التحبير شرح التحرير في أصول الفقه

 (بَاب الْأَمر)

(5/2153)


فارغة

(5/2154)


( {بَاب الْأَمر: حَقِيقَة فِي القَوْل الْمَخْصُوص اتِّفَاقًا)

لما فرغ من السَّنَد شرع فِي الْمَتْن بِمَا يشْتَرك فِيهِ الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، فَمِنْهُ: أَمر، وَنهي، وعام، وخاص، وَمُطلق، ومقيد، ومجمل، ومبين، وَظَاهر، ومؤول، ومنطوق، وَمَفْهُوم، فَبَدَأَ بِالْأَمر ثمَّ بِالنَّهْي؛ لِأَن انقسام الْكَلَام إِلَيْهِمَا بِالذَّاتِ، لَا بِاعْتِبَار الدّلَالَة والمدلول.
فَالْأَمْر لَا يَعْنِي بِهِ مُسَمَّاهُ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارف فِي الْإِخْبَار عَن الْأَلْفَاظ أَن يلفظ بهَا وَالْمرَاد مسمياتها بل لَفْظَة الْأَمر وَهُوَ أَمر كَمَا يُقَال زيد مُبْتَدأ وَضرب فعل مَاض، وَفِي حرف جر [وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّه] حَقِيقَة فِي القَوْل الْمَخْصُوص اتِّفَاقًا، وَأَنه قسم من الْكَلَام؛ وَلِهَذَا قُلْنَا وَهُوَ قسم من

(5/2155)


أَقسَام الْكَلَام؛ لِأَن الْكَلَام يكون من الْأَسْمَاء فَقَط، وَمن الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال، وَيكون من الْفِعْل الْمَاضِي وفاعله، وَمن الْفِعْل الْمُضَارع وفاعله، وَمن فعل الْأَمر وفاعله، فَالْكَلَام: الْأَلْفَاظ المتضمنة لمعانيها.
وَعند الْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعه اللَّفْظ، والنفسي الْقَدِيم، {وَإِن كَانَ وَاحِدًا بِالذَّاتِ فيسمى أمرا ونهيا وخبرا وَغَيرهَا من أَقسَام الْكَلَام باخْتلَاف تعلقه ومتعلقه} ، وَقد تقدم ذَلِك وتحرير هَذَا الْمَذْهَب وَغَيره تحريرا شافيا لَا مزِيد عَلَيْهِ فِي أَوَائِل الْكتاب وَهُوَ الْقُرْآن فليعاود ذَلِك.
قَوْله: {وَالْكِتَابَة كَلَام حَقِيقَة} . وَقيل: لَا، كالإشارة، وَهُوَ أظهر وَأَصَح.

(5/2156)


{وَاخْتلف كَلَام القَاضِي وَغَيره من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي تَسْمِيَة الْكِتَابَة كلَاما حَقِيقَة} ، فَذكر الْمجد فِي " المسودة " فصلا ذكر فِيهِ كَلَام القَاضِي فَقَالَ: ذكر القَاضِي أَن الْكِتَابَة وَالْإِشَارَة لَا تسمى أمرا - يَعْنِي حَقِيقَة - ذكره مَحل وفَاق، وَذكر فِي مَوضِع آخر عَن القَاضِي أَنه قَالَ: إِن الْكِتَابَة عندنَا كَلَام حَقِيقَة، أَظُنهُ فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق بِالْكِتَابَةِ. انْتهى.
قلت: قد ذكر الْأَصْحَاب أَنه لَو كتب صَرِيح الطَّلَاق وَنوى بِهِ الطَّلَاق يَقع الطَّلَاق بذلك على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْأَصْحَاب، وَقَطعُوا بِهِ وَخَرجُوا قولا بِعَدَمِ وُقُوع الطَّلَاق وَلَو نوى بِهِ الطَّلَاق، بل هُوَ لَغْو.
وَإِن لم ينْو شَيْئا، بل كتب صَرِيح الطَّلَاق من غير نِيَّة الطَّلَاق بِهِ فللأصحاب فِي وُقُوع الطَّلَاق بذلك وَجْهَان:
أَحدهمَا: هُوَ أَيْضا صَرِيح فَيَقَع من غير نِيَّة، وَهَذَا الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب.

(5/2157)


قَالَ ناظم " الْمُفْردَات ": أدخلهُ الْأَصْحَاب فِي الصَّرِيح، وَنَصره القَاضِي من أَئِمَّة أَصْحَابنَا وَتَبعهُ أَصْحَابه، وَذكره الْحلْوانِي عَن الْأَصْحَاب.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه كِنَايَة لَا صَرِيح، اخْتَارَهُ جمَاعَة من أَصْحَابنَا مِنْهُم صَاحب الْوَجِيز وَابْن حمدَان، وَهُوَ أظهر وَأَصَح.
قَوْله: {وَالْأَمر مجَاز فِي الْفِعْل} ، أَعنِي فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صرح بِهِ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ".
وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْعلمَاء.

(5/2158)


وَاعْلَم أَن لفظ الْأَمر يُطلق بِإِزَاءِ معَان:
مِنْهَا: الْمَعْنى الاصطلاحي الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود فِي هَذَا الْبَاب.
وَمِنْهَا: الْفِعْل، يُقَال: زيد فِي أَمر عَظِيم من سفر أَو غَيره، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} [آل عمرَان: 159] ، أَي: فِي الْفِعْل، وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى: {أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله} [هود: 73] ، {حَتَّى إِذا جَاءَ أمرنَا} [هود: 40] .
وَمِنْهَا: الشَّأْن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} [هود: 97] ، أَي: شَأْنه.
وَالْمعْنَى الَّذِي هُوَ مبَاشر لَهُ، وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه} [النَّحْل: 40] .
وَمِنْهَا: الصّفة، كَقَوْل الشَّاعِر:
( ... ... ... ... ... ... ... لأمر مَا يسوّد من يسود)

أَي: بِصفة من صِفَات الْكَمَال.
وَمِنْهَا: الشَّيْء، كَقَوْلِهِم: تحرّك الْجِسْم لأمر، أَي: لشَيْء.

(5/2159)


وَمِنْهَا: الطَّرِيق، وَقع فِي عبارَة بَعضهم، قَالَ فِي " الْعمد ": الطَّرِيق والشأن بِمَعْنى وَاحِد، وَقد يُطلق على الْقَصْد وَالْمَقْصُود.
إِذا علم ذَلِك فإطلاقه على الْمَعْنى الاصطلاحي حَقِيقَة بِلَا نزاع، وَفِي غَيره الْأَصَح عِنْد الْعلمَاء أَنه مجَاز فِيهِ، وَإِلَّا لزم الِاشْتِرَاك، وَالْمجَاز عِنْدهم خير من الِاشْتِرَاك؛ لأَنا إِذا حكمنَا بِأَنَّهُ حَقِيقَة فِي كل وَاحِد من هَذِه الْمعَانِي كَانَ مُشْتَركا وَالْمجَاز خير مِنْهُ.
وَقد تقدم فِي صدر الْمَسْأَلَة أَن الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه وَأكْثر أهل الْعلم، قَالَ: إِن إِطْلَاق الْأَمر على الْفِعْل مجَاز، وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة.

(5/2160)


{وَقيل: مُشْتَرك بَين الْفِعْل وَالْقَوْل} بالاشتراك اللَّفْظِيّ؛ لِأَنَّهُ أطلق عَلَيْهِمَا، وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة.
{وَقيل: متواطيء} . اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره، فَهُوَ للقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا من بَاب التواطؤ دفعا للاشتراك وَالْمجَاز على وَجه الْإِلْزَام للخصم، أَي: أَنه لَو قيل بذلك فَمَا الْمَانِع مِنْهُ؟ وَلِهَذَا لما تعرض لَهُ ابْن الْحَاجِب قَالَ فِي آخر الْمَسْأَلَة: وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَول حَادث هُنَا.
قلت: كَونه حَادِثا لَا يَنْفِي أَنه مَا قيل، فَإِن للْعُلَمَاء أقوالا كَثِيرَة حدثت قبل الْآمِدِيّ وَبعده وَفِي زَمَنه، وَله هُوَ أَقْوَال قَالَهَا لم يسْبق إِلَيْهَا.
{و} قَالَ القَاضِي {فِي " الْكِفَايَة ": مُشْتَرك بَين القَوْل والشأن والطريقة وَنَحْوه} ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.

(5/2161)


قَالَ الشَّيْخ عبد الْحَلِيم ولد الْمجد ووالد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هَذَا هُوَ الصَّحِيح لمن أنصف، وَنَصره ابْن برهَان وَأَبُو الطّيب، فبعضهم عَن أبي الْحُسَيْن أَنه مُشْتَرك بَين الصِّيغَة وَبَين الْفِعْل وَبَين الشَّأْن، وَعبارَته فِي " الْمُعْتَمد ": وَأَنا أذهب إِلَى أَن قَول الْقَائِل: " أَمر " مُشْتَرك بَين الصِّيغَة وَالشَّيْء وَالطَّرِيق، وَبَين جملَة الشَّأْن وَبَين القَوْل الْمَخْصُوص. انْتهى.
وَلم يذكر الْفِعْل أصلا إِلَّا أَن يكون قد دخل فِي الشَّأْن، وَذكر الطَّرِيق.
اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر بِأَن القَوْل يسْبق إِلَى الْفَهم عِنْد الْإِطْلَاق، وَلَو كَانَ متواطئا لم يفهم مِنْهُ الْأَخَص؛ لِأَن الْأَعَمّ لَا يدل على الْأَخَص. هُوَ قَول أهل اللُّغَة.

(5/2162)


وَاسْتدلَّ: لَو كَانَ حَقِيقَة فِي الْفِعْل لزم الِاشْتِرَاك، ولاطرد؛ لِأَنَّهُ من لوازمها، وَلَا يُقَال للْأَكْل أَمر، ولاشتق لَهُ مِنْهُ آمُر، وَلَا مَانع، ولاتحد جمعاهما، ولوصف بِكَوْنِهِ مُطَاعًا ومخالفا، وَلما صَحَّ نَفْيه.
ورد الأول بِمَنْع إِطْلَاقه عَلَيْهِ بل على شَأْنه وَصفته، وَمِنْه قَوْله.
ثمَّ: مجَاز؛ لدليلنا، وَسبق فيتعارض الْمجَاز والحقيقة.
وَالثَّانِي: بِالْمَنْعِ، ثمَّ: خص بِبَعْض الْأَفْعَال، كالأمر بقول مَخْصُوص.
وَالثَّالِث: بِأَن الِاشْتِقَاق تَابع للنَّقْل والوضع، وكما يتبع الْحَقِيقَة يتبع بعض المسميات، فَلَا يطرد لعدم الِاشْتِرَاك فِي ذَلِك الْمُسَمّى.

(5/2163)


وَبِه يُجَاب عَن الرَّابِع وَالْخَامِس وَالسَّادِس بِالْمَنْعِ.
الْقَائِل مُشْتَرك إِطْلَاقه وَجمعه وَلَا علاقَة فَكَانَ حَقِيقَة [رد] بِالْمَنْعِ وَالْمرَاد: القَوْل أَو شَأْنه وَصفته وحمار للبليد جمع حمر.
ثمَّ كل وَاحِد من الْأَمر والأمور يَقع موقع الآخر وَلَيْسَ جمعا لَهُ.
قلت: وَقد تقدم فِي الْمجَاز يجمع على خلاف جمع الْحَقِيقَة، الْقَائِل متواطيء لدفع الْمجَاز والاشتراك فَيجْعَل لقدر مُشْتَرك وَهُوَ الْوُجُود وَالصّفة.
ورد ذَلِك بِأَنَّهُ يلْزم رفعهما أبدا كَذَلِك، وَأَن [يدل] الْأَعَمّ على الْأَخَص وَبِأَنَّهُ إِحْدَاث قَول ثَالِث، كَمَا تقدم، وَتقدم جَوَابه. قَوْله: {وَأما حَده} ، ذكرنَا لِلْأَمْرِ حدودا، فَمِنْهَا مَا قَالَه القَاضِي فِي

(5/2164)


" الْعدة "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": {اقْتِضَاء فعل، أَو استدعاء فعل بقول مِمَّن هُوَ دونه} .
وَقَالَ فِي " الْوَاضِح " أَيْضا: استدعاء الْأَعْلَى لتعود الْهَاء إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز فِي الْحَد إِضْمَار، فَيجوز استدعاء فعل بقول من الدون.
{و} قَالَ أَبُو الْخطاب فِي {" التَّمْهِيد "، و} الشَّيْخ الْمُوفق فِي {" الرَّوْضَة ": استدعاء فعل بقول بِجِهَة الاستعلاء} أَو على جِهَة الاستعلاء، وَهُوَ معنى حد الأشعرية.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": لَو أسقط: بقول، أَو زيد، أَو مَا قَامَ مقَامه، استقام.

(5/2165)


قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقَالَ: وَالْأولَى على أصلنَا قَول مَعَ اقْتِضَاء بِجِهَة الاستعلاء.
{و} قَالَ {الْفَخر} إِسْمَاعِيل، {وَابْن حمدَان: قَول يطْلب بِهِ الْأَعْلَى من الْأَدْنَى فعلا أَو غَيره} .
ورده أَيْضا ابْن مُفْلِح.
{وَقَالَ ابْن برهَان: تعْتَبر إِرَادَة الْمُتَكَلّم بالصيغة بِلَا خلاف} حَتَّى لَا يرد نَحْو نَائِم، وساه، وَالْكِتَابَة لَيست كلَاما حَقِيقَة.
قَالَ ابْن عقيل: عِنْد أحد وَأخرج أَصْحَابنَا ذَلِك والتهديد وَغَيره. وحد أَصْحَابنَا وجود اللَّفْظ بالاستدعاء لجِهَة الاستعلاء، وَإِن عدلنا

(5/2166)


فلقرينة، ثمَّ {قَالَ ابْن عقيل وَغَيره: اتفقنا أَن إِرَادَة النُّطْق مُعْتَبرَة} وَإِلَّا فَلَيْسَ طلبا واقتضاء واستدعاء.
وَاخْتلف النَّاس هَل هُوَ كَلَام؟
فنفاه الْمُحَقِّقُونَ فقوم لقِيَام الْكَلَام بِالنَّفسِ، وَقوم لعدم الْإِرَادَة، وَعِنْدنَا لِأَنَّهُ مَدْفُوع إِلَيْهِ كخروج حرف عَن غَلَبَة عطاس وَنَحْو.
{و} حد {أَكثر الْمُعْتَزلَة} الْأَمر {بقول الْقَائِل لمن دونه: افْعَل، أَو مَا يقوم مقَامه من غير الْعَرَبيَّة} .
وَنقض طرده بالتهديد، وَالْإِبَاحَة، والتكوين، والإرشاد، والحاكي، وبصدوره من الْأَعْلَى خضوعا، وَعَكسه: بصدوره من الْأَدْنَى استعلاء.
{وَبَعْضهمْ: صِيغَة افْعَل مُجَرّدَة عَن الْقَرَائِن الصارفة عَن الْأَمر} .
وَفِيه: تَعْرِيف الْأَمر بِالْأَمر فَهُوَ من تَعْرِيف الشَّيْء بِنَفسِهِ، وَإِن أسقط قيد الْقَرَائِن بَقِي صِيغَة افْعَل مُجَرّدَة فَيرد التهديد وَغَيره.

(5/2167)


{وَبَعْضهمْ: صِيغَة افْعَل باقتران} إرادات ثَلَاث؛ {إِرَادَة وجود اللَّفْظ، وَإِرَادَة دلالتها على الْأَمر، وَإِرَادَة الِامْتِثَال} .
فَالْأول عَن النَّائِم، وَالثَّانِي عَن التهديد وَغَيره، وَالثَّالِث عَن الْمبلغ والحاكي.
وَهُوَ فَاسد؛ فَإِن الْأَمر الَّذِي هُوَ الْمَدْلُول إِن كَانَ الصِّيغَة فسد، فَإِنَّهَا لم ترد دلالتها على اللَّفْظ، وَإِن كَانَ الْمَعْنى لم يكن الْأَمر الصِّيغَة، وَقد قَالَ إِنَّه هِيَ.
فَإِن قيل: الْأَمر الأول اللَّفْظ مُفَسّر بالصيغة وَالْأَمر الثَّانِي الْمَعْنى وَهُوَ الطّلب، أَي: الْأَمر الصِّيغَة المُرَاد بهَا دلالتها على الطّلب.
رد: فِيهِ اسْتِعْمَال الْمُشْتَرك فِي التَّعْرِيف بِلَا قرينَة.

(5/2168)


وَاعْتبر الجبائي وَابْنه {إِرَادَة الدّلَالَة، وَبَعْضهمْ إِرَادَة الْفِعْل} .
وَنقض عَكسه: بصدوره بِلَا إِرَادَة بِأَن توعد سُلْطَان على ضرب زيد
عَبده بِلَا جرم فَادّعى مُخَالفَة أمره، وَأَرَادَ تمهيد عذره بمشاهدته فَإِنَّهُ يَأْمُرهُ وَلَا يُرِيد امتثاله، وَهَذَا أَيْضا يلْزم من حد الْأَمر بِالطَّلَبِ، وَهُوَ الِاقْتِضَاء.
ورده أَيْضا أَصْحَابنَا وَغَيرهم: بِأَنَّهُ كَانَ يجب وجود كل أوَامِر الله تَعَالَى، فَإِن إِرَادَة الْفِعْل تخصصه بِوَقْت حُدُوثه، وَإِذا لم يُوجد لم يتخصص وَلم تتَعَلَّق بِهِ، وَلَا تشْتَرط الْإِرَادَة لُغَة إِجْمَاعًا على مَا يَأْتِي.

(5/2169)


وَحده بعض الشَّافِعِيَّة بِأَنَّهُ خبر عَن الثَّوَاب على الْفِعْل، وَالْعِقَاب على التّرْك.
وَفِيه: لزومهما. فَقيل: باستحقاقهما. فَرد: بِالْتِزَام الْخَبَر للصدق أَو الْكَذِب، وَالْأَمر لَا يحْتَملهُ.
{و} حَده ابْن {الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ} ، قَالَ الْآمِدِيّ وَأَكْثَرهم {بالْقَوْل الْمُقْتَضِي طَاعَة الْمَأْمُور بِفعل الْمَأْمُور بِهِ} .
ورد بِأَن الْمَأْمُور مُشْتَقّ من الْأَمر، وَبِأَن الطَّاعَة مُوَافقَة الْأَمر، وهما دور.
وَاخْتَارَ {الْآمِدِيّ} على قَاعِدَة أَصْحَابه فِي كَلَام النَّفس: أَنه {طلب فعل على جِهَة الاستعلاء} .

