكعبي، وَأَبُو الْحُسَيْن
المعتزليان؛ إِذْ لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لما افْتقر إِلَى
النّظر فِي المقدمتين وَهِي اتِّفَاقهم على الْإِخْبَار وَعدم
تواطئهم على الْكَذِب، فصورة التَّرْتِيب مُمكنَة.
رد ذَلِك: بِأَنَّهُ مطرد فِي كل ضَرُورِيّ.
قَالُوا: لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لعلم كَونه ضَرُورِيًّا
ضَرُورَة؛ لعدم حُصُول علم ضَرُورِيّ لَا يشْعر بضرورته.
رد: معَارض بِمثلِهِ فِي النظري، ثمَّ لَا يلْزم من حُصُول
الْعلم الشُّعُور بِالْعلمِ ضَرُورَة، وَإِن سلم فَلَا يلْزم
الشُّعُور بِصفتِهِ ضَرُورَة.
قَالُوا: كَالْعلمِ عَن خبر الله وَرَسُوله.
رد: لتوقفه على معرفتهما، وَهِي نظرية.
(4/1772)
وللقاضي أبي يعلى من أَئِمَّة
[أَصْحَابنَا] قَولَانِ، وَاخْتَارَ فِي " الْكِفَايَة " أَنه
نَظَرِي، وَاخْتَارَ فِي " الْعدة " أَنه ضَرُورِيّ.
وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى ": تَحْقِيق القَوْل
فِيهِ أَنه ضَرُورِيّ يَعْنِي أَنه لَا يحْتَاج فِي حُصُوله
إِلَى الشُّعُور بتوسط وَاسِطَة مفضية إِلَيْهِ مَعَ أَن
الْوَاسِطَة حَاضِرَة فِي الذِّهْن، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا
بِمَعْنى أَنه حَاصِل من غير وَاسِطَة. انْتهى.
وَنقل أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَن الْبَلْخِي مُوَافقَة
الْمَعْنى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحَكَاهُ أَيْضا عَن الدقاق، وَأبي
الْحُسَيْن.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَالْخلاف لَفْظِي؛ إِذْ
مُرَاد الأول بالضروري مَا اضْطر الْعقل إِلَى تَصْدِيقه،
وَالثَّانِي البديهي الْكَافِي فِي حُصُول الْجَزْم بِهِ
(4/1773)
تصور طَرفَيْهِ، والضروري منقسم
إِلَيْهِمَا، فدعوى كل غير دَعْوَى الآخر، والجزم حَاصِل على
الْقَوْلَيْنِ. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: اللَّائِق ارْتِفَاع الْخلاف فَإِن
حُصُول الْعلم فِيهِ بِالضَّرُورَةِ أَمر مشَاهد.
وَقَالَ الكوراني: لخص الْخلاف بعض الْمُحَقِّقين بِأَن
المتواترات والمجربات وَإِن كَانَت قضايا ضَرُورِيَّة إِلَّا
أَن فِيهَا قِيَاسا خفِيا؛ إِذْ السَّامع إِنَّمَا يحكم فِي
الْمُتَوَاتر؛ لِأَنَّهُ يعلم أَنه صدر عَن جمع لَا يُمكن
اتِّفَاقهم على الْكَذِب، فَكَأَنَّهُ يَقُول عِنْد السماع:
هَذَا خبر جمع لَا يُمكن تواطؤهم على الْكَذِب، وكل خبر هَذَا
شَأْنه فَهُوَ صدق قطعا، فَهَذَا الْخَبَر صدق قطعا.
وَمثل هَذَا الْقيَاس الْخَفي لَا يخرج الْعلم عَن كَونه
ضَرُورِيًّا، فقد ظهر لَك أَن لَا خلاف بَين الطَّائِفَتَيْنِ.
انْتهى.
{وَتوقف الْآمِدِيّ والمرتضى} من الشِّيعَة لتعارض
الْأَدِلَّة، لِأَن تَسْمِيَة مثل هَذَا الْعلم بالنظري غير
ظَاهر؛ إِذْ لَا اسْتِدْلَال، وَكَذَا بالضروري
(4/1774)
لتوقفه على ذَلِك الْقيَاس الْخَفي،
وَصَححهُ صَاحب المصادر.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول رَابِع: إِنَّه يُفِيد علما بَين
المكتسب والضروري، قَالَه صَاحب " الكبريت الْأَحْمَر ".
قَوْله: {فَائِدَة: خبر التَّوَاتُر لَا يُولد الْعلم وَيَقَع
عِنْده بِفعل الله تَعَالَى عِنْد الْفُقَهَاء وَغَيرهم،
وَخَالف قوم} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الأول: قَول الْفُقَهَاء
والأشاعرة والمعتزلة خلافًا لقوم، وَقطع بِالْأولِ الطوفي،
وَقدمه ابْن حمدَان وَغَيره.
(4/1775)
لنا: مَا ثَبت من الْأُصُول أَن لَا موجد
إِلَّا الله وَهُوَ بِمَنْزِلَة إِجْرَاء الْعَادة بِخلق
الْوَلَد من الْمَنِيّ، وَهُوَ قَادر على خلقه بِدُونِ ذَلِك
خلافًا لمن قَالَ بالتولد.
قَالَ الْمُخَالف: يُمكن أَن يخلفه وَيُمكن ضِدّه.
قُلْنَا: مُمكن عقلا، وواجب عَادَة.
وَاسْتدلَّ: لَو ولد الْعلم فإمَّا من الْأَخير وَحده وَهُوَ
محَال إِذا كَانَ يَكْفِي مُنْفَردا، أَو مِنْهُ وَمن
الْجُمْلَة قبله وَهُوَ محَال أَيْضا لعدم صُدُور الْمُسَبّب
عَن شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، أَو لِأَنَّهَا تعدم شَيْئا
فَشَيْئًا، والمعدوم لَا يُؤثر.
فَقيل: يجوز تَأْثِير الْأَخير مَشْرُوطًا بِوُجُود مَا قبله
وانعدامه أَيْضا فَهُوَ وَارِد فِي إفادته التولد.
ثمَّ قَالُوا من جِهَة الْإِلْزَام لِلْقَائِلين بالتولد: إِن
مَاله جِهَة يجوز أَن يُولد شَيْئا فِي غير مَحَله،
كالاعتمادات، والحركات، وَمَا لَيْسَ كَذَلِك
(4/1776)
فبخلافه، وَالْخَبَر لَيْسَ لَهُ جِهَة،
فَلَا يُولد فِي غير مَحَله.
فَقيل: هُوَ ضَعِيف؛ لِأَن مَذْهَب الْمُخَالف: يُولد الشَّيْء
فِي غير مَحَله كالإرعاب المولد فِي غير مَحَله الوجل المولد
الإصفرار بعد الإحمرار، وكالتوبيخ يُولد الخجل المولد
للاحمرار.
قَوْله: {وَشَرطه: بلوغهم عددا يمْتَنع مَعَه التواطؤ على
الْكَذِب لكثرتهم} .
وَعَن القَاضِي وَغَيره: {أَو دينهم، مستندين إِلَى الْحس
مستوين فِي طرفِي الْخَبَر ووسطه} .
(4/1777)
للمتواتر شُرُوط، بَعْضهَا مُتَّفق
عَلَيْهِ، وَبَعضهَا مُخْتَلف فِيهِ.
فَمن الْمُتَّفق عَلَيْهِ بِحَسب المخبرين: أَن يَتَعَدَّد
المخبرون تعدداً يمْنَع اتِّفَاقهم على الْكَذِب بطرِيق
الِاتِّفَاق أَو بطرِيق الْمُوَاضَعَة.
وَفِي بعض كَلَام القَاضِي، وَذكره ابْن عقيل عَن أَصْحَابنَا:
لكثرتهم أَو دينهم وصلاحهم وَهُوَ قوي؛ فَإِن إِخْبَار
الْأَئِمَّة وَمن قارنهم لَيْسَ كأخبار غَيرهم.
وَأَن يَكُونُوا مستندين فِي إخبارهم إِلَى الْحس فِي الْأَصَح
لَا إِلَى دَلِيل عَقْلِي كَمَا تقدم، ذكره فِي كَلَام
الْبرمَاوِيّ وَغَيره فِي حَدِيث التَّوَاتُر فَليُرَاجع.
وَقَوْلنَا: فِي الْأَصَح القَوْل الَّذِي يُقَابل الْأَصَح
للأستاذ أبي مَنْصُور،
(4/1778)
والباقلاني، والسمعاني، والرازي، والمازري
قَالُوا: الْمُعْتَبر أَن يكون ذَلِك الْعلم ضَرُورِيًّا،
سَوَاء كَانَ عَن حس أَو عَن قرينَة كَمَا تقدم فِي حد
التَّوَاتُر فَليُرَاجع.
وَقَوله: إِلَى الْحس يدل على أَمريْن:
أَحدهمَا: أَن يكون عَن علم لَا ظن.
الثَّانِي: أَن يكون علمهمْ مدْركا بِإِحْدَى الْحَواس الْخمس.
ذكره الرَّازِيّ، والآمدي، وأتباعهما، وَتقدم كَلَام
الباقلاني، وَغَيره.
وَأَن يَكُونُوا مستوين فِي التَّعَدُّد، والاستناد بَالغا مَا
بلغ عدد التَّوَاتُر. وَمحل هَذَا إِن وجد بِأَن يكون للْخَبَر
طرفان ووسط، وَإِلَّا فقد يكون عدد التَّوَاتُر عَن أَخْبَار
من عاينوه كأخبار الصَّحَابَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(4/1779)
فيكتفي بذلك بِلَا نزاع، بل هُوَ أولى من
الطَّرفَيْنِ وَالْوسط، وكأخبار التَّابِعين عَن الصَّحَابَة
عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمن الْمُخْتَلف فِيهِ: مَا زَاده الْمُوفق، والآمدي، وَابْن
حمدَان: أَن يكون المخبرون عَالمين بِمَا أخبروا بِهِ، وَهُوَ
ضَعِيف غير مُحْتَاج إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد علم
جَمِيعهم فَبَاطِل؛ لِأَنَّهُ قد لَا يكون جَمِيعهم عَالمين،
بل يكون بَعضهم ظَانّا وَمَعَ هَذَا يحصل الْعلم.
وَإِن أُرِيد علم الْبَعْض بِهِ فَهُوَ لَازم مَا ذكرنَا من
الْقُيُود الثَّلَاثَة عَادَة؛ وَلِأَنَّهَا لَا تَجْتَمِع
إِلَّا وَالْبَعْض عَالم قطعا، وَإِلَّا كَيفَ يعلم حُصُول
هَذِه الشُّرُوط مِمَّن زعم أَنه نَظَرِي بِشَرْط تقدم الْعلم
بذلك كُله، وَأما نَحن فالضابط عندنَا حُصُول الْعلم بصدقه،
فَإِذا علم ذَلِك عَادَة علم وجود الشَّرَائِط، لَا أَن
الضَّابِط فِي حُصُول الْعلم سبق الْعلم بهَا كَمَا يَقُوله من
يرى أَنه نَظَرِي.
(4/1780)
{وَقَالَ} أَبُو الْخطاب {فِي "
التَّمْهِيد ": إِن قُلْنَا} إِنَّه {نَظَرِي} اشْترط أَن يكون
المخبرون عَالمين، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقع بِهِ
الْعلم؛ وَلِأَن علم السَّامع فرع على الْمخبر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَوْله: {وَعدم علم السَّامع} مَا تقدم فَهُوَ شَرط فِي
المخبرين، وَهَذَا شَرط فِي السامعين، يَعْنِي: أَن لَا يكون
السَّامع للمتواتر عَالما بِمَا أخبروا قبل إخبارهم فَإِنَّهُ
لَا يفِيدهُ شَيْئا لعلمه قبله.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَأَن يكون علم المستمع غير
حَاصِل قبل الْخَبَر. انْتهى.
وَقطع بِهِ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع "، وَغَيره.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: رَابِع الشُّرُوط كَون السَّامع غير عَالم
بمدلوله ضَرُورَة أَو اسْتِدْلَالا، كالإخبار بِأَن السَّمَاء
فَوق الأَرْض، وَبِأَن الْعَالم مُحدث لمن هُوَ مُسلم، وَهَذَا
خَارج من قَوْلنَا فِي حد التَّوَاتُر: يُفِيد الْعلم؛ لِأَن
هَذَا لم
(4/1781)
يفد شَيْئا؛ لِأَن الْعلم بذلك كَانَ
حَاصِلا انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَيعْتَبر فِي تأهل المستمع للْعلم،
وَعَدَمه حَال الْإِخْبَار لِامْتِنَاع تَحْصِيل الْحَاصِل،
وَأَن لَا يُعلمهُ السَّامع ضَرُورَة. انْتهى.
قَوْله: {أَصْحَابنَا والمحققون: لَا ينْحَصر عدد التَّوَاتُر
فِي عدد، بل مَا حصل الْعلم عِنْده فَيعلم أَيْضا حُصُول
الْعدَد، وَلَا دور} .
قَالَ الطوفي: وَالْحق أَن الضَّابِط حُصُول الْعلم بالْخبر
فَيعلم إِذن حُصُول الْعدَد، وَلَا دور؛ إِذْ حُصُول الْعلم
مَعْلُول الْإِخْبَار وَدَلِيله، كالشبع والري مَعْلُول المشبع
والمروي وَدَلِيلهمَا، وَإِن لم يعلم ابْتِدَاء الْقدر
الْكَافِي مِنْهُمَا، وَمَا ذكر من التقديرات تحكم لَا دَلِيل
عَلَيْهِ، نعم لَو أمكن الْوُقُوف على
(4/1782)
حَقِيقَة اللحظة الَّتِي يحصل لنا الْعلم
بالمخبر عَنهُ فِيهَا أمكن معرفَة أقل عدد يحصل الْعلم
بِخَبَرِهِ لَكِن ذَلِك مُتَعَذر؛ إِذْ الظَّن يتزايد بتزايد
المخبرين تزايداً خفِيا تدريجياً كتزايد النَّبَات، وعقل
الصَّبِي ونمو بدنه، وضوء الصُّبْح، وحركة الْفَيْء فَلَا
يدْرك. انْتهى.
وَكَذَا قَالَ غَيره، قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: فَإِن قيل:
كَيفَ يعلم الْعلم بالتواتر مَعَ الْجَهْل بِأَقَلّ عدده؟
قُلْنَا: كَمَا يعلم أَن الْخبز مشبع وَالْمَاء مرو وَإِن
جهلنا عدده. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وضابطه مَا حصل الْعلم عِنْده للْقطع بِهِ
من غير علم بِعَدَد خَاص، وَالْعَادَة تقطع بِأَنَّهُ لَا
سَبِيل إِلَى وجدانه لحصوله بتزايد الظنون على تدرج خَفِي
كحصول كَمَال الْعقل بِهِ، وَلَا دَلِيل.
(4/1783)
قَوْله: {وَعَلِيهِ يمْتَنع الِاسْتِدْلَال
بالتواتر على من لم يحصل لَهُ الْعلم بِهِ} لَو حصل
التَّوَاتُر عِنْد جمَاعَة وَلم يحصل عِنْد آخَرين امْتنع
الِاسْتِدْلَال بالتواتر عِنْد من حصل لَهُ على من لم يحصل
لَهُ الْعلم بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُول مَا تدعيه من التَّوَاتُر
غير مُسلم فَلَا أسمعهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمتواتر عِنْدِي.
قَوْله: {وَيخْتَلف باخْتلَاف الْقَرَائِن} الْعدَد الَّذِي
يحصل الْعلم بِصدق الْخَبَر عِنْده يخْتَلف باخْتلَاف قَرَائِن
التَّعْرِيف، مثل: الهيئات الْمُقَارنَة للْخَبَر الْمُوجبَة
لتعريف مُتَعَلقَة ولاختلاف أَحْوَال المخبرين فِي اطلاعهم على
قَرَائِن التَّعْرِيف، ولاختلاف إِدْرَاك المستمعين لتَفَاوت
الأذهان، والقرائح، ولاختلاف الوقائع على عظمها وحقارتها،
وَهَذِه الْمَسْأَلَة ذَات خلاف.
قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَالصَّحِيح ثَالِثهَا إِن
علمه لِكَثْرَة الْعدَد مُتَّفق وللقرائن قد تخْتَلف فَيحصل
لزيد دون عَمْرو.
(4/1784)
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: هَل يجب اطراد
حُصُول الْعلم بالمتواتر لكل من بلغ، أَو يُمكن حُصُول الْعلم
لبَعْضهِم دون بعض؟ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: ثَالِثهَا:
وَهُوَ الرَّاجِح عِنْد الْمنصف - أَن علمه مُتَّفق - أَي
يتَّفق النَّاس كلهم فِي الْعلم بِهِ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ،
وَإِن كَانَ لاحتفاف قَرَائِن بِهِ اضْطربَ فقد يحصل لبَعْضهِم
دون بعض، وَفِيه نظر؛ فَإِن الْخَبَر الَّذِي لم يحصل الْعلم
فِيهِ إِلَّا بانضمام الْقَرِينَة إِلَى الْخَبَر لَيْسَ من
التَّوَاتُر، بل لابد أَن يكون حُصُول الْعلم بِمُجَرَّد
روايتهم. انْتهى.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: نقطع أَنه يخْتَلف بالقرائن
الَّتِي تتفق فِي التَّعْرِيف غير زَائِدَة على الْمُحْتَاج
إِلَيْهَا فِي ذَلِك عَادَة من الْجَزْم وتفرس آثَار الصدْق،
وباختلاف اطلَاع المخبرين على مثلهَا عَادَة، كدخاليل الْملك
(4/1785)
بأحواله الْبَاطِنَة وباختلاف إِدْرَاك
المستمعين وفطنتهم وباختلاف الوقائع، وتفاوت كل وَاحِد مِنْهَا
مُوجب الْعلم بِخَبَر عدد أَكثر أَو أقل لَا يُمكن ضَبطه،
فَكيف إِذا تركبت الْأَسْبَاب. انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: بلَى} أَي: وَقيل: ينْحَصر حُصُول التَّوَاتُر
فِي عدد، وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بذلك على أَقْوَال كَثِيرَة،
أَكْثَرهَا ضَعِيف أَو سَاقِط.
فَقيل: أقل مَا يحصل بِهِ اثْنَان، حَكَاهُ القَاضِي أَبُو
يعلى، وَأَبُو الْخطاب عَن قوم؛ لِأَنَّهُ بَيِّنَة تَامَّة،
وَهُوَ ضَعِيف جدا، بل سَاقِط، وَسَيَأْتِي أَن بَعضهم حكى
الْإِجْمَاع أَنه لَا يحصل بِدُونِ أَرْبَعَة.
وَقيل: يحصل بأَرْبعَة، حَكَاهُ أَيْضا القَاضِي أَبُو يعلى،
وَأَبُو الْخطاب عَن قوم ذكره فِي " المسودة "؛ لِأَنَّهَا
بَيِّنَة الزِّنَا.
(4/1786)
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى مُتَابعَة
للْقَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ، وَقَالَهُ قبلهم القَاضِي
أَبُو بكر الباقلاني مُتَابعَة للجبائي: يجب أَن يكون عَددهمْ
أَكثر من أَرْبَعَة؛ لِأَن خبر الْأَرْبَعَة لَو جَازَ أَن
يكون مُوجبا للْعلم لوَجَبَ أَن يكون كل أَرْبَعَة مُوجبا
لذَلِك، وَلَو كَانَ هَكَذَا لوَجَبَ - إِذا شهد أَرْبَعَة
بِالزِّنَا - أَن يعلم الْحَاكِم صدقهم ضَرُورَة.
قَالَ ابْن برهَان: وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن
الْأَرْبَعَة لَيْسَ من الْعدَد الْمُتَوَاتر، وَنسبه التَّاج
السُّبْكِيّ للشَّافِعِيَّة.
وَقيل: خَمْسَة، ذكره أَبُو الطّيب، وَنَصره الجبائي وَتردد
فِيهِ الباقلاني، وَقَالَ عَن الْأَرْبَعَة: لَو حصل بقول
شُهُود الزِّنَا لم يحْتَج إِلَى التَّزْكِيَة.
(4/1787)
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: وَيرد عَلَيْهِ
أَن وجوب التَّزْكِيَة مُشْتَرك إِلَّا أَن يَقُول: قد يُفِيد
الْعلم فَلَا تجب التَّزْكِيَة، وَقد لَا يُفِيد فَيعلم كذب
وَاحِد، فالتزكية لتعلم عَدَالَة الْأَرْبَعَة، وَقد يفرق بَين
الْخَبَر وَالشَّهَادَة، كَيفَ والاجتماع فِي الشَّهَادَة
مَظَنَّة التواطؤ. انْتهى.
قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قيل يحصل بالخمسة؛ لأَنهم بِعَدَد أولي
الْعَزْم من الرُّسُل على قَول من فسره بهم، وهم: نوح،
وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمّد صلوَات الله
وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ -.
قلت: وَقد ذكرهم الله تَعَالَى منفردين عَن غَيرهم فِي موضِعين
من الْقُرْآن: الأول: فِي سُورَة الْأَحْزَاب فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح
وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى ابْن مَرْيَم} [الْأَحْزَاب:
7] .
وَالثَّانِي: فِي سُورَة الشورى فِي قَوْله تَعَالَى: {شرع لكم
من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك
وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا
الدّين} [الشورى: 13] ، وَقد نبه على ذَلِك الْبَغَوِيّ فِي
تَفْسِيره.
وَقيل: عشرَة. وَنسب هَذَا القَوْل إِلَى الْإِصْطَخْرِي؛ ...
... ... ... ... ... ... .
(4/1788)
لِأَن مَا دونهَا جمع قلَّة.
وَقيل: اثْنَي عشر، بِعَدَد النُّقَبَاء الَّذِي أرسلهم مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَام ليعرفوه أَحْوَال بني إِسْرَائِيل ليحصل
الْعلم بخبرهم، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد أَخذ الله
مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وبعثنا مِنْهُم اثْنَي عشر نَقِيبًا}
[الْمَائِدَة: 12] .
وَقيل: عشرُون، لقَوْله تَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون
صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} [الْأَنْفَال: 65] . نقل هَذَا
القَوْل عَن أبي الْهُذيْل وَغَيره من الْمُعْتَزلَة، وَقَيده
الصَّيْرَفِي بِمَا إِذا كَانُوا عُدُولًا، لَكِن المصابرة فِي
الْقِتَال لَا علقَة لَهَا بالأخبار.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: بل ليُفِيد خبرهم الْعلم
بِإِسْلَامِهِمْ.
(4/1789)
وَقيل: أَرْبَعُونَ، عِنْد من تَنْعَقِد
بهم الْجُمُعَة، لقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك
الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} [الْأَنْفَال: 64] ،
وَكَانُوا أَرْبَعِينَ.
وَقيل: سَبْعُونَ، لقَوْله تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه
سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا} [الْأَعْرَاف: 155] ، وَإِنَّمَا
خصهم بِهَذَا الْعدَد لخبرهم إِذا رجعُوا ليخبروا قَومهمْ إِذا
رجعُوا إِلَيْهِم.
وَقيل: ثَلَاثمِائَة وبضع عشرَة، بِعَدَد أَصْحَاب بدر؛
لِأَنَّهُ
(4/1790)
يحصل بخبرهم الْعلم للْمُشْرِكين.
والبضع - بِكَسْر الْبَاء -: مَا بَين الثَّلَاثَة ألى
التِّسْعَة، وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": الْبضْع مَا بَين
الثَّلَاث إِلَى التسع، أَو إِلَى الْخمس، أَو مَا بَين
الْوَاحِد إِلَى الْأَرْبَعَة، أَو من أَربع إِلَى تسع، أَو
هُوَ سبع، وَإِذا جَاوَزت لفظ الْعشْر ذهب الْبضْع، لَا
يُقَال: بضع وَعِشْرُونَ، أَو يُقَال ذَلِك.
الْفراء: لَا يذكر مَعَ الْعشْرَة وَالْعِشْرين إِلَى التسعين،
وَلَا يُقَال: بضع وَمِائَة، وَلَا ألف.
مبرمان: الْبضْع مَا بَين الْعقْدَيْنِ من وَاحِد إِلَى
الْعشْرَة، وَمن أحد عشر إِلَى عشْرين، وَمَعَ الْمُذكر بهاء،
وَمَعَهَا بِغَيْر هَاء: بضعَة وَعِشْرُونَ رجلا، وبضع
وَعِشْرُونَ امْرَأَة، وَلَا يعكس، أَو الْبضْع: غير مَعْدُود؛
لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْقطعَة. انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": الْبضْع -
بِالْكَسْرِ، وَبَعض الْعَرَب يفتح - من الثَّلَاثَة إِلَى
التِّسْعَة، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث فَيُقَال: بضع
رجال، وبضع نسْوَة، وَيسْتَعْمل من ثَلَاثَة عشر إِلَى تِسْعَة
عشر، لَكِن تثبت الْهَاء فِي بضع مَعَ الْمُذكر، وتحذف مَعَ
الْمُؤَنَّث، كالنيف، وَلَا يسْتَعْمل فِيمَا زَاد على
(4/1791)
الْعشْرين، وَأَجَازَهُ بعض الْمَشَايِخ
فَتَقول: بضعَة وَعِشْرُونَ رجلا، وبضع وَعِشْرُونَ امْرَأَة،
وَهَكَذَا قَالَه أَبُو زيد، وَقَالُوا: على هَذَا معنى
الْبضْع والبضعة فِي الْعدَد قِطْعَة مُبْهمَة غير محدودة.
انْتهى.
والنيف ككيس، وَقد يُخَفف، اصله: نيوف، يُقَال: عشرَة ونيف
وَكلما زَاد على العقد فنيف إِلَى أَن يبلغ العقد الثَّانِي،
والنيف الْفضل وَالْإِحْسَان، وَمن وَاحِدَة إِلَى ثَلَاث.
قَالَه " الْقَامُوس "، وَقَالَ: أفرد الْجَوْهَرِي لَهُ
تركيب: ن ى ف وهما، وَالصَّوَاب أَنه واوي.
وَالصَّحِيح أَن أَصْحَاب بدر كَانُوا ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة
عشر، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَقيل: وَعشرَة، وَقيل: وَخَمْسَة،
وَلَا تبَاين بَينهَا وَبَين الثلاثةعشر، كَمَا توهمه
الدمياطي؛ لِأَن الدّين خَرجُوا الَّذين خَرجُوا لِلْقِتَالِ
ثَلَاثمِائَة وَخَمْسَة، وَأدْخل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَهم فِي الْقِسْمَة ثَمَانِيَة أسْهم
لجَماعَة لم يحضروا فنزلوا منزلَة الْحَاضِرين.
وَقيل: خَمْسمِائَة، حَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي "
المسودة " عَن قوم وَلم نره لغيره.
(4/1792)
وَقيل: ألف وَسَبْعمائة بِعَدَد أهل بيعَة
الرضْوَان.
وَقَالَ بَعضهم: لابد للمتواتر من عدد أهل بيعَة الرضْوَان،
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وهم ألف وَسَبْعمائة، وَقيل: ألف
وَخَمْسمِائة، وَهِي رِوَايَة جَابر فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَقيل: ألف وَأَرْبَعمِائَة، وَهِي رِوَايَة جَابر أَيْضا.
قَالَ ابْن الْقيم فِي " الْهَدْي ": وَالْقلب إِلَى هَذَا
أميل، وَهُوَ قَول الْبَراء بن عَازِب، وَمَعْقِل بن يسَار،
وَسَلَمَة بن ... ... ... . .
(4/1793)
الْأَكْوَع فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ
عَنهُ، وَهُوَ قَول الْمسيب بن حزن. انْتهى. قَالَ
النَّوَوِيّ: هَذَا الْأَشْهر، وَعَن عبد الله بن أبي أوفى:
كَانُوا ألفا وثلاثمائة.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ، ومُوسَى بن عقبَة: كَانُوا ألفا
وسِتمِائَة.
(4/1794)
وَقيل: غير ذَلِك فِيهَا، وَهَذِه
الْأَقْوَال غالبها ضَعِيف جدا، وَبَعضهَا سَاقِط.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا تعلق لشَيْء من هَذِه الْأَعْدَاد
بالأخبار فتعيين هَذِه الْأَعْدَاد فِي التَّوَاتُر بِهَذَا
الشّبَه لَا يخفى ضعفه، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَقَول أبي الْحُسَيْن، والباقلاني: من حصل
بِخَبَرِهِ علم بواقعة لشخص حصل بِمثلِهِ بغَيْرهَا لشخص آخر،
صَحِيح إِن تَسَاويا من كل وَجه، وَهُوَ بعيد عَادَة} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: كل عدد أَفَادَ الْعلم لشخص فِي
وَاقعَة مُفِيد للْعلم لغيره فِي غَيرهَا، وإطلاقه بَاطِل؛
إِذْ قد يمتاز الشَّخْص بفرط ذكائه فِي تِلْكَ الْوَاقِعَة دون
غَيرهَا، لَكِن هُوَ صَحِيح مَعَ التَّسَاوِي، وَهُوَ بعيد
عَادَة. انْتهى.
(4/1795)
وَكَذَا قَالَ غَيره، وَكلهمْ تابعوا ابْن
الْحَاجِب.
قَوْله: {وَشرط ابْن عَبْدَانِ من الشَّافِعِيَّة الْإِسْلَام
وَالْعَدَالَة فِيهِ} ، كَمَا شَرط فِي الشَّهَادَة؛ لِأَن
الْكفْر والفسوق عرضة للكذب والتحريف، وَالْإِسْلَام
وَالْعَدَالَة يمنعانه، وَأَيْضًا: لَو لم يشْتَرط ذَلِك لأفاد
إِخْبَار النَّصَارَى بقتل الْمَسِيح وَهُوَ بَاطِل بِنَصّ
الْقُرْآن بقوله تَعَالَى: {وَقَوْلهمْ إِنَّا قتلنَا
الْمَسِيح وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم}
[النِّسَاء: 157] ، وبالإجماع.
وَالْجَوَاب: منع حُصُول شَرط التَّوَاتُر للاختلال فِي
الأَصْل، أَي: الطَّبَقَة الأولى لكَوْنهم لم يبلغُوا عدد
التَّوَاتُر؛ وَلِأَنَّهُم رَأَوْهُ من بعيد، أَو بعد صلبه
فَشبه لَهُم، وللاختلال فِي الْوسط، أَي: قُصُور الناقلين عَن
(4/1796)
عدد التَّوَاتُر، وَفِي شَيْء مِمَّا
بَينهم وَبَين الناقلين إِلَيْنَا من عدد التَّوَاتُر؛
وَلذَلِك نعلم أَن أهل قسطنطينية لَو أخبروا بقتل ملكهم حصل
الْعلم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: من شُرُوط التَّوَاتُر اشْتِرَاط
الْعَدَالَة، وَإِلَّا فقد أخبر الإمامية بِالنَّصِّ على
إِمَامَة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَلم تقبل أخبارهم مَعَ
كثرتهم لفسقهم.
وَمِنْهَا: اشْتِرَاط الْإِسْلَام، وَإِلَّا فقد أخبر
النَّصَارَى مَعَ كثرتهم بقتل عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام -، وَلم يَصح ذَلِك لكفرهم.
وَجَوَابه فيهمَا: أَن عدد التَّوَاتُر فِيمَا ذكر لَيْسَ فِي
كل طبقَة فقد قتل بخْتنصر النَّصَارَى حَتَّى لم يبْق مِنْهُم
إِلَّا دون عدد التَّوَاتُر.
(4/1797)
قَالَ: وَاعْلَم أَن كَلَام الْآمِدِيّ
يُوهم أَن الشطرين لِلْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَة وَاحِد،
وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِلَّا فَكَانَ الإقتصار على الْعَدَالَة
كَافِيا. انْتهى.
وَقَالَ قوم: ذَلِك {إِن طَال الزَّمن} ، يَعْنِي: يشْتَرط
الْإِسْلَام وَالْعَدَالَة إِن طَال الزَّمن وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَشرط طوائف من الْفُقَهَاء: أَن لَا
يحويهم بلد، وَلَا يحصيهم عدد} ، وَهُوَ بَاطِل؛ لِأَن أهل
الْجَامِع لَو أخبروا عَن سُقُوط الْمُؤَذّن عَن المنارة، أَو
الْخَطِيب عَن الْمِنْبَر لَكَانَ إخبارهم مُفِيدا للْعلم فضلا
عَن أهل بلد.
{وَشرط قوم اخْتِلَاف النّسَب وَالدّين والوطن} ؛ لتندفع
(4/1798)
التُّهْمَة، وَهُوَ أَيْضا بَاطِل؛ لِأَن
التُّهْمَة لَو حصلت لم يحصل الْعلم، سَوَاء كَانُوا على دين
وَاحِد وَمن نسب وَاحِد فِي وَطن وَاحِد، أَو لم يَكُونُوا
كَذَلِك، وَإِن ارْتَفَعت حصل الْعلم كَيفَ كَانُوا.
وشرطت الشِّيعَة وجود الْمَعْصُوم فِي المخبرين؛ لِئَلَّا
يتفقوا على الْكَذِب، وَهُوَ بَاطِل؛ لِأَن الْمُفِيد
حِينَئِذٍ قَول الْمَعْصُوم، لَا خبر أهل التَّوَاتُر، كَمَا
قَالُوا فِي " الْإِجْمَاع ".
{وَشرط قوم إخبارهم طَوْعًا} ، وَهُوَ بَاطِل أَيْضا؛ فَإِن
الصدْق لَا يمْتَنع حُصُول الْعلم بِهِ، وَإِلَّا فَاتَ
الشَّرْط.
وَشرط المرتضى من الشِّيعَة - وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم الموسوي
- {عدم اعْتِقَاد نقيض الْمخبر} ، قَالَ: لِأَن اعْتِقَاد
النقيض محَال، والطارئ أَضْعَف من المستقر فَلَا يرفعهُ،
وَهُوَ بَاطِل أَيْضا؛ بل يحصل سَوَاء كَانَ السَّامع
(4/1799)
يعْتَقد نقيض الْمخبر بِهِ أَو لَا، فَلَا
يتَوَقَّف الْعلم على ذَلِك، وَتقدم فِي مَسْأَلَة كَون
الْحَاصِل بِهِ ضَرُورِيًّا أَو نظرياً، إِن من قَالَ:
نَظَرِي، شَرط سبق الْعلم بِجَمِيعِ ذَلِك، وَمن قَالَ:
ضَرُورِيّ، فَلَا.
وَضَابِط الْعلم بحصولها عِنْد حُصُول الْعلم بالْخبر؛ لِأَن
ضَابِط حُصُول الْعلم بِهِ سبق حُصُول الْعلم بهَا.
وشرطت الْيَهُود وجود أهل الذلة فِي المخبرين دفعا لتواطؤهم
على الْكَذِب؛ لِأَن أهل الْعِزَّة لَا خوف عَلَيْهِم فَيجوز
أَن يجترئوا على الْكَذِب، وَأهل الذلة أهل خوف فَلَا يجترئون
على الْكَذِب، وَهُوَ فَاسد؛ لِأَن أهل الذلة لخستهم لَا
ينتهون عَن الْكَذِب، وَأهل الْعِزَّة لشرفهم لَا يقدمُونَ على
الْكَذِب.
وَيَأْتِي فِي أثْنَاء خبر الْوَاحِد أَنه يمْتَنع كتمان أهل
التَّوَاتُر مَا يحْتَاج إِلَى نَقله، كامتناع الْكَذِب على
عدد التَّوَاتُر عَادَة، وَغَيره من الْمسَائِل يذكرهَا بَعضهم
هُنَا.
(4/1800)
قَوْله: {فصل}
ابْن الْبَنَّا، والموفق، والطوفي، وَجمع: {خبر الْوَاحِد مَا
عدا التَّوَاتُر} .
لما فَرغْنَا من أَحْكَام الْخَبَر الْمُتَوَاتر شرعنا نبين
أَحْكَام خبر الْآحَاد، فالآحاد جمع أحد، كبطل وأبطال، وهمزة
أحد مبدلة من وَاو الْوَاحِد، فَأصل آحَاد أأحاد بهمزتين أبدلت
الثَّانِيَة ألفا ك " آدم ".
فالأخبار قِسْمَانِ: تَوَاتر، وآحاد، لَا غير. قَالَه ابْن
الْبَنَّا فِي الْعُقُود والخصال، والموفق، والطوفي، وَجمع
كثير: ... ... ... ... ... ... . .
(4/1801)
فَلَا وَاسِطَة بَينهمَا، فالآحاد قسيم
التَّوَاتُر.
فخبر الْوَاحِد مَا لم ينْتَه إِلَى رُتْبَة التَّوَاتُر
إِمَّا بِأَن يرويهِ من هُوَ دون الْعدَد الَّذِي لَا بُد
مِنْهُ فِي التَّوَاتُر - على الْخلاف فِيهِ -، أَو يرويهِ عدد
التَّوَاتُر وَلَكِن لم ينْتَهوا إِلَى إِفَادَة الْعلم
باستحالة تواطؤهم على الْكَذِب، أَو لم يكن ذَلِك فِي كل
الطَّبَقَات، أَو كَانَ، وَلَكِن لم يخبروا عَن محسوس - على
القَوْل باشتراطه فِي التَّوَاتُر -، أَو غير ذَلِك مِمَّا
يعْتَبر فِي الْمُتَوَاتر.
فالآحاد هُوَ الَّذِي لَا يُفِيد الْعلم وَالْيَقِين.
فَلَا يقصرون اسْم الْآحَاد على مَا يرويهِ الْوَاحِد، كَمَا
هُوَ حَقِيقَة فِيهِ، بل يُرِيدُونَ بِهِ مَا لَا يُفِيد
الْعلم، وَلَو كَانَ من عدد كثير، وَلَو أَفَادَ خَبرا، وَلَو
أَفَادَ خبر الْوَاحِد الْعلم بانضمام قَرَائِن، أَو بالمعجزة
فَلَيْسَ مِنْهُ اصْطِلَاحا، فاصطلاحهم مُخَالف للغة طرداً
(4/1802)
وعكساً.
قَالَ يُوسُف الْجَوْزِيّ: خبر الْوَاحِد مَا نَقله وَاحِد عَن
وَاحِد، أَو تخَلّل رِوَايَة الكثيرين وَاحِد. انْتهى.
{وَقيل: مَا أَفَادَ الظَّن} . يَعْنِي قيل: إِن خبر الْوَاحِد
مَا أَفَادَ الظَّن {وَنقض طرداً وعكساً} ، فنقض طرداً
بِالْقِيَاسِ، وعكساً بِمَا لَا يُفِيد ظنا من الْأَخْبَار.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: كَيفَ، وَالظَّن يُطلق على الْعلم، وصيانة
للحد عَن الْمُشْتَرك مَا حَده.
وَأجِيب بِمَنْع الِاشْتِرَاك، بل هُوَ فِي الظَّن مجَاز،
وَلَا يرد الْخَبَر الْوَاحِد المحتف بالقرائن المفيدة للْقطع؛
لِأَن الإفادة بالانضمام.
(4/1803)
{وَقَالَ الْآمِدِيّ، وَأَبُو مُحَمَّد
الْجَوْزِيّ، وَابْن حمدَان، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن
قَاضِي الْجَبَل، وَنسبه إِلَى الْأَصْحَاب وَغَيرهم: من
الْآحَاد} مَا يُسمى {مستفيضاً مَشْهُورا} ، فخبر الْآحَاد
نَوْعَانِ: آحَاد، ومستفيض.
قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: وَمِنْه المستفيض، وَهُوَ
الشَّائِع عَن أصل وَقد يُسمى مَشْهُورا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: أرجح الْأَقْوَال وأقواها أَن الْمَشْهُور
قسم من الْآحَاد، وَيُسمى أَيْضا: المستفيض.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي " الْحَاوِي ": والأستاذ أَبُو
إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ
(4/1804)
وَجمع: إِنَّه قسم ثَالِث غير الْمُتَوَاتر
والآحاد. نَقله الْبرمَاوِيّ.
وَنقل ابْن مُفْلِح وَغَيره أَن الْأُسْتَاذ أَبَا إِسْحَاق،
وَابْن فورك ذكرُوا المستفيض الْمَشْهُور، وَأَنه يُفِيد
الْعلم النظري.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَقَالَ ابْن فورك: المستفيض يُفِيد
الْقطع، فَجعله من أَقسَام الْمُتَوَاتر. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَذهب أَبُو بكر الصَّيْرَفِي، والقفال
الشَّاشِي إِلَى أَنه والمتواتر بِمَعْنى وَاحِد.
وَاخْتَارَ ابْن الصّباغ وَغَيره: لابد أَن يكون سَماع
المستفيض من عدد يمْتَنع تواطؤهم على الْكَذِب.
(4/1805)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهُوَ أشبه بِكَلَام
الشَّافِعِي. انْتهى.
وَقيل: إِن الْمَشْهُور أَعم من الْمُتَوَاتر، وَهِي طَريقَة
الْمُحدثين.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَمعنى الشُّهْرَة مَفْهُوم، ثمَّ اخْتلف
الْقَائِل بِأَن مِنْهُ مستفيض، فَالْأَصَحّ أَنه مَا زَاد
نقلته على ثَلَاثَة فَلَا بُد أَن يكون أَرْبَعَة فَصَاعِدا
مَا لم يتواتر.
وَهُوَ اخْتِيَار الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجمع من
أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَقطع بِهِ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع
".
وَقيل: مَا زَاد نقلته على اثْنَيْنِ، فَلَا بُد أَن يَكُونُوا
ثَلَاثَة فَأكْثر.
وَقيل: مَا زَاد نقلته على وَاحِد، فَلَا بُد أَن يَكُونُوا
اثْنَيْنِ فَصَاعِدا.
(4/1806)
اخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَأَبُو
إِسْحَاق، وَأَبُو حَاتِم الْقزْوِينِي، وَإِلَيْهِ ميل أبي
الْمَعَالِي.
وَقيل: ماعد شَائِعا. قَالَه فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره:
وَهُوَ الشَّائِع عَن أصل.
{وَقَالَ} الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بن يُوسُف بن {الْجَوْزِيّ}
: وَهُوَ {مَا ارْتَفع عَن ضعف الْآحَاد، وَلم يلْحق بِقُوَّة
التَّوَاتُر} فَلم يخص بِعَدَد، بل إِذا وجدت هَذِه الصّفة
كَانَ مستفيضاً.
(4/1807)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد، وَالْأَكْثَر: خبر الْوَاحِد الْعدْل يُفِيد الظَّن
فَقَط} .
هَذَا هُوَ الصَّحِيح عَن الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه،
وَالْأَكْثَر من الْعلمَاء - أَيْضا - غَيرهم، لاحْتِمَال
السَّهْو والغلط وَنَحْوهمَا، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد
فِي رِوَايَة الْأَثْرَم، وَأَنه يعْمل بِهِ، وَلَا يشْهد أَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَه.
(4/1808)
وَأطلق ابْن عبد الْبر، وَجَمَاعَة أَنه
قَول جُمْهُور أهل الْفِقْه، والأثر وَالنَّظَر؛ لِأَنَّهُ لَو
أَفَادَ الْعلم لتناقض معلومان عِنْد إِخْبَار عَدْلَيْنِ
بمتناقضين فَلَا يتعارض خبران ولثبتت نبوة مدعي النُّبُوَّة
بقوله بِلَا معْجزَة، ولكان كالمتواتر فيعارض بِهِ
الْمُتَوَاتر، وَيمْتَنع التشكيك بِمَا يُعَارضهُ، وَكذبه،
وسهوه، وغلطه، وَلَا يتزايد بِخَبَر ثَان، وثالث، ويخطئ من
خَالفه بِاجْتِهَاد، وَذَلِكَ خلاف الْإِجْمَاع.
وَعَن الإِمَام أَحْمد، وَاخْتَارَهُ طَائِفَة من الْمُحدثين،
وَابْن أبي مُوسَى، وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم أَنه
يُفِيد الْعلم.
قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة حَنْبَل أَخْبَار
الرُّؤْيَة حق نقطع على الْعلم بهَا.
(4/1809)
وَقَالَ لَهُ الْمروزِي: هُنَا إِنْسَان
يَقُول الْخَبَر يُوجب عملا، وَلَا يُوجب علما فعابه وَقَالَ:
لَا أَدْرِي مَا هَذَا.
وَفِي كتاب " الرسَالَة ": عَن أَحْمد: لَا تشهد على أحد من
أهل الْقبْلَة أَنه فِي النَّار إِلَّا أَن يكون فِي حَدِيث
كَمَا جَاءَ نصدقه ونعلم أَنه كَمَا جَاءَ.
قَالَ القَاضِي: ذهب إِلَى هَذَا جمَاعَة من الْأَصْحَاب أَنه
يُفِيد الْعلم.
وَذكره فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد " عَن أَصْحَابنَا، وَجزم
بِهِ ابْن أبي مُوسَى، وَقَالَهُ كثير من أهل الْأَثر، وَبَعض
أهل النّظر، والظاهرية، وَابْن خويزمنداد الْمَالِكِي، وَأَنه
يخرج على مَذْهَب مَالك، وَهُوَ قَول
(4/1810)
الْكَرَابِيسِي، وَحمل بَعضهم كَلَام
أَحْمد على أَنه أَرَادَ الْخَبَر الْمَشْهُور، وَهُوَ الَّذِي
صحت لَهُ أَسَانِيد مُتعَدِّدَة سَالِمَة عَن الضعْف
وَالتَّعْلِيل، فَإِنَّهُ يُفِيد الْعلم النظري، لكنه لَا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل أحد، بل إِلَى الْحَافِظ المتبحر.
قَوْله: {تَنْبِيه: ظَاهر الأول وَلَو مَعَ قرينَة} ، يَعْنِي:
أَن الْخلاف الْمُتَقَدّم يعم مَا إِذا وجد قرينَة تدل على
صدقه أَو لَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَذكره جمَاعَة قَول
الْأَكْثَر. يَعْنِي: أَن خبر الْوَاحِد لَا يُفِيد الْعلم
وَلَو مَعَ قرينَة، وَقَالَهُ طَائِفَة من الْعلمَاء.
(4/1811)
قَالَ الْحَارِث المحاسبي فِي كتاب " فهم
السّنَن ": هُوَ قَول أَكثر أهل الحَدِيث من أهل الرَّأْي
وَالْفِقْه.
وَقَالَ الشَّيْخ موفق الدّين، وَالسيف الْآمِدِيّ، وَابْن
حمدَان، والطوفي، وَجمع كثير، مِنْهُم: الرَّازِيّ، والبيضاوي،
وَابْن الْحَاجِب، والنظام، وَنَقله ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن
الْجُوَيْنِيّ، وَالْغَزالِيّ: أَنه يُفِيد الْعلم بالقرائن،
وَنَقله غَيره عَنْهُمَا.
وَهَذَا أظهر وَأَصَح، لَكِن قَالَ الْمَاوَرْدِيّ:
الْقَرَائِن لَا يُمكن أَن
(4/1812)
تضبط بِعِبَارَة. وَقَالَ غَيره: يُمكن أَن
تضبط بِمَا تسكن إِلَيْهِ النَّفس كسكونها إِلَى الْمُتَوَاتر،
أَو قريب مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يبْقى فِيهِ احْتِمَال عِنْده.
وَمن الْقَرَائِن المفيدة للْقطع: الْإِخْبَار بِحَضْرَتِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يُنكره - على مَا
يَأْتِي، أَو بِحَضْرَة جمع يَسْتَحِيل تواطؤهم على الْكَذِب،
وَنَحْوه.
قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين: الْقَرَائِن قد تفِيد الْعلم
بِلَا إِخْبَار.
قَوْله: {وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ} من أَصْحَابنَا وَغَيرهم:
{لَو نَقله آحَاد الْأَئِمَّة الْمُتَّفق على عدالتهم،
وَدينهمْ من طرق مُتَسَاوِيَة، وتلقي بِالْقبُولِ أَفَادَ
الْعلم، مِنْهُم القَاضِي} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا {وَقَالَ:
هَذَا الْمَذْهَب} ،
(4/1813)
{و} مِنْهُم {أَبُو الْخطاب} من أَئِمَّة
أَصْحَابنَا، {وَقَالَ: هَذَا ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا} ،
وَلم يحك فِيهِ خلافًا.
{و} مِنْهُم {ابْن الزَّاغُونِيّ وَالشَّيْخ} تَقِيّ الدّين،
وَقَالَ: وَالَّذِي عَلَيْهِ الأصوليون من أَصْحَاب أبي
حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد أَن خبر الْوَاحِد إِذا
تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ، وَعَملا بِهِ
يُوجب الْعلم، إِلَّا فرقة قَليلَة تبعوا طَائِفَة من أهل
الْكَلَام أَنْكَرُوا ذَلِك.
وَالْأول ذكره أَبُو إِسْحَاق، وَأَبُو الطّيب، وَذكره عبد
الْوَهَّاب وَأَمْثَاله من الْمَالِكِيَّة، والسرخسي
وَأَمْثَاله من الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ الَّذِي
(4/1814)
عَلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء، وَأهل
الحَدِيث، وَالسَّلَف، وَأكْثر الأشعرية، وَغَيرهم. انْتهى.
وَقَالَ: إِن هَؤُلَاءِ اخْتلفُوا: هَل يشْتَرط علمهمْ
بِصِحَّتِهِ قبل الْعَمَل؟ على قَوْلَيْنِ، وَقَالَ ابْن عقيل،
وَابْن الْجَوْزِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني،
وَأَبُو حَامِد، وَابْن برهَان، وَالْفَخْر الرَّازِيّ،
والآمدي، وَغَيرهم: لَا يُفِيد الْعلم مَا نَقله آحَاد
الْأَئِمَّة الْمُتَّفق عَلَيْهِم إِذا تلقي بِالْقبُولِ.
حَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن أَكثر هَؤُلَاءِ
الْجَمَاعَة.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: مَا أسْندهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم
الْعلم اليقيني النظري وَاقع بِهِ خلافًا لقَوْل من نفى ذَلِك
محتجاً بِأَنَّهُ لَا يُفِيد فِي أَصله إِلَّا الظَّن،
وَإِنَّمَا تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ؛ لِأَنَّهُ يجب
عَلَيْهِم الْعَمَل بِالظَّنِّ، وَالظَّن قد يُخطئ.
(4/1815)
قَالَ: وَقد كنت أميل إِلَى هَذَا،
وَأَحْسبهُ قَوِيا، ثمَّ بَان لي أَن الْمَذْهَب الَّذِي
اخترناه أَولا هُوَ الصَّحِيح؛ لِأَن ظن من هُوَ مَعْصُوم من
الْخَطَأ لَا يُخطئ، وَالْأمة فِي إجماعها معصومة من الْخَطَأ.
وَقد سبقه إِلَى ذَلِك مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي،
وَأَبُو نصر عبد الرَّحِيم ابْن عبد الْخَالِق بن يُوسُف.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَخَالف ابْن الصّلاح الْمُحَقِّقُونَ،
وَالْأَكْثَرُونَ وَقَالُوا: يُفِيد الظَّن مَا لم يتواتر.
