التحبير شرح التحرير في أصول الفقه (بَاب الْعَام)
(5/2309)
فارغة
(5/2310)
(قَوْله: {بَاب} )
{الْعَام: اللَّفْظ الدَّال على جَمِيع أَجزَاء مَاهِيَّة
مَدْلُوله} .
إِنَّمَا أخر الْكَلَام فِي الْعَام وَالْخَاص عَن الْأَمر
وَالنَّهْي؛ لتعلقهما بِنَفس الْخطاب الشَّرْعِيّ، وَتعلق
الْعُمُوم وَالْخُصُوص بِاعْتِبَار الْمُخَاطب بِهِ،
وَإِنَّمَا قدمنَا هَذَا الْحَد على الْحُدُود الْبَاقِيَة لما
نذكرهُ فَإِن الطوفي ذكره فِي " مُخْتَصره "، وَقَالَ: هُوَ
أَجود الْحُدُود.
فَإِنَّهُ ذكر حدودا كلهَا مُعْتَرضَة، وَذكر هَذَا فِي جملَة
تَقْسِيم فَقَالَ: وَقيل: اللَّفْظ إِن دلّ على الْمَاهِيّة من
حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَهُوَ الْمُطلق كالإنسان، أَو على وَحده
مُعينَة كزيد فَهُوَ الْعلم، أَو غير مُعينَة كَرجل فَهُوَ
النكرَة، أَو على وحدات مُتعَدِّدَة فَهِيَ: إِمَّا بعض وحدات
الْمَاهِيّة فَهُوَ اسْم الْعدَد، كعشرين رجلا أَو جَمِيعهَا
فَهُوَ الْعَام.
(5/2311)
فَإِذن: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على جَمِيع
أَجزَاء مَاهِيَّة مَدْلُوله، وَهُوَ أَجودهَا. انْتهى.
فَهَذَا الْحَد مُسْتَفَاد من التَّقْسِيم الْمَذْكُور؛ لِأَن
التَّقْسِيم الصَّحِيح يرد على جنس الْأَقْسَام، ثمَّ يُمَيّز
بَعْضهَا عَن بعض بِذكر خواصها الَّتِي يتَمَيَّز بهَا فيتركب
كل وَاحِد من أقسامه من جنسه الْمُشْتَرك ومميزه الْخَاص
وَهُوَ الْفَصْل، وَلَا معنى للحد إِلَّا اللَّفْظ الْمركب من
الْجِنْس والفصل.
وعَلى هَذَا فقد استفدنا من هَذَا التَّقْسِيم معرفَة حُدُود
مَا تضمنه من الْحَقَائِق وَهُوَ الْمُطلق، وَالْعلم، والنكرة
وَاسم الْعدَد.
فالمطلق: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على الْمَاهِيّة الْمُجَرَّدَة
عَن وصف زَائِد.
وَالْعلم: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على وحدة مُعينَة.
وَاسم الْعدَد: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على بعض وحدات مَاهِيَّة
مَدْلُوله.
وَالْعَام مَا ذكرنَا. انْتهى.
وَقَوله: فَإِن دلّ على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ هِيَ، أَي:
مَعَ قطع النّظر عَن جَمِيع مَا يعرض لَهَا من وحدة وَكَثْرَة،
وحدوث وَقدم، وَطول وَقصر، وَسَوَاد وَبَيَاض، فَهَذَا
الْمُطلق كالإنسان من حَيْثُ هُوَ إِنْسَان إِنَّمَا يدل على
(5/2312)
حَيَوَان نَاطِق لَا على وَاحِد وَلَا على
غَيره مِمَّا ذكر، وَإِن كُنَّا نعلم أَنه لَا يَنْفَكّ عَن
بعض تِلْكَ.
قَوْله: {وَقَالَ أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم: هُوَ مَا عَم
شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا} .
وَلم أعلم الْآن من أَيْن نقلت ذَلِك، ولعلنا أردنَا كَلَامه
فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا.
وَقد قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": والعموم مَا شَمل
شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا شمولا وَاحِدًا، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ بعض
الْفُقَهَاء: مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا وَلَيْسَ بمرضي؛
لِأَن قَوْله: عَم - وَعَن الْعُمُوم سُئِلَ - لَيْسَ بتحديد،
كمن قيل لَهُ: مَا السوَاد، فَقَالَ: مَا سود الْمحل الَّذِي
يقوم بِهِ. انْتهى.
{و} قَالَ {أَبُو الْخطاب، و} الْفَخر {الرَّازِيّ} ، وَأَبُو
الْحُسَيْن المعتزلي: {اللَّفْظ الْمُسْتَغْرق لما يصلح لَهُ}
.
(5/2313)
فَقيل: لَيْسَ بمانع لدُخُول كل نكرَة من
أَسمَاء الْأَعْدَاد، كعشرة، وكنحو: ضرب زيد عمرا.
وَفِيه نظر، فَإِنَّهُ أُرِيد بِمَا يصلح أَفْرَاد مُسَمّى
اللَّفْظ فَلم تدخل النكرَة، وَإِن فسر (مَا يصلح) بأجزاء
مُسَمّى اللَّفْظ لَا بجزئياته فالعشرة مستغرقة أجزاءها، أَي:
وحداتها، وَنَحْو (ضرب زيد عمرا، إِن استغرق لما يصلح من
أَفْرَاد (ضرب زيد عمرا) فعام، وَإِلَّا لم يدْخل.
وأبطله الْآمِدِيّ بِأَنَّهُ عرف الْعَام بالمستغرق وهما
مُتَرَادِفَانِ وَلَيْسَ الْقَصْد شرح اسْم الْعَام ليَكُون
الْحَد لفظيا بل مُسَمَّاهُ بِحَدّ حَقِيقِيّ أَو رسمي.
وَزيد فِي الْحَد (من غير حصر) احْتِرَاز من اسْم الْعدَد،
نَحْو: عشرَة فَإِنَّهَا تستغرق الْأَفْرَاد المركبة، لَكِن
تحصر؛ إِذْ دلَالَته كل على أَجْزَائِهِ، وَدلَالَة الْعُمُوم
كلي على جزئياته.
(5/2314)
{و} قَالَ {الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة "،
{و} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ} فِي " الْإِيضَاح ":
{اللَّفْظ الْوَاحِد الدَّال على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا
مُطلقًا} .
فاللفط كالجنس لَهُ وللخاص والمشترك وَغير ذَلِك من أَصْنَاف
اللَّفْظ، وَفِيه إِشْعَار بِأَن الْعُمُوم من عوارض
الْأَلْفَاظ دن الْمعَانِي على مَا يَأْتِي.
وَاحْترز بِالْوَاحِدِ عَن كل مَا ذكر مَعَه عَام يَقْتَضِيهِ
من الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَنَحْوه، مثل (ضرب زيد عمرا)
فَإِنَّهُ إِن دلّ على شَيْئَيْنِ وَلَكِن لَا بِلَفْظ وَاحِد،
إِذْ هما لفظان.
وَاحْترز بشيئين عَن مثل رجل فِي الْإِثْبَات، وَعَن أَسمَاء
الْأَعْلَام كزيد، وَعَمْرو، فَإِن لفظ رجل، وَدِرْهَم، وَزيد،
وَإِن كَانَت صَالِحَة لكل وَاحِد من آحَاد الرِّجَال، وآحاد
الدَّرَاهِم فَلَا يَتَنَاوَلهَا مَعًا بل على سَبِيل
الْبَدَل.
و (فَصَاعِدا) عَن لفظ اثْنَيْنِ وَنَحْوهَا من كل مثنى نَحْو
رجلَيْنِ، وَاحْترز ب (مُطلقًا) عَن مثل عشرَة رجال وَنَحْوه
من الْأَعْدَاد الْمقدرَة، فَإِنَّهُ لَيْسَ من الْأَلْفَاظ
الْعَامَّة وَإِن كَانَ مَعَ اتحاده الْأَصْلِيّ شَيْئَيْنِ
فَصَاعِدا وَهِي الْآحَاد الدَّاخِلَة فِيهَا إِلَّا أَنه
إِنَّمَا دلّ على تَمام عشرَة فَقَط لَا مُطلقًا.
(5/2315)
قَالَ الطوفي: وَفِي الِاحْتِرَاز ب
(مُطلقًا) عَمَّا قَالَه نظر؛ إِذْ هُوَ خَارج بقوله:
فَصَاعِدا، إِذا هِيَ لَفْظَة لَيْسَ لَهَا نِهَايَة تقف
عِنْدهَا، فَكل مَا كَانَ من الْأَعْدَاد فَوق الْوَاحِد
انتظمه قَوْله: فَصَاعِدا.
قَالَ الْعَسْقَلَانِي شَارِح " مُخْتَصر الطوفي ": وَفِي
هَذَا النّظر من هَذِه الْحَيْثِيَّة نظر؛ إِذْ الْعشْرَة يصدق
عَلَيْهِ أَنه يدل على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، وَلَيْسَ فِي
الْحَد مَا يَقْتَضِي أَنه يدل على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا بِمَا
لَا نِهَايَة لَهُ يقف عِنْدهَا؛ إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك
لَخَرَجت أَكثر العمومات عَن كَونهَا عَامَّة، إِذا لَا بُد
لَهَا من نِهَايَة. انْتهى.