(5/2170)


فالفعل عَن النَّهْي، وَالْبَاقِي عَن الدُّعَاء والالتماس.
{وَقيد} جمَاعَة - مِنْهُم ابْن الْحَاجِب - {الْفِعْل بِغَيْر كف} ليخرج النَّهْي فَإِنَّهُ فعل كف.
وَأوردهُ: (اترك، وكف) أَمْرَانِ وهما اقْتِضَاء فعل هُوَ كف، و (لَا تتْرك وَلَا تكف) نهي وهما اقْتِضَاء فعل غير كف بِجِهَة الاستعلاء، وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": اقْتِضَاء فعل غير كف مَدْلُول عَلَيْهِ بِغَيْر كف.
فَقَوله: اقْتِضَاء فعل، أَي: طلب فعل، وَهُوَ جنس؛ ليشْمل الْأَمر وَالنَّهْي وَيخرج الْإِبَاحَة وَغَيرهَا مِمَّا يسْتَعْمل مِنْهُ صِيغَة الْأَمر وَلَيْسَ أمرا.
وَقَوله: غير كف، فصل خرج بِهِ النَّهْي فَإِنَّهُ طلب فعل هُوَ كف.
وَقَوله: مَدْلُول عَلَيْهِ بِغَيْر كف وصف لقَوْل (كف) وَهُوَ قيد زَاده على ابْن الْحَاجِب؛ لإدخال قَوْلنَا: (كف نَفسك عَن كَذَا أَو أمسك عَن كَذَا) فَإِنَّهُ أَمر مَعَ أَنه يخرج بقولنَا: (غير كف) فَبين أَن الْكَفّ الَّذِي أُرِيد إِخْرَاجه مَا دلّ عَلَيْهِ غير كف، أما طلب فعل هُوَ كف دلّ على كف فَإِنَّهُ لَيْسَ نهيا بل أمرا. انْتهى.

(5/2171)


وَهَذَا التَّعْرِيف وتعريف الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب على الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَأما من نَفَاهُ عرفه بِأَنَّهُ: القَوْل الطَّالِب للْفِعْل.
وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة: هُوَ اقْتِضَاء وَطلب.
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": وَهُوَ قَول حسن.
قَوْله: {فَائِدَة اعْتبر أَبُو الْخطاب، والموفق، و} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن برهَان} فِي " الْأَوْسَط "، {و} الْفَخر {الرَّازِيّ، والآمدي، وَغَيرهم فِيهِ الاستعلاء} ، وَهُوَ قَول أبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة، وَصَححهُ ابْن الْحَاجِب، وَغَيره.

(5/2172)


{و} اعْتبر أَكثر أَصْحَابنَا، مِنْهُم: {القَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَالْفَخْر} إِسْمَاعِيل {وَالْمجد} ابْن تَيْمِية {وَابْن حمدَان} وَغَيرهم، وَنسبه ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " إِلَى الْمُحَقِّقين، {وَأَبُو الطّيب} الطَّبَرِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ} - نقل عَنهُ الْبرمَاوِيّ -، {والمعتزلة: الْعُلُوّ، فالمساوي} عِنْدهم {التمَاس} ، أَعنِي: أَمر الْمسَاوِي لغيره يُسمى عِنْدهم التماسا، {والأدون سؤالا} .
وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَن ابْن الصّباغ، وَحَكَاهُ ابْن الصّباغ عَن أَصْحَابهم، والباقلاني، وَعبد الْوَهَّاب فِي ... ... ... ... ... ...

(5/2173)


" الملخص "، وَأَبُو الْفضل ابْن عَبْدَانِ.
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي " الملخص ": هَذَا عَلَيْهِ أهل اللُّغَة وَجُمْهُور أهل الْعلم.
وَاعْتبر الاستعلاء والعلو مَعًا ابْن {الْقشيرِي وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب} الْمَالِكِي، نَقله عَنْهُمَا الْبرمَاوِيّ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: من النَّاس من يشْتَرط الْعُلُوّ والاستعلاء كَقَوْل أَصْحَابنَا وَغَيرهم. انْتهى.
وَالظَّاهِر أَنه أَخذه من " المسودة " فَإِن الْمجد قَالَ فِيهَا: الْآمِر لَا بُد أَن يكون أعلا رُتْبَة من الْمَأْمُور من حَيْثُ هُوَ آمُر، وَإِلَّا كَانَ سؤالا وتضرعا، وَيُسمى أمرا مجَازًا، هَذَا قَول أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور، وَقَالَ بعض الأشعرية: لَا تشْتَرط الرُّتْبَة. انْتهى.
لَكِن لَيْسَ فِي كَلَام الْمجد إِلَّا أَن الْآمِر يكون أعلا رُتْبَة من الْمَأْمُور وَهُوَ

(5/2174)


اشْتِرَاط الْعُلُوّ فَهُوَ مُوَافق لما نَقَلْنَاهُ عَن أَكثر أَصْحَابنَا، وَابْن قَاضِي الْجَبَل نسب إِلَى الْأَصْحَاب الْعُلُوّ والاستعلاء وَلم يعْتَبر وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا أَكثر الشَّافِعِيَّة، وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن أَصْحَابهم.
تَنْبِيه: تلخص فِي الْمَسْأَلَة أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: اعْتِبَار الْعُلُوّ والاستعلاء، وَالثَّانِي: عَكسه، وَالثَّالِث: اعْتِبَار الاستعلاء فَقَط، وَالرَّابِع: اعْتِبَار الْعُلُوّ فَقَط.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلم يشْتَرط بعض الأشعرية الرُّتْبَة، فَعَزاهُ إِلَى بعض الأشعرية، قَالَ: وَحكي عَن الْمُعْتَزلَة، لقَوْل فِرْعَوْن: {فَمَاذَا تأمرون} [الْأَعْرَاف: 110] وأبطل الْعُلُوّ والاستعلاء ب (مَاذَا تأمرون) .
رد ذَلِك بِأَنَّهُ من قَول الْمَلأ، ثمَّ هُوَ استشارة؛ لِأَن من أَمر سَيّده أَحمَق إِجْمَاعًا.

(5/2175)


قَالَ فِي " الْوَاضِح ": لَا خلاف أَنه من العَبْد لَيْسَ أمرا؛ لدنو الرُّتْبَة، وَأَجْمعُوا على اعْتِبَار الرُّتْبَة فِي الْحَد، وَهُوَ من المماثل سُؤال.
قَوْله: {فالاستعلاء طلب بغلظة، والعلو كَون الطَّالِب أَعلَى رُتْبَة، قَالَه الْقَرَافِيّ} .
فَقَالَ فِي " التَّنْقِيح ": الاستعلاء هَيْئَة فِي الْآمِر من الترفع وَإِظْهَار الْقَهْر والعلو يرجع إِلَى هَيْئَة الْآمِر من شرفه وعلو مَنْزِلَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْمُور. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْمرَاد بالعلو أَن يكون الْآمِر فِي نَفسه عَالِيا، أَي: أَعلَى دَرَجَة من الْمَأْمُور والاستعلاء أَن يَجْعَل الْآمِر نَفسه عَالِيا بكبرياء أَو غير ذَلِك، سَوَاء كَانَ فِي نفس الْأَمر كَذَلِك أَو لَا، فالعلو من الصِّفَات الْعَارِضَة لِلْأَمْرِ، والاستعلاء من صفة صِيغَة الْأَمر وهيئته نطقه مثلا.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: فالعلو صفة للمتكلم، والاستعلاء صفة للْكَلَام.

(5/2176)


(قَوْله: {فصل} )

{الْأَرْبَعَة وَالْأَكْثَر لِلْأَمْرِ صِيغَة تدل بمجردها عَلَيْهِ لُغَة} .
نَقله عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره، وَقَالَ: هُوَ قَول الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَالْأَوْزَاعِيّ، وَجَمَاعَة أهل الْعلم وَبِه يَقُول الْبَلْخِي من الْمُعْتَزلَة.
{وَقَالَ ابْن عقيل: الصِّيغَة الْأَمر} ، فَمنع أَن يُقَال: لِلْأَمْرِ صِيغَة، أَو أَن يُقَال: هِيَ دَالَّة عَلَيْهِ بل الصِّيغَة نَفسهَا هِيَ الْأَمر وَالشَّيْء لَا يدل على نَفسه.

(5/2177)


وَإِنَّمَا يَصح عِنْد الْمُعْتَزلَة: الْأَمر الْإِرَادَة، أَو الأشعرية: الْأَمر معنى فِي النَّفس، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ صِيغَة الْأَمر كَقَوْلِك: ذَات الشَّيْء وَنَفسه.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: قَوْلهم لِلْأَمْرِ صِيغَة صَحِيح؛ لِأَن الْأَمر اللَّفْظ، وَالْمعْنَى فاللفظ دلّ على التَّرْكِيب وَلَيْسَ هُوَ عين الْمَدْلُول؛ وَلِأَن اللَّفْظ دلّ على صفته الَّتِي هِيَ الأمرية كَمَا يُقَال: يدل على كَونه أمرا، وَلم يقل: على الْأَمر.
وَقَالَ القَاضِي: الْأَمر يدل على طلب الْفِعْل واستدعائه، فَجعله مَدْلُول الْأَمر لَا عين الْأَمر.
{وَقَالَ القَاضِي} عَن قَول أَحْمد: من تَأَول الْقُرْآن على ظَاهره بِلَا أَدِلَّة من الرَّسُول وَلَا أحد من الصَّحَابَة فَهُوَ تَأْوِيل أهل الْبدع؛ لِأَن الْآيَة قد تكون

(5/2178)


عَامَّة قصدت لشَيْء بِعَيْنِه، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمعبر عَن كتاب الله: {ظَاهره: لَا صِيغَة لَهُ} ، بل الْوَقْف؛ {حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد} من وجوب وَندب، قَالَ بعض أَصْحَابنَا: نَص أَحْمد فِي الْعُمُوم، وَاعْتبر القَاضِي جنس الظَّاهِر وَهُوَ اعْتِبَار جيد.
فَيبقى قد حكى رِوَايَة بِمَنْع التَّمَسُّك بالظواهر الْمُجَرَّدَة؛ حَتَّى يعلم مَا يُفَسِّرهَا، وَهُوَ الْوَقْف الْمُطلق وقوفا شَرْعِيًّا؛ لمجيء التَّفْسِير وَالْبَيَان كثيرا مَعَ ظُهُوره لُغَة.
وَمن أَصْحَابنَا من يُفَسر هَذِه الرِّوَايَة بِمَا يُوَافق كَلَامه.
قَوْله: {وَعند [أَكثر] الْقَائِلين بِكَلَام النَّفس أَن لِلْأَمْرِ صِيغَة} .

(5/2179)


{و} عِنْد {الْأَشْعَرِيّ} وَمن تبعه {لَا صِيغَة لَهُ.
فَقيل: مُشْتَركَة، وَقيل: لَا نَدْرِي} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الْقَائِلُونَ بِالنَّفسِ اخْتلفُوا: هَل لَهُ صِيغَة تخصه؟ فَنقل عَن أبي الْحسن وَمن تَابعه النَّفْي، وَإِنَّمَا يدل عَلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ والقرائن، وَعَن غَيرهم: الْإِثْبَات.
وَنقل عَن الباقلاني أَنه قَالَ: لَا صِيغَة لَهُ تفيده بِنَفسِهَا، بل هِيَ كالزاي من زيد يَنْضَم إِلَيْهَا قرينَة فتفيد الْمَجْمُوع، ثمَّ قَالَ: اخْتلف ابْن كلاب والأشعري، وَكَانَ ابْن كلاب يَقُول: هِيَ حِكَايَة عَن الْأَمر، وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: هِيَ عبارَة عَن الْمَعْنى النفساني. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: اخْتلف الْقَائِلُونَ بالْكلَام النَّفْسِيّ فِي أَن الْأَمر هَل لَهُ صِيغَة تخصه أم لَا؟ قَوْلَيْنِ:

(5/2180)


أَحدهمَا: وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الْأَشْعَرِيّ أَنه لَيست لَهُ صِيغَة تخصه، فَقَوْل الْقَائِل: افْعَل، مُتَرَدّد بَين الْأَمر وَالنَّهْي، ثمَّ اخْتلف أَصْحَابه فِي تَحْقِيق مذْهبه.
فَقيل: أَرَادَ الْوَقْف، أَي: أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، لَا يدْرِي وضع فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ لماذا؟
وَقيل: أَرَادَ الِاشْتِرَاك، أَي: أَن اللَّفْظ صَالح لجَمِيع المحامل صَلَاحِية اللَّفْظ الْمُشْتَرك للمعاني الَّتِي يثبت اللَّفْظ لَهَا.
الثَّانِي: أَن لَهُ صيغا تخصه لَا يفهم مِنْهَا غَيره عِنْد التجرد عَن الْقَرَائِن، كَفعل الْأَمر وَاسم الْفِعْل وَالْفِعْل الْمُضَارع المقرون بِاللَّامِ.
وَذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزالِيّ أَن الْخلاف فِي صِيغَة (افْعَل) دون قَول الْقَائِل: أَمرتك فأوجبت عَلَيْك، وندبت وألزمتك فَأَنت مَأْمُور فَإِنَّهُ من صِيغ الْأَمر بِلَا خلاف، وتبعهم جمَاعَة.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا وَجه لهَذَا التَّخْصِيص فَإِن مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ أَن الْأَمر عبارَة عَن الطّلب الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَلَيْسَ لَهُ صِيغَة تخصه، وَإِنَّمَا يعبر بِمَا يدل عَلَيْهِ؛ لانضمام الْقَرِينَة إِلَيْهِ. انْتهى.

(5/2181)


قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: لَا تشْتَرط} فِيهِ وَلَا فِي الْخَبَر {إِرَادَة} ، خلافًا {للمعتزلة} ، كاللغة إِجْمَاعًا، لَا تشْتَرط فِي الْأَمر إِرَادَة عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء خلافًا للمعتزلة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَذِه الْإِرَادَة نفس الصِّيغَة للطلب عِنْدهم؛ لِأَن للصيغة بضعَة عشر محملًا لَا يتَعَيَّن أَحدهَا إِلَّا بالإرادة.
ثمَّ قَالَ: لنا أَن الله تَعَالَى أَمر إِبْرَاهِيم بِذبح وَلَده وَلم يردهُ مِنْهُ، وَأمر إِبْلِيس بِالسُّجُود وَلم يردهُ مِنْهُ، وَلَو أَرَادَهُ لوقع؛ لِأَنَّهُ فعال لما يُرِيد؛ وَلِأَن الله تَعَالَى أَمر برد الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا، ثمَّ إِنَّه لَو قَالَ: وَالله لأؤدين أمانتك إِلَيْك غَدا إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَلم يفعل لم يَحْنَث، وَلَو كَانَ مُرَاد الله لوَجَبَ أَن يَحْنَث وَلَا حنث بِالْإِجْمَاع، خلافًا لمن حنثه كالجبائي، وخرق الْإِجْمَاع.

(5/2182)


قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق، والطوفي، وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب: لنا على أَن الْأَمر لَا تشْتَرط لَهُ إِرَادَة، إِجْمَاع أهل اللُّغَة على عدم اشْتِرَاطهَا.
قَالُوا: الصِّيغَة مستعملة فِيمَا سبق من الْمعَانِي فَلَا يتَعَيَّن الْأَمر إِلَّا بالإرادة؛ إِذْ لَيست أمرا لذاتها وَلَا لتجردها عَن الْقَرَائِن.
قُلْنَا: اسْتِعْمَالهَا فِي غير الْأَمر مجَاز، فَهِيَ بإطلاقها لَهُ، ثمَّ الْأَمر والإرادة ينفكان كمن يَأْمر وَلَا يُرِيد، أَو يُرِيد وَلَا يَأْمر فَلَا يتلازمان، وَإِلَّا اجْتمع النقيضان.
تَنْبِيه: وَأما الْخَبَر فَلَا تشْتَرط فِيهِ إِرَادَة أَيْضا على الصَّحِيح من قولي

(5/2183)


الْعلمَاء، والمخالف فِي ذَلِك الْمُعْتَزلَة كَمَا قَالُوا فِي الْأَمر.
قَالَت الْمُعْتَزلَة: الْخَبَر يَأْتِي دُعَاء كَقَوْلِه: غفر الله لنا، وَيَأْتِي تهديدا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {سنفرغ لكم أيه الثَّقَلَان} [الرَّحْمَن: 31] ، وَيَأْتِي أمرا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233] ، فَإِذا اخْتلف موارد الِاسْتِعْمَال لم يتَعَيَّن الْخَبَر إِلَّا بِإِرَادَة.
وَجَوَابه: أَن الصِّيغَة حَقِيقَة فِي الْخَبَر فتصرف لمدلولها وضعا لَا بالإرادة، وإتيانه لهَذِهِ الْمعَانِي مجَاز؛ لِأَن الْمجَاز صرفهَا عَن حَقِيقَتهَا إِلَى ذَلِك الْمَعْنى {قَوْله: كاللغة إِجْمَاعًا} ، قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَا تشْتَرط الْإِرَادَة لُغَة إِجْمَاعًا.
قَوْله: {الثَّانِيَة: ترد صِيغَة (افْعَل) } لمعان كَثِيرَة.
أَحدهَا: الْوُجُوب، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} [الْبَقَرَة: 43] إِذا كَانَ المُرَاد بهَا الصَّلَوَات الْخمس، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " بِخِلَاف نَحْو: {وصل عَلَيْهِم} [التَّوْبَة: 103] .

(5/2184)


وَمن الْوُجُوب أَيْضا: {لينفق ذُو سَعَة من سعته} [الطَّلَاق: 7] ، {وليتق الله ربه} [الْبَقَرَة: 283] .
قَوْله: الثَّانِي: النّدب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} [النُّور: 33] فَإِنَّهُ للنَّدْب على الْأَصَح عِنْد جمَاعَة الْعلمَاء، وَرُوِيَ عَن دَاوُد وَجمع أَنه للْوُجُوب.
قلت: حمل الْآيَة على الْوُجُوب هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَأَنه يجب إتْيَان العَبْد شَيْئا من الْكِتَابَة.
وَحَكَاهُ الشَّيْخ موفق الدّين وَالشَّارِح عَن الشَّافِعِي وَإِسْحَاق.
وَحكي الِاسْتِحْبَاب عَن أبي حنيفَة وَمَالك، لَكِن الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة "، وَغَيره من أَصْحَاب الْأُصُول من أَصْحَابنَا اسْتشْهدُوا للاستحباب بِآيَة الْمكَاتب، وَهَذَا لَا يضر فَإِن الاستشهاد يجوز وَلَو على قَول من أَقْوَال الْعلمَاء لَا سِيمَا فِي الْمحل؛ فَإِن أَكثر أهل الْعلم قد قَالُوا:

(5/2185)


إِن الْأَمر فِي الْآيَة للاستحباب، وَقَالُوا: إِن قرينَة صرفه عَن الْوُجُوب إِمَّا لكَونه علق على رَأْي السادات، أَو لكَونه أمرا بعد حظر، وَالله أعلم.
وَالْأولَى فِي الاستشهاد للاستحباب قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " استاكوا ".
الثَّالِث: الْإِبَاحَة، كَقَوْلِه: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [الْمَائِدَة: 2] ، {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} [الْجُمُعَة: 10] .
وَاعْلَم أَن الْإِبَاحَة إِنَّمَا تستفاد من خَارج؛ فلهذه الْقَرِينَة يحمل الْأَمر عَلَيْهَا مجَازًا بعلاقة المشابهة المعنوية؛ لِأَن كلا مِنْهُمَا مَأْذُون فِيهِ.
الرَّابِع: الْإِرْشَاد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَنَحْوه: {إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} [الْبَقَرَة: 282] ، وَالضَّابِط فِيهِ أَن يرجع لمصْلحَة فِي الدُّنْيَا بِخِلَاف النّدب فَإِنَّهُ لمصَالح الْآخِرَة.
وَأَيْضًا الْإِرْشَاد لَا ثَوَاب فِيهِ وَالنَّدْب فِيهِ الثَّوَاب.