انْتهى.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ: أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ
يفِيدهُ عملا لَا قولا.
قَوْله: {فَائِدَة: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... . .
(4/1816)
أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَغَيرهم،
وَحكي إِجْمَاعًا يعْمل بِهِ فِي الْأُصُول} - أَعنِي أصُول
الدّين -، وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر إِجْمَاعًا.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَا نتعدى الْقُرْآن والْحَدِيث.
{و} قَالَ {القَاضِي} أَبُو يعلى: يعْمل بِهِ فِيهَا {فِيمَا
تَلَقَّتْهُ} الْأمة بِالْقبُولِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الإِمَام
أَحْمد: قد تلقتها الْعلمَاء بِالْقبُولِ.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: مَذْهَب الْحَنَابِلَة أَن
أَخْبَار الْآحَاد المتلقاة بِالْقبُولِ تصلح لإِثْبَات أصُول
الديانَات، ذكره القَاضِي أَبُو يعلى فِي مُقَدّمَة "
الْمُجَرّد "، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " عقيدته ".
انْتهى.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا: لَا يعْمل
بِهِ
(4/1817)
فِيهَا، وَقد تقدم قَرِيبا أَنه لَا يُفِيد
الْعلم، وَإِنَّمَا يُفِيد الظَّن؛ لِأَن طريقها الْعلم وَلَا
يفيدها خبر الْآحَاد.
وَبنى الْبرمَاوِيّ وَغَيره الْمَسْأَلَة على أَنه يُفِيد
الْعلم أَو لَا؟ إِن قُلْنَا: يُفِيد الْعلم عمل بِهِ فِيهَا،
وَإِلَّا فَلَا.
قَوْله: {وَلَا يكفر منكره فِي الْأَصَح} . أَي: لنا فِي
تَكْفِير مُنكر خبر الْآحَاد وَجْهَان حَكَاهُمَا ابْن حَامِد
عَن الْأَصْحَاب، وَنقل تكفيره عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه.
وَالْخلاف مَبْنِيّ على الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ يُفِيد
الْعلم، أَو لَا، فَإِن قُلْنَا يُفِيد الْعلم كفر منكره،
وَإِلَّا فَلَا، ذكره الْبرمَاوِيّ، وَغَيره، وَهُوَ
الظَّاهِر، لَكِن التَّكْفِير بمخالفة الْمجمع عَلَيْهِ لابد
أَن يكون مَعْلُوما من الدّين بِالضَّرُورَةِ - كَمَا سبق آخر
الْإِجْمَاع - فَهَذَا أولى؛ إِذْ لَا يلْزم من
(4/1818)
الْقطع أَن يكفر منكره.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَن أصل الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة لَفْظِي،
وَالصَّحِيح خلاف ذَلِك، وَأَن للْخلاف فَوَائِد: مِنْهَا:
الْخلاف فِي تَكْفِير منكره، وَمِنْهَا: قبُوله فِي أصُول
الدّين إِن قُلْنَا يُفِيد الْعلم قبل وَإِلَّا فَلَا.
(4/1819)
قَوْله: {فصل}
{إِذا أخبر وَاحِد بِحَضْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَلم يُنكر، دلّ على صدقه ظنا، فِي ظَاهر كَلَام
أَصْحَابنَا، وَغَيرهم} ، قَالَه ابْن مُفْلِح، {وَاخْتَارَهُ
الْآمِدِيّ وَغَيره لتطرق الِاحْتِمَال} .
لاحْتِمَال أَنه مَا سَمعه، أَو مَا فهمه، أَو أَخّرهُ لأمر
يُعلمهُ، أَو بَينه قبل ذَلِك الْوَقْت وَنَحْوه.
{وَقيل:} يدل على صدقه {قطعا} ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُقرر الْبَاطِل.
وَقيل: إِن كَانَ الْأَمر دينياً دلّ على صدقه؛ لِأَنَّهُ بعث
شَارِعا للْأَحْكَام فَلَا يسكت عَمَّا يُخَالف الشَّرْع
بِخِلَاف الدنيوي؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لم يبْعَث لبَيَان الدنيويات، قَالَه فِي "
الْمَحْصُول ".
(4/1820)
قَوْله: {وَكَذَا لَو أخبر وَاحِد
بِحَضْرَة جمع عَظِيم، وَلم يكذبوه} .
إِذا أخبر وَاحِد بِحَضْرَة جمع عَظِيم وسكتوا عَن تَكْذِيبه
فَفِيهِ الْخلاف، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ والرازي: لَا يُفِيد
إِلَّا الظَّن؛ إِذْ رُبمَا خَفِي عَلَيْهِم حَال ذَلِك
الْخَبَر، وَالْقَوْل بِأَنَّهُ يبعد خفاؤه لَا يُفِيد الْقطع
وَهُوَ ظَاهر، وَقدمه ابْن مُفْلِح وَنَصره.
{وَقيل: إِن علم أَنه لَو كَانَ كَاذِبًا لعلموه، وَلَا دَاعِي
إِلَى السُّكُوت، علم صدقه} ، قطع بِهِ ابْن الْحَاجِب فِي "
مُخْتَصره "، وَتَبعهُ جمَاعَة.
ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه لم يُعلمهُ إِلَّا وَاحِد
أَو اثْنَان، وَالْعَادَة لَا تحيل سكوتهما، ثمَّ يحْتَمل
مَانع.
(4/1821)
وَحمل القَاضِي الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي
إِفَادَة خبر الْعدْل الْعلم على صور مِنْهَا: هَاتَانِ
الصورتان المتقدمتان، وَهُوَ إِخْبَار وَاحِد بِحَضْرَتِهِ،
أَو بِحَضْرَة جمع عَظِيم، نَقله ابْن مُفْلِح.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: إِذا أخبر وَاحِد بِشَيْء بِحُضُور
خلق كثير وَلم يكذبوه، فَإِن كَانَ مِمَّا يحْتَمل أَن لَا
يعلموه مثل حَدِيث غَرِيب لَا يقف عَلَيْهِ إِلَّا الْأَفْرَاد
لم يدل على صدقه أصلا.
وَإِن كَانَ مِمَّا لَو كَانَ لعلموه فَإِن كَانَ مِمَّا يجوز
أَن يكون لَهُم حَامِل على السُّكُوت من خوف أَو غَيره، لم يدل
أَيْضا، وَإِن علم أَنه لَا حَامِل لَهُم عَلَيْهِ فَهُوَ يدل
على صدقه قطعا.
لنا: أَن سكوتهم، وَعدم تكذيبهم مَعَ علمهمْ بِالْكَذِبِ فِي
مثله مُمْتَنع عَادَة، وَلَا يُقَال: لَعَلَّهُم مَا علمُوا،
أَو علمه بَعضهم أَو جَمِيعهم وسكتوا؛ لأَنا نقُول: ذَلِك
مَعْلُوم الانتفاء بِالْعَادَةِ. انْتهى.
قَوْله: {قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {وَمِنْه مَا تَلقاهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقبُولِ كإخباره
عَن تَمِيم الدَّارِيّ} فِي قصَّة الْجَسَّاسَة - وَهُوَ فِي "
صَحِيح
(4/1822)
مُسلم " - فَإِنَّهُ صدقه، وَوَافَقَ مَا
كَانَ يخبر بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن
الدَّجَّال فَقبله.
{وَمِنْه: إِخْبَار شَخْصَيْنِ عَن قَضِيَّة يتَعَذَّر عَادَة
تواطؤهما عَلَيْهَا، أَو على كذب وَخطأ} ، قَالَه ابْن مُفْلِح
فِي " أُصُوله " مُقْتَصرا عَلَيْهِ من غير خلاف، وَالظَّاهِر
أَنه من تَتِمَّة كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين؛ فَإِنَّهُ
عقبه لكَلَامه وَلم نر هَذِه الْمَسْأَلَة فِي غير هَذَا
الْكتاب.
قَوْله: {وَيمْتَنع كتمان أهل التَّوَاتُر مَا يحْتَاج إِلَى
نَقله} ، كامتناع الْكَذِب على عدد التَّوَاتُر عَادَة، فِيهِ
مَسْأَلَتَانِ:
(4/1823)
الْمَسْأَلَة الأولى: كتمان أهل
التَّوَاتُر مَا يحْتَاج إِلَى نَقله مُمْتَنع، خلافًا للرافضة
حَيْثُ قَالُوا: لَا يمْتَنع ذَلِك لاعتقادهم كتمان النَّص على
إِمَامَة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَهَذَا وَالله لَا
يَعْتَقِدهُ مُسلم يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يكون
خير الْقُرُون الَّذين - رَضِي الله عَنْهُم - وَشهد لَهُم
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْجنَّةِ
وَقد أخبر الله تَعَالَى فِي كِتَابه عَنْهُم بِأَنَّهُ رَضِي
عَنْهُم، يعلمُونَ أَن الْإِمَامَة يَسْتَحِقهَا عَليّ - رَضِي
الله عَنهُ - ويكتمون ذَلِك فِيمَا بَينهم، وَيُوَلُّونَ
غَيره، هَذَا من أمحل الْمحَال الَّذِي لَا يرتاب فِيهِ مُسلم،
وَلَكِن هَذَا من بهت الرافضة عَلَيْهِم من الله مَا
يسْتَحقُّونَ وَأَن هَذَا فِي الْقبْح كتواطؤهم على الْكَذِب
وَهُوَ محَال عَلَيْهِم.
(4/1824)
واستدلت الرافضة لما ذَهَبُوا إِلَيْهِ
بِأَن النَّصَارَى وهم أَكثر أمة تركُوا نقل كَلَام الْمَسِيح
عَلَيْهِ السَّلَام فِي المهد مَعَ أَنه من أعجب حَادث حدث فِي
الأَرْض.
قُلْنَا: لِأَنَّهُ كَانَ قبل نبوته، واتباعهم لَهُ، وَظُهُور
أمره، وَلم يعن بذلك أحد، والدواعي إِنَّمَا تتوفر على نقل
أَعْلَام النُّبُوَّة، وَقد نقل أَن حاضري كَلَامه لم
يَكُونُوا كثيرين فاختل شَرط التَّوَاتُر فِي الطّرف الأول،
وَكَذَا فِي الْوسط كقصة بخْتنصر وَقَتله النَّصَارَى حَتَّى
لم يبْق مِنْهُم قدر عدد التَّوَاتُر.
قلت: وَفِي هَذَا الْأَخير نظر فِيمَا يظْهر.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: امْتنَاع الْكَذِب على عدد
التَّوَاتُر عَادَة، وَهُوَ مَمْنُوع فِي الْعَادة، وَإِن
كَانَ لَا يحيله الْعقل، وَهَذَا مَأْخَذ الْمَسْأَلَة
الْمُتَقَدّمَة فِي جَوَاز مَا يحْتَاج إِلَى نَقله؛ لِأَنَّهُ
إِذا جَازَ الْكَذِب فالكتمان أولى، وَالأَصَح عدم جَوَازه
عَادَة لَا لذاته، وَلَا يلْزم من فرض وُقُوعه محَال.
قَوْله: {فَلَو انْفَرد مخبر فِيمَا تتوفر الدَّوَاعِي على
نَقله، وَقد شَاركهُ خلق كثير فكاذب قطعا، خلافًا للشيعة}
فِيهِنَّ، مِثَال ذَلِك فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن
(4/1825)
ينْفَرد مخبر بِأَن ملك الْمَدِينَة قتل
عقب الْجُمُعَة وسط الْجَامِع، أَو قتل خطيبها على الْمِنْبَر،
فَإِنَّهُ يقطع بكذبه عِنْد الْجَمِيع من الْعلمَاء المعتبرين،
وَخَالف فِي ذَلِك الشِّيعَة.
لنا: الْكَذِب بِمثل هَذَا عَادَة فَإِنَّهَا تحيل السُّكُوت
عَنهُ، وَلَو جَازَ كِتْمَانه لجَاز الْإِخْبَار عَنهُ
بِالْكَذِبِ، وكتمان مثل مَكَّة، وبغداد وبمثله يقطع بكذب مدعي
مُعَارضَة الْقُرْآن، وَالنَّص على إِمَامَة عَليّ - رَضِي
الله عَنهُ - كَمَا تدعيه الشِّيعَة، كَمَا تقدم عَنْهُم.
وَلم تنقل شرائع الْأَنْبِيَاء لعدم الْحَاجة إِلَيْهَا، ونقلت
شَرِيعَة مُوسَى، وَعِيسَى لتمسك قوم بهما، وَلَا كَلَام
الْمَسِيح فِي المهد؛ لِأَنَّهُ قبل ظُهُوره، واتباعه - كَمَا
تقدم -، ومعجزات نَبينَا مَا كَانَت بِحَضْرَة خلق كثير
تواتراً وَلم يسْتَمر اسْتغْنَاء بِالْقُرْآنِ، وَإِلَّا فَلَا
يلْزم؛ لِأَنَّهُ نَقله من رَآهُ، وَمثل
(4/1826)
إِفْرَاد الْإِقَامَة وإفراد الْحَج، ومسخ
الْخُف، وَالرَّجم، لم يتْرك نَقله، فَمِنْهُ مَا تَوَاتر،
وَمَا لم يتواتر لم يكن بِحَضْرَة خلق، أَو لجَوَاز
الْأَمريْنِ، أَو اخْتِلَاف سَماع، أَو غير ذَلِك.
وَقَوْلهمْ: يجوز ترك النَّقْل لغَرَض أَو اعْتِرَاض رد
بِالْمَنْعِ لما سبق وَأَنه لَو جَازَ لجَاز كذبهمْ لذَلِك
لِأَنَّهُمَا قَبِيح.
(4/1827)
قَوْله: {فصل}
{يعْمل بِهِ فِي: الْفَتْوَى، وَالْحكم، وَالشَّهَادَة،
والأمور الدُّنْيَوِيَّة إِجْمَاعًا} ، أَي: بِخَبَر
الْوَاحِد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": يعْمل بِهِ
بِالْإِجْمَاع فِي ثَلَاثَة أَمَاكِن: فِي الْفَتْوَى، وَفِي
الحكم؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنى فَتْوَى وَزِيَادَة
التَّنْفِيذ بِشُرُوطِهِ الْمَعْرُوفَة، وَفِي الشَّهَادَة
سَوَاء شَرط الْعدَد أَو [لَا] لِأَنَّهُ لم يخرج عَن
الْآحَاد، وَفِي الرِّوَايَة فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة
كالمعاملات وَنَحْوهَا. انْتهى.
لَكِن قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": مَذْهَب كثير
مِمَّن قَالَ لَا يقبل خبر الْوَاحِد لَا يلْزم قبُول قَول مفت
وَاحِد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِمَّنْ صرح بِأَن الثَّلَاثَة الأول
مَحل وفَاق: الْقفال الشَّاشِي فِي كِتَابه وَالْمَاوَرْدِيّ،
وَالرُّويَانِيّ، وَابْن ... ... ... ... ...
(4/1828)
السَّمْعَانِيّ.
قَوْله: {وَيجوز الْعَمَل بهَا عقلا} ، هَذَا قَول جَمَاهِير
الْعلمَاء، وَخَالف فِيهِ قوم مِنْهُم: الجبائي، وَأكْثر
الْقَدَرِيَّة، وَبَعض الظَّاهِرِيَّة كالقاشاني، وَنَقله عَن
الجبائي ابْن الْحَاجِب، لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: الصَّحِيح
فِي النَّقْل عَنهُ تَفْصِيل يَأْتِي ذكره. انْتهى.
لَكِن هَل فِي الشَّرْع مَا يمنعهُ، أَو لَيْسَ فِيهِ مَا
يُوجِبهُ قَولَانِ.
وَلنَا: لَا يلْزم مِنْهُ محَال، وَلَيْسَ احْتِمَال الْكَذِب،
وَالْخَطَأ بمانع وَإِلَّا
(4/1829)
لمنع فِي الشَّاهِد، والمفتي، وَلَا يلْزم
الْأُصُول - لما سبق - فِي إفادته الْعلم، وَإِلَّا نقل
لقَضَاء الْعَادة فِيهِ بالتواتر، وَلَا التَّعَبُّد فِي
الْإِخْبَار عَن الله بِلَا معْجزَة؛ لِأَن الْعَادة تحيل صدقه
بِدُونِهَا وَلَا التَّنَاقُض بالتعارض؛ لِأَنَّهُ ينْدَفع
بالترجيح أَو التَّخْيِير أَو الْوَقْف، ثمَّ قُولُوا بالتعبد،
وَلَا تعَارض؛ وَلِأَن بِالْعَمَلِ بِهِ دفع ضَرَر مظنون
فَوَجَبَ أخذا بِالِاحْتِيَاطِ وقواطع الشَّرْع نادرة
فاعتبارها يعطل أَكثر الْأَحْكَام، وَالرَّسُول - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوث إِلَى الكافة،
ومشافهتهم، وإبلاغهم بالتواتر مُتَعَذر فتعينت الْآحَاد.
(4/1830)
وَالْمُعْتَمد فِي ذَلِك: أَن نصب
الشَّارِع علما ظنياً على وجوب فعل تكليفي جَائِز
بِالضَّرُورَةِ.
ثمَّ إِن الْمُنكر لذَلِك إِن أقرّ بِالشَّرْعِ فتعبده بالحكم،
والفتيا، وَالشَّهَادَة، وَالِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة،
وَالْوَقْت وَنَحْوهَا من الظنيات ينْقض قَوْله: وَإِلَّا
فَمَا ذَكرْنَاهُ قبل يُبطلهُ.
ثمَّ إِذا أقرّ بِالشَّرْعِ، وَعرف قَوَاعِده، ومبانيه وَافق،
وَالله أعلم.
قَوْله: {وَلَا يجب} ، أَي: لَا يجب الْعَمَل بِهِ عقلا،
وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
وَاخْتَارَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة "، وَأَبُو الْخطاب،
وَابْن سُرَيج،
(4/1831)
والقفال، والصيرفي، وَأَبُو الْحُسَيْن
المعتزلي: يجب عقلا لاحتياج النَّاس إِلَى بعض الْأَشْيَاء من
جِهَة الْخَبَر، وَفِي ترك ذَلِك أعظم الضَّرَر؛ وَلِأَن
الْعَمَل بِهِ يُفِيد دفع ضَرَر مظنون، فَكَانَ الْعَمَل بِهِ
وَاجِبا.
وَتَقَدَّمت أَدِلَّة الْجَوَاز بِمَا يدْخل بَعْضهَا فِي
أَدِلَّة الْوُجُوب، لَكِن الْبرمَاوِيّ نقل أَن بَعضهم
اسْتغْرب النَّقْل عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فِي الْوُجُوب
عقلا، وَأجَاب عَن ذَلِك، وَأول كَلَامهم بِمَا يَقْتَضِي
أَنهم لَا يوجبونه عقلا، وَنَقله أَيْضا عَن الإِمَام أَحْمد،
وَاعْتذر عَنهُ بأعذار عدَّة.
قَوْله: {وَيجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد سمعا فِي الْأُمُور
الدِّينِيَّة عندنَا، وَعند أَكثر الْعلمَاء} - مَحل الْخلاف
الْآتِي فِي وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فِي الْأُمُور
الدِّينِيَّة.
قَالَ القَاضِي: يجب عندنَا سمعا، وَقَالَهُ عَامَّة
(4/1832)
الْفُقَهَاء، والمتكلمين، وَهُوَ الصَّحِيح
الْمُعْتَمد عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف.
قَالَ ابْن الْقَاص: لَا خلاف بَين أهل الْفِقْه فِي قبُول خبر
الْآحَاد، فأصحاب هَذَا القَوْل اتَّفقُوا على أَن الدَّلِيل
السمعي دلّ عَلَيْهِ من الْكتاب، وَالسّنة، وَعمل الصَّحَابَة،
ورجوعهم كَمَا ثَبت ذَلِك بالتواتر.
لَكِن الجبائي اعْتبر لقبوله شرعا أَن يرويهِ اثْنَان فِي
جَمِيع طبقاته، أَو يعضد بِدَلِيل آخر كظاهر أَو انتشاره فِي
الصَّحَابَة أَو عمل بَعضهم بِهِ، كَحَدِيث أبي بكر فِي
تَوْرِيث الْجدّة؛ لِأَنَّهُ رد خبر الْمُغيرَة فِيهِ حَتَّى
شهد
(4/1833)
مَعَه مُحَمَّد بن سَلمَة، وَكَذَلِكَ عمر
رد قَول أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان حَتَّى وَافقه أَبُو
سعيد الْخُدْرِيّ.
وَالْجَوَاب: إِنَّمَا فعلا ذَلِك تثبتاً فِي قَضِيَّة
خَاصَّة؛ وَلذَلِك حكما فِي وقائع كَثِيرَة بأخبار الْآحَاد.
وَحكي عَن الجبائي أَيْضا؛ وَاخْتَارَهُ عبد الْجَبَّار
المعتزلي: يعْتَبر لقبوله فِي الزِّنَا أَن يرويهِ أَرْبَعَة،
فَلَا يحد بِخَبَر دَال على حد الزِّنَا [إِلَّا] أَن يرويهِ
أَرْبَعَة قِيَاسا على الشَّهَادَة بِهِ.
وَالْجَوَاب: هَذَا قِيَاس مَعَ الْفَارِق؛ إِذْ بَاب
الشَّهَادَة أحوط؛ وَلذَلِك أَجمعُوا على اشْتِرَاط الْعدَد
فِيهِ.
وَمنع قوم من قبُول أَخْبَار الْآحَاد مُطلقًا، مِنْهُم: ابْن
دَاوُد: وَبَعض
(4/1834)
الْمُعْتَزلَة، وَبَعض الْقَدَرِيَّة،
وَنسبه التَّاج السُّبْكِيّ إِلَى الظَّاهِرِيَّة.
وَكَذَلِكَ الرافضة، وناقضوا فأثبتوا تصدق عَليّ بِخَاتمِهِ
فِي الصَّلَاة وَنِكَاح الْمُتْعَة، والنقض بِأَكْل لحم
الْإِبِل، وَكلهَا إِنَّمَا ثَبت بِخَبَر الْآحَاد.
قَالَ ابْن الْقَاص: لَا خلاف بَين أهل الْفِقْه فِي قبُول خبر
الْآحَاد، وَإِنَّمَا دفع بعض أهل الْكَلَام خبر الْآحَاد
لعَجزه عَن السّنَن، زعم أَنه لَا يقبل مِنْهَا إِلَّا مَا
تَوَاتر، بِخَبَر من [لَا] يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط
وَالنِّسْيَان، وَهَذَا ذَرِيعَة إِلَى إبِْطَال السّنَن فَإِن
مَا شَرطه لَا يكَاد يُوجد إِلَيْهِ سَبِيل. انْتهى، وَهُوَ
كَمَا قَالَ.
(4/1835)
وَمنعه الْكَرْخِي من الْحَنَفِيَّة فِي
الْحُدُود لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
ادرأوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ " وَفِي خبر الْوَاحِد
شُبْهَة.
وَعبارَة أبي الْحُسَيْن فِي هَذَا القَوْل الْمَنْع فِيمَا
يَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ، وَذَلِكَ أَعم من أَن يكون حدوداً،
أَو غَيرهَا.
قَالَ: أَيْضا فَإِن الْكَرْخِي يقبله فِي إِسْقَاط الْحُدُود،
وَلَا يقبله فِي إِثْبَاتهَا.
وَأَجَابُوا عَن قَول الْكَرْخِي أَن معنى الشُّبْهَة لَيْسَ
احْتِمَال الْكَذِب، وَإِلَّا انْتقض بِالشَّهَادَةِ فِي
الْحُدُود لاحتمالها الْكَذِب.
وَمنعه قوم من الْحَنَفِيَّة فِي ابْتِدَاء النصب - أَي: نصب
الزَّكَاة - بِخِلَاف الزِّيَادَة عَلَيْهَا؛ وَلذَلِك أوجبوا
فِي الزِّيَادَة على خَمْسَة أوسق بحسابها بِخِلَاف السخال
الَّتِي مَاتَت أمهاتها؛ فَإِنَّهُم لم يوجبوا فِيهَا لكَونهَا
بعد موت الْأُمَّهَات
(4/1836)
مُعْتَبرَة اسْتِقْلَالا، وَهُوَ ضَعِيف
لشمُول الحَدِيث للْكُلّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْفرق عِنْدهم أَن ابْتِدَاء النصب
أصل، وَالزَّائِد فرع فَيقبل فِي النّصاب الزَّائِد على
خَمْسَة أوسق، وَلَا يقبل فِي ابْتِدَاء نِصَاب الفصلان
والعجاجيل؛ لِأَنَّهُ أصل. انْتهى.
وَمنعه قوم فِيمَا عمل الْأَكْثَر بِخِلَافِهِ، يَعْنِي إِذا
عمل أَكثر الْعلمَاء على خلاف خبر الْآحَاد، وَهُوَ مَرْدُود؛
لِأَن الْمُجْتَهد لَا يُقَلّد مُجْتَهدا فَيجوز أَن يكون عمل
الْأَكْثَر لِاتِّفَاق اجتهادهم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْحق أَن عمل الْأَكْثَر مُرَجّح بِهِ،
لَا مَانع. انْتهى.
وَمنعه الْمَالِكِيَّة إِذا خَالفه عمل أهل الْمَدِينَة،
يَعْنِي: إِذا خالفوا خبر الْآحَاد فعملوا على خِلَافه، فَإِذا
عمِلُوا بِخِلَافِهِ لم يقبله الْمَالِكِيَّة؛ وَلِهَذَا لم
يَقُولُوا بِخِيَار الْمجْلس الثَّابِت فِي " الصَّحِيحَيْنِ "
لمُخَالفَة أهل
(4/1837)
الْمَدِينَة.
وَمنعه أَكثر الْحَنَفِيَّة فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى أَو
خَالفه رَاوِيه، أَو عَارض الْقيَاس، فمما تعم بِهِ الْبلوى:
الْجَهْر بالبسملة، وَحَدِيث مس الذّكر؛ لِأَن مَا تعم بِهِ
الْبلوى تَقْتَضِي الْعَادة تواتره.
وَالْجَوَاب: منع قَضَاء الْعَادة، وَقَوْلنَا: أَو خَالفه
رَاوِيه؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَالفه لدَلِيل أقوى؛ وَلذَلِك لم
يوجبوا التسبيع فِي ... ... . .
(4/1838)
الولوغ لمُخَالفَة أبي هُرَيْرَة لروايته.
وَقَالَ صَاحب " البديع " مِنْهُم: إِذا خَالفه بعد
الرِّوَايَة، فَإِن خَالفه قبلهَا لم ترد، وَكَذَا إِذا جهل
التَّارِيخ.
وَقَوْلنَا: أَو عَارض الْقيَاس خَبره إِذا كَانَ فَقِيها؛
فَإِنَّهُ يدل على رُجْحَان كذبه.
فَعَن الْحَنَفِيَّة: لَا يقبل مَا عَارض الْقيَاس؛ وَلِهَذَا
ردوا خبر الْمُصراة، وَقَيده الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره
بِكَوْنِهِ عِنْد عدم فقه الرَّاوِي، فَإِن كَانَ فَقِيها
فَلَا ترد، وَلَو خَالف الْقيَاس.
(4/1839)
وَلَهُم قَول آخر فِي الْخَبَر الْمعَارض
للْقِيَاس: إِن عرفت عِلّة الْقيَاس بِنَصّ رَاجِح على
الْخَبَر الْمعَارض لَهُ، وَوجدت تِلْكَ الْعلَّة فِي الْفَرْع
قطعا، فَالْقِيَاس يقدم، وَإِن لم يكن وجود الْعلَّة فِي
الْفَرْع قَطْعِيا فالوقف، وَإِن انْتَفَى قَطْعِيَّة الْعلَّة
فِي الْفَرْع يقبل الْخَبَر كَحَدِيث الْمُصراة فَإِنَّهُ
مُخَالف لقياس ضَمَان الْمُتْلفَات.
وَيَأْتِي بعد مَا تذكر أَدِلَّة الْأَقْوَال كَلَام القَاضِي
وَأبي الْخطاب فِي الْمَسْأَلَة أَيْضا وتقييدها بِمَا
قَالُوا.
اسْتدلَّ لِلْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ قد كثر جدا قبُوله،
وَالْعَمَل بِهِ فِي الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ عملا
شَائِعا من غير نَكِير، يحصل بِهِ إِجْمَاعهم عَلَيْهِ عَادَة
قطعا، فَمِنْهُ: قَول أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ -
لما جَاءَتْهُ الْجدّة تطلب مِيرَاثهَا: مَالك فِي كتاب الله
شَيْء، وَمَا عملت لَك فِي سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا فارجعي حَتَّى أسأَل النَّاس،
فَسَأَلَ النَّاس، فَقَالَ الْمُغيرَة: حضرت رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهَا السُّدس،
فَقَالَ: مَعَك غَيْرك؟ فَقَالَ مُحَمَّد بن مسلمة مثله،
فأنفذه لَهَا أَبُو بكر. رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد،
وَابْن مَاجَه، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حسن
صَحِيح.
(4/1840)
وَاسْتَشَارَ عمر النَّاس فِي الْجَنِين،
فَقَالَ الْمُغيرَة، قضى فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بغرة عبد أَو أمة، فَقَالَ: لتأتين بِمن
يشْهد مَعَك، فَشهد لَهُ مُحَمَّد بن مسلمة. مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَلأبي دَاوُد من حَدِيث طَاوُوس عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ
-: (لَو لم نسْمع هَذَا لقضينا بِغَيْرِهِ) .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، وَسَعِيد من حَدِيث طَاوُوس أَنه
سَأَلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: حمل ابْن مَالك أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى فِيهِ بغرة، وَقَول
عمر ذَلِك وطاووس لم يُدْرِكهُ.
وَأخذ عمر بِخَبَر عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي أَخذ
الْجِزْيَة من الْمَجُوس. رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا يُورث الْمَرْأَة من دِيَة
زَوجهَا حَتَّى أخبرهُ
(4/1841)
الضَّحَّاك أَن رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتب إِلَيْهِ أَن يُورث
امْرَأَة أَشْيَم من دِيَة زَوجهَا، رَوَاهُ مَالك، وَأحمد،
وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ.
وروى هَؤُلَاءِ أَن عُثْمَان أَخذ بِخَبَر فريعة بنت مَالك
أُخْت أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن عدَّة الْوَفَاة فِي منزل
الزَّوْج.
(4/1842)
وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عمر: أَن
سَعْدا حَدثهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - مسح على الْخُفَّيْنِ، فَسَأَلَ ابْن عمر أَبَاهُ
عَنهُ، فَقَالَ: نعم، إِذا حَدثَك سعد عَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا تسْأَل عَنهُ غَيره.
[و] رَجَعَ ابْن عَبَّاس إِلَى خبر أبي سعيد فِي تَحْرِيم
رَبًّا الْفضل. رَوَاهُ الْأَثْرَم وَغَيره، وَقَالَهُ
التِّرْمِذِيّ وَغَيره.
وروى سعيد من طرق عدم رُجُوعه.
وتحول أهل قبَاء إِلَى الْقبْلَة وهم فِي الصَّلَاة بِخَبَر
وَاحِد، رَوَاهُ أَحْمد، وَمُسلم، وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث
أبي هُرَيْرَة، وَمَعْنَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث
ابْن عمر.
(4/1843)
وَقَالَ ابْن عمر: مَا كُنَّا نرى
بالمزارعة بَأْسا حَتَّى سَمِعت رَافع بن خديج يَقُول: نهى
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا،
فتركتها.
وَللشَّافِعِيّ، وَمُسلم عَن ابْن عمر: كُنَّا نخابر، فَلَا
نرى بذلك بَأْسا، فَزعم رَافع أَن نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَنهُ، فتركناه من أَجله.
وَكَانَ زيد بن ثَابت يرى أَن لَا تصدر الْحَائِض حَتَّى تَطوف
بِالْبَيْتِ،
(4/1844)
فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: سل فُلَانَة
الْأَنْصَارِيَّة، هَل أمرهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك؟ فَأَخْبَرته فَرجع زيد وَهُوَ
يضْحك فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاس: مَا أَرَاك إِلَّا صدقت.
رَوَاهُ مُسلم.
وَغير ذَلِك مِمَّا يطول.
لَا يُقَال: أَخْبَار آحَاد فَيلْزم الدّور؛ لِأَنَّهَا
متواترة كَمَا سبق فِي أَخْبَار الْإِجْمَاع، وَلَا يُقَال:
يحْتَمل أَن عَمَلهم بغَيْرهَا؛ لِأَنَّهُ محَال عَادَة، وَلم
ينْقل، بل الْمَنْقُول خِلَافه كَمَا سبق، والسياق يدل
عَلَيْهِ، وَلَا يُقَال: أنكر عمر خبر أبي مُوسَى فِي
الاسْتِئْذَان حَتَّى رَوَاهُ أَبُو سعيد. مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَخبر فَاطِمَة بنت قيس فِي المبتوتة: لَا سُكْنى لَهَا وَلَا
نَفَقَة. رَوَاهُ مُسلم.
(4/1845)
وَأنْكرت عَائِشَة خبر ابْن عمر فِي
تَعْذِيب الْمَيِّت ببكاء أَهله؛ لأَنهم قبلوه بموافقة غير
الرَّاوِي، وَلم يتواتر وَلَا يدل على عدم قبُوله لَو انْفَرد،
وَكَانَ عمر يفعل ذَلِك سياسة؛ وَلِهَذَا قَالَ لأبي مُوسَى:
لم أتهمك، خشيت أَن يتقول النَّاس، أَو للريبة؛ وَلِهَذَا
قَالَ عمر عَن خبر فَاطِمَة: كَيفَ نَتْرُك كتاب رَبنَا لقَوْل
امْرَأَة، حفظت أَو نسيت؟
وَقَالَت عَائِشَة عَن ابْن عمر: مَا كذب وَلكنه وهم، مُتَّفق
عَلَيْهِ، أَي: لم يتَعَمَّد.
وَلَا يُقَال عَمَلهم بهَا لكَونهَا أَخْبَار مَخْصُوصَة،
للْعلم بِأَن عَمَلهم لظُهُور صدقهَا لَا لخصوصها، كظاهر
الْكتاب، والمتواتر.
وَأَيْضًا تَوَاتر أَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم
السَّلَام كَانَ يبْعَث الْآحَاد إِلَى النواحي؛ لتبليغ
الْأَحْكَام مَعَ الْعلم بتكليف الْمَبْعُوث إِلَيْهِم
الْعَمَل بذلك.
وَلَا يُقَال: هَذَا من الْفتيا للعامي؛ لِأَن الِاعْتِمَاد
على كتبه مَعَ الْآحَاد إِلَى الْأَطْرَاف، وَمَا يَأْمر بِهِ
من قبض زَكَاة، وَغير ذَلِك، وَعمل الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ،
وتأسوا بِهِ، وَذَلِكَ مَقْطُوع.
(4/1846)
فَإِن قيل: قد بعث الْآحَاد إِلَى
الْمُلُوك فِي الْإِسْلَام، وَلَا يقبل فِيهِ وَاحِد.
رده بِالْمَنْعِ عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَفِي " الرَّوْضَة "
وَغَيرهَا: بَعثهمْ لتبليغ الرسَالَة، ورده أَبُو الْخطاب
بِأَن دعاءه إِلَى الْإِسْلَام انْتَشَر فِي الْآفَاق
فَدَعَاهُمْ للدخول فِيهِ على أَن ذَلِك طَرِيقه الْعقل، أَي:
وَبعث للتّنْبِيه على إِعْمَال فكر وَنظر، وَقَالَهُ بَعضهم.
وَاسْتدلَّ جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِمثل قَوْله
تَعَالَى: {إِن الَّذين يكتمون} [الْبَقَرَة: 159] ، {إِن
جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ} [الحجرات: 6] ، {فلولا نفر}
[التَّوْبَة: 122] الْآيَات.
وَاعْترض وَأجِيب بِمَا سبق فِي آيَات الْإِجْمَاع، ثمَّ يلْزم
الْمَنْع فِي قبُول الشَّاهِد والمفتي، والطبيب.
(4/1847)
وَاعْترض: بِخُصُوص هَذِه أَو عُمُوم
الرِّوَايَة. رد بِأَصْل الْفَتْوَى.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: مَذْهَب كثير من هَذِه الطَّائِفَة لَا
يلْزم قبُول قَول مفت وَاحِد. وَأما توقفه - عَلَيْهِ أفضل
الصَّلَاة وَالسَّلَام - عَن قبُول قَول ذِي الْيَدَيْنِ فِي
السَّلَام من الصَّلَاة عَن نقص حَتَّى أخبرهُ أَبُو بكر وَعمر
فَإِنَّهُ لَا يقبل فِيهِ وَاحِد.
ثمَّ للريبة لظُهُور الْغَلَط، ثمَّ لم يتواتر.
وَاحْتج الْقَائِل بِهِ عقلا بِأَن الْعَمَل بِالظَّنِّ فِي
تَفْصِيل جملَة علم وُجُوبهَا يجب عقلا كإخبار عدل بمضرة
شَيْء، وَقيام من تَحت حَائِط مائل يجب؛ لِأَنَّهُ فِي
تَفْصِيل مَا علم وُجُوبه وَهُوَ اخْتِيَار دفع المضار
وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث
للْمصَالح، وَدفع المضار فَالْخَبَر تَفْصِيل لَهَا.
رد: الْعقل لَا يحسن، ثمَّ لم يجب فِي الْعقلِيّ، بل هُوَ
أولى، وَإِن
(4/1848)
سلم عملا بِالْعَادَةِ، ولمعرفة الْمصلحَة
فِيهَا، وَظن الْمضرَّة بالمخالفة، منع فِي الشَّرْعِيّ لعدم
ذَلِك، وَإِن سلم فَهُوَ قِيَاس ظَنِّي فِي الْأُصُول، ثمَّ
الْمَسْأَلَة دليلها قَطْعِيّ عِنْد الْعلمَاء، وَعند
الْآمِدِيّ وَغَيره ظَنِّي وَسبق الْإِجْمَاع مثله فَهُنَا
أولى، وَالله أعلم.
قَوْله: فَقَالَ القَاضِي وَغَيره: إِن كَانَ للْعلم طَرِيق،
إِلَى آخِره: معنى ذَلِك أَن مَحل الْخلاف إِذا تعذر الْعلم
وَلم يتَوَصَّل إِلَيْهِ بطرِيق، فَأَما إِذا كَانَ للْعلم
طَرِيق فَاخْتلف فِي ذَلِك.
(4/1849)
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ":
فَأَما إِن كَانَ للْعلم طَرِيق لم يجز الْعَمَل بِخَبَر
الْوَاحِد، ذكره القَاضِي وَغَيره هُنَا.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا عَن أبي الْخطاب: إِن أمكنه سُؤَاله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكاجتهاده، واختياره لَا
يجوز، وَأَن بَقِيَّة أَصْحَابنَا القَاضِي، وَابْن عقيل: يجوز
إِن أمكنه سُؤَاله أَو الرُّجُوع إِلَى التَّوَاتُر محتجين
بِهِ فِي الْمَسْأَلَة.
وَذكر القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب الْمَسْأَلَة فِيمَا بعد،
وجزما بِالْجَوَازِ خلافًا لبَعْضهِم اكْتِفَاء بقول السعاة
وَغَيرهم، وَلَا يمْتَنع فِي الْأَحْكَام كَالْوضُوءِ بِمَاء
لَا قطع بِطَهَارَتِهِ وَعِنْده نهر مَقْطُوع بِطَهَارَتِهِ.
(4/1850)
وَكَذَا ذكر ابْن عقيل، وَفِي "
التَّمْهِيد " فِي كَون قَول الصَّحَابِيّ حجَّة: منع عدُول
مُتَمَكن من الْعلم إِلَى الظَّن، وَجوزهُ بَعضهم.
قَالَ: وَلَا يجوز؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز تعارضهما. انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": قَالَ أَبُو
الْخطاب: الحكم بِخَبَر الْوَاحِد عَن الرَّسُول - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن يُمكنهُ سُؤَاله مثل الحكم
بِاجْتِهَادِهِ واختياره، أَنه لَا يجوز. وَالَّذِي ذكره
بَقِيَّة أَصْحَابنَا القَاضِي وَابْن عقيل جَوَاز الْعَمَل
بِخَبَر الْوَاحِد لمن يُمكنهُ سُؤَاله أَو أمكنه الرُّجُوع
إِلَى التَّوَاتُر محتجين بِهِ فِي الْمَسْأَلَة بِمُقْتَضى
أَنه إِجْمَاع.
وَهَذَا مثل قَول بعض أَصْحَابنَا: إِنَّه لَا يعْمل بقول
الْمُؤَذّن مَعَ إِمْكَان الْعلم بِالْوَقْتِ، وَهَذَا القَوْل
خلاف مَذْهَب أَحْمد، وَسَائِر الْعلمَاء المعتبرين، وَخلاف
مَا شهِدت بِهِ النُّصُوص.
وَذكر فِي مَسْأَلَة منع التَّقْلِيد أَن المتمكن من الْعلم
لَا يجوز لَهُ الْعُدُول إِلَى الظَّن وَجعله مَحل وفَاق
وَاحْتج بِهِ فِي الْمَسْأَلَة. انْتهى.
(4/1851)
قَوْله " {فصل}
{للراوي شُرُوط} .
مِنْهَا: الْعقل إِجْمَاعًا؛ إِذْ لَا وازع لغير عَاقل يمنعهُ
عَن الْكَذِب؛ وَلَا عبارَة أَيْضا، كالطفل.
وَمِنْهَا: الْإِسْلَام إِجْمَاعًا لتهمة عَدَاوَة الْكَافِر
للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولشرعه.
وَمِنْهَا: الْبلُوغ عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم
من الْعلمَاء لاحْتِمَال كذب من لم يبلغ كالفاسق، بل أولى؛
لِأَنَّهُ غير مُكَلّف فَلَا يخَاف الْعقَاب.
(4/1852)
وَاسْتدلَّ أَيْضا بِعَدَمِ قدرته على
الضَّبْط، وَنقض بالمراهق.
وَبِأَنَّهُ لَا يقبل إِقْرَاره على نَفسه، وَهَهُنَا أولى.
وَنقض بالمحجور عَلَيْهِ، وَالْعَبْد.
وَرُوِيَ عَن الإِمَام أَحْمد أَن شَهَادَة الْمُمَيز تقبل،
وَعنهُ: ابْن عشر.
وَاخْتلف الصَّحَابَة والتابعون فِيهَا فههنا أولى.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: تتخرج فِيهِ رِوَايَتَانِ، كشهادته.
قَوْلهم يَصح الائتمام بِهِ بِنَاء على خَبره بِطَهَارَتِهِ
وأذانه لبالغ. رد بِالْمَنْعِ، ثمَّ لَا تقف صِحَة صَلَاة
الْمَأْمُوم على ذَلِك،
(4/1853)
وَفِيه نظر.
قَوْله: {فَائِدَة: لَو تحمل صَغِيرا عَاقِلا ضابطاً، وروى
كَبِيرا، قبل عِنْد الإِمَام أَحْمد} ، وَأكْثر الْعلمَاء؛
لإِجْمَاع الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ على قبُول مثل ابْن
عَبَّاس، وَابْن الزبير، وأشباههما، ولإسماع الصَّغِير،
وكالشهادة وَأولى.
ويتحمل كَافِرًا أَو فَاسِقًا ويروي مُسلما عدلا.
قَوْله: {وَمِنْهَا الضَّبْط} .
(4/1854)
من شُرُوط صِحَة الرِّوَايَة الضَّبْط
لِئَلَّا يُغير اللَّفْظ وَالْمعْنَى فَلَا يوثق بِهِ.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَا يَنْبَغِي لمن لَا يعرف الحَدِيث
أَن يحدث بِهِ.
وَالشّرط غَلَبَة ضَبطه وَذكره على سَهْوه لحُصُول الظَّن
إِذا. ذكره الْآمِدِيّ وَجَمَاعَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ
مُحْتَمل.
وَفِي " الْوَاضِح " لِابْنِ عقيل قَول أَحْمد وَقيل لَهُ:
مَتى يتْرك حَدِيث الرجل؟ قَالَ: إِذا غلب عَلَيْهِ الْخَطَأ.
وَذكر أَصْحَابنَا فِي الْفِقْه: لَا تقبل شَهَادَة مَعْرُوف
بِكَثْرَة غلط، وسهو، ونسيان، وَلم يذكرُوا هُنَا شَيْئا،
فَالظَّاهِر مِنْهُم التَّسْوِيَة.
(4/1855)
وَذكره جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم
قَالُوا: إِذا لم يحدث من أصل صَحِيح وَلِأَن أَئِمَّة
الحَدِيث تركُوا رِوَايَة كثير مِمَّن ضعف ضَبطه مِمَّن سمع
كَبِيرا ضابطاً.
قَوْله: {فَإِن جهل حَاله لم يقبل، ذكره الْمُوفق} فِي "
الرَّوْضَة " {وَغَيره} ؛ لِأَنَّهُ لَا غَالب لحَال الروَاة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِيه نظر: وَأَنه يحْتَمل مَا قَالَ
الْآمِدِيّ يحمل على غَالب حَال الروَاة.
فَإِن جهل حَالهم اعْتبر حَاله، فَإِن قيل: ظَاهر حَال الْعدْل
لَا يروي إِلَّا مَا يضبطه.
وَقد أنكر على أبي هُرَيْرَة الْإِكْثَار وَقبل.
رد: لكنه لَا يُوجب ظنا للسامع، وَلم يُنكر على أبي هُرَيْرَة
لعدم
(4/1856)
الضَّبْط، بل خيف ذَلِك لإكثاره.
فَإِن قيل: الْخَبَر دَلِيل، وَالْأَصْل صِحَّته فَلَا يتْركهُ
بِاحْتِمَال كاحتمال حدث بعد طَهَارَة.
رد: إِنَّمَا هُوَ دَلِيل مَعَ الظَّن، وَلَا ظن مَعَ تَسَاوِي
الْمعَارض، وَاحْتِمَال الْحَدث ورد على يَقِين الطُّهْر فَلم
يُؤثر.
قَوْله: {وَمِنْهَا الْعَدَالَة إِجْمَاعًا} لما سبق من
الْأَدِلَّة وَهُوَ كَاف.
قَوْله: {ظَاهرا، وَبَاطنا عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ
وَغَيرهمَا} .
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": يحْتَمل ظَاهرا
وَبَاطنا كَالشَّهَادَةِ.
وَذكره الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر، مِنْهُم: الشَّافِعِي
وَأحمد.
قلت: وَهَذَا الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء، وَعند
القَاضِي،
(4/1857)
وَابْن الْبَنَّا وَغَيرهمَا: تَكْفِي
الْعَدَالَة ظَاهرا للْمَشَقَّة، كَمَا قُلْنَا فِي
الشَّهَادَة، على رِوَايَة عَن أَحْمد، اخْتَارَهَا أَبُو بكر
عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا، وَصَاحب " رَوْضَة فقهنا ".
قلت: الْخلاف هُنَا ينْزع إِلَى الْمَسْأَلَة الْآتِيَة
قَرِيبا، وَهُوَ عدم [قبُول] رِوَايَة مَجْهُول الْحَال أَو
قبُولهَا.
قَوْله: {وَهِي صفة راسخة فِي النَّفس تحمل على مُلَازمَة
التَّقْوَى والمروءة} ، وَترك الْكَبَائِر، والرذائل {بِلَاد
بِدعَة مُغَلّظَة} .
الْعَدَالَة لُغَة: التَّوَسُّط فِي الْأَمر من غير زِيَادَة
وَلَا نُقْصَان.
وَقَوْلنَا: صفة راسخة فِي النَّفس المُرَاد بِالصّفةِ هِيَ
الملكة؛ لأَنهم فسروها بهَا فالملكة هِيَ الصّفة الراسخة فِي
النَّفس.
أما الْكَيْفِيَّة النفسانية فِي أول حدوثها قبل أَن ترسخ
فتسمى
(4/1858)
حَالا؛ وَلذَلِك عيب على صَاحب " البديع "
فِي تَعْبِيره بِأَن الْعَدَالَة هَيْئَة فِي النَّفس؛ لشمولها
الْحَال والملكة.
وَهَذِه الصّفة الراسخة فِي النَّفس تحمل صَاحبهَا على
مُلَازمَة التَّقْوَى، والمروءة، وَترك الْكَبَائِر والرذائل،
وَيَأْتِي حد الْكَبِيرَة وحقيقتها.
وَأما الرذائل الْمُبَاحَة فكالبول فِي الطَّرِيق، وَالْأكل
فِي مجامع الْأَسْوَاق، وَنَحْوه.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمقنع فِي الْفِقْه ": وَالْعَدَالَة
اسْتِوَاء أَحْوَاله فِي دينه واعتدال أَقْوَاله وأفعاله.
انْتهى.
{فَلَا يَأْتِي كَبِيرَة} لِلْآيَةِ فِي الْقَاذِف، وَقس
عَلَيْهِ الْبَاقِي من الْكَبَائِر.
{وَقَالَ أَصْحَابنَا} وَغَيرهم: {إِن قذف بِلَفْظ الشَّهَادَة
قبلت رِوَايَته} ؛ لِأَن نقص الْعدَد لَيْسَ من جِهَته.
(4/1859)
زَاد القَاضِي فِي " الْعدة ": وَلَيْسَ
بِصَرِيح فِي الْقَذْف، وَقد اخْتلفُوا فِي الْحَد، ويسوغ
فِيهِ الِاجْتِهَاد، وَلَا ترد الشَّهَادَة بِمَا يسوغ فِيهِ
الِاجْتِهَاد. وَكَذَا زَاد ابْن عقيل.
قَالَ الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ": وَأَبُو بكرَة وَمن شهد
مَعَه تقبل روايتهم؛ لأَنهم أخرجُوا ألفاظهم مخرج الْإِخْبَار،
لَا مخرج الْقَذْف، وجلدهم عمر بِاجْتِهَادِهِ.
وَجزم صَاحب " الْمُغنِي " برد شَهَادَته، وبفسقه؛ لقَوْل عمر
لأبي بكرَة: (إِن تبت قبلت شهادتك) .
احْتج بِهِ الإِمَام أَحْمد وَغَيره.