لَكِن هَذَا الْحَد لَيْسَ بِجَامِع لخُرُوج لَفْظِي المستحيل
والمعدوم عَنهُ، وهما من الْأَلْفَاظ الْعَامَّة وَلَا دلَالَة
لَهما على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا؛ لِأَن مدلولهما لَيْسَ
بِشَيْء، أما المستحيل فبالإجماع وَأما الْمَعْدُوم فعلى قَول.
ولخروج الموصولات؛ لِأَنَّهَا عَامَّة وَلَيْسَ بِلَفْظ
وَاحِد؛ لِأَنَّهَا لَا تتمّ إِلَّا بصلاتها.
وَقَالَ الْغَزالِيّ: اللَّفْظ الْوَاحِد الدَّال من جِهَة
وَاحِدَة على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا.
لَكِن قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": حَده فِي "
الرَّوْضَة " أَجود من حد الْغَزالِيّ، وَاخْتَارَ هَذَا
الْحَد الْآمِدِيّ وأبدل (شَيْئَيْنِ) بمسميين.
(5/2316)
{و} قَالَ {ابْن الْمَنِيّ} فِي " جدله
الْكَبِير "، {و} تِلْمِيذه {الْفَخر} إِسْمَاعِيل: {مَا دلّ
على مسميات دلَالَة لَا تَنْحَصِر فِي عدد} ، نَقله عَنهُ ابْن
حمدَان فِي " مقنعه " وَهُوَ حسن لَكِن دخل فِيهِ الْمعَانِي
وفيهَا خلاف يَأْتِي قَرِيبا.
{و} قَالَ {ابْن الْحَاجِب: مَا دلّ على مسميات بِاعْتِبَار
أَمر اشتركت فِيهِ مُطلقًا} ضربه أَي دَفعه ليخرج نَحْو رجل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَا حَاجَة إِلَى زيادتها. وَدخل فِي
حَده الْمعَانِي والمعدوم، والمستحيل، وَخرج الْمُسَمّى
الْوَاحِد، والمثنى، والنكرة الْمُطلقَة كَرجل، وَخرج نَحْو:
عشرَة ب (اشتركت فِيهِ) ، وَخرج الْمَعْهُود بقوله مُطلقًا.
قَوْله: {وَيكون مجَازًا فِي الْأَصَح} .
يكون الْعَام مجَازًا على الْأَصَح، كَقَوْلِك: رَأَيْت
الْأسود على الْخُيُول، فالمجاز هُنَا كالحقيقة فِي أَنه قد
يكون عَاما.
وَخَالف بعض الْحَنَفِيَّة، فَزعم أَن الْمجَاز لَا يعم
بصيغته؛ لِأَنَّهُ على خلاف الأَصْل فَيقْتَصر بِهِ على
الضَّرُورَة.
(5/2317)
وَيرد: بِأَن الْمجَاز لَيْسَ خَاصّا
بِحَال الضَّرُورَة، بل هُوَ عِنْد قوم غَالب على اللُّغَات
كَمَا تقدم.
وَاسْتدلَّ على أَن الْعَام قد يكون مجَازًا بقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة
إِلَّا أَن الله أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَام "، فَإِن
الِاسْتِثْنَاء معيار الْعُمُوم فَدلَّ على تَعْمِيم كَون
الطّواف صَلَاة، وَكَون الطّواف صَلَاة مجَاز.
قَوْله: {وَالْخَاص بِخِلَافِهِ} ، أَي: بِخِلَاف الْعَام،
{أَي: مَا دلّ وَلَيْسَ بعام فَلَا يرد المهمل} .
قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ": وَأما
قَوْله: وَالْخَاص بِخِلَافِهِ، فَالْمُرَاد مِنْهُ أَن
الْخَاص هُوَ مَا دلّ لَا على مسميات على الْوَجْه
الْمَذْكُور، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ أَن الْخَاص مَا لَيْسَ
بعام على مَا يُوهم.
وَأورد عَلَيْهِ أَنه لَا يطرد لدُخُول اللَّفْظ المهمل فِيهِ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بعام لعدم دلَالَته، وَأَن فِيهِ تَعْرِيف
الْخَاص بسلب الْعَام، وَهُوَ ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ
بَينهمَا وَاسِطَة فَلَا يلْزم من سلب الْعَام تعين الْخَاص،
وَإِلَّا فَلَيْسَ تَعْرِيف
(5/2318)
أَحدهمَا بسلب حَقِيقَة الآخر عَنهُ أولى
من الْعَكْس.
وَأَيْضًا فَإِن اللَّفْظ قد يكون خَاصّا كالإنسان
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَان، وَلَا يخرج عَن كَونه عَاما
بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ.
وَالْأول وَالثَّانِي إِنَّمَا يرد على مَا توهم أَنه مُرَاده
لَا على مَا هُوَ مُرَاده.
وَأما الثَّالِث فَلَا يرد على مَا توهم أَيْضا؛ لِأَن
الْإِنْسَان لَيْسَ خَاصّا بِالْمَعْنَى الْمُقَابل للعام، بل
بِاعْتِبَار آخر؛ لِأَن الْخَاص كَمَا يُطلق على مَا يُقَابل
الْعَام كزيد مثلا كَذَلِك يُطلق على خصوصيته بِالنِّسْبَةِ
إِلَى مَا هُوَ أَعم مِنْهُ كالإنسان بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْحَيَوَان.
وَيحد بِأَنَّهُ: اللَّفْظ الَّذِي يُقَال على مَدْلُوله وعَلى
غير مَدْلُوله، لفظ آخر من جِهَة وَاحِدَة. انْتهى.
قَوْله: {ثمَّ لَا أَعم من المتصور} لتنَاوله الْمَوْجُود
والمعلوم والمسلوب وضدها. وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ":
وَلَا أَعم من مَعْلُوم ومسمى ومذكور.
{وَقيل: لَيْسَ بموجود} ، هَذَا القَوْل ضربنا عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ إِنَّمَا حُكيَ بعد قَوْلهم لَا أَعم من الْمَعْلُوم
فورد الْمَجْهُول أَو الشَّيْء فورد الْمَعْدُوم.
وَذكره فِي " الرَّوْضَة " تبعا للغزالي، وسترى مَا فِيهِ.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": الَّذِي لَا أَعم مِنْهُ
الْمَعْلُوم أَو الشَّيْء،
(5/2319)
وَيُسمى الْعَام الْمُطلق؛ لِأَنَّهُ إِذا
أطلق لَا تخرج عَنهُ صُورَة.
وَقيل: لَيْسَ بموجود لخُرُوج الْمَجْهُول عَن الأول والمعدوم
عَن الثَّانِي فِي قَول، وَأطْرد مِنْهُمَا الْمُسَمّى، أَو
الْمَذْكُور؛ لِأَنَّهُ لَا تخرج عَنْهُمَا صُورَة، قَالَه
الْعَسْقَلَانِي.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وَقَوله: وَقيل لَيْسَ بموجود
يَعْنِي أَن الْعَام الْمُطلق، قيل: هُوَ مَوْجُود، وَقيل:
لَا.
وَلَيْسَ لنا عَام مُطلق، وَهَذَا ذكره الْغَزالِيّ
بِاعْتِبَار، وَتَابعه أَبُو مُحَمَّد فَجعله قولا ثَانِيًا،
ولنحك كَلَام الْغَزالِيّ ليتبين مَا ذَكرْنَاهُ.
قَالَ الْغَزالِيّ: وَاعْلَم أَن اللَّفْظ إِمَّا خَاص فِي
ذَاته مُطلقًا كزيد، وَإِمَّا عَام مُطلق كالمذكور والمعلوم،
وَإِمَّا عَام بِالْإِضَافَة، كَلَفْظِ الْمُؤمنِينَ،
فَإِنَّهُ عَام بِالْإِضَافَة إِلَى آحَاد الْمُؤمنِينَ، خَاص
بِالْإِضَافَة إِلَى جُمْلَتهمْ إِذْ يتناولهم دون الْمُشْركين
فَكَأَنَّهُ يُسمى عَاما من حَيْثُ شُمُوله للآحاد، خَاصّا من
حَيْثُ اقْتِصَاره على مَا شَمله وقصوره عَمَّا لم يَشْمَلهُ.
وَمن هَذَا الْوَجْه يُمكن أَن يُقَال: لَيْسَ فِي الْأَلْفَاظ
عَام مُطلق؛ لِأَن لفظ الْمَعْلُوم لَا يتَنَاوَل الْمَجْهُول،
وَالْمَذْكُور لَا يتَنَاوَل الْمَسْكُوت عَنهُ.
قلت: فحاصل قَوْله: إِن كل لفظ، فَهُوَ بِالنّظرِ إِلَى
شُمُوله أَفْرَاد مَا تَحْتَهُ عَام، وبالنظر إِلَى اقْتِصَاره
على مَدْلُوله خَاص / وَبِهَذَا التَّفْسِير لَا يبْقى لنا
عَام
(5/2320)
مُطلق، لَكِن هَذَا غير تفسيرنا الْعَام
الْمُطلق بِمَا لَا أَعم مِنْهُ؛ لِأَن من الْأَلْفَاظ مَا
يكون عَاما مَعَ أَنه مَقْصُور الدّلَالَة على مَا تَحْتَهُ
فَيكون حِينَئِذٍ عَاما مُطلقًا، لَا عَاما مُطلقًا باعتبارين
كَمَا ذكر من التفسيرين لَكِن مثل ذَلِك لَا يَنْبَغِي أَن
يحْكى قولا مُطلقًا كَمَا فعل أَبُو مُحَمَّد؛ لِئَلَّا يُوهم
أَن فِي وجود الْعَام الْمُطلق بتفسير وَاحِد قَوْلَيْنِ،
وَلَيْسَ كَذَلِك، بل يذكر ذَلِك بتفسيرين كَمَا ذكر
الْغَزالِيّ. انْتهى كَلَام الطوفي.