(5/2186)


الْخَامِس: الْإِذْن، كَقَوْلِك لمستأذن عَلَيْك: ادخل. وَمِنْهُم من يدْخل هَذَا فِي قسم الْإِبَاحَة، وَقد يُقَال: الْإِبَاحَة إِنَّمَا تكون من صِيغ الشَّرْع الَّذِي لَهُ الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم، وَإِنَّمَا الْإِذْن يعلم بِأَن الشَّرْع أَبَاحَهُ دُخُول ملك ذَلِك الآذان مثلا فتغايرا.
السَّادِس: التَّأْدِيب، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمر بن أبي سَلمَة: " يَا غُلَام سم الله وكل بيمينك وكل مِمَّا يليك " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَقَالَ لعكراش: " كل من مَوضِع وَاحِد فَإِنَّهُ طَعَام وَاحِد ".
وَمِنْهُم من يدْخل ذَلِك فِي قسم النّدب، مِنْهُم: الْبَيْضَاوِيّ، وَمِنْهُم من قَالَ: يقرب من النّدب، وَهُوَ يدل على الْمُغَايرَة.

(5/2187)


وَالظَّاهِر أَن بَينهمَا عُمُوما وخصوصا من وَجه؛ لِأَن الْأَدَب مُتَعَلق بمحاسن الْأَخْلَاق أَعم من أَن يكون بَين مُكَلّف أَو غَيره؛ لِأَن عمر كَانَ صَغِيرا، وَالنَّدْب يخْتَص بالمكلف وأعم من أَن يكون من محَاسِن الْأَخْلَاق وَغَيرهَا.
السَّابِع: الامتنان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كلوا مِمَّا رزقكم الله} [الْأَنْعَام: 142] ، وَسَماهُ أَبُو الْمَعَالِي: الإنعام، وَالْفرق بَينه وَبَين الْإِبَاحَة أَنَّهَا مُجَرّد إِذن، والامتنان لَا بُد فِيهِ من اقتران حَاجَة الْخلق لذَلِك وَعدم قدرتهم عَلَيْهِ.
والعلاقة بَين الامتنان وَالْوُجُوب المشابهة فِي الْإِذْن، إِذْ الْمَمْنُون لَا يكون إِلَّا مَأْذُونا فِيهِ.
الثَّامِن: الْإِكْرَام، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ادخلوها بِسَلام آمِنين} [الْحجر: 46] فَإِن قرينَة " بِسَلام آمِنين " يدل على الْإِكْرَام.
التَّاسِع: الْجَزَاء، كَقَوْلِه: {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [النَّحْل: 32] .

(5/2188)


الْعَاشِر: الْوَعْد، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لبني تَمِيم: " أَبْشِرُوا "، وَقَوله تَعَالَى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ الَّتِي كُنْتُم توعدون} [فصلت: 30] ، وَقد يُقَال بِدُخُول ذَلِك فِي الامتنان فَإِن بشرى العَبْد منَّة عَلَيْهِ.
الْحَادِي عشر: التهديد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40] ، وَقَوله: {واستفزز ماستطعت مِنْهُم بصوتك وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك وشاركهم فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد} الْآيَة [الْإِسْرَاء: 64] .
الثَّانِي عشر: الْإِنْذَار، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل تمَتَّعُوا فَإِن مصيركم إِلَى النَّار} [إِبْرَاهِيم: 30] .
وَقد جعله قوم قسما من التهديد، وَهُوَ ظَاهر الْبَيْضَاوِيّ، وَالصَّوَاب.

(5/2189)


الْمُغَايرَة، وَالْفرق: أَن التهديد هُوَ التخويف، والإنذار إبلاغ الْمخوف، كَمَا فسره الْجَوْهَرِي بهما.
وَقيل: الْإِنْذَار يجب أَن يكون مَقْرُونا بالوعيد كالآية، والتهديد لَا يجب فِيهِ ذَلِك، بل قد يكون مَقْرُونا وَقد لَا يكون مَقْرُونا.
وَقيل: التهديد عرفا أبلغ فِي الْوَعيد وَالْغَضَب من الْإِنْذَار.
الثَّالِث عشر: التحسير والتلهيف، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل موتوا بغيظكم} [آل عمرَان: 119] ، وَمثله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} [الْمُؤْمِنُونَ: 108] حَكَاهُ ابْن فَارس.
الرَّابِع عشر: التسخير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} [الْبَقَرَة: 65] ، وَالْمرَاد بالتسخير هُنَا السخرية بالمخاطب بِهِ لَا بِمَعْنى التكوين، كَمَا قَالَه بَعضهم.
الْخَامِس عشر: التَّعْجِيز، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَأتوا بِسُورَة مثله} [يُونُس: 38] .

(5/2190)


والعلاقة بَينه وَبَين الْوُجُوب: المضادة؛ لِأَن التَّعْجِيز إِنَّمَا هُوَ فِي الممتنعات والإيجاب فِي الممكنات وَمثله {فليأتوا بِحَدِيث مثله} [الطّور: 34] ، وَمثله بَعضهم بقوله تَعَالَى: {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} [الْإِسْرَاء: 50] .
وَالْفرق بَين التَّعْجِيز والتسخير: أَن التسخير نوع من التكوين، فَمَعْنَى كونُوا قردة: انقلبوا إِلَيْهَا، وَأما التَّعْجِيز فإلزامهم أَن ينقلبوا، وهم لَا يقدرُونَ أَن ينقلبوا.
قَالَ ابْن عَطِيَّة فِي " تَفْسِيره ": فِي التَّمَسُّك بِهَذَا نظر، وَإِنَّمَا التَّعْجِيز حَيْثُ يَقْتَضِي بِالْأَمر فعل مَا لَا يقدر عَلَيْهِ الْمُخَاطب، نَحْو: {فادرءوا عَن أَنفسكُم الْمَوْت} [آل عمرَان: 168] .
السَّادِس عشر: الإهانة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} [الدُّخان: 49] ، وَمِنْهُم من يُسَمِّيه التهكم، وضابطه: أَن يَأْتِي بِلَفْظ ظَاهره الْخَيْر والكرامة وَالْمرَاد ضِدّه، ويمثل بقوله تَعَالَى: {وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك} [الْإِسْرَاء: 64] ، والعلاقة أَيْضا هُنَا المضادة.

(5/2191)


السَّابِع عشر: الاحتقار، كَقَوْلِه تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى يُخَاطب السَّحَرَة: {ألقوا مَا أَنْتُم ملقون} [الشُّعَرَاء: 43] ؛ إِذْ أَمرهم فِي مُقَابلَة المعجزة حقير، وَهُوَ مِمَّا أوردهُ الْبَيْضَاوِيّ.
وَالْفرق بَينه وَبَين الإهانة: أَنَّهَا إِمَّا بقول أَو فعل أَو تَقْرِير كَتَرْكِ إجَابَته أَو نَحْو ذَلِك لَا بِمُجَرَّد اعْتِقَاد، والاحتقار قد يكون بِمُجَرَّد اعْتِقَاد؛ فَلهَذَا يُقَال فِي مثل ذَلِك: احتقره، وَلَا يُقَال: أهانه، وَأجِيب عَن ذَلِك.
الثَّامِن عشر: التَّسْوِيَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاصْبِرُوا أَو لَا تصبروا} [الطّور: 16] بعد قَوْله: {اصلوها} أَي: هَذِه التصلية لكم سَوَاء صَبَرْتُمْ، أَو لَا، فالحالتان سَوَاء. والعلاقة المضادة؛ لِأَن التَّسْوِيَة بَين الْفِعْل [وَالتّرْك] مضادة لوُجُوب الْفِعْل، وَمِنْه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي هُرَيْرَة: " فاختص على ذَلِك أَو ذَر " رَوَاهُ البُخَارِيّ.

(5/2192)


التَّاسِع عشر: الدُّعَاء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {رب اغْفِر لي ولوالدي} [نوح: 28] ، {رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا} [آل عمرَان: 147] ، وَكله طلب أَن يعطيهم ذَلِك على وَجه التفضل وَالْإِحْسَان.
والعلاقة بَينه وَبَين الْإِيجَاب طلب أَن يَقع ذَلِك لَا محَالة.
الْعشْرُونَ: التَّمَنِّي، كَقَوْل امريء الْقَيْس:
(أَلا أَيهَا اللَّيْل الطَّوِيل أَلا انجلي ... )

وَإِنَّمَا حمل على التَّمَنِّي دون الترجي؛ لِأَنَّهُ أبلغ؛ لِأَنَّهُ نزل ليله لطوله منزلَة المستحيل انجلاؤه كَمَا قَالَ الآخر:
(وليل الْمُحب بِلَا آخر ... )

قَالَ بَعضهم: وَالْأَحْسَن تَمْثِيل هَذَا كُله كَمَا مثله ابْن فَارس لشخص ترَاهُ: كن فلَانا، وَفِي الحَدِيث قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ على تَبُوك: " كن أَبَا ذَر "،

(5/2193)


وَرَأى آخر فَقَالَ: " كن أَبَا خَيْثَمَة "؛ لِأَن [بَيت] امريء الْقَيْس قد يدعى استفادة التَّمَنِّي [فِيهِ] من أَلا لَا من صِيغَة (افْعَل) بِخِلَاف هَذَا الْمِثَال.
وَقد يُقَال: إِن (أَلا) قرينَة إِرَادَة التَّمَنِّي ب (افْعَل) ، وَأما (كن فلَانا) فَلَيْسَ تمنيا أَن يكون إِيَّاه، بل الْجَزْم بِهِ، وَأَنه يَنْبَغِي أَن يكون كَذَلِك، فَلَمَّا احْتمل هَذَا المثالين ذكرتهما.
الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: كَمَال الْقُدْرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} [النَّحْل: 40] هَكَذَا سَمَّاهُ الْغَزالِيّ والآمدي، وَبَعْضهمْ عبر عَنهُ بالتكوين، وَسَماهُ الْقفال وَأَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو

(5/2194)


إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ التسخير، فَهُوَ تفعيل من كَانَ بِمَعْنى وجد، فتكوين الشَّيْء إيجاده من الْعَدَم، وَالله تَعَالَى هُوَ الموجد لكل شَيْء وخالقه.
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: أَن يكون الْأَمر بِمَعْنى الْخَبَر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فليضحكوا قَلِيلا وليبكوا كثيرا} [التَّوْبَة: 82] ، وَقَوله تَعَالَى: {فليمدد لَهُ الرَّحْمَن مدا} [مَرْيَم: 75] ، {ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12] ، {أسمع بهم وَأبْصر} [مَرْيَم: 38] ، وَمِنْه - على رَأْي -: " إِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت ".
تَنْبِيه: كَمَا جَاءَ الْأَمر بِمَعْنى الْخَبَر جَاءَ الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كَقَوْلِه تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233] وَكَذَا يَجِيء بِمَعْنى النَّهْي كَمَا فِي حَدِيث رَوَاهُ ابْن ماجة بِسَنَد جيد: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تزوج المرأةُ الْمَرْأَة، وَلَا تزوج الْمَرْأَة نَفسهَا " بِالرَّفْع؛ إِذْ لَو كَانَ نهيا لجزم فيكسر لالتقاء الساكنين.

(5/2195)


قَالَ أَرْبَاب الْمعَانِي وَهُوَ أبلغ من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي؛ لِأَن الْمُتَكَلّم لشدَّة طلبه نزل الْمَطْلُوب منزلَة الْوَاقِع لَا محَالة.
وَمن هُنَا تعرف العلاقة فِي إِطْلَاق الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر وَالنَّهْي.
الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: التَّفْوِيض، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاقْض مَا أَنْت قَاض} [طه: 72] ذكره أَبُو الْمَعَالِي، وَيُسمى أَيْضا التَّحْكِيم، وَسَماهُ ابْن فَارس والعبادي: التَّسْلِيم، وَسَماهُ نصر بن مُحَمَّد الْمروزِي: الاستبسال، قَالَ: أعلموه أَنهم قد اسْتَعدوا لَهُ بِالصبرِ، وَأَنَّهُمْ غير تاركين لدينهم، وَأَنَّهُمْ يستقلون مَا هُوَ فَاعل فِي جنب مَا يتوقعونه من ثَوَاب الله تَعَالَى.
قَالَ: وَمِنْه قَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام: {فَأَجْمعُوا أَمركُم} [يُونُس: 71] أخْبرهُم بهوانهم.

(5/2196)


الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: التَّكْذِيب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} [آل عمرَان: 93] ، وَمِنْه: {فَأتوا بِسُورَة من مثله} [الْبَقَرَة: 23] ، {قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ} الْآيَة [الْأَنْعَام: 150] .
الْخَامِس وَالْعشْرُونَ: المشورة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَانْظُر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] فِي قَول إِبْرَاهِيم لِابْنِهِ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِشَارَة إِلَى مشاورته فِي هَذَا الْأَمر وَهُوَ قَوْله: {يَا بني إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك فَانْظُر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] ، ذكره الْعَبَّادِيّ.
السَّادِس وَالْعشْرُونَ: الِاعْتِبَار، كَقَوْلِه تَعَالَى: {انْظُرُوا إِلَى ثمره إِذا أثمر وينعه} [الْأَنْعَام: 99] فَإِن فِي ذَلِك عِبْرَة لمن يعْتَبر.
السَّابِع وَالْعشْرُونَ: التَّعَجُّب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال} [الْإِسْرَاء: 48] قَالَه الْفَارِسِي، وَمثله الْهِنْدِيّ بقوله تَعَالَى: {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} [الْإِسْرَاء: 50] .

(5/2197)


وَتقدم أَن بَعضهم مثل بِهِ للتعجيز، وَأَن ابْن عَطِيَّة قَالَ: فِيهِ نظر، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الظَّاهِر فَإِن التَّمْثِيل بِهِ للتعجب أوضح؛ لِأَن المُرَاد التَّعَجُّب.
الثَّامِن وَالْعشْرُونَ: إِرَادَة امْتِثَال أَمر آخر، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كن عبد الله الْمَقْتُول وَلَا تكن عبد الله الْقَاتِل "، فَإِنَّمَا الْمَقْصُود الاستسلام والكف عَن الْفِتَن.
فَهَذَا الَّذِي وَقع اختيارنا عَلَيْهِ، وَقد ذكر جمَاعَة من الْعلمَاء غير ذَلِك مِمَّا فِيهِ نظر، مِنْهَا - وَهُوَ -:

(5/2198)


التَّاسِع وَالْعشْرُونَ: التَّخْيِير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم} [الْمَائِدَة: 42] ، ذكره الْقفال.
وَقد يُقَال: نفس صِيغَة (افْعَل) لَيْسَ فِيهَا تَخْيِير [إِلَّا] بانضمام أَمر آخر يفِيدهُ، لَكِن تَمْثِيل ذَلِك يَأْتِي فِي التَّسْوِيَة.
وَمِنْهَا - وَهُوَ - الثَّلَاثُونَ: الِاحْتِيَاط، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلَا يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا " بِدَلِيل " فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده ". قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا دَاخل تَحت النّدب، فَلَا حَاجَة لإفراده.
قلت: لَيست فِي هَذَا صِيغَة أَمر، وَإِنَّمَا هُوَ صِيغَة نهي كَمَا ترى.

(5/2199)


وَمِنْهَا: - وَهُوَ - الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: الْوَعيد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَقل الْحق من ربكُم فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر} [الْكَهْف: 29] ، وَلَكِن هَذَا من التهديد، وَقَالَ بَعضهم: التهديد أبلغ من الْوَعيد.
وَمِنْهَا: - وَهُوَ - الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: الالتماس، كَقَوْلِك لنظيرك: افْعَل. وَهَذَا يَأْتِي على رَأْي كَمَا تقدم، وَهُوَ وَشبهه مِمَّا يقل جدواه فِي دَلَائِل الْأَحْكَام.
وَمِنْهَا - وَهُوَ - الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ: التصبر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تحزن إِن الله مَعنا} [التَّوْبَة: 40] ، {فمهل الْكَافرين أمهلهم رويدا} [الطارق: 17] ، {فذرهم يخوضوا ويلعبوا} [الزخرف: 83] ، ذكره الْقفال.
وَمِنْهَا: - وَهُوَ - الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: قرب الْمنزلَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ادخُلُوا الْجنَّة} [الْأَعْرَاف: 49] .

(5/2200)


قَالَ بَعضهم: وَمِنْهَا - وَهُوَ - الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ: التحذير والإخبار عَمَّا يؤول الْأَمر إِلَيْهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَقَالَ تمَتَّعُوا فِي داركم ثَلَاثَة أَيَّام} [هود: 65] ، قَالَه الصَّيْرَفِي.
وَمِنْهَا: - وَهُوَ - السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ: التحسير والتلهيف، ذكره ابْن فَارس، وَمثله بقوله تَعَالَى: {قل موتوا بغيظكم} [آل عمرَان: 119] ، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} [الْمُؤْمِنُونَ: 108] ، وَقد تقدم أَنهم مثلُوا ذَلِك للتحسير لَا غير.

(5/2201)


(قَوْله: {فصل} )

{أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر: الْأَمر الْمُجَرّد عَن قرينَة حَقِيقَة فِي الْوُجُوب} .
هَذَا مَذْهَب إمامنا وَأَصْحَابه وَجُمْهُور الْعلمَاء من أَرْبَاب الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع "، وَابْن برهَان فِي " الْوَجِيز ": هَذَا مَذْهَب الْفُقَهَاء.
ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَب هَل اقْتِضَاء الْوُجُوب بِوَضْع اللُّغَة، أم

(5/2202)


بِالشَّرْعِ، أم بِالْعقلِ؟ ثَلَاثَة مَذَاهِب، اخْتَار أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ، وَابْن حمدَان من أَصْحَابنَا أَنه اقْتَضَاهُ بِوَضْع الشَّرْع.
وَاخْتَارَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الشَّافِعِي أَنه اقْتَضَاهُ بِوَضْع اللُّغَة.
وَاخْتَارَ بَعضهم أَنه اقْتَضَاهُ بِالْعقلِ، قَالَ ابْن مُفْلِح من أَصْحَابنَا وَغَيره: وَمنع أَصْحَابنَا وَغَيرهم حسن الِاسْتِفْهَام.
وَاسْتدلَّ لمَذْهَب الْجُمْهُور بقوله تَعَالَى: {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} [النُّور: 63] ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] ، ذمهم وذم إِبْلِيس على مُخَالفَة الْأَمر الْمُجَرّد، وَدَعوى قرينَة الْوُجُوب واقتضاء تِلْكَ اللُّغَة لُغَة لَهُ دون هَذِه غير مسموعة، وَأَن السَّيِّد لَا يلام على عِقَاب عَبده على مُخَالفَة مُجَرّد أمره بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء.