(4/1860)
{وَاتفقَ النَّاس على الرِّوَايَة عَن أبي
بكرَة} ، وَالْمذهب عِنْدهم: يحد. وَرُوِيَ عَن أَحْمد،
وَالشَّافِعِيّ: أَنه لَا يحد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: فَيتَوَجَّه من هَذِه الرِّوَايَة بَقَاء
عَدَالَته، وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة، {وَهُوَ معنى مَا جزم
بِهِ الْآمِدِيّ} ، وَمن وَافقه، وَأَنه لَيْسَ من الْجرْح؛
لِأَنَّهُ لم يُصَرح بِالْقَذْفِ اقْتصر على هَذَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَكَيف يُقَال مَعَ حَده
عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَصرح الْإِسْمَاعِيلِيّ
بِالْفِسْقِ، وَفرق بِأَن الرِّوَايَة لَا تهمه فِيهَا،
وَبِأَنَّهُ لَا يمْتَنع من قبُوله أحد مَعَ إِجْمَاعهم على
منع الشَّهَادَة فَأجرى قبُول خَبره مجْرى الْإِجْمَاع.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. قَالَ: وَالْأَظْهَر
الْعَمَل بِالْآيَةِ، وَهَذَا رام وَإِلَّا لم يحد، وَلَا وَجه
للتفرقة كَمَا قالته الْحَنَفِيَّة والمالكية، لَكِن إِن
(4/1861)
حد لم تقبله الْحَنَفِيَّة وَلَو تَابَ.
وَقَضِيَّة أبي بكرَة وَاقعَة عين تَابَ مِنْهَا؛ فَلهَذَا روى
النَّاس عَنهُ، وَمَات بعد الْخمسين، واسْمه نفيع بن الْحَرْث،
وَهُوَ من جملَة من تسور جِدَار الطَّائِف وَجَاء فَأسلم،
وَكَانَ عبدا.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: {صرح القَاضِي} فِي قِيَاس
الشّبَه من " الْعدة " {بعدالة من أَتَى كَبِيرَة} لقَوْله
تَعَالَى: فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون}
الْآيَة: [الْمُؤْمِنُونَ: 102] ، {و} رُوِيَ {عَن أَحْمد
فِيمَن أكل الرِّبَا إِن أَكثر لم يصل خَلفه} .
قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل: فَاعْتبر الْكَثْرَة.
{و} قَالَ الْمُوفق {فِي " الْمُغنِي ": إِن أَخذ صَدَقَة
مُحرمَة وتكرر ذَلِك مِنْهُ ردَّتْ} . انْتهى.
(4/1862)
قَالَ فِي " الْفُرُوع ": وَظَاهر "
الْكَافِي " فِي الْعدْل من رجح خَيره وَلم يَأْتِ كَبِيرَة.
قَوْله: {وَأما الصَّغَائِر إِن كفرت باجتناب الْكَبَائِر} .
قَالَ ابْن عقيل: أَو بمصائب الدُّنْيَا، وَيكفر بهما فِي
الْأَصَح لم يقْدَح وَإِلَّا قدحت عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا.
لم تدخل الصَّغَائِر مُطلقًا فِي حد الْعَدَالَة لما فِيهَا من
التَّفْصِيل فَلذَلِك ذَكرنَاهَا على حِدة.
فَنَقُول: الصَّغَائِر إِذا فعلهَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَن
نقُول: تكفر باجتناب الْكَبَائِر، أَو لَا، فَإِن قُلْنَا
إِنَّهَا تكفر بذلك، وَهُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ ظَاهر قَوْله
تَعَالَى: {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم
سَيِّئَاتكُمْ} [النِّسَاء: 31] ، وَدلّ على ذَلِك السّنة،
قَالَه جمَاعَة من
(4/1863)
أَصْحَابنَا، وَكثير من الْعلمَاء،
وَحَكَاهُ بَعضهم إِجْمَاعًا، وَحَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ
الدّين فِي الرَّد على الرافضي عَن أَكثر الْعلمَاء،
وَاخْتَارَهُ.
وَقيل: لَا تكفر بذلك.
وعَلى القَوْل الأول قَالَ ابْن عقيل: وَكَذَلِكَ إِن قُلْنَا:
تكفر بمصائب الدُّنْيَا، وَفِيه خلاف أَيْضا.
وَالصَّحِيح - أَيْضا - أَنَّهَا تكفر بهَا للأحاديث فِي
ذَلِك، وَاخْتَارَهُ أَيْضا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد
على الرافضي، وَحَكَاهُ عَن الْجُمْهُور.
وَقَالَ أَيْضا فِي الْكتاب الْمَذْكُور - وَلم يثبت مِنْهُ -:
فالصغائر تكفر باجتناب الْكَبَائِر عِنْد جَمَاهِير أهل
السّنة.
بل وَعنهُ: الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم أَن الْكَبَائِر تمحى
بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ أعظم، وبالمصائب المكفرة وَغير
ذَلِك. انْتهى.
قَوْله: {لم يقْدَح} ، يَعْنِي إِذا قُلْنَا: تكفر باجتناب
الْكَبَائِر، أَو بمصائب
(4/1864)
الدُّنْيَا، وفعلها واجتنب الْكَبَائِر أَو
أُصِيب بِشَيْء من مصائب الدُّنْيَا لم يقْدَح فعلهَا فِي
الْعَدَالَة، وَلَا فِي الرِّوَايَة.
وَإِن قُلْنَا: لَا تكفر بذلك قدحت، ومنعت الرِّوَايَة عَن
صَاحبهَا على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر
أَصْحَابنَا، وَغَيرهم؛ وَلِأَنَّهُ صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس
أَنه قَالَ: لَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار وَلَا كَبِيرَة مَعَ
اسْتِغْفَار. رَوَاهُ ابْن جرير، وَابْن أبي حَاتِم.
وَيتَوَجَّهُ إِن قيل: قَول الصَّحَابِيّ حجَّة، وَإِلَّا
فَلَا، قَالَه ابْن مُفْلِح.
وروى التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا: " لَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار،
وَلَا كَبِيرَة مَعَ اسْتِغْفَار " نَقله فِي " الْفُرُوع "،
لَكِن قَالَ: وَفِي الْخَبَر الَّذِي فِي التِّرْمِذِيّ،
(4/1865)
وَذكره، لَكِن يشْتَرط أَن يتَكَرَّر
مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله: {إِن تَكَرَّرت مِنْهُ تَكْرَارا يخل
الثِّقَة بصدقه، وَهَذَا الصَّحِيح} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": حد الْإِصْرَار
الْمَانِع فِي الصَّغَائِر أَن يتَكَرَّر مِنْهُ تَكْرَارا يخل
الثِّقَة بصدقه كملاً بسته الْكَبِيرَة. انْتهى.
وَقطع الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": {إِن غلب
عَلَيْهِ الطَّاعَات لم يقْدَح} لقَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل
... } الْآيَة [الْأَنْبِيَاء: 94، والزلزلة: 7] .
{وَقيل: يقْدَح تكرارها} فِي الْجُمْلَة، وَقيل: ثَلَاثًا.
قَالَه ابْن حمدَان فِي " الْمقنع "، و " آدَاب الْمُفْتِي ".
{و} قَالَ {فِي " التَّرْغِيب " وَغَيره: يقْدَح كَثْرَة
الصَّغَائِر وإدمان وَاحِدَة} .
(4/1866)
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمقنع ": لَا
يدمن على صَغِيرَة.
وَهَذَا الصَّحِيح، وَهُوَ مُرَاد الأول، وَعَلِيهِ أَكثر
الْأَصْحَاب، وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ فِي " الْمُحَرر " و "
الْوَجِيز "، و " تذكرة ابْن عَبدُوس "، وَغَيرهم، وَقدمه فِي
" الْهِدَايَة "، و " الْمَذْهَب "، و " الْمُسْتَوْعب "، و "
الْخُلَاصَة "، و " الْمقنع " للموفق، و " النّظم "، وَغَيرهم.
فالإدمان هُنَا كَمَا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي "
أُصُوله " كَمَا تقدم وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن.
(4/1867)
قَوْله: {وَترد بِالْكَذِبِ - وَلَو تدين -
فِي الحَدِيث عِنْد أَحْمد، وَمَالك وَغَيرهمَا} ، بل عَلَيْهِ
أَكثر الْعلمَاء؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤمن عَلَيْهِ أَن يكذب
فِيهِ.
وَقيل: لَا ترد بذلك.
وَعنهُ أَيْضا: ترد بكذبة وَاحِدَة، اخْتَارَهُ ابْن عقيل فِي
" الْوَاضِح " وَغَيره.
وَاحْتج أَحْمد بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام رد شَهَادَة رجل
فِي كذبه، وَإِسْنَاده جيد لكنه مُرْسل. رَوَاهُ إِبْرَاهِيم
الْحَرْبِيّ والخلال، وَجعله فِي " التَّمْهِيد " إِن صَحَّ
(4/1868)
للزجر، وَفِيه وَعِيد فِي مَنَامه -
عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي الصَّحِيح، وَفِي
الصَّحِيح الزّجر عَن شَهَادَة الزُّور وَأَنَّهَا من
الْكَبَائِر.
وَذكر فِي " الْفُصُول " فِي الشَّهَادَة: أَن بَعضهم اخْتَار
هَذِه الرِّوَايَة، وقاس عَلَيْهَا بَقِيَّة الصَّغَائِر.
واختارها الشَّيْخ تَقِيّ الدّين نقلته من " الْإِنْصَاف "،
وَهُوَ ظَاهر
(4/1869)
كَلَامه فِي " الْمُغنِي "، وَالصَّحِيح من
الْمَذْهَب أَن الكذبة الْوَاحِدَة لَا تقدح؛ للْمَشَقَّة
وَعدم دَلِيله.
وَذكر ابْن عقيل فِي الشَّهَادَة فِي " الْفُصُول ": أَنه
ظَاهر مَذْهَب أَحْمد وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابه. قَالَ
ابْن عقيل: وَقِيَاس بَقِيَّة الصَّغَائِر عَلَيْهَا بعيد؛
لِأَن الْكَذِب مَعْصِيّة فِيمَا تحصل بِهِ الشَّهَادَة وَهُوَ
الْخَبَر. انْتهى.
وَلِهَذَا الْمَعْنى جزم بِهِ القَاضِي فِي الشَّهَادَة
وَالْخَبَر للْحَاجة إِلَى صدق الْمخبر فَهُوَ أولى بِالرَّدِّ
مِمَّا يُسمى فَاسِقًا.
{وَأخذ هُوَ وَأَبُو الْخطاب} من هَذِه الرِّوَايَة {أَنَّهَا
كَبِيرَة} كشهادته بالزور، وَكذبه على النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، {وكالغيبة والنميمة على
الْأَصَح} .
اخْتلف فِي الْغَيْبَة والنميمة هَل هما من الصَّغَائِر، أَو
من الْكَبَائِر؟
(4/1870)
وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنَّهُمَا من
الْكَبَائِر، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَهُوَ
ظَاهر مَا قدمه فِي " فروعه ".
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا خلاف أَن الْغَيْبَة من الْكَبَائِر.
وَقيل: من الصَّغَائِر، اخْتَارَهُ جمَاعَة من أَصْحَابنَا،
مِنْهُم صَاحب " الْفُصُول "، و " الغنية "، و " الْمُسْتَوْعب
".
قَوْله: {والكذبة الْوَاحِدَة فِي الحَدِيث تقدح فَلَا تقبل
رِوَايَته وَإِن تَابَ} . نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد،
وَقَالَ: لَا تقبل مُطلقًا.
وَقَالَهُ القَاضِي أَبُو يعلى وَغَيره من أَصْحَابنَا،
وَغَيرهم.
(4/1871)
قَالَ القَاضِي لِأَنَّهُ زنديق، فَتخرج
تَوْبَته على تَوْبَته وَفَارق الشَّهَادَة؛ لِأَنَّهُ قد يكذب
فِيهَا لرشوة أَو تقرب إِلَى أَرْبَاب الدُّنْيَا.
وَقَالَ ابْن عقيل: هَذَا فرق بعيد؛ لِأَن الرَّغْبَة
إِلَيْهِم بأخبار الرَّجَاء أَو الْوَعيد غَايَته الْفسق.
وَظَاهر كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا أَن تَوْبَته تقبل.
وَقَالَ كثير من الْعلمَاء - مِنْهُم أَبُو بكر الشَّامي -:
لَكِن فِي غير مَا كذب فِيهِ، كتوبته فِيمَا أقرّ بتزويره.
{وَقبلهَا الدَّامغَانِي} الْحَنَفِيّ فِيهِ - أَيْضا -،
قَالَ: لِأَن ردهَا لَيْسَ بِحكم، ورد الشَّهَادَة حكم.
(4/1872)
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: سَأَلت أَبَا
بكر الشَّامي عَنهُ فَقَالَ: لَا يقبل خَبره فِيمَا رد وَيقبل
فِي غَيره اعْتِبَارا بِالشَّهَادَةِ.
قَالَ: وَسَأَلت قَاضِي الْقُضَاة الدَّامغَانِي، فَقَالَ:
يقبل حَدِيثه الْمَرْدُود وَغَيره بِخِلَاف شَهَادَته إِذا
ردَّتْ ثمَّ تَابَ لم تقبل تِلْكَ خَاصَّة، قَالَ: لِأَن
هُنَاكَ حكما من الْحَاكِم بردهَا فَلَا ينْقض، ورد الْخَبَر
مِمَّن روى لَهُ لَيْسَ بِحكم. انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَهَذَا يتَوَجَّه لَو رددنا
الحَدِيث لفسقه، بل يَنْبَغِي أَن يكون هُوَ الْمَذْهَب،
فَأَما إِذا علمنَا كذبه فِيهِ فَأَيْنَ هَذَا من الشَّهَادَة؟
فنظيره أَن يَتُوب من شَهَادَة زور ويقر فِيهَا بالتزوير.
انْتهى.
قَوْله: {وَلم يفرق أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي الصَّغَائِر} ،
بل أطْلقُوا فَظَاهره أَنه لَا فرق؛ بل ذكر أَبُو الْخطاب فِي
" التَّمْهِيد " التطفيف مِنْهَا، وَاعْتبر التّكْرَار.
(4/1873)
وَقَالَ الْآمِدِيّ وَمن وَافقه: إِن مثل
سَرقَة لقْمَة، والتطفيف بِحَبَّة، وَاشْتِرَاط أَخذ
الْأُجْرَة على سَماع الحَدِيث يعْتَبر تَركه كالكبائر بِلَا
خلاف.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد
فِي اشْتِرَاط أَخذ الْأُجْرَة: لَا يكْتب عَنهُ الحَدِيث،
وَلَا كَرَامَة.
وَقَالَهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَأَبُو حَاتِم.
قَالَ القَاضِي: هُوَ على الْوَرع؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهد.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": هَذَا غلط؛
لِأَنَّهُ أَكثر دناءة من الْأكل على الطَّرِيق.
يُؤَيّد مَا ذكره نقل أبي الْحَارِث: هَذِه طعمة سوء.
وَحمله ابْن عقيل على أَنه فرض كِفَايَة، قَالَ: {فَإِن قطعه
عَن شغله فكنسخ حَدِيث، ومقابلته خلافًا للحنفية} .
(4/1874)
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَيعْتَبر ترك
مَا فِيهِ دناءة وَترك مُرُوءَة كأكله فِي السُّوق بَين
النَّاس الْكثير، وَمد رجلَيْهِ أَو كشف رَأسه بَينهم،
وَالْبَوْل فِي الشوارع، واللعب بالحمام، وصحبة الأرذال،
والإفراط فِي المزح؛ لحَدِيث أبي مَسْعُود البدري: " إِذا لم
تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
أَي: صنع مَا شَاءَ فَلَا يوثق بِهِ، لَكِن يعْتَبر تكْرَار
ذَلِك كالصغائر، وَمن ذَلِك من صَنعته دنيئة عرفا، وَلَا
ضَرُورَة كحجام، وزبال، وقراد، لَكِن الصَّحِيح لَا يقْدَح
إِذا حسنت طريقتهم لحَاجَة النَّاس إِلَيْهَا.
وَقيل: تقدح، وَكَذَا حائك، وحارس، ودباغ.
وَتعْتَبر هَذِه الشُّرُوط للشَّهَادَة، وَلَا يعْتَبر للرواية
غير ذَلِك فَتقبل رِوَايَة عبد وَغَيره على مَا يَأْتِي.
(4/1875)
قَوْله: {فَائِدَة:
نفى الْأُسْتَاذ، والباقلاني، وَابْن فورك، والقشيري، والسبكي،
الصَّغَائِر، وَجعلُوا الْكل كَبَائِر} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: القَوْل بانقسام الذَّنب إِلَى صغائر
وكبائر عَلَيْهِ الْجُمْهُور.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ، وَالْقَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني،
وَابْن الْقشيرِي: إِن جَمِيع الذُّنُوب كَبَائِر. وَنَقله
ابْن فورك عَن الأشعرية، وَاخْتَارَهُ نظرا إِلَى من عصى الله
عز وَجل.
(4/1876)
قَالَ الْقَرَافِيّ: كَأَنَّهُمْ كَرهُوا
تَسْمِيَة مَعْصِيّة الله تَعَالَى صَغِيرَة إجلالاً لَهُ مَعَ
موافقتهم فِي الْجرْح أَنه لَيْسَ بِمُطلق الْمعْصِيَة؛ بل
مِنْهُ مَا يقْدَح، وَمِنْه مَا لَا يقْدَح، وَإِنَّمَا
الْخلاف فِي التَّسْمِيَة. انْتهى.
اسْتدلَّ الْجُمْهُور بقوله: {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون
عَنهُ} [النِّسَاء: 31] ، الْآيَة: وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تَكْفِير الصَّلَوَات
الْخمس وَالْجُمُعَة مَا بَينهمَا إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر؛
إِذْ لَو كَانَ الْكل كَبَائِر لم يبْق بعد ذَلِك مَا يكفر
بِمَا ذكر، وَفِي الحَدِيث الْكَبَائِر سبع وَفِي رِوَايَة تسع
وعدوها، فَلَو كَانَت الذُّنُوب كلهَا كَبَائِر لما سَاغَ
ذَلِك.
(4/1877)
قلت: وَمَا أحسن مَا قَالَ الكوراني فِي "
شرح جمع الْجَوَامِع ": إِن أَرَادوا إِسْقَاط الْعَدَالَة فقد
خالفوا الْإِجْمَاع، وَإِن أَرَادوا قبح الْمعْصِيَة نظرا
إِلَى كبريائه تَعَالَى، وَأَن مُخَالفَته لَا تعد أمرا
صَغِيرا فَنعم القَوْل. انْتهى.
قَوْله: {والكبيرة عِنْد أَحْمد وَنقل عَن ابْن عَبَّاس مَا
فِيهِ حد فِي الدُّنْيَا، أَو وَعِيد فِي الْآخِرَة} .
زَاد الشَّيْخ} وَأَتْبَاعه: {أَو لعنة، أَو غضب، أَو نفي
إِيمَان} ، إِلَى آخِره.
الْقَائِل بِأَن الذُّنُوب كَبَائِر وصغائر، اخْتلفُوا فِي حد
الْكَبِيرَة اخْتِلَافا كثيرا، فَقيل: لَا يعرف ضابطها.
(4/1878)
{قَالَ القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد ": معنى
الْكَبِيرَة أَن عقابها أعظم، وَالصَّغِيرَة أقل، {لَا
يعلمَانِ إِلَّا بتوقيف} .
قَالَ الواحدي: الصَّحِيح أَن الْكَبَائِر لَيْسَ لَهَا حد
تعرف بِهِ وَإِلَّا لاقتحم النَّاس الصَّغَائِر، واستباحوها،
وَلَكِن الله تَعَالَى أخْفى ذَلِك عَن الْعباد ليجتهدوا فِي
اجْتِنَاب الْمنْهِي عَنهُ رَجَاء أَن تجتنب الْكَبَائِر،
نَظِيره: إخفاء الصَّلَاة الْوُسْطَى، وَلَيْلَة الْقدر،
وَسَاعَة الْإِجَابَة فِي الْجُمُعَة، وَقيام السَّاعَة،
وَنَحْو ذَلِك.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: ضابطها مَعْرُوف، فَقَالَ الإِمَام
أَحْمد: الْكَبِيرَة مَا فِيهِ حد فِي الدُّنْيَا، أَو وَعِيد
فِي الْآخِرَة لوعد الله مجتنبيها بتكفير الصَّغَائِر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلِأَنَّهُ معنى قَول ابْن عَبَّاس،
ذكره، أَحْمد، وَأَبُو عبيد، زَاد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين
وَأَتْبَاعه: أَو لعنة الله، أَو غضب أَو نفي الْإِيمَان،
قَالَ: وَلَا يجوز أَن يَقع نفي الْإِيمَان لأمر مُسْتَحبّ، بل
لكَمَال وَاجِب، قَالَ: وَلَيْسَ لأحد أَن يحمل كَلَام أَحْمد
إِلَّا على معنى يبين من كَلَامه مَا يدل على أَنه مُرَاده،
لَا على مَا يحْتَملهُ اللَّفْظ من كَلَام كل أحد.
(4/1879)
وَفِي كَلَام ابْن حَامِد أَن نفي
الْإِيمَان مخرج إِلَى الْفسق.
وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا مَا مَعْنَاهُ إِنَّمَا
ورد فِيهِ لفظ الْكفْر أَو الشّرك للتغليط، وَأَنه كَبِيرَة.
انْتهى.
{وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: مَا تعلق} بِحَق الله صَغِيرَة،
وَمَا تعلق {بِحَق الْآمِدِيّ} كَبِيرَة.
وَقيل: مَا فِيهِ وَعِيد شَدِيد بِنَصّ كتاب الله أَو سنة،
وَنسب إِلَى الْأَكْثَر.
وَقيل: مَا أوجب حدا، وَمَال إِلَيْهِ جمَاعَة.
وَقَالَ الْهَرَوِيّ: كل مَعْصِيّة يجب فِي جِنْسهَا حد، من
قتل، أَو غَيره،
(4/1880)
وَترك كل فَرِيضَة مَأْمُور بهَا على
الْفَوْر، وَالْكذب فِي الشَّهَادَة، وَالرِّوَايَة
وَالْيَمِين.
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: الْكَبِيرَة كل جريمة تؤذن بقلة
اكتراث مرتكبها بِالدّينِ، ورقة الدّيانَة. وَرجحه كثير من
الْعلمَاء، وَعدد ذَلِك فِي " جمع الْجَوَامِع ".
فَائِدَة: قَالَ العلائي فِي " قَوَاعِده " الْمَنْصُوص
عَلَيْهِ فِي الْكَبَائِر فِي مَجْمُوع أَحَادِيث كَثِيرَة،
وَأَنه كتبهَا فِي مُصَنف مُنْفَرد:
(4/1881)
الشّرك بِاللَّه تَعَالَى، وَقتل النَّفس
بِغَيْر حق، وَالزِّنَا وأفحشه بحليلة الْجَار، والفرار من
الزَّحْف، وَالسحر، وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم،
وَقذف الْمُحْصنَات، والاستطالة فِي عرض الْمُسلم بِغَيْر حق،
وَشَهَادَة الزُّور، وَالْيَمِين الْغمُوس، والنميمة،
وَالسَّرِقَة، وَشرب الْخمر، وَاسْتِحْلَال بَيت الله
الْحَرَام، ونكث الصَّفْقَة، وَترك السّنة، وَالتَّعَرُّب بعد
الْهِجْرَة، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وَمنع
ابْن السَّبِيل من فضل المَاء، وَعدم التَّنَزُّه من الْبَوْل،
وعقوق الْوَالِدين، والتسبب إِلَى شتمهما، والإضرار فِي
الْوَصِيَّة.
هَذَا مَجْمُوع مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيث مَنْصُوصا عَلَيْهِ
أَنه كَبِيرَة. انْتهى.
(4/1882)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، والمعظم مِنْهُم الشَّافِعِيَّة،
وَغَيرهم: لَا تقبل رِوَايَة مُبْتَدع دَاعِيَة} ، وعللوا
ذَلِك بخوف الْكَذِب لموافقة هَوَاهُ: وَنقض ذَلِك بالداعية
فِي الْفُرُوع.
وَلم يفرق الْحَنَفِيَّة، والآمدي، وَجَمَاعَة بَين الداعية
وَغَيره.
(4/1883)
وَقَبله بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَحكي
عَن الشَّافِعِي.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي الْكَفَاءَة من " الْفُصُول ": إِن
دَعَا كفر، قَالَ: وَالصَّحِيح لَا كفر؛ لِأَن أَحْمد أجَاز
الرِّوَايَة عَن الحرورية، والخوارج.
قَوْله: {وَفِي غَيره} ، أَي: غير الداعية من المبتدعة
{رِوَايَات} عَن الإِمَام أَحْمد: إِحْدَاهَا الْقبُول،
اخْتَارَهَا أَبُو الْخطاب من الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَبُو
الْحُسَيْن المعتزلي، وَغَيره.
وَأطْلقهُ الْحَنَفِيَّة؛ لعدم عِلّة الْمَنْع، وَلما فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيرهمَا من المبتدعة كالقدرية والخوارج
والرافضة والمرجئة، وَرِوَايَة السّلف وَالْأَئِمَّة عَنْهُم
فَهُوَ إِجْمَاع.
(4/1884)
لَا يُقَال: قد تكلم فِي بَعضهم؛ لِأَنَّهُ
أُرِيد معرفَة حَالهم أَو للترجيح عِنْد التَّعَارُض، ثمَّ
يحصل الْمَقْصُود بِمن لم يتَكَلَّم فِيهِ، وَلَا يلْزم من رده
رد الْجَمِيع، أَو الْأَكْثَر لِكَثْرَة تفسيق الطوائف وتكفير
بَعضهم بَعْضًا؛ وَلِأَنَّهَا حَاجَة عَامَّة فَهِيَ أولى من
تَصْدِيقه أَنه ملكه، وَفِي اسْتِئْذَانه، وإرساله بهدية وَهِي
إِجْمَاع.
ذكره الْقُرْطُبِيّ وَخص الْآيَة بِهِ، وَلَا تُهْمَة لعُمُوم
رِوَايَته لَهُ وَلغيره؛ وَلِأَنَّهُ يوثق بِهِ لتدينه، وكفره
بِتَأْوِيل أخطاء فِيهِ وَهُوَ يظنّ أَنه على حق، وَلم يبتغ
غير الْإِسْلَام دينا بِخِلَاف غَيره فَإِنَّهُ يقدم على مَا
يَعْتَقِدهُ محرما لغرضه فَمثله يكذب وَلَا يوثق بِهِ.
وَاعْترض بقول الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن
جَاءَكُم فَاسق} [الحجرات: 6] الْآيَة.
أُجِيب: بِمَنْع فسقه عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم.
(4/1885)
وَقَالَهُ ابْن عقيل فِي غير الداعية،
وَقَالَهُ القَاضِي فِي " شرح الْخرقِيّ " فِي الْمُقَلّد:
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَنهى أَحْمد عَن الْأَخْذ عَنْهُم
إِنَّمَا هُوَ لهجرهم، وَهُوَ يخْتَلف بالأحوال والأشخاص؛
وَلِهَذَا لم يرو الْخلال عَن قوم لنهي الْمَرْوذِيّ، ثمَّ روى
عَنْهُم بعد مَوته.
وَلِهَذَا جعل القَاضِي الدَّاعِي إِلَى الْبِدْعَة قسما غير
دَاخل فِي مُطلق الْعَدَالَة، ثمَّ المُرَاد غير المبتدع
بِدَلِيل مَا سبق، وسببها وسياقها.
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: عدم الْقبُول، وَهُوَ قَول مَالك،
وَالْقَاضِي من
(4/1886)
أَصْحَابنَا، وَغَيره، والباقلاني،
والآمدي، والجبائية، وَجَمَاعَة كَمَا لَو تدين بِالْكَذِبِ
كالخطابية من الرافضة، وَهُوَ يظنّ أَنه على حق لما سبق.
والخطابية نِسْبَة إِلَى أبي الْخطاب، وَهُوَ من مَشَايِخ
الرافضة، وَكَانَ يَقُول بإلهية جَعْفَر الصَّادِق، ثمَّ ادّعى
الإلهية لنَفسِهِ عَلَيْهِ لعائن الله وَالْمَلَائِكَة
وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، وَهُوَ وَأَتْبَاعه يسْتَحلُّونَ
الْكَذِب فِي نصْرَة مَذْهَبهم فيرون الشَّهَادَة بالزور
لموافقهم على مخالفهم.
(4/1887)
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: مَا فِي أهل
الْأَهْوَاء قوم أشهد بالزور من الرافضة.
وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة: {الْقبُول مَعَ بِدعَة مفسقة لَا
مكفرة} ، وَهَذَا قَول الإِمَام الشَّافِعِي، وَأكْثر
الْفُقَهَاء، وَبَعض الْحَنَفِيَّة؛ لعظم الْكفْر، فيضعف
الْعذر، ويقوى عدم الوثوق، وَلم يفرقُوا بَين الْمُكَفّر
وَغَيره.
وَقد قَالَ أَبُو الْخطاب عَن قَول الإِمَام أَحْمد: (يكْتب
عَن الْقَدَرِيَّة) : وهم كفار عِنْده، وَكَذَا اخْتَارَهُ بعض
الشَّافِعِيَّة، وَقَالَ بعض الْعلمَاء: من كفره فَهُوَ
كالكافر عِنْده، وَأَن الْخلاف فِي قبُوله مَعَ بِدعَة
وَاضِحَة وَإِلَّا قبل لقُوَّة الشّبَه من الْجَانِبَيْنِ.
{وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {كَلَام أَحْمد يفرق بَين
أَنْوَاع الْبدع وَبَين
(4/1888)
الْحَاجة إِلَى الرِّوَايَة عَنْهُم
وَعدمهَا} .
قَالَ الإِمَام أَحْمد: احملوا عَن المرجئة الحَدِيث، وَيكْتب
عَن القدري إِذا لم يكن الداعية، واستعظم الرِّوَايَة عَن رجل
وَهُوَ سعد الْعَوْفِيّ، وَقَالَ: ذَلِك جهمي امتحن فَأجَاب
وَأَرَادَ بِلَا إِكْرَاه.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح مُقَدّمَة مُسلم ": إِن
الْعلمَاء من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء والأصوليين قَالُوا:
لَا تقبل رِوَايَة من كفر ببدعته اتِّفَاقًا. انْتهى.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرين - وَهُوَ القَاضِي
عَلَاء الدّين البعلي -: إِن كَانَت بِدعَة أحدهم مُغَلّظَة
كالتجهم ردَّتْ رِوَايَته، وَإِن كَانَت متوسطة كالقدر ردَّتْ
إِن كَانَ دَاعِيَة، وَإِن كَانَت خَفِيفَة كالإرجاء فَهَل
تقبل مَعهَا مُطلقًا أم ترد ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
(4/1889)
عَن الداعية؟ رِوَايَتَانِ، هَذَا تَحْقِيق
مَذْهَبنَا.
قَوْله: {فَائِدَة: المبتدعة أهل الْأَهْوَاء} ؛ إِذا أطلق
الْعلمَاء لَفْظَة المبتدعة فَالْمُرَاد بِهِ أهل الْأَهْوَاء
من الْجَهْمِية، والقدرية، والمعتزلة، والخوارج، وَالرَّوَافِض
وَمن نحا نحوهم، وَلَيْسَ الْفُقَهَاء مِنْهُم على الصَّحِيح
عِنْد الْعلمَاء، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": قَالَه ابْن عقيل
وَغَيره، وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الْعلمَاء وَهُوَ أولى.
وَخَالف القَاضِي أَبُو يعلى وَابْن الْبَنَّا، وَجمع فأدخلوهم
فِي أهل الْأَهْوَاء.
(4/1890)
قَوْله: {فَمن شرب نبيذاً مُخْتَلفا فِيهِ
حد عندنَا، وَلم يفسق، كالشافعي} .
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: {وَفِيه نظر} ؛ لِأَن الْحَد
أضيق.
ورد: الشَّهَادَة أوسع؛ وَلِأَنَّهُ يلْزم من الْحَد
التَّحْرِيم فيفسق بِهِ، أَو إِن تكَرر.
وَعَن أَحْمد: يفسق، اخْتَارَهُ ابْن أبي مُوسَى فِي "
الْإِرْشَاد "، وَأَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ فِي " الْمُبْهِج
" وفَاقا للْإِمَام مَالك؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْمجمع
عَلَيْهِ وللسنة المستفيضة فِي ذَلِك.
(4/1891)
وَعَن أَحْمد رِوَايَة ثَالِثَة: لَا حد
عَلَيْهِ، وَلَا يفسق بذلك. اخْتَارَهُ أَبُو ثَوْر،
وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَهُوَ قوي للْخلاف فِيهِ
كَغَيْرِهِ؛ وَلِئَلَّا يفسق بِوَاجِب يَفْعَله مُعْتَقدًا
وُجُوبه فِي مَوضِع، وَلَا أثر لاعتقاد الْإِبَاحَة.
وَمثل الْمَسْأَلَة مُتْعَة النِّكَاح، إِن قيل: لَا إِجْمَاع
فِيهَا؛ وَلِهَذَا سوى بَينهمَا القَاضِي فِي " الْأَحْكَام
السُّلْطَانِيَّة "، وَمثله رَبًّا الْفضل، وَالْمَاء من
المَاء.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا - قِيَاس رِوَايَة فسق الشَّارِب
النَّبِيذ - من لعب بشطرنج، وَتسمع غناء بِلَا آلَة.
(4/1892)
{تَنْبِيه: مَحَله فِي مُجْتَهد أَو مقلد،
وَإِلَّا فَيحرم الْقدوم على مَا لَا يعلم جَوَازه إِجْمَاعًا}
؛ لِأَن إقدامه على مَا لَا يعلم: هَل يجوز فعله، أَو لَا
يجوز؟ جرْأَة على الله، وعَلى رَسُوله، وعَلى الْعلمَاء لكَونه
لم يسْأَل.
{وَاخْتلف كَلَام القَاضِي فِي فسقه، وفسقه الباقلاني} ،
وَقَالَ: ضم جهلا إِلَى فسق.
ورده بعض الشَّافِعِيَّة بِالْفرقِ: بِعَدَمِ الجرأة.
{وَفسق ابْن عقيل عامياً شرب نبيذاً} ، وَلَا يُعَارض ذَلِك
قَوْله: فِيمَن زوج أمته، أَو أم وَلَده ثمَّ وَطئهَا جهلا،
هَل يَأْثَم لتَركه السُّؤَال أم لَا لعدم شكه فِي
التَّحْرِيم؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ. يَعْنِي لعذره بالاستصحاب،
وَكَذَا جمعه فِي " الْكَافِي " - فِي بطلَان الصَّلَاة
بِكَلَام الْجَاهِل - بَينه وَبَين النَّاسِي بِعَدَمِ
التأثيم، واستقصاء ذَلِك وَبَيَان حكم الْبدع فِي كتب
الْفِقْه.
(4/1893)
قَالَ الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا: وَلَا
يحكم بفسق مُخَالف فِي أصُول الْفِقْه.
وَبِه قَالَ جمَاعَة الْفُقَهَاء، والمتكلمين، خلافًا لبَعض
الْمُتَكَلِّمين. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا أطلقهُ.
(4/1894)
قَوْله: {فصل}
{تقبل رِوَايَة عبد} ؛ لظَاهِر الْأَدِلَّة فَإِنَّهَا تشمله.
وَتقبل رِوَايَة الْأُنْثَى لقبولهم خبر عَائِشَة، وَأَسْمَاء،
وَأم سَلمَة، وَأم سليم، وغيرهن - رَضِي الله عَنْهُن
أَجْمَعِينَ - سَوَاء كن أحراراً أَو أرقاء.
وَتقبل أَيْضا رِوَايَة الْقَرِيب، والضرير، والعدو، وَغَيرهم؛
لِأَن حكم الرِّوَايَة عَام للمخبر والمخبر، وَلَا يخْتَص بشخص
فَلَا تُهْمَة فِي ذَلِك بِخِلَاف الشَّهَادَة، وَهَذَا وَاضح
جلي.
قَوْله: {وَلَا تعْتَبر كَثْرَة سَماع الحَدِيث} ؛ بل مَتى سمع
وَلَو حَدِيثا وَاحِدًا صحت رِوَايَته.
(4/1895)
{وَلَا} يعْتَبر أَيْضا {معرفَة نسبه} ،
كَالْعَبْدِ، وَغَيره مِمَّن لَا يعرف نسبه وَإِن كَانَ فِي
الأَصْل لَهُ نسب، كَعَدم نسبه بِالْكُلِّيَّةِ كَوَلَد
الزِّنَا، والمنفي بِلعان إِذا كَانُوا عُدُولًا؛ وَلِأَنَّهُم
داخلون فِي عُمُوم الْأَدِلَّة فَصحت روايتهم كغيرهم.
{وَلَا} يعْتَبر أَيْضا {علمه بالفقه والعربية، وَلَا بِمَعْنى
الحَدِيث} . وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر
الْعلمَاء.
وَاعْتبر الإِمَام مَالك معرفَة الْفِقْه، وَنقل عَن أبي
حنيفَة مثله، وَعنهُ أَيْضا: تعْتَبر مَعْرفَته إِن خَالف مَا
رَوَاهُ الْقيَاس.
(4/1896)
وَاحْتَجُّوا بِأَن غير الْفَقِيه مَظَنَّة
سوء الْفَهم، وَوضع النُّصُوص على غير المُرَاد مِنْهَا،
فالاحتياط للْأَحْكَام أَن لَا يرْوى عَنهُ.
وَاسْتدلَّ لِلْجُمْهُورِ بِحَدِيث زيد بن ثَابت: أَن النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " نضر الله
امْرَءًا سمع منا حَدِيثا فحفظه حَتَّى يبلغهُ غَيره فَرب
حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب حَامِل فقه
وَلَيْسَ بفقيه ". إِسْنَاده جيد، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد،
وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَحسنه، وَرَوَاهُ
الشَّافِعِي وَأحمد بِإِسْنَاد جيد.
وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نضر الله
... . " رَوَاهُ الْأَصْمَعِي بتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة،
وَأَبُو عبيد بتخفيفه. أَي: نعمه الله، وَكَانَت الصَّحَابَة
تقبل رِوَايَة الْأَعرَابِي لحَدِيث وَاحِد، وعَلى ذَلِك عمل
الْمُحدثين، وَمَا يعْتَبر من ذَلِك فِي الشَّهَادَة وَالْخلاف
فِيهِ مَذْكُور فِي الْفِقْه.
(4/1897)
وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود: " فَرب مبلغ
أوعى من سامع " رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ.
وَالْجَوَاب عَمَّا قَالُوا: إِنَّا إِنَّمَا نقبل رِوَايَته
إِذا روى بِاللَّفْظِ وَالْمعْنَى المطابق، وَكَانَ يعرف
مقتضيات الْأَلْفَاظ، وَالْعَدَالَة تَمنعهُ من تَحْرِيف لَا
يجوز.
قَوْله: {وَلَا تقبل رِوَايَة متساهل فِيهَا} ، سَمَاعا
وإسماعاً، كالنوم وَقت السماع، وَقبُول التَّلْقِين، أَو يحدث
لَا من أصل مصحح وَنَحْوه، وَقد نَص عَلَيْهِ المحدثون،
وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم.
وَهُوَ قَادِح فِي قِيَاس قَول أَصْحَابنَا وَغَيرهم: يحرم
التساهل فِي
(4/1898)
الْفتيا واستفتاء مَعْرُوف بِهِ، وَقبُول
الحَدِيث مِمَّن هُوَ على هَذِه الصّفة أولى بِالتَّحْرِيمِ.
وَقد جزم بِهِ فِي " الْمَحْصُول " وَغَيره.
(4/1899)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: الْمَالِكِيَّة
وَالشَّافِعِيَّة: {لَا تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعَدَالَة} .
وَعَن أَحْمد رِوَايَة: يقبل {وفَاقا لأبي حنيفَة، وَأكْثر
أَصْحَابه، وَابْن فورك، وسليم الرَّازِيّ، والمحب
الطَّبَرِيّ، والطوفي من الْأَصْحَاب كقبوله عقب إِسْلَامه} .
هَكَذَا نقل كثير من الْعلمَاء أَن مَذْهَب أبي حنيفَة،
وَأَصْحَابه كَذَلِك.
(4/1900)
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ":
وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: إِن رده جَمِيعهم لم يقبل، وَإِن
اخْتلفُوا فِيهِ قبل، وَإِن لم يرد، وَلم يقبل جَازَ قبُوله
لظَاهِر عَدَالَة الْمُسلم وَلم يجب.
وَجوز الْحَنَفِيَّة الْقَضَاء بِظَاهِر الْعَدَالَة، أما
الْيَوْم فَتعْتَبر التَّزْكِيَة لغَلَبَة الْفسق. انْتهى.
وَلم ينْقل إِلَّا عَن تَحْرِير، وَنقل الْبرمَاوِيّ عَن صَاحب
" البديع " وَغَيره من الْحَنَفِيَّة أَن أَبَا حنيفَة
إِنَّمَا قبل ذَلِك فِي صدر الْإِسْلَام حَيْثُ الْغَالِب على
النَّاس الْعَدَالَة، فَأَما الْيَوْم فَلَا بُد من
التَّزْكِيَة لغَلَبَة الْفسق. انْتهى.
{وَعَن القَاضِي} : تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعَدَالَة،
{وَإِن لم تقبل شَهَادَته} .
نقل فِي " المسودة " فَقَالَ: لما بحث القَاضِي فِي أَحْكَام
الْمُرْسل أَن يروي عَن مَجْهُول لم يعرف عينه، ثمَّ قَالَ:
فَإِن قيل: فَيجب أَن تقبل شَهَادَته وَإِن لم نبحث عَن
عَدَالَته للمعنى الَّذِي ذكرته.
(4/1901)
قيل: تقبل شَهَادَته فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ، فعلى هَذَا لَا فرق، وَفِي الْأُخْرَى لَا
يقبلهَا احْتِيَاطًا للشَّهَادَة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: قلت: فقد ذكر أَنه تقبل
رِوَايَة المستور، وَإِن لم تقبل شَهَادَته. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا وَإِن لم
تقبل شَهَادَته.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": تقبل رِوَايَة من عرف
إِسْلَامه وجهلت عَدَالَته فِي الزَّمن الَّذِي لم تكْثر فِيهِ
الْجِنَايَات، فَأَما مَعَ كَثْرَة الْجِنَايَات فَلَا بُد من
معرفَة الْعَدَالَة. انْتهى.
{وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: يُوقف، وَيجب الْكَفّ فِي
التَّحْرِيم إِلَى الظُّهُور احْتِيَاطًا} ، فَقَالَ: رِوَايَة
المستور مَوْقُوفَة إِلَى استبانة حَاله، فَلَو كُنَّا على
اعْتِقَاد فِي حل شَيْء فروى لنا مَسْتُور تَحْرِيمه فَالَّذِي
أرَاهُ وجوب الانكفاف عَمَّا كُنَّا نستحله إِلَى تَمام
الْبَحْث عَن حَال الرَّاوِي.
قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِك حكما بالحظر الْمُتَرَتب على
الرِّوَايَة، وَإِنَّمَا هُوَ توقف فِي الْأَمر والتوقف فِي
الْإِبَاحَة يتَضَمَّن الإحجام وَهُوَ معنى الْحَظْر، فَهُوَ
إِذا حظر مَأْخُوذ من قَاعِدَة ممهدة، وَهِي التَّوَقُّف عِنْد
عدم بَدو ظواهر الْأُمُور إِلَى
(4/1902)
استبانتها، فَإِذا ثبتَتْ الْعَدَالَة
فَالْحكم بالرواية إِذْ ذَاك. انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: يتَوَجَّه أَن يحْتَمل عَدَالَة كل من
اعتنى بِالْعلمِ.
وَقَالَهُ ابْن عبد الْبر، وحرف الْمَسْأَلَة أَن شَرط
الْقبُول فِي الرِّوَايَة هَل هُوَ الْعلم بِالْعَدَالَةِ
فَلَا تقبل رِوَايَة الْمَجْهُول للْجَهْل بهَا، أَو الشَّرْط
عدم الْعلم بِالْفِسْقِ فَتقبل رِوَايَة الْمَجْهُول لعدم
الْعلم بِفِسْقِهِ؟
هُنَا قَالَ من منع الْعَمَل بروايته: إِنَّمَا عمل بِخَبَر
الْوَاحِد للْإِجْمَاع وَلَا إِجْمَاع وَلَا دَلِيل على
الْعَمَل؛ وَلِأَن الْفسق مَانع كجهالة الصَّبِي وَالْكفْر.
فَقَالُوا: الْفسق سَبَب التثبت فَإِذا انْتَفَى يَنْتَفِي،
وَعَملا بِالظَّاهِرِ وَقبُول الصَّحَابَة لَهُم.
رد: يَنْتَفِي بالخبرة، والتزكية، وبمنع الظَّاهِر ... ... ...
... ... ... ... .
(4/1903)
وَالْقَبُول، وَيقبل الْخَبَر بِالْملكِ
والذكاة وَلَو من فَاسق وَكَافِر للنصوص وللحاجة وَالْأَشْهر
لنا فِي الْمَجْهُول وَأَنه متطهر فَيصح الائتمام بِهِ، لَا
أَن المَاء طَاهِر أَو نجس فِي ظَاهر مَذْهَبنَا وَمذهب
الشَّافِعِيَّة، وَقَبله الْآمِدِيّ وَمن وَافقه مَعَ فسقه.
قَالُوا: كروايته عقب إِسْلَامه.
أجَاب عَنهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي بِمَنْعه
لاستصحابه للكذب وتسليمه لِأَنَّهُ يعظمه ويهابه.
(4/1904)
وَاحْتج ابْن عبد الْبر بقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف
عدوله ينفون عَنهُ تَحْرِيف الْجَاهِلين وَإِبْطَال المبطلين
وَتَأْويل الغالين " رَوَاهُ الْخلال، وَابْن عدي،
وَالْبَيْهَقِيّ، وَله طرق.
قَالَ مهنا لِأَحْمَد: كَأَنَّهُ مَوْضُوع، قَالَ: لَا، هُوَ
صَحِيح. قلت: سمعته أَنْت؟ قَالَ: من غير وَاحِد.
وَلقَائِل أَن يُجيب عَنهُ بضعفه، ثمَّ بِتَقْدِير لَام
الْأَمر فِي " يحمل " وَهُوَ جَائِز
(4/1905)
لُغَة، وَاخْتَارَهُ الزّجاج فِي " يحذر
المُنَافِقُونَ ".
قَالَ ابْن الْقطَّان: وخفي على أَحْمد من أمره مَا علمه
غَيره، فقد ضعفه ابْن معِين، وَابْن أبي حَاتِم، وَالسَّعْدِي،
وَابْن عدي، وَابْن حبَان.
وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث مَرْفُوعا مُسْندًا عَن أبي
هُرَيْرَة، وَعبد الله بن عمر، وَعلي بن أبي طَالب، وَابْن
عَمْرو، وَأبي أُمَامَة، وَجَابِر بن سَمُرَة
(4/1906)
بطرق ضَعِيفَة، ذكره الْعِرَاقِيّ،
وَوَافَقَ ابْن عبد الْبر ابْن الْمواق.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: مَا قَالَه ابْن عبد الْبر فِيهِ اتساع
غير مرضِي، واستدلاله بذلك لَا يَصح لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: الْإِرْسَال والضعف.
وَالثَّانِي: عدم صِحَة كَونه خَبرا؛ لِأَن كثير مِمَّن يحمل
الْعلم غير عدل فَلم يبْق إِلَّا حمله على الْأَمر،
وَمَعْنَاهُ: أَنه أَمر الثِّقَات بِحمْل الْعلم؛ لِأَن الْعلم
إِنَّمَا يبقل من الثِّقَات، وَيدل عَلَيْهِ أَن فِي بعض طرق
ابْن أبي حَاتِم: " ليحمل هَذَا الْعلم " بلام الْأَمر، وَالله
أعلم. انْتهى.
فَوَافَقَ هَذَا مَا قَالَه ابْن مُفْلِح.
قَوْله: {فَائِدَة: لَا تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعين، وتزول
بِوَاحِد فِي الْأَصَح فيهمَا} : ذكرنَا مَسْأَلَتَيْنِ:
(4/1907)
إِحْدَاهمَا: هَل تقبل رِوَايَة مَجْهُول
الْعين أم لَا؟
فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يقبل، وَهُوَ الصَّحِيح وَقطع
بِهِ جمع مِنْهُم: التَّاج السُّبْكِيّ، بل ظَاهره أَنه
إِجْمَاع، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فقد حكى الْبرمَاوِيّ وَغَيره
فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: لَا يقبل مُطلقًا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من
الْمُحدثين وَغَيرهم.
وَالثَّانِي: يقبل مُطلقًا، وَهُوَ رَأْي من لم يشْتَرط فِي
الرَّاوِي غير الْإِسْلَام.
وَالثَّالِث: إِن كَانَ الْمُنْفَرد بالرواية عَنهُ لَا يروي
إِلَّا عَن عدل كَابْن مهْدي، وَيحيى بن سعيد، واكتفينا
بالتعديل بِوَاحِد قبل، وَإِلَّا فَلَا.
وَالرَّابِع: إِن كَانَ مَشْهُورا فِي غير الْعلم بالزهد،
وَالْقُوَّة فِي الدّين، وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ قَول ابْن عبد
الْبر.
(4/1908)
وَالْخَامِس: إِن زَكَّاهُ أحد من أَئِمَّة
الْجرْح وَالتَّعْدِيل مَعَ رِوَايَة وَاحِد عَنهُ قبل
وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ اخْتِيَار أبي الْحُسَيْن ابْن
الْقطَّان. انْتهى.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: هَل تَزُول الْجَهَالَة بِوَاحِد أم
لَا؟
فِيهِ أَقْوَال، قَالَ ابْن رَجَب فِي " شرح التِّرْمِذِيّ ":
اخْتلف الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث فِي رِوَايَة الثِّقَة عَن
غير مَعْرُوف: هَل هُوَ تَعْدِيل لَهُ أم لَا؟
وَحكى أَصْحَابنَا عَن أَحْمد فِي ذَلِك رِوَايَتَيْنِ، وحكوا
عَن الْحَنَفِيَّة أَنه تَعْدِيل، وَعَن الشَّافِعِيَّة خلاف
ذَلِك.
والنصوص عَن أَحْمد تدل على أَنه إِن عرف مِنْهُ أَنه لَا يروي
إِلَّا عَن ثِقَة فروايته عَن إِنْسَان تَعْدِيل لَهُ، وَمن لم
يعرف مِنْهُ ذَلِك فَلَيْسَ بتعديل، وَصرح بِهِ طَائِفَة من
مُحَقّق أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِي. انْتهى.
وَيَأْتِي هَذَا أَيْضا إِذا علم ذَلِك؛ فَفِي الْمَسْأَلَة
أَقْوَال:
(4/1909)
أَحدهَا: وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن يحيى
الذهلي، وَعَلِيهِ الْمُتَأَخّرُونَ أَنه لَا يخرج الرجل عَن
الْجَهَالَة إِلَّا بِرِوَايَة رجلَيْنِ فَصَاعِدا عَنهُ.
وَذكر الْخَطِيب عَن أهل الحَدِيث: لَا تَزُول إِلَّا
بِاثْنَيْنِ، وَعلي بن الْمَدِينِيّ يشْتَرط أَكثر من ذَلِك،
وَذَلِكَ بِاعْتِبَار من روى عَنهُ.
ذكره عَنهُ ابْن رَجَب فِي " شرح التِّرْمِذِيّ ".