قَوْله: {وَلَا أخص من علم الشَّخْص} كزيد مثلا، وَنَحْوه،
وَهَذَا الرجل؛ إِذْ لَا أخص من اسْم شخص يعرف بِهِ.
قَوْله: {وعام خَاص نسبي} كالموجود، والجوهر، والجسم، والنامي،
وَالْحَيَوَان، وَالْإِنْسَان، فَإِن كل وَاحِد من هَذِه
الْأَلْفَاظ خَاص بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقه، عَام
بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ كالموجود أحد مدلولي
الْمَذْكُور، وَالثَّانِي الْمَجْهُول.
والجوهر أحد مدلولي الْمَوْجُود وَالْآخر الْعرض، والجسم،
وَهُوَ الْمركب أحد مدلولي الْجَوْهَر وَالْآخر الْفَرد
الَّذِي لَا تركيب فِيهِ.
(5/2321)
والنامي أحد مدلولي الْجِسْم وَالْآخر
الجماد، وَالْحَيَوَان أحد مدلولي النامي وَالْآخر النَّبَات،
وَالْإِنْسَان أحد مدلولي الْحَيَوَان وَالْآخر مَا دب غير
النَّاطِق، وَالْمُؤمن أحد مدلولي الْإِنْسَان، وَالْآخر
الْكَافِر.
وَلِهَذَا قُلْنَا يُسمى عَاما خَاصّا نسبيا، أَي:
بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا دونه عَام، وبالنسبة إِلَى مَا فَوْقه
خَاص، وَالله أعلم.
(5/2322)
(قَوْله: {فصل} )
{الْعُمُوم من عوارض الْأَلْفَاظ حَقِيقَة إِجْمَاعًا} .
يُقَال: هَذَا لفظ عَام كَمَا يُقَال: لفظ خَاص يَعْنِي
{بِمَعْنى الشّركَة فِي الْمَفْهُوم} مَعْنَاهُ لَا بِمَعْنى
الشّركَة فِي اللَّفْظ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: بِمَعْنى كل لفظ يَصح شركَة
الكثيرين فِي مَعْنَاهُ لَا أَنه يُسمى عَاما حَقِيقَة؛ إِذْ
لَو كَانَت الشّركَة فِي مُجَرّد الِاسْم لَا فِي مَفْهُومه
لَكَانَ مُشْتَركا لَا عَاما، وَبِه يبطل قَول من قَالَ:
إِنَّه من عوارض الْأَلْفَاظ لذاتها. انْتهى.
قَوْله: {وَكَذَا من عوارض الْمعَانِي حَقِيقَة} أَي: كَمَا
أَنه من عوارض الْأَلْفَاظ حَقِيقَة فَهُوَ من عوارض
الْمعَانِي حَقِيقَة.
وَهَذَا قَول القَاضِي، وَالشَّيْخ، وَابْن الْحَاجِب، وَأبي
بكر
(5/2323)
الرَّازِيّ، وَحَكَاهُ عَن مَذْهَبهم
وَغَيرهم فَيكون الْعُمُوم مَوْضُوعا للقدر الْمُشْتَرك
بَينهمَا بالتواطؤ على الْأَصَح.
وَقيل: مَوْضُوع لكل مِنْهُمَا حَقِيقَة فَهُوَ مُشْتَرك.
{وَعند الْمُوفق، و} أبي مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ، وَالْأَكْثَر:
مجَاز} ، يَعْنِي: أَنه من عوارض الْمعَانِي لكنه مجَاز لَا
حَقِيقَة.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق: إِنَّه قَول الْأَكْثَرين.
وَصَححهُ ابْن برهَان وَغَيره، وَنَقله عبد الْوَهَّاب فِي
الإفادة عَن الْجُمْهُور، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره،
وَذكره عَن أَصْحَابهم وَجُمْهُور الْأَئِمَّة.
وَقيل بنفيهما، أَي: أَن الْعُمُوم لَا يكون فِي الْمعَانِي
لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا.
(5/2324)
حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَهُوَ
ظَاهر مَا حُكيَ عَن أبي الْخطاب، وَنَقله ابْن مُفْلِح.
{وَقيل: من عوارض الْمَعْنى الذهْنِي} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن
الْغَزالِيّ، وَصَاحب " الرَّوْضَة " أَنه من عوارض اللَّفْظ
وَالْمعْنَى الذهْنِي.
وَفِي " الرَّوْضَة ": من عوارض الْأَلْفَاظ مجَاز فِي
غَيرهَا، وَقَالَ فِي الْمَعْنى الْكُلِّي: إِن سمي عَاما،
فَلَا بَأْس.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه الأول: حَقِيقَة الْعَام لُغَة:
شُمُول أَمر لمتعدد وَهُوَ فِي الْمعَانِي، كعم الْمَطَر،
وَالْخصب، وَفِي الْمَعْنى الْكُلِّي؛ لشُمُوله لمعاني
الجزئيات.
وَاعْترض على ذَلِك: بِأَن المُرَاد أَمر وَاحِد شَامِل،
وَعُمُوم الْمَطَر شُمُول مُتَعَدد لمتعدد؛ لِأَن كل جُزْء من
الأَرْض يخْتَص بِجُزْء من الْمَطَر.
(5/2325)
ورد هَذَا: بِأَن هَذَا لَيْسَ بِشَرْط
للْعُمُوم لُغَة، وَلَو سلم فعموم الصَّوْت بِاعْتِبَار وَاحِد
شَامِل للأصوات المتعددة الْحَاصِلَة لسامعيه، وَعُمُوم
الْأَمر وَالنَّهْي بِاعْتِبَار وَاحِد وَهُوَ الطّلب
الشَّامِل لكل طلب تعلق بِكُل مُكَلّف، وَكَذَا الْمَعْنى
الْكُلِّي الذهْنِي.
وَقد فرق طَائِفَة بَين الذهْنِي والخارجي فَقَالُوا بعروض
الْعُمُوم للمعنى الذهْنِي دون الْخَارِجِي؛ لِأَن الْعُمُوم
عبارَة عَن شُمُول أَمر وَاحِد لمنفرد، وَالْخَارِج لَا
يتَصَوَّر ذَلِك؛ لِأَن الْمَطَر الْوَاقِع فِي هَذَا
الْمَكَان بل كل قَطْرَة مِنْهُ بِخُصُوصِهِ بمَكَان خَاص
كَمَا تقدم.
وَالْجَوَاب: أَن مُطلق الشُّمُول كَاف.
تَنْبِيه: لَيْسَ المُرَاد الْمعَانِي التابعة للألفاظ
فَإِنَّهُ لَا خلاف فِي عمومها؛ لِأَن لَفظهَا عَام،
وَإِنَّمَا المُرَاد الْمعَانِي المستقلة كالمقتضى
وَالْمَفْهُوم. قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره.
(5/2326)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر للْعُمُوم صِيغَة خَاصَّة بِهِ} .
هَذَا مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة [و] الظَّاهِرِيَّة،
وَعَامة الْمُتَكَلِّمين.
{و} قَالَ {ابْن عقيل: الْعُمُوم صِيغَة} ، وَلَا يُقَال
للْعُمُوم صِيغَة، كَمَا سبق عَنهُ فِي الْأَمر.
{ف} على الأول {هُوَ حَقِيقَة فِي الْعُمُوم مجَاز فِي
الْخُصُوص} على الْأَصَح؛ لِأَن الْعُمُوم أحوط فَكَانَ أولى.
{وَقيل: عَكسه} ، فَهُوَ حَقِيقَة فِي الْخُصُوص مجَاز فِي
الْعُمُوم؛ لِأَن الْخُصُوص مُتَيَقن فَجعله لَهُ حَقِيقَة
أولى.
(5/2327)
رد: هَذَا إِثْبَات اللُّغَة بالترجيح
وَلَيْسَ بطرِيق لنا - على مَا يَأْتِي فِي المبحث - وَهَذَا
اخْتِيَار الْآمِدِيّ، وَالْخُصُوص أقل الْجمع وَتوقف فِيمَا
زَاد.
{وَقيل: مُشْتَركَة} .
وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ، {والأشعرية، وَغَيرهم: لَا صِيغَة
لَهُ} . وَقَالَهُ المرجئة، وَذكره التَّمِيمِي عَن بعض
أَصْحَابنَا.
ثمَّ للأشعرية، ولجماعة من الْأُصُولِيِّينَ قَولَانِ:
أَحدهمَا: الْوَقْف، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدهم، {فَقيل:} معنى
الْوَقْف {لَا نَدْرِي. وَقيل: نَدْرِي ونجهل} هَل هُوَ
{حَقِيقَة} فِي الْعُمُوم، {أم مجَاز} .
وَقيل: الْأَمر وَالنَّهْي للْعُمُوم، وَالْوَقْف فِي
الْأَخْبَار، وَقيل: عَكسه، فالأخبار للْعُمُوم وَالْوَقْف فِي
الْأَمر وَالنَّهْي.