(5/2203)


الْمَذْهَب الثَّانِي: أَنه حَقِيقَة للنَّدْب، اخْتَارَهُ أَبُو هَاشم، نَقله ابْن الْحَاجِب.
ونوزع بِأَن عِبَارَته لَا تَقْتَضِيه، وَنَقله أَيْضا عَن كثير من الْمُتَكَلِّمين. وَنَقله أَبُو حَامِد عَن الْمُعْتَزلَة بأسرها، وَنَقله الْغَزالِيّ والآمدي عَن الشَّافِعِي، وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة.
وَرُوِيَ عَن أَحْمد أَنه قَالَ: مَا أَمر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسهل مِمَّا نهى عَنهُ.
قَالَ جمَاعَة من أَصْحَابنَا: لَعَلَّه أَرَادَ لِأَن جمَاعَة قَالُوا: الْأَمر للنَّدْب وَلَا تكْرَار، وَالنَّهْي للتَّحْرِيم والدوام، لِئَلَّا يُخَالف نصوصه.
وَأما أَبُو الْخطاب فَإِنَّهُ أَخذ مِنْهُ أَنه للنَّدْب.
وَوجه هَذَا القَوْل: أَنا نحمل الْأَمر الْمُطلق على مُطلق الرجحان،

(5/2204)


ونفيا للعقاب بالاستصحاب، وَلقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم "، فَرده إِلَى استطاعتنا؛ وَلِأَنَّهُ الْيَقِين؛ وَلِأَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة.
رد الأول بِأَن كل وَاجِب كَذَلِك، وَالثَّانِي: بِأَن الْإِبَاحَة أولى لتيقن نفي الْحَرج عَن الْفِعْل بِخِلَاف رُجْحَان جَانِبه.
الْمَذْهَب الثَّالِث: أَنه حَقِيقَة فِي الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا، أَي: الطّلب الْمُشْتَرك، أَي: مَوْضُوعَة للقدر الْمُشْتَرك بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب وَهُوَ الطّلب فَيكون من المتواطيء، اخْتَارَهُ الماتريدي من الْحَنَفِيَّة، لَكِن قَالَ:

(5/2205)


يحكم بِالْوُجُوب ظَاهرا فِي حق الْعَمَل احْتِيَاطًا دون الِاعْتِقَاد. انْتهى.
وَاسْتدلَّ لذَلِك بِأَن الشَّارِع أطلق، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة، وَيحسن الِاسْتِفْهَام، وَالتَّقْيِيد: أفعل وَاجِبا أَو ندبا.
رد: خلاف الأَصْل.
وَمنع أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَنَّهُ لَا يحسن الِاسْتِفْهَام كَمَا تقدم، وَبِأَنَّهُ يبطل بأسماء الْحَقَائِق، وَالتَّقْيِيد بِالْوُجُوب تَأْكِيد، وَبِغَيْرِهِ: قرينَة صارفة.
الْمَذْهَب الرَّابِع: أَنه {للاشتراك اللَّفْظِيّ} ، جزم بِهِ الرَّازِيّ فِي " الْمُنْتَخب "، وَصَاحب " التَّحْصِيل "، كِلَاهُمَا فِي بَاب الِاشْتِرَاك، فَيكون على هَذَا مُشْتَركا لَا متواطئا.

(5/2206)


الْمَذْهَب الْخَامِس: الْوَقْف، قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": قَالَ الْأَشْعَرِيّ والباقلاني وَغَيرهمَا بِالْوَقْفِ فيهمَا، أَي: فِي الِاشْتِرَاك أَو الِانْفِرَاد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ القَاضِي وَأَتْبَاعه: حَقِيقَة إِمَّا فِي الْوُجُوب وَإِمَّا فِي النّدب، وَإِمَّا فيهمَا بالاشتراك اللَّفْظِيّ، لَكنا لَا نَدْرِي مَا هُوَ الْوَاقِع من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة.
وَنَقله ابْن الْقطَّان عَن ابْن سُرَيج وَنسبه إِلَى الشَّافِعِي.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ أَيْضا: حكى الْهِنْدِيّ عَن القَاضِي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ التَّوَقُّف فِي أَنه حَقِيقَة فِي الْوُجُوب فَقَط أَو النّدب فَقَط، أَو فيهمَا بالاشتراك اللَّفْظِيّ أَو الْمَعْنَوِيّ، فَزَاد على القَوْل الَّذِي قبله أمرا رَابِعا.

(5/2207)


الْمَذْهَب السَّادِس: أَنه حَقِيقَة فِي الْإِبَاحَة؛ لِأَن الْجَوَاز مُطلق وَالْأَصْل عدم الطّلب.
الْمَذْهَب السَّابِع: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ فِي الثَّلَاثَة.
الْمَذْهَب الثَّامِن: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ فِي الثَّلَاثَة، وَهُوَ الْإِذْن فَيكون من المتواطيء، حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب والبرماوي وَغَيرهمَا، وَمَا علل بِهِ القَوْل بالاشتراك فِي الْمَذْهَب الثَّالِث يُعلل بِهِ هَهُنَا.
الْمَذْهَب التَّاسِع: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك فِيهِنَّ، وَفِي التهديد وَهُوَ قَول الشِّيعَة فَهُوَ قريب من قَول من قَالَ: إِنَّه مُشْتَرك فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة؛ لِأَن التهديد يدْخل تَحْتَهُ التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة لَكِن غاير بَعضهم بَين الْقَوْلَيْنِ.

(5/2208)


الْمَذْهَب الْعَاشِر: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك فِي الْأَرْبَعَة وَفِي الْإِرْشَاد، حَكَاهُ الْغَزالِيّ.
الْمَذْهَب الْحَادِي عشر: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة، حَكَاهُ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، وَكَأن المُرَاد بِالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَة، مَا تضمنه التهديد وَنسب إِلَى الْأَشْعَرِيّ.
الْمَذْهَب الثَّانِي عشر: هُوَ حَقِيقَة مَوْضُوع لوَاحِد من هَذِه الْخَمْسَة وَلَا نعلمهُ، نَقله فِي " الْبُرْهَان "، وَنسب إِلَى الْأَشْعَرِيّ أَيْضا.
فَإِن قيل: كَيفَ يسْتَعْمل لفظ الْأَمر فِي التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة؟
قيل: لِأَنَّهُ يسْتَعْمل فِي التهديد والمهدد عَلَيْهِ إِمَّا حرَام أَو مَكْرُوه كَمَا تقدم فِي أَنه مُشْتَرك فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة.
الْمَذْهَب الثَّالِث عشر: قَالَه الْأَبْهَرِيّ فِي بعض أَقْوَاله، حَكَاهُ عَنهُ تِلْمِيذه القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي " ملخصه " أَن أَمر الله تَعَالَى للْإِيجَاب، وَأمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُبْتَدَأ للنَّدْب، أَي: الَّذِي لَيْسَ مُوَافقا لنَصّ أَو بَيَانا لمجمل.

(5/2209)


وَحَكَاهُ القيرواني فِي " الْمُسْتَوْعب " عَن الْأَبْهَرِيّ أَيْضا فِي بعض أَقْوَاله، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه حَقِيقَة فِي النّدب، فَيكون لَهُ قَولَانِ.
الْمَذْهَب الرَّابِع عشر: اخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي ابْن منجا من أَصْحَابنَا: الْفرق بَين أَمر الشَّارِع وَغَيره فَأمر الشَّارِع للْوُجُوب دونه غَيره، وَبنى على ذَلِك من أخر دفع مَال أَمر بِدَفْعِهِ بِلَا عذر، قَالَ: لَا يضمن بِنَاء على اخْتِصَاص الْوُجُوب بِأَمْر الشَّارِع.
وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنه يضمن بِنَاء على الْقَاعِدَة.
قد سبق فِي آخر الْأَحْكَام إِذا نسخ الْوُجُوب أَو صرف الْأَمر عَن الْوُجُوب هَل يبْقى النّدب أَو غَيره؟ فَإِن لَهُ تعلقا بِهَذَا الْموضع ويذكره بَعضهم هُنَا.

(5/2210)


(قَوْله: {فصل} )

قَالَ الإِمَام {أَحْمد وَأكْثر الْأَصْحَاب، والأستاذ} أَبُو إِسْحَاق، {وَغَيرهم: الْأَمر بِلَا قرينَة} - أَي: الْأَمر الْمُطلق الَّذِي لَيْسَ مُقَيّدا بِمرَّة وَلَا تكْرَار - {للتكرار حسب الْإِمْكَان} .
ذكره ابْن عقيل مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَذكره الشَّيْخ مجد الدّين عَن أَكثر أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ.
قَالَ الْآمِدِيّ: وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء والمتكلمين.

(5/2211)


وَذكره ابْن برهَان عَن الْحَنَفِيَّة، وَحكي عَن الْمُزنِيّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم الْقزْوِينِي.
وَحكي عَن القَاضِي أبي بكر الباقلاني، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْغَزالِيّ فِي " المنخول " عَن أبي حنيفَة والمعتزلة، وَنَقله الْبَاجِيّ عَن ابْن خويزمنداد، وَحَكَاهُ ابْن الْقصار عَن مَالك: فَيجب اسْتِيعَاب الْعُمر بِهِ دون أزمنة قَضَاء الْحَاجة وَالنَّوْم، وضروريات الْإِنْسَان.

(5/2212)


وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَانِيَة: لَا يَقْتَضِي التّكْرَار إِلَّا بِقَرِينَة وَبلا قرينَة لَا يَقْتَضِيهِ، واختارها الشَّيْخ موفق الدّين والطوفي، وَهُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء، والمتكلمين، نَقله ابْن مُفْلِح، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، وَنَقله عَن الأقلين، وَرجحه الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَذكر أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي - من أَصْحَابنَا - أَنه قَول الإِمَام أَحْمد، وَأَن أَصْحَابه اخْتلفُوا، وَاخْتلف اخْتِيَار القَاضِي أبي يعلى من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فَتَارَة قَالَ بِالْأولِ، وَتارَة بِهَذَا، فعلى هَذَا القَوْل يُفِيد طلب الْمَاهِيّة من غير إِشْعَار بوحدة، وَلَا بِكَثْرَة إِلَّا أَنه لَا يُمكن [إِدْخَال] الْمَاهِيّة فِي الْوُجُود بِأَقَلّ من مرّة فَصَارَت الْمرة من ضروريات الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ لَا أَن الْأَمر يدل عَلَيْهَا بِذَاتِهِ، بل بطرِيق الْإِلْزَام.

(5/2213)


7
- {وَقيل: يَقْتَضِي فعل مرّة} بِلَفْظِهِ وَوَضعه، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَن أَكثر أَصْحَابهم، وَأبي حنيفَة، وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَعَن اخْتِيَار أبي الطّيب، وَأبي حَامِد.
قَالَ أَبُو حَامِد: وَهُوَ مُقْتَضى قَول الشَّافِعِي.
وَحَكَاهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " عَن أَكثر الْفُقَهَاء، والمتكلمين وَأَنه أقوى. انْتهى.
فعلى هَذَا القَوْل وَالَّذِي قبله {يحْتَمل الزَّائِد التّكْرَار، وَهُوَ الْأَشْهر للشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ} الْآمِدِيّ وَغَيره.
وَقيل: لَا يَقْتَضِي وَلَا يحْتَمل التّكْرَار، {اخْتَارَهُ كثير من الْحَنَفِيَّة} قَالَ السَّرخسِيّ: الْأَصَح عَن عُلَمَائهمْ لَا يحْتَملهُ.

(5/2214)


قَوْلنَا: {ووقف أَبُو الْمَعَالِي} ، أَي: وقف فِي الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخيرينِ وَهُوَ احْتِمَال التّكْرَار وَعَدَمه.
وَقَوْلنَا: {الْوَقْف مُطلقًا للباقلاني وَجمع} ، أَي: الْوَقْف فِي أصل الْمَسْأَلَة هَل يَقْتَضِي التّكْرَار، أَو الْمرة، أَو لَا يَقْتَضِي هَذَا، وَلَا هَذَا أَو لكَونه مُشْتَركا بَين الْمرة والتكرار؟
فَيُوقف إعماله فِي أَحدهمَا على قرينَة أَو لكَونه لأَحَدهمَا وَلَا نعرفه فَيتَوَقَّف لعدم علمنَا بالواقع.
ومنشأ الْخلاف اسْتِعْمَاله فيهمَا، كأمر الْحَج وَالْعمْرَة، وَأمر الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم، هَل هُوَ حَقِيقَة فيهمَا - لِأَن الأَصْل فِي الِاسْتِعْمَال الْحَقِيقَة -، أَو فِي أَحدهمَا؟ حذرا من الِاشْتِرَاك وَلَا نعرفه، أَو هُوَ التّكْرَار؛ لِأَنَّهُ الْأَغْلَب، أَو الْمرة؛ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقن، أَو فِي الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا حذرا من الِاشْتِرَاك وَالْمجَاز؟

(5/2215)


احْتج القَوْل الأول بِأَن النَّهْي يَقْتَضِي تكْرَار التّرْك، وَالْأَمر يَقْتَضِيهِ فَيَقْتَضِي تكْرَار ترك الْفِعْل؛ وَلِأَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه فَيَقْتَضِي تكْرَار ترك الضِّدّ.
وَأجِيب عَن الأول بِأَن الْأَمر يَقْتَضِي فعل الْمَاهِيّة، وَهُوَ حَاصِل بِفعل فَرد من أفرادها فِي زمن مَا، وَالنَّهْي يَقْتَضِي تَركهَا، وَلَا يحصل إِلَّا بترك جَمِيع أفرادها فِي كل زمَان فَافْتَرقَا.
وَعَن الثَّانِي بِمَنْع أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه، وَإِن سلم فَلَا يلْزم من ترك الضِّدّ الْمنْهِي عَنهُ التَّلَبُّس بالضد الْمَأْمُور بِهِ لجَوَاز أَن يكون للمنهي عَنهُ أضداد فيتلبس بِغَيْر الْمَأْمُور بِهِ مِنْهَا.
وَاسْتدلَّ للْأولِ بتكرار الصَّوْم وَالصَّلَاة.
رد: التّكْرَار فيهمَا بِدَلِيل، وعورض بِالْحَجِّ، وَأَيْضًا كالنهي؛ لِأَنَّهُمَا طلب.
[رد] قِيَاس فِي اللُّغَة وَبِأَن النَّهْي يَقْتَضِي النَّفْي، وَلِهَذَا لَو قَالَ: لَا يفعل كَذَا مرّة عَم، وَبِأَن التّكْرَار فِي النَّهْي لَا يمْنَع من فعل غَيره بِخِلَافِهِ فِي الْأَمر.

(5/2216)


وَأَيْضًا الْأَمر نهي عَن ضِدّه، وَالنَّهْي يعم فَيلْزم تكْرَار الْمَأْمُور بِهِ.
رد بِالْمَنْعِ، وَبِأَن النَّهْي الْمُسْتَفَاد من الْأَمر لَا يعم؛ لِأَن عُمُومه فرع عُمُوم الْآمِر.
وَأَيْضًا قَوْله لعَبْدِهِ: أكْرم فلَانا وَأحسن عشرته، أَو احفظ كَذَا للدوام، رد لقَرِينَة إكرامه وَحفظه.
وَلِأَنَّهُ يجب تكْرَار اعْتِقَاد الْوُجُوب، وعزم الِامْتِثَال، كَذَا الْفِعْل.
رد: لَو غفل بعد الِاعْتِقَاد والعزم جَازَ، وَبِأَنَّهُ وَجب بِإِخْبَار الشَّارِع أَنه يجب اعْتِقَاد أوامره فَمن عرف الْأَمر وَلم يعْتَقد وُجُوبه صَار مُكَذبا،
وبوجوبهما دون الْفِعْل فِي (افْعَل) مرّة وَاحِدَة.
وَأَيْضًا: " إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم ".
رد: مَفْهُومه: الْعَجز عَن بعضه لَا يسْقطهُ.
وَأَيْضًا: لَو لم يتَكَرَّر لم يرد نسخ.
رد هُوَ قرينَة.

(5/2217)


وَوجه الْمرة أَيْضا، لَو قَالَ: افْعَل كَذَا، فَفعله مرّة امتثل.
رد: لفعل الْمَأْمُور بِهِ؛ لِأَنَّهَا من ضَرُورَته، لَا أَن الْأَمر ظَاهر فِيهَا وَلَا فِي التّكْرَار.
وَمنع ابْن عقيل أَنه امتثل، وَأَنه دَعْوَى، فَقيل لَهُ: يحسن قَوْله: فعلت، فَقَالَ: للْعُرْف ووقوعه على شُرُوعه فِيهِ؛ وَلِهَذَا لَو أمره بتكراره لم يقبح مِنْهُ فِي الفعلة الْوَاحِدَة.
وَقَالَ: لَا يمْتَنع أَن يقف اسْم ممتثل على الخاتمة بِنَاء على مَسْأَلَة الموافاة.
قَالُوا: لَو كَانَ للتكرار كَانَ (صل) مرَارًا تكريرا وَمرَّة نقضا كَمَا تقدم.
رد: يُقَال مثله لَو كَانَ للمرة، وَحسن لرفع الِاحْتِمَال.
وَاحْتج الْفَرِيقَانِ بِحسن الِاسْتِفْهَام، وَمنع القَاضِي وَغَيره حسن الِاسْتِفْهَام، ثمَّ سلموه، قَالُوا: لَو قَالَ: طَلِّقِي نَفسك أَو طَلقهَا يَا فلَان، وَلَا نِيَّة فَوَاحِدَة.

(5/2218)


وَأجَاب القَاضِي بِأَن هَذَا فِي الشَّرْع وَالْخلاف فِي اللُّغَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
ورده أَبُو الْخطاب: بِأَن الشَّرْع لَا يُغير اللُّغَة بِدَلِيل طَلقهَا مَا أملكهُ.
وَأجَاب ابْن عقيل بِأَنَّهَا نِيَابَة فِي مَشْرُوع فتقيدت بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يطلقهَا فِي حيض وطهر وطِئت فِيهِ.
وَقَالَ: الْيَمين وَالْوكَالَة للْعُرْف، وَالْأَمر للْحَقِيقَة بِدَلِيل مَسْأَلَة الرؤوس الْمَشْهُورَة، يَعْنِي: فِي الْأَيْمَان.
وَوجه مَا فِي " الرَّوْضَة ": أَن مَدْلُول الْأَمر طلب الْفِعْل، والمرة والتكرار خارجان عَنهُ، وَإِلَّا لزم التّكْرَار أَو النَّقْض لَو قرن بِأَحَدِهِمَا، وَلم يبرأ بالمرة؛ وَلِأَنَّهُمَا صفتان للْفِعْل كالقليل وَالْكثير، وَلَا دلَالَة للموصوف على الصّفة، وَوجه الْوَقْف كَالَّتِي قبلهَا، وَالله أعلم.

(5/2219)


قَوْله: {وَلَو علق أَمر بِشَرْط أَو صفة فَإِن كَانَ عِلّة ثَابِتَة تكَرر بتكررها اتِّفَاقًا} ، قَالَه ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح وَغَيرهمَا.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَكَلَام أَصْحَابنَا يَقْتَضِيهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لاتباع الْعلَّة لَا لِلْأَمْرِ.
فَمَعْنَى هَذَا التّكْرَار أَنه كلما وجدت الْعلَّة وجد الحكم؛ لِأَنَّهُ إِذا وجدت الْعلَّة يتَكَرَّر الْفِعْل، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} [الْمَائِدَة: 6] ، {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} [الْمَائِدَة: 38] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] ، وَنَحْوهَا، فالجنابة عِلّة للطهر، وَالسَّرِقَة عِلّة للْقطع، وَالزِّنَا عِلّة للجلد.