وَقَالَ ابْن معِين: إِذا روى عَن الرجل مثل ابْن سِيرِين؛
وَالشعْبِيّ - وَهَؤُلَاء أهل الْعلم - فَهُوَ غير مَجْهُول،
وَإِن روى عَنهُ مثل سماك بن حَرْب، وَأبي إِسْحَاق، فَإِن
هَؤُلَاءِ يروون عَن المجهولين.
(4/1910)
قَالَ ابْن رَجَب: وَهَذَا تَفْصِيل حسن.
وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يكْتَفى فِيهَا بِمُجَرَّد
إِسْلَامه، بل لابد أَن يكون عدلا ظَاهرا.
وَالصَّحِيح أَنه يَزُول بِوَاحِد، وَعَزاهُ بعض
الشَّافِعِيَّة إِلَى صَاحِبي الصَّحِيح؛ لِأَن فيهمَا من
ذَلِك جمَاعَة، وَأَن الْخلاف مُتَوَجّه لتعديل وَاحِد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: يُؤَيّدهُ أَن عَمْرو بن بجدان تفرد عَنهُ
أَبُو قلَابَة وَقَبله أَكْثَرهم، وَمثله الْخَطِيب بجبار
الطَّائِي، وَعبد الله بن أغر
(4/1911)
صفحة فارغة
(4/1912)
قَوْله: {فصل}
{الْأَرْبَعَة} وَالْأَكْثَر، مِنْهُم أَصْحَابنَا، قَالَ ابْن
مُفْلِح وَغَيره: وَالْجُمْهُور: {يَكْفِي جرح وَاحِد وتعديله}
؛ لِأَن الشَّرْط لَا يزِيد على مشروطه، وَيَكْفِي فِي
الرِّوَايَة وَاحِد لَا الشَّهَادَة، فتعديل الرَّاوِي تبع
للرواية، وَفرع لَهَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَاد لأَجلهَا،
وَالرِّوَايَة لَا يعْتَبر فِيهَا الْعدَد، بل يَكْفِي فِيهَا
راو وَاحِد، فَكَذَا مَا هُوَ تبع وَفرع لَهَا.
فَلَو قُلْنَا: نقبل رِوَايَة الْوَاحِد وَلَا يَكْفِي فِي
تعديله إِلَّا اثْنَان لزاد الْفَرْع على أَصله، وَزِيَادَة
الْفُرُوع على أُصُولهَا غير معهودة عقلا، وَلَا شرعا.
(4/1913)
{وَاعْتبر قوم الْعدَد فيهمَا} ، أَي: فِي
الْجرْح وَالتَّعْدِيل، مِنْهُم: ابْن حمدَان فِي " مقنعه "
{كَالشَّهَادَةِ عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة والمالكية} ؛
لِأَنَّهَا شَهَادَة فَاعْتبر لَهُ الْعدَد.
رد: بِأَنَّهُ خبر لَا شَهَادَة.
قَالُوا: يعْتَبر الْعدَد؛ لِأَنَّهُ أحوط، وَقَوْلنَا أحوط
لِئَلَّا يضيع الشَّرْع، وَعَن أَحْمد: الشَّهَادَة كالرواية
فَيَكْفِي فِيهَا جرح وَاحِد وتعديله، اخْتَارَهُ من
أَصْحَابنَا أَبُو بكر عبد الْعَزِيز، وَالشَّيْخ تَقِيّ
الدّين، وَالْحَنَفِيَّة، وَالْقَاضِي أَبُو بكر ابْن
الباقلاني.
{وَاعْتبر قوم الْعدَد فِي الْجرْح} فَقَط فِي الرِّوَايَة
وَالشَّهَادَة، اخْتَارَهُ بعض الْمُحدثين وَالشَّافِعِيَّة.
(4/1914)
قَوْله: {وَيشْتَرط ذكر سَبَب الْجرْح لَا
التَّعْدِيل عِنْد أَحْمد، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم:
أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، لاخْتِلَاف النَّاس
فِي سَبَب الْجرْح، واعتقاد بَعضهم مَا لَا يصلح أَن يكون
سَببا للجرح جارح، كشرب النَّبِيذ متأولاً فَإِنَّهُ يقْدَح
فِي الْعَدَالَة عِنْد مَالك دون غَيره، وَكَمن رأى إنْسَانا
يَبُول قَائِما فيبادر لجرحه لذَلِك وَلم ينظر فِي أَنه متأول
مُخطئ أَو مَعْذُور، كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه بَال
(4/1915)
قَائِما لعذر كَانَ بِهِ، فَلهَذَا وَشبهه
يَنْبَغِي بَيَان سَبَب الْجرْح ليَكُون على ثِقَة، واحتراز من
الْخَطَأ والغلو فِيهِ.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وَلَقَد رَأَيْت بعض الْعَامَّة
يضْرب يدا على يَد، وَيُشِير إِلَى رجل وَيَقُول: مَا هَذَا
إِلَّا زنديق لَيْتَني قدرت عَلَيْهِ فأفعل بِهِ وأفعل! فَقلت:
مَا رَأَيْت مِنْهُ؟ فَقَالَ: رَأَيْته وَهُوَ يجْهر بالبسملة
فِي الصَّلَاة. انْتهى.
وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا حكايات غَرِيبَة عَجِيبَة، لَكِن هَذَا
كُله مِمَّن لَا يعْتَمد عَلَيْهِ بِخِلَاف أولي الْعلم
الراسخين الجهابذة النقاد، وَقَالُوا بِخِلَاف التَّعْدِيل
فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط ذكر سَببه استصحاباً لحَال الْعَدَالَة.
{وَقيل: عَكسه} ، أَي: يشْتَرط ذكر سَبَب التَّعْدِيل لَا
الْجرْح.
وَنقل عَن ابْن الباقلاني: لالتباس الْعَدَالَة لِكَثْرَة
التصنع.
(4/1916)
قلت: وَهُوَ قوي.
{واشترطه ابْن حمدَان من أَصْحَابنَا وَغَيره فيهمَا} ، أَي:
يشْتَرط ذكر سَبَب الْجرْح وَالتَّعْدِيل لما تقدم فِي
الْجرْح، والمسارعة إِلَى التَّعْدِيل بِنَاء على الظَّاهِر،
فَيَقُول - مثلا -: هَذَا فَاسق؛ لِأَنَّهُ يشرب الْخمر،
وَنَحْوه، وَهَذَا عدل؛ لِأَنَّهُ يواظب على فعل الْعِبَادَات،
وَترك الْمُحرمَات فِيمَا أعلم؛ وَلِهَذَا القَوْل قُوَّة.
وَعَن أَحْمد عكس هَذَا القَوْل، أَي: لَا يشْتَرط ذكر سَبَب
وَاحِد مِنْهُمَا، اخْتَارَهُ جمع من الْعلمَاء، مِنْهُم: ابْن
الباقلاني، وَحكي عَن الْحَنَفِيَّة فَيَكْفِي مُجَرّد قَوْله:
هُوَ فَاسق، أَو عدل اعْتِمَادًا على الْجَارِح والمعدل.
قلت: وَيَنْبَغِي أَن ينظر إِلَى حَال الْجَارِح، والمعدل.
(4/1917)
{وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي، والرازي،
والآمدي، وَذكره عَن ابْن الباقلاني: إِن كَانَ عَالما بذلك
قبل} عملا بِالظَّاهِرِ من حَال الْعدْل الْعَالم، {وَقَالَهُ
مَالك، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الْجرْح} ، يَعْنِي إِن
كَانَ عَالما بذلك قبل.
قَوْله: {وَلَا أثر لمن عَادَته التساهل فِي التَّعْدِيل أَو
الْمُبَالغَة} ، فيجرح بِلَا سَبَب شَرْعِي أَو يُعْطِيهِ فَوق
حَقه وَهَذَا غير جَائِز.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لما حكى الْخلاف الْمُتَقَدّم: وَهَذَا
الْخلاف مُطلق، وَالْمرَاد - وَالله أعلم - مَا أَشَارَ
إِلَيْهِ بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: لَا أثر لمن عَادَته
التساهل فِي التَّعْدِيل أَو الْمُبَالغَة. انْتهى.
قَوْله: {وَإِذا لم يقبل الْجرْح الْمُطلق لم يلْزم
التَّوَقُّف حَتَّى يتَبَيَّن سَببه} كَالشَّهَادَةِ؛ لِأَن
الْخَبَر يلْزم الْعَمَل بِهِ مَا لم يثبت الْقدح،
وَالشَّهَادَة آكِد، ذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب فِي
مَسْأَلَة " مَا لَا نفس لَهُ سائله "، فَإِذا انْتَفَى الْقدح
عمل بِهِ.
(4/1918)
{وَقيل: بلَى} ، أَي: يلْزم التَّوَقُّف
حَتَّى يبين سَبَب الْجرْح الَّذِي أطلقهُ؛ لِأَنَّهُ أوجب
رِيبَة، وَإِلَّا انسد بَاب الْجرْح غَالِبا.
وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، وَإِلَيْهِ ميل ابْن
مُفْلِح. قلت: وَهُوَ الْأَحْوَط.
قَوْله: {وَمن اشْتبهَ اسْمه باسم مَجْرُوح وقف خَبره} حَتَّى
يتَحَقَّق أمره، ذَلِك لاحْتِمَال أَن يكون الرَّاوِي ذَلِك
الْمَجْرُوح فَلَا تقبل رِوَايَته بل يتَوَقَّف حَتَّى يعلم:
هَل هُوَ الْمَجْرُوح، أَو غَيره.
وَكثير مَا يفعل المدلسون مثل هَذَا، يذكرُونَ الرَّاوِي
الضَّعِيف باسم يُشَارِكهُ فِيهِ راو ثِقَة ليظن أَنه ذَلِك
الثِّقَة ترويجاً لروايتهم.
قَوْله: {وَمن أطلق تَضْعِيف خبر بِأَن يَقُول: هَذَا الْخَبَر
ضَعِيف، فَهُوَ كجرح مُطلق} فَيخرج عَلَيْهِ، فَمَا قيل فِي
الْجرْح الْمُطلق.
يُقَال فِي تَضْعِيفه للْخَبَر إِذا أطلق، وَهَذَا مَذْهَبنَا،
قَالَه الْمجد فِي
(4/1919)
" المسودة "، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح فِي "
أُصُوله "، وَغَيره.
وَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل الْجرْح الْمُطلق، بل لابد من
ذكر السَّبَب الْمُطلق كَمَا تقدم قَرِيبا.
وَلَا يُؤثر قَوْله ذَلِك عِنْد الشَّافِعِيَّة فَلَا
يمْنَع قبُوله، فَيقبل الحَدِيث إِذا قَالَ الْمُحدث:
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف من غير أَن يعزوه إِلَى مُسْتَند
يرجع إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قد يُضعفهُ بِشَيْء لَو ذكره لم
يكن قدحاً.
ويؤثر ذَلِك عِنْد الْحَنَفِيَّة، فَلَا يقبله، وَيكون
الْخَبَر ضَعِيفا عِنْدهم بذلك. لِأَن الْمُحدث ثِقَة،
وَقد ضعفه.
فتلخص فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال: الْقبُول
مُطلقًا، وَعَدَمه مُطلقًا، وإجراؤه كالجرح الْمُطلق،
فَأتى فِيهِ من الْخلاف مَا أَتَى فِيهِ على مَا تقدم.
قَوْله: {أَو تَصْحِيحه} ، أَي: أطلق تَصْحِيح خبر بِأَن
يَقُول: هَذَا الْخَبَر
(4/1920)
صَحِيح، فَهُوَ {كالتعديل الْمُطلق}
عندنَا؛ فَإِن إِطْلَاق تَصْحِيحه يسْتَلْزم تَعْدِيل
رُوَاته.
وَعَن الإِمَام أَحْمد: إِذا سَمِعت أَصْحَاب الحَدِيث
يَقُولُونَ: حَدِيث غَرِيب، أَو فَائِدَة فَاعْلَم أَنه
خطأ - أَي: لِأَنَّهُ شَاذ - وَإِذا سمعتهم يَقُولُونَ:
حَدِيث لَا شَيْء فَاعْلَم أَنه صَحِيح، أَي: لم تفد
رِوَايَته لشهرته.
حَكَاهُ القَاضِي، وَجَمَاعَة عَن حِكَايَة أبي إِسْحَاق
عَن أبي بكر النقاش، وَهُوَ كَذَّاب، والشاذ أَقسَام
عِنْدهم.
قَوْله: {وَلَا شَيْء للجرح بالاستقراء} ، يَعْنِي بِأَن
يَقُول: تتبعنا كَذَا
(4/1921)
فوجدناه كَذَا مرَارًا كَثِيرَة لم ينخرم،
فَلَو قيل: من وَجَدْنَاهُ يعْمل كَذَا فَهُوَ مَجْرُوح
واستقرأنا ذَلِك فِي أشخاص كَثِيرَة فوجدناه كذك، فَهَذَا
لَيْسَ بِجرح، وَلَيْسَ من طرق الْجرْح حَتَّى نحكم بِهِ.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة أَخَذتهَا من كَلَام ابْن مُفْلِح
فِي " أُصُوله "، وَيَأْتِي معنى الاستقراء وَأَحْكَامه
فِي الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا بعد الِاسْتِدْلَال،
كَقَوْلِهِم: الْوتر يفعل رَاكِبًا فَلَيْسَ بِوَاجِب
لاستقراء الْوَاجِبَات.
قَوْله: {وَله الْجرْح بالاستفاضة} ، إِذا شاع عَن مُحدث
أَن فِيهِ صفة توجب رد الحَدِيث وجرحه بهَا جَازَ الْجرْح
بهَا، كَمَا تجوز الشَّهَادَة بالاستفاضة فِي مسَائِل
مَخْصُوصَة مَعْلُومَة ذكرهَا الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ
فَكَذَلِك هَذَا.
(4/1922)
وَمنعه بعض أَصْحَابنَا، فَقَالَ: لَيْسَ
لَهُ الْجرْح بالاستفاضة، وَلَا يقبل كَمَا أَنه لَا يجوز
لَهُ أَن يُزكي بالاستفاضة لَو شاعت عَدَالَته، فَكَذَلِك
لَيْسَ لَهُ الْجرْح بِمُجَرَّد الاستفاضة بِمَا يُوجب
جرحه.
وَهَذَا ضَعِيف، وَالْأول أولى وَأظْهر.
وَخَالف بعض أَصْحَابنَا فِي التَّزْكِيَة بالاستفاضة
فَقَالَ: تجوز التَّزْكِيَة بالاستفاضة.
{وَاحْتج} لذَلِك كثير من الْعلمَاء {بِمن شاعت إِمَامَته
وعدالته من الْأَئِمَّة} ، فَإِنَّهُ يُزكي بالإستفاضة
بِلَا نزاع.
{قلت: وَهَذَا الْمَذْهَب، وَهُوَ معنى قَول الإِمَام
أَحْمد، وَجَمَاعَة} من الْعلمَاء.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن هَذَا احْتِمَال
قَول ثَالِث، وَأَنه الْمَذْهَب وَهُوَ
(4/1923)
معنى قَول أَحْمد وَجَمَاعَة، يسْأَل
وَاحِد مِنْهُم عَن مثلهم فَيُقَال: ثِقَة لَا يسْأَل عَن
مثله. انْتهى.
كَمَا سُئِلَ - مثلا - عَن الإِمَام مَالك،
وَالْأَوْزَاعِيّ، وَالثَّوْري، وَنَحْوهم.
{وَقَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا صَحِيح مَذْهَب الشَّافِعِي}
، وَعَلِيهِ الِاعْتِمَاد فِي أصُول الْفِقْه، وَمِمَّنْ
ذكره من أهل الحَدِيث: الْخَطِيب.
وَمثل ذَلِك بِمَالك وَشعْبَة، والسفيانين،
وَالْأَوْزَاعِيّ، وَاللَّيْث، وَابْن الْمُبَارك، ووكيع،
وَأحمد، وَابْن معِين، وَابْن الْمَدِينِيّ، وَمن جرى
مجراهم فِي نباهة الذّكر، واستقامة الْأَمر، وَلَا يسْأَل
عَن عَدَالَة هَؤُلَاءِ وأمثالهم، إِنَّمَا يسْأَل عَمَّن
خَفِي أمره عَن الطالبين. انْتهى.
(4/1924)
وَقد سُئِلَ ابْن معِين عَن أبي عبيد
فَقَالَ: مثلي يسْأَل عَن أبي عبيد {أَبُو عبيد يسْأَل عَن
النَّاس؟}
وَسُئِلَ أَحْمد عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فَقَالَ: مثل
إِسْحَاق يسْأَل عَنهُ؟ !
(4/1925)
قَوْله: {فصل}
{الْأَرْبَعَة، وأصحابنا، وَالْأَكْثَر يقدم جرح مُطلقًا}
، أَعنِي سَوَاء كثر الْجَارِح أَو قل، أَو سَاوَى؛ لِأَن
مَعَه زِيَادَة علم لم يطلع عَلَيْهَا الْمعدل؛ فَلذَلِك
قدم. وَهَذَا الصَّحِيح مُطلقًا وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
وَقَالَ ابْن حمدَان من أَصْحَابنَا وَغَيره: يقدم الْجرْح
إِن كثر الْجَارِح وَإِلَّا فَلَا، وَحَكَاهُ فِي
الْمَحْصُول فَقَالَ: يقدم الْأَكْثَر من الْجَارِح
والمعدل؛ لِأَن الْكَثْرَة لَهَا تَأْثِير فِي الْقُوَّة.
(4/1926)
ورده الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ بِأَن
المعدلين وَإِن كَثُرُوا فليسوا مخبرين بِعَدَمِ مَا أخبر
بِهِ الجارحون، وَلَو أخبروا بذلك كَانَت شَهَادَة نفي
وَهِي بَاطِلَة.
وَقيل: يقدم التَّعْدِيل مُطلقًا؛ لِأَن الْجَارِح قد يجرح
بِمَا لَيْسَ فِي نفس الْأَمر جرحا، والمعدل لَا يعدل
حَتَّى يتَحَقَّق بطرِيق سَلَامَته من كل جارح.
وَهَذَا القَوْل حَكَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة،
وَأبي يُوسُف، لَكِن قَضِيَّة تَعْلِيله بِمَا سبق
تَخْصِيص الْخلاف بِالْجرْحِ غير الْمُفَسّر بِنَاء على
قبُوله.
وَقيل: يقدم التَّعْدِيل على الْجرْح إِن كثر المعدلون،
وَاخْتَارَهُ الْمجد من أَصْحَابنَا مَعَ جرح مُطلق إِن
قبلناه، يَعْنِي على القَوْل بِقبُول الْجرْح الْمُطلق،
(4/1927)
وَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل الْجرْح
الْمُطلق كَمَا تقدم.
اعْلَم أَن القَاضِي أَبَا بكر ابْن الباقلاني فِي كِتَابه
" التَّقْرِيب " جعل مَوضِع الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ عدد
المعدلين أَكثر، فَأَما إِن اسْتَويَا فَإِنَّهُ يقدم
الْجرْح إِجْمَاعًا، وَكَذَا قَالَ الْخَطِيب فِي "
الْكِفَايَة "، وَابْن الْقطَّان وَأَبُو الْوَلِيد
الْبَاجِيّ، وَاعْترض على حكايته ذَلِك بِأَن الْقشيرِي
نصب الْخلاف فِيمَا إِذا اسْتَوَى عدد الْجَارِح والمعدل،
فَإِن كثر المعدلون فقبولهم أولى.
وَقَالَ الْمَازرِيّ: وَحكى ابْن شعْبَان فِي كِتَابه "
الزاهي " الْخلاف مَعَ
(4/1928)
التَّسَاوِي فِي الْعدَد، قَالَ: فَإِن
زَاد عدد الجارحين فَلَا وَجه لجَرَيَان الْخلاف.
وَبِه صرح الْبَاجِيّ فَقَالَ: لَا خلاف فِي تَقْدِيم
الْجرْح، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَا شكّ فِيهِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وعَلى هَذَا فَيخرج فِي مَحل الْخلاف
ثَلَاث طرق. انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: التَّرْجِيح كإثبات معِين ونفيه يَقِينا}
، أَعنِي أَن التَّرْجِيح قَول محكي فِي الْمَسْأَلَة،
أَعنِي أَنَّهُمَا يتعارضان عِنْده فيقف على مُرَجّح يرجع
إِلَيْهِ.
(4/1929)
وَقَوله: (كإثبات معِين ونفيه يَقِينا)
وَهَذِه الصُّورَة يتعارضان فِيهَا، وَيقف الْأَمر على
مُرَجّح من خَارج بِلَا خلاف عِنْدهم، مثل أَن يَقُول
الْجَارِح: هُوَ قتل فلَانا يَوْم كَذَا، وَيَقُول
الْمعدل: هُوَ حَيّ وَأَنا رَأَيْته بعد ذَلِك الْيَوْم.
فَيَقَع بَينهمَا التَّعَارُض لعدم إِمْكَان الْجمع
الْمَذْكُور فِي تَقْدِيم قَول الْجَارِح على الصَّحِيح
فَإِنَّهُ هُنَا يتَعَذَّر فَحِينَئِذٍ يُصَار إِلَى
التَّرْجِيح.
قَالَ الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره " فِي هَذَا الْمِثَال:
فههنا يتعارضان فيتساقطان وَيبقى أصل الْعَدَالَة ثَابتا،
ثمَّ قَالَ: قلت: وَيحْتَمل هُنَا أَن يقدم قَول الْمعدل؛
لِأَن السَّبَب الَّذِي اسْتندَ إِلَيْهِ الْجَارِح قد
تبين بُطْلَانه فَتبين بِهِ أَن الْجرْح كَأَنَّهُ لم يكن
فَيبقى التَّعْدِيل مُسْتقِلّا وَالْحكم وَاحِد. انْتهى.
قلت: وَهَذَا ضَعِيف وَكَذَا قَوْله: (وَيبقى أصل
الْعَدَالَة ثَابتا) وَلَعَلَّه بنى ذَلِك على أَن الأَصْل
فِي الْإِنْسَان الْعَدَالَة، وفيهَا خلاف، وَالْمَشْهُور
خلاف
(4/1930)
ذَلِك، وَالله أعلم.
قَوْله: {تَنْبِيه: يعدل بقول، وَحكم، وَعمل، وَرِوَايَة}
، أَعنِي يكون التَّعْدِيل تَارَة بالْقَوْل، وَتارَة
بالحكم، وَتارَة بِالْعَمَلِ، وَتارَة بالرواية.
وَلما تقرر فِي حَقِيقَة الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَالْحكم
فِي بَيَان سببهما وَاعْتِبَار الْعَدَالَة فيهمَا وَجب
القَوْل فِيمَا يحصل بِهِ التَّعْدِيل، وَهُوَ أَرْبَعَة
أَشْيَاء: أَحدهَا: صَرِيح القَوْل فِي الرَّاوِي
وَالشَّاهِد، وَله صفتان:
(4/1931)
إِحْدَاهمَا وَهِي أكملهما: قَول الْمعدل:
هُوَ عدل رضى، مَعَ بَيَان السَّبَب، أَي: يبين سَبَب
الْعَدَالَة مَعَ هَذَا القَوْل بِأَن يثني عَلَيْهِ بِذكر
محَاسِن عمله مِمَّا يعلم مِنْهُ مِمَّا يَنْبَغِي شرعا من
أَدَاء الْوَاجِبَات وَاجْتنَاب الْمُحرمَات،
وَاسْتِعْمَال وظائف الْمُرُوءَة، وَهُوَ أَعلَى مَرَاتِب
التَّعْدِيل للاتفاق عَلَيْهِ.
ويليه قَوْله: هُوَ عدل رضى، من غير ذكر سَبَب
الْعَدَالَة، وَهِي أدنى من الَّتِي قبلهَا.
وَقد ذكر أَرْبَاب فن الْجرْح وَالتَّعْدِيل أَن مَرَاتِب
التَّعْدِيل أَرْبَعَة:
الأولى: الْعليا مِنْهَا تكْرَار اللَّفْظ، بِأَن يَقُول:
ثِقَة، ثِقَة، أَو: عدل، عدل، أَو: ثِقَة، عدل. أَو ثِقَة
متقن، وَنَحْو ذَلِك.
الثَّانِيَة: ذكر ذَلِك من غير تكْرَار، كَقَوْلِه: ثِقَة،
أَو عدل، أَو: متقن، أَو: ثَبت، أَو: حجَّة، أَو: حَافظ،
أَو: ضَابِط. قَالَ الْخَطِيب: أرفع
(4/1932)
الْعبارَات أَن يَقُول: حجَّة، أَو ثِقَة.
الثَّالِثَة: قَوْلهم: لَا بَأْس، وَنَحْوه، أَو صَدُوق،
أَو مَأْمُون، أَو خِيَار.
الرَّابِعَة: قَوْلهم: مَحَله الصدْق، أَو رووا عَنهُ، أَو
صَالح الحَدِيث، أَو مقارب الحَدِيث، أَو حسن الحَدِيث،
أَو صُوَيْلِح، أَو صَدُوق إِن شَاءَ الله تَعَالَى، أَو
أَرْجُو أَنه لَيْسَ بِهِ بَأْس وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {وَحكم مشترط الْعَدَالَة بهَا تَعْدِيل
اتِّفَاقًا} .
وَهَذَا الثَّانِي من الْأَرْبَعَة الَّذِي يحصل بهَا
التَّعْدِيل، فَهَذَا مَا يحصل بِهِ التَّعْدِيل.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَحكم الْحَاكِم تَعْدِيل
اتِّفَاقًا، أطلقهُ فِي " الرَّوْضَة "، وَمرَاده مَا صرح
بِهِ غَيره: حَاكم يشْتَرط الْعَدَالَة، وَهُوَ
(4/1933)
كَمَا قَالَ، وَهُوَ تَعْدِيل مُتَّفق
عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ الْحَاكِم فَاسِقًا لقبُول
شَهَادَة من لَيْسَ عدلا عِنْده.
قَوْله: {وَهُوَ أقوى من القولي بِالسَّبَبِ} ، يَعْنِي
أَن حكم مشترط الْعَدَالَة بهَا أقوى من التَّعْدِيل
بالْقَوْل الَّذِي ذكر مَعَه سَببه؛ لِأَن ذَلِك قَول
مُجَرّد، وَالْحكم بروايته فعل تضمن القَوْل أَو استلزمه؛
إِذْ تعديله القولي تَقْديرا من لَوَازِم الحكم بروايته،
وَإِلَّا [كَانَ] هَذَا الْحَاكِم حَاكما بِالْبَاطِلِ.
وَهَذَا اخْتِيَار الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي
فِي " مُخْتَصره "، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ، وَغَيره
مِنْهُم الْعَسْقَلَانِي شَارِح الطوفي، التَّسْوِيَة
بَينهمَا.
قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " هُنَا، وَقَالَ فِي
التَّرْجِيح: قَالَ
(4/1934)
الْآمِدِيّ وَتَبعهُ بعض أَصْحَابنَا:
وتزكيته بِصَرِيح القَوْل على حكمه أَو عمله بِشَهَادَتِهِ
لاحْتِمَاله بِغَيْرِهِ، وَالْحكم على عمله، وَسبق فِي
السّنة. انْتهى.
فَظَاهره التَّنَاقُض عَن الْآمِدِيّ؛ لِأَنَّهُ حكى عَنهُ
هُنَا أَنه سوى بَين التَّعْدِيل القولي وَبَين الحكم من
مشترط الْعَدَالَة؟
وَحكى عَنهُ فِي التَّرْجِيح أَنه قدم تزكيته بِصَرِيح
القَوْل على حكمه أَو عمله بِشَهَادَتِهِ، وَلَعَلَّ لَهُ
قَوْلَيْنِ أَو يكون غير الْمَسْأَلَة، وَهُوَ بعيد.
وَمحل الْخلاف هُنَا مَعَ ذكر السَّبَب فِي القولي، أما
مَعَ عدم ذكره، فَالثَّانِي أقوى للاتفاق عَلَيْهِ.
(4/1935)
قَوْله: {وَعَمله بروايته تَعْدِيل إِن علم
أَن لَا مُسْتَند لَهُ غَيره وَإِلَّا فَلَا عِنْد
القَاضِي، وَالْأَكْثَر} .
وَهَذَا الثَّالِث مِمَّا يحصل بِهِ التَّعْدِيل، فمما
يحصل بِهِ التَّعْدِيل الْعَمَل بِخَبَر الرَّاوِي بِشَرْط
أَن يعلم أَن لَا مُسْتَند للْعَمَل غير رِوَايَته،
وَإِلَّا فَلَا، أَي: وَإِن لم يعلم ذَلِك مِنْهُ لم يكن
تعديلاً لاحْتِمَال أَنه يكون عمل بِدَلِيل آخر وَافق
رِوَايَته.
{وَقَالَهُ الْمُوفق، وَأَبُو الْمَعَالِي إِلَّا فِيمَا
الْعَمَل بِهِ احْتِيَاطًا} ؛ لفسقه لَو عمل بفاسق.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": قَالَ الْجُوَيْنِيّ
والمقدسي: يكون تعديلاً
(4/1936)
إِلَّا فِيمَا الْعَمَل بِهِ من مسالك
الِاحْتِيَاط.
قَالَ: وَعِنْدِي أَنه يفصل بَين أَن يكون الرَّاوِي
مِمَّن يرى قبُول مَسْتُور الْحَال، أَو لَا يرَاهُ، أَو
يجهل مذْهبه فِيهِ. انْتهى.
فَكَأَن الْمجد يخْتَار أَنه إِن كَانَ الرَّاوِي يرى أَنه
لَا يروي إِلَّا عَن بارز الْعَدَالَة فعمله بروايته
تَعْدِيل، وَإِن كَانَ يرى قبُول مَسْتُور الْحَال، أَو
يجهل مذْهبه فِيهِ فَلَيْسَ بتعديل للإبهام فَيرجع فِيهِ
إِلَى رَأْي الرَّاوِي فِيمَن يروي عَنهُ.
فعلى الأول قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": هُوَ
كتعديله بِلَا سَبَب، وَمَعْنَاهُ للآمدي وَمن تبعه.
يَعْنِي إِذا عمل بروايته وَقُلْنَا إِنَّهَا تَعْدِيل
فَيكون هَذَا التَّعْدِيل كالتعديل
(4/1937)
القولي بِلَا ذكر السَّبَب على مَا تقدم
عِنْد الشَّيْخ موفق الدّين، وَمن تَابعه.
وَقيل: بل هُوَ كحكمه بِهِ، فعلى هَذَا القَوْل يكون أقوى
من القَوْل الَّذِي قبله؛ لِأَن الحكم بِهِ أقوى من
التَّعْدِيل القولي وَلَو مَعَ ذكر السَّبَب كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَلَيْسَ ترك الْعَمَل بهَا وبالشهادة جرحا} .
يَعْنِي: لَو ترك الْعَمَل بالرواية أَو بِالشَّهَادَةِ
لَا يكون ذَلِك جرحا لاحْتِمَال سَبَب سوى ترك الْعَمَل
فَلَا يحكم على الرَّاوِي وَالشَّاهِد إِذا ترك الْعَمَل
بهما بجرحهما عِنْد الْجُمْهُور؛ لِأَنَّهُ تَركه للْعَمَل
قد يكون لأجل معنى فيهمَا من تُهْمَة قرَابَة، أَو
عَدَاوَة، أَو غير ذَلِك، وَقد يكون لغير ذَلِك.
فَإِذا لم يعْمل وَاحْتمل فَلَا يحكم عَلَيْهِ بِالْجرْحِ
بذلك مَعَ الِاحْتِمَال؛ لِأَن الأَصْل عَدمه، وَلَيْسَ
ترك الحكم بهَا منحصراً فِي الْفسق.
(4/1938)
وَلِأَن عمله قد يكون متوقفاً على أَمر آخر
زَائِد على الْعَدَالَة فَيكون التّرْك لعدم ذَلِك لَا
لانْتِفَاء الْعَدَالَة.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: يكون جرحا
إِذا تحقق ارْتِفَاع الدوافع، والموانع، وَأَنه لَو كَانَ
ثَابتا للَزِمَ الْعَمَل بِهِ.
أما إِن لم يتَبَيَّن قَصده إِلَى مُخَالفَة الْخَبَر
فَلَا يكون جرحا، وَفِي الْحَقِيقَة لَا يُخَالف الأول،
قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {وَرِوَايَة الْعدْل تَعْدِيل إِن كَانَ عَادَته
لَا يروي إِلَّا عَن عدل} عِنْد الإِمَام أَحْمد،
وَالشَّيْخ موفق الدّين، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين،
والطوفي، وَأبي الْمَعَالِي، والآمدي، وَابْن الْقشيرِي،
... ... ... ... .
(4/1939)
وَالْغَزالِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والهندي،
والباجي، وَغَيرهم، وَهُوَ وَاضح.
وَهَذَا الرَّابِع الَّذِي يحصل بِهِ التَّعْدِيل.
قَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": اخْتلف
الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث فِي رِوَايَة الثِّقَة عَن
رجل غير مَعْرُوف: هَل هُوَ تَعْدِيل، أم لَا؟
وَحكى أَصْحَابنَا عَن أَحْمد فِي ذَلِك رِوَايَتَيْنِ،
وحكوا عَن الْحَنَفِيَّة أَنه تَعْدِيل، وَعَن
الشَّافِعِيَّة خلاف ذَلِك.
قَالَ: فالمنصوص عَن أَحْمد أَنه إِن عرف مِنْهُ أَنه لَا
يروي إِلَّا عَن ثِقَة
(4/1940)
فروايته عَن إِنْسَان تَعْدِيل لَهُ، وَمن
لم يعرف مِنْهُ ذَلِك فَلَيْسَ بتعديل. وَصرح بِهِ
طَائِفَة من محققي أَصْحَابنَا، وَأَصْحَاب الشَّافِعِي.
قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة الْأَثْرَم: إِذا روى الحَدِيث
عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن رجل فَهُوَ حجَّة، ثمَّ
قَالَ: كَانَ عبد الرَّحْمَن أَولا يتساهل فِي الرِّوَايَة
عَن غير وَاحِد ثمَّ شدد بعد.
وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة أبي زرْعَة مَالك بن أنس إِذا
روى عَن رجل لَا يعرف فَهُوَ حجَّة.
وَقَالَ فِي رِوَايَة ابْن هَانِئ: مَا روى مَالك عَن أحد
إِلَّا وَهُوَ ثِقَة
(4/1941)
وكل من روى عَنهُ مَالك فَهُوَ ثِقَة.
وَذكر نصوصاً أخر فِي ذَلِك عَنهُ، وَعَن ابْن معِين،
وَغَيره. انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": مذْهبه
التَّفْضِيل بَين بعض الْأَشْخَاص.
وَقَالَ أَيْضا: وَالصَّحِيح الَّذِي يُوجِبهُ كَلَام
أَحْمد أَن من عرف من حَاله الْأَخْذ عَن الثِّقَات كمالك،
وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي، كَانَ تعديلاً دون غَيره.
انْتهى.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَالْحق أَنه إِن عرف
من مذْهبه أَو عَادَته أَو صَرِيح قَوْله أَنه لَا يرى
الرِّوَايَة وَلَا يروي إِلَّا عَن عدل كَانَ تعديلاً،
وَإِلَّا فَلَا؛ إِذْ قد يروي الشَّخْص عَمَّن لَو سُئِلَ
عَنهُ لسكت.
وَقَالَ ابْن اللحام فِي " مُخْتَصره " فِي الْأُصُول:
وَفِي رِوَايَة الْعدْل عَنهُ
(4/1942)
أَقْوَال، ثَالِثهَا الْمُخْتَار وَهُوَ
الْمَذْهَب: تَعْدِيل إِن كَانَ عَادَته لَا يروي إِلَّا
عَن عدل. انْتهى.
إِذا علم ذَلِك فَيعرف كَونه لَا يروي إِلَّا عَن عدل
إِمَّا بتصريحه وَهُوَ الْغَايَة، أَو باعتبارنا لحاله،
أَو استقرائنا لمن يروي عَنهُ، وَهُوَ دون الأول، قَالَه
ابْن دَقِيق الْعِيد، وَغَيره وَتقدم كَلَام الطوفي.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: لَا يكون ذَلِك تعديلاً.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله: وَرِوَايَة الْعدْل لَيست
تعديلاً عِنْد أَكثر الْعلمَاء من الطوائف وفَاقا
للمالكية، وَالشَّافِعِيَّة. انْتهى.
وَقيل: تَعْدِيل مُطلقًا، اخْتَارَهُ القَاضِي، وَأَبُو
الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة عملا
بِظَاهِر الْحَال.
(4/1943)
رد بِالْمَنْعِ، وَبِأَنَّهُ خلاف
الْوَاقِع، وبعدم الدَّلِيل.
وَرُوِيَ عَن القَاضِي: إِن سَمَّاهُ فَلَا تَعْدِيل لعدم
الْغرَر، وَإِلَّا فتعديل لِئَلَّا تكون رِوَايَته
ضيَاعًا.
وَلَعَلَّه أَرَادَ بِمَا إِذا سَمَّاهُ أَنه وكل تعديله
وجرحه إِلَى غَيره، وأظن أَنِّي رَأَيْت هَذَا النَّقْل
عَن القَاضِي فِي " المسودة "، لَكِن قَالَ ابْن مُفْلِح:
وَأَشَارَ بعض أَصْحَابنَا: إِن سَمَّاهُ فَلَا تَعْدِيل
لعدم الْغرَر وَإِلَّا فتعديل لِئَلَّا تكون رِوَايَته
ضيَاعًا كَذَا قَالَ. انْتهى.
وَلم ينْسب النَّقْل إِلَى القَاضِي.
قَوْله: فَائِدَة: {يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي
الْفَضَائِل عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالشَّيْخ الْمُوفق،
وَالْأَكْثَر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " الْآدَاب الْكُبْرَى ": قطع غير
وَاحِد مِمَّن صنف فِي عُلُوم
(4/1944)
5 - الحَدِيث حِكَايَة عَن الْعلمَاء أَنه
يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِيمَا لَيْسَ تحليلاً وَلَا
تَحْرِيمًا كالفضائل.
وَعَن أَحْمد مَا يُوَافق ذَلِك فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا
روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- فِي الْحَلَال وَالْحرَام شددنا فِي الْأَسَانِيد،
وَإِذا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِي فَضَائِل الْأَعْمَال، وَمَا لَا يضع
حكما، وَلَا يرفعهُ تساهلنا فِي الْأَسَانِيد.
ذكر هَذِه الْفَضَائِل القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن،
وَاسْتحبَّ الإِمَام أَحْمد الِاجْتِمَاع لَيْلَة الْعِيد
فِي رِوَايَة فَدلَّ على الْعَمَل بِهِ لَو كَانَ شعاراً.
وَفِي " الْمُغنِي " فِي صَلَاة التَّسْبِيح: الْفَضَائِل
لَا يشْتَرط لَهَا صِحَة
(4/1945)
الْخَبَر، واستحبها جمَاعَة، لَا لَيْلَة
الْعِيد فَدلَّ على التَّفْرِقَة بَين الشعار وَغَيره،
قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: لَا يعْمل بِالْحَدِيثِ
الضَّعِيف فِي الْفَضَائِل؛ وَلِهَذَا لم يسْتَحبّ صَلَاة
التَّسْبِيح لضعف خَبَرهَا عِنْده، مَعَ أَنه خبر مَشْهُور
عمل بِهِ وَصَححهُ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة.
(4/1946)
وَلم يسْتَحبّ أَيْضا التَّيَمُّم بضربتين
على الصَّحِيح عَنهُ، مَعَ أَن فِيهِ أَخْبَارًا أوآثاراً،
وَغير ذَلِك من مسَائِل الْفُرُوع.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلم ير أَحْمد
الْعَمَل بالْخبر فِي صَلَاة التَّسْبِيح لضَعْفه، فَدلَّ
على أَنه لَا يعْمل بِهِ فِي الْفَضَائِل.
وَقيل: لَا يعْمل بِهِ فِيمَا فِيهِ شعار. قَالَ فِي "
الْآدَاب ": وَيحْتَمل أَن يُقَال: يحمل الأول على عدم
الشعار، وَأَنه إِنَّمَا ترك الْعَمَل بِالثَّانِي لما
فِيهِ من الشعار، وَهُوَ معنى مُنَاسِب، وَالله أعلم.
{وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يعْمل بِهِ فِي التَّرْغِيب،
والترهيب، لَا فِي إِثْبَات مُسْتَحبّ، وَلَا غَيره} .
(4/1947)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن قَول
أَحْمد وَقَول الْعلمَاء فِي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ
الضَّعِيف فِي فَضَائِل الْأَعْمَال قَالَ: الْعَمَل بِهِ
بِمَعْنى أَن النَّفس ترجو ذَلِك الثَّوَاب، أَو تخَاف
ذَلِك الْعقَاب.
وَمِثَال ذَلِك التَّرْغِيب والترهيب بالإسرائيليات
والمنامات، وكلمات السّلف، وَالْعُلَمَاء، ووقائع
الْعَالم، وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يجوز بِمُجَرَّدِهِ
إِثْبَات حكم شَرْعِي، لَا اسْتِحْبَاب، وَلَا غَيره،
لَكِن يجوز أَن يدْخل فِي التَّرْغِيب والترهيب فِيمَا علم
حسنه أَو قبحه بأدلة الشَّرْع فَإِن ذَلِك ينفع، وَلَا يضر
وَسَوَاء كَانَ فِي نفس الْأَمر حَقًا أَو بَاطِلا إِلَى
أَن قَالَ: وَالْحَاصِل: أَن هَذَا الْبَاب يرْوى وَيعْمل
بِهِ فِي التَّرْغِيب والترهيب لَا فِي الِاسْتِحْبَاب.
ثمَّ اعْتِقَاد مُوجبه وَهُوَ مقادير الثَّوَاب
وَالْعِقَاب يتَوَقَّف على الدَّلِيل الشَّرْعِيّ.
وَقَالَ فِي " شرح الْعُمْدَة " فِي التَّيَمُّم بضربتين:
وَالْعَمَل بالضعاف إِنَّمَا يسوغ فِي عمل قد علم أَنه
مَشْرُوع فِي الْجُمْلَة، فَإِذا رغب فِي بعض أَنْوَاعه
بِحَدِيث ضَعِيف عمل بِهِ، أما إِثْبَات سنة فَلَا. انْتهى
كَلَامه.
وَنقل الْجَمَاعَة عَن أَحْمد أَنه كَانَ يكْتب حَدِيث
الرجل الضَّعِيف،
(4/1948)
كَابْن لَهِيعَة، وَجَابِر الْجعْفِيّ،
وَابْن أبي مَرْيَم، فَيُقَال لَهُ، فَيَقُول: أعرفهُ،
أعتبر بِهِ كَأَنِّي أستدل بِهِ مَعَ غَيره، لَا أَنه
حجَّة إِذا انْفَرد،
(4/1949)
وَيَقُول: يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا، وَرَأى
ذَلِك أَيْضا، وَيَقُول الحَدِيث عَن الْجعْفِيّ قد
يحْتَاج إِلَيْهِ فِي وَقت وَقَالَ: كنت لَا أكتب حَدِيث
جَابر الْجعْفِيّ ثمَّ كتبته، أعتبر بِهِ.
وَعجب أَيْضا من ذَلِك وَقَالَ: مَا أعجب أَمر الْفُقَهَاء
فِي ذَلِك، وَيزِيد بن هَارُون من أعجبهم يكْتب عَن الرجل
مَعَ علمه بضعفه.
وَظَاهر هَذَا مِنْهُ أَنه لَا يحْتَج بِهِ مَعَ غَيره
كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام جمَاعَة، وَظَاهر الأول يحْتَج
بِهِ، وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَالْمرَاد
إِلَّا من ضعفه لكذبه.
(4/1950)
أما مُنْفَردا فَلَا يحْتَج بِهِ عِنْد
الْعلمَاء لاعْتِبَار الشُّرُوط السَّابِقَة فِي
الرَّاوِي؛ وَلِهَذَا قَالَ: إِذا جَاءَ الْحَلَال
وَالْحرَام أردنَا أَقْوَامًا هَكَذَا، وَقبض كَفه وَأقَام
إبهاميه.
وَقَالَ أَيْضا: شددنا فِي الْأَسَانِيد، كَمَا تقدم.
وَفِي جَامع القَاضِي فِي أَوْقَات الصَّلَاة، وَفِي غَيره
أَن الحَدِيث الضَّعِيف لَا يحْتَج بِهِ فِي المآثم، قَالَ
فِي حَدِيث: " الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم ".
(4/1951)
مذْهبه - يَعْنِي: أَحْمد - أَن الحَدِيث
الضَّعِيف إِذا لم يكن لَهُ معَارض قَالَ بِهِ.
وَقَالَ فِي كَفَّارَة وَطْء الْحَائِض: مذْهبه فِي
الْأَحَادِيث وَإِن كَانَت مضطربة وَلم يكن لَهَا معَارض
قَالَ بهَا.
وَاحْتج القَاضِي بِحَدِيث مظَاهر ابْن أسلم: " أَن عدَّة
الْأمة قرءان " فضعفه خَصمه فطالبه بِسَبَبِهِ، ثمَّ
قَالَ: مَعَ أَن أَحْمد يقبل الحَدِيث الحَدِيث الضَّعِيف.
(4/1952)
وَقَالَ فِي " الْعدة " و " الْوَاضِح ":
أطلق أَحْمد القَوْل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف، فَقَالَ
النَّاس أكفاء إِلَّا حائكاً أَو حجاماً: ضَعِيف
وَالْعَمَل عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي حَدِيث غيلَان: " أَنه أسلم على عشر نسْوَة ":
لَا يَصح،
(4/1953)
وَالْعَمَل عَلَيْهِ فَمَعْنَى قَوْله:
ضَعِيف، عِنْد الْمُحدثين [بِمَا] لَا يُوجب ضعفه عِنْد
الْفُقَهَاء كتدليس وإرسال والتفرد بِزِيَادَة فِي حَدِيث.
ثمَّ ذكر فِي " الْعدة " مَا سبق من رِوَايَة أَحْمد عَن
الضَّعِيف، وَقَالَ: فِيهِ فَائِدَة بِأَن يروي الحَدِيث
من طَرِيق صَحِيح فرواية الضَّعِيف تَرْجِيح أَو ينْفَرد
الضَّعِيف بالرواية فَيعلم ضعفه فَلَا يقبل.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: قَول أَحْمد: (اسْتدلَّ
بِهِ مَعَ غَيره لَا أَنه حجَّة إِذا انْفَرد) يُفِيد يصير
حجَّة بالانضمام لَا مُنْفَردا.
(4/1954)
وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله:
طريقتي: لست أُخَالِف مَا ضعف من الحَدِيث إِذا لم يكن فِي
الْبَاب مَا يَدْفَعهُ.
قَوْله: {وَلَا يقبل تَعْدِيل مُبْهَم، كحدثني ثِقَة، أَو
عدل أَو من لَا أتهم عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَأكْثر
الشَّافِعِيَّة} ، مِنْهُم: الْقفال الشَّاشِي، والصيرفي،
والخطيب، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب، وَالشَّيْخ أَبُو
إِسْحَاق، وَابْن الصّباغ، وَالْمَاوَرْدِيّ فِي قَوْله:
(حَدثنِي ثِقَة) لاحْتِمَال كَونه مجروحاً عِنْد غَيره.
(4/1955)
{وَذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب وَابْن
عقيل، من صور الْمُرْسل على الْخلاف فِيهِ} ، قَالَ
الرَّوْيَانِيّ من الشَّافِعِيَّة: هُوَ كالمرسل.
وَصَححهُ ابْن الصّباغ، قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَكَذَا
أَبُو الْمَعَالِي واختياره قبُوله، وَأَن الشَّافِعِي
أَشَارَ إِلَيْهِ، وَقَبله الْمجد من أَصْحَابنَا، وَإِن
لم يقبل الْمُرْسل والمجهول} ، فَقَالَ: إِذا قَالَ
الْعدْل: حَدثنِي الثِّقَة، أَو من لَا أَتَّهِمهُ، أَو
رجل عدل، وَنَحْو ذَلِك، فَإِنَّهُ يقبل وَإِن رددنا
الْمُرْسل والمجهول؛ لِأَن ذَلِك تَعْدِيل صَرِيح عندنَا.
انْتهى.
وَكَذَا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَنقل ابْن الصّلاح
عَن أبي حنيفَة أَنه يقبل، وَقيل: فِيهِ تَفْصِيل، من يعرف
من عَادَته إِذا أطلق ذَلِك، أَنه
(4/1956)
يَعْنِي بِهِ معينا وَهُوَ مَعْرُوف
بِأَنَّهُ ثِقَة فَيقبل وَإِلَّا فَلَا.
حَكَاهُ شَارِح " اللمع الْيَمَانِيّ " عَن صَاحب "
الْإِرْشَاد ".
وَقيل: وَهُوَ الظَّاهِر الَّذِي قطع بِهِ إِمَام
الْحَرَمَيْنِ، وَنَقله ابْن الصّلاح عَن اخْتِيَار بعض
الْمُحَقِّقين - إِنَّه إِن كَانَ الْقَائِل لذَلِك من
أَئِمَّة الشَّأْن العارفين بِمَا اشْتَرَطَهُ هُوَ وخصومه
فِي الْعدْل، وَقد ذكره فِي مقَام الِاحْتِجَاج فَيقبل؛
لِأَن مثل هَؤُلَاءِ لَا يُطلق فِي مقَام الِاحْتِجَاج
إِلَّا فِي مَوضِع يَأْمَن أَن يُخَالف فِيمَن أطلق أَنه
ثِقَة.
فَائِدَة: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: حَدثنِي الثِّقَة،
فَتَارَة يُرِيد بِهِ أَحْمد، وَتارَة يُرِيد يحيى بن
حسان، وَتارَة يُرِيد بِهِ ابْن أبي فديك، وَتارَة يُرِيد
(4/1957)
بِهِ سعيد بن سَالم القداح، وَتارَة يُرِيد
بِهِ إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل، واشتهر عَنهُ ذَلِك
فِيهِ، وَتارَة يُرِيد بِهِ مَالِكًا.
وَقيل: مُسلم بن خَالِد الزنْجِي إِلَّا أَنه كَانَ يرى
الْقدر، وَاحْترز عَن التَّصْرِيح باسمه لهَذَا الْمَعْنى.
وَذكر الْحَاكِم جمَاعَة أخر.
(4/1958)
وَقَالَ ابْن حبَان: إِذا قَالَ: أَخْبرنِي
الثِّقَة عَن ابْن أبي ذِئْب فَهُوَ عَن أبي فديك، أَو عَن
اللَّيْث، فَهُوَ يحيى بن حسان، أَو عَن الْوَلِيد بن كثير
فَهُوَ عَمْرو بن أبي سَلمَة، أَو عَن ابْن جريج فَهُوَ
مُسلم بن خَالِد الزنْجِي، أَو عَن صَالح مولى التؤمة
فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى.