(5/2328)
وَعند أَرْبَاب الْخُصُوص هِيَ حَقِيقَة
فِيهِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَتوقف فِيمَا زَاد، كَمَا
تقدم، وَعند مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي، وَأبي هَاشم،
وَجَمَاعَة من الْمُعْتَزلَة: لفظ الْجمع وَاسم الْجِنْس
لثَلَاثَة، وَيُوقف فِيمَا زَاد.
اسْتدلَّ أَصْحَاب القَوْل الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بقول
الْإِنْسَان: لَا تضرب أحدا، وكل من قَالَ كَذَا فَقل لَهُ
كَذَا: عَام قطعا.
وَلمُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: قَالُوا: فالحمر يَا رَسُول
الله؟ قَالَ: " مَا أنزل عَليّ فِيهَا شَيْء إِلَّا هَذِه
الْآيَة الجامعة الفاذة {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره (7)
وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7، 8] .
وَعَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لما رَجَعَ من الْأَحْزَاب قَالَ: " لَا يصلين
أحد الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " فَأدْرك بَعضهم
الْعَصْر فِي الطَّرِيق، فَقَالَ بَعضهم: لَا نصلي حَتَّى
نأتيها، وَقَالَ بَعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذَلِك، فَذكر
للنَّبِي
(5/2329)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَلم يعنف وَاحِدًا مِنْهُم. مُتَّفق عَلَيْهِ.
وأجنب عَمْرو بن الْعَاصِ فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل، فصلى
بِأَصْحَابِهِ، وَلم يغْتَسل؛ لخوفه، وَتَأَول قَوْله
تَعَالَى؛ {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} [النِّسَاء: 29] . فَذكر
ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَضَحِك، وَلم يقل شَيْئا. رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد،
وَالْحَاكِم وَقَالَ: على شَرط الصَّحِيحَيْنِ.
وَلِأَن نوحًا تمسك بقوله: {وَأهْلك} [هود: 40] بِأَن ابْنه من
أَهله وَأقرهُ الله تَعَالَى وَبَين الْمَانِع.
وَلِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فهم الْعُمُوم من {أهل
هَذِه الْقرْيَة}
(5/2330)
[العنكبوت: 31] فَقَالَ للْمَلَائكَة: {إِن
فِيهَا لوطا} [العنكبوت: 32] ، وأجابوه: {لننجينه وَأَهله}
[العنكبوت: 32] .
واستدلال الصَّحَابَة وَالْأَئِمَّة على حد كل سَارِق وزان
بقوله: {وَالسَّارِق والسارقة} [الْمَائِدَة: 38] ،
{الزَّانِيَة وَالزَّانِي} [النُّور: 2] .
وَفِي " الصَّحِيح ": احتجاج عمر على أبي بكر فِي قتال مانعي
الزَّكَاة بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: " أمرت أَن أقَاتل
النَّاس؛ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله ".
وَللشَّافِعِيّ: فَقَالَ أَبُو بكر: هَذِه من حَقّهَا.
وللترمذي فِي غير جَامعه عَن عمر عَن أبي بكر مَرْفُوعا: "
إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث ".
ولمالك عَن ابْن شهَاب عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب أَن رجلا سَأَلَ
عُثْمَان
(5/2331)
عَن الْأُخْتَيْنِ من ملك الْيَمين: هَل
يجمع بَينهمَا؟ فَقَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَة، وحرمتهما آيَة،
وَأَنا لَا أحب أَن أصنع هَذَا، فَخرج من عِنْده فلقي رجلا من
أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَقَالَ: لَو كَانَ لي من الْأَمر شَيْء ثمَّ وجدت أحدا فعل
ذَلِك لجعلته نكالا. فَقَالَ ابْن شهَاب: أرَاهُ عليا. قَالَ
مَالك: وَبَلغنِي عَن الزبير مثل ذَلِك.
وللطحاوي وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس كَقَوْل
عُثْمَان.
وللبخاري عَن زيد بن ثَابت أَنه لما نزل: {لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النِّسَاء:
95] ، قَالَ ابْن أم مَكْتُوم: يَا رَسُول الله، لَو
أَسْتَطِيع الْجِهَاد لَجَاهَدْت! فَأنْزل الله تَعَالَى: {غير
أولي الضَّرَر} [النِّسَاء: 95] .
(5/2332)
وَشرب قدامَة بن مَظْعُون خمرًا، وَاحْتج
بقوله: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات
جنَاح فِيمَا طعموا} [الْمَائِدَة: 93] الْآيَة، فَقَالَ عمر:
أَخْطَأت التَّأْوِيل إِذا اتَّقَيْت اجْتنبت مَا حرم الله،
وَحده عمر.
رَوَاهُ الْحميدِي بِسَنَد البُخَارِيّ.
وشاع وَلم يُنكر.
وَاعْترض: فهم من الْقَرَائِن، ثمَّ أَخْبَار آحَاد.
رد: الأَصْل عدم الْقَرِينَة، ثمَّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة
صَرِيح، وَهِي متواترة معنى وتلقتها الْأمة بِالْقبُولِ، ثمَّ
الظَّن كَاف.
وَأَيْضًا صِحَة الِاسْتِثْنَاء فِي (أكْرم النَّاس إِلَّا
الْفَاسِق) ، وَهُوَ إِخْرَاج مَا لولاه لدخل بِإِجْمَاع أهل
الْعَرَبيَّة، لَا لصلح دُخُوله، وَأَيْضًا: (من دخل
(5/2333)
من عَبِيدِي حر، وَمن نسَائِي طَالِق) يعم
اتِّفَاقًا، أَو (فَأكْرمه) يتَوَجَّه اللوم بترك وَاحِد،
وَأَيْضًا (من جَاءَك؟) اسْتِفْهَام عَام؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوع
اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ بِحَقِيقَة فِي الْخُصُوص لحسن جَوَابه
بجملة الْعُقَلَاء، وَكَذَا الِاشْتِرَاك وَالْوَقْف وَإِلَّا
لما حسن إِلَّا بعد الِاسْتِفْهَام.
وَالْفرق بَين كل وَبَعض وَبَين تَأْكِيد الْعُمُوم
وَالْخُصُوص قَطْعِيّ، وَكَذَا تَفْرِيق أهل اللُّغَة بَين لفظ
الْعُمُوم وَلَفظ الْخُصُوص.
وَأَيْضًا (كل النَّاس عُلَمَاء يكذبهُ كلهم لَيْسُوا
عُلَمَاء) .
وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم أَنه لما نزل قَوْله: {إِنَّكُم
وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} [الْأَنْبِيَاء:
98] ، قَالَ عبد الله بن الزبعري للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قد عُبدت الْمَلَائِكَة، وعزير،
وَعِيسَى، هَؤُلَاءِ فِي النَّار مَعَ آلِهَتنَا! فَنزل {وَلما
ضرب ابْن مَرْيَم مثلا} [الزخرف: 57] {إِن الَّذين سبقت}
[الْأَنْبِيَاء: 101] إِسْنَاده جيد. رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه
عَن ابْن عَبَّاس.
(5/2334)
وَفِيه قَالَ الْمُشْركُونَ: وَلَيْسَ
فِيهِ الْمَلَائِكَة وَلَا {وَلما ضرب} الْآيَة. رَوَاهُ
الضياء فِي " المختارة ".
ورد بِأَن (مَا) لما لَا يعقل؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ
السَّلَام لِابْنِ الزبعري: " مَا أجهلك بِلِسَان قَوْمك! ".
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": كَذَا قيل، وَلَا وَجه
لصِحَّة الْإِسْنَاد، وَلم يَصح قَوْله ذَلِك لَهُ، وَلَو
اخْتصّت مَا بِمن لَا يعقل لما احْتِيجَ إِلَى قَوْله: {من دون
الله} ؛ لعدم تنَاولهَا لله، و (مَا) هُنَا بِمَعْنى الَّذِي
وَالَّذِي يصلح لما يعقل، كَقَوْلِهِم: الَّذِي جَاءَ زيد،
وَصِحَّة (مَا فِي الدَّار من العبيد أَحْرَار) .
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَكَذَا (مَا) بمعناها يكون للعاقل
أَيْضا، كَقَوْلِه: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} [الشَّمْس: 5]
وَمَا بعْدهَا، ذكره بَعضهم فِيهِنَّ، وَبَعْضهمْ بِمَعْنى
(من) ، وَبَعْضهمْ مَصْدَرِيَّة.
وَاحْتَجُّوا - أَيْضا - بِأَن الْعُمُوم معنى ظَاهر يحْتَاج
إِلَى التَّعْبِير عَنهُ كَغَيْرِهِ.
ورد: بالاستغناء بالمجاز والمشترك، كَذَا قيل، وَالظَّاهِر
خِلَافه.
(5/2335)
الْقَائِل بالخصوص مُتَيَقن فَجعله
حَقِيقَة أولى.
رد: إِثْبَات للغة بالترجيح وَلَيْسَ بطرِيق لَهَا، وَسبق فِي
الْأَمر.
وعورض بِأَن الْعُمُوم أحوط فَكَانَ أولى.
قَالُوا: يلْزم من كَونهَا للْعُمُوم كذب الْخُصُوص كعشرة مَعَ
إِرَادَة خَمْسَة.
رد: لَا يلْزم إِذا كَانَ نصا كعشرة.
قَالُوا: يلْزم من كَونهَا للْعُمُوم كَون التَّأْكِيد عَبَثا
وَالِاسْتِثْنَاء نقضا وَأَن لَا يحسن الِاسْتِفْهَام.