(5/2220)


تَنْبِيه: فِي هَذِه الْمَسْأَلَة طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: أَن الْعلَّة الثَّابِتَة [يتَكَرَّر الْأَمر] بتكررها اتِّفَاقًا كَمَا تقدم، وَهِي طَرِيق ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَابْن السَّمْعَانِيّ، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، والصفي الْهِنْدِيّ، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم.
وَالطَّرِيق الثَّانِي: أَن الْخلاف جَار فِيهَا كَمَا لَو علق بِشَرْط أَو صفة وَلم تكن عِلّة ثَابِتَة وَهُوَ قَول الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه.
وَقد مثلُوا بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَعَ كَونهمَا عِلّة ثَابِتَة لذَلِك.
قَوْله: {وَإِلَّا فكالمسألة قبلهَا} فِيهَا الْخلاف الْمُتَقَدّم.

(5/2221)


يَعْنِي إِذا علق الْأَمر على غير عِلّة، أَي: على أَمر لم تثبت علته، مثل أَن يَقُول: إِذا دخل الشَّهْر فاعتق عبدا عَبِيدِي، فَهَل يَقْتَضِي التّكْرَار؟ هِيَ كالمسألة قبلهَا على مَا تقدم من الْخلاف.
قَالَ ابْن مُفْلِح: فَهِيَ كالمسألة الَّتِي قبلهَا عِنْد الْجَمِيع.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر.
{وَقَالَ القَاضِي، وَالْمجد، وحفيده، وَغَيرهم: يُفِيد التّكْرَار هُنَا} وَإِن لم يفد فِي الَّتِي قبلهَا كالنهي.
قَالَ ابْن الْقطَّان: قَالَ أَصْحَابنَا وَهُوَ أشبه بِمذهب الشَّافِعِي.
ونقلوا عَن الصَّيْرَفِي أَن الْأَظْهر على الْمَذْهَب التّكْرَار.
لنا على الأول مَا سبق، وَلَا أثر للشّرط بِدَلِيل قَوْله لعَبْدِهِ: إِن دخلت السُّوق فاشتر كَذَا، يمتثل بِمرَّة، وَإِن قُمْت فَأَنت طَالِق.

(5/2222)


قَوْلهم: (التَّرْتِيب يُفِيد الْعلية) رد: بِالْمَنْعِ بِمَا سبق.
وَاسْتدلَّ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره بِأَن تَعْلِيق الْخَبَر لَا يَقْتَضِي تكْرَار الْمخبر عَنهُ كَذَا هُنَا، وَهُوَ قِيَاس فِي اللُّغَة.
قَالُوا: أَكثر أوَامِر الشَّرْع: {إِذا قُمْتُم ... فَاغْسِلُوا} ، {يَا أَيهَا ... وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} ، {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} ، {الزَّانِيَة} الْآيَتَانِ.
رد فِي غير الْعلَّة بِدَلِيل خارجي؛ وَلذَلِك لم يتَكَرَّر الْحَج مَعَ تَعْلِيقه بالاستطاعة.
قَالُوا: تكَرر بِالْعِلَّةِ فبالشرط أولى لانْتِفَاء الْمَشْرُوط بانتفائه.
[رد] : الْعلَّة مقتضية لمعلولها، وَالشّرط لَا يَقْتَضِي مشروطه، وَيَأْتِي كَلَام ابْن عقيل.

(5/2223)


تَنْبِيه: إِذا علم ذَلِك فعلى هَذَا القَوْل وَهُوَ القَوْل بالتكرار هُنَا وَإِن لم يفد فِي الَّتِي قبلهَا، اخْتلفُوا فِي إِفَادَة التّكْرَار بِمَاذَا؟
فَقيل: أَفَادَ التّكْرَار من جِهَة اللَّفْظ، أَي: هَذَا اللَّفْظ وضع للتكرار، وَهُوَ قَول الْأَكْثَر.
وَقيل: أَفَادَ التّكْرَار من جِهَة الْقيَاس لَا اللَّفْظ، قَالَ الرَّازِيّ وَتَبعهُ الْبَيْضَاوِيّ: لَا يدل على التّكْرَار من جِهَة اللَّفْظ، بل من جِهَة الْقيَاس.
قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": هَذَا هُوَ الْمُخْتَار.
وَقَالَ ابْن عقيل: الْأَمر الْمُعَلق بمستحيل لَيْسَ أمرا، نَحْو: صل إِن كَانَ زيد متحركا سَاكِنا، فَهُوَ كَقَوْلِه: كن الْآن متحركا سَاكِنا.
قَوْله: {تَنْبِيه: من قَالَ بالتكرار قَالَ بالفور} ، يَعْنِي: من قَالَ: الْأَمر للتكرار قَالَ: هُوَ للفور أَيْضا.
وَاخْتلف غَيرهم، أَي: اخْتلف من قَالَ: إِن الْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار فَهَل يَقْتَضِي الْفَوْر أم لَا؟

(5/2224)


فَقَالَ {أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَبَعض الشَّافِعِيَّة} ، مِنْهُم: الصَّيْرَفِي، وَأَبُو حَامِد الْمروزِي، والدقاق، وَأَبُو الطّيب، وَجزم بِهِ الْمُتَوَلِي، وَنقل عَن الْمُزنِيّ، وَأهل الْعرَاق، وَقَالَهُ الظَّاهِرِيَّة: يَقْتَضِي الْفَوْر.
قَالَ القَاضِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

(5/2225)


حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة: إِنَّه الصَّحِيح من مَذْهَبهم، وَإِنَّمَا جَوَّزنَا تَأْخِير الْحَج بِدَلِيل خارجي.
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَنه لَا يَقْتَضِي الْفَوْر، وَقَالَهُ: أَكثر الشَّافِعِيَّة، نَقله الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور، وسليم الرَّازِيّ، وَنَصره الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والآمدي، والرازي.
وَأخذت هَذِه الرِّوَايَة عَن أَحْمد من قَوْله عَن قَضَاء رَمَضَان: يفرق، قَالَ الله تَعَالَى: {فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] ، وَقَالَهُ أَيْضا الجبائية، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزلي، وَذكر السَّرخسِيّ أَنه الَّذِي يَصح عِنْده من مَذْهَب عُلَمَائهمْ.

(5/2226)


فعلى هَذَا القَوْل، يَعْنِي القَوْل إِنَّه لَا يَقْتَضِي الْفَوْرِيَّة، هَل يعْتَبر الْعَزْم على فعله لجَوَاز تَأْخِيره، أم لَا يعْتَبر؟ حكمه حكم الْوَاجِب الموسع على مَا تقدم فِي أَوْقَات الصَّلَوَات الْخمس، نَقله ابْن مُفْلِح وَغَيره.
وَالصَّحِيح وجوب الْعَزْم.
{وَقيل: بِالْوَقْفِ لُغَة} ، قَالَه أَكثر الاشعرية، فَإِن بَادر امتثل.
وَقيل: بِالْوَقْفِ وَإِن بَادر، وَهُوَ ضَعِيف جدا، بل الْإِجْمَاع قبله خِلَافه، حَكَاهُ ابْن الصّباغ.
وَجه الأول بِأَنا نقطع بالفور إِذا قَالَ: اسْقِنِي.
رد ذَلِك: إِنَّمَا دلّ على الْفَوْرِيَّة لقَرِينَة حَاجَة طَالب المَاء إِلَيْهِ سَرِيعا عَادَة.
وَأَيْضًا: كل مخبر أَو منشئ فَالظَّاهِر قَصده الزَّمن الْحَاضِر، كقام زيد، وَأَنت طَالِق، أَو حرَّة.
رد ذَلِك: بِأَنَّهُ قِيَاس فِي اللُّغَة.
ورده فِي " التَّمْهِيد ": يتَبَيَّن بذلك أَن اللَّفْظ وضع للتعجيل.

(5/2227)


وَأَيْضًا الْأَمر نهي عَن ضِدّه وَالْأَمر طلب كالنهي، وَأَيْضًا: {مَا مَنعك أَلا تسْجد} [الْأَعْرَاف: 12] ذمه؛ إِذْ لم يُبَادر.
رد: لقَوْله: {فَإِذا سويته} [ص: 72] .
وَأَيْضًا: مُسْتَلْزم لِلْأَمْرِ لاستلزام الْوُجُوب إِيَّاه؛ لِأَن وجوب الْفِعْل مُسْتَلْزم لوُجُوب اعْتِقَاده على الْفَوْر؛ وَلِأَنَّهُ أحوط لِخُرُوجِهِ عَن الْعهْدَة إِجْمَاعًا، ولأثمه بِمَوْت.
رد: لَو صرح بِالتَّأْخِيرِ وَجب تَعْجِيل الِاعْتِقَاد لَا تَعْجِيل الْفِعْل فَلَا مُلَازمَة.
وَقيل للْقَاضِي: يجب الِاعْتِقَاد فِي: " صل بعد شهر لَا الْفِعْل.
فَأجَاب بِتَأْخِير الِاعْتِقَاد بِالشّرطِ، وَالِاحْتِيَاط اتِّبَاع مُوجب الظَّن، وَإِلَّا فَوَجَبَ التَّعْجِيل لمن ظن التَّرَاخِي حرَام.
ثمَّ لَا يلْزم من كَونه أحوط وُجُوبه.
وَأَيْضًا: لَو جَازَ التَّأْخِير فإمَّا إِلَى غَايَة مُعينَة مَعْلُومَة مَذْكُورَة - وَالْخلاف فِي الْأَمر الْمُطلق - أَو لَا، وَإِمَّا إِلَى ظن الْمَوْت، فَلَا يَنْضَبِط وَيَأْتِي بَغْتَة، أَو مُطلقًا: فمحال لإِخْرَاج الْوَاجِب عَن حَقِيقَته، وَإِمَّا بِبَدَل غير وَاجِب فَلَا يجوز إِجْمَاعًا، أَو وَاجِب فممتنع؛ لعدم دَلِيله، ولوجب إنباه النَّائِم أول

(5/2228)


الْوَقْت؛ حذرا من فَوَات الْبَدَل كضيق الْوَقْت، ولكان الْبَدَل محصلا مَقْصُود الْمُبدل، فَيسْقط الْمُبدل بِهِ، ولكان الْمُبدل إِمَّا أَن يجوز تَأْخِيره فَالْكَلَام فِيهِ كالمأمور بِهِ، وَهُوَ تسلسل مُمْتَنع، أَو لَا يجوز فيزيد الْبَدَل على أَصله.
رد: يلْزم لَو صرح بِجَوَاز التَّأْخِير.
وَجَوَابه: يجْرِي الدَّلِيل فِيهِ.
ورده فِي " الرَّوْضَة " بِأَنَّهُ يتناقض بِجَوَاز تَركه مُطلقًا. وَفِي " التَّمْهِيد ": لَا يتم الْوُجُوب مَعَ جَوَاز التَّأْخِير.
اعْترض على القَاضِي: بِالْأَمر بِالْوَصِيَّةِ عِنْد الْمَوْت للأقربين.
فَأجَاب: بِأَن الْمَوْت عَلَيْهِ أَمارَة، وبإمكان فعلهَا عِنْد الْمَوْت بِخِلَاف غَيرهَا.
وَأَيْضًا: {فاستبقوا الْخيرَات} [الْبَقَرَة: 148] وَالْأَمر للْوُجُوب.
رد: المسارعة إِلَى سَبَب الْخَيْر فَهِيَ دلَالَة اقْتِضَاء لَا تعم فَيخْتَص بِمَا يلْزم تَعْجِيله إِجْمَاعًا كالتوبة، ثمَّ المُرَاد الْأَفْضَلِيَّة وَإِلَّا فَلَا مسارعة لضيق وقته.

(5/2229)


وجوابهما بِالْمَنْعِ، والخيرات الْأَعْمَال الصَّالِحَة عِنْد الْمُفَسّرين، وَالْأَصْل لَا يقدر، وضيق الْوَقْت لَا يمْنَع المسارعة بِدَلِيل مَا يلْزم تَعْجِيله كالتوبة.
وَسلم بَعضهم الْفَوْر من (سارعوا) لَا من الْأَمر.
الْقَائِل لَا فَور: مَا سبق أَنه لَا يدل على تكْرَار وَلَا مرّة.
ورد بِالْمَنْعِ، بل يَقْتَضِيهِ بِلَفْظِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يخْتَص بمَكَان.
رد: بِالنَّهْي، ثمَّ بِالْمَنْعِ لفَوَات زمن، حَتَّى لَو قَالَ: اضْرِب رجلا اخْتصَّ بِمَا قرب مِنْهُ، ثمَّ: لَا مزية فِي الْأَشْخَاص فتساويا، ذكر ذَلِك فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره.
وَمَعْنَاهُ فِي " وَاضح ابْن عقيل ".
وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة ": بتساوي الْأَمْكِنَة بِخِلَاف الزَّمَان؛ وَلِأَنَّهُ يحسن الِاسْتِفْهَام.

(5/2230)


وَمنعه القَاضِي إِن كَانَ الْآمِر لَا يضع شَيْئا غير مَكَانَهُ، وكالوعد، كقضية الْحُدَيْبِيَة.
[رد] : بِأَن عمر تعجل فِيهَا الْوَعْد، ثمَّ بِالْفرقِ وَالْيَمِين كالوعد، ثمَّ مُقَيّدَة بِالْعرْفِ بِدَلِيل مَسْأَلَة الرؤوس، وَالْيَمِين على لبس أَو ركُوب يخْتَص بملبوس ومركوب عرفا.
تَنْبِيه: قَوْله: {وَيسْتَثْنى مِنْهُ} ، أَي: من مَحل الْخلال نَحْو: دع، واترك؛ فَإِنَّهُ فِي حكم النَّهْي، وَسَيَأْتِي أَن النَّهْي يَقْتَضِي التّكْرَار والفور، وَإِلَّا لم يَقع مِنْهُ امْتِثَال، وَكَذَا يَنْبَغِي فِي الْأَمر الكفي، وَهَذَا يفهم من ردهم على من قَالَ: إِن الْأَمر للفور كالنهي، وَالْفرق بَينهمَا عدم إِمْكَان الِامْتِثَال فِي النَّهْي إِلَّا بذلك فَافْتَرقَا، وَظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء عدم اسْتثِْنَاء ذَلِك من الْأَمر.

(5/2231)


(قَوْله: {فصل} )

{أَصْحَابنَا وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَغَيرهم: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه معنى لَا لفظا} ، أَي: من جِهَة الْمَعْنى لَا من جِهَة اللَّفْظ.
وَقَالَهُ الكعبي، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزلي، وَذكره أَبُو الْخطاب عَن الْفُقَهَاء، قَالَ القَاضِي وَغَيره: بِنَاء على أصلنَا أَن مُطلق الْأَمر الْفَوْر، وَعند الْمُعْتَزلَة لَيْسَ نهيا عَن ضِدّه بِنَاء على أصلهم فِي اعْتِبَار إِرَادَة الناهي وَلَيْسَت مَعْلُومَة، وَقطع بِهِ النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة " فِي كتاب الطَّلَاق؛

(5/2232)


لِأَن الْقَائِل: (اسكن) قد يكون غافلا عَن ضد السّكُون وَهُوَ الْحَرَكَة فَلَيْسَ عينه، وَلَا يتضمنه.
وَعند الأشعرية: الْأَمر معنى فِي النَّفس.
فَقَالَ بَعضهم: {هُوَ عين النَّهْي عَن ضِدّه الوجودي} ، وَهُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وَالْأَكْثَر.
قَالَ أَبُو حَامِد: بنى الْأَشْعَرِيّ ذَلِك على أَن الْأَمر لَا صِيغَة لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ معنى قَائِم بِالنَّفسِ، فَالْأَمْر عِنْدهم هُوَ نفس النَّهْي من هَذَا الْوَجْه فاتصافه بِكَوْنِهِ أمرا ونهيا كاتصاف الْكَوْن الْوَاحِد بِكَوْنِهِ قَرِيبا من شَيْء بَعيدا من شَيْء.
{و} قَالَ {ابْن الصّباغ، وَأَبُو الطّيب والشيرازي:} إِنَّه لَيْسَ عين النَّهْي، وَلكنه يتضمنه {ويستلزمه} من طَرِيق الْمَعْنى.
وَنقل عَن أَكثر أَصْحَابهم، وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَاخْتَارَهُ الباقلاني آخرا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ إِلَّا أَن نقُول بتكليف الْمحَال.

(5/2233)


وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: هُوَ مَذْهَب عَامَّة الْفُقَهَاء، وَنَقله عبد الْوَهَّاب عَن أَصْحَاب الشَّافِعِي، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَب أَصْحَابنَا وَإِن لم يصرحوا بِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، والكيا: إِنَّه لَيْسَ عين النَّهْي عَن ضِدّه وَلَا يَقْتَضِيهِ.
{و} للْقَاضِي أبي بكر {الباقلاني} الْأَقْوَال {الثَّلَاثَة} الْمُتَقَدّمَة.
{وَعند بعض الْحَنَفِيَّة يسْتَلْزم كَرَاهَة ضِدّه، و} عِنْد {الرَّازِيّ} فِي " الْمَحْصُول " {الْكَرَاهَة} ؛ لِأَن النَّهْي لما لم يكن مَقْصُودا سمي اقْتِضَاء؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ وَأثبت بِهِ أقل مَا أثبت بِالنَّهْي وَهُوَ الْكَرَاهَة.