وَقَالَ الرّبيع: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: أخبرنَا
الثِّقَة فَهُوَ يحيى بن حسان، وَإِذا قَالَ: من لَا أتهم
فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى، فَإِذا قَالَ: بعض
[النَّاس] فَهُوَ يُرِيد أهل الْعرَاق، وَإِذا قَالَ: بعض
أَصْحَابنَا فيريد أهل الْحجاز.
(4/1959)
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
أَحدهمَا: الْجرْح نِسْبَة مَا يرد لأَجله القَوْل إِلَى
الشَّخْص} الْقَائِل من خبر أَو شَهَادَة، من فعل
مَعْصِيّة أَو ارْتِكَاب ذَنْب أَو مَا يخل
بِالْعَدَالَةِ. قَالَه الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَشَرحه
فِي حد الْجرْح.
قَوْله: {وَالتَّعْدِيل بِخِلَافِهِ} ، أَي: فَهُوَ
نِسْبَة مَا يقبل لأَجله القَوْل إِلَى الشَّخْص الْقَائِل
من فعل الْخَيْر، والعفة والمروءة، وَالدّين بِفعل
الْوَاجِبَات، وَترك الْمُحرمَات، وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {الثَّانِيَة: الْإِخْبَار عَن عَام لَا يخْتَص
بِمعين، وَلَا ترافع فِيهِ يُمكن عِنْد الْحُكَّام، هُوَ
الرِّوَايَة وَعَكسه الشَّهَادَة. قَالَه الْمَازرِيّ:
وَمَعْنَاهُ للشَّافِعِيّ} .
(4/1960)
لما وَقع التَّفْصِيل بَين قبُول تَعْدِيل
وَاحِد وجرحه فِي الرِّوَايَة بِخِلَاف ذَلِك فِي
الشَّهَادَة احْتِيجَ إِلَى الْفرق بَينهمَا، وَقد خَاضَ
جمَاعَة غمره.
وَأكْثر مَا يفرقون بَينهمَا باختلافهما فِي الْأَحْكَام
كاشتراط الْعدَد فِي الشَّهَادَة، وَالْحريَّة على قَول،
والذكورية فِي صور.
وَلَا يخفى أَن هَذِه أَحْكَام مترتبة على معرفَة
الْحَقِيقَة، فَلَو ثبتَتْ الْحَقِيقَة بهَا لزم الدّور.
قَالَ الْقَرَافِيّ: أَقمت مُدَّة أتطلب الْفرق بَينهمَا
حَتَّى ظَفرت بِهِ فِي " شرح الْبُرْهَان ".
فَذكر مَا حَاصله أَن الْخَبَر إِن كَانَ عَن عَام لَا
يخْتَص بِمعين وَلَا ترافع فِيهِ يُمكن عِنْد الْحُكَّام
فَهُوَ الرِّوَايَة، وَإِن كَانَ خَاصّا، وَفِيه ترافع
مُمكن فَهُوَ الشَّهَادَة.
(4/1961)
وَعلم من هَذَا الْفرق الْمَعْنى فِيمَا
اخْتصّت بِهِ الشَّهَادَة من الْعدَد، والذكورية،
وَالْحريَّة، وَنَحْوهَا.
وَاحْترز بِإِمْكَان الترافع عَن الرِّوَايَة عَن خَاص
معِين فَإِنَّهُ لَا ترافع فِيهِ مُمكن، انْتهى مُلَخصا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": قلت: هَذَا
الْفرق نَفسه فِي كَلَام الشَّافِعِي، وَبَين المُرَاد من
الْعُمُوم وَالْخُصُوص هُنَا، فَقَالَ فِيمَا نَقله
الْمُزنِيّ فِي " الْمُخْتَصر " فِي بَاب شَهَادَة
النِّسَاء لَا رجل مَعَهُنَّ وَالرَّدّ على من أجَاز
شَهَادَة امْرَأَة من هَذَا الْكتاب فِي مَسْأَلَة الْخلاف
بَينه وَبَين أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه حَيْثُ قبلوا
شَهَادَة امْرَأَة على ولادَة الزَّوْجَة دون الْمُطلقَة
مَا نَصه:
(4/1962)
وَقلت لمن يُجِيز شَهَادَة امْرَأَة فِي
الْولادَة، كَمَا يُجِيز الْخَبَر بهَا لَا من قبل
الشَّهَادَة، وَأَيْنَ الْخَبَر من الشَّهَادَة؟ : أتقبل
امْرَأَة عَن امْرَأَة أَن امْرَأَة رجل ولدت هَذَا
الْوَلَد؟ قَالَ: لَا. قلت: وَتقبل فِي الْخَبَر: أخبرنَا
فلَان عَن فلَان؟ قَالَ: نعم. قلت: وَالْخَبَر هُوَ مَا
اسْتَوَى فِيهِ الْمخبر والمخبر والعامة من حرَام وحلال؟
قَالَ: نعم. قلت: وَالشَّهَادَة مَا كَانَ الشَّاهِد
مِنْهُ خلياً والعامة وَإِنَّمَا تلْزم الْمَشْهُود
عَلَيْهِ؟ قَالَ: نعم. قلت: أفترى هَذَا مشبهاً لهَذَا؟
قَالَ: أما فِي مثل هَذَا فَلَا. انْتهى. وَقَوله:
الْخَبَر بهَا لَا من قبل الشَّهَادَة هُوَ المصطلح على
تَسْمِيَته رِوَايَة، وَإِن كَانَت الشَّهَادَة أَيْضا
خَبرا بِاعْتِبَار مُقَابلَة الْإِنْشَاء.
فللخبر إطلاقات، والمتقدمون يعبرون عَن الرِّوَايَة
بالْخبر كَمَا هُوَ فِي بعض عِبَارَات الباقلاني،
وَالْمَاوَرْدِيّ، وَغَيرهمَا.
(4/1963)
وَبَين الشَّافِعِي السَّبَب فِيمَا تفارق
فِيهِ الشَّهَادَة الرِّوَايَة من الْأَحْكَام، وترتبه على
مَا افْتَرَقت بِهِ حقيقتاهما من الْمَعْنى، وَذكر بعض
الْأَحْكَام قِيَاسا على الْبَعْض ردا على خَصمه الَّذِي
قد سلم الْمَعْنى وَفرق فِي الْأَحْكَام بِمَا لَا
يُنَاسب.
فَإِن قلت: فَأَيْنَ اعْتِبَار إِمْكَان الترافع فِي
الشَّهَادَة دون الرِّوَايَة فِي كَلَام الشَّافِعِي؟
قلت: من قَوْله: (وَإِنَّمَا يلْزم الْمَشْهُود عَلَيْهِ)
فَإِن اللُّزُوم يَسْتَدْعِي مخاصمة وترافعاً.
فَإِن قيل: لَيْسَ فِيمَا نقلت عَن الشَّافِعِي وَلَا
فِيمَا نَقله الْقَرَافِيّ عَن الْمَازرِيّ ذكر مَا
يعْتَبر فِي الشَّهَادَة من لفظ: أشهد.
وَكَونه عِنْد الْحَاكِم أَو الْمُحكم أَو سيد العَبْد أَو
الْأمة حَيْثُ سمع عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَة لإِقَامَة
الْحُدُود إِن جَوَّزنَا لَهُ ذَلِك، وَلَا مَا أشبه ذَلِك
مِمَّا يخْتَص بِالشَّهَادَةِ.
قلت: إِنَّمَا لم يذكر لكَونهَا أحكاماً وشروطاً خَارِجا
عَن الْحَقِيقَة وعَلى كل حَال فقد علم مِمَّا سبق وَجه
الْمُنَاسبَة فِيمَا اخْتصّت بِهِ الشَّهَادَة عَن
رِوَايَات الْأَخْبَار.
قَالَ ابْن عبد السَّلَام: لِأَن الْغَالِب من الْمُسلمين
مهابة الْكَذِب على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِخِلَاف شَهَادَة الزُّور فاحتيج إِلَى
الِاسْتِظْهَار فِي الشَّهَادَات، وَأَيْضًا فقد ينْفَرد
الحَدِيث النَّبَوِيّ بِشَاهِد وَاحِد فِي المحاكمات؛
وَلِهَذَا يظْهر فِيمَا سبق فِي تَزْكِيَة الْوَاحِد فِي
الرِّوَايَة أَنه لكَونه أحوط.
(4/1964)
وَأَيْضًا بَين كثير من النَّاس إحن
وعداوات قد تحمل على شَهَادَة الزُّور من بعض بِخِلَاف
الْأَخْبَار النَّبَوِيَّة. انْتهى مُلَخصا.
وَفصل غَيره الْمَعْنى فِيمَا اعْتبر فِي الشَّهَادَة، أما
الْعدَد فَإِنَّهَا لما تعلّقت بِمعين تطرقت إِلَيْهَا
التُّهْمَة بِاحْتِمَال الْعَدَاوَة فاحتيط بإبعاد
التُّهْمَة بِخِلَاف الرِّوَايَة.
وَأما الذُّكُورَة حَيْثُ اشْترطت فَإِن إِلْزَام الْمعِين
فِيهِ نوع سلطنة وقهر، والنفوس تأباه، وَلَا سِيمَا من
النِّسَاء لنَقص عقلهن ودينهن بِخِلَاف الرِّوَايَة؛
لِأَنَّهَا عَامَّة تتأسى فِيهَا النُّفُوس فيخف الْأَلَم.
وَأَيْضًا فلنقص النِّسَاء يكثر غلطهن وَلَا ينْكَشف ذَلِك
غَالِبا فِي الشَّهَادَة لانقضائها بِانْقِضَاء زمانها
بِخِلَاف الرِّوَايَة فَإِن متعلقها بِالْعُمُومِ يَقع
الْكَشْف عَنْهَا فيتبين مَا عساه وَقع من الْمَرْأَة من
غلط وَنَحْوه.
(4/1965)
قَوْله: {فصل}
{تَدْلِيس الْمَتْن عمدا محرم} .
وجرح التَّدْلِيس لَهُ مَعْنيانِ، معنى فِي اللُّغَة
وَمعنى فِي الِاصْطِلَاح.
فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة: كتمان الْعَيْب فِي مَبِيع أَو
غَيره، وَيُقَال: دالسه خادعه، كَأَنَّهُ من الدلس وَهُوَ
الظلمَة؛ لِأَنَّهُ إِذا غطى عَلَيْهِ الْأَمر أظلمه
عَلَيْهِ.
وَأما فِي الِاصْطِلَاح: فَهُوَ قِسْمَانِ، قسم مُضر
يمْنَع الْقبُول، وَقسم لَا يضر.
فَالْأول هُوَ الَّذِي ذكرنَا أَولا وَيُسمى المدرج،
سَمَّاهُ بذلك المحدثون، وَهُوَ بِكَسْر الرَّاء اسْم
فَاعل.
(4/1966)
فالراوي للْحَدِيث إِذا أَدخل فِيهِ شَيْئا
من كَلَامه أَولا أَو آخرا أَو وسطا على وَجه يُوهم أَنه
من جملَة الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ [فَهُوَ المدرج]
وَيُسمى هَذَا تَدْلِيس الْمُتُون، وفاعله عمدا مرتكب
محرما مَجْرُوح عِنْد الْعلمَاء لما فِيهِ من الْغِشّ.
أما لَو اتّفق ذَلِك من غير قصد من صَحَابِيّ أَو غَيره
فَلَا يكون ذَلِك محرما، وَمن ذَلِك كثير أفرده الْخَطِيب
الْبَغْدَادِيّ بالتصنيف.
وَمن أمثلته حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي التَّشَهُّد، قَالَ
فِي آخِره: (وَإِذا قلت هَذَا فَإِن شِئْت أَن تقوم
فَقُمْ، وَإِن شِئْت أَن تقعد فَاقْعُدْ) ، وَهُوَ من
كَلَامه لَا من الحَدِيث الْمَرْفُوع. قَالَه
الْبَيْهَقِيّ والخطيب
(4/1967)
وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهم: وَهَذَا من المدرج
أخيراً.
وَمِثَال المدرج أَولا: مَا رَوَاهُ الْخَطِيب بِسَنَدِهِ
عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " أَسْبغُوا
الْوضُوء، ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار "، فَإِن "
أَسْبغُوا الْوضُوء " من كَلَام أبي هُرَيْرَة.
وَمِثَال الْوسط مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن بسرة
بنت صَفْوَان - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: سَمِعت
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَقُول: " من مس ذكره أَو أثنييه أَو رفغيه فَليَتَوَضَّأ
" قَالَ: فَذكر الْأُنْثَيَيْنِ والرفغ مدرج، إِنَّمَا
هُوَ من قَول
(4/1968)
عُرْوَة الرَّاوِي عَن بسرة، ومرجع ذَلِك
إِلَى الْمُحدثين.
وَيعرف ذَلِك بِأَن يرد من طرق أُخْرَى التَّصْرِيح بِأَن
ذَلِك من كَلَام الرَّاوِي، وَهُوَ طَرِيق ظَنِّي قد يقوى،
وَقد يضعف.
وعَلى كل حَال حَيْثُ فعل ذَلِك الْمُحدث عمدا بِأَن قصد
إدراج كَلَامه فِي حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غير تَبْيِين، بل دلّس ذَلِك
كَانَ فعله حَرَامًا، وَهُوَ مَجْرُوح عِنْد الْعلمَاء غير
مَقْبُول الحَدِيث، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَغَيره مَكْرُوه مُطلقًا} .
هَذَا الْقسم الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي لَا يضر، وَله
صور:
إِحْدَاهَا: أَن يُسمى شَيْخه فِي رِوَايَته باسم لَهُ غير
مَشْهُور من كنية، أَو لقب، أَو اسْم، أَو نَحوه، كَقَوْل
أبي بكر بن مُجَاهِد الْمُقْرِئ الإِمَام: ثَنَا الإِمَام
عبد الله بن أبي أوفى، يُرِيد بِهِ عبد الله بن أبي دَاوُد
(4/1969)
السجسْتانِي.
وَقَوله أَيْضا: ثَنَا مُحَمَّد بن سَنَد، يُرِيد بِهِ
النقاش الْمُفَسّر نسبه إِلَى جده، وَهُوَ كثير جدا
وَيُسمى هَذَا تَدْلِيس الشُّيُوخ.
وَأما تَدْلِيس الْإِسْنَاد، وَهُوَ أَن يروي عَمَّن لقِيه
أَو عاصره مَا لم يسمعهُ مِنْهُ موهماً سَمَاعه مِنْهُ
قَائِلا: قَالَ فلَان، أَو عَن فلَان وَنَحْوه، وَرُبمَا
لم يسْقط شَيْخه وَأسْقط غَيره.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَمثله غَيره بِمَا فِي التِّرْمِذِيّ
عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله
عَنْهَا - مَرْفُوعا: " لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته
(4/1970)
كَفَّارَة يَمِين "، ثمَّ قَالَ: هَذَا
حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَن الزُّهْرِيّ لم يسمعهُ من أبي
سَلمَة.
ثمَّ ذكر أَن بَينهمَا سُلَيْمَان بن أَرقم عَن يحيى بن
أبي كثير، وَأَن هَذَا وَجه الحَدِيث، قَالَ ابْن الصّلاح:
هَذَا الْقسم مَكْرُوه جدا، ذمه الْعلمَاء، وَكَانَ
شُعْبَة من أَشَّدهم ذماً لَهُ. وَقَالَ مرّة لَهُ:
التَّدْلِيس أَخُو الْكَذِب وَمرَّة: لِأَن أزني أحب
إِلَيّ من أَن أدلس.
وَهَذَا مِنْهُ إفراط مَحْمُول على الْمُبَالغَة فِي
الزّجر عَنهُ.
(4/1971)
الصُّور الثَّانِيَة: أَن يُسَمِّي شَيْخه
باسم شيخ آخر لَا يُمكن أَن يكون رَوَاهُ عَنهُ، كَمَا
يَقُول تلامذة الْحَافِظ أبي عبد الله الذَّهَبِيّ: ثَنَا
أَبُو عبد الله الْحَافِظ، تَشْبِيها بقول الْبَيْهَقِيّ
فِيمَا يرويهِ عَن شَيْخه أبي عبد الله الْحَاكِم: ثَنَا
أَبُو عبد الله الْحَافِظ.
وَهَذَا لَا يقْدَح لظُهُور الْمَقْصُود.
الصُّورَة الثَّالِثَة: أَن يَأْتِي فِي التحديث بِلَفْظ
يُوهم أمرا لَا قدح فِي إيهامه ذَلِك، كَقَوْلِه: ثَنَا
وَرَاء النَّهر، موهماً نهر جيحون، وَهُوَ نهر عِيسَى
(4/1972)
بِبَغْدَاد أَو الجيزة وَنَحْوهَا بِمصْر،
فَلَا حرج فِي ذَلِك، قَالَه الْآمِدِيّ؛ لِأَن ذَلِك من
بَاب الإغراب وَإِن كَانَ فِيهِ إِيهَام الرحلة إِلَّا
أَنه صدق فِي نَفسه، إِذا علم ذَلِك.
فَالْمُرَاد بذلك الأول، وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه
مَكْرُوه كَمَا تقدم.
قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة حَرْب، وَنقل الْمَرْوذِيّ:
{لَا يُعجبنِي هُوَ من أهل الرِّيبَة} ، وَلَا يُغير اسْم
رجل؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف وَسَأَلَهُ مهنا عَن هشيم قَالَ:
ثِقَة إِذا لم يُدَلس. قلت: التَّدْلِيس عيب؟ قَالَ: نعم.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هَل كَرَاهَته تَنْزِيه
أَو تَحْرِيم يخرج على
(4/1973)
الْخلاف لنا فِي معاريض غير ظَالِم وَلَا
مظلوم، قَالَ: وَالْأَشْبَه تَحْرِيمه؛ لِأَنَّهُ أبلغ من
تَدْلِيس الْمَبِيع.
قَوْله: {وَمن فعل متأولاً. قبل: عِنْد أَحْمد
وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر} من الْفُقَهَاء، والمحدثين،
{وَلم يفسق} ؛ لِأَنَّهُ قد صدر من الْأَعْيَان المتقدى
بهم.
وَقل من سلم مِنْهُ.
وَقد رد الإِمَام أَحْمد قَول شُعْبَة (التَّدْلِيس كذب)
قيل للْإِمَام أَحْمد: كَانَ شُعْبَة يَقُول: التَّدْلِيس
كذب. فَقَالَ: لَا، قد دلّس قوم وَنحن نروي عَنْهُم،
وَتقدم تَأْوِيل كَلَام شُعْبَة.
وَقطع ابْن حمدَان فِي " مقنعه "، وَغَيره بِأَن تَدْلِيس
الْأَسْمَاء لَيْسَ بِجرح.
(4/1974)
قَوْله: {وَمن عرف بِهِ عَن الضُّعَفَاء لم
تقبل رِوَايَته حَتَّى يبين سَمَاعه عِنْد الْمُحدثين} ،
وَغَيرهم، {وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم} ، وَأَبُو
الطّيب وَغَيره من الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ ظَاهر
الْمَعْنى، وسبقت رِوَايَة مهنا، {وَقَالَ الْمجد} ، بن
تَيْمِية: {من كثر مِنْهُ التَّدْلِيس لم تقبل عنعنته} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن يحْتَمل تَشْبِيه
ذَلِك بِمَا سبق فِي الضَّبْط من كَثْرَة السَّهْو وغلبته،
وَمَا فِي البُخَارِيّ وَمُسلم من ذَلِك مَحْمُول على أَن
(4/1975)
السماع من طَرِيق آخر، كَذَا قيل.
وَقد قيل لِأَحْمَد فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: الرجل يعرف
بالتدليس يحْتَج بِمَا لم يقل فِيهِ حَدثنِي أَو سَمِعت؟
قَالَ: لَا أَدْرِي.
قلت: الْأَعْمَش مَتى تصاب لَهُ الْأَلْفَاظ؟ قَالَ: يضيق
إِن لم يحْتَج بِهِ.
قَوْله: {والإسناد المعنعن بِلَا تَدْلِيس بِأَيّ لفظ
كَانَ مُتَّصِل عِنْد أَحْمد وَالْأَكْثَر} من الْمُحدثين،
وَغَيرهم، عملا بِالظَّاهِرِ، وَالْأَصْل عدم التَّدْلِيس.
قَالَ ابْن الصّلاح: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنه من
قبيل الْإِسْنَاد الْمُتَّصِل.
وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي " التَّمْهِيد " إِجْمَاعًا،
وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو عَمْرو
(4/1976)
الداني إِجْمَاعًا، وَلَكِن شَرط ابْن عبد
الْبر ثَلَاثَة شُرُوط: الْعَدَالَة، واللقاء، وَعدم
التَّدْلِيس.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن
إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله عَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو رَوَاهُ
الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه وَدَاوُد عَن الشّعبِيّ
عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل ذَلِك ثَابت.
وَذكر جمَاعَة أَن الْإِسْنَاد المعنعن لَيْسَ بِمُتَّصِل.
(4/1977)
قَالَ ابْن الصّلاح: عده بعض النَّاس من
قبيل الْمُرْسل والمنقطع حَتَّى يتَبَيَّن اتِّصَاله
بِغَيْرِهِ فَيجْعَل مُرْسلا إِن كَانَ من قبل
الصَّحَابِيّ، ومنقطعاً إِن كَانَ من قبل غَيره.
وَقَوْلنَا: (بِأَيّ لفظ كَانَ) يَشْمَل (عَن) و (أَن) و
(قَالَ) وَنَحْوه، وَهَذَا الصَّحِيح كَمَا يَأْتِي فِي
(قَالَ) وَنَحْوه.
وَنقل أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد أَن (أَن فلَانا) لَيست
للاتصال.
وَأطلق القَاضِي وَغَيره من أَصْحَابنَا وَبَعض الْعلمَاء
فَلم يفرقُوا بَين المدلس أَو غَيره أَو علم إِمْكَان
اللِّقَاء أَو لَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّه غير مُرَاد، وَقَالَ أَبُو
بكر البرذعي: إِن حرف (أَن) مَحْمُول على الِانْقِطَاع
حَتَّى يتَبَيَّن السماع فِي ذَلِك الْخَبَر من جِهَة
أُخْرَى.
(4/1978)
وَقَالَهُ الْحَافِظ الْفَحْل ابْن شيبَة
كَمَا قَالَه الإِمَام أَحْمد، وَيَأْتِي حكم (قَالَ،
وَفعل، وَأقر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ -) .
قَوْله: {وَيَكْفِي إِمْكَان اللقي عِنْد مُسلم، وَحَكَاهُ
عَن أهل الْعلم بالأخبار} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ معنى مَا ذكره أَصْحَابنَا
فِيمَا يرد بِهِ الْخَبَر وَمَا لم يرد.
قَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": وَهُوَ
قَول كثير من الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين، وَهُوَ ظَاهر
كَلَام ابْن حبَان، وَغَيره، وَاشْترط عَليّ ابْن
الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهمَا الْعلم باللقي
وَهُوَ أظهر.
(4/1979)
قَالَ ابْن رَجَب فِي " شرح التِّرْمِذِيّ
": هُوَ قَول جُمْهُور الْمُتَقَدِّمين، وَهُوَ مُقْتَضى
كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة، وَأبي حَاتِم،
وَغَيرهم من أَعْيَان الْحفاظ، بل كَلَامهم يدل على
اشْتِرَاط ثُبُوت السماع كَمَا تقدم عَن الشَّافِعِي
فَإِنَّهُم قَالُوا فِي جمَاعَة من الْأَعْيَان: ثبتَتْ
لَهُم الرُّؤْيَة لبَعض الصَّحَابَة وَقَالُوا: مَعَ ذَلِك
لم يثبت لَهُم السماع مِنْهُم فرواياتهم عَنْهُم مُرْسلَة،
مِنْهُم: الْأَعْمَش وَيحيى بن أبي كثير، وَأَيوب، وَابْن
عون وقرة بن خَالِد
(4/1980)
رَأَوْا أنسا وَلم يسمعوا مِنْهُ،
فرواياتهم عَنهُ مُرْسلَة، كَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم،
وَقَالَهُ أَبُو زرْعَة أَيْضا فِي يحيى بن أبي كثير
وَقَالَ أَحْمد فِي يحيى بن أبي كثير: قد رأى أنسا فَلَا
أَدْرِي سمع مِنْهُ أم لَا؟
وَلم يجْعَلُوا رِوَايَته عَنهُ مُتَّصِلَة بِمُجَرَّد
الرُّؤْيَة والرؤية أبلغ من إِمْكَان اللقي، وَكَذَلِكَ
كثير من صبيان الصَّحَابَة رَأَوْا النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يَصح لَهُم سَماع
مِنْهُ فرواياتهم عَنهُ مرسله، كطارق ابْن شهَاب وَغَيرهم،
وَكَذَلِكَ من علم مِنْهُ أَنه مَعَ اللِّقَاء لم يسمع
مِمَّن لقِيه إِلَّا شَيْئا يَسِيرا فروايته عَنهُ
زِيَادَة على ذَلِك مُرْسلَة، كروايات ابْن الْمسيب عَن
عمر فَإِن الْأَكْثَرين نفوا سَمَاعه مِنْهُ وَأثبت أَحْمد
أَنه رَآهُ وَسمع مِنْهُ، وَقَالَ: مَعَ ذَلِك رواياته
عَنهُ مُرْسلَة، إِنَّمَا سمع مِنْهُ شَيْئا يَسِيرا.
(4/1981)
مِثَاله: نعيه النُّعْمَان بن مقرن على
الْمِنْبَر، وَنَحْو ذَلِك، وَكَذَلِكَ سَماع الْحسن من
عُثْمَان وَهُوَ على الْمِنْبَر [يَأْمر] بقتل الْكلاب
وَذبح الْحمام.
ورواياته عَنهُ غير ذَلِك مُرْسلَة.
وَقَالَ أَحْمد: [بن] جريج لم يسمع من طَاوُوس، وَلَا
حرفا، وَيَقُول: رَأَيْت طاووساً.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ أَيْضا: الزُّهْرِيّ لَا
يَصح سَمَاعه من ابْن عمر رَآهُ وَلم يسمع مِنْهُ، وَرَأى
عبد الله بن جَعْفَر وَلم يسمع مِنْهُ.
(4/1982)
وَأثبت أَيْضا دُخُول مَكْحُول على
وَاثِلَة بن الْأَسْقَع ورؤيته لَهُ ومشافهته، وَأنكر
سَمَاعه، وَقَالَ: لم يَصح لَهُ مِنْهُ سَماع، وَجعل
رواياته عَنهُ؟ مُرْسلَة.
وَقَالَ أَحْمد: أبان بن عُثْمَان لم يسمع من أَبِيه، من
أَيْن سمع مِنْهُ؟ وَمرَاده: من أَيْن صحت الرِّوَايَة
بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، وَإِلَّا فإمكان ذَلِك واحتماله غير
مستبعد.
وَقَالَ أَبُو زرْعَة فِي أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف: لم
يسمع من عمر.
هَذَا مَعَ أَن أَبَا أُمَامَة رأى النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدلَّ كَلَام الإِمَام
أَحْمد، وَأبي زرْعَة، وَأبي حَاتِم على أَن الِاتِّصَال
لَا يثبت إِلَّا بِثُبُوت التَّصْرِيح بِالسَّمَاعِ،
(4/1983)
وَهَذَا أضيق من قَول ابْن الْمَدِينِيّ،
وَالْبُخَارِيّ؛ فَإِن المحكي عَنْهُمَا أَنه يعْتَبر أحد
أَمريْن: إِمَّا السماع، وَإِمَّا اللِّقَاء.
وَأحمد وَمن تبعه عِنْدهم لابد من ثُبُوت السماع.
وَيدل على أَن هَذَا مُرَادهم، أَن أَحْمد قَالَ: ابْن
سِيرِين لم يَجِيء عَنهُ سَماع من ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الزُّهْرِيّ أدْرك أبان بن عُثْمَان
وَمن هُوَ أكبر مِنْهُ، وَلَكِن لَا يثبت لَهُ السماع،
كَمَا أَن حبيب بن أبي ثَابت لَا يثبت لَهُ السماع من
عُرْوَة، وَقد سمع مِمَّن هُوَ أكبر مِنْهُ غير أَن أهل
الحَدِيث قد اتَّفقُوا على ذَلِك، واتفاقهم على شَيْء يكون
حجَّة، وَاعْتِبَار السماع لاتصال الحَدِيث هُوَ الَّذِي
ذكره ابْن عبد الْبر، وَحَكَاهُ عَن الْعلمَاء، وَقُوَّة
كَلَامه تشعر بإنه إِجْمَاع مِنْهُم.
قَالَ ابْن رَجَب: وَقد تقدم أَنه قَول الشَّافِعِي
أَيْضا.
وَأطَال النَّقْل فِي ذَلِك عَن الْأَئِمَّة ثمَّ قَالَ:
كَلَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة،
(4/1984)
وَأبي حَاتِم فِي هَذَا الْمَعْنى كثير
جدا، وَكله يَدُور على أَن مُجَرّد ثُبُوت الرُّؤْيَة لَا
يَكْفِي فِي ثُبُوت السماع، وَأَن السماع لَا يثبت بِدُونِ
التَّصْرِيح بِهِ، وَأَن رِوَايَة من روى عَمَّن عاصره
تَارَة بِوَاسِطَة، وَتارَة بِغَيْر وَاسِطَة يدل على أَنه
لم يسمع مِنْهُ إِلَّا أَن يثبت لَهُ السماع من وَجه.
ثمَّ قَالَ: فَإِذا كَانَ هَذَا قَول هَؤُلَاءِ
الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، وهم أعلم أهل زمانهم
بِالْحَدِيثِ وَعلله، وَصَحِيحه، وسقيمه مَعَ مُوَافقَة
البُخَارِيّ وَغَيره، فَكيف يَصح لمُسلم رَحمَه الله
دَعْوَى الْإِجْمَاع على خلاف قَوْلهم، بل اتِّفَاق
هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة على قَوْلهم هَذَا يَقْتَضِي
حِكَايَة إِجْمَاع الْحفاظ المعتبرين على هَذَا القَوْل،
وَإِن القَوْل بِخِلَاف قَوْلهم لَا يعرف عَن أحد من
نظرائهم وَلَا عَمَّن قبلهم مِمَّن هُوَ فِي درجتهم
وحفظهم.
وَيشْهد لصِحَّة ذَلِك حِكَايَة أبي حَاتِم اتِّفَاق أهل
الحَدِيث على أَن حبيب ابْن أبي ثَابت لم يثبت لَهُ السماع
من عُرْوَة مَعَ إِدْرَاكه لَهُ، وَقد ذكرنَا من قبل أَن
كَلَام الشَّافِعِي إِنَّمَا يدل على مثل هَذَا لَا على
خِلَافه؛ وَلذَلِك حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن الْعلمَاء
فَلَا يبعد حِينَئِذٍ أَن يُقَال: هَذَا قَول الْأَئِمَّة
من الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء.
(4/1985)
وَزَاد ابْن رَجَب مَا ذكره مُسلم من
الرِّوَايَات وَاحِدَة وَاحِدَة وَبَين مَا يرد عَلَيْهِ
فليعاود فَإِنَّهُ أَجَاد وَأفَاد.
وَقَالَ أَبُو عَمْرو الداني: لابد مَعَ ذَلِك من الْعلم
بالرواية عَنهُ مَعَ اللقي؛ إِذْ لَا يلْزم من اللقي
الرِّوَايَة عَنهُ.
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: لابد من طول الصُّحْبَة
فلابد من اللقي وَطول الصُّحْبَة، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ
أضيق من الْأَقْوَال الْمُتَقَدّمَة.
قَوْله: {وَظَاهر الأول أَن من روى عَمَّن [لم] يعرف
بِصُحْبَتِهِ وَالرِّوَايَة عَنهُ} أَن رِوَايَته عَنهُ
تقبل مُطلقًا. أَعنِي {وَلَو أجمع أَصْحَاب الشَّيْخ أَنه
لَيْسَ من أَصْحَابه} ؛ لِأَنَّهُ ثِقَة.
وَقَالَ الحنيفة، وَابْن برهَان، وَلم تقبله
الشَّافِعِيَّة، وَظَاهر كَلَام أَحْمد فِي ذَلِك
مُخْتَلف.
(4/1986)
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": إِذا روى
رجل خَبرا عَن شيخ مَشْهُور لم يعرف بِصُحْبَتِهِ، وَلم
يشْتَهر بالرواية عَنهُ، وَأجْمع أَصْحَاب الشَّيْخ
المعروفون على جهالته بَينهم، وَأَنه لَيْسَ مِنْهُم، هَل
يمْنَع ذَلِك قبُول خَبره؟ قَالَت الشَّافِعِيَّة: يمْنَع.
وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: لَا يمْنَع، وَنَصره ابْن برهَان.
وَالْأول ظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي مَوَاضِع،
وَأكْثر الْمُحدثين.
وَالثَّانِي يدل عَلَيْهِ كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي
اعتذاره لجَابِر الْجعْفِيّ فِي قصَّة هِشَام بن عُرْوَة
مَعَ زَوجته.
(4/1987)
وَقد قَالَ ابْن عقيل: الْمُحَقِّقُونَ من
الْعلمَاء يمْنَعُونَ رد الْخَبَر بالاستدلال، كرد خبر
القهقهة اسْتِدْلَالا بِفضل الصَّحَابَة الْمَانِع من
الضحك، وَردت عَائِشَة قَول ابْن عَبَّاس فِي الرُّؤْيَة،
وَقَول بَعضهم إِن قَوْله: (لأزيدن على السّبْعين) بعيد
الصِّحَّة؛ لِأَن السّنة تَأتي بالعجائب،
(4/1988)
وَلَو شهِدت بَيِّنَة على مَعْرُوف
بِالْخَيرِ بِإِتْلَاف أَو غصب لم ترد بالاستبعاد
هَذَا معنى كَلَام أَصْحَابنَا، وَغَيرهم فِي رده بِمَا
يحيله الْعقل، وَالله أعلم.
قَوْله: وَلَيْسَ ترك الْإِنْكَار شرطا فِي قبُول الْخَبَر
عندنَا، [وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد خلافًا للحنفية ذكره
القَاضِي فِي الْخلاف فِي خبر فَاطِمَة بنت قيس] ورد عمر
لَهُ.
وَكَذَا قَالَ ابْن عقيل جَوَاب من قَالَ: رده السّلف: إِن
الثِّقَة لَا يرد حَدِيثه بإنكار غَيره؛ لِأَن مَعَه
زِيَادَة.
(4/1989)
قَوْله: {فصل}
{أَصْحَابنَا، والمعظم: الصَّحَابَة عدُول} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره: الَّذِي عَلَيْهِ
سلف الْأمة وَجُمْهُور الْخلف أَن الصَّحَابَة - رَضِي
الله عَنْهُم - عدُول بتعديل الله تَعَالَى لَهُم.
قَالَ ابْن الصّلاح وَغَيره: الْأمة مجمعة على تَعْدِيل
جَمِيع الصَّحَابَة، وَلَا يعْتد بِخِلَاف من خالفهم.
انْتهى.
(4/1990)
وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي مُقَدّمَة "
الِاسْتِيعَاب " إِجْمَاع أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَحكى
فِيهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاع.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل كَمَا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ
الدّين: فهم عدُول بتعديل الله تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من
الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ}
[التَّوْبَة: 100] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لقد رضى الله عَن
الْمُؤمنِينَ} [الْفَتْح: 18] ، وَقَالَ: {مُحَمَّد رَسُول
الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار} [الْفَتْح: 29]
، وَقَالَ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} [آل
عمرَان: 110] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس}
[الْبَقَرَة: 143] .
وَقد تَوَاتر امتثالهم الْأَوَامِر والنواهي.
وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
" لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد مَا بلغ مد أحدهم، وَلَا نصيفه
".
(4/1991)
وَلَو ورد على سَبَب خَاص فَالْعِبْرَة
بِعُمُوم اللَّفْظ، وَلَا يضرنا أَيْضا كَون الْخطاب بذلك
للصحابة، أَيْضا؛ لِأَن الْمَعْنى لَا يسب غير أَصْحَابِي
أَصْحَابِي، وَلَا يسب أَصْحَابِي بَعضهم بَعْضًا.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خير
الْقُرُون قَرْني " مُتَّفق عَلَيْهِمَا.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن
الله اختارني وَاخْتَارَ لي أصحاباً وأنصاراً، لَا تؤذوني
فِي أَصْحَابِي " فَأَي تَعْدِيل أصح من تَعْدِيل علام
الغيوب وتعديل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -؟ {
فَإِن قيل: هَذِه الْأَدِلَّة دلّت على فَضلهمْ فَأَيْنَ
التَّصْرِيح بِعَدَالَتِهِمْ؟
قلت: من أثنى الله عَلَيْهِ بِهَذَا الثَّنَاء، لَا يكون
عدلا؟} فَإِذا كَانَ التَّعْدِيل يثبت بقول اثْنَيْنِ من
النَّاس فَكيف لَا تثبت الْعَدَالَة بِهَذَا الثَّنَاء
الْعَظِيم من الله وَرَسُوله؟ !
(4/1992)
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ":
ومرادهم من جهل حَاله فَلم يعرف بقدح.
قَالَ الْمَازرِيّ: وَالْحكم بِالْعَدَالَةِ إِنَّمَا هُوَ
لمن اشتهرت صحبته. نَقله الْبرمَاوِيّ.
وَالظَّاهِر أَن هُنَا فِي النُّسْخَة غَلطا.
وَقيل: هم عدُول إِلَى زمن الْفِتَن، وَبعد حُدُوث
الْفِتَن كغيرهم، ومثلوا ذَلِك بقتل عُثْمَان - رَضِي الله
عَنهُ -.
{وَقَالَت الْمُعْتَزلَة} : هم عدُول {إِلَّا من قَاتل
عليا} .
وَقَالَت: من قَاتل عليا فَهُوَ فَاسق لِخُرُوجِهِ على
الإِمَام بِغَيْر حق.
(4/1993)
وَهُوَ ضَعِيف؛ بل فعلوا ذَلِك
اجْتِهَادًا، وهم من أَهله، وَالْعَمَل بِالِاجْتِهَادِ
وَاجِب، أَو جَائِز.
{وَقيل: هم كغيرهم} مُطلقًا للعمومات الدَّالَّة على
ذَلِك.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهَذِه الْأَقْوَال
الْبَاطِلَة بَعْضهَا مَنْسُوب إِلَى عَمْرو بن عبيد
وَأَضْرَابه، وَمَا وَقع بَينهم مَحْمُول على
الِاجْتِهَاد، وَلَا قدح على مُجْتَهد عِنْد المصوبة
وَغَيرهم، وَهَذَا متأول.
الأولى: لَيْسَ المُرَاد بكونهم عُدُولًا الْعِصْمَة
لَهُم، واستحالة الْمعْصِيَة عَلَيْهِم، إِنَّمَا المُرَاد
أَن لَا نتكلف الْبَحْث عَن عدالتهم، وَلَا طلب
التَّزْكِيَة فيهم.
(4/1994)
الثَّانِيَة: قَالَ الْحَافِظ الْمزي: من
الْفَوَائِد أَنه لم يُوجد قطّ رِوَايَة عَمَّن لمز
بالنفاق من الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم -.
الثَّالِثَة: من فَوَائِد القَوْل بِعَدَالَتِهِمْ مُطلقًا
إِذا قيل عَن رجل من الصَّحَابَة: أَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ كَذَا كَانَ ذَلِك
كتعيينه باسمه لِاسْتِوَاء الْكل فِي الْعَدَالَة.
وَقَالَ أَبُو زيد الدبوسي: بِشَرْط أَن يعْمل بروايته
السّلف، أَو يسكتوا عَن الرَّد مَعَ الانتشار، أَو تكون
مُوَافقَة للْقِيَاس، وَإِلَّا فَلَا يحْتَج بهَا.
وَهَذَا ضَعِيف.
(4/1995)
قَوْله: {وهم من لَقِي النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو رَآهُ يقظة حَيا،
عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ} وَغَيرهمَا.
لما تقرر أَن الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - عدُول
فلابد من بَيَان الصَّحَابِيّ من هُوَ، وَمَا الطَّرِيق
فِي معرفَة كَونه صحابياً؟
وَقد اخْتلف فِي تَفْسِير الصَّحَابِيّ على أَقْوَال
منتشرة، الْمُخْتَار مِنْهَا مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام
أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم، وَهُوَ مَا
قدمْنَاهُ أَولا.
(4/1996)
قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: وَهِي طَريقَة
أهل الحَدِيث.
فقولنا: {من لقِيه} ليعم الْبَصِير وَالْأَعْمَى فَهُوَ
أحسن من قَول من قَالَ: من رَآهُ. وَزَاد بَعضهم: أَو
رَآهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
حَتَّى يدْخل الْأَعْمَى.
وَقَوْلنَا: {يقظة} احْتِرَاز مِمَّن رَآهُ مناماً؛
فَإِنَّهُ لَا يُسمى صحابياً إِجْمَاعًا، وَهُوَ ظَاهر.
وَقَوْلنَا: {حَيا} ، احْتِرَاز مِمَّن رَآهُ بعد مَوته:
كَأبي ذُؤَيْب الشَّاعِر خويلد بن خَالِد الْهُذلِيّ؛
لِأَنَّهُ لما أسلم وَأخْبر بِمَرَض النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافر ليراه فَوَجَدَهُ
مَيتا مسجى فَحَضَرَ الصَّلَاة عَلَيْهِ والدفن فَلم يعد
صحابياً.
على أَن الذَّهَبِيّ فِي " التَّجْرِيد " للصحابة عد
مِنْهُم أَبَا ذُؤَيْب، وَقواهُ الشَّيْخ أَبُو حَفْص
البُلْقِينِيّ، وَقَالَ الشَّيْخ: الظَّاهِر أَنه يعد
صحابياً،
(4/1997)
وَلَكِن مُرَادهم كلهم الصُّحْبَة
الْحكمِيَّة الَّتِي سنبينها لَا حَقِيقَة الصُّحْبَة.
وَقَوْلنَا: {مُسلما} ؛ ليخرج من رَآهُ وَاجْتمعَ بِهِ قبل
النُّبُوَّة وَلم يره بعد ذَلِك، كَمَا فِي زيد بن عَمْرو
بن نفَيْل، فَإِنَّهُ مَاتَ قبل المبعث، وَقَالَ النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّه يبْعَث
أمه وَحده " كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَيخرج أَيْضا من رَآهُ وَهُوَ كَافِر ثمَّ أسلم بعد
مَوته.
وَقَوْلنَا: {وَلَو ارْتَدَّ ثمَّ أسلم وَلم يره وَمَات
مُسلما} ، لَهُ مَفْهُوم ومنطوق، فمفهومه أَنه إِذا
ارْتَدَّ فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَو بعد مَوته؛ وَقتل على الرِّدَّة: كَابْن
خطل وَغَيره؛ فَإِنَّهُ لَا يعد من الصَّحَابَة قطعا؛
فَإِنَّهُ بِالرّدَّةِ
(4/1998)
تبين أَنه لم يجْتَمع بِهِ مُؤمنا
تَفْرِيعا على قَول الْأَشْعَرِيّ: إِن الْكفْر
وَالْإِيمَان لَا يتبدلان خلافًا للحنفية، وَالِاعْتِبَار
فيهمَا بالخاتمة.
ومنطوقه لَو ارْتَدَّ ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَام:
كالأشعث بن قيس فقد تبين أَنه لم يزل مُؤمنا.
فَإِن كَانَ قد رَآهُ مُؤمنا ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ رَآهُ
ثَانِيًا مُؤمنا فَأولى وأوضح أَن يكون صحابياً؛ فَإِن
الصُّحْبَة قد صحت بالاجتماع الثَّانِي قطعا.
وَخرج من اجْتمع بِهِ قبل النُّبُوَّة ثمَّ أسلم بعد
المبعث وَلم يلقه، فَإِن الظَّاهِر أَنه لَا يكون صحابياً
بذلك الِاجْتِمَاع؛ لِأَنَّهُ لم يكن حِينَئِذٍ مُؤمنا،
كَمَا
(4/1999)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن أبي
الحمساء قَالَ: بَايَعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أَن يبْعَث فوعدته أَن آتيه
بهَا فِي مَكَانَهُ، ونسيت، ثمَّ ذكرت بعد ثَلَاث فَجئْت
فَإِذا هُوَ فِي مَكَانَهُ فَقَالَ: يَا فَتى لقد شققت
عَليّ أَنا فِي انتظارك مُنْذُ ثَلَاث.
ثمَّ لم ينْقل أَنه اجْتمع بِهِ بعد المبعث.
وَدخل فِي قَوْلنَا: من لَقِي، من جِيءَ بِهِ إِلَى
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ
غير مُمَيّز فحنكه: كَعبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل،
أَو تفل فِي فِيهِ: كمحمود بن
(4/2000)
الرّبيع، بل مجه بِالْمَاءِ كَمَا فِي
البُخَارِيّ، وَهُوَ ابْن خمس سِنِين أَو أَربع أَو مسح
وَجهه: كَعبد الله بن ثَعْلَبَة بن صعير - بالصَّاد وَفتح
الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ - وَنَحْو ذَلِك.
فَهَؤُلَاءِ صحابة وَإِن اخْتَار جمَاعَة خلاف ذَلِك،
كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام ابْن معِين، وَأبي زرْعَة
الرَّازِيّ، وَأبي حَاتِم، وَأبي دَاوُد،
(4/2001)
وَابْن عبد الْبر، وَغَيرهم، وَكَأَنَّهُم
نفوا الصُّحْبَة الْمُؤَكّدَة.
وَقَوْلنَا: {وَلَو جنياً على الْأَظْهر} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي الْجِنّ الَّذين قدمُوا على النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من نَصِيبين وهم
ثَمَانِيَة من الْيَهُود أَو سَبْعَة؛ وَلِهَذَا قَالَ:
{أنزل من بعد مُوسَى} [الْأَحْقَاف: 30] ، وَذكر فِي
أسمائهم: شاصر وماصر وناشي ومنشي والأحقب وزوبعة وسرق
وَعَمْرو بن جَابر.
وَقد اسْتشْكل ابْن الْأَثِير فِي " أَسد الغابة " قَول من
ذكرهم فِي
(4/2002)
الصَّحَابَة، وَهُوَ مَحل نظر.
قلت: الأولى أَنهم من الصَّحَابَة، وَأَنَّهُمْ لقوا
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وآمنوا
بِهِ، وَأَسْلمُوا وذهبوا إِلَى قَومهمْ منذرين.
فَائِدَة: قَالَ بعض الْعلمَاء: خرج من الصَّحَابَة من
رَآهُمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
حِين كشف لَهُ عَنْهُم لَيْلَة الْإِسْرَاء، أَو غَيرهَا،
وَمن رَآهُ فِي غير عَالم الشَّهَادَة: كالمنام كَمَا
تقدم، وَكَذَا من اجْتمع بِهِ من الْأَنْبِيَاء،
وَالْمَلَائِكَة فِي السَّمَوَات؛ لِأَن مقامهم أجل من
رُتْبَة الصُّحْبَة. قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَكَذَا من اجْتمع بِهِ فِي الأَرْض: كعيسى وَالْخضر -
عَلَيْهِمَا من الله الصَّلَاة وَالسَّلَام - إِن صَحَّ
فَإِن المُرَاد اللقي الْمَعْرُوف على الْوَجْه
الْمُعْتَاد لَا خوارق الْعَادَات، وَالله أعلم.
وَقد ذكرت أَقْوَال غير ذَلِك كلهَا ضَعِيفَة فَشرط بعض
الْعلمَاء فِي
(4/2003)
الصَّحَابَة زِيَادَة على مَا ذَكرْنَاهُ
أَن يروي عَنهُ وَلَو حَدِيث وَاحِدًا، وَإِلَّا فَلَا
يكون صحابياً.
وَشرط بَعضهم أَن تطول الصُّحْبَة وتكثر المجالسة على
طَرِيق التبع لَهُ وَالْأَخْذ عَنهُ، وينقل ذَلِك عَن أهل
الْأُصُول.
قلت: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَقَالَ عمر بن يحيى
هُوَ من طَالَتْ صحبته، وَأخذ عَنهُ.
وَقَالَت طَائِفَة: هُوَ وَاقع على من صَحبه وجالسه واختص
بِهِ لَا على من كَانَ فِي عَهده. اخْتَارَهُ الجاحظ
والباقلاني.
وَشرط سعيد بن الْمسيب أَن يُقيم مَعَه سنة أَو سنتَيْن
أَو يَغْزُو مَعَه غَزْوَة أَو غزوتين.
(4/2004)
وَقد اعْترض عَلَيْهِ بِنَحْوِ جرير بن عبد
الله، وَوَائِل بن حجر وَغَيرهمَا مِمَّن وَفد عَلَيْهِ
فِي السّنة الْعَاشِرَة وَمَا قاربها، مَعَ أَن
الْإِجْمَاع على عدهم من الصَّحَابَة.
ذكر ابْن الْعِرَاقِيّ: إِلَّا أَن يُرِيدُوا الصُّحْبَة
الْمُؤَكّدَة فيستقيم.
وَشرط بَعضهم الْبلُوغ، حَكَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن أهل
الْعلم، ورد ذَلِك بِخُرُوج عبد الله بن الزبير، وَالْحسن،
وَالْحُسَيْن، وأشباههم - رَضِي الله عَنْهُم -.
وَاشْترط أَبُو الْحسن ابْن الْقطَّان الْعَدَالَة، قَالَ:
والوليد الَّذِي
(4/2005)
شرب الْخمر لَيْسَ بصحابي، وَإِنَّمَا
صَحبه الَّذين هم على طَرِيقَته، وَالصَّحِيح خِلَافه.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: قَالَ ابْن الصّلاح، وَالنَّوَوِيّ، وَغَيرهمَا:
فِي التَّابِعِيّ مَعَ الصَّحَابِيّ الْخلاف} الْمُتَقَدّم
فِي الصَّحَابَة قِيَاسا عَلَيْهِم.
وَاشْترط الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ وَجَمَاعَة فِي
التَّابِعين الصُّحْبَة، فَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّد
الرُّؤْيَة وَلَا اللقي، بِخِلَاف الصَّحَابَة فَإِن لَهُم
مزية على سَائِر النَّاس وشرفاً بِرُؤْيَتِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَاشْترط ابْن حبَان فِي التَّابِعِيّ كَونه فِي سنّ يحفظ
عَنهُ بِخِلَاف الصَّحَابِيّ فَإِن الصَّحَابَة قد اختصوا
بِشَيْء لم يُوجد فِي غَيرهم.
(4/2006)
قَوْله: {وَلَا يعْتَبر الْعلم فِي ثُبُوت
الصُّحْبَة عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم [خلافًا] لقوم} .