رد: لدفع احْتِمَال التَّخْصِيص وبلزوم ذَلِك فِي الْخَاص،
ولصحة اسْتثِْنَاء خَمْسَة من عشرَة وَلَيْسَ بِنَقْض مَعَ
أَنه صَرِيح.
قَالُوا: الْخُصُوص أغلب فَهُوَ أولى.
رد: بِمَنْعه فِي الْمُؤَكّد، وَمنعه بَعضهم فِي الْخَبَر.
ثمَّ هَذَا الْغَالِب لَا يخْتَص بِثَلَاثَة، وَقد يسْتَعْمل
الشَّيْء غَالِبا مجَازًا وافتقار تخصيصها إِلَى دَلِيل يدل
على أَنَّهَا للْعُمُوم.
الْقَائِل مُشْتَركَة أَو مَوْقُوفَة مَا سبق فِي الْأَمر
للْوُجُوب.
الْقَائِل بِالْفرقِ: الْإِجْمَاع على تَكْلِيف الْمُكَلّفين
لأجل الْعَام بِالْأَمر وَالنَّهْي فَتجب إفادتها للْعُمُوم.
(5/2336)
رد: مثله الْخَبَر الَّذِي يَقع
التَّكْلِيف الْعَام بمعرفته نَحْو: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم}
[الْبَقَرَة: 29] ، وَعُمُوم الْوَعْد والوعيد.
قَوْله: {فَائِدَة: يُقَال للمعنى أَعم وأخص، وللفظ عَام وخاص}
.
قَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": هَذَا مُجَرّد
اصْطِلَاح لَا يدْرك لَهُ وَجه سوى التَّمْيِيز بَين صفة
اللَّفْظ وَصفَة الْمَعْنى.
وَمَا وَقع من أَن صِيغَة التَّفْضِيل اخْتصّت بِالْمَعْنَى؛
لكَونه أهم من اللَّفْظ فسهو؛ إِذْ الْأَعَمّ لم يرد بِهِ معنى
التَّفْضِيل بل الشُّمُول مُطلقًا، وَلَو كَانَ الْأَمر على
مَا توهم لَكَانَ اعْتِبَاره فِي الْأَلْفَاظ أَيْضا وَاجِبا
حَيْثُ كَانَت الزِّيَادَة مَقْصُودَة، وَقد أَشَارَ إِلَى
ذَلِك الْعَلامَة الشريف الْجِرْجَانِيّ فِي بعض تصانيفه فِي
الْمنطق. انْتهى.
وَكَأَنَّهُ عني: الْقَرَافِيّ وَمن تَابعه، فَإِنَّهُ قَالَ:
وَجه الْمُنَاسبَة أَن صِيغَة (افْعَل) تدل على الزِّيَادَة
والرجحان والمعاني أَعم من الْأَلْفَاظ فخصت بِصِيغَة (افْعَل)
التَّفْضِيل، وَمِنْهُم من يَقُول فِيهَا عَام وخاص أَيْضا.
انْتهى.
قلت: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمد.
قوه: {ومدلوله كُلية، أَي: مَحْكُوم فِيهِ على كل فَرد} ، فَرد
بِحَيْثُ لَا يبْقى فَرد، فَقَوله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] بِمَنْزِلَة قَوْله: اقْتُل زيدا
الْمُشرك وعمرا الْمُشرك إِلَى آخِره، وَهُوَ مثل قَوْلنَا: كل
رجل
(5/2337)
يشبعه رغيفان، أَي: كل وَاحِد على
انْفِرَاده، وَلَيْسَ دلَالَته من بَاب الْكل وَهُوَ الحكم على
الْمَجْمُوع من حَيْثُ هُوَ كأسماء الْعدَد، وَمِنْه: كل رجل
يحمل الصَّخْرَة، أَي: الْمَجْمُوع لَا كل وَاحِد، وَلَا من
بَاب الْكُلِّي، وَهُوَ مَا اشْترك فِي مَفْهُومه كَثِيرُونَ
كالحيوان، وَالْإِنْسَان فَإِنَّهُ صَادِق على جَمِيع
أَفْرَاده وَيُقَال الْكُلية والجزئية، وَالْكل والجزء، والكلي
والجزئي فصيغة الْعُمُوم للكلية، وَأَسْمَاء الْأَعْدَاد
للْكُلّ، والنكرات للكلي، والأعلام للجزئي، وَبَعض الْعدَد زوج
للجزئية، وَمَا تركب مِنْهُ وَمن غَيره كل كالخمسة للجزء.
وَالْفرق بَين الْكل والكلي من أوجه.
مِنْهَا: الْكل مُتَقَوّم بأجزائه والكلي بجزئياته.
وَمِنْهَا: الْكل فِي الْخَارِج والكلي فِي الذِّهْن.
وَمِنْهَا: الْأَجْزَاء متناهية، والجزئيات غير متناهية.
وَمِنْهَا الْكل مَحْمُول على أَجْزَائِهِ والكلي على جزئياته،
قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَالظَّاهِر أَنه من كَلَام
الْقَرَافِيّ.
قَوْله: {ودلالته على أصل الْمَعْنى قَطْعِيَّة} ، وَهَذَا
بِلَا نزاع، فَلَا معنى لقَوْله فِي " جمع الْجَوَامِع "
وَهُوَ عَن الشَّافِعِي.
قَوْله: {وعَلى كل فَرد بِخُصُوصِهِ بِلَا قرينَة، ظنية عِنْد
أَكثر أَصْحَابنَا،
(5/2338)
وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم من الْحَنَفِيَّة
الماتريدي وَمن تبعه من مَشَايِخ سَمَرْقَنْد.
قَالَ ابْن اللحام فِي " أُصُوله ": وعَلى كل فَرد بِخُصُوصِهِ
ظنية عِنْد الْأَكْثَر.
وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": هُوَ عَن الشَّافِعِيَّة.
وَقَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأَصْلِيَّة ": هَذَا الْمَشْهُور
عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
وَقد ذكر القَاضِي وَأَصْحَابه، وَاسْتَدَلُّوا لذَلِك بِأَن
التَّخْصِيص بالمتراخي لَا يكون نسخا، وَلَو كَانَ الْعَام نصا
على أَفْرَاده لَكَانَ نسخا، وَذَلِكَ أَن صِيغ الْعُمُوم ترد
تَارَة بَاقِيَة على عمومها، وَتارَة يُرَاد بهَا بعض
الْأَفْرَاد، وَتارَة يَقع فِيهَا التَّخْصِيص، وَمَعَ
الِاحْتِمَال لَا قطع، بل لما كَانَ الأَصْل بَقَاء الْعُمُوم
فِيهَا كَانَ هُوَ الظَّاهِر الْمُعْتَمد للظن، وَيخرج بذلك
عَن الْإِجْمَال.
وَقَالَ ابْن عقيل: وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا،
وَحكي عَن
(5/2339)
الإِمَام الشَّافِعِي، حَكَاهُ الأبياري
عَن الشَّافِعِي والمعتزلة أَن دلَالَته قَطْعِيَّة، وَرُوِيَ
عَن الْحَنَفِيَّة.
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": إِذا تَعَارَضَت دلَالَة
الْعَام وَالْخَاص فِي شَيْء وَاحِد تَسَاويا. انْتهى.
تَنْبِيه: قَوْله: {بِلَا قرينَة} يَقْتَضِي كل فَرد:
كالعمومات الَّتِي يقطع بعمومها وَلَا يدخلهَا تَخْصِيص،
كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة:
29] ، {لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض}
[الْبَقَرَة: 284] ، {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على
الله رزقها} [هود: 6] ، وَنَحْوه.
وَإِن اقْترن بِهِ مَا يدل على أَن الْمحل غير قَابل للتعميم
فَهُوَ كالمجمل يجب التَّوَقُّف فِيهِ إِلَى ظُهُور المُرَاد
مِنْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار
وَأَصْحَاب الْجنَّة} [الْحَشْر: 20] ذكره ابْن الْعِرَاقِيّ.
(5/2340)
تَنْبِيه آخر: قد علم مِمَّا قَرَّرْنَاهُ
أَن لفظ الْعَام لَهُ دلالتان دلَالَة على الْمَعْنى الَّذِي
اشتركت فِيهِ أَفْرَاده، وَهِي الَّتِي بَينا أَن الحكم فِيهَا
على الْكُلِّي وَلَيْسَ للعام بهَا اخْتِصَاص فَإِنَّهَا
تتَعَلَّق بالكلي سَوَاء كَانَ فِيهِ عُمُوم أَو لَا، ودلالته
على كل فَرد من أَفْرَاده من خُصُوص، وَهِي الَّتِي لَهَا
خُصُوصِيَّة بِالْعَام، ويعبر عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أما
الأولى فقطعية بِلَا شكّ، وَهُوَ مَحل وفَاق.
وَمعنى الْقطع فِيهِ دلَالَة النصوصية، أَي: هُوَ نَص
بِالْقطعِ فِيهِ من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فَيكون كدلالة
الْخَاص.
وَالدّلَالَة الثَّانِيَة مَحل خلاف، والأثر على أَنَّهَا ظنية
كَمَا تقدم.