(5/2234)


تَنْبِيه: قَوْلنَا: الوجودي هُوَ قيد فِي الْمَسْأَلَة؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ من لَوَازِم نقيض الشَّيْء الْمَأْمُور، كالأمر بالحركة هَل هِيَ نهي عَن نفس السّكُون الَّذِي هُوَ ضد لَهَا أم لَا؟
فَإِن لم يكن لَهُ إِلَّا ضد وَاحِد فَالْخِلَاف فِي النَّهْي عَنهُ: كَصَوْم يَوْم الْعِيد الْأَمر بِالْفطرِ فِيهِ نهي عَن ضِدّه وَهُوَ الصَّوْم.
وَمثله الْأَمر بِالْإِيمَان نهي عَن الْكفْر، وَإِن كَانَ لَهُ أضداد كالأمر بِالْقيامِ فَإِن لَهُ أضداد من قعُود وركوع وَسُجُود وَنَحْوهَا، فَفِي النَّهْي عَنهُ إِذا قُلْنَا نهي عَن ضِدّه أَو يستلزمه هَل المُرَاد جَمِيع الأضداد، أَو وَاحِد مِنْهَا لَا بِعَيْنِه؟ - فِيهِ خلاف - انْتهى.
وَجه القَوْل الأول فِي أصل الْمَسْأَلَة - وَهُوَ الصَّحِيح - أَمر الْإِيجَاب طلب فعل يذم تَاركه إِجْمَاعًا، وَلَا ذمّ إِلَّا على فعل وَهُوَ والكف عَنهُ أَو الضِّدّ، فيستلزم النَّهْي عَن ضِدّه، أَو النَّهْي عَن الْكَفّ عَنهُ.
رد: مَبْنِيّ على أَن الْأَمر يدل على الذَّم، لَا بِدَلِيل خارجي، وَإِن سلم فالذم على أَنه لم يفعل، لَا على فعل بِنَاء على أَن الْعَدَم مَقْدُور، وَإِن سلم فالنهي طلب كف عَن فعل لَا عَن كف، وَإِلَّا لزم تصور الْكَفّ عَن الْكَفّ لكل آمُر، وَالْوَاقِع خِلَافه.
وَفِيه نظر وَمنع؛ وَلِأَنَّهُ لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بترك ضِدّه فَيكون مَطْلُوبا،

(5/2235)


وَهُوَ معنى النَّهْي، وسبقت الْمَسْأَلَة.
وَاحْتج ابْن عقيل بِأَن عِنْد الْمُعْتَزلَة يَقْتَضِي الْأَمر إِرَادَة الْمَأْمُور بِهِ وَحسنه، فبتركه يَقْتَضِي ضدهما كَرَاهَته وقبحه وهما مقتضيان حظره.
وَلِأَن الْأَمر غير النَّهْي؛ لتغاير الصيغتين وَالْمعْنَى النَّفْسِيّ الْقَدِيم غير مُتحد، وَإِن اتَّحد فَإِنَّهُ يخْتَلف بتعلقه ومتعلقه فهما غيران؛ لتَعَدد الْحَادِث.
الْقَائِل: الْأَمر عين النَّهْي لَو لم يكن لَكَانَ ضدا أَو مثلا أَو خلافًا؛ لِأَنَّهُمَا إِن تَسَاويا فِي الذاتيات واللوازم فمثلان، وَإِلَّا فَإِن تنافيا بأنفسهما فضدان، وَإِلَّا فخلافان، وَلَيْسَ هُوَ بالأولين وَإِلَّا لما اجْتمعَا، وَلَا الثَّالِث وَإِلَّا فَجَاز أَحدهمَا مَعَ ضد الآخر، وَمَعَ خلاف الآخر؛ لِأَنَّهُ حكم الخلافين فالعلم والإرادة خلافان: يُوجد الْعلم مَعَ الْكَرَاهَة وَهِي ضد الْإِرَادَة وَخلاف الْمحبَّة، وتوجد الْإِرَادَة مَعَ الْجَهْل، والسخاء ضد الْعلم وخلافه، ويستحيل الْأَمر بِفعل مَعَ ضد النَّهْي عَن ضِدّه وَهُوَ الْأَمر بضده؛ لِأَنَّهُمَا نقيضان أَو تَكْلِيف بِغَيْر مُمكن.
رد: إِن أُرِيد بِطَلَب ترك الضِّدّ وَهُوَ معنى النَّهْي عنة طلب الْكَفّ عَنهُ

(5/2236)


فهما خلافان، ونمنع أَن حكم الخلافين مَا سبق فالمتضايفان متلازمان فيستحيل وجود أَحدهمَا مَعَ ضد الآخر لِاجْتِمَاع الضدين.
وَقد يكون كل من الخلافين ضدا لضد الآخر كالكاتب والضاحك كل مِنْهُمَا ضد للصاهل، فَيكون كل من الْأَمر بالشَّيْء وَالنَّهْي عَن ضِدّه ضدا لضده فَيمكن اجْتِمَاعهمَا.
وَإِن أُرِيد بترك ضِدّه عين الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ عَاد النزاع لفظيا فِي تَسْمِيَة الْفِعْل تركا، ثمَّ فِي تَسْمِيَة طلبه نهيا.
الْقَائِل بِالنَّفْيِ: لَو كَانَ عينه أَو يستلزمه لزم تعقل الضِّدّ والكف عَنهُ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوب النَّهْي وَيمْتَنع تعقل الشَّيْء بِدُونِ نَفسه أَو لَازمه ونقطع بِالطَّلَبِ مَعَ الذهول عَنْهُمَا.
ورد: المُرَاد الضِّدّ الْعَام، وَهُوَ ترك الْمَأْمُور بِهِ لَا الْخَاص وَهُوَ مَا يسْتَلْزم فعله ترك الْمَأْمُور، كَالْأَكْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاة والضد الْعَام متعقل؛ لِأَن الطّلب لَا يكون لموجود.
[رد] : المُرَاد طلبه فِي الْمُسْتَقْبل وَلَو سلم تعقل الضِّدّ فَعدم تعقل الْكَفّ وَاضح.

(5/2237)


رد: أَمر الْإِيجَاب لَا يتَحَقَّق بِغَيْر الْكَفّ عَن الضِّدّ الْعَام؛ لِأَنَّهُ طلب فعل مَعَ الْمَنْع من تَركه الْقَائِل (يستلزمه) ؛ لِأَنَّهُ طلب نفي فعل هُوَ عدم، وَالْأَمر طلب وجود فعل، وللزوم وجوب الزِّنَا وَنفي الْمُبَاح ولاستلزام أَمر الْإِيجَاب الذَّم على التّرْك، وَهُوَ فعل لاستلزام الذَّم على الْفِعْل، وَالنَّهْي: طلب كف عَن فعل فَلم يسْتَلْزم الْأَمر؛ لِأَنَّهُ طلب فعل.
قَوْله: {وَالنَّهْي إِن كَانَ لَهُ ضد وَاحِد فمأمور بِهِ قطعا} كالنهي عَن الْكفْر، فَإِنَّهُ أَمر بِالْإِيمَان، وَالنَّهْي عَن الصَّوْم؛ فَإِنَّهُ أَمر بالإفطار، وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {وَإِلَّا فكالأمر} ، يَعْنِي أَن النَّهْي عَن الشَّيْء إِذا كَانَ لَهُ أضداد فَحكمه حكم الْأَمر على مَا تقدم فِي أَن الْأَمر بِشَيْء معِين نهي عَن ضِدّه، وَتقدم الْخلاف فِي ذَلِك، فَكَذَا يكون الْخلاف هُنَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
{و} قَالَ {الْجِرْجَانِيّ} من الْحَنَفِيَّة: {لَيْسَ أمرا بِهِ} .

(5/2238)


{و} قَالَ {الْجَصَّاص} الْحَنَفِيّ: هُوَ {أَمر بضد} لَا بأضداد.
وَجزم الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " أَنه أَمر بالضد قطعا.
وَوَجهه: أَن دلَالَة النَّهْي عَن مُقْتَضَاهُ أقوى من دلَالَة الْأَمر على مُقْتَضَاهُ، فَإِن دَرْء الْمَفَاسِد مقدم على جلب الْمصَالح.
وَضعف أَبُو الْمَعَالِي هَذِه الطَّرِيقَة، وَقَالَ: يلْزم مِنْهَا القَوْل بِمذهب الكعبي فِي نفي الْمُبَاح فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يقدر مُبَاح إِلَّا وَهُوَ ضد مَحْظُور فَيكون وَاجِبا.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَحكى ابْن الْحَاجِب طَريقَة الْقطع على عكس الْمَذْكُورَة هُنَا، وَهُوَ أَنه لَيْسَ أمرا بالضد قطعا، ونازعه التَّاج السُّبْكِيّ فِي ثُبُوتهَا، وَقَالَ: إِنَّه لم يعثر على نقل، وَلم يتَّجه لَهُ عقل.
وَقَالَ غَيره: إِنَّه مَبْنِيّ على أَن النَّهْي طلب نفي الْفِعْل لَا طلب الْكَفّ عَنهُ الَّذِي هُوَ ضِدّه، كمذهب أبي هَاشم فَلَا يكون أمرا بالضد. انْتهى.

(5/2239)


وَلنَا خلاف فِي حنث من قَالَ: إِذا أَمرتك فخالفتيني فَأَنت طَالِق فَنَهَاهَا فخالفته وَلَا نِيَّة بِنَاء على ذَلِك. قلت: لنا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال.
أَحدهَا: وَهُوَ الصَّحِيح من الثَّلَاثَة أَنه لَا يَحْنَث، إِلَّا أَن يَنْوِي مُطلق الْمُخَالفَة.
اخْتَارَهُ أَبُو بكر، وَغَيره، وَقطع بِهِ فِي " الْوَجِيز "، و " منتخب الْآدَمِيّ " وَقدمه فِي " الْخُلَاصَة "، و " الشَّرْح " و " النّظم " و " الْفُرُوع " وَغَيرهمَا، قَالَ ابْن منجا فِي " شَرحه ": هَذَا الْمَذْهَب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا تطلق مُطلقًا، جزم بِهِ فِي " المنثور "، وَاخْتَارَهُ ابْن عَبدُوس فِي " تَذكرته "، وَقدمه فِي " الْمُحَرر " و " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " الْحَاوِي الصَّغِير ".
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: أَن لم يعرف حَقِيقَة الْأَمر وَالنَّهْي حنث وَهُوَ قوي.

(5/2240)


قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَلَعَلَّ هَذَا أقرب إِلَى الْفِقْه وَالتَّحْقِيق.
قَوْله: {وَأمر ندب كإيجاب عِنْد القَاضِي، وَغَيره} ، من أَصْحَابنَا {وَالْأَكْثَر: أَن قيل: مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَأمر النّدب كالإيجاب عِنْد الْجَمِيع إِن قيل مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة، وَذكره القَاضِي وَغَيره. انْتهى.
وَصرح بِهِ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَحمل النَّهْي عَن الضِّدّ فِي الْوُجُوب تَحْرِيمًا وَفِي النّدب تَنْزِيها.
قَالَ: وَبَعض أهل الْحق خصص ذَلِك بِأَمْر الْإِيجَاب لَا النّدب وَهُوَ مَا حَكَاهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب عَن الْأَشْعَرِيّ.

(5/2241)


{وَتقدم} حكم {الْإِجْزَاء فِي خطاب الْوَضع} ؛ لِأَن كثيرا من المصنفين يذكرُونَ الْمَسْأَلَة هُنَا فِي هَذَا الْمحل.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ: الأولى: المعلومات أَربع} ... إِلَى آخِره.
هَاتَانِ الفائدتان ذكرهمَا الْقَرَافِيّ فِي " التَّنْقِيح " و " شَرحه "، وَتَبعهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره، وهما مذكورتان فِيمَا تقدم فِي الْبَحْث فِي الْمسَائِل الْمُتَقَدّمَة؛ فَلهَذَا أفردتهما بِالذكر.
قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": دَلِيل الْحصْر أَن المعلومين إِمَّا أَن يُمكن اجْتِمَاعهمَا أَو لَا، فَإِن أمكن اجْتِمَاعهمَا فهما الخلافان كالحركة وَالْبَيَاض، وَإِن لم يُمكن اجْتِمَاعهمَا فإمَّا أَن يُمكن ارتفاعهما، أَو لَا، الثَّانِي النقيضان، كوجود زيد وَعَدَمه، وَالْأول لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يختلفا فِي الْحَقِيقَة أم لَا.
الأول: الضدان كسواد وَبَيَاض؛ لاخْتِلَاف الْحَقِيقَة.
وَالثَّانِي: المثلان كبياض وَبَيَاض، ثمَّ قَالَ: سُؤال: كَيفَ يُقَال فِي حد الضدين إِنَّه يُمكن ارتفاعهما، وَالْحَرَكَة والسكون ضدان لَا يُمكن ارتفاعهما عَن الْجِسْم، والحياة وَالْمَوْت لَا يُمكن ارتفاعهما عَن الْحَيَوَان، وَالْعلم وَالْجهل لَا يُمكن ارتفاعهما عَن الْحَيّ؟
وَجَوَابه: أَن إِمْكَان الِارْتفَاع أَعم من إِمْكَان الِارْتفَاع مَعَ بَقَاء الْمحل، فَنحْن نقُول: يُمكن ارتفاعهما من حَيْثُ الْجُمْلَة وهما مُمكنا الرّفْع مَعَ ارْتِفَاع الْمحل، فَقيل للمحل: الْعَالم لَا متحرك، وَلَا سَاكن، وَلَا من الْعَالم حَيّ وَلَا ميت، وَلَا عَالم وَلَا جَاهِل فصح الْحَد.

(5/2242)


فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: الخلافان قد يتَعَذَّر ارتفاعهما لخُصُوص حَقِيقَة غير كَونهمَا خلافين كذات وَاجِب الْوُجُود، - سُبْحَانَهُ - مَعَ صِفَاته، وَقد يتَعَذَّر افتراقهما كالعشرة مَعَ الزَّوْجِيَّة خلافان ويستحيل افتراقهما، والخمسة مَعَ الفردية، والجوهر مَعَ الأكوان، وَهُوَ كثير، وَلَا تنَافِي بَين إِمْكَان الِافْتِرَاق والارتفاع بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّات، وَتعذر الِارْتفَاع بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَمر خارجي عَنْهُمَا.
الثَّانِيَة: حصر المعلومات فِي هَذِه الْأَرْبَعَة كلهَا حَتَّى لَا يخرج مِنْهَا شَيْء إِلَّا مَا توَحد الله تَعَالَى بِهِ وَتفرد بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ ضد الشَّيْء، وَلَا نقيضا، وَلَا مثلا، وَلَا خلافًا لتعذر الرّفْع، وَهَذَا حكم عَام فِي صِفَاته العلى وذاته لتعذر رَفعهَا بِسَبَب وجوب وجودهَا.
قَوْله: {الثَّانِيَة: الْحَقَائِق الْأَرْبَعَة} - أَي: نِسْبَة الْحَقَائِق بَعْضهَا إِلَى بعض أَرْبَعَة - متساويان ... إِلَى آخِره.
هَذَا أَيْضا أخذناه من كَلَام الْقَرَافِيّ، فَقَالَ: دَلِيل الْحصْر أَن المعلومين إِمَّا أَن يجتمعا أَو لَا، الثَّانِي المتباينان، وَالْأول لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي جَمِيع موارد الآخر، أَو لَا.
الأول المتساويان، وَالثَّانِي إِن صدق أَحدهمَا فِي كل موارد الآخر من غير عكس فَهُوَ الْأَعَمّ مُطلقًا، وَإِلَّا فَهُوَ الْأَعَمّ من وَجه، والأخص من وَجه،

(5/2243)


وَقد مثلهَا بِهَذِهِ الْأَمْثِلَة الْفِقْهِيَّة؛ لِأَنَّهَا أقرب لطلبة الْعلم، وَكنت قد تابعته فِي الْأَمْثِلَة كلهَا، مِنْهَا الرَّابِع: وَهُوَ النِّكَاح وَملك الْيَمين، ثمَّ أضربت عَنهُ؛ لِأَن مَذْهَبنَا أَنه لَا يجْتَمع النِّكَاح وَملك الْيَمين، فَحَيْثُ وجد ملك الْيَمين امْتنع النِّكَاح، وَحَيْثُ وجد النِّكَاح امْتنع ملك الْيَمين، فمثلت بمثال يُوَافق مَذْهَبنَا فمثلت بِالْوضُوءِ وَالتَّيَمُّم فِي صُورَة، وَهُوَ صِحَة إِفْرَاد التَّيَمُّم عِنْد الْعَدَم، أَو الْعَجز عَن اسْتِعْمَاله، وَصِحَّة الْوضُوء لشرطه واجتماعهما فِيمَا إِذا غمس يَده فِي الْإِنَاء قبل غسلهَا ثَلَاثًا، وَلَيْسَ عِنْده غَيره، فَإِنَّهُ يتَوَضَّأ بِهِ، وَيتَيَمَّم مَعَه على الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
ويمثل أَيْضا ذَلِك بالموارد الْعَقْلِيَّة فالمتساويان كالإنسان والضحك بِالْقُوَّةِ، يلْزم من وجود كل وَاحِد مِنْهُمَا وجود الآخر وَمن عَدمه عدمُه، فَلَا إِنْسَان إِلَّا وَهُوَ ضَاحِك بِالْقُوَّةِ، وَلَا ضَاحِك بِالْقُوَّةِ إِلَّا وَهُوَ إِنْسَان.
ونعني بِالْقُوَّةِ كَونه قَابلا وَلَو لم يَقع، ويقابله الضاحك بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْمُبَاشر للضحك.
والمتباينان كالإنسان، وَالْفرس، فَمَا هُوَ إِنْسَان لَيْسَ بفرس، وَمَا هُوَ فرس فَلَيْسَ بِإِنْسَان، فَيلْزم من صدق أَحدهمَا على مَحل عدم صدق الآخر.
والأعم مُطلقًا [والأخص مُطلقًا] كالحيوان وَالْإِنْسَان فالحيوان صَادِق على جَمِيع أَفْرَاد الْإِنْسَان فَلَا يُوجد إِنْسَان بِدُونِ الحيوانية أَلْبَتَّة.

(5/2244)


والأعم من وَجه ضابطه: أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي صُورَة وينفرد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِصُورَة، كالحيوان والأبيض فَإِن الْحَيَوَان يُوجد بِدُونِ الْأَبْيَض فِي السودَان، وَيُوجد الْأَبْيَض بِدُونِ الْحَيَوَان فِي الْحجر الْأَبْيَض وَغَيره كالثلج مِمَّا لَيْسَ بحيوان، ويجتمعان فِي الْحَيَوَانَات فِي الْبيض، فَلَا يلْزم من وجود الْأَبْيَض وجود الْحَيَوَان، وَلَا من وجود الْحَيَوَان وجود الْأَبْيَض، وَلَا من عدم أَحدهمَا عدم الآخر، فَلَا جرم لَا دلَالَة فيهمَا مُطلقًا لَا فِي وجوده وَلَا فِي عَدمه بِخِلَاف الْأَعَمّ مُطلقًا، يلْزم من عدم الْحَيَوَان عدم الْإِنْسَان، وَمن وجود الْإِنْسَان الَّذِي هُوَ أخص وجود الْحَيَوَان، وَلَا يلْزم من عدم الْأَخَص عدم الْأَعَمّ؛ لِأَن الْحَيَوَان قد يبْقى مَوْجُودا فِي الْفرس وَغَيره من الْأَنْوَاع.
ففائدة هَذِه الْقَاعِدَة: الِاسْتِدْلَال بِبَعْض الْحَقَائِق على بعض.
والتمثيل فِي المتساويين بِالرَّجمِ وزنا الْمُحصن بِنَاء على اللائط لَا يرْجم، أما لَو فرعنا على أَنه يرْجم كَانَ الرَّجْم أَعم من الزِّنَا عُمُوما مُطلقًا كالغسل والإنزال الْمُعْتَبر فَإِن الْغسْل أَعم مُطلقًا؛ لوُجُوده بِدُونِ الْإِنْزَال فِي انْقِطَاع دم الْحيض، والتقاء الختانين وَغير ذَلِك من أَسبَاب الْغسْل. انْتهى.
قلت: الصَّحِيح من مَذْهَبنَا أَن حد اللوطي كَحَد الزَّانِي سَوَاء، فَيحْتَاج إِلَى مِثَال غير ذَلِك.