اعْلَم أَن طَريقَة معرفَة الصَّحَابَة تَارَة تكون
ظَاهِرَة، وَتارَة خُفْيَة، فالظاهرة مَعْلُومَة
فَمِنْهَا: التَّوَاتُر، وَمِنْهَا: استفاضة بِكَوْنِهِ
صحابياً أَو بِكَوْنِهِ من الْمُهَاجِرين أَو من
الْأَنْصَار.
وَقَول الصَّحَابِيّ ثَابت الصُّحْبَة: هَذَا صَحَابِيّ،
أَو ذكر مَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون صحابياً، نَحْو: كنت
أَنا وَفُلَان عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -، أَو دَخَلنَا عَلَيْهِ، وَنَحْوه، لَكِن
بِشَرْط أَن يعرف إِسْلَامه فِي تِلْكَ الْحَال واستمراره
عَلَيْهِ.
وَأما الْخفية فَكَمَا لَو ادّعى الْعدْل المعاصر للنَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه صَحَابِيّ.
(4/2007)
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلَا
يعْتَبر الْعلم فِي ثُبُوت الصُّحْبَة وفَاقا للأئمة
الْأَرْبَعَة، خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة، فَلَو قَالَ
معاصر عدل: أَنا صَحَابِيّ قبل عِنْد أَصْحَابنَا
وَالْجُمْهُور. انْتهى.
وَقيل: لَا يقبل، وَإِلَيْهِ ميل الطوفي فِي " مُخْتَصره
"، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن الْقطَّان الْمُحدث، وَبِه
قَالَ أَبُو عبد الله الصَّيْمَرِيّ من الْحَنَفِيَّة،
وَأَنه لَا يجوز أَن يُقَال: إِنَّه صَحَابِيّ إِلَّا عَن
علم ضَرُورِيّ أَو كسبي، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن
السَّمْعَانِيّ أَيْضا.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَتعلم الصُّحْبَة
بِإِخْبَار غَيره عَنهُ أَو عَن نَفسه، وَفِيه نظر؛ إِذْ
هُوَ مُتَّهم بتحصيل منصب الصَّحَابَة، وَلَا يُمكن
تَفْرِيع قبُول قَوْله على عَدَالَة الصَّحَابَة، إِذْ
عدالتهم فرع الصُّحْبَة، فَلَو ثبتَتْ الصُّحْبَة بهَا لزم
الدّور. انْتهى.
(4/2008)
وَفِي قَوْله: لزم الدّور نظر بَينه
شَارِحه.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَتخرج من كَلَام بَعضهم مَذْهَب
ثَالِث بالتفصيل بَين مدعي الصُّحْبَة القصيرة فَيقبل؛
لِأَنَّهُ يتَعَذَّر إِثْبَات صحبته بِالنَّقْلِ، إِذْ
رُبمَا لَا يحضرهُ حِين اجتماعه بِالنَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحد، أَو حَال رُؤْيَته
إِيَّاه، وَبَين مدعي طول الصُّحْبَة، وَكَثْرَة
التَّرَدُّد فِي السّفر والحضر فَلَا يقبل ذَلِك مِنْهُ؛
لِأَن مثل ذَلِك يشْتَهر وينقل. انْتهى.
وَهُوَ قَول حسن.
قَوْله: {الثَّانِيَة: لَو قَالَ تَابِعِيّ عدل: فلَان
صَحَابِيّ، لم يقبل فِي الْأَصَح} ، وَهُوَ ظَاهر كَلَامهم
لكَوْنهم خصوا ذَلِك بالصحابي.
قَالَ بعض شرَّاح " اللمع ": لَا أعرف فِيهِ نقلا،
وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقيَاس أَنه لَا يقبل؛ لِأَن
ذَلِك مُرْسل؛ لِأَنَّهَا قَضِيَّة لم يحضرها.
(4/2009)
قيل: وَالظَّاهِر خلاف ذَلِك؛ لِأَنَّهُ
لَا يَقُول ذَلِك إِلَّا عَن علم اضطراري أَو اكتسابي.
قَوْله: {وَلَو قَالَ: أَنا تَابِعِيّ أدْركْت
الصَّحَابَة، فَالظَّاهِر أَنه كالصحابي} فِي قَوْله: أَنا
صَحَابِيّ؛ لِأَنَّهُ ثِقَة عدل مَقْبُول القَوْل، فَقبل
كالصحابي.،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(4/2010)
(قَوْله: {فصل} {فِي مُسْتَند
الصَّحَابِيّ} الْمُخْتَلف)
اعْلَم أَن مُسْتَند الصَّحَابِيّ فِي الرِّوَايَة عَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: لَا خلاف فِيهِ؛ إِذْ هُوَ صَرِيح فِي ذَلِك لَا
يحْتَمل شَيْئا كَقَوْلِه: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو حَدثنِي، أَو
أَخْبرنِي، أَو شافهني، أَو رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: أَو يفعل كَذَا.
وَهَذَا أرفع الدَّرَجَات لكَونه يدل على عدم الْوَاسِطَة
بَينهمَا قطعا.
النَّوْع الثَّانِي: مَا هُوَ مُخْتَلف فِيهِ لكَونه غير
صَرِيح، بل مُحْتَمل الْوَاسِطَة، وَهُوَ مَرَاتِب:
(5/2011)
الْمرتبَة الأولى: أَن يَقُول
الصَّحَابِيّ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَذَا، أَو فعل كَذَا، أَو أقرّ على كَذَا،
فَهَذَا من الْمُخْتَلف فِيهِ.
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابنَا، وَأكْثر
الْعلمَاء: أَنه يحمل على الِاتِّصَال وَأَنه لَا وَاسِطَة
بَينهمَا، وَيكون ذَلِك حكما شَرْعِيًّا يجب الْعَمَل
بِهِ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِر من حَال الصَّحَابِيّ الْقَائِل
ذَلِك.
وَقَوْلنَا: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَنَحْوه، أَعنِي نَحْو: قَالَ كَفعل أَو
أقرّ، كَمَا تقدم.
وَيدخل فِي ذَلِك (عَن) و (أَن) ، وَتقدم ذَلِك فِي
الْإِسْنَاد المعنعن، وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو الْخطاب من
أَصْحَابنَا، وَجمع من الْعلمَاء، مِنْهُم:
(5/2012)
القَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني.
وَحَكَاهُ أَبُو الْخطاب عَن الأشعرية فَقَالُوا: لَا يحمل
على السماع لاحْتِمَاله وتردده بَين سَمَاعه مِنْهُ وَمن
غَيره.
قَالَ الباقلاني: مُتَرَدّد بَين سَمَاعه مِنْهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَين سَمَاعه من غَيره
بِنَاء على عَدَالَة الصَّحَابَة، نَقله الْآمِدِيّ،
وَابْن الْحَاجِب عَنهُ، ورده السُّبْكِيّ فِي " شرح
الْمُخْتَصر "، وَقَالَ: الْمَنْقُول عَنهُ فِي "
التَّقْرِيب " أَنه مَحْمُول على السماع. انْتهى.
قلت: يحْتَمل أَن لَهُ قَوْلَيْنِ، إِذا علم ذَلِك.
(5/2013)
فَقَالَ ابْن مُفْلِح: لما قَالَ أَبُو
الْخطاب: إِنَّه مُحْتَمل، وَإنَّهُ ظَاهر قَول من نصر أَن
الْمُرْسل لَيْسَ بِحجَّة فَظَاهره كمرسل لاحْتِمَال
سَمَاعه من تَابِعِيّ.
وَالْأَشْهر يَنْبَنِي على عَدَالَة الصَّحَابَة لظُهُور
سَمَاعه مِنْهُم. انْتهى.
وَقَالَ كثير من الْعلمَاء: إِن قُلْنَا بعدالة جَمِيع
الصَّحَابَة قبل وَإِلَّا فكمرسل.
وَتقدم حكم (عَن) و (أَن) والإسناد المعنعن وَالْخلاف فِي
ذَلِك.
قَوْله: {أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِكَذَا، أَو نهى عَن كَذَا، أَو أمرنَا
بِكَذَا، أَو نَهَانَا} عَن كَذَا، فَحكمه حكم، قَالَ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لكنه
فِي الدّلَالَة دون ذَلِك لاحْتِمَال الْوَاسِطَة، واعتقاد
مَا لَيْسَ بِأَمْر وَلَا نهي، أمرا أَو نهيا، لَكِن
الظَّاهِر أَنه لم يُصَرح بِنَقْل الْأَمر إِلَّا بعد جزمه
بِوُجُود حَقِيقَته.
وَمَعْرِفَة الْأَمر مستفادة من اللُّغَة، وهم أَهلهَا،
فَلَا يخفى عَلَيْهِم، ثمَّ إِنَّهُم لم يكن بَينهم فِي
صِيغَة الْأَمر وَنَحْوهَا خلاف، وخلافنا فِيهِ
(5/2014)
لَا يستلزمه، فعلى هَذَا يكون حجَّة،
وَرجعت إِلَيْهِ الصَّحَابَة وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ
جَمَاهِير الْعلمَاء.
وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين فِي ذَلِك، وَنقل عَن دَاوُد
قَولَانِ.
وَمن خَالف فِي الَّتِي قبلهَا فَفِيهَا أولى.
قَوْله: {وأمرنا، أَو نهينَا، أَو رخص لنا، أَو حرم علينا
وَنَحْوه} كأباح لنا، حجَّة عندنَا، وَعند الشَّافِعِي،
وَالْأَكْثَر، وَنقل عَن أهل الحَدِيث؛ إِذْ مُرَاد
الصَّحَابِيّ الِاحْتِجَاج بِهِ فَيحمل على صدوره مِمَّن
يحْتَج
(5/2015)
بقوله وَهُوَ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، [وَأَنه] هُوَ الَّذِي أَمرهم،
ونهاهم، وَرخّص، وَحرم عَلَيْهِم، تبليغا عَن الله
تَعَالَى، وَإِن كَانَ يحْتَمل أَنه من بعض الْخُلَفَاء،
لكنه بعيد فَإِن المشرع لذَلِك هُوَ صَاحب الشَّرْع.
وَخَالف الصَّيْرَفِي، والباقلاني، وَأَبُو بكر
الرَّازِيّ، والكرخي: الحنفيين، والإسماعيلي، وَإِمَام
الْحَرَمَيْنِ، وَأكْثر مالكية بَغْدَاد، وَنَقله ابْن
الْقطَّان عَن نَص الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد: لاحْتِمَال
أَن الْآمِر غير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -، وَكَذَلِكَ الناهي.
(5/2016)
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: إِن اقْترن بِهِ
أَن الْأَمر على عَهده لم يتَوَجَّه الْخلاف.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يحْتَمل أَرَادَ أَمر الله
بِنَاء على تَأْوِيل أَخطَأ فِيهِ فَيخرج إِذن على كَون
مذْهبه حجَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَذكر القَاضِي أَبُو
الطّيب: أَن (رخص لنا) حجَّة بِلَا خلاف، وَهُوَ ظَاهر.
وَحكى ابْن السَّمْعَانِيّ قولا بِالْوَقْفِ، وَابْن
الْأَثِير قولا إِن كَانَ من أبي بكر الصّديق - رَضِي الله
عَنهُ - فمرفوع؛ لِأَنَّهُ لم يتأمر عَلَيْهِ غَيره،
وَإِلَّا فَلَا.
وَفِي " شرح الْإِلْمَام ": إِن كَانَ قَائِله من أكَابِر
الصَّحَابَة، وَإِن كَانَ من غَيرهم فالاحتمال فِيهِ قوي.
(5/2017)
قَوْله: {وَمثله: من السّنة كَذَا} ،
يَعْنِي: أَن قَوْله: من السّنة كَذَا مثل قَوْله: أمرنَا
أَو نهينَا، فِيهَا من الْخلاف مَا فِي ذَلِك، وَأَن
الصَّحِيح أَنه حجَّة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي
عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء.
وَكَذَا قَوْله: جرت السّنة، أَو مَضَت السّنة بِكَذَا:
كَقَوْل عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: (من السّنة وضع
الْكَفّ على الْكَفّ فِي الصَّلَاة تَحت السُّرَّة)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَول أنس: (من السّنة إِذا تزوج الْبكر على الثّيّب
أَقَامَ عِنْدهَا سبعا) مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَاخْتِيَار الصَّيْرَفِي، والكرخي، والقشيري، وَأبي
الْمَعَالِي أَن قَوْله: من السّنة، لَا يَقْتَضِي سنة
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
(5/2018)
وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي عَن
الْمُحَقِّقين، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هُوَ مُحْتَمل
عِنْد الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد، وَكَونه مُحْتملا على
سنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ
الْقَدِيم.
وَنَقله غَيره حَتَّى قيل: إِنَّهَا من الْمسَائِل الَّتِي
يُفْتِي فِيهَا بالقديم فِي الْأُصُول، لَكِن الْمَشْهُور
عِنْدهم أَن هَذَا هُوَ الْجَدِيد.
وَقيل: مَوْقُوف، نَقله ابْن الصّلاح، وَالنَّوَوِيّ عَن
أبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ.
قَوْله: قد يكون قَوْله: من السّنة، مُسْتَحبا، كَمَا فِي
حَدِيث عَليّ، وَقد يكون وَاجِبا كَمَا فِي حَدِيث أنس،
فَلَيْسَ فِي الصِّيغَة تعْيين حكم من وجوب أَو غَيره.
قَوْله: وَكُنَّا نَفْعل وَنَحْوه مثل قَوْله: كُنَّا
نقُول أَو نرى على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -، وَكُنَّا نقُول على عَهده - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُنَّا نرى، أَيْضا، كل ذَلِك
حجَّة، أطلقهُ
(5/2019)
أَبُو الْخطاب والموفق فِي " الرَّوْضَة "،
والطوفي، وَالْحَاكِم، والرازي، وَذكره أَبُو الطّيب ظَاهر
مَذْهَبهم؛ لِأَنَّهُ فِي معرض الْحجَّة، فَالظَّاهِر
بُلُوغه وَتَقْرِيره.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هُوَ حجَّة إِذا كَانَ من
الْأُمُور الظَّاهِرَة الَّتِي لَا يخفى مثلهَا على
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. انْتهى.
وَتبع فِي ذَلِك الْمجد فِي " مسودته "، وَهُوَ تَوْجِيه
احْتِمَال لِابْنِ مُفْلِح.
وَنَقله النَّوَوِيّ فِي أَوَائِل " شرح مُسلم " عَن
جمَاعَة، مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق، وَاخْتَارَهُ
الْقُرْطُبِيّ أَيْضا.
(5/2020)
وَخَالف الْحَنَفِيَّة فَلم يَقُولُوا هِيَ
حجَّة.
وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ، وَابْن الصّلاح: هُوَ
مَوْقُوف.
وَأطلق القَاضِي أَبُو يعلى فِي الْكِفَايَة
احْتِمَالَيْنِ.
قَوْله: {فَائِدَة: لم يذكر} الأصوليون وَغَيرهم {أَنه
حجَّة لتقرير الله تَعَالَى، وَذكره الشَّيْخ} تَقِيّ
الدّين محتجا {بقول جَابر} بن عبد الله - رَضِي الله
عَنْهُمَا -: {كُنَّا نعزل وَالْقُرْآن ينزل} لَو كَانَ
شَيْء ينْهَى عَنهُ لنهانا عَنهُ الْقُرْآن مُتَّفق
عَلَيْهِ.
(5/2021)
وَهُوَ ظَاهر الدّلَالَة.
فَائِدَة: لَو قَالَ الصَّحَابِيّ: نزلت هَذِه فِي كَذَا،
هَل هُوَ من بَاب الرِّوَايَة أَو الِاجْتِهَاد؟
طَريقَة البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه " تَقْتَضِي أَنه من
بَاب الْمَرْفُوع، وَأحمد فِي " الْمسند " لم يذكر مثل
هَذَا. انْتهى.
قَوْله: {وَكَانُوا يَفْعَلُونَ حجَّة عندنَا، وَعند
الْحَنَفِيَّة، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم الْآمِدِيّ،
وَغَيره، وذكروه عَن الْأَكْثَر لقَوْل عَائِشَة - رَضِي
الله عَنْهَا -: (كَانُوا لَا يقطعون فِي الشَّيْء التافه)
.
{وَخَالف قوم} مِنْهُم بعض الشَّافِعِيَّة، وَجزم بِهِ بعض
متأخري أَصْحَابنَا.
(5/2022)
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ":
انْصَرف إِلَى فعل الْأَكْثَرين. وَلم يرتضه ابْن مُفْلِح.
وَنقل النَّوَوِيّ فِي مُقَدّمَة " مُسلم " عَن جُمْهُور
الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء، والأصوليين: أَنه مَوْقُوف.
ورد قَوْله فِي ذَلِك.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": إِن أضيف إِلَى عهد
النُّبُوَّة دلّ على جَوَازه، أَو وُجُوبه على حسب
مَفْهُوم لفظ الرَّاوِي؛ إِذا ذكره فِي معرض الِاحْتِجَاج
يَقْتَضِي أَنه بلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فأقره عَلَيْهِ، وَإِلَّا لم يفد.
{وَقَالَ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب: إِجْمَاع أَو حجَّة}
؛ لِأَنَّهُ ظَاهر اللَّفْظ فِي معرض الْحجَّة، وَجَازَت
مُخَالفَته؛ لِأَن طَرِيقه ظَنِّي كَخَبَر وَاحِد.
وَاقْتصر ابْن حمدَان فِي " مقنعه " على قَوْله: انْصَرف
إِلَى فعل الْأَكْثَرين. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": ثمَّ قَوْله: " كَانُوا
يَفْعَلُونَ " لَا يُفِيد الْإِجْمَاع عِنْد بعض
الشَّافِعِيَّة مَا لم يُصَرح بِهِ عَن أَهله، وَهُوَ نقل
لَهُ عِنْد
(5/2023)
أبي الْخطاب.
قَوْله: {وَسوى الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، والطوفي بَين
(كَانُوا) و (كُنَّا) وَهُوَ مُتَّجه} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُتَّجه، وتبعته على ذَلِك،
لَكِن هُوَ أنزل من قَوْله: (كُنَّا نَفْعل على عهد
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: واقتصار بعض أَصْحَابنَا على
(كَانُوا) لَا يدل على التَّفْرِقَة.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: قَول غير
الصَّحَابِيّ يرفعهُ أَو ينميه أَو يبلغ بِهِ أَو رِوَايَة
كالمرفوع صَرِيحًا عِنْد الْعلمَاء} .
قَالَ ابْن الصّلاح: حكم ذَلِك عِنْد أهل الْعلم حكم
الْمَرْفُوع صَرِيحًا،
(5/2024)
وَذَلِكَ كَقَوْل سعيد بن جُبَير عَن ابْن
عَبَّاس: " الشِّفَاء فِي ثَلَاث: شربة عسل، وشرطة محجم،
وكية بِنَار ". ثمَّ قَالَ: رفع الحَدِيث، رَوَاهُ
البُخَارِيّ.
وكحديث أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة
يبلغ بِهِ قَالَ: (النَّاس تبع لقريش) ، وَغَيره كثير.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن أبي هُرَيْرَة رِوَايَة: "
تقاتلون قوما ... " الحَدِيث.
(5/2025)
وروى مَالك عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد:
" كَانَ النَّاس يؤمرون أَن يضع الرجل يَده الْيُمْنَى على
ذراعه الْيُسْرَى فِي الصَّلَاة ".
قَالَ أَبُو حَازِم: لَا أعلم إِلَّا أَنه ينمي ذَلِك.
قَالَ مَالك [رفع] ذَلِك، هَذَا لفظ رِوَايَة عبد الله بن
يُوسُف.
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق القعْنبِي عَن مَالك
فَقَالَ: ينمي ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَصرحَ بِرَفْعِهِ.
(5/2026)
قَوْله: {الثَّانِيَة: قَول التَّابِعِيّ:
أمرنَا، أَو نهينَا، أَو من السّنة} ، كَقَوْل
الصَّحَابِيّ ذَلِك عِنْد أَصْحَابنَا، وَأَوْمَأَ
إِلَيْهِ أَحْمد فِي " من السّنة " لكنه كالمرسل.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": وأصل ذَلِك
الْمَرَاسِيل وفيهَا رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَو قَالَ تَابِعِيّ: من
السّنة كَذَا، كَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْمُرْسل، حجَّة على
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَالَ الشَّيْخ: هما سَوَاء، وَإِن كَانَ قَول
الصَّحَابِيّ أولى. انْتهى.
وَكَذَا قَالَ الطوفي فِي " من السّنة " فَقَالَ: وَقَول
التَّابِعِيّ والصحابي فِي حَال حَيَاة الرَّسُول - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبعد مَوته سَوَاء إِلَّا
أَن الْحجَّة فِي قَول الصَّحَابِيّ أظهر.
قَوْله: {وَقَوله: " كَانُوا يَفْعَلُونَ " كَقَوْل
الصَّحَابِيّ ذَلِك.
(5/2027)
ذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن
عقيل، وَغَيرهم، وَخَالف الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين وَقَالَ:
لَيْسَ بِحجَّة؛ لِأَنَّهُ قد يَعْنِي من أدْركهُ كَقَوْل
إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ. يُرِيد
أَصْحَاب عبد الله بن مَسْعُود، وَأَشَارَ إِلَى أَنه وَجه
لنا.
(5/2028)
(قَوْله: {فصل} )
{مُسْتَند غير الصَّحَابِيّ أَقسَام} . المُرَاد بذلك أَن
مُسْتَند غير الصَّحَابِيّ مثله فِي الرِّوَايَة لَهُ
مَرَاتِب وَإِن كَانَ بَعْضهَا يكون فِي الصَّحَابِيّ
كَعَكْسِهِ، وَهُوَ أَن أَلْفَاظ الصَّحَابِيّ قد يكون
مِنْهَا مَا هُوَ فِي غير الصَّحَابِيّ، لَكِن الضَّرُورَة
دَاعِيَة إِلَى بَيَان مُسْتَند غير الصَّحَابِيّ،
والاصطلاح فِي ذَلِك وَلَو كَانَ الحكم فيهمَا سَوَاء.
قَوْله: {مِنْهَا: قِرَاءَة الشَّيْخ} والراوي عَنهُ
يُسمى، سَوَاء كَانَ إملاءً أَو تحديثا من حفظه، أَو من
كِتَابه، ثمَّ {الْقِرَاءَة عَلَيْهِ} .
هَذَا الصَّحِيح، أَعنِي أَن قِرَاءَة الشَّيْخ والراوي
يسمع أَعلَى من الْقِرَاءَة عَلَيْهِ عِنْد أَكثر
الْعلمَاء.
(5/2029)
قَالَ ابْن مُفْلِح: ذكره فِي " الرَّوْضَة
" وَغَيرهَا، وَقَالَهُ جُمْهُور الْمُحدثين، وَغَيرهم.
وَعَن أبي حنيفَة: الْقِرَاءَة عَلَيْهِ أَعلَى من
قِرَاءَة الشَّيْخ.
وَذكره بَعضهم اتِّفَاقًا، وَرُوِيَ عَن مَالك مثله، نَقله
عَنهُ ابْن فَارس والخطيب.
وَالْأَشْهر عَن مَالك أَنَّهُمَا سَوَاء، وَعَلِيهِ
أشياخه، وَأَصْحَابه، وعلماء الْكُوفَة، والحجاز،
وَالْبُخَارِيّ.
(5/2030)
وَاسْتدلَّ لأبي حنيفَة أَن الْقِرَاءَة
على الشَّيْخ أبعد من الْخَطَأ والسهو، وَإِنَّمَا كَانَ
أَكثر التَّحَمُّل عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بتحديثه؛ لِأَنَّهُ لَا يعلم إِلَّا مِنْهُ
وَهُوَ لَا يحدث إِلَّا من حفظه، وَغَيره لَيْسَ كَذَلِك.
وَأجَاب الْأَكْثَرُونَ: أَن تَجْوِيز الْخَطَأ
وَالنِّسْيَان فِي صُورَة الْقِرَاءَة على الشَّيْخ وَهُوَ
يسمع أقرب.
قَوْله: {ثمَّ قصد} - أَي الشَّيْخ - {إسماعه وَحده، أَو}
قصد إسماعه {مَعَ غَيره} سَاغَ لَهُ أَن يَقُول: حَدثنَا،
أَو أخبرنَا، وَقَالَ، وَسمعت، وَكَذَا يَقُول: أَنبأَنَا،
ونبأنا، وَلكنه قَلِيل عِنْدهم؛ لِأَنَّهُ أشهر
اسْتِعْمَالهَا فِي الْإِجَازَة فَيجوز فِي التحديث إِذا
قَرَأَ الشَّيْخ أَن يَقُول: حَدثنَا، وَأخْبرنَا،
وأنبأنا، وَسمعت فلَانا يَقُول، وَقَالَ: لنا فلَان، وَذكر
لنا فلَان.
وَقد نقل القَاضِي عِيَاض الْإِجْمَاع فِي هَذَا كُله؛
فَلِذَا تعقب بَعضهم على ابْن الصّلاح فِي قَوْله بعد أَن
حكى ذَلِك: أَن فِيهِ نظرا، أَو أَنه يَنْبَغِي فِيمَا شاع
اسْتِعْمَاله من هَذِه الْأَلْفَاظ أَن يكون مَخْصُوصًا
بِمَا سمع من غير لفظ الشَّيْخ.
وَجه التعقيب عَلَيْهِ معارضته للْإِجْمَاع، وَأَنه لَا
يجب على السَّامع أَن
(5/2031)
يبين: هَل كَانَ السماع من لفظ الشَّيْخ
أَو عرضا.
قَوْله: {وَإِن لم يقْصد} ، أَي: الشَّيْخ، الإسماع
{قَالَ: حدث، وَأخْبر، وَقَالَ، وسمعته، وأنبأ، ونبأ} .
قطع بِهِ ابْن مُفْلِح وَغَيره.
قَوْله: {ثمَّ سَمَاعه} ، هَذِه الْمرتبَة الثَّالِثَة،
فَإِن الأولى قِرَاءَة الشَّيْخ، وَالثَّانيَِة: قِرَاءَته
على الشَّيْخ، وَهَذِه الثَّالِثَة وَهِي: سَمَاعه.
وَهُوَ: أَن يقْرَأ أحد على الشَّيْخ وَغير القاريء يسمع،
وَيُسمى هَذَا عرضا كَالَّذي قبله، وَإِن كَانَ أنزل.
وَفِي الرِّوَايَة بِهِ خلاف، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكثر
أهل الْعلم مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وجماهير
الْعلمَاء: أَنه صَحِيح وَعَلِيهِ الْعَمَل.
(5/2032)
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: وَوَقع
الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَقبلهَا.
وَحكى الرامَهُرْمُزِي عَن أبي عَاصِم النَّبِيل:
الْمَنْع.
وَحَكَاهُ الْخَطِيب عَن وَكِيع، وَعَن مُحَمَّد بن سَلام،
وَكَذَا عبد الرَّحْمَن بن سَلام الجُمَحِي.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": خلافًا لبَعض
الْعِرَاقِيّين، كعرض الْحَاكِم
(5/2033)
وَالشَّاهِد على الْمقر وَكَرِهَهُ ابْن
عُيَيْنَة وَغَيره.
{وَقيل: إِن أمسك أصل} .
شَرط بعض الْعلمَاء فِي الْعرض أَن يكون الشَّيْخ ممسكا
لأصله إِن لم يكن حَافِظًا مَا يقْرَأ عَلَيْهِ، أَو يمسك
غير الشَّيْخ من الثِّقَات على خلاف فِي هَذَا لبَعض
الْأُصُولِيِّينَ.
وَفِي معنى إمْسَاك الثِّقَة أصل الشَّيْخ حفظه مَا يعرض
على الشَّيْخ والثقة مستمع، أَو يكون القاريء نَفسه هُوَ
الْحَافِظ فَيقْرَأ من حفظه وَالشَّيْخ يسمع.
قَوْله: {وأرفعها: سَمِعت، فحدثنا، وحَدثني، فَأخْبرنَا،
فأنبأنا، ونبأنا} ، إِذا قَالَ: سَمِعت أَو حَدثنَا، كَانَ
أرفع من غَيرهمَا؛ إِذْ فِيهِ احْتِرَاز من الْإِجَازَة.
(5/2034)
قَالَ الْخَطِيب: أرفع الْعبارَات " سَمِعت
"، ثمَّ " حَدثنَا "، و " حَدثنِي "، ثمَّ " أخبرنَا "
وَهُوَ كثير فِي الِاسْتِعْمَال، ثمَّ " أَنبأَنَا " و "
نبأنا "، وَهُوَ قَلِيل فِي الِاسْتِعْمَال. انْتهى.
وَقَالَ أَحْمد بن صَالح: " أخبرنَا "، و " أَنبأَنَا "
دون " حَدثنَا ".
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: " أخبرنَا " أسهل من " حَدثنَا
"؛ فَإِن " حَدثنَا " شَدِيد.
وَبسط الْخلاف وتوجيهه مَحَله فِي كتب الحَدِيث.
قَوْله: {وَله إِذا سمع مَعَ غَيره قَول: حَدثنِي} . هَذَا
هُوَ الصَّحِيح عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من
الْعلمَاء.
وَعَن الإِمَام أَحْمد: أَنه أحب إِلَيّ أَن يَقُول فِي
ذَلِك: حَدثنَا، إِذا سمع مَعَ النَّاس. نَقله عَنهُ
الْفضل بن زِيَاد.
(5/2035)
وَأما قَول " حَدثنَا " فمتفق عَلَيْهِ
عِنْد الْعلمَاء؛ لِأَنَّهُ الأَصْل، وَكَذَا إِذا سمع
وَحده لَهُ قَول: " حَدثنَا "، وَلم أر فِيهِ خلافًا.
قَوْله: {وسكوته عِنْد الْقِرَاءَة بِلَا مُوجب من غَفلَة
أَو غَيرهَا، وَقَوله: " نعم " كإقراره عِنْد أَصْحَابنَا،
وَالْأَكْثَر} من الْعلمَاء.
قَالَ ابْن مُفْلِح: عَلَيْهِ جُمْهُور الْفُقَهَاء
والمحدثين. انْتهى.
قَالَ: والأحوط أَن يستنطقه بِالْإِقْرَارِ بِهِ.
وَشرط بعض الظَّاهِرِيَّة إِقْرَار الشَّيْخ بِصِحَّة مَا
قريء عَلَيْهِ نطقا.
وَالصَّحِيح أَن عدم إِنْكَاره، وَلَا حَامِل لَهُ على
ذَلِك من إِكْرَاه، أَو نوم، أَو غَفلَة، أَو نَحْو ذَلِك
كَاف؛ لِأَن الْعرف قَاض بِأَن السُّكُوت تَقْرِير فِي مثل
(5/2036)
هَذَا، وَإِلَّا لَكَانَ سُكُوته - لَو
كَانَ غير صَحِيح - قادحا فِيهِ.
قَوْله: {وَيَقُول: حَدثنَا وَأخْبرنَا قِرَاءَة عَلَيْهِ}
، بِلَا نزاع؛ لِأَنَّهُ الأَصْل، {وَيجوز الْإِطْلَاق}
فَيَقُول: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، من غير ذكر " قِرَاءَة
عَلَيْهِ " {عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأبي حنيفَة،
وَمَالك، والخلال، وَصَاحبه} أبي بكر عبد الْعَزِيز،
{وَالْقَاضِي} أبي يعلى، {وَغَيرهم} .
وَحَكَاهُ القَاضِي عَن الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ قَول
عُلَمَاء الْحجاز، والكوفة، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم؛
لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ.
(5/2037)
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَانِيَة:
لَا يُطلق، بل يَقُول: قِرَاءَة عَلَيْهِ.
وَقَالَهُ جمَاعَة من الْمُحدثين، مِنْهُم: ابْن مَنْدَه
من أَصْحَابنَا وَغَيره، وَابْن الْمُبَارك، وَيحيى بن
يحيى، وَابْن عُيَيْنَة، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه،
والنيسابوري، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ كذب، كَمَا لَا يجوز
قَوْله: " سَمِعت " عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء.
(5/2038)
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَالِثَة:
يجوز قَوْله: " أخبرنَا "، وَيُطلق لَا " حَدثنَا "،
وَقَالَهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وعلماء الْمشرق
وَغَيرهم.
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة رَابِعَة: جوازهما فِيمَا
أقرّ بِهِ لفظا لَا حَالا.
وَعنهُ رِوَايَة خَامِسَة: جَوَاز " أخبرنَا " فَقَط
فِيمَا أقرّ بِهِ لفظا لَا حَالا.
فهاتان الرِّوَايَتَانِ يشْتَرط فيهمَا ذَلِك، وَإِلَّا
كَانَت الرِّوَايَة الرَّابِعَة تَكْرَارا؛ لأَنا قد
قدمنَا أَنه لَا يجوز الْإِطْلَاق.
{وَقيل: يَقُول قَرَأت عَلَيْهِ، أَو قرئَ عَلَيْهِ وَهُوَ
يسمع فَقَط إِن لم يقر نطقا} .
ذهب سليم الرَّازِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ،
وَابْن الصّباغ،
(5/2039)
وَابْن السَّمْعَانِيّ: إِلَى أَنه لَا
يَقُول شَيْئا من ذَلِك إِن لم يقر الشَّيْخ نطقا،
وَإِنَّمَا يَقُول: قَرَأت عَلَيْهِ أَو قرئَ عَلَيْهِ،
وَهُوَ يسمع، كَمَا إِذا قَرَأَ على إِنْسَان كتابا فِيهِ
أَنه أقرّ بدين، أَو بيع، أَو نَحْو ذَلِك فَلم يقر بِهِ
لم يجز أَن يشْهد عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا، وَقد يفرق من
اطراد الْعرف فِي نَحْو ذَلِك بِخِلَاف بَاب الشَّهَادَة،
فَإِنَّهُ أضيق.
قَوْله: {وَيحرم إِبْدَال} قَول الشَّيْخ: {" حَدثنَا "
بأخبرنا، وَعَكسه} لاحْتِمَال أَن يكون الشَّيْخ لَا يرى
التَّسْوِيَة فَيكون كذبا عَلَيْهِ.
وَعنهُ: لَا يحرم، اخْتَارَهُ الْخلال وبناه على
الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، وبناؤه ظَاهر.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: أَخذهَا القَاضِي من قَوْله
فِي رِوَايَة أَحْمد بن
(5/2040)
عبد الْجَبَّار " حَدثنَا وَأخْبرنَا "
وَاحِد، وَنَقله عَنهُ سَلمَة بن شبيب أَيْضا.
قَوْله: {وَظَاهر مَا سبق، وَقَالَهُ جمع: إِن منع
الشَّيْخ الرَّاوِي من رِوَايَته عَنهُ} بِلَا قَادِح لَا
يُؤثر، وَأَنه لَا يروي إِلَّا مَا سمع من الشَّيْخ فَلَا
يَسْتَفْهِمهُ مِمَّن سَمعه مَعَه ثمَّ يرويهِ، وَخَالف
هُنَا قوم.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد أَن تكلم على مَا
تقدم: وَظَاهر مَا سبق أَن منع الشَّيْخ للراوي من
رِوَايَته وَلم يسند ذَلِك إِلَى خطاء أَو شكّ لَا يُؤثر،
وَقَالَهُ بَعضهم، ثمَّ قَالَ: وَظَاهر مَا سبق أَنه
لَيْسَ لَهُ أَن يروي إِلَّا مَا سَمعه من الشَّيْخ فَلَا
يَسْتَفْهِمهُ مِمَّن مَعَه ثمَّ يرويهِ، وَقَالَهُ
جمَاعَة خلافًا لآخرين.
قَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": قَالَ صَالح: قلت
لأبي: الشَّيْخ
(5/2041)
يدغم الْحَرْف يعرف أَنه كَذَا وَكَذَا
وَلَا يفهم عَنهُ، ترى أَن يروي ذَلِك عَنهُ؟ قَالَ
أَحْمد: أَرْجُو أَن لَا يضيق هَذَا.
وَقَالَ أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن: نرى فِيمَا سقط
عَنهُ من الْحَرْف الْوَاحِد وَالِاسْم مِمَّا يسمعهُ من
سُفْيَان وَالْأَعْمَش، واستفهم من أَصْحَابه، أَن يرويهِ
عَن أَصْحَابه، لَا نرى [غير] ذَلِك وَاسِعًا.
وَجَاء ذَلِك - أَيْضا - عَن زَائِدَة بن قدامَة قَالَ خلف
بن تَمِيم:
(5/2042)
سَمِعت من الثَّوْريّ عشرَة آلَاف حَدِيث
أَو نَحْوهَا، فَكنت أستفهم جليسي، فَقلت لزائدة، فَقَالَ:
لَا تحدث بهَا إِلَّا مَا تحفظ بقلبك وَسمع أُذُنك! قَالَ:
فألقيتها.
قَوْله: {وَمن شكّ فِي سَماع حَدِيث حرم رِوَايَته} مَعَ
الشَّك، ذكره الْآمِدِيّ إِجْمَاعًا؛ لِأَن الأَصْل عدم
السماع؛ وَلِأَن ذَلِك شَهَادَته على شَيْخه، وَلَو
اشْتبهَ بِغَيْرِهِ، لم يرو شَيْئا مِمَّا اشْتبهَ بِهِ؛
لِأَن كل وَاحِد مِنْهَا يحْتَمل أَن يكون غير المسموع،
وَإِن ظن أَنه وَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه، أَو أَن هَذَا
مسموعه عمل بِهِ عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر
عملا بِالظَّنِّ.
قيل للْإِمَام أَحْمد: الشَّيْخ يدغم الْحَرْف يعرف أَنه
كَذَا وَكَذَا لَا يفهم عَنهُ، ترى أَن يرْوى ذَلِك عَنهُ؟
قَالَ: أَرْجُو أَن لَا يضيق هَذَا.
وَقيل: لَا يعْمل بِهِ لِإِمْكَان اعْتِبَار الْعلم بِمَا
يرويهِ.
(5/2043)
قَوْله: {وَمِنْهَا الْإِجَازَة، فَتجوز
الرِّوَايَة بهَا عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ،
وأصحابهما، وَالْأَكْثَر} .
وَحكى الباقلاني، والباجي، وَغَيرهمَا من
الْأُصُولِيِّينَ: الِاتِّفَاق عَلَيْهِ.
وَاحْتج ابْن الصّلاح لَهَا بِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يروي
عَنهُ مروياته فقد أخبرهُ بهَا جملَة، فَهُوَ كَمَا لَو
أخبرهُ بِهِ تَفْصِيلًا، وإخباره بهَا غير مُتَوَقف على
التَّصْرِيح نطقا، كَمَا فِي الْقِرَاءَة على الشَّيْخ.
انْتهى.
وَيجب الْعَمَل بهَا على هَذَا كالحديث الْمُرْسل، قَالَه
ابْن مُفْلِح، وَغَيره.
(5/2044)
ومنعها شُعْبَة، وَأَبُو زرْعَة
الرَّازِيّ، وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من أَصْحَاب
الإِمَام أَحْمد، وَجمع كثير، مِنْهُم جمَاعَة من
الْحَنَفِيَّة، وَجَمَاعَة من الشَّافِعِيَّة، وَبَعض
الظَّاهِرِيَّة، وَنَقله الرّبيع عَن الشَّافِعِي.
قَالَ شُعْبَة: لَو صحت الْإِجَازَة لبطلت الرحلة.
وَكَذَا قَالَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ: لَو صحت لبطل
الْعلم.
وَاخْتَارَهُ القَاضِي حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة،
وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، ونقلوه عَن نَص
الشَّافِعِي، وَنقل ابْن وهب عَن مَالك أَنه قَالَ: لَا
أرى هَذَا يجوز، وَلَا يُعجبنِي.
(5/2045)
وَقَالَ أَبُو طَاهِر الدباس الْحَنَفِيّ:
من قَالَ لغيره: أجزت لَك أَن تروي عني، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: أجزت لَك أَن تكذب عَليّ.
وَكَذَا قَالَ غَيره: إِنَّه بِمَنْزِلَة أبحت لَك مَا لَا
يجوز فِي الشَّرْع؛ لِأَن الشَّرْع لَا يُبِيح رِوَايَة
مَا لَا يسمع.
{وَعند أبي حنيفَة، وَمُحَمّد: إِن علم الْمُجِيز مَا فِي
الْكتاب وَالْمجَاز لَهُ ضَابِط جَازَ، وَإِلَّا فَلَا} ؛
لما فِيهِ من صِيَانة السّنة وحفظها.
وأجازها أَبُو يُوسُف، وَذَلِكَ تَخْرِيج من كتاب القَاضِي
إِلَى مثله، فَإِن علم مَا فِيهِ شَرط عِنْدهمَا دونه.
وَحكى السَّرخسِيّ عَن أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف:
الْمَنْع.
قَوْله: {وَهِي خَاص لخاص} ، الْإِجَازَة أَقسَام:
أَحدهَا: إجَازَة خَاص لخاص، كَقَوْلِه: أجزت هَذَا
الْكتاب لفُلَان، وَهِي أَصَحهَا، حَتَّى ذهب بَعضهم أَنه
لَا خلاف فِيهَا، وَالصَّحِيح أَن الْخلاف الْمَذْكُور
يشملها.
(5/2046)
الثَّانِي: {عَام لخاص} ، كَقَوْلِه: أجزت
لفُلَان جَمِيع مروياتي.
وَالْخلاف فِي هَذَا النَّوْع أقوى من الَّذِي قبله، وَذهب
أَبُو الْمَعَالِي إِلَى الْمَنْع؛ إِذْ قَالَ: يبعد أَن
يحصل الْعلم إِلَّا بالتعويل على خطوطهم مُشْتَمِلَة على
سَماع الشَّيْخ؛ فَإِن تحقق ظُهُور سَماع لموثوق بِهِ
فَذَلِك وهيهات. انْتهى.
وَالْجُمْهُور على الْجَوَاز، وَغَايَة مَا قَالَه
استبعاد.
الثَّالِث: {عَكسه} ، وَهِي خَاص لعام، كَقَوْلِه: أجزت
للْمُسلمين أَو لمن أدْرك حَياتِي، أَو لكل أحد كتابي
الْفُلَانِيّ.
الرَّابِع: عكس الأول {و} وَهِي {عَام لعام} ، كَقَوْلِه:
أجزت جَمِيع مروياتي لكل أحد.
ذكر هذَيْن الْقسمَيْنِ القَاضِي أَبُو يعلى، وَغَيره،
وَقَالَهُ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا فِي
جَمِيع مَا يرويهِ لمن أَرَادَهُ.
(5/2047)
وَهَذَا الرَّابِع دون الَّذِي قبله، وَقد
مَنعه جمَاعَة، وَجوزهُ الْخَطِيب وَغَيره، وَفعله ابْن
مَنْدَه وَغَيره، قَالَ: أجزت لمن قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا
الله.
وَكَانَ ابْن الْقطَّان وَغَيره يمِيل إِلَى الْجَوَاز،
وَجوز أَبُو الطّيب الْإِجَازَة لجَمِيع الْمُسلمين من
كَانَ مِنْهُم مَوْجُودا عِنْد الْإِجَازَة.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: لم نرو، وَلم نسْمع عَن أحد مِمَّن
يقْتَدى بِهِ اسْتعْمل هَذِه الْإِجَازَة إِلَّا عَن
الشرذمة المجوزة، وَالْإِجَازَة فِي أَصْلهَا ضعف، وتزداد
بِهَذَا التَّوَسُّع ضعفا كثيرا لَا يَنْبَغِي احْتِمَاله.
وَقَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": مِمَّن أجازها:
أَبُو الْفضل بن خيرون الْبَغْدَادِيّ، وَابْن ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ...
(5/2048)
رشد الْمَالِكِي، والسلفي، وَغَيرهم،
وَرجحه ابْن الْحَاجِب، وَصَححهُ النَّوَوِيّ من زِيَادَة
" الرَّوْضَة "، وَغَيره.
قَوْله: {وَلَا يجوز لمعدوم تبعا لموجود} : كأجزت لفُلَان
وَلمن يُولد لَهُ، أَو أجزت لَك ولولدك، أَو لعقبك مَا
تَنَاسَلُوا، فِي ظَاهر كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا،
وَقَالَهُ غَيرهم؛ لِأَنَّهَا محادثة أَو إِذن فِي
الرِّوَايَة بِخِلَاف الْوَقْف.
(5/2049)
وأجازها أَبُو بكر بن أبي دَاوُد من
أَصْحَابنَا، وَجَمَاعَة، كَمَا تجوز الْإِجَازَة لطفل لَا
سَماع [لَهُ] ، ولمجنون فِي أصح قولي الْعلمَاء؛
لِأَنَّهَا إِبَاحَة للرواية كَمَا تجوز للْغَائِب.
قَالَ ابْن أبي دَاوُد لما سُئِلَ الْإِجَازَة: وَقد أجزت
لَك ولأولادك ولحبل الحبلة، يَعْنِي لمن يُولد بعد.
وَأما الْكَافِر فقد صححوا تحمله إِذا أَدَّاهُ بعد
الْإِسْلَام كَمَا تقدم، فَالْقِيَاس جَوَاز الْإِجَازَة
لَهُ، ثمَّ إِذا أسلم يرويهِ بِالْإِجَازَةِ.
وَقد وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي زمن الْحَافِظ أبي
الْحجَّاج الْمزي بِدِمَشْق، وَكَانَ طَبِيب يُسمى
مُحَمَّد بن عبد السَّيِّد يسمع الحَدِيث - وَهُوَ
يَهُودِيّ - على أبي عبد الله بن عبد الْمُؤمن الصُّورِي،
وَكتب اسْمه فِي طَبَقَات السماع مَعَ النَّاس.
وَأَجَازَ ابْن عبد الْمُؤمن لمن سَمعه وَهُوَ من
جُمْلَتهمْ، وَكَانَ السماع وَالْإِجَازَة بِحَضْرَة
الْمزي الْحَافِظ وَبَعض السماع بقرَاءَته وَلم يُنكره،
ثمَّ هدى
(5/2050)
الله الْيَهُودِيّ لِلْإِسْلَامِ وَحدث
بِمَا أُجِيز وَتحمل الطلاب عَنهُ.
قَالَ الْحَافِظ عبد الرَّحِيم الْعِرَاقِيّ: ورأيته وَلم
أسمع مِنْهُ.
قَوْله: {وَلَا تجوز لمعدوم أصلا عِنْد أَصْحَابنَا
وَالْأَكْثَر} ، نَحْو: أجزت لمن يُولد لفُلَان؛ وَلِأَن
الْإِجَازَة فِي حكم الْإِخْبَار جملَة بالمجاز كَمَا
تقدم، فَكَمَا لَا يَصح الْإِخْبَار للمعدوم لَا تصح
إِجَازَته.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة كالوقف
عندنَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالصَّحِيح الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ
رَأْي القَاضِي أبي الطّيب وَابْن الصّباغ أَنه لَا يَصح.
(5/2051)
قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ الصَّحِيح
الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيره، وَنَظِيره فِي الْوَقْف لَا
يجوز عندنَا، وَأَجَازَهُ أَصْحَاب مَالك وَأبي حنيفَة
فجوزوا الْوَقْف على من سيولد أَو يُوجد من نسل فلَان.
انْتهى.
وَأَجَازَ هَذِه الْإِجَازَة بِهَذِهِ الصّفة القَاضِي
أَبُو يعلى من أَصْحَابنَا، وَابْن عمروس من
الْمَالِكِيَّة، والخطيب من الشَّافِعِيَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَ صَاحب " الْمُغنِي "
جَوَاز الْوَقْف فقد يتَوَجَّه
(5/2052)
احْتِمَال تَخْرِيج، يَعْنِي بِصِحَّة
الْإِجَازَة على هَذِه الصّفة من اخْتِيَار صَاحب "
الْمُغنِي " فِي الْوَقْف.
تَنْبِيه: مَحل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا لم
تكن الْإِجَازَة للمعدوم على الْعُمُوم: كأجزت لمن يُوجد
بعد ذَلِك فَلَا يَصح بِالْإِجْمَاع، وَكَأَنَّهَا إجَازَة
من مَعْدُوم لمعدوم، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {وَلَا لمجهول وَلَا بِمَجْهُول} . لَا تجوز
الْإِجَازَة لمجهول: كأجزت لرجل من النَّاس، أَو لفُلَان
ويشترك فِي ذَلِك الِاسْم جمع.
وَلَا تجوز الْإِجَازَة أَيْضا بِمَجْهُول من مروياته:
كأجزت لَك أَن تروي عني شَيْئا، أَو بعض مروياتي، أَو كتاب
السّنَن مثلا. {وَجوز القَاضِي أَبُو يعلى وَابْن عمروس
الْمَالِكِي " أجزت لمن يَشَاء فلَان "} ، وَالصَّحِيح
خلاف ذَلِك، وَهُوَ عدم الصِّحَّة لما فِيهِ من
الْجَهَالَة وَالتَّعْلِيق.
(5/2053)
وَقد أفتى أَبُو الطّيب وَغَيره بِأَنَّهُ
لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ إجَازَة لمجهول، قَالَ: كَقَوْلِه:
أجزت بعض النَّاس.
تَنْبِيه: لَيْسَ من هَذِه الْإِجَازَة لمسميين مُعينين
بأنسابهم والمخبر جَاهِل بأعيانهم فَلَا يقْدَح كَمَا لَا
يقْدَح عدم مَعْرفَته بِمن هُوَ خَاص يسمع بشخصه، وَكَذَا
لَو جَازَ للمسمين فِي الاستجازة وَلم يعرفهُمْ بأعيانهم،
وَلَا بِأَسْمَائِهِمْ وَلَا تصفحهم وَاحِدًا وَاحِدًا.
قَوْله: {وَيَقُول: أجَاز لي فلَان} ، حَيْثُ صححنا
الْإِجَازَة، اخْتلف فِيمَا يَقُول الرَّاوِي
بِالْإِجَازَةِ، فَإِن قَالَ: أجَاز لي، أَو أجَاز لنا
فَهُوَ الأجود، {وَيجوز} قَوْله: {" حَدثنَا وَأخْبرنَا
إجَازَة "} عِنْد أَصْحَابنَا وَأكْثر الْعلمَاء.
{وَمنع قوم فِي " حَدثنَا "} فَلَا يَقُول فِي
الْإِجَازَة: " حَدثنَا، وَلَكِن
(5/2054)
يَقُول: أخبرنَا إجَازَة فَقَط.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَجوز أَبُو نعيم، وَأَبُو عبد الله
المرزباني أَن يَقُول: " أخبرنَا " دون " حَدثنَا "،
وَأَجَازَهُ قوم مُطلقًا، يَعْنِي سَوَاء قَالَ: حَدثنَا،
أَو أخبرنَا إجَازَة أَو لم يقل إجَازَة، وَكَانَ يفعل
ذَلِك أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي.
قلت: وَفِيه بعد وإيهام أَن يكون بِالتَّحْدِيثِ على
الْحَقِيقَة، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة.
قَوْله: {وَتجوز إجَازَة الْمجَاز بِهِ فِي الْأَصَح} :
كأجزت لَك مجازاتي، أَو أجزت لَك مَا أُجِيز لي رِوَايَته.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْعَمَل خلافًا لبَعض
الْمُتَأَخِّرين.