قَوْله: {الْعَام فِي الْأَشْخَاص عَام فِي الْأَحْوَال
وَغَيرهَا} كالأزمنة وَالْبِقَاع والمتعلقات {عِنْد الإِمَام
وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: ابْن السَّمْعَانِيّ والرازي.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأَصْلِيَّة ": الْعَام فِي
الْأَشْخَاص عَام فِي الْأَحْوَال، هَذَا الْمَعْرُوف عِنْد
الْعلمَاء، قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي قَوْله تَعَالَى:
{يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ظَاهرهَا
على الْعُمُوم؛ أَن من وَقع عَلَيْهِ اسْم
(5/2341)
وَلَده فَلهُ مَا فرض الله، وَكَانَ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمعبر عَن
الْكتاب، وَالْآيَة إِنَّمَا قصدت للْمُسلمِ لَا الْكَافِر.
انْتهى.
وَخَالف الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والآمدي، والقرافي،
والأصفهاني فِي " شرح الْمَحْصُول "، وَغَيرهم.
قَالَ الْقَرَافِيّ، وَتَابعه ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي "
أُصُوله ": صِيغ الْعُمُوم وَإِن كَانَت عَامَّة فِي
الْأَشْخَاص فَهِيَ مُطلقَة فِي الْأَزْمِنَة، وَالْبِقَاع،
وَالْأَحْوَال، والمتعلقات، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة لَا عُمُوم
فِيهَا من جِهَة ثُبُوت الْعُمُوم فِي غَيرهَا حَتَّى يُوجد
لفظ يَقْتَضِي الْعُمُوم، نَحْو: لأصومنَّ الْأَيَّام، ولأصلين
فِي جَمِيع الْبِقَاع، وَلَا عصيت الله فِي جَمِيع
الْأَحْوَال، ولأشتغلن بتحصيل جَمِيع المعلومات.
فَإِذا قَالَ الله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين}
[التَّوْبَة: 5] فَهُوَ عَام فِي جَمِيع أَفْرَاد الْمُشْركين،
مُطلق فِي الْأَزْمِنَة، وَالْبِقَاع، وَالْأَحْوَال،
والمتعلقات، فَيَقْتَضِي النَّص قتل كل مُشْرك فِي زمَان مَا،
فِي مَكَان مَا، فِي حَالَة مَا، وَقد أشرك بِشَيْء مَا.
وَلَا يدل اللَّفْظ على خُصُوص يَوْم السبت، وَلَا مَدِينَة
مُعينَة من مَدَائِن الْمُشْركين، وَلَا أَن ذَلِك الْمُشرك
طَوِيل، أَو قصير، وَلَا أَن شركه وَقع بالصنم، أَو بالكوكب،
بل اللَّفْظ مُطلق فِي هَذِه الْأَرْبَع. انْتهى.
(5/2342)
ورد ذَلِك ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح
الْعُمْدَة "، فَقَالَ: أولع بعض أهل الْعَصْر - وَمَا قرب
مِنْهُ - بِأَن قَالُوا: صِيغَة الْعُمُوم إِذا وَردت على
الذوات مثلا، أَو على الْأَفْعَال كَانَت عَامَّة فِي ذَلِك،
مُطلقَة فِي الزَّمَان، وَالْمَكَان، وَالْأَحْوَال،
والمتعلقات.
ثمَّ قَالَ: الْمُطلق يَكْفِي فِي الْعَمَل بِهِ صُورَة
وَاحِدَة فَلَا يكون حجَّة فِيمَا عداهُ، وَأَكْثرُوا من هَذَا
السُّؤَال فِيمَا لَا يُحْصى كَثْرَة من أَلْفَاظ الْكتاب
وَالسّنة، وَصَارَ ذَلِك ديدنا لَهُم فِي الْجِدَال.
قَالَ: وَهَذَا عندنَا بَاطِل، بل الْوَاجِب أَن مَا دلّ على
الْعُمُوم فِي الذوات - مثلا - يكون دَالا على ثُبُوت الحكم
فِي كل ذَات تنَاولهَا اللَّفْظ، وَلَا تخرج عَنْهَا ذَات
إِلَّا بِدَلِيل يَخُصهَا، فَمن أخرج شَيْئا من تِلْكَ الذوات
فقد خَالف مُقْتَضى الْعُمُوم.
مِثَال ذَلِك: إِذا قَالَ: من دخل دَاري فأعطه درهما، فتقتضي
الصِّيغَة العمومة فِي كل ذَات صدق عَلَيْهَا أَنَّهَا
الدَّاخِلَة.
فَإِذا قَالَ قَائِل: هُوَ مُطلق فِي الزَّمَان فأعمل بِهِ فِي
الذوات الدَّاخِلَة الدَّار فِي أول النَّهَار - مثلا - وَلَا
أعمل بِهِ فِي غير ذَلِك الْوَقْت؛ لِأَنَّهُ مُطلق فِي
الزَّمَان، وَقد علمت بِهِ مرّة، فَلَا يلْزم أَن أعمل بِهِ
أُخْرَى لعدم عُمُوم الْمُطلق.
قُلْنَا: الصِّيغَة لما دلّت على الْعُمُوم فِي كل ذَات دخلت
الدَّار، وَمن جُمْلَتهَا الدَّاخِلَة فِي آخر النَّهَار،
فَإِذا أخرجت تِلْكَ الذوات فقد أخرجت مَا
(5/2343)
دلّت الصِّيغَة على دُخُوله، وَقَول أبي
أَيُّوب الْأنْصَارِيّ: (فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض قد
بنيت نَحْو الْقبْلَة فننحرف عَنْهَا ونستغفر الله) يدل على
أَن الْعَام فِي الْأَشْخَاص عَام فِي الْمَكَان. انْتهى.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث اخْتَارَهُ ابْن المرحل،
والسبكي، وَولده التَّاج: إِنَّه يعم بطرِيق الِالْتِزَام لَا
بطرِيق الْوَضع، وجمعوا بَين المقالتين، أَي: فَيلْزم من لَازم
تَعْمِيم الْأَشْخَاص عُمُوم فِي الْأَحْوَال والأزمنة،
وَالْبِقَاع.
وَتكلم على ذَلِك الْبرمَاوِيّ، وَأطَال من كَلَامهم.
(5/2344)
(قَوْله: {فصل} )
{صِيغ الْعُمُوم: اسْم شَرط، واستفهام} . أَي: للْعُمُوم صِيغ
عِنْد الْقَائِل بهَا، أَي: بِأَن للْعُمُوم صِيغَة تخصه.
مِنْهَا: أَسمَاء الشَّرْط، والاستفهام {كمن فِي (من يعقل) }
نَحْو: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا} [الطَّلَاق: 2] ،
{وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} [الطَّلَاق: 3] ، {من عمل
صَالحا فلنفسه} [فصلت: 46] ، {وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا
الضالون} [الْحجر: 56] .
وَتَأْتِي (من) الشّرطِيَّة بخصوصها مُنْفَرِدَة
بِالْأَحْكَامِ، وَالْخلاف فِيهَا قبل التَّخْصِيص، وَتقول فِي
الِاسْتِفْهَام: من عنْدك؟
{و (مَا) فِيمَا لَا يعقل} ، نَحْو، {مَا يفتح الله للنَّاس من
رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من
بعده} [فاطر: 2] ، {وَمَا عِنْد الله خير للأبرار} [آل عمرَان:
198] ، {مَا عنْدكُمْ ينْفد وَمَا عِنْد الله بَاقٍ}
[النَّحْل: 96] ، وَتقول فِي الِاسْتِفْهَام: مَا عنْدك؟
هَذَا هُوَ الصَّحِيح، أَعنِي أَن اسْتِعْمَال (من) فِيمَا
يعقل، وَاسْتِعْمَال
(5/2345)
(مَا) فِيمَا لَا يعقل، وَهُوَ اسْتِعْمَال
كثير شَائِع، قد ورد فِي الْكتاب وَالسّنة، وَكَلَام الْعَرَب.
{وَقيل: (مَا) لَهما} ، يَعْنِي: لمن يعقل وَلمن لَا يعقل فِي
الْخَبَر والاستفهام، ذكره ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " عَن
جمَاعَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": كل مِن (مَن) و (مَا)
قد يسْتَعْمل فِي الآخر كثيرا فِي مَوَاضِع مَشْهُورَة فِي
النَّحْو، والعموم مَوْجُود فَلَا حَاجَة لذكر اخْتِصَاص وَلَا
غَيره فيهمَا. انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: من، وَمَا فِي
الِاسْتِفْهَام للْعُمُوم، فَإِذا قُلْنَا: من فِي الدَّار؟
حسن الْجَواب بِوَاحِد، فَيُقَال مثلا: زيد، وَهُوَ مُطَابق
للسؤال.
فاستشكل ذَلِك قوم.
وَجَوَابه: أَن الْعُمُوم إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار حكم
الِاسْتِفْهَام، لَا بِاعْتِبَار الْكَائِن فِي الدَّار،
فالاستفهام عَم جَمِيع الرتب، فالمستفهم عَم بسؤاله كل وَاحِد
يتَصَوَّر كَونه فِيهَا، فالعموم لَيْسَ بِاعْتِبَار
الْوُقُوع، بل بِاعْتِبَار الِاسْتِفْهَام، واشتماله على كل
الرتب المتوهمة. انْتهى.
(5/2346)
وَسَبقه إِلَى ذَلِك الْقَرَافِيّ، بل هُوَ
أَخذه من كَلَامه.