(5/2245)


(قَوْله: {فصل} )

{أَحْمد، وَمَالك، وأصحابهما، وَالشَّافِعِيّ، وَالْأَكْثَر: الْأَمر بعد الْحَظْر للْإِبَاحَة} ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور.
وَمحل ذَلِك: إِذا فرعنا على أَن اقْتِضَاء الْأَمر الْوُجُوب فورد بعد حظر فَفِيهِ هَذَا الْخلاف.
وَالصَّحِيح أَنه للْإِبَاحَة حَقِيقَة؛ لتبادرهما إِلَى الذِّهْن فِي ذَلِك؛ لعلية اسْتِعْمَاله فِيهَا حِينَئِذٍ، والتبادر عَلامَة للْحَقِيقَة.

(5/2246)


وَأَيْضًا: فَإِن النَّهْي يدل على التَّحْرِيم فورود الْأَمر بعده يكون لرفع التَّحْرِيم وَهُوَ الْمُتَبَادر، فالوجوب أَو النّدب زِيَادَة لَا بُد لَهَا من دَلِيل.
فَمن اسْتِعْمَاله بعد الْحَظْر للْإِبَاحَة قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [الْمَائِدَة: 2] ، {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} [الْجُمُعَة: 10] ، {فَإِذا تطهرن فأتوهن} [الْبَقَرَة: 222] .
وَأَيْضًا عرف الشَّرْع، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه} [النِّسَاء: 4] ، {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 4] .
وَقَوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي فادخروها "، وَالْأَصْل عدم دَلِيل سوى الْحَظْر، وَالْإِجْمَاع حَادث بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَكَقَوْلِه لعَبْدِهِ: لَا تَأْكُل هَذَا، ثمَّ يَقُول: كُله.
وَاعْترض بقوله: لَا تقتل هَذَا، ثمَّ يَقُول: اقتله، للْإِيجَاب.

(5/2247)


رد: بِالْمَنْعِ فِي قَوْلنَا وَهُوَ ظَاهر قَول غَيرنَا ثمَّ الْخلاف فِي حظر أَفَادَهُ النَّهْي، اعْتمد عَلَيْهِ فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، و " الْوَاضِح " مَعَ قَول القَاضِي وَأبي الْفرج الْمَقْدِسِي لما قيل لَهما: يلْزم أَن جَمِيع الْأَوَامِر للْإِبَاحَة على قَوْلكُم - أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْحَظْر - بِأَنَّهَا مَسْأَلَة خلاف، وَكَذَا فِي " التَّمْهِيد "، وَفِيه: هِيَ مُبَاحَة فِي وَجه فَالْأَمْر بعد الْحَظْر يرفعهُ وَيعود إِلَى أصل الْإِبَاحَة.
وَكَذَا احْتج ابْن عقيل على من جعلهَا للْإِبَاحَة بِأَن الْأَمر يرفع الْحَظْر فَيَعُود إِلَى الأَصْل فَقَالَ: عندنَا لَيْسَ بِأَمْر بل إِبَاحَة، وَمن لقب الْمَسْأَلَة بِالْأَمر فلصيغته.
وَقَالَ: إِن جعلناها للْإِبَاحَة فَالْأَمْر يعد إِبَاحَة، وَإِن جعلناها للحظر فَلَيْسَ بحظر نطقي، وَفرق بَينهمَا بِدَلِيل النّسخ لحكم ثَبت نطقا.
قَالُوا: لَو منع الْحَظْر الْوُجُوب منع التَّصْرِيح بِهِ، وَلم يخْتَص الْأَمر بِصِيغَة (افْعَل) .

(5/2248)


رد: الصَّرِيح لَا يحْتَمل تغيره، وَلَا يخْتَص فِي ظَاهر كَلَام الْأَكْثَر.
وَقَالَهُ فِي " الرَّوْضَة "، ثمَّ اخْتصَّ؛ لِأَن الْعرف فِيهَا.
قَالَ الْمجد: عِنْدِي أَنه الْمَذْهَب، وَقَالَهُ قوم.
{وَذهب القَاضِي} أَبُو يعلى، {وَأَبُو الطّيب} الطَّبَرِيّ، {و} أَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، و} الْفَخر {الرَّازِيّ} ، وَأَتْبَاعه، وَصدر الشَّرِيعَة من الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه {كالأمر ابْتِدَاء} .
وَاسْتدلَّ للْوُجُوب بقوله تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] .

(5/2249)


وَالْجَوَاب عِنْد ذَلِك عَن الْقَائِل بِالْإِبَاحَةِ: أَن الْمُتَبَادر غير ذَلِك، وَفِي الْآيَة إِنَّمَا علم بِدَلِيل خارجي.
{و} ذهب {أَبُو الْمَعَالِي وَالْغَزالِيّ} فِي " المنخول "، وَابْن الْقشيرِي {والآمدي} ، وَغَيرهم إِلَى {الْوَقْف} فِي الْإِبَاحَة وَالْوُجُوب لتعارض الْأَدِلَّة.
وَذهب القَاضِي الْحُسَيْن من الشَّافِعِيَّة إِلَى الِاسْتِحْبَاب، وَمثله بقوله تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} [النُّور: 33] .
قَالَ الشَّافِعِي: هُوَ للاستحباب، وَإِنَّمَا ذَلِك من الْأَمر بعد الْحَظْر؛ لِأَن بيع الْإِنْسَان مَاله من مَاله مُمْتَنع بِلَا شكّ.
قلت: على الصَّحِيح من مَذْهَبنَا اسْتِحْبَاب الْكِتَابَة باجتماع الشَّرْط فِيهَا، وَعنهُ أَنَّهَا وَاجِبَة إِذا ابتاعها من سَيّده أجبر عَلَيْهَا

(5/2250)


بِقِيمَتِه، اخْتَارَهُ أَبُو بكر من أَصْحَابنَا.
قَالَ الكوراني فِي " شَرحه ": لم يذكر فِي " جمع الْجَوَامِع " القَوْل بالندب، وَذكره صَاحب " التَّلْوِيح "، وَأسْندَ إِلَى سعيد بن جُبَير أَن الْإِنْسَان إِذا انْصَرف من الْجُمُعَة ندب لَهُ أَن يساوم شَيْئا وَلَو لم يشتره. انْتهى.
{وَذهب الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، وَجمع - وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْقفال الشَّاشِي - والبلقيني {أَنه كَمَا قبل الْحَظْر} فَهُوَ لدفع الْحَظْر السَّابِق وإعادة حَال الْفِعْل إِلَى مَا كَانَ قبل الْحَظْر، فَإِن كَانَ مُبَاحا كَانَت للْإِبَاحَة نَحْو: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} ، أَو وَاجِبا كَانَت للْوُجُوب، نَحْو: {فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله} ، إِذا قُلْنَا بِوُجُوب الْوَطْء، وَنسب إِلَى الْمُزنِيّ، {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَعَلِيهِ يخرج {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم} الْآيَة. {وَقَالَ: هُوَ الْمَعْرُوف عَن السّلف وَالْأَئِمَّة} . انْتهى.

(5/2251)


{وَقيل: للْوُجُوب إِن كَانَ بِلَفْظ (أَمرتك، وَأَنت مَأْمُور) قَالَ الْمجد بن تَيْمِية: هَذَا عِنْدِي الْمَذْهَب} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الصَّرِيح لَا يحْتَمل تغيره بِقَرِينَة، وَلَا يخْتَص فِي ظَاهر كَلَام الْأَكْثَر، كَمَا تقدم فِي الْبَحْث.
تَنْبِيه: قَالَ الكوراني: هَذَا الْخلاف إِنَّمَا هُوَ عِنْد انْتِفَاء الْقَرِينَة، وَأما عِنْد وجودهَا فَيحمل على مَا يُنَاسب الْمقَام بِلَا خلاف. انْتهى.
قَوْله: {وَالْأَمر بعد الاسْتِئْذَان للْإِبَاحَة، قَالَه القَاضِي وَابْن عقيل} ، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن الْأَصْحَاب، قَالَ: لَا فرق بَين الْأَمر بعد الْحَظْر، وَبَين الْأَمر بعد الاسْتِئْذَان.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": إِذا فرعنا على أَن الْأَمر الْمُجَرّد للْوُجُوب فَوجدَ أَمر بعد اسْتِئْذَان فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوب بل الْإِبَاحَة، ذكره القَاضِي مَحل وفَاق، قلت: وَكَذَا ابْن عقيل.

(5/2252)


ثمَّ قَالَ: وَإِطْلَاق جمَاعَة: ظَاهره يَقْتَضِي الْوُجُوب، مِنْهُم: الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " فَإِنَّهُ جعل الْأَمر بعد الْحَظْر والاستئذان، الحكم فيهمَا وَاحِد، وَاخْتَارَ أَن الْأَمر بعد الْحَظْر للْوُجُوب، فَكَذَا بعد الاسْتِئْذَان عِنْده. انْتهى.
فَإِذا علم ذَلِك لَا يَسْتَقِيم قَول القَاضِي وَابْن عقيل لما استدلا على نقض الْوضُوء بِلَحْم الْإِبِل بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي مُسلم، لما سُئِلَ عَن التَّوَضُّؤ من لُحُوم الْإِبِل، فَقَالَ: نعم تَوَضَّأ من لُحُوم الْإِبِل.
وَمِمَّا يُقَوي الْإِشْكَال أَن فِي الحَدِيث الْأَمر بِالصَّلَاةِ فِي مرابض الْغنم، وَهُوَ بعد سُؤال، وَلَا يجب بِلَا خلاف، بل وَلَا يسْتَحبّ.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلم يستحبون الْوضُوء مِنْهُ؟ والاستحباب حكم شَرْعِي يفْتَقر إِلَى دَلِيل وَعِنْدهم هَذَا الْأَمر يَقْتَضِي الْإِبَاحَة.
قلت: إِذا قيل باستحبابه فلدليل غير هَذَا الْأَمر، وَهُوَ أَن الْأكل من لُحُوم الْإِبِل يُورث قُوَّة نارية فيناسب أَن تطفأ بِالْمَاءِ كَالْوضُوءِ عِنْد الْغَضَب، وَلَو كَانَ الْوضُوء من أكل لحم الْإِبِل وَاجِبا على الْأمة، وَكلهمْ كَانُوا يَأْكُلُون لحم الْإِبِل لم يُؤَخر بَيَان وُجُوبه، حَتَّى يسْأَله سَائل فَيُجِيبهُ، فَعلم أَن مَقْصُوده أَن الْوضُوء من لحومها مَشْرُوع، وَهُوَ حق، وَالله أعلم.

(5/2253)


وَقد يُقَال: الحَدِيث إِنَّمَا ذكر فِيهِ بَيَان وجوب مَا يتَوَضَّأ مِنْهُ بِدَلِيل أَنه لما سُئِلَ عَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم، قَالَ: " إِن شِئْت فَتَوَضَّأ وَإِن شِئْت فَلَا تتوضأ " مَعَ أَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم مُبَاح، فَلَمَّا خير فِي لحم الْغنم، وَأمر بِالْوضُوءِ من لحم الْإِبِل، دلّ على أَن الْأَمر لَيْسَ هُوَ لمُجَرّد الْإِذْن، بل للطلب الْجَازِم. انْتهى.
قلت: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمد فِي الْمَذْهَب، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَمثله الْأَمر بماهية مَخْصُوصَة بعد سُؤال تَعْلِيم} .
وَفِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": الْأَمر بماهية مَخْصُوصَة بعد سُؤال تَعْلِيم كالأمر بعد الاسْتِئْذَان فِي الْأَحْكَام وَالْمعْنَى، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَقِيم اسْتِدْلَال الْأَصْحَاب على وجوب الصَّلَاة على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّشَهُّد الْأَخير بِمَا ثَبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قيل لَهُ: يَا رَسُول الله، قد علمنَا كَيفَ نسلم عَلَيْك فَكيف نصلي عَلَيْك؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد ... " الحَدِيث.

(5/2254)


نعم إِن ثَبت الْوُجُوب من خَارج فَيكون هَذَا الْأَمر للْوُجُوب؛ لِأَنَّهُ بَيَان لكيفية وَاجِبَة، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَالْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كالأمر، قَالَه الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، {وَغَيره} .
هَذِه الْمَسْأَلَة وَقعت بَين الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَبَين الشَّيْخ ابْن الزملكاني، وَهِي: أَن صِيغَة الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر وَالنَّهْي، هَل يجْرِي فيهمَا الْخلاف الَّذِي فِي الْأَمر وَالنَّهْي فِي كَونهمَا حَقِيقَة فِي الْوُجُوب، وَالتَّحْرِيم وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا أَحْكَام الْأَمر، وَالنَّهْي الصريحين، أم لَا؟
ذكر ابْن دَقِيق الْعِيد فِيهَا احْتِمَالَيْنِ من عِنْده، وَلم يرجح شَيْئا.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: يجْرِي الْخلاف فِي ذَلِك.
قَالَ ابْن الزملكاني: لَا يجْرِي فِيهِ شَيْء من ذَلِك، إِنَّمَا ذَلِك فِي الصِّيغَة الْأَصْلِيَّة، قَالَ: فدعوى خلاف ذَلِك مُكَابَرَة.

(5/2255)


وَقَالَ: ويغلط فِي ذَلِك كثير من الْفُقَهَاء، ويغترون بِإِطْلَاق الْأُصُولِيِّينَ، فَيدْخلُونَ فِيهِ كلما أَفَادَ أمرا، أَو نهيا، وَإِن لم يكن فِيهِ الْأَمر، أَو النَّهْي من الْمُحَقق.
وأيد بعض الْعلمَاء قَول الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بقول الْقفال.
وَمن الدَّلِيل على أَن ذَلِك مَعْنَاهُ، وَأَن ذَلِك كُله كالأمر وَالنَّهْي: دُخُول النّسخ فِيهِ إِذْ الْأَخْبَار الْمَحْضَة لَا يدخلهَا النّسخ؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ خَبرا لم يُوجد خِلَافه.
قَالَ: وَمن هَذَا عِنْد أَصْحَابنَا قَوْله تَعَالَى: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79] ، واستند بَعضهم فِي ذَلِك لقَوْل البيانيين، وَغَيرهم إِن ذَلِك أبلغ من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي، فَيَنْبَغِي أَن يكون للْوُجُوب قطعا.
وَأجِيب عَن ذَلِك ... ، قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما تكلم على الْأَمر: وَظَاهر الْمَسْأَلَة أَن الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كَذَلِك ك {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228] ، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يحْتَمل النّدب؛ لِأَنَّهُ إِذن، إِنَّه كالمحقق المستمر. انْتهى.

(5/2256)


قَوْله: {وَالنَّهْي بعد الْأَمر للتَّحْرِيم، قَالَه القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، والحلواني، والموفق، والطوفي} ، وَالْأَكْثَر، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول "، والأستاذ أَبُو إِسْحَاق، والباقلاني، وحكياه إِجْمَاعًا، لَكِن قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: مَا أرى الْمُخَالفين فِي الْأَمر بعد الْحَظْر يسلمُونَ ذَلِك. انْتهى.
{وَقَالَ أَبُو الْفرج} الْمَقْدِسِي: {للكراهة} ، فَقَالَ: وَتقدم الْوُجُوب قرينَة فِي أَن النَّهْي بعده للكراهة، وَقطع بِهِ.
وَقَالَهُ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، ثمَّ سلما أَنه للتَّحْرِيم؛ لِأَنَّهُ آكِد.

(5/2257)


وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": هُوَ لإباحة التّرْك كَقَوْلِه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " وَلَا تتوضأوا من لُحُوم الْغنم "، ثمَّ سلم أَنه للتَّحْرِيم.
وَكَذَا اخْتَار ابْن عقيل: يَقْتَضِي إِسْقَاط مَا أوجبه الْأَمر، وَأَنه وزان الْإِبَاحَة بعد الْحَظْر؛ لإخراجهما عَن جَمِيع أقسامهما.
وَغلط مَا حَكَاهُ قَول أَصْحَابنَا للتنزيه فضلا عَن التَّحْرِيم، وَقَالَ: تأكده لَا يزِيد على مُقْتَضى الْأَمر، وَقد جعلُوا تقدم الْحَظْر قرينَة.
{وَقيل: للْإِبَاحَة} ، كالقول فِي مَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِن سَأَلتك عَن شَيْء بعْدهَا فَلَا تُصَاحِبنِي} [الْكَهْف: 76] .
ووقف أَبُو الْمَعَالِي لتعارض الْأَدِلَّة، كَمَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر، فعلى الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - وَقَول الْجُمْهُور، وَفرق بَينه وَبَين الْأَمر بأوجه:
أَحدهَا: أَن مُقْتَضى النَّهْي وَهُوَ التّرْك مُوَافق للْأَصْل بِخِلَاف مُقْتَضى الْأَمر وَهُوَ الْفِعْل.
الثَّانِي: أَن النَّهْي لدفع مفْسدَة الْمنْهِي عَنهُ، وَالْأَمر لتَحْصِيل مصلحَة الْمَأْمُور بِهِ، واعتناء الشَّارِع بِدفع الْمَفَاسِد أَشد من جلب الْمصَالح.

(5/2258)


الثَّالِث: أَن القَوْل بِالْإِبَاحَةِ فِي الْأَمر بعد التَّحْرِيم سَببه وُرُوده فِي الْقُرْآن وَالسّنة كثيرا للْإِبَاحَة، وَهَذَا غير مَوْجُود فِي النَّهْي بعد الْوُجُوب. انْتهى.
وَترْجم الْبرمَاوِيّ الْمَسْأَلَة بِأَن صِيغَة النَّهْي إِذا وَردت فِي شَيْء قد كَانَ وَاجِبا إِلَى حِين وُرُودهَا، هَل يكون سبق الْوُجُوب قرينَة تبين أَن النَّهْي خرج عَن حَقِيقَته - وَهُوَ التَّحْرِيم - أَو لَا؟
وَهِي مَبْنِيَّة على مَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر.
إِن قُلْنَا: يسْتَمر على الْوُجُوب فَهُنَا يسْتَمر على التَّحْرِيم من بَاب أولى، وَإِن قُلْنَا هُنَاكَ قرينَة فَهُنَا طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: الْقطع بِعَدَمِ كَون الْوُجُوب السَّابِق قرينَة صارفة عَن التَّحْرِيم.
وَالثَّانِي: طرد مَا يُمكن طرده من خلاف الْأَمر كالقول بِأَنَّهُ للْإِبَاحَة. وَمِنْهُم من قَالَ هُنَا: إِنَّه للكراهة، وَمِنْهُم من قَالَ: لدفع الْوُجُوب فَيكون نسخا، وَيعود الْأَمر إِلَى مَا كَانَ قبله. انْتهى.