(5/2055)
وَقد كَانَ الْفَقِيه نصر الْمَقْدِسِي
يروي بِالْإِجَازَةِ عَن الْإِجَازَة، وَعَلِيهِ الْعَمَل
إِلَى زَمَاننَا هَذَا.
قَوْله: {وَلَا يجوز لما يتحمله} فِي الْمُسْتَقْبل أَن
يُجِيزهُ قبل أَن يتحمله {ليرويه عَنهُ إِذا تحمله فِي
الْأَصَح} .
قَالَ القَاضِي عِيَاض: لم أرهم تكلمُوا فِيهِ، وَرَأَيْت
بعض العصريين يَفْعَله، قَالَ عبد الْملك الطبني: كنت
عِنْد القَاضِي أبي الْوَلِيد يُونُس
(5/2056)
بقرطبة فَسَأَلَهُ إِنْسَان الْإِجَازَة
بِمَا رَوَاهُ وَمَا يرويهِ من بعد، فَلم يجبهُ، فَغَضب،
فَقلت: يَا هَذَا {يعطيك مَا لم يَأْخُذ؟} فَقَالَ أَبُو
الْوَلِيد: هَذَا جوابي. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهُوَ
الصَّحِيح، وصححناه تبعا لما صححوه.
قَوْله: {وَمِنْهَا المناولة مَعَ الْإِجَازَة أَو
الْإِذْن} .
هَذَا الْقسم يُسمى عرض المناولة، كَمَا أَن سَماع
الشَّيْخ يُسمى عرض الْقِرَاءَة، وَهِي نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: مَا ذكرنَا وَهِي المناولة مَعَ الْإِجَازَة أَو
الْإِذْن، وَالرِّوَايَة بِهَذَا النَّوْع جَائِزَة.
قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي " الإلماع ": جَائِزَة
بِالْإِجْمَاع.
وَكَذَا قَالَ الْمَازرِيّ: لَا شكّ فِي وجوب الْعَمَل
بِهِ. انْتهى.
(5/2057)
لَكِن الصَّيْرَفِي حكى الْخلاف فِي
الْمَسْأَلَة، وَأَن الْمَانِع خرجه على الشَّهَادَة:
كَمَا فِي الصَّك، وَلم يقْرَأ على الشُّهُود عَلَيْهِ، بل
قَالَ: اشهدا عَليّ بِمَا فِيهِ، فَإِن القَوْل بِمَنْعه
مَشْهُور كَمَا ذَكرُوهُ فِي الْكتاب إِلَى القَاضِي.
وَمِمَّا اسْتدلَّ للمناولة بِدُونِ الْقِرَاءَة مَا
قَالَه البُخَارِيّ: إِن بعض أهل الْحجاز احْتَجُّوا
عَلَيْهَا بِحَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - حَيْثُ كتب لأمير السّريَّة كتابا، قَالَ:
لَا تَقْرَأهُ حَتَّى تبلغ مَكَان كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا
بلغ ذَلِك الْمَكَان قَرَأَهُ على النَّاس، وَأخْبرهمْ
بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
لَكِن أَشَارَ الْبَيْهَقِيّ إِلَى أَنه لَا حجَّة فِيهِ،
وَهُوَ ظَاهر لاحْتِمَال أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَهُ عَلَيْهِ فَيكون وَاقعَة
عين يسْقط مِنْهَا الِاسْتِدْلَال للاحتمال.
(5/2058)
وأمير السّريَّة هُوَ عبد الله بن جحش
المجدع فِي الله، وَذَلِكَ فِي رَجَب فِي السّنة
الثَّانِيَة، والْحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرِيّ مَرْفُوعا.
وَصفَة هَذَا النَّوْع: أَن يُجِيزهُ بِشَيْء نَاوَلَهُ
إِيَّاه بِأَن يدْفع الشَّيْخ إِلَى الطَّالِب أصل مرويه،
أَو فرعا مُقَابلا بِهِ وَيَقُول لَهُ: هَذَا سَمَاعي أَو
مرويي بطرِيق كَذَا فاروه عني، أَو أجزته لَك أَن ترويه
عني ثمَّ يملكهُ إِيَّاه بطرِيق أَو يعيره لَهُ،
يَنْقُلهُ، ويقابله بِهِ.
وَفِي مَعْنَاهُ: أَن يَجِيء الطَّالِب بذلك للشَّيْخ
ابْتِدَاء ويعرضه عَلَيْهِ فيتأمله الشَّيْخ الْعَارِف
اليقظ وَيَقُول: نعم، هَذَا مسموعي، أَو روايتي
(5/2059)
بطرِيق كَذَا، فاروه عني، أَو أجزته لَك،
أَو يُعْطِيهِ شَيْئا من تصانيفه فَيَقُول: اروه عني.
وَالرِّوَايَة بِهَذَا النَّوْع جَائِزَة - كَمَا تقدم -،
لكنه لَيْسَ كالسماع، بل منحط عَنهُ، وَهُوَ الصَّحِيح.
حَكَاهُ الْحَافِظ عَن فُقَهَاء الْإِسْلَام الْمُفْتِينَ
فِي الْحَلَال وَالْحرَام: الشَّافِعِي وصاحبيه الْمُزنِيّ
والبويطي، وَأحمد، وَإِسْحَاق،
(5/2060)
وَابْن الْمُبَارك، وَيحيى بن يحيى، قَالَ:
وَعَلِيهِ عهدنا أَئِمَّتنَا، وَإِلَيْهِ نَذْهَب.
وَأما مُقَابِله: فَقَوْل الزُّهْرِيّ، وَرَبِيعَة، وَيحيى
بن سعيد، وَمَالك، وَمُجاهد، وَأبي الزبير، وَابْن
(5/2061)
عُيَيْنَة، وَقَتَادَة، وَأبي الْعَالِيَة،
وَابْن وهب، وَآخَرين - نَقله الْبرمَاوِيّ عَنْهُم -
فَيكون عِنْد هَؤُلَاءِ كالسماع.
قَوْله: {وَهِي أَعلَى من الْإِجَازَة} - أَي
الْمُجَرَّدَة - {فِي الْأَصَح} ، وَهُوَ الرَّاجِح
الَّذِي عَلَيْهِ المحدثون، وَإِن كَانَ الأصوليون خالفوهم
فِي ذَلِك كَمَا صرح بِهِ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن
الْقشيرِي، وَالْغَزالِيّ.
وَقَالُوا: المناولة لَيْسَ شرطا وَلَيْسَ فِيهَا مزِيد
تَأْكِيد، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَة تكلّف أحدثه بعض
الْمُحدثين.
قَوْله: {وبمجردها} هَذَا النَّوْع الثَّانِي من المناولة،
وَهُوَ مُجَرّد المناولة العاري عَن الْإِجَازَة
وَالْإِذْن، {لَا يجوز عندنَا، وَعند الْأَكْثَر.
(5/2062)
قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {إِنَّمَا
نَص الإِمَام أَحْمد فِي مناولة مَا عرفه الْمُحدث} .
وأصل المناولة لُغَة: الْإِعْطَاء بِالْيَدِ. ثمَّ
اسْتعْملت عِنْد الْمُحدثين وَغَيرهم فِي إِعْطَاء كتاب
أَو ورقة مَكْتُوبَة، وَنَحْو ذَلِك.
وَيَقُول المناول: هَذَا سَمَاعي من قبل فلَان أَو مرويي
عَنهُ بطرِيق كَذَا.
وَسَوَاء قَالَ مَعَ ذَلِك: خُذْهُ، أَو نَاوَلَهُ ساكتا،
فَإِذا لم يَنْضَم إِلَيْهَا إِذن وَلَا إجَازَة تسمى
المناولة الْمُجَرَّدَة، وَالَّذِي رَجحه الْأَكْثَر أَن
الرِّوَايَة لَا تصح بهَا.
وَحكى الْخَطِيب عَن قوم أَنهم صححوها، وَبِه قَالَ ابْن
الصّباغ.
(5/2063)
قَالَ الْهِنْدِيّ: وَكَلَام الرَّازِيّ
صَرِيح فِيهِ، وَكَلَام غَيره يدل على الْمَنْع.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّهَا إجَازَة مجملة لَا تجوز
الرِّوَايَة بهَا.
وعابها غير وَاحِد من الْفُقَهَاء والأصوليين على
الْمُحدثين.
قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّحِيح الْمَنْع عَن
الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء.
قَوْله: {و} لم ير {الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة} ، وهم:
الإِمَام أَبُو حنيفَة، وَالْإِمَام الشَّافِعِي،
وَالْإِمَام أَحْمد، وَأكْثر الْعلمَاء، {إِطْلَاق "
حَدثنَا " و " أخبرنَا " فِيهَا} ، أَي: فِي المناولة مَعَ
الْإِجَازَة أَو الْإِذْن.
(5/2064)
{وَجوزهُ الزُّهْرِيّ، وَمَالك} ، وَجمع؛
لِأَنَّهَا كالسماع عِنْدهم، كَمَا تقدم عَنْهُم.
قَوْله: {وَيَكْفِي اللَّفْظ بِلَا مناولة} . يَعْنِي لَو
كَانَ الْكتاب بيد الْمجَاز لَهُ أَو على الأَرْض،
وَنَحْوه جَازَ، وَلَا يشْتَرط فِيهَا فعل المناولة؛
لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لَهُ.
قَوْله: {وَمِنْهَا الْمُكَاتبَة مَعَ الْإِجَازَة فِي
الْأَصَح} .
من الْأَقْسَام: الْمُكَاتبَة، بِأَن يكْتب الشَّيْخ إِلَى
غَيره سَمِعت من فلَان كَذَا، للمكتوب إِلَيْهِ إِذا علم
خطه، أَو ظَنّه بِإِخْبَار عدل أَنه خطه، أَو شَاهده
يكْتب، أَن يعْمل بِهِ وَيَرْوِيه عَنهُ.
(5/2065)
قَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ":
الْمُكَاتبَة أَن يكْتب الشَّيْخ شَيْئا من حَدِيثه
بِخَطِّهِ، أَو يَأْمر غَيره فَيكْتب عَنهُ بِإِذْنِهِ
سَوَاء كتبه، أَو كتب عَنهُ إِلَى غَائِب عَنهُ، أَو حَاضر
عِنْده.
فهذان نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: أَن يُجِيزهُ مَعَ ذَلِك فَتجوز الرِّوَايَة
بِهِ على الصَّحِيح، كالمناولة.
وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء حَتَّى قَالَ بَعضهم: إِنَّه
كالسماع؛ لِأَن الْكِتَابَة أحد اللسانين، وَقد كَانَ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبلغ
الْغَائِب بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ، وَكَانَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يكْتب إِلَى عماله تَارَة
وَيُرْسل أُخْرَى.
وَمنع قوم من الرِّوَايَة بِالْكِتَابَةِ مُطلقًا،
مِنْهُم: الْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ وأجابا عَن كتب
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَن
الِاعْتِمَاد على إِخْبَار الْمُرْسلَة على يَده، وَنقل
إِنْكَار ذَلِك عَن الدَّارَقُطْنِيّ.
(5/2066)
قَوْله: {وبدونها} ، أَي: بِدُونِ
الْإِجَازَة بل كتبه إِلَيْهِ يُخبرهُ بذلك فَقَط، وَهُوَ
النَّوْع الثَّانِي.
{وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد، والخلال الْجَوَاز} ،
فَإِن أَبَا مسْهر وَأَبا تَوْبَة كتبا إِلَيْهِ
بِأَحَادِيث وَحدث بهَا، وَهُوَ الْأَشْهر للمحدثين،
وَاخْتَارَهُ كثير من الْمُتَقَدِّمين حَتَّى قَالَ ابْن
السَّمْعَانِيّ: إِنَّهَا أقوى من الْإِجَازَة.
وَجزم بِهِ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ". وَفِي "
البُخَارِيّ " فِي كتاب الْأَيْمَان
(5/2067)
وَالنُّذُور: كتب إِلَى مُحَمَّد بن بشار.
وَفِي " مُسلم ": عَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص كتب إِلَى
جَابر بن سَمُرَة.
وللشافعية خلاف عملا بِالْقَرِينَةِ، وَأَنَّهَا تَضَمَّنت
الْإِجَازَة، وَقد تقدم مَا فِيهَا مَعَ الْإِجَازَة
فَمَعَ عدمهَا الْخلاف أقوى.
قَالَ الْآمِدِيّ: لَا يرويهِ إِلَّا بتسليط الشَّيْخ
كَقَوْلِه: فاروه عني، أَو أجزت لَك رِوَايَته.
(5/2068)
قَوْله: {وَيَكْفِي معرفَة خطه عندنَا،
وَعند الْأَكْثَر} .
تقدم أَنه يَكْفِي معرفَة خطه بطرق، مِنْهَا: أَن يعرف
خطه. وَمِنْهَا: أَن يَظُنّهُ، وَيَكْفِي الظَّن فِي ذَلِك
بِإِخْبَار عدل. وَمِنْهَا: أَن يُشَاهِدهُ يكْتب ذَلِك،
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
وَقد حكى أَبُو الْحُسَيْن بن الْقطَّان عَن بَعضهم أَن
لَا يَكْفِي فِي ذَلِك إِلَّا شَاهِدَانِ على الْكَاتِب
بِأَنَّهُ كتبه على حد شَرط كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي،
وَتقدم ذَلِك قَرِيبا.
قَوْله: {وَلَا يجوز إِطْلَاق " حَدثنَا " " وَأخْبرنَا "
فِيهَا خلافًا لقوم} .
(5/2069)
الأول هُوَ الْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ
الْأَكْثَر، بل يَقُول: كتب إِلَيّ، أَو أَخْبرنِي
كِتَابه.
وَجوز الْفَخر الرَّازِيّ أَن يُطلق " أَخْبرنِي " وَإِن
لم يقل كِتَابه، وَجرى عَلَيْهِ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي "
شرح العنوان " فَجعل قَول الرَّاوِي " كِتَابَة " أدبا،
لَا شرطا، وَنقل نَحْو ذَلِك عَن اللَّيْث بن سعد أَنه
يجوز إِطْلَاق " حَدثنَا " و " أخبرنَا ".
قَوْله: {وَمُجَرَّد قَول الشَّيْخ: هَذَا سَمَاعي أَو
روايتي، لَا تجوز رِوَايَته عَنهُ بذلك عندنَا، وَعند
الْأَكْثَر} من الْمُحدثين، والآمدي، وَغَيرهم، وَبِه قطع
أَبُو حَامِد الطوسي من الشَّافِعِيَّة، كَمَا قَالَه ابْن
الصّلاح.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بِهِ
الْغَزالِيّ، فَإِنَّهُ كَذَلِك فِي
(5/2070)
" الْمُسْتَصْفى ". قَالَ: لِأَنَّهُ لم
يَأْذَن فِي الرِّوَايَة فَلَعَلَّهُ لَا يجوز
الرِّوَايَة؛ لخلل يعرفهُ فِيهِ، وَإِن سَمعه. انْتهى.
وَذهب جمع كثير إِلَى الْجَوَاز، مِنْهُم: ابْن جريج،
وَعبد الله الغمري - بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة
وَالرَّاء الْمُهْملَة - وَأَصْحَابه المدنيون، وَطَائِفَة
من الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء، والأصوليين، وَأهل
الظَّاهِر، وَابْن الصّباغ، وَنَصره أَيْضا الْوَلِيد بن
بكر الغمري - بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة أَيْضا - فِي
كتاب " الوجازة " لَهُ.
(5/2071)
وَجوزهُ أَبُو مُحَمَّد بن خَلاد
الرامَهُرْمُزِي قَالَ: حَتَّى لَو قَالَ: هَذِه روايتي
وَلَكِن لَا تَرَوْهَا وَلَا أجيزه، لم يضرّهُ ذَلِك.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَمَا قَالَه صَحِيح لَا يَقْتَضِي
النّظر سواهُ؛ لِأَن مَنعه لَا لعِلَّة، وَلَا لريبة لَا
يُؤثر فَهُوَ من الَّذِي لَا يرجع فِيهِ.
ورده ابْن الصّلاح بِأَنَّهُ كالشاهد قد يسمع من يذكر
شَيْئا فِي غير مجْلِس الحكم لَيْسَ لَهُ أَن يشْهد على
شَهَادَته إِذا لم يَأْذَن لَهُ، قَالَ: وَذَلِكَ مِمَّا
تَسَاوَت فِيهِ الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة. انْتهى.
وَاعْلَم أَن هَذَا كُله فِي جَوَاز الرِّوَايَة، أما
الْعَمَل بِمَا أخبرهُ الشَّيْخ أَنه سَمَاعه، أَو مرويه
فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ إِذا صَحَّ إِسْنَاده، كَمَا جزم
بِهِ ابْن الصّلاح، وَحكى عِيَاض عَن محققي أَصْحَاب
الْأُصُول أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.
قَوْله: {وَلَا تجوز بِالْوَصِيَّةِ} بكتبه فِي الْأَصَح،
أَي:
(5/2072)
لَا تجوز الرِّوَايَة بِالْوَصِيَّةِ
بكتبه، مثل أَن يُوصي قبل مَوته، أَو عِنْد سَفَره بِشَيْء
من مروياته لشخص.
فَعَن بعض السّلف أَنه يجوز للْمُوصى لَهُ أَن يرويهِ عَن
الْمُوصي.
قَالَ أَيُّوب لمُحَمد بن سِيرِين: إِن فلَانا أوصى إِلَيّ
بكتبه أفأحدث بهَا عَنهُ؟ قَالَ: نعم. ثمَّ قَالَ لي بعد
ذَلِك: لَا آمُرك وَلَا أَنهَاك.
قَالَ حَمَّاد: وَكَانَ أَبُو قلَابَة قَالَ: ادفعوا كتبي
إِلَى أَيُّوب: إِن كَانَ حَيا وَإِلَّا فأحرقوها.
وَعلل ذَلِك القَاضِي عِيَاض بِأَنَّهُ نوع من الْإِذْن.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَهَذَا بعيد جدا، وَهُوَ إِمَّا
زلَّة عَالم، أَو مؤول على أَنه أَرَادَ أَن يكون ذَلِك
على سَبِيل الوجادة.
وَأنكر عَلَيْهِ ابْن أبي الدَّم ذَلِك وَقَالَ:
الْوَصِيَّة أرفع رُتْبَة من الوجادة
(5/2073)
بِلَا خلاف، وَهِي مَعْمُول بهَا عِنْد
الشَّافِعِي وَغَيره. انْتهى.
فعلى القَوْل بِالْعَمَلِ يَنْبَغِي أَن يُصَرح بذلك،
فَيَقُول: أوصى إِلَيّ فلَان أَن أروي عَنهُ كَذَا، وَلَا
يُطلق " حَدثنَا "، و " أخبرنَا "، وَكَذَا فِي
الْإِعْلَام.
قَوْله: {وَلَو وجد شَيْئا بِخَط الشَّيْخ لم تجز
رِوَايَته عَنهُ} ، لَكِن يَقُول: وجدت بِخَط فلَان.
وَتسَمى الوِجادة - بِكَسْر الْوَاو - مصدر مُؤَكد لوجد.
قَالَ الْمعَافى بن زَكَرِيَّا النهرواني: إِن المولدين
ولدوه، وَلَيْسَ عَرَبيا جَعَلُوهُ مباينا لمصادر " وجد "
الْمُخْتَلفَة الْمَعْنى، وكما ميزت الْعَرَب بَين
مَعَانِيهَا، فرق هَؤُلَاءِ بَين مَا قصدوه من هَذَا
النَّوْع وَبَين تِلْكَ، فمادة " وجد " متحدة الْمَاضِي
والمضارع مُخْتَلفَة المصادر بِحَسب اخْتِلَاف الْمعَانِي،
فَيُقَال فِي الْغَضَب: موجدة، وَفِي الْمَطْلُوب: وجودا،
وَفِي الضَّالة: وجدانا، وَفِي
(5/2074)
الْحبّ: وَجدا - بِالْفَتْح - وَفِي
المَال: وُجدانا - بِالضَّمِّ -، وَفِي الْغنى: جِدة -
بِكَسْر الْجِيم وَتَخْفِيف الدَّال الْمَفْتُوحَة على
الْأَشْهر فِي جَمِيع ذَلِك.
وَقَالُوا أَيْضا فِي الْمَكْتُوب: وجادة، وَهِي مولدة،
وَزيد فِي الْغَضَب أَيْضا: جدة، وَفِي الْغنى: اجدانا،
ذكره ابْن حجر وَغَيره.
والوجادة فِي الِاصْطِلَاح: أَن يحدث الحَدِيث أَو نَحوه
بِخَط من يعرفهُ، ويثق بِأَنَّهُ خطه حَيا كَانَ أَو
مَيتا.
فَأَما الرِّوَايَة بِهِ فَيَقُول: {وجدت بِخَط فلَان}
كَذَا، وَإِذا لم يَثِق بذلك يَقُول: ذكر أَنه خطّ فلَان،
وَلَا يَقُول: " حَدثنَا "، و " أخبرنَا " خلافًا لمن جازف
فِي إِطْلَاق ذَلِك.
{وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا تجوز الرِّوَايَة بِرُؤْيَة
خطّ الشَّيْخ سَمِعت كَذَا سَوَاء قَالَ: هَذَا خطي، أَو
لم يقل} . وَأَن أَبَا الْخطاب قَالَ: نَص
(5/2075)
أَحْمد على جَوَازه، كَذَا قَالَ. انْتهى.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: لَا أعلم أحدا مِمَّن يقْتَدى بِهِ
أجَاز ذَلِك، وَإِنَّمَا أَن يَقُول: عَن فلَان.
قَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه تَدْلِيس قَبِيح إِذا كَانَ
يُوهم سَمَاعه مِنْهُ.
قَوْله: {فَائِدَة:
يجب الْعَمَل بِمَا ظن صِحَّته من ذَلِك عِنْد أَصْحَابنَا
وَالشَّافِعِيَّة} وَغَيرهم فَلَا يتَوَقَّف الْعَمَل على
رِوَايَتهَا.
(5/2076)
قَالَ ابْن مُفْلِح: عِنْد أَصْحَابنَا،
وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، وَذَلِكَ لعمل الصَّحَابَة
على كتبه - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام -.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ":
قَالَه الشَّافِعِي ونظار أَصْحَابه، وَنَصره
الْجُوَيْنِيّ، وَاخْتَارَهُ جمع من الْمُحَقِّقين.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ الَّذِي لَا يتَّجه غَيره فِي
الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الصَّحِيح، وَهَذَا قَول
أَصْحَابنَا.
وَقيل: لَا يعْمل بِهِ.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: أَكثر الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء
من
(5/2077)
الْمَالِكِيَّة وَغَيرهم لَا يرَوْنَ
الْعَمَل بِهِ.
تَنْبِيه: بل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا لم يكن
لَهُ بِمَا وجده رِوَايَة، وَصرح بِهِ ابْن مُفْلِح فِي "
أُصُوله "، وَهُوَ ظَاهر كَلَام غَيره.
وَمِمَّا يدل على كَونهم ذكرُوا ذَلِك عقب الوجادة.
وَأما إِذا كَانَ لَهُ رِوَايَة بِمَا وجده فالاعتماد على
الرِّوَايَة، لَا على الوجادة، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَمن رأى سَمَاعه وَلم يذكرهُ فَلهُ رِوَايَته
وَالْعَمَل بِهِ إِذا عرف الْخط عِنْد أَحْمد
وَالشَّافِعِيّ، وَأبي يُوسُف، وَمُحَمّد} ، وَغَيرهم، لما
سبق.
(5/2078)
وَخَالف أَبُو حنيفَة فَقَالَ: لَا تجوز
حَتَّى يذكر سَمَاعه. قلت: نظيرها لَو رأى الشَّاهِد خطه
بِشَهَادَة، أَو الْحَاكِم خطه بِحكم وَلم يذكراه، هَل
للشَّاهِد أَن يشْهد، وللحاكم أَن ينفذ حكمه أم لَا.
فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن الإِمَام أَحْمد، وَالْمَشْهُور
فِي الْمَذْهَب الْمَنْع وَالْمُخْتَار عَدمه.
فعلى الأول قَالَ أَكثر أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يعْمل بِهِ
إِذا ظَنّه خطه، فَيَكْفِي ظَنّه، وَهَذَا الصَّحِيح،
ونقلوه عَمَّن أجَاز الرِّوَايَة.
وَقَالَ الْمجد: لَا يعْمل بِهِ إِلَّا إِذا تحَققه، وَقطع
بِهِ فِي " المسودة ".
وَنقل الأول ابْن مُفْلِح، ثمَّ قَالَ: وَلِهَذَا قيل
لِأَحْمَد: فَإِن أَعَارَهُ من لم يَثِق بِهِ؟ فَقَالَ: كل
ذَلِك أَرْجُو. فَإِن الزِّيَادَة فِي الحَدِيث لَا تكَاد
تخفي؛ لِأَن الْأَخْبَار مَبْنِيَّة على حسن الظَّن
وغلبته.
(5/2079)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة وَالْأَكْثَر تجوز رِوَايَة الحَدِيث
بِالْمَعْنَى للعارف} بِمَا يحِيل الْمَعْنى.
هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة
الْأَرْبَعَة وجماهير الْعلمَاء مُطلقًا، وَعَلِيهِ
الْعَمَل.
وَقد روى ابْن مَنْدَه فِي " معرفَة الصَّحَابَة " من
حَدِيث عبد الله بن
(5/2080)
سُلَيْمَان بن أكيمَة اللَّيْثِيّ، قَالَ:
قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسمع مِنْك الحَدِيث لَا
أَسْتَطِيع أَن أرويه كَمَا سمعته مِنْك يزِيد حرفا أَو
ينقص حرفا، فَقَالَ: إِذا لم تحلوا حَرَامًا، وَلَا تحرموا
حَلَالا، وأصبتم الْمَعْنى فَلَا بَأْس.
فَذكر ذَلِك لِلْحسنِ، فَقَالَ: لَوْلَا هَذَا مَا
حَدثنَا.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: مَا زَالَ الْحفاظ يحدثُونَ
بِالْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة - على مَا يَأْتِي
-:
{وَعنهُ: لَا} يجوز، {اخْتَارَهُ جمع} من الْعلمَاء،
مِنْهُم: مُحَمَّد بن سِيرِين، وثعلب من الْحَنَابِلَة،
وَأَبُو بكر الرَّازِيّ من
(5/2081)
الْحَنَفِيَّة، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي،
والقشيري عَن مُعظم الْمُحدثين وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ.
وَنَقله القَاضِي عبد الْوَهَّاب عَن الظَّاهِرِيَّة،
وَحَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَن ابْن عمر، وَجمع من
التَّابِعين، وَبِه أجَاب الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق
الإِسْفِرَايِينِيّ.
وَنقل عَن مَالك أَيْضا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي نَقله عَن ابْن عمر، وَمن مَعَه من
التَّابِعين: فِيهِ نظر؛ فَإِنَّهُ لم يَصح عَنْهُم سوى
مُرَاعَاة اللَّفْظ، فَلَعَلَّهُ اسْتِحْبَاب، أَو لغير
عَارِف، فَإِنَّهُ إِجْمَاع فيهمَا.
(5/2082)
{وَجوزهُ الْمَاوَرْدِيّ إِن نسي اللَّفْظ}
؛ لِأَنَّهُ قد تحمل اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَعجز عَن
أَحدهمَا فَيلْزمهُ إِذن الآخر، وَجعل مَحل الْخلاف فِي
الصَّحَابِيّ، وَقطع فِي غَيره بِالْمَنْعِ.
{وَقيل:} يجوز {إِن كَانَ مُوجبه علما} ، فَهَذَا القَوْل
مفصل: وَهُوَ إِن كَانَ مُقْتَضَاهُ علما جَازَ، وَإِن
اقْتضى عملا فَمِنْهُ مَا لَا يجوز الْإِخْلَال بِهِ
كَقَوْلِه: تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم،
وَخمْس تقتل فِي الْحل وَالْحرم.
وَحَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَجها لبَعض أَصْحَاب
الشَّافِعِي.
وَقيل: يجوز ذَلِك للصحابة فَقَط، وَتقدم ذَلِك عَن
الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره من النَّاس، وَقيل: يجوز ذَلِك فِي
الْأَحَادِيث الطوَال دون الْأَحَادِيث الْقصار، حُكيَ عَن
القَاضِي عبد الْوَهَّاب.
(5/2083)
{وَقيل: يجوز للاحتجاج لَا التَّبْلِيغ}
فيورد على وَجه الِاحْتِجَاج والفتيا لَا التَّبْلِيغ
فَلَا يجوز لظَاهِر حَدِيث الْبَراء، قَالَه ابْن حزم فِي
الإحكام.
{وَقيل} يجوز {بِلَفْظ مرادف} فَقَط، فَلَا يجوز
بِغَيْرِهِ، اخْتَارَهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ.
{وَمنع أَبُو الْخطاب إِبْدَاله بأظهر مِنْهُ معنى أَو
أخْفى} لجَوَاز قصد الشَّارِع التَّعْرِيف بذلك.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": قَالَ أَبُو الْخطاب: وَلَا
يُبدل الرَّاوِي بِالْمَعْنَى لفظا بأظهر مِنْهُ؛ لِأَن
الشَّاعِر إِنَّمَا قصد إِيصَال الحكم إِلَى الْمُكَلّفين
بِاللَّفْظِ الْجَلِيّ تَارَة تسهيلا للفهم عَلَيْهِم
وباللفظ الْخَفي أُخْرَى تكثيرا لأجرهم بإجادة النّظر
فِيهِ.
قلت: وَكَذَا بِالْعَكْسِ وَأولى، أَي: كَذَلِك لَا يُبدل
لفظا بِلَفْظ أخْفى مِنْهُ، وَهُوَ أولى بِعَدَمِ
الْجَوَاز مِمَّا ذكره أَبُو الْخطاب.
{و} قَالَ ابْن عقيل {فِي الْوَاضِح} : إِبْدَاله
{بِالظَّاهِرِ أولى، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يجوز بأظهر
اتِّفَاقًا} لجوازه [بِغَيْر] عَرَبِيَّة وَهِي أتم
بَيَانا.
(5/2084)
قَوْله: {فعلى الْجَوَاز لَيْسَ بِكَلَام
الله، وَهُوَ وَحي، وَإِلَّا فَكَلَامه} يَعْنِي وَإِن لم
يجز فَهُوَ كَلَامه، {هَذَا إِن روى مُطلقًا، وَإِن بَين
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الله
أَمر أَو نهى فكالقرآن.
وَقَالَ ابْن أبي مُوسَى، وحفيد القَاضِي وَغَيرهمَا: مَا
كَانَ خَبرا عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَه فَحكمه
كالقرآن} .
اسْتدلَّ للْجُوَاز بِعَمَل السّلف من غير نَكِير مِنْهُم
فَهُوَ إِجْمَاع.
وَقد تقدم أَن الإِمَام أَحْمد قَالَ: مَا زَالَ الْحفاظ
يحدثُونَ بِالْمَعْنَى وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة مستدلا
بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْن مَنْدَه.
وَقد روى عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة التَّصْرِيح بذلك،
وَلأَحْمَد بِإِسْنَاد حسن عَن وَاثِلَة: إِذا
حَدَّثْنَاكُمْ بِالْحَدِيثِ على مَعْنَاهُ فحسبكم.
(5/2085)
وروى الْخلال هَذَا الْمَعْنى عَن ابْن
مَسْعُود مَرْفُوعا، وَحدث ابْن مَسْعُود عَنهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيثا فَقَالَ: أَو دون
ذَلِك، أَو فَوق ذَلِك أَو قَرِيبا من ذَلِك.
وَكَانَ أنس إِذا حدث عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: أَو كَمَا قَالَ.
إسنادهما صَحِيح، رَوَاهُمَا ابْن ماجة، وَكَذَلِكَ نقلت
وقائع متحدة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة.
وَلِأَنَّهُ يجوز تَفْسِيره بعجمية إِجْمَاعًا فبعربية
أولى، ولحصول الْمَقْصُود وَهُوَ الْمَعْنى، وَلِهَذَا لَا
يجب تِلَاوَة اللَّفْظ وَلَا ترتيبه بِخِلَاف الْقُرْآن
وَالْأَذَان وَنَحْوه.
(5/2086)
وَاحْتج أَصْحَابنَا بِجَوَازِهِ فِي
كَلَام غَيره عَلَيْهِ السَّلَام لتَحْرِيم الْكَذِب
فيهمَا.
رد بِالْخِلَافِ فِيهِ، ثمَّ بِالْفرقِ.
قَالُوا: نضر الله امْرَءًا ... ، وَسبق ذَلِك فِي شُرُوط
الرَّاوِي.
رد: لَا وَعِيد، ثمَّ أَدَّاهُ كَمَا سَمعه بِدَلِيل
تَرْجَمته، أَو لغير عَارِف.
قَالُوا: يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَاف الْمَعْنى؛ لتَفَاوت
الأفهام، وَلِهَذَا لما علم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَراء بن عَازِب عِنْد النّوم: "
آمَنت بكتابك الَّذِي أنزلت، وبنبيك الَّذِي أرْسلت ".
قَالَ: وَرَسُولك، قَالَ: لَا، وَنَبِيك. مُتَّفق
عَلَيْهِ.
رد: إِنَّمَا يجوز لمن علم الْمَعْنى.
وَفَائِدَة قَوْله للبراء: عدم الالتباس بِجِبْرِيل، أَو
الْجمع بَين لَفْظِي النُّبُوَّة والرسالة.
(5/2087)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الْجَواب
عَن حَدِيث الْبَراء من ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن الرَّسُول كَمَا يكون من الْأَنْبِيَاء يكون
من الْمَلَائِكَة.
الثَّانِي: أَن تضمن قَوْله: " وَرَسُولك " النُّبُوَّة
بطرِيق الِالْتِزَام، فَأَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام أَن
يُصَرح بِذكرِهِ النُّبُوَّة.
الثَّالِث: الْجمع بَين لَفْظِي النُّبُوَّة والرسالة.
انْتهى.
تَنْبِيه: قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: إِذا قُلْنَا تجوز
الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فلهَا شُرُوط:
أَحدهَا: كَون الرَّاوِي عَارِفًا بدلالات الْأَلْفَاظ
وَاخْتِلَاف مواقعها.
وَالثَّانِي: أَن لَا يكون متعبدا بِلَفْظِهِ كالقرآن قطعا
وكالتشهد فَلَا يجوز نقل أَلْفَاظه بِالْمَعْنَى
اتِّفَاقًا. نَقله الكيا، وَالْغَزالِيّ، وَأَشَارَ
إِلَيْهِ ابْن برهَان، وَابْن فورك، وَغَيرهمَا.
وَالثَّالِث: أَن لَا يكون من الْمُتَشَابه؛ ليَقَع
الْإِيمَان بِلَفْظِهِ من غير تَأْوِيل أَو بِتَأْوِيل على
المذهبين، فروايته بِالْمَعْنَى يُؤَدِّي إِلَى خلل على
الرِّوَايَتَيْنِ.
(5/2088)
وَالرَّابِع: أَن لَا يكون من جَوَامِع
الْكَلم، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-:
" الْخراج بِالضَّمَانِ "، " وَالْبَيِّنَة على
الْمُدَّعِي "، و " العجماء جَبَّار "، و " لَا ضَرَر
وَلَا ضرار "، و " لَا ينتطح فِيهَا عنزان "، و " حمي
(5/2089)
الْوَطِيس " وَنَحْوه مِمَّا لَا ينْحَصر،
وَنقل بعض الْحَنَفِيَّة فِيهِ خلافًا عَن بعض مشائخهم.
قَوْله: {تَنْبِيه: مَحل الْخلال فِي غير الْكتب المصنفة
لما فِيهِ من تَغْيِير تصنيفه، وَقَالَهُ ابْن الصّلاح
وَغَيره} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّ المُرَاد بِالْخِلَافِ فِي
غير ذَلِك. انْتهى.
قَالَ ابْن الصّلاح: لَا نرى الْخلاف جَارِيا وَلَا أجراه
النَّاس فِيمَا نعلم فِيمَا تضمنه بطُون الْكتب، فَلَيْسَ
لأحد أَن يُغير لفظ شَيْء من كتاب، وَيثبت فِيهِ بدله لفظا
آخر بِمَعْنَاهُ؛ فَإِن الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى رخص
فِيهَا من رخص لما كَانَ عَلَيْهِم فِي ضبط الْأَلْفَاظ،
والجمود عَلَيْهَا من الْحَرج، وَالنّصب وَذَلِكَ غير
مَوْجُود فِيمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ بطُون الأوراق والكتب؛
وَلِأَنَّهُ إِن ملك تَغْيِير اللَّفْظ فَلَيْسَ يملك
تَغْيِير تصنيف غَيره. انْتهى.
(5/2090)
وَتعقبه ابْن دَقِيق الْعِيد بِأَنَّهُ
قَالَ: فَأَقل مَا فِيهِ أَنه يَقْتَضِي تَجْوِيز هَذَا
فِيمَا ينْقل من المصنفات فِي أجزائنا وتخاريجنا، وَأَنه
لَيْسَ فِيهِ تَغْيِير المُصَنّف، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا
جَارِيا على الِاصْطِلَاح، فَإِن الِاصْطِلَاح على أَن
[لَا] تغير الْأَلْفَاظ بعد الِانْتِهَاء إِلَى الْكتب
المصنفة سَوَاء رويناها فِيهَا أَو نقلناها مِنْهَا.
انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ بعض شُيُوخنَا وَلقَائِل أَن
يَقُول لَا نسلم أَن يَقْتَضِي جَوَاز التَّغْيِير فِيمَا
نَقَلْنَاهُ إِلَى تخاريجنا بل لَا يجوز نَقله عَن ذَلِك
الْكتاب إِلَّا بِلَفْظِهِ دون مَعْنَاهُ، سَوَاء فِي
مصنفاتنا وَغَيرهَا. انْتهى.
قَوْله: {فَائِدَة:
إِبْدَال الرَّسُول بِالنَّبِيِّ وَعَكسه عِنْد أَحْمد
وَالْقَاضِي وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَالنَّوَوِيّ
وَغَيرهم} ، وَنَصّ على ذَلِك الإِمَام أَحْمد فِيمَا
رَوَاهُ
(5/2091)
عَنهُ عمر المغازلي، وَقَالَ صَالح: قلت
لأبي: يكون فِي الحَدِيث: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَيجْعَل الْإِنْسَان "
قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "!
قَالَ: أَرْجُو أَن لَا يكون بِهِ بَأْس.
وَاقْتصر على التَّعْلِيق الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": هَذِه الْمَسْأَلَة
مَبْنِيَّة على الْمَسْأَلَة قبلهَا، يَعْنِي على جَوَاز
رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى، فَمن أجازها أجَاز
الْإِبْدَال وَمن لَا فَلَا.
قلت: قد منع ابْن الصّلاح وَغَيره جَوَاز الْإِبْدَال مَعَ
تجويزهم رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى، فَدلَّ على
أَنَّهَا غير مَبْنِيَّة، وَقد فرق الْعلمَاء بَين
النَّبِي وَالرَّسُول بفروق كَثِيرَة.
وَأجَاب أَحْمد بِأَن الرسَالَة طرأت على النُّبُوَّة،
وَلم يكن رَسُولا وَأرْسل كشعيب، نَقله عَنهُ ابْن
مُفْلِح.
(5/2092)
(قَوْله: {فصل} )
لَو كذب أصل فرعا - قَالَ ابْن الباقلاني - أَو غلطه لم
يعْمل بِهِ عندنَا، وَعند الْأَكْثَر، وَحكي إِجْمَاعًا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: حَكَاهُ جمَاعَة إِجْمَاعًا لكذب
أَحدهمَا.
وَنقل عَن الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، لكنهما على عدالتهما
فَلَا تبطل بِالشَّكِّ، فَلَو شَهدا عِنْد حَاكم فِي
وَاقعَة قبلا؛ لِأَن قَوْله لَا يقْدَح فِي
(5/2093)
عَدَالَته؛ لِأَنَّهُ عدل، وتكذيبه قد يكون
لظن مِنْهُ، أَو غَيره.
{وَاخْتَارَ جمَاعَة الْعَمَل بِهِ} ، مِنْهُم: ابْن
الْقطَّان، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْمَاوَرْدِيّ،
وَالرُّويَانِيّ، وَابْن السُّبْكِيّ - فِي " جمع
الْجَوَامِع " - والبرماوي فِي " منظومته " و " شرحها "؛
لِأَن الْفَرْع قد يضْبط وَيكون الشَّيْخ نَاسِيا فينكره
اعْتِمَادًا على غَلَبَة ظَنّه أَنه مَا أخبرهُ؛ وَلِهَذَا
كَانَ الْحَالِف على غَلَبَة ظَنّه، وَالْأَمر بِخِلَافِهِ
لَا يَحْنَث.
ووقف أَبُو الْمَعَالِي فِي الْمَسْأَلَة فَقَالَ: إِن قطع
بكذبه وغلطه تَعَارضا ووقف الْأَمر على مُرَجّح بَين
الْخَبَرَيْنِ لتعارض قطع الشَّيْخ بكذب الرَّاوِي، وَقطع
الرَّاوِي بِأَن الشَّيْخ رَوَاهُ لَهُ.
وَقَالَ ابْن الباقلاني: إِن كذبه أَو غلطه لم يعْمل بِهِ،
وَحَكَاهُ عَن الشَّافِعِي.
(5/2094)
قَوْله: {وَإِن أنكرهُ، وَلم يكذبهُ عمل
بِهِ عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ،
وَمُحَمّد، وَالْأَكْثَر} ، وَهُوَ الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ
عدل جازم غير مكذب، كموت الأَصْل أَو جُنُونه.
وروى سعيد عَن الدَّرَاورْدِي عَن ربيعَة عَن سُهَيْل بن
أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ
مَعَ الشَّاهِد،
(5/2095)
ونسيه سُهَيْل، وَقَالَ: حَدثنِي ربيعَة
عني.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن الدَّرَاورْدِي قَالَ: فَذكرت
ذَلِك لسهيل فَقَالَ: أَخْبرنِي ربيعَة وَهُوَ عِنْدِي
ثِقَة، إِنِّي حدثته إِيَّاه وَلَا أحفظه، وَكَانَ سُهَيْل
يحدثه بعد عَن ربيعَة عَنهُ عَن أَبِيه.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَإِسْنَاده جيد، وَلم يُنكر
ذَلِك.
فَإِن قيل: فَأَيْنَ الْعَمَل بِهِ؟
قيل: مَذْكُور فِي معرض الْحجَّة، ثمَّ فَإِنَّهُ إِذا
جَازَ أَن يعْمل بِهِ ثَبت أَنه حق يجب الْعَمَل بِهِ.
{وَعنهُ: لَا} يعْمل بِهِ.
{وَقَالَهُ أَبُو حنيفَة، وَأَبُو يُوسُف، والكرخي} ،
والرازي، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة: وَلذَلِك ردوا خبر "
أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها
بَاطِل "؛
(5/2096)
لِأَن رَاوِيه الزُّهْرِيّ وَقَالَ: لَا
أذكرهُ.
وَكَذَلِكَ حَدِيث سُهَيْل فِي الشَّاهِد وَالْيَمِين.
وَقَالَ أَرْبَاب هَذَا القَوْل: كَالشَّهَادَةِ إِذا نسي
شَاهد الأَصْل.
أجابوا: بِأَن الشَّهَادَة أضيق.
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: عُمُوم
كَلَام أَحْمد يَقْتَضِي وَلَو جحد الْمَرْوِيّ عَنهُ} ؛
لِأَن الْإِنْكَار يَشْمَل الْقسمَيْنِ.
وَقيل: إِن غلب نسيانه، واعتاد ذَلِك قبل، وَإِلَّا فَلَا،
حَكَاهُ أَبُو زيد الدبوسي.
وَقيل: إِن كَانَ هُنَاكَ دَلِيل مُسْتَقل لم يعْمل بِهِ،
وَإِلَّا عمل بِهِ، حَكَاهُ ألكيا وَحسنه.
وَقيل يجوز لكل أحد أَن يرويهِ إِلَّا الَّذِي نَسيَه
لكَون الْمَرْء لَا يعْمل بِخَبَر أحد عَن فعل نَفسه كَمَا
فِي الْمُصَلِّي يُنَبه على مَا لَا يَعْتَقِدهُ.
(5/2097)
(قَوْله: {فصل} )
{تقبل زِيَادَة ثِقَة ضَابِط لفظا أَو معنى} . يَعْنِي
سَوَاء كَانَت الزِّيَادَة فِي الحَدِيث فِي اللَّفْظ أَو
فِي الْمَعْنى تقبل {إِن تعدد الْمجْلس إِجْمَاعًا} ،
قَالَه ابْن مُفْلِح.
قَالَ الأبياري، وَابْن الْحَاجِب، والهندي: بِلَا خلاف.
لَكِن انتقد عَلَيْهِ ذَلِك بِأَن ابْن السَّمْعَانِيّ قد
أجْرى فِيهَا الْخلاف.
قلت: وَإِن وجد خلاف فَهُوَ شَاذ ضَعِيف لَا يلْتَفت
إِلَيْهِ.
{وَإِن اتَّحد} الْمجْلس {وَفِيه} جمَاعَة {لَا يتَصَوَّر
غفلتهم} عَادَة {لم تقبل عِنْد الْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو
الْخطاب، وَابْن حمدَان} فِي
(5/2098)
" مقنعه "، وَذكره بَعضهم إِجْمَاعًا.
{وَقيل: أَو كَانَت تتوفر الدَّوَاعِي على نقلهَا} ،
اخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ، والتاج السُّبْكِيّ،
والبرماوي، وألحقوها بِمَا إِذا كَانَ فِي الْمجْلس
جمَاعَة لَا تتَصَوَّر غفلتهم، وَهُوَ قوي فِي النّظر.
{وَعنهُ: تقبل، اخْتَارَهُ القَاضِي وَغَيره} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ ظَاهر مَا ذكره القَاضِي،
وَجَمَاعَة وذكروه عَن أَحْمد، وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء
والمتكلمين.
وَحَكَاهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " عَن
أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ الْبرمَاوِيّ عَن جُمْهُور
الْفُقَهَاء والمحدثين، قَالَ: وَلِهَذَا قبل النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
خبر
(5/2099)
الْأَعرَابِي عَن رُؤْيَة الْهلَال مَعَ
انْفِرَاده، وَقبل خبر ذِي الْيَدَيْنِ، وَأبي بكر وَعمر -
رَضِي الله عَنْهُم -، وَإِن انفردوا عَن جَمِيع الروَاة.
وَمِمَّنْ نقل عَنهُ إِطْلَاق الْقبُول مَالك، حَكَاهُ
عَنهُ عبد الْوَهَّاب فِي " الملخص ".
وَجرى على الْإِطْلَاق ابْن الْقطَّان، وَإِمَام
الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَان "، وَالْغَزالِيّ فِي "
الْمُسْتَصْفى "، وَأَبُو إِسْحَاق فِي " اللمع "، وَابْن
برهَان، وَابْن الْقشيرِي.
(5/2100)
قَوْله: {وَإِن تصورت غفلتهم قبلت} ،
وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ جُمْهُور الْعلمَاء، مِنْهُم
ابْن الصّباغ، وَابْن السَّمْعَانِيّ.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: إِن اسْتَوَى الْعدَد قدم
بِزِيَادَة حفظ وَضبط وثقة، فَإِن اسْتَويَا، فَذكر
شَيخنَا - يَعْنِي بِهِ القَاضِي أَبَا يعلى -
رِوَايَتَيْنِ، ثمَّ ضعف مَأْخَذ رُوَاة عدم الْقبُول.
وَأطلق القَاضِي فِي " الْعدة " أَن زِيَادَة ثِقَة فِي
حَدِيث تقبل، وَأَن أَحْمد نَص على الْأَخْذ بِالزَّائِدِ
فِي مَوَاضِع، وردهَا جمَاعَة من الْمُحدثين، وَعَن أَحْمد
نَحوه.
(5/2101)
وَإِنَّمَا ذكر كَلَام أَحْمد فِي وقائع
إِلَّا رِوَايَة ابْن الْقَاسِم فِي فَوَات الْحَج فِيهِ
زِيَادَة دم.
قَالَ أَحْمد: الزَّائِد أولى أَن يُؤْخَذ بِهِ، قَالَ:
وَهَذَا مَذْهَبنَا فِي الْأَحَادِيث إِذا كَانَت
الزِّيَادَة فِي أَحدهمَا أَخذنَا بِالزِّيَادَةِ.
وَكَذَا أطلقهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ عَن جُمْهُور
الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث.
وَذكره بعض الشَّافِعِيَّة مَذْهَب الشَّافِعِي وللمالكية
وَجْهَان، وَخص بَعضهم رِوَايَة عدم قبُولهَا عَن أَحْمد؛
لمخالفتها ظَاهر الْمَزِيد عَلَيْهِ،
(5/2102)
وَبَعْضهمْ؛ لمُخَالفَته رِوَايَة
الْجُمْهُور، وَفِي " الْوَاضِح " إِنَّهَا إِن خَالَفت
الْمَزِيد عَلَيْهِ ردَّتْ، وَلَيْسَ مَسْأَلَة الْخلاف.
اسْتدلَّ للقبول بِأَنَّهُ عدل جازم فَقبل، وَلَا نسلم
مَانِعا؛ إِذْ الأَصْل عَدمه، وَمن ترك الزِّيَادَة
يحْتَمل أَنه لشاغل أَو سَهْو أَو نِسْيَان.
وقاس أَصْحَابنَا على الشَّهَادَة، لَو شهد ألف أَنه أقرّ
بِأَلف وَاثْنَانِ بِأَلفَيْنِ ثبتَتْ الزِّيَادَة.
قَالَ الْمُخَالف: الظَّاهِر الْغَلَط؛ لِتَفَرُّدِهِ مَعَ
احْتِمَال مَا سبق فِيهِ.
رد: قَوْلنَا أرجح؛ بِدَلِيل انْفِرَاده بِخَبَر،
وبالشهادة، والسهو فِيمَا سَمعه أَكثر مِنْهُ فِيمَا لم
يسمعهُ.
قَوْله: {وَإِن جهل الْمجْلس} ، يَعْنِي هَل فِيهِ من
يتَصَوَّر غفلته، أَو لَا يتَصَوَّر غفلته؟ وَهل هُوَ فِي
مجْلِس أَو مجَالِس؟
(5/2103)
وعَلى كل حَال فَالصَّحِيح الْقبُول،
وَهُوَ ظَاهر " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا، وَقطع بذلك
الْبرمَاوِيّ وَقَالَ: هُوَ كَمَا إِذا تعدد الْمجْلس.
قَالَ ابْن مُفْلِح: هَذَا أولى، فَظَاهر كَلَام القَاضِي
وَغَيره أَنه كاتحاد الْمجْلس، وَقَالَهُ الشَّيْخ تَقِيّ
الدّين، فَيعْطى حكمه.
{وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {كَلَام أَحْمد،
وَغَيره مُخْتَلف فِي الوقائع وَأهل الحَدِيث أعلم} .
قَوْله: {وَإِن خَالَفت الزِّيَادَة للمزيد عَلَيْهِ
تَعَارضا فيرجح.
ذكره القَاضِي وَغَيره} ، وَنَقله الأبياري عَن قوم وَأطلق
(5/2104)
آخَرُونَ من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، وَنقل
الأبياري عَن قوم تَقْدِيم الزِّيَادَة، قَالَ: وَهُوَ
الظَّاهِر عندنَا، إِذْ لم يكن بُد من تطرق الْوَهم إِلَى
أَحدهمَا لِاسْتِحَالَة صدقهما وَامْتنع الْحمل على تعمد
الْكَذِب، لم يبْق إِلَّا الذهول وَالنِّسْيَان
وَالْعَادَة ترشد إِلَى أَن نِسْيَان مَا جرى أقرب من تخيل
مَا لم يجر وَحِينَئِذٍ فالمثبت أولى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": إِن خَالَفت
الْمَزِيد عَلَيْهِ ردَّتْ، وَلَيْسَت مَسْأَلَة الْخلاف
كَمَا تقدم.
قَالَ ابْن الصّلاح: إِن الزِّيَادَة إِذا خَالَفت مَا
رَوَاهُ الثِّقَات فَهِيَ مَرْدُودَة.
{وَعند أبي الْحُسَيْن: إِن غيرت الْمَعْنى لَا
الْإِعْرَاب قبلت وَإِلَّا فَلَا} .
(5/2105)
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شَرحه ": إِذا
غيرت الزِّيَادَة الْإِعْرَاب تَعَارضا كَمَا هُوَ الْحق
عِنْد الإِمَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، وَحَكَاهُ
الْهِنْدِيّ عَن الْأَكْثَر، قَالَ: لِأَن كل وَاحِد
مِنْهُمَا يروي غير مَا رَوَاهُ الآخر فَيكون نافيا لَهُ،
مِثَاله: لَو روى راو فِي كل أَرْبَعِينَ شَاة شَاة، وروى
آخر نصف شَاة فيتعارضان.
وَخَالف أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، لَكِن الَّذِي فِي "
الْمُعْتَمد " عَنهُ قبُول الزِّيَادَة، سَوَاء أثرت فِي
اللَّفْظ أَو لَا، إِذا أثرت فِي الْمَعْنى، وَأَن
القَاضِي عبد الْجَبَّار يقبلهَا إِذا أثرت فِي الْمَعْنى
دون مَا إِذا أثرت فِي إِعْرَاب اللَّفْظ.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن
الْبَصْرِيّ: إِن غيرت الزِّيَادَة إِعْرَاب الْكَلَام
وَمَعْنَاهُ تَعَارضا، مثل أَن يروي أَحدهمَا " صَدَقَة
الْفطر صَاعا من بر " وروى الآخر " نصف صَاع من بر "،
وَإِن غيرت الْمَعْنى دون الْإِعْرَاب، كَقَوْل الآخر:
صَاعا من بر بَين الِاثْنَيْنِ قبلت الزِّيَادَة. انْتهى.
(5/2106)
قَوْله: {وَلَو رَوَاهُ مرّة، وَتركهَا
أُخْرَى فكتعدد الروَاة} ، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَابْن
مُفْلِح، والبرماوي، وَغَيرهم. مَا تقدم فِيمَا إِذا
كَانَت الزِّيَادَة من بعض الروَاة دون بعض، وَمَا ذكر
هُنَا فِيمَا إِذا كَانَ الرَّاوِي للزِّيَادَة هُوَ
السَّاكِت عَنْهَا فِي مرّة أُخْرَى، فَالْحكم فِيهَا
يجْرِي كتعدد الروَاة حَتَّى يفصل فِيهِ بَين اتِّحَاد
سماعهَا من الَّذِي روى عَنهُ وتعدده، وَالْمرَاد مَا أمكن
جَرَيَانه من الشُّرُوط والأقوال لَا مَا لَا يُمكن،
وَهُوَ ظَاهر.
وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ": إِن روى
الزِّيَادَة مرّة، وَلم يروها أُخْرَى فالاعتبار لِكَثْرَة
المرات وَإِن تَسَاوَت قبلت.
وَنقل الباقلاني، وَابْن الْقشيرِي عَن قوم أَنَّهَا ترد
من الرَّاوِي الْوَاحِد، وَلَا ترد من أحد الروايين.
وَقَالَ ابْن الصّباغ فِي الْوَاحِد: إِن صرح بِأَنَّهُ
سمع النَّاقِص فِي مجْلِس
(5/2107)
وَالزَّائِد فِي آخر قبلت، وَإِن عزاهما
لمجلس وَاحِد، وتكررت رِوَايَته بِغَيْر زِيَادَة، ثمَّ
روى الزِّيَادَة، فَإِن قَالَ: كنت نسيت هَذِه الزِّيَادَة
قبل مِنْهُ، وَإِن لم يقل ذَلِك وَجب التَّوَقُّف فِي
الزِّيَادَة.
فَائِدَة: مِثَال زِيَادَة ثِقَة سكت عَنْهَا بَقِيَّة
الثِّقَات حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي
قَوْله: " قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ،
فَإِذا قَالَ العَبْد: الْحَمد لله رب الْعَالمين. يَقُول
الله تَعَالَى: حمدني عَبدِي ... " حَدِيث صَحِيح، ثمَّ
روى عبد الله بن زِيَاد بن سمْعَان عَن الْعَلَاء بن عبد
الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة الْخَبَر وَذكر
فِيهِ: " فَإِذا قَالَ العَبْد: بِسم الله الرَّحْمَن
الرَّحِيم. قَالَ تَعَالَى: ذَكرنِي عَبدِي " تفرد
بِالزِّيَادَةِ عبد الله، وَفِيه مقَال.
(5/2108)
وَحَدِيث ابْن عمر فِي صَدَقَة الْفطر: "
أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- أَن نخرج صَدَقَة الْفطر صَاعا من شعير، أَو صَاعا من
تمر " انْفَرد سعيد بن عبد الرَّحْمَن الجُمَحِي عَن عبيد
الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر بِزِيَادَة " أَو
صَاع من قَمح ".
وَحَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: أَن النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من شرب
(5/2109)
من إِنَاء من ذهب أَو فضَّة فَإِنَّمَا
يجرجر فِي جَوْفه نَار جَهَنَّم "، زَاد فِيهِ يحيى بن
مُحَمَّد الْجَارِي، عَن زَكَرِيَّا بن إِبْرَاهِيم بن عبد
الله بن مُطِيع عَن أَبِيه عَن جده عَن ابْن عمر: " أَو
إِنَاء فِيهِ شَيْء من ذَلِك ".
وَمثل زِيَادَة الرَّاوِي مرّة، وَتركهَا أُخْرَى: حَدِيث
سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن
(5/2110)
طَلْحَة بن يحيى بن طَلْحَة بن عبيد الله
بِسَنَدِهِ إِلَى عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -،
قَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَقلت: إِنَّا خبأنا لَك حَيْسًا، فَقَالَ: "
أما أَنِّي كنت أُرِيد الصَّوْم، وَلَكِن قربيه "، وأسنده
الشَّافِعِي عَن سُفْيَان هَكَذَا.
وَرَوَاهُ عَن سُفْيَان شيخ باهلي، وَزِيَادَة فِيهِ: "
وَأَصُوم يَوْمًا مَكَانَهُ " ثمَّ عرضته عَلَيْهِ قبل
مَوته بِسنة فَذكر هَذِه الزِّيَادَة.
قَوْله: {وَلَو أسْندهُ، وأرسله غَيره، أَو وَصله، وقطعه
غَيره، أَو رَفعه، وَوَقفه غَيره فكالزيادة، ذكره}
القَاضِي {فِي " الْعدة "، وَغَيرهَا} ؛
(5/2111)
لِأَنَّهُ زِيَادَة، وَيَأْتِي أَن
البُخَارِيّ قَالَ فِي الْمُرْسل والمسند: الحكم لمن
وَصله.
وَذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": الأولى
وَالثَّانيَِة وَقطع بِأَنَّهُ يقبل مُطلقًا من غير بِنَاء
على الزِّيَادَة وَقَالَ: لم يمْنَع من قبُوله على
الرِّوَايَتَيْنِ.
{وَعَن أهل الحَدِيث: الحكم لمن أرْسلهُ} ، حَكَاهُ
عَنْهُم الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَوْله: {وَلَو فعله راو وَاحِد قبل مُطلقًا، قطع بِهِ فِي
" التَّمْهِيد " وَغَيره.
وَحكي عَن الشَّافِعِيَّة خلافًا لبَعض الْمُحدثين} . لَو
فعل ذَلِك
(5/2112)
راو وَاحِد بِأَن أسْندهُ تَارَة، وأرسله
أُخْرَى، أَو وَصله تَارَة، وقطعه أُخْرَى، أَو رَفعه
تَارَة وَوَقفه أُخْرَى قبل، قطع بِهِ أَبُو الْخطاب فِي "
التَّمْهِيد "، وَغَيره، قَالَ أَبُو الْخطاب: لِأَن
الرَّاوِي إِذا صَحَّ عِنْده الْخَبَر أفتى بِهِ تَارَة،
وَرَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أُخْرَى.
وَحَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن الشَّافِعِيَّة، قَالَه
ابْن مُفْلِح، وَقطع بِهِ الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه فِيمَا
إِذا كَانَ الرَّاوِي وَاحِدًا. وَخَالف بعض الْمُحدثين
فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَحَكَاهُ فِي " منهاج
الْبَيْضَاوِيّ " قولا فِي الْمَسْأَلَة، وَعلله فَقَالَ:
لِأَن إهماله يدل على الضعْف.
وَحمله ابْن السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمِنْهَاج " على مَا
إِذا كَانَ من شَأْنه إرْسَال الْأَخْبَار وأسنده.
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": اعْلَم أَن
الرَّاوِي إِذا أرسل حَدِيثا مرّة ثمَّ أسْندهُ أُخْرَى
أَو وَقفه على الصَّحَابِيّ ثمَّ رَفعه فَلَا إِشْكَال فِي
(5/2113)
قبُوله، وَبِه جزم الإِمَام وَأَتْبَاعه.
وَأما إِذا كَانَ الرَّاوِي من شَأْنه إرْسَال
الْأَحَادِيث إِذا رَوَاهَا فاتفق أَنه روى حَدِيثا
مُسْندًا فَفِي قبُوله مذهبان فِي " الْمَحْصُول "
وَالْحَاصِل من غير تَرْجِيح، وَهَذِه هِيَ مَسْأَلَة
الْكتاب فَافْهَم ذَلِك، أرجحهما عِنْد المُصَنّف قبُوله
لوُجُود شَرطه وَعلله.
وَالْمذهب الثَّانِي: لَا يقبل؛ لِأَن إهماله لاسم الروَاة
يدل على علمه بضعفهم؛ إِذْ لَو علم عدالتهم لصرح بهم،
وَلَا شكّ أَن تَركه للراوي مَعَ علمه خِيَانَة وغش،
فَإِنَّهُ إِيقَاع فِي الْعَمَل بِمَا لَيْسَ بِصَحِيح،
وَإِذا كَانَ خائنا لم تقبل رِوَايَته مُطلقًا، هَذَا
حَاصِل مَا قَالَه الإِمَام.
وَالْجَوَاب: أَن ترك الرَّاوِي قد يكون لنسيان اسْمه
أَولا لإيثار الِاخْتِصَار. انْتهى كَلَام الْإِسْنَوِيّ.
فَائِدَة: مِثَال مَا إِذا أسْند، وَأرْسل غَيره: إِسْنَاد
إِسْرَائِيل بن يُونُس
(5/2114)
عَن جده أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن أبي
بردة عَن أَبِيه عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -، حَدِيث: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن
أبي بردة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ -، فَقضى البُخَارِيّ لمن وَصله، وَقَالَ زِيَادَة
الثِّقَة مَقْبُولَة.
وَمِثَال من رفع ووقف غَيره حَدِيث مَالك فِي الْمُوَطَّأ
" عَن أبي النَّضر عَن بسر بن سعيد عَن زيد بن ثَابت
مَوْقُوفا عَلَيْهِ: " أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته
إِلَّا الْمَكْتُوبَة ".
(5/2115)
وَخَالفهُ مُوسَى بن عقبَة وَعبد الله بن
سعيد بن أبي هِنْد وَغَيرهمَا فَرَوَوْه عَن أبي النَّضر
مَرْفُوعا، وَمثل ذَلِك كثير.
(5/2116)
(قَوْله: {فصل} )
يسن نقل الحَدِيث بِكَمَالِهِ} بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء،
{فَإِن ترك بعضه وَلم يتَعَلَّق بِالْبَاقِي جَازَ} عِنْد
أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم الإِمَام أَحْمد، وَالْإِمَام
مَالك، وَالْإِمَام الشَّافِعِي وَغَيرهم، كأخبار
مُتعَدِّدَة.
وَقيل: لَا يجوز.
وَقيل: إِن نقل بِتَمَامِهِ مرّة جَازَ، وَإِلَّا فَلَا.
وَقيل: إِن كَانَ الحَدِيث مَشْهُورا بِتَمَامِهِ جَازَ،
وَإِلَّا فَلَا.
(5/2117)
قَوْله: {وَإِلَّا لم يجز} ، يَعْنِي إِذا
تعلق الْبَاقِي بِمَا تَركه لم يجز {إِجْمَاعًا} ؛
لبُطْلَان الْمَقْصُود مِنْهُ نَحْو الْغَايَة
وَالِاسْتِثْنَاء وَنَحْوهمَا.
كنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع
الثَّمَرَة حَتَّى تزهي، فَيتْرك: حَتَّى تزهي.
وَكَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْفضة
بِالْفِضَّةِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء " فَيتْرك إِلَّا
سَوَاء بِسَوَاء.
وَكَذَلِكَ الصّفة، نَحْو: " فِي الْغنم السَّائِمَة
الزَّكَاة ".
أَو كَانَ فِيهِ تَغْيِير معنوي، كَمَا فِي النّسخ، نَحْو:
" كنت نَهَيْتُكُمْ عَن
(5/2118)
زِيَارَة الْقُبُور فزوروها "، أَو بَيَان
للمجمل فِيهِ، أَو تَخْصِيص للعام، أَو تَقْيِيد للمطلق،
وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يجوز تَركه إِجْمَاعًا.
قَوْله: {يجب الْعَمَل بِحمْل الصَّحَابِيّ وَعنهُ أَو
التَّابِعِيّ زَاد جمَاعَة أَو بعض الْأَئِمَّة، مَا
رَوَاهُ على أحد محمليه المتنافيين عندنَا وَعند
الْأَكْثَر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: عندنَا، وَعند عَامَّة الْفُقَهَاء.
هَذِه الْمَسْأَلَة تعرف بِمَا إِذا قَالَ رَاوِي الحَدِيث
فِيهِ شَيْئا، هَل يقبل أَو يعْمل بِالْحَدِيثِ؟
(5/2119)
وَلها أَحْوَال، مِنْهَا: أَن يكون
الْخَبَر عَاما فيحمله الرَّاوِي على بعض أَفْرَاده -
وَيَأْتِي ذَلِك فِي تَخْصِيص الْعَام - أَو يَدعِي تقييدا
فِي مُطلق، فكالعام يخصصه، أَو يَدعِي نسخه - وَيَأْتِي
فِي النّسخ - أَو يُخَالِفهُ بترك نَص الحَدِيث،
كَرِوَايَة أبي هُرَيْرَة فِي الولوغ سبعا، وَقَوله: "
يغسل ثَلَاثًا ".
وَبَعْضهمْ يمثل بذلك لتخصيص الْعَام، وَلَا يَصح؛ لِأَن
الْعدَد نَص فِيهِ، وَهَذِه تَأتي فِي كَلَام الْمَتْن
قَرِيبا.
وَمِنْهَا: مَسْأَلَة الْكتاب، وَهُوَ أَن يروي
الصَّحَابِيّ خَبرا مُحْتملا لمعنيين، ويحمله على
أَحدهمَا، فَإِن تنافيا كالقرء، يحملهُ الرَّاوِي على
الْأَطْهَار - مثلا - وَجب الرُّجُوع إِلَى حمله عملا
بِالظَّاهِرِ، كَمَا قَالَ أَصْحَابنَا، وَجُمْهُور
الشَّافِعِيَّة، كالأستاذين أبي إِسْحَاق، وَأبي مَنْصُور،
وَابْن فورك، والكيا، وسليم، وَنَقله أَبُو الطّيب عَن
مَذْهَب
(5/2120)
الشَّافِعِي؛ وَلِهَذَا رَجَعَ إِلَى
تَفْسِير ابْن عمر فِي التَّفَرُّق فِي خِيَار الْمجْلس
بالأبدان، وَإِلَى تَفْسِيره حَبل الحبلة بِبيعِهِ إِلَى
نتاج النِّتَاج، وَإِلَى قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -
فِي هَاء وهاء أَنه التَّقَابُض فِي مجْلِس العقد.
{وَخَالف أبي بكر الرَّازِيّ} من الْحَنَفِيَّة، حكى
السَّرخسِيّ عَن أبي بكر الرَّازِيّ أَنه لَا يعْمل بِحمْل
الصَّحَابِيّ كتفسير ابْن عمر تَفْرِيق الْمُتَبَايعين
بالأبدان.
(5/2121)
{وَقيل: لَا يجب} الْحمل، {فيجتهد فَإِن لم
يظْهر شَيْء وَجب} .
قَالَ الْآمِدِيّ: لَا يبعد أَن لَا يجب الْعَمَل
بِحمْلِهِ، فَيعْمل بِالِاجْتِهَادِ، فَإِن لم يظْهر شَيْء
وَجب الْعَمَل بِحمْلِهِ، وللمالكية خلاف.
{قَالَ بعض أَصْحَابنَا: الْمَسْأَلَة فرع على أَن قَوْله
لَيْسَ بِحجَّة} .
تَنْبِيه:
قَوْله: {وَعنهُ والتابعي} ، قَالَ ابْن مُفْلِح فِي "
أُصُوله ": وَفِي وجوب الرُّجُوع إِلَى التَّابِعِيّ
رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد ذكرهمَا أَبُو الْخطاب وَغَيره،
وَتَأَول القَاضِي رِوَايَة الْوُجُوب.
(5/2122)
وَاخْتَارَ ابْن عقيل لَا يجب.
والاقتصار فِي المسالة على الصَّحَابِيّ هِيَ طَريقَة
الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب، ورجحها الْقَرَافِيّ، لَكِن
إِمَام الْحَرَمَيْنِ، والرازي، وَغَيرهمَا فرضوها فِي
الرَّاوِي، سَوَاء كَانَ صحابيا أَو غَيره.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ورجحها كثير، لَكِن بِشَرْط أَن يكون
الرَّاوِي من الْأَئِمَّة.
قَوْله: {وَغير الْمنَافِي كمشترك فِي الْحمل} .
اعْلَم أَنه إِذا لم يكن بَين الْمَعْنيين تناف فَإِن
قُلْنَا: اللَّفْظ الْمُشْتَرك ظَاهر فِي
(5/2123)
جَمِيع محامله، كالعام فتعود الْمَسْأَلَة
إِلَى التَّخْصِيص بقول الصَّحَابِيّ، وَإِن قُلْنَا: لَا
يحمل على جَمِيعهَا، فَفِي " البديع ": يحمل فِيهِ على مَا
حمله رَاوِيه وعينه؛ لِأَن الظَّاهِر أَنه لم يحملهُ
عَلَيْهِ إِلَّا بِقَرِينَة، قَالَ: وَلَا يبعد أَن
يُقَال: لَا يكون تَأْوِيله حجَّة على غَيره، فَإِن لَاحَ
لمجتهد تَأْوِيل غَيره بِدَلِيل حمله عَلَيْهِ، وَإِلَّا
فتعيين الرَّاوِي صَالح للترجيح إِذا علم ذَلِك فمحله إِذا
لم يجتمعوا على أَن المُرَاد أَحدهمَا، وجوزوا كلا
مِنْهُمَا، كَمَا فِي حَدِيث ابْن عمر فِي التَّفَرُّق فِي
خِيَار الْمجْلس، هَل هُوَ التَّفَرُّق بالأبدان، أَو
بالأقوال، فقد أَجمعُوا أَن المُرَاد أَحدهمَا فَكَانَ مَا
صَار إِلَيْهِ الرَّاوِي أولى.
قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: أحملهُ عَلَيْهِمَا مَعًا فأجعل
لَهما الْخِيَار فِي الْحَالين بالْخبر.
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هَذَا صَحِيح، لَوْلَا أَن
الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن المُرَاد أَحدهمَا.
(5/2124)
وَاعْلَم أَن الْخلاف كَمَا قَالَ
الْهِنْدِيّ فِيمَا إِذا ذكر ذَلِك لَا بطرِيق التَّفْسِير
للفظه، وَإِلَّا فتفسيره أولى بِلَا خلاف.
قَوْله: {وَإِن حمله على غير ظَاهره عمل بِالظَّاهِرِ على
الْأَصَح} .
إِنَّمَا قبلنَا قَول الصَّحَابِيّ فِيمَا مضى إِذا
اسْتَوَى المعنيان، أَو حمله على الرَّاجِح، أما إِذا حمله
الصَّحَابِيّ بتفسيره أَو عمله على غير ظَاهره بل حمله على
الْمَرْجُوح كَمَا إِذا حمل مَا ظَاهره الْوُجُوب على
النّدب أَو بِالْعَكْسِ، أَو مَا هُوَ حَقِيقَة على
الْمجَاز، وَنَحْو ذَلِك فَيعْمل بِالظَّاهِرِ فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَاخْتَارَهُ القَاضِي
وَغَيره {- وَلَو قُلْنَا: قَوْله حجَّة -} ، وَقَالَهُ
أَيْضا أَكثر الْفُقَهَاء مِنْهُم: الشَّافِعِي وَأكْثر
الْحَنَفِيَّة؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي: كَيفَ أترك
الْخَبَر لأقوال أَقوام لَو عاصرتهم لحججتهم.
(5/2125)
{وَعَن أَحْمد: يعْمل بقوله} وَيتْرك
الظَّاهِر، وَقَالَهُ بعض الْحَنَفِيَّة، وَحَكَاهُ
الْبرمَاوِيّ عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة؛ لِأَنَّهُ لَا يفعل
ذَلِك إِلَّا عَن تَوْقِيف.
وللمالكية خلاف، وَاخْتَارَ ابْن عقيل، والآمدي، وَأَبُو
الْحُسَيْن.
وَعبد الْجَبَّار يعْمل بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَن يعلم
مأخذه، وَيكون صَالحا، وَهَذَا أظهر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَعَلَّه مُرَاد من أطلق، وَمَا هُوَ
بِبَعِيد.
وَلَكِن غاير الْبرمَاوِيّ بَين قَول أبي الْحُسَيْن
وَقَول الْآمِدِيّ، وَلم يغاير بَينهمَا ابْن مُفْلِح.
(5/2126)
وَإِن كَانَ الظَّاهِر عُمُوما، فَيَأْتِي
فِي التَّخْصِيص.
قَوْله: {وَإِن كَانَ نصا لَا يحْتَمل وَخَالفهُ،
فَالْأَصَحّ عندنَا لَا يرد بِهِ الْخَبَر وَلَا ينْسَخ،
وقالته الشَّافِعِيَّة} لاحْتِمَال نسيانه، ثمَّ لَو عرف
ناسخه لذكره وَرَوَاهُ وَلَو مرّة؛ لِئَلَّا يكون كَاتِما
للْعلم، كَرِوَايَة أبي هُرَيْرَة فِي غسل الولوغ سبعا،
وَقَوله: يغسل ثَلَاثًا كَمَا تقدم.
{عَن أَحْمد} رِوَايَة {وقالته الْحَنَفِيَّة: لَا يعْمل
بالْخبر} .
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يتَعَيَّن ظُهُور نَاسخ عِنْده، وَقد
لَا يكون نَاسِخا عِنْد غَيره فَلَا يتْرك النَّص
بِاحْتِمَال.
وَخَالفهُ ابْن الْحَاجِب وَقَالَ: فِي الْعَمَل
بِالنَّصِّ نظر.
(5/2127)
وَحكي عَن ابْن أبان أَنه إِن كَانَ من
الْأَئِمَّة فَيدل على نسخ الْخَبَر.
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي: إِن
تحققنا نسيانه للْخَبَر أَو فَرضنَا مُخَالفَته لخَبر لم
يروه، وجوزنا أَنه لم يبلغهُ فَالْعَمَل بالْخبر، أَو روى
خَبرا يَقْتَضِي رفع الْحَرج فِيمَا سبق فِيهِ حظر، ثمَّ
رَأَيْنَاهُ يتحرج فَالْعَمَل بالْخبر أَيْضا، وَيحمل
تحرجه على الْوَرع.
قَوْله: {وَإِن عمل أَكثر الْأمة بِخِلَاف الْخَبَر عمل
بالْخبر، وَحكي إِجْمَاعًا} حَكَاهُ ابْن مُفْلِح وَغَيره.
(5/2128)
{وَاسْتثنى ابْن الْحَاجِب إِجْمَاع أهل
الْمَدِينَة} ، فَقَالَ: فَالْعَمَل بالْخبر إِلَّا
إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة، وَذَلِكَ على قَاعِدَة
الْمَالِكِيَّة على - مَا سبق - فِي الْإِجْمَاع، وَسبق
أَنه لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الجماهير، بل مُقْتَضى كَلَامه
هُنَا تَقْيِيد إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة بكونهم أَكثر
الْأمة وَلَا قَائِل بِهِ، بل إِمَّا لحجيتهم وَإِن
كَانُوا أقل الْأمة، أَو لَا حجَّة فِي قَوْلهم مُطلقًا
إِلَّا أَن تَأَول عِبَارَته بِأَن الِاسْتِثْنَاء
مُنْقَطع.
قَوْله: {نَص أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما، والكرخي،
وَالْأَكْثَر: خبر الْوَاحِد الْمُخَالف للْقِيَاس من كل
وَجه مقدم عَلَيْهِ} .
وَاسْتدلَّ لَهُ بقول عمر: لَوْلَا هَذَا لقضينا فِيهِ
برأينا، ورجوعه إِلَى تَوْرِيث الْمَرْأَة من دِيَة
زَوجهَا، وَعمل جمَاعَة من الصَّحَابَة.
(5/2129)
قَالَ الإِمَام أَحْمد: أَكْثَرهم ينْهَى
عَن الْوضُوء بِفضل وضوء الْمَرْأَة، والقرعة فِي عتق
جمَاعَة فِي مرض مَوته، وَغير ذَلِك وشاع وَلم يُنكر.
{وَقدم الْمَالِكِيَّة الْقيَاس، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة
إِن خَالف الْأُصُول، أَو معنى الْأُصُول لَا قِيَاس
الْأُصُول
(5/2130)
وأجازوا الْوضُوء بالنبيذ سفرا وأبطلوه
بالقهقهة دَاخل الصَّلَاة} .
قَالَت الْمَالِكِيَّة لما قدمت الْقيَاس؛ لاحْتِمَال كذب
الرَّاوِي وفسقه وكفره وخطئه والإجمال فِي الدّلَالَة،
والتجوز والإضمار والنسخ مِمَّا لَا يحْتَملهُ الْقيَاس.
(5/2131)
رد ذَلِك بِأَنَّهُ بعيد وبتطرقه إِلَى أصل
ثَبت بِخَبَر الْوَاحِد، وبتقديم ظَاهر الْكتاب وَالسّنة
المتواترة مَعَ التطرق فِي الدّلَالَة.
قَالُوا: ظَنّه فِي الْخَبَر من جِهَة غَيره، وَفِي
الْقيَاس من جِهَة نَفسه، وَهُوَ بهَا أوثق.
رد بِأَن الْخَطَأ إِلَيْهِ أقرب من الْخَبَر، وَالْخَبَر
مُسْتَند إِلَى الْمَعْصُوم، وَيصير ضَرُورِيًّا بِضَم
أَخْبَار إِلَيْهِ، وَلَا يفْتَقر إِلَى قِيَاس.
وَلَا إِجْمَاع فِي لبن الْمُصراة، وَهُوَ أصل بِنَفسِهِ،
أَو مُسْتَثْنى للْمصْلحَة، وَقطع النزاع لاختلاطه.
(5/2132)
وَاعْترض بِمثل قَول ابْن عَبَّاس لأبي
هُرَيْرَة وَقد روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " توضؤوا مِمَّا مست النَّار "
فَقَالَ: أَنَتَوَضَّأُ من الْحَمِيم؟ - أَي: المَاء
الْحَار - فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: يَا ابْن أخي إِذا
سَمِعت حَدِيثا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَلَا تضرب لَهُ مثلا. رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة.
ورد بِأَن ذَلِك استبعاد لمُخَالفَة الظَّاهِر، وَفِي "
الصَّحِيحَيْنِ " عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا
- أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أكل من كتف شَاة وَصلى وَلم يتَوَضَّأ.
وَأَيْضًا خبر معَاذ سبق فِي أَن الْإِجْمَاع حجَّة؛
وَلِأَن الْخَبَر أقوى فِي غَلَبَة الظَّن؛ لِأَنَّهُ
يجْتَهد فِيهِ فِي الْعَدَالَة وَالدّلَالَة، ويجتهد فِي
الْقيَاس فِي
(5/2133)
ثُبُوت حكم الأَصْل وَكَونه مُعَللا،
وصلاحية الْوَصْف للتَّعْلِيل ووجوده فِي الْفُرُوع وَنفي
الْمعَارض فِي الأَصْل وَالْفرع.
وَلما تَعَارَضَت الْأَدِلَّة عِنْد ابْن الباقلاني توقف
فِي الْمَسْأَلَة.
{وَعند أبي الْحُسَيْن إِن كَانَت الْعلَّة بِنَصّ
قَطْعِيّ فَالْقِيَاس} كالنص على حكمهَا، {وَإِن كَانَ
الأَصْل مَقْطُوعًا بِهِ فَقَط فالاجتهاد وَالتَّرْجِيح.
وَعند صَاحب " الْمَحْصُول " يقدم الْخَبَر مَا لم توجب
الضَّرُورَة تَركه} ، كَخَبَر الْمُصراة لمعارضة
الْإِجْمَاع فِي ضَمَان الْمثل أَو الْقيمَة.
{وَعند الْآمِدِيّ وَمن وَافقه} كَابْن الْحَاجِب وَغَيره:
{إِن ثبتَتْ الْعلَّة بِنَصّ رَاجِح على الْخَبَر وَهِي
قطيعة فِي الْفَرْع فَالْقِيَاس، أَو ظنية فالوقف،
وَإِلَّا فَالْخَبَر} ، وَمعنى كَلَام جمَاعَة من
أَصْحَابنَا يَقْتَضِيهِ، قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ
مُتَّجه.
(5/2134)
وَأما إِذا كَانَ أَحدهمَا أَعم خص
بِالْآخرِ على خلاف يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى،
وَهُوَ قَوْلنَا: ويخص أعمهما بِالْآخرِ.
(5/2135)
(قَوْله: {فصل} )
{الْمُرْسل قَول غير الصَّحَابِيّ فِي سَائِر الْأَعْصَار:
" قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
"، عِنْد أَصْحَابنَا، والكرخي، والجرجاني، وَبَعض
الشَّافِعِيَّة، والمحدثين، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد:}
رُبمَا كَانَ الْمُنْقَطع أقوى إِسْنَادًا.
وَقَالَهُ ابْن الْحَاجِب وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ، بل
ينْسب هَذَا القَوْل إِلَى الْأُصُولِيِّينَ.
{وَخَصه أَكثر الْمُحدثين} وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ
{بالتابعي} ،
(5/2136)
سَوَاء كَانَ من كبارهم وَهُوَ من لَقِي
جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة، كعبيد الله بن عدي بن
الْخِيَار حَتَّى قَالَ ابْن عبد الْبر، وَابْن حبَان،
وَابْن مَنْدَه: إِنَّه صَحَابِيّ لكَونه ولد فِي حَيَاته
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَذْهَبهم.
وكسعيد بن الْمسيب، وعلقمة بن قيس النَّخعِيّ - ولد فِي
حَيَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وكأبي مُسلم الْخَولَانِيّ - حَكِيم هَذِه الْأمة -،
ومسروق، وَكَعب الْأَحْبَار، وأشباههم.
أَو من صغارهم وَهُوَ من لم يلق من الصَّحَابَة إِلَّا
الْقَلِيل، كيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَأبي حَازِم،
وَابْن شهَاب لَقِي عشرَة من الصَّحَابَة.
(5/2137)
وَقيل: مَا كَانَ من صغَار التَّابِعين لَا
يُسمى مُرْسلا، بل مُنْقَطِعًا لِكَثْرَة الوسائط لغَلَبَة
روايتهم عَن التَّابِعين.
وَقيل: يُسمى مُرْسلا إِذا سقط من الْإِسْنَاد وَاحِد أَو
أَكثر، سَوَاء الصَّحَابِيّ وَغَيره فيتحد مَعَ الْمُسَمّى
بالمنقطع بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ.
قَالَ ابْن الصّلاح: فَفِي الْفِقْه وأصوله أَن كل ذَلِك
يُسمى مُرْسلا، قَالَ: وَإِلَيْهِ ذهب من أهل الحَدِيث
أَبُو بكر الْخَطِيب، وَقطع بِهِ.
إِلَّا أَن أَكثر مَا يُوصف بِالْإِرْسَال من حَيْثُ
الِاسْتِعْمَال مَا رَوَاهُ التَّابِعِيّ عَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا رَوَاهُ
تَابع التَّابِعِيّ فيسمونه معضلا، فَسمى
(5/2138)
الْبرمَاوِيّ هَذَا القَوْل مُرْسلا غير
الْمُرْسل الَّذِي ذكره ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح،
وَغَيرهم فَجعله نوعا بِرَأْسِهِ، وَكَأَنَّهُ يَجعله أَعم
من قَوْلنَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا.
يَعْنِي سَوَاء قَالَ فِيهِ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو لَا، وَفِيه نظر.
قَوْله: {فَلَو قَالَه تَابع التَّابِعِيّ، أَو سقط بَين
الروايين أَكثر من وَاحِد فمعضل} .
هَذَا تَفْرِيع على قَول أَكثر الْمُحدثين إِن الْمُرْسل
لَا يكون إِلَّا من التَّابِعين، فَلَو قَالَ تَابع
التَّابِعِيّ أَو سقط أَكثر من وَاحِد سمي معضلا فِي
اصطلاحهم.
(5/2139)
وَقَالَ قوم - كَمَا تقدم من حِكَايَة ابْن
عبد الْبر -: إِن قَالَه تَابِعِيّ صَغِير يكون
مُنْقَطِعًا.
قَوْله: {ثمَّ هُوَ حجَّة عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه،
وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية} والمعتزلة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هُوَ قَول أبي حنيفَة، وَمَالك،
وَأشهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد.
وَحَكَاهُ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " عَن الْجُمْهُور
- أَي: جُمْهُور
(5/2140)
الْأُصُولِيِّينَ -، وَاخْتَارَهُ
الْآمِدِيّ وَغَيره.
وَذكر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ أَن التَّابِعين
أَجمعُوا بأسرهم على قبُول الْمَرَاسِيل، وَلم يَأْتِ عَن
أحد إِنْكَاره إِلَى رَأس الْمِائَتَيْنِ.
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ: إِنْكَار كَونه
حجَّة بِدعَة حدثت بعد الْمِائَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ لقبولهم
مَرَاسِيل الْأَئِمَّة من غير نَكِير.
وَبِأَن الظَّاهِر مِنْهُم لَا يطلقون إِلَّا بعد ثُبُوته،
لإلزام الله تَعَالَى بِحكمِهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوع لما سبق
من التَّفْرِقَة.
وَعَن أَحْمد لَيْسَ بِحجَّة.
(5/2141)
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ قَول أهل
الحَدِيث.
قَالَ ابْن الصّلاح: هُوَ الْمَذْهَب الَّذِي اسْتَقر
عَلَيْهِ رَأْي أهل الحَدِيث ونقاد الْأَثر، كَمَا قَالَه
الْخَطِيب فِي " الْكِفَايَة ".
وَبِه قَالَ أَبُو بكر ابْن الباقلاني من
الْأُصُولِيِّينَ، {وَحَكَاهُ مُسلم عَن أهل الْعلم
بالأخبار} .
وَهَذَا، وَإِن قَالَه مُسلم على لِسَان غَيره لكنه أقره،
وَاحْتَجُّوا بِأَن فِيهِ جهلا بِعَين الرَّاوِي، وَصفته.
{وَقَالَ السَّرخسِيّ: هُوَ حجَّة فِي الْقُرُون
الثَّلَاثَة} ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أثنى
عَلَيْهِم، وَقَالَ عِيسَى بن أبان و {من أَئِمَّة
النَّقْل} ، فَقَالَ: إِن كَانَ
(5/2142)
[من] مَرَاسِيل الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ، وتابعي التَّابِعين وَمن كَانَ من
أَئِمَّة النَّقْل قبل، وَإِلَّا فَلَا.
{وَقَالَ الشَّافِعِي} وَأَتْبَاعه: إِن كَانَ من كبار
التَّابِعين وَلم يُرْسل إِلَّا عَن عدل، {وأسنده غَيره،
أَو أرْسلهُ، وشيوخهما مُخْتَلفَة أَو عضده عمل صَحَابِيّ
أَو الْأَكْثَر} ، أَو قِيَاس أَو انتشار أَو عمل الْعَصْر
قبل، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَت الشَّافِعِيَّة: إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يتقوى
بِهِ يكون حجَّة.
فَمن ذَلِك إِذا كَانَ الْمُرْسل لَهُ مِمَّن عرف أَنه لَا
يروي إِلَّا عَن عدل، وَقد اعْتبرت فَوجدت مسانيد، كسعيد
بن الْمسيب.
وَمن ذَلِك إِذا كَانَ تابعيا كَبِيرا، فَإِن الْغَالِب
فِي مثله أَنه لَا يروي إِلَّا عَن الصَّحَابَة، وهم
عدُول، وَقد نَص عَلَيْهِمَا الشَّافِعِي، وَقَالَ
(5/2143)
الشَّافِعِي فِي بَاب الْحجَّة على تثبيت
خبر الْوَاحِد مَا حَاصله من المقويات لقبُول الْمُرْسل
أُمُور:
أَحدهَا: أَن يَأْتِي بِمَعْنَاهُ مُسْندًا من طَرِيق آخر،
وَهُوَ أقوى الْأُمُور، وَمن شَرط الْمسند أَن يكون
صَحِيحا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي خلافًا لما
زَعمه الرَّازِيّ أَن مُرَاد الشَّافِعِي الْمسند
الضَّعِيف.
وَالثَّانِي: أَن يُوَافقهُ مُرْسل أَخذ من أرْسلهُ الْعلم
من غير مَأْخَذ مِنْهُ مُرْسل الأول.
وَالثَّالِث: أَن يُوَافقهُ قَول بعض الصَّحَابَة.
وَالرَّابِع: أَن يُوَافقهُ قَول أَكثر الْعلمَاء، وَزَاد
الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره عَن الشَّافِعِي: أَن يُوَافقهُ
قِيَاس، أَو انتشار من غير دَافع، أَو عمل أهل الْعَصْر
أَو فعل صَحَابِيّ، لَكِن قَوْله أَو فعل صَحَابِيّ تقدم
نَظِيره فِي الثَّالِث بقوله الثَّالِث أَن يُوَافقهُ قَول
بعض الصَّحَابَة، لَكِن هَذَا فعل، وَذَلِكَ قَول فيجمعهما
قَوْلنَا: أَو عضده عمل صَحَابِيّ فَإِن الْعَمَل يَشْمَل
القَوْل وَالْفِعْل، وَقد نَص الشَّافِعِي عَلَيْهِمَا.
(5/2144)
وَزَاد الْمَاوَرْدِيّ: تاسعا، وَهُوَ أَن
لَا يُوجد دَلِيل سواهُ؟
وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الشَّافِعِي.
ورد بِأَنَّهُ لَا يعرف هَذَا عَن الشَّافِعِي.
وأوله بَعضهم أَنه أُرِيد بفقد الدَّلِيل، فقد دَلِيل
يُخَالِفهُ فَرجع إِلَى أَنه حجَّة ضَعِيفَة لَا تقاوم
شَيْئا من الْأَدِلَّة إِلَّا الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة
لفقد غَيرهَا فَإِنَّهَا أَضْعَف مِنْهُ.
وَزَاد بَعضهم عاشرا كَمَا هُوَ ظَاهر عبارَة "
الْمَحْصُول ": أَن يكون مِمَّن سبر مرسله فَوجدَ مُسْندًا
كَابْن الْمسيب لكنه تَفْرِيع على أَن مُرْسل ابْن الْمسيب
وَنَحْوه يحْتَج بِهِ بِمُجَرَّدِهِ من غير انضمام عاضد،
لَكِن الرَّاجِح خِلَافه، وَبِتَقْدِير التَّسْلِيم فَهُوَ
فِي الْحَقِيقَة مُسْند، فَيحصل لهَذَا الْمُرْسل
(5/2145)
بِهَذِهِ المقويات الْجَبْر بِمَا انْضَمَّ
إِلَيْهِ ويزيل ضعفه بِمَا يزل التُّهْمَة فِيهِ عَن
الرَّاوِي الْمَحْذُوف فالحجة بِمَجْمُوع الْأَمريْنِ.
والمسند إِذا انْضَمَّ إِلَى الْمُرْسل كَأَنَّهُ بَين أَن
السَّاقِط فِي الْمُرْسل عدل مُحْتَج بِهِ فَوَجَبَ أَن
يكون دَلِيلا، وَلَا امْتنَاع أَن يكون للْحكم دليلان،
وَتظهر فَائِدَته فِي التَّرْجِيح عِنْد التَّعَارُض.
وَأما انضمام إِجْمَاع أَو قِيَاس فَكَذَلِك فِيهِ على
صِحَة سَنَد الْمُرْسل فيكونان دَلِيلين، وَالله أعلم.
وَذكر الْآمِدِيّ أَنه وَافق الشَّافِعِي على ذَلِك أَكثر
أَصْحَابه.
وَقَالَ القَاضِي عَلَاء الدّين ابْن اللحام البعلي فِي "
أُصُوله ": اعْتبر الشَّافِعِي لقبوله فِي الرَّاوِي أَن
لَا يعرف لَهُ رِوَايَة إِلَّا عَن مَقْبُول، وَأَن لَا
يُخَالف الثِّقَات إِذا أسْند الحَدِيث فِيمَا أسندوه
وَأَن يكون من كبار التَّابِعين.
وَفِي الْمَتْن أَن يسند الْحفاظ المأمونون عَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وَجه آخر، معنى
ذَلِك الْمُرْسل، أَو يُرْسِلهُ غَيره وشيوخهما
مُخْتَلفَة، أَو يعضده قَول صَحَابِيّ أَو قَول عَامَّة
الْعلمَاء.
وَكَلَام الإِمَام أَحْمد فِي الْمُرْسل قريب من كَلَام
الشَّافِعِي.
(5/2146)
{وَاخْتَارَ الطوفي} من أَصْحَابنَا
{بِنَاء الْمَسْأَلَة على} الْخلاف فِي {قبُول
الْمَجْهُول} ، قَالَ: إِذا السَّاقِط من السَّنَد
مَجْهُول.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، {و} قَالَ {بعض
أَصْحَابنَا:} هُوَ مَبْنِيّ {على رِوَايَة الْعدْل عَن
غير، وَهَذَا أظهر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَنه مَذْهَب أَحْمد،
فَإِنَّهُ فرق بَين مُرْسل من يعرف أَنه لَا يروي إِلَّا
عَن ثِقَة، وَبَين غَيره، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مرسلات سعيد
بن الْمسيب: أَصَحهَا، ومرسلات إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ:
لَا بَأْس بهَا، وأضعفها مرسلات الْحسن وَعَطَاء كَانَا
يأخذان عَن كل، ومرسلات ابْن سِيرِين صِحَاح، ومرسلات
عَمْرو بن دِينَار أحب إِلَيّ من مرسلات إِسْمَاعِيل بن
أبي خَالِد إِسْمَاعِيل لَا يُبَالِي عَمَّن حدث، وَعَمْرو
لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة، وَلَا يُعجبنِي مُرْسل يحيى بن
أبي كثير؛ لِأَنَّهُ روى عَن ضِعَاف، وَقيل لَهُ: لم كرهت
مرسلات الْأَعْمَش؟ قَالَ: لَا يُبَالِي عَمَّن حدث، وَقيل
لَهُ: عَن مرسلات سُفْيَان؟ قَالَ: لَا يُبَالِي عَمَّن
روى.
(5/2147)
وَنقل مهنا أَن مُرْسل الْحسن صَحِيح.
وَقَالَهُ ابْن الْمَدِينِيّ: وَمثل ذَلِك كثير فِي كَلَام
الْأَئِمَّة، وَقد قَالَ يحيى الْقطَّان: مرسلات ابْن
عُيَيْنَة تشبه الرّيح ثمَّ قَالَ: - أَي: وَالله
وسُفْيَان بن سعيد.
قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: قلت مرسلات مَالك؟ قَالَ: هِيَ
أحب إِلَيّ.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَيْسَ هَذَا مَذْهَب أَحْمد؛
فَإِنَّهُ لَا يحْتَج بمراسيل وقته، لَكِن هَذَا إِذا
قَالَه مُحدث عَارِف، أَو احْتج بِهِ فَنعم، كتعليق
البُخَارِيّ المجزوم بِهِ.
قَالَت: بحث القَاضِي يدل على أَنه أَرَادَ بالمرسل فِي
عصرنا مَا أرْسلهُ عَن وَاحِد، وَهَذَا قريب. وَقَالَ فِي
" التَّمْهِيد " أَيْضا: يقبل الْمُرْسل إِن أرسل فِي وَقت
لم تكن الْأَحَادِيث مضبوطة وَإِلَّا فَلَا.
قَوْله: {فَائِدَة: قَالَ ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ...
(5/2148)
القَاضِي وَكثير من الْفُقَهَاء، وَغَيرهم
لَو انْقَطع فِي الْإِسْنَاد وَاحِد كَرِوَايَة تَابِعِيّ
التَّابِعِيّ عَن صَحَابِيّ فَهُوَ مُرْسل، وَالْأَشْهر
عِنْد الْمُحدثين أَنه مُنْقَطع} .
قَوْله: {وَمن روى عَمَّن لم يلقه وَوَقفه عَلَيْهِ فمرسل،
أَو مُنْقَطع، وَيُسمى مَوْقُوفا} .
الْمُنْقَطع سُقُوط راو فَأكْثر مِمَّن هُوَ دون
الصَّحَابِيّ، والمنقطع إِمَّا فِي الحَدِيث أَو
الْإِسْنَاد على مَا يُؤْخَذ فِي كَلَامهم من الإطلاقين؛
إِذْ مرّة يَقُولُونَ فِي الحَدِيث مُنْقَطع، وَمرَّة فِي
الْإِسْنَاد مُنْقَطع.
(5/2149)
فالمنقطع بِهَذَا الِاعْتِبَار أخص من
مُطلق الْمُنْقَطع الْمُقَابل للمتصل الَّذِي هُوَ مورد
التَّقْسِيم، وَإِن كَانَ السَّاقِط أَكثر من وَاحِد
بِاعْتِبَار طبقتين فَصَاعِدا، إِن كَانَ فِي مَوضِع
وَاحِد سمي معضلا، وَإِن كَانَ فِي موضِعين [سمي
مُنْقَطِعًا من موضِعين] .
إِذا علم ذَلِك فَإِذا روى عَمَّن لم يلقه فَهُوَ مُرْسل
من حَيْثُ كَونه انْقَطع بَينه وَبَين من روى عَنهُ كَمَا
تقدم فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا على رَأْي القَاضِي
وَكثير من الْفُقَهَاء، ومنقطع على رَأْي الْمُحدثين كَمَا
تقدم عَنْهُم فِي أصل الْمُرْسل، وَمَوْقُوف بِكَوْنِهِ
وَقفه على شخص فَهُوَ بِهَذِهِ الاعتبارات لَهُ ثَلَاث
صِفَات يُسمى مُرْسلا بِاعْتِبَار، ومنقطعا على رَأْي
الْمُحدثين، وموقوفا بِاعْتِبَار كَونه وَقفه على شخص.
هَذَا مَا ظهر لي فَإِنِّي تبِعت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
(5/2150)
قَوْله: {قَالَ أَصْحَابنَا والمعظم:
مُرْسل الصَّحَابِيّ حجَّة} ؛ لِأَن روايتهم عَن
الصَّحَابَة والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأَنهم كلهم
عدُول، وَهَذَا فِي الْغَالِب، وَإِلَّا فقد يروي عَن
التَّابِعِيّ وَهُوَ قَلِيل.
وَخَالف الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ
فِي الْمَسْأَلَة فَقَالَ: لَيْسَ بِحجَّة إِلَّا أَن
يَقُول إِنَّه لَا يروي إِلَّا عَن صَحَابِيّ، أَي: فِيمَا
لَا يُمكنهُ إِدْرَاكه وَمِمَّا يُمكن أَن يروي إِلَّا عَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو
يعضده بِمَا سبق فِي مَرَاسِيل التَّابِعين.
وَهَذَا بِنَاء على الْمَشْهُور من تَعْلِيل الْمَنْع
بِأَن الصَّحَابِيّ قد يروي عَمَّن لَا يعلم عَدَالَته.
قَوْله: {تَنْبِيه: اسْتثْنِي مَرَاسِيل صغارهم كمحمد بن
أبي بكر
(5/2151)
وَنَحْوه، فَهُوَ كمراسيل التَّابِعين} ،
وَهَذَا بِلَا شكّ فَإِنَّهُ لم يدْرك النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ وَاضح جدا.
قَالَ الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " شرح
البُخَارِيّ ": أَحَادِيث مثل هَؤُلَاءِ من مَرَاسِيل كبار
التَّابِعين لَا من قبيل مَرَاسِيل الصَّحَابَة الَّذين
سمعُوا من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-، وَهَذَا مِمَّا يلغز بِهِ فَيُقَال: صَحَابِيّ حَدِيثه
مُرْسل لَا يقبله من يقبل مَرَاسِيل الصَّحَابَة،
وَمُحَمّد بن أبي بكر ولد قبل وَفَاة النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثَلَاثَة أشهر وَأَيَّام
كَمَا ثَبت فِي مُسلم أَن أمه أَسمَاء بنت عُمَيْس وَلدته
فِي حجَّة الْوَدَاع قبل أَن يدخلُوا مَكَّة، وَذَلِكَ فِي
أَوَاخِر ذِي الْحجَّة سنة عشر من الْهِجْرَة، وَالله
أعلم.
(5/2152)
|