قَوْله: {و (أَيْن) و (أَنى) و (حَيْثُ) للمكان} ، نَحْو
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم}
[الْحَدِيد: 4] ، و {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت}
[النِّسَاء: 78] فِي الْجَزَاء وَتقول مستفهما: أَنى زيد؟
قَوْله: {و (مَتى) للزمان الْمُبْهم} ، نَحْو: مَتى يقم أقِم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقيد ابْن الْحَاجِب وَغَيره عُمُوم
(مَتى) بالأزمان المبهمة، فَلَا يُقَال: مَتى طلعت الشَّمْس،
بل يُقَال: إِذا طلعت الشَّمْس.
وَهَذَا مُرَاد من أطلق الْعبارَة. انْتهى.
فَلهَذَا قيدها بذلك.
وَاسْتدلَّ لمتى بقول الشَّاعِر:
(مَتى تأته تعشو إِلَى ضوء ناره ... تَجِد خير نَار عِنْدهَا
خير موقد)
أَي: أَي وَقت أتيت، وَنَحْوه فِي الْجَزَاء، مَتى جئتني
أكرمتك.
وَتقول فِي الِاسْتِفْهَام: مَتى جَاءَ زيد.
قَوْله: و (أَي) المضافة للْكُلّ، أَي للعاقل وَغَيره، فَمن
الأول: {لنعلم أَي الحزبين أحصى لما لَبِثُوا أمدا} [الْكَهْف:
12] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها
بَاطِل ".
(5/2347)
وَمن الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {أَيّمَا
الْأَجَليْنِ قضيت فَلَا عدوان عَليّ} [الْقَصَص: 28] وَتقول:
أَي وَقت تخرج؟
قَوْله: {وتعم (من) و (أَي) المضافة إِلَى الشَّخْص ضميرهما
فَاعِلا كَانَ أَو مَفْعُولا} ، فَلَو قَالَ: من قَامَ
مِنْكُم، أَو أَيّكُم قَامَ، أَو من أقمته، أَو أَيّكُم أقمته
فَهُوَ حر، فَقَامُوا، أَو أقامهم عتقوا.
قَالَ الشَّيْخ مجد الدّين فِي " الْمُحَرر ": وعَلى قِيَاسه،
أَي: عَبِيدِي ضَربته أَو من ضَربته من عَبِيدِي فَهُوَ حر،
فضربهم، عتقوا.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: و (أَي) عَامَّة فِيمَا تُضَاف
إِلَيْهِ من الْأَشْخَاص والأزمان، والأمكنة، وَالْأَحْوَال.
وَمِنْه: " أَي امْرَأَة نكحت نَفسهَا ... "، وَيَنْبَغِي
تقييدها بالاستفهامية، أَو الشّرطِيَّة، أَو الموصولة؛ لتخرج
الصّفة، كمررت بِرَجُل أَي رجل، وَالْحَال: مَرَرْت بزيد أَي
رجل. انْتهى.
{وَعنهُ: لَا تعم أَي} .
قَالَ ابْن أبي مُوسَى فِي " الْإِرْشَاد ": إِن قَالَ أَيّكُم
جَاءَ بِخَبَر كَذَا فَهُوَ
(5/2348)
حر فَجَاءَتْهُ جمَاعَة: فَعَن أَحْمد
يعتقون.
وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهَا لَيست للْعُمُوم الشمولي،
وَإِنَّمَا للْعُمُوم البدلي: ابْن السَّمْعَانِيّ،
وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَأَبُو زيد الدبوسي،
وَصَاحب " اللّبَاب " من الْحَنَفِيَّة، وَأَنَّهَا نكرَة لَا
تَقْتَضِي الْعُمُوم إِلَّا بِقَرِينَة حَتَّى لَو قَالَ: أَي
عَبِيدِي ضَربته فَهُوَ حر، فضربهم لَا يعْتق إِلَّا وَاحِد
بِخِلَاف (أَي عَبِيدِي ضربك فَهُوَ حر) فضربوه جَمِيعًا عتقوا
لعُمُوم فعل الضَّرْب، وَاخْتَارَهُ بعض الشَّافِعِيَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ الْحَنَفِيَّة: (أَي عَبِيدِي ضربك
حر) ، فَضربُوا عتقوا؛ لعُمُوم صفة الضَّرْب، وَلَو قَالَ:
ضَربته فضربهم عتق وَاحِد؛ لِأَنَّهُ نكرَة فِي إثْبَاته
إِثْبَات لانْقِطَاع هَذِه الصّفة عَنْهَا إِلَيْهِ، وَلَو
قَالَ: من شِئْت من عَبِيدِي فَأعْتقهُ، فشاء عتق كلهم،
فَعِنْدَ أبي حنيفَة يَسْتَثْنِي وَاحِد؛ لِأَن من
(5/2349)
للتَّبْعِيض، وَعند صَاحِبيهِ يعْتق كلهم؛
لِأَن من للْبَيَان، وَعنهُ: أحدهم.
وَقيل: لَا تعم، أَي الموصولة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا عُمُوم فِي الموصولة، نَحْو:
(يُعجبنِي أَيهمْ هُوَ قَائِم) فَلَا عُمُوم فِيهَا، بِخِلَاف
الشّرطِيَّة، نَحْو: {أيا مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء
الْحسنى} [الْإِسْرَاء: 110] ، والاستفهامية نَحْو: {أَيّكُم
يأتيني بِعَرْشِهَا} [النَّمْل: 38] ، وَالله أعلم.
قَوْله: {وموصول من صِيغ الْعُمُوم} .
الْمَوْصُول سَوَاء كَانَ مُفردا كَالَّذي، وَالَّتِي، أَو
مثنى، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واللذان يأتيانها مِنْكُم}
[النِّسَاء: 16] ، أَو مجموعا نَحْو: {إِن الَّذين سبقت لَهُم
منا الْحسنى} [الْأَنْبِيَاء: 101] ، {واللاتي تخافون نشوزهن}
[النِّسَاء: 34] ، {واللائي يئسن من الْمَحِيض} [الطَّلَاق: 4]
، وَنَحْوهَا.
وَالرَّاجِح عُمُوم الموصولات كلهَا إِلَّا (أَي) على مَا
تقدم.
قَوْله: {و (كل) } . من صِيغ الْعُمُوم كل، وَهِي أقوى صِيغَة.
(5/2350)
وَلها بِالنِّسْبَةِ إِلَى إضافتها معَان،
مِنْهَا: أَنَّهَا إِذا أضيفت إِلَى نكرَة فَهِيَ لشمُول
أَفْرَاده، نَحْو: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} [آل عمرَان: 185] .
وَمِنْهَا: إِذا أضيفت إِلَى معرفَة، وَهِي جمع، أَو مَا فِي
مَعْنَاهُ، فَهِيَ لاستغراق أَفْرَاده أَيْضا، نَحْو: (كل
الرِّجَال، أَو كل النِّسَاء على وَجل إِلَّا من أَمنه الله) ،
وَفِي الحَدِيث: " كل النَّاس يَغْدُو فبائع نَفسه فمعتقها أَو
موبقها ".
وَمِنْهَا: إِذا أضيفت إِلَى معرفَة مُفْرد فَهِيَ لاستغراق
أَجْزَائِهِ أَيْضا، نَحْو: كل الْجَارِيَة حسن، أَو كل زيد
جميل، إِذا علم ذَلِك، فمادتها تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق
والشمول: كالإكليل لإحاطته بِالرَّأْسِ، والكلالة لإحاطتها
بالوالد وَالْولد؛ فَلهَذَا كَانَت أصرح صِيغ الْعُمُوم؛
لشمولها الْعَاقِل وَغَيره، الْمُذكر والمؤنث، الْمُفْرد
والمثنى، وَالْجمع، وَسَوَاء بقيت على إضافتها كَمَا مثلنَا،
أَو حذفت، نَحْو: {كل لَهُ قانتون} [الْبَقَرَة: 116] ، {كل
آمن بِاللَّه} [الْبَقَرَة: 285] .
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: لَيست فِي كَلَام الْعَرَب
كلمة أَعم مِنْهَا تفِيد الْعُمُوم مُبتَدأَة، وتابعة لتأكيد
الْعَام، نَحْو: جَاءَ الْقَوْم كلهم.
وَهنا فَوَائِد:
مِنْهَا: أَن مَا سبق من كَونهَا تستغرق الْأَفْرَاد فِيمَا
إِذا أضيفت لجمع معرف كَمَا لَو أضيفت إِلَى نكرَة فَيكون من
الْكُلية، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
حِكَايَة عَن ربه
(5/2351)
- عز وَجل -: " يَا عبَادي كلكُمْ جَائِع
إِلَّا من أطعمته " الحَدِيث، وَهُوَ قَول الْأَكْثَر، وَذهب
بَعضهم إِلَى أَنه من الْكل المجموعي لَا من الْكُلية.
وَمِنْهَا: إِذا دخلت كل على جمع معرف بِاللَّامِ، وَقُلْنَا
بعمومها، فَهَل الْمُفِيد للْعُمُوم الْألف وَاللَّام وكل
تَأْكِيد، أَو اللَّام لبَيَان الْحَقِيقَة، وكل لتأسيس
إِفَادَة الْعُمُوم؟
الثَّانِي أظهر؛ لِأَن كلا إِنَّمَا تكون مُؤَكدَة إِذا كَانَت
تَابِعَة، وَقد يُقَال: اللَّام أفادت عُمُوم مَرَاتِب مَا
دخلت عَلَيْهِ، وكل أفادت استغراق الْأَفْرَاد، فنحو (كل
الرِّجَال) تفِيد فِيهَا الْألف وَاللَّام عُمُوم مَرَاتِب جمع
الرجل، وكل استغراق الْآحَاد، وَلِهَذَا قَالَ ابْن السراج:
إِن (كل) لَا تدخل فِي الْمُفْرد، والمعرف بِالْألف وَاللَّام
إِذا أُرِيد بِكُل مِنْهُمَا الْعُمُوم. انْتهى.