(5/2259)


(قَوْله: فصل)

{الْأَمر بِعبَادة فِي وَقت مُقَدّر إِذا فَاتَ عَنهُ فالقضاء بِالْأَمر الأول} فِي الْأَشْهر.
اخْتَارَهُ {القَاضِي، والحلواني، والموفق، وَابْن حمدَان} ، والطوفي {وَغَيرهم} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " فِي بَاب الْحيض: يمْنَع الْحيض الصَّوْم إِجْمَاعًا، وتقتضيه إِجْمَاعًا هِيَ وكل مَعْذُور بِالْأَمر السَّابِق، لَا بِأَمْر جَدِيد فِي الْأَشْهر.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل وَالْمجد وَالْأَكْثَر من الْفُقَهَاء

(5/2260)


والمتكلمين، مِنْهُم أَكثر الشَّافِعِيَّة والمعتزلة وَبَعض الْحَنَفِيَّة.
قَالَ الْبَاجِيّ من الْمَالِكِيَّة: وَهُوَ الصَّحِيح.
وَنَقله عَن ابْن الباقلاني، وَابْن خويز منداد أَنه بِأَمْر جَدِيد.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث، حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن صَاحب " التَّقْوِيم " أَنه يجب بِالْقِيَاسِ على الْعِبَادَات الْفَائِتَة الَّتِي دلّ الدَّلِيل على وجوب قَضَائهَا، وَالْجَامِع بَينهمَا اسْتِدْرَاك مصلحَة الْفَائِت.
وَحَاصِله: أَن مَا لم ينْقل فِيهِ أَمر بِالْقضَاءِ يكون مَأْمُورا قِيَاسا لَا بِالْأَمر الأول وَلَا بِأَمْر جَدِيد.
وَنقل مَعْنَاهُ عَن أبي زيد الدبوسي، وَأوجب أَكثر الْحَنَفِيَّة قَضَاء الْمَنْذُور بِالْقِيَاسِ على الْمَفْرُوض، نَقله ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله.

(5/2261)


فَائِدَة: الْأَمر الْجَدِيد إِجْمَاع، أَو نَص، أَو قِيَاس جلي احْتمل مَجِيئه.
قَوْله: {وَإِن لم يُقيد بِوَقْت - وَقُلْنَا بالفورية -} وَفعله بعده، {فالقضاء بِالْأَمر الأول عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: أَكثر الْمَالِكِيَّة، والرازي الْحَنَفِيّ.
{قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: الْإِجْمَاع أَنه مؤد لَا قَاض، وَعند جمَاعَة كالمؤقت} ، مِنْهُم: القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني، وَأَبُو الْفرج الْمَالِكِي، والكرخي وَغَيره من الْحَنَفِيَّة.
وَإِن قُلْنَا الْأَمر للتراخي فَلَيْسَ بِقَضَاء قطعا.

(5/2262)


(قَوْله: {فصل} )

{الْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ أمرا عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمر عَن ابْنه عبد الله: " مره فَلْيُرَاجِعهَا "، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " مُرُوهُمْ بهَا لسبع "، {وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ} [طه: 132] .
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ أمرا لَكَانَ قَول الْقَائِل: مر عَبدك، تَعَديا وتناقضا لقَوْله للْعَبد: لَا تفعل.
{وَخَالف بَعضهم} ، مِنْهُم الْعَبدَرِي، وَابْن الْحَاج، وَقَالا: هُوَ أَمر

(5/2263)


حَقِيقَة، لُغَة أَو شرعا، وَقَالا: فهم ذَلِك من أَمر الله وَرَسُوله، وَمن قَول الْملك لنوابه: قُولُوا لزيد قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ مبلغ.
قَالَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مره فَلْيُرَاجِعهَا " دَلِيل على أَن الْأَمر بِالْأَمر أَمر.
قُلْنَا: لِأَنَّهُ مبلغ لَا آمُر.
قَوْله: { {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} [التَّوْبَة: 103] لَيْسَ أمرا لَهُم بالإعطاء} على {الصَّحِيح} .
وَقَالَ ابْن حمدَان: مِمَّا يلْحق بِالْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة ويشبهها هَذِه الْمَسْأَلَة، فَإِن الْأَمر بِالْأَخْذِ يتَوَقَّف على إعطائهم ذَلِك، فَهَل يكون أمرا بالإعطاء أم لَا؟ فِيهِ خلاف.
فَقَالَ ابْن حمدَان وَقَبله الْقشيرِي: هُوَ أَمر بالإعطاء.
قَالَ بعض الْفُقَهَاء: يجب عَلَيْهِ الْإِعْطَاء من حَيْثُ إِن الْأَمر بِالْأَخْذِ يتَوَقَّف عَلَيْهِ فَيجب من حَيْثُ كَونه مُقَدّمَة الْوَاجِب كالطهارة للصَّلَاة، وَإِن اخْتلف الْفَاعِل هُنَا فَيكون كالأمر لَهُم ابْتِدَاء.

(5/2264)


وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: يجب الْإِعْطَاء لَا بِهَذَا الطَّرِيق بل بِالْإِجْمَاع؛ لِأَنَّهُ إِذا أوجب عَلَيْهِ الْأَخْذ قيل لَهُ: مر بالإعطاء، وامتثال أمره وَاجِب.
قَوْله: {وَالْأَمر بِالصّفةِ أَمر بالموصوف نصا} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل تبعا للمجد بن تَيْمِية فِي " المسودة ": إِذا ورد الْأَمر بهيئة أَو صفة لفعل، وَدلّ الدَّلِيل على استحبابها سَاغَ التَّمَسُّك بِهِ على وجوب أصل الْفِعْل، لتَضَمّنه الْأَمر بِهِ؛ لِأَن مُقْتَضَاهُ وجوبهما، فَإِذا خُولِفَ فِي الصَّرِيح بَقِي المتضمن على أصل الِاقْتِضَاء.
ذكره أَصْحَابنَا، وَنَصّ عَلَيْهِ إمامنا حَيْثُ تمسك على وجوب الِاسْتِنْشَاق بِالْأَمر بالمبالغة خلافًا ... ... ... ... ... ... ... ... ...

(5/2265)


للحنفية بِأَنَّهُ لَا يبْقى دَلِيلا على وجوب الأَصْل، حَكَاهُ الْجِرْجَانِيّ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَحَقِيقَة الْمَسْأَلَة أَن مُخَالفَة الظَّاهِر فِي لفظ الْخطاب لَا تَقْتَضِي مُخَالفَة الظَّاهِر فِي فحواه، وَهُوَ يشبه نسخ اللَّفْظ، هَل يكون نسخا للفحوى؟ هَكَذَا يَجِيء فِي جَمِيع دلالات الْتِزَام، وَقَول الْمُخَالف مُتَوَجّه، وسرها أَنه هَل هُوَ بِمَنْزِلَة أَمريْن، أَو أَمر بفعلين، أَو أَمر بِفعل وَاحِد ولوازمه جَاءَت ضَرُورَة، وَهُوَ يستمد من الْأَمر بالشَّيْء هَل هُوَ نهي عَن أضداده، انْتهى.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: الْأَمر بِالصّفةِ أَمر بالموصوف ويقتضيه كالأمر بالطمأنينة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود يكون أمرا بهما.
قَالَ: وغلطت الْحَنَفِيَّة؛ حَيْثُ استدلوا على وجوب التَّلْبِيَة فِي الْإِحْرَام بِمَا رُوِيَ أَن جِبْرِيل نزل على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " مر أَصْحَابك أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ " فَجعلُوا النّدب إِلَى الصّفة وَهُوَ رفع الصَّوْت بهَا

(5/2266)


دَلِيلا على وُجُوبهَا.
أَي: فَكيف يكون الْأَمر بِالصّفةِ للنَّدْب، وَهُوَ يتَضَمَّن الْأَمر بالموصوف إِيجَابا؟
قيل: قد نقل غَيره عَن الْحَنَفِيَّة عكس ذَلِك، وَنقل بعض الْحَنَابِلَة ذَلِك عَن أَحْمد وَأَصْحَابه؛ لِأَن الْأَمر بهَا لما كَانَ أمرا بالموصوف كَانَ ظَاهره الْوُجُوب فيهمَا، فَلَمَّا دلّ الدَّلِيل على صرف الْأَمر بِالصّفةِ عَن الْوُجُوب إِلَى النّدب بَقِي الْأَمر بالموصوف على وُجُوبه.
قَالَ: وَقد تمسك بِهِ أَحْمد فِي وجوب الِاسْتِنْشَاق بِالْأَمر بالمبالغة.
{وَيَأْتِي بَقَاء التَّكْلِيف بِلَا غَايَة فِي} أثْنَاء {النّسخ} ، فَإِن بَعضهم يذكر الْمَسْأَلَة هُنَا، وَبَعْضهمْ هُنَاكَ.

(5/2267)


(قَوْله: {فصل} )

{الْأَمر الْمُطلق بِبيع يتَنَاوَلهُ وَلَو بِغَبن فَاحش، وَيصِح العقد، وَيضمن وَلَو النَّقْص عِنْد أَصْحَابنَا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": إِذا أطلق الْأَمر، كَقَوْلِه لوَكِيله: بِعْ كَذَا، فَعِنْدَ أَصْحَابنَا تنَاول البيع بِغَبن فَاحش وَاعْتبر ثمن الْمثل للْعُرْف وَالِاحْتِيَاط للْمُوكل.
وَفرقُوا أَيْضا بَينه وَبَين أمره - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي اعْتِبَار إِطْلَاقه بالتعدية بتعليله بِخِلَاف الْمُوكل، ثمَّ هَل يَصح العقد وَيضمن الْوَكِيل النَّقْص أم لَا، كَقَوْل الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد، {وَعند الْحَنَفِيَّة لَا يعْتَبر ثمن الْمثل واعتبروه فِي} الْوَكِيل فِي {الشِّرَاء.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: الْأَمر بالماهية الْكُلية إِذا

(5/2268)


أَتَى بمسماها امتثل، وَلم يتَنَاوَل اللَّفْظ الجزئيات وَلم ينفها، فَهِيَ مِمَّا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ. وَجَبت عقلا لَا قصدا} .
أَي: بِالْقَصْدِ الأول، بل بِالثَّانِي.
وَاخْتَارَ صَاحب " الْمَحْصُول " أَن {الْمَطْلُوب بِالْأَمر} نفس {الْمَاهِيّة الْكُلية فَالْأَمْر بِالْبيعِ لَيْسَ أمرا بِغَبن فَاحش، وَلَا ثمن الْمثل} ؛ لتَعَلُّقه بِقدر مُشْتَرك، وَهُوَ غير مُسْتَلْزم لكل مِنْهُمَا، وَالْأَمر بالأعم لَيْسَ أمرا بالأخص، وَأَنه لَا يمتثل إِلَّا بِالْأَمر بِمعين.
وَذكر بَعضهم الِاتِّفَاق على بُطْلَانه، {وَقَالَ الْآمِدِيّ، وَغَيره: الْمَطْلُوب فعل مُمكن مُطَابق للماهية الْمُشْتَركَة} ، وَأَنه لَو سلم تعلقه بِقدر مُشْتَرك فَأتى بِبَعْض الجزئيات فقد أَتَى بمسماه.
وَجه هَذَا أَن مَاهِيَّة الْفِعْل الْمُطلق كلي؛ لاشْتِرَاكهمَا بَين كثيرين فيستحيل وجودهَا خَارِجا وَإِلَّا لتشخص، فَيكون كليا وجزئيا مَعًا، وَهُوَ محَال فَلم يكن مَطْلُوبا بِالْأَمر وَإِلَّا لَكَانَ تكليفا بالمحال.
رد: الْمَاهِيّة بِشَرْط عدم التشخيص وَيُسمى الْمُجَرّد، وبشرط لَا شَيْء، لَا تُوجد خَارِجا.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: وَلَا ذهنا، وبشرط عدم التَّقْيِيد الْخَارِجِي تُوجد ذهنا، وَمن حَيْثُ هِيَ من غير اعْتِبَار تشخيص أَولا يُسمى الْمُطلق والماهية

(5/2269)


لَا بِشَرْط شَيْء يُوجد خَارِجا جُزْء المشخص، فَمن حَيْثُ هِيَ لَا تَقْتَضِي وحدة، وَلَو اقْتَضَت تعددا امْتنع عرُوض التشخيص لَهَا، وَلِهَذَا قيل: لكل شَيْء حَقِيقَة هُوَ بهَا، هُوَ: فَمَا دلّ عَلَيْهِ الْمُطلق، وَعَلَيْهَا مَعَ وحدة مُعينَة الْمعرفَة، وَإِلَّا فالنكرة وَعَلَيْهَا مَعَ وحدات مَعْدُودَة الْعدَد، وَمَعَ كل جزئياتها الْعَام.
وَجه الثَّانِي: الْفِعْل مُطلق والجزئي مُقَيّد بالمشخص فَلَيْسَ بمطلوب، فالمطلوب الْفِعْل الْمُشْتَرك.
رد باستحالته بِمَا سبق.
ورد: الْمَاهِيّة بِقَيْد الِاشْتِرَاك لَيست مَطْلُوبَة من حَيْثُ معروضة لَهُ، وَهِي مَوْجُودَة خَارِجا، انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح.
لما ذكر ابْن قَاضِي الْجَبَل الْمَسْأَلَة، وَذكر نَص مَا ذكره ابْن مُفْلِح، قَالَ بعد ذَلِك: تَنْبِيه، هَذَا فَرد من قَاعِدَة عَامَّة، وَهِي الدَّال على الْأَعَمّ غير دَال على الْأَخَص، فَإِذا قُلْنَا: جسم، لَا يفهم أَنه نَام، وَإِذا قُلْنَا: نَام، لَا يفهم أَنه حَيَوَان، وَإِذا قُلْنَا: حَيَوَان، لَا يفهم أَنه إِنْسَان، وَإِذا قُلْنَا: إِنْسَان لَا يفهم أَنه زيد، فَإِن قُلْنَا: إِن الْكُلِّي قد يخص نَوعه فِي شخصه: كانحصار الشَّمْس فِي فَرد مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْقَمَر، وَكَذَلِكَ جَمِيع مُلُوك الأقاليم وقضاة الْأُصُول تَنْحَصِر أنواعهم فِي أشخاصهم، فَإِذا قلت: صَاحب مصر، إِنَّمَا ينْصَرف الذِّهْن إِلَى الْملك الْحَاضِر فِي وَقت الصِّيغَة، فَيكون الْآمِر

(5/2270)


بِتِلْكَ الْمَاهِيّة يتَنَاوَل الجزئي فِي جَمِيع هَذِه الصُّور، قلت: لم يَأْتِ ذَلِك من قبل اللَّفْظ، بل من جِهَة أَن الْوَاقِع كَذَلِك.
ومقصود الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ دلَالَة اللَّفْظ من حَيْثُ هُوَ لفظ.
انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: فصل {الْأَمْرَانِ المتعاقبان بِلَا عطف إِن اخْتلفَا عمل بهما إِجْمَاعًا} ، كَقَوْلِك: صل، صم، زك، حج، وَنَحْوهَا على الِاخْتِلَاف فِي مُقْتَضى الْأَمر، كَمَا سبق.
قَوْله: {وَإِن تماثلا وَلم يقبل تَكْرَارا} ، كصم يَوْم الْجُمُعَة، صم يَوْم الْجُمُعَة، واقتل زيدا، اقْتُل زيدا، واعتق سالما، اعْتِقْ سالما، واجلد الزناة، اجلد الزناة، وَنَحْوه: {أَو قبل} التّكْرَار {ومنعت الْعَادة} مِنْهُ، كاسقني مَاء، اسْقِنِي مَاء، {أَو} كَانَ {الثَّانِي مُعَرفا} يَعْنِي يقبل التّكْرَار، وَلَكِن الثَّانِي معرف، كصل رَكْعَتَيْنِ، صل الرَّكْعَتَيْنِ، أَو كَانَ بَين الْآمِر والمأمور عهد ذهني يَعْنِي إِذا قبل التّكْرَار، وَلَكِن بَين الْأَمر والمأمور عهد ذهني يمْنَع التّكْرَار - قَالَه الْبرمَاوِيّ - {فَالثَّانِي مُؤَكد} للْأولِ {إِجْمَاعًا} .

(5/2271)


قَوْله: {وَإِن لم تمنع} الْعَادة، {وَلم يتعرف} وَلَا كَانَ بَينهمَا عهد ذهني، {كصم صم} ، صل صل، أَو أعْط زيدا درهما، أعْط زيدا درهما وَنَحْو ذَلِك، {فَالثَّانِي تأسيس} لَا تَأْكِيد {عِنْد القَاضِي وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا} ، وَذكره القَاضِي وَغَيره عَن الْحَنَفِيَّة.
وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي مَسْأَلَة الْمُطلق والمقيد كبعد امْتِثَال الأول، {قَالَ أَبُو الْمجد: وَهُوَ الْأَشْبَه بمذهبنا} كَقَوْلِنَا فِيمَن قَالَ لزوجته: أَنْت طَالِق، أَنْت طَالِق، تلْزمهُ طَلْقَتَانِ.
وَذكره ابْن برهَان عَن الْفُقَهَاء قاطبة، وَقَالَهُ عبد الْجَبَّار والجبائي، وَابْن الباقلاني، والآمدي، وَغَيرهم؛ لِأَن الأَصْل

(5/2272)


التأسيس.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": الثَّانِي تَأْكِيد لَا تأسيس؛ لِئَلَّا يجب فعل بِالشَّكِّ وَلَا تَرْجِيح.
وَمنع أَن تغاير اللَّفْظ يُفِيد تغاير الْمَعْنى، ثمَّ سلمه والتأكيد فَائِدَة، قَالَ ابْن مُفْلِح، كَذَا قَالَ.
وَقَالَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَاحْتج بِالْيَمِينِ وَالنّذر.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَذكر أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي عَن أَحْمد الثَّانِي تَأْكِيد، وَاخْتلف أَصْحَابه.
وللشافعية كالقولين وَقَول ثَالِث بِالْوَقْفِ، وَقَالَهُ ابْن فورك، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَهُوَ الصَّحِيح عَن الباقلاني؛ لمُخَالفَته الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، فَلَا يحمل على التَّأْكِيد وَلَا على التّكْرَار إِلَّا بِدَلِيل.

(5/2273)


وعورض: يلْزم من الْوَقْف مُخَالفَة مُقْتَضى الْأَمر، فَيسلم التَّرْجِيح بالتأسيس.
قَوْله: {وَإِن كَانَ الثَّانِي مَعْطُوفًا وَاخْتلفَا عمل بهما} ، مَا تقدم من الْأَحْكَام، والتقاسيم فِيمَا إِذا كَانَ الْأَمْرَانِ بِلَا عطف.
وَمَا ذكر هُنَا إِذا كَانَ مَعْطُوفًا على الأول وَاخْتلفَا عمل بهما، كصل، وصم، وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة، وَنَحْوهمَا.
{وَإِن تماثلا وَلم يقبل تَكْرَارا} إِذا تماثلا، فَتَارَة يقبل الْعَطف التّكْرَار وَتارَة لَا يقبل، فَإِن لم يقبل التّكْرَار - وَهِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة فِي الْكتاب - فَتَارَة لَا يقبله حسا، كاقتل زيدا واقتل زيدا، وَتارَة لَا يقبله حكما: كأعتق سالما، وَأعْتق سالما، فَهُوَ تَأْكِيد بِلَا خلاف.
{وَإِن قبل} التّكْرَار {وَلم تمنع عَادَة وَلَا الثَّانِي معرف فالأقوال الثَّلَاثَة} الْمُتَقَدّمَة تَأتي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": مَعَ تَرْجِيح آخر وَهُوَ الْعَطف، انْتهى.
قَوْله: {وَإِن منعت عَادَة تَعَارضا والأقوال الثَّلَاثَة} فِيهَا.
{وَجزم الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين هُنَا {بالتكرار} .

(5/2274)