وَهُوَ ظَاهر؛ وَلِهَذَا منع دُخُول (أل) على كل وعيب قَول بعض
النُّحَاة: بدل الْكل من الْكل.
وَمِنْهَا: لَيْسَ من دُخُولهَا على الْمُفْرد والمعرف نَحْو
قَوْله تَعَالَى: {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل}
[آل عمرَان: 93] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ -:
(5/2352)
" كل الطَّلَاق وَاقع إِلَّا طَلَاق
الْمَعْتُوه "؛ لِأَن الظَّاهِر أَنَّهَا مِمَّا هُوَ فِي معنى
الْجمع الْمُعَرّف، حَتَّى تكون لاستغراق الْأَفْرَاد لَا
الْأَجْزَاء.
وَمِنْهَا: مَحل عمومها إِذا لم يدْخل عَلَيْهَا نفي مُتَقَدم
عَلَيْهَا، نَحْو: (لم يقم كل الرِّجَال) فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ
للمجموع، وَالنَّفْي وَارِد عَلَيْهِ وَسميت سلب الْعُمُوم
بِخِلَاف مَا لَو تَأَخّر عَنْهَا نَحْو: كل إِنْسَان لم يقم،
فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لاستغراق النَّفْي فِي كل فَرد، وَيُسمى
عُمُوم السَّلب.
وَهَذِه الْقَاعِدَة مُتَّفق عَلَيْهَا عِنْد أَرْبَاب
الْبَيَان، وَأَصلهَا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: " كل ذَلِك لم يكن "
جَوَابا لقَوْله: (أنسيت، أم قصرت الصَّلَاة؟) أَي: لم يكن كل
من الْأَمريْنِ، لَكِن بِحَسب ظَنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَلذَلِك صَحَّ أَن يكون جَوَابا للاستفهام عَن
أَي الْأَمريْنِ وَقع.
(5/2353)
وَلَو كَانَ لنفي الْمَجْمُوع لم يكن
مطابقا للسؤال، وَلَا لقَوْل ذِي الْيَدَيْنِ فِي بعض
الرِّوَايَات قد كَانَ بعض ذَلِك؛ فَإِن السَّلب الْكُلِّي
نقيضه الْإِيجَاب الجزئي.
وَأورد على قَوْلهم تقدم النَّفْي لسلب الْعُمُوم نَحْو قَوْله
تَعَالَى: {إِن كل من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي
الرَّحْمَن عبدا} [مَرْيَم: 93] ، فَيَنْبَغِي أَن تقيد
الْقَاعِدَة بِأَن لَا ينْتَقض النَّفْي، فَإِن انْتقض كَانَت
لعُمُوم السَّلب.
وَقد يُقَال: انْتِقَاض النَّفْي قرينَة إِرَادَة عُمُوم
السَّلب. قَالَه الْبرمَاوِيّ وَأطَال هُنَا وَفِي الْحُرُوف.
قَوْله: {و (جمع) } من صِيغ الْعُمُوم، جَمِيع وَهِي مثل كل
إِلَّا أَنَّهَا لَا تُضَاف إِلَّا إِلَى معرفَة، فَلَا
يُقَال: جَمِيع رجل، وَيَقُول: جَمِيع النَّاس، وَجَمِيع
العبيد.
ودلالتها على كل فَرد فَرد بطرِيق الظُّهُور بِخِلَاف كل،
فَإِنَّهَا بطرِيق النصوصية.
وَفرق الْحَنَفِيَّة بَينهمَا بِأَن كلا تعم على جِهَة
الِانْفِرَاد، وجميعا على جِهَة الِاجْتِمَاع.
(5/2354)
قَالَ بَعضهم: إِذا كَانَت (جَمِيع)
إِنَّمَا تُضَاف لمعْرِفَة فَهُوَ إِمَّا بِاللَّامِ، أَو
بِكَوْنِهِ مُضَافا لمعْرِفَة، وكل مِنْهُمَا يُفِيد الْعُمُوم
فَلم تفده جَمِيع.
وَجَوَابه: أَن مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام تقدر حِينَئِذٍ
أَنَّهَا للْجِنْس والعموم مُسْتَفَاد من جَمِيع.
وَأما الْمُضَاف، نَحْو: جَمِيع غُلَام زيد، فَلَيْسَتْ فِيهِ
لعُمُوم كل فَرد، بل لعُمُوم الْأَجْزَاء كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَنَحْوه} ، إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ من هَذِه
الْمَادَّة مثلهَا فِي الْعُمُوم كأجمع، وأجمعين، وَنَحْوهمَا،
وَمن زعم أَن أَجْمَعِينَ تَقْتَضِي الِاتِّحَاد فِي الزَّمَان
بِخِلَاف جَمِيع، فَالْأَصَحّ خلاف قَوْله، قَالَ الله
تَعَالَى: {ولأغوينهم أَجْمَعِينَ} [الْحجر: 39] .
وَاخْتلف فِي (أجمع) وَنَحْوه إِذا وَقع بعد كل: هَل
التَّأْكِيد بِالْأولِ، وَالثَّانِي زِيَادَة فِيهِ أَو بِكُل
مِنْهُمَا أَو بهما مَعًا؟ الْأَرْجَح الأول كَمَا فِي سَائِر
التوابع.
(5/2355)
وَمن مَادَّة جَمِيع أَيْضا: جَاءَ
الْقَوْم بأجمعهم - وَهُوَ بِضَم الْمِيم - جمعُ جمعٍ،
وَسُكُون ثَانِيه، كَعبد وأعبد، وَلَا يُقَال: بأجمعهم -
بِفَتْح الْمِيم - لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه أجمع الَّذِي
يُؤَكد بِهِ؛ لِأَن ذَلِك لَا يُضَاف للضمير وَلَا يدْخل على
حرف الْجَرّ.
قَالَه الحريري فِي " درة الغواص "، وَحكى ابْن السّكيت
الْوَجْهَيْنِ وَإِن كَانَ الأقيس الضَّم.
قَوْله: {ومعشر ومعاشر وَعَامة وكافة وقاطبة} .
ذكر الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": أَن من صِيغ الْعُمُوم
الَّتِي هِيَ نَحْو جَمِيع هَذِه الْخَمْسَة الْأَلْفَاظ،
نَحْو: {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس} [الرَّحْمَن: 33] ، "
إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث "، {وقاتلوا الْمُشْركين
كَافَّة كَمَا يقاتلونكم كَافَّة} [التَّوْبَة: 36] ، وَقَالَت
عَائِشَة: (لما مَاتَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - ارْتَدَّت الْعَرَب قاطبة) .
(5/2356)
قَالَ ابْن الْأَثِير: أَي جَمِيعهم، لَكِن
معشر ومعاشر لَا يكونَانِ إِلَّا مضافين بِخِلَاف قاطبة،
وَعَامة، وكافة، فَإِنَّهَا تُضَاف وَتفرد.
قَوْله: {وَجمع مُطلقًا معرف بلام أَو إِضَافَة} ، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1] .
من جملَة صِيغ الْعُمُوم الْجمع الْمُعَرّف تَعْرِيف جنس
سَوَاء كَانَ الْمُذكر، أَو مؤنث سَالم، أَو مكسر، جمع قلَّة
أَو كَثْرَة، فَلهَذَا قُلْنَا: وَجمع مُطلقًا، ليشْمل هَذَا
كُله.
وَمن أمثلته أَيْضا: {أَن الله بَرِيء من الْمُشْركين}
[التَّوْبَة: 3] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَترى الْجبَال تحسبها
جامدة} [النَّمْل: 88] ، {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات}
[الْأَحْزَاب: 35] ، فَجمع الْكَثْرَة كرجال وَصَوَاحِب،
والسالم الْمُذكر: الْمُسلمُونَ، والمؤنث: المسلمات، والتكسير:
كأكسية، وأفلس، وصبية، وأجمال، والقلة: من ثَلَاثَة، أَو
اثْنَيْنِ إِلَى أحد عشر، وَمن بعْدهَا للكثرة.
(5/2357)
أَو جمع معرف بِالْإِضَافَة، نَحْو:
عَبِيدِي أَحْرَار، ونسائي طَوَالِق، وَنَحْوهمَا، وَقَوله
تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ،
و {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} [النِّسَاء: 23] ، وَهَذَا
قَول أَكثر الْعلمَاء وَالصَّحِيح عَنْهُم.
قَالَ ابْن برهَان: القَوْل بعمومها هُوَ قَول مُعظم
الْعلمَاء.
قَالَ ابْن الصّباغ: هُوَ إِجْمَاع أَصْحَابنَا.
وَدَلِيله: أَن الْعلمَاء لم تزل تستدل بِآيَة السّرقَة وَآيَة
الزِّنَا، وَآيَة الْأَمر بِقِتَال الْمُشْركين، وَنَحْو
ذَلِك، وَمِنْهَا قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِي التَّشَهُّد فِي السَّلَام علينا وعَلى عباد
الله الصَّالِحين: " فَإِنَّكُم إِذا قُلْتُمْ ذَلِك فقد سلمتم
على كل عبد الله صَالح فِي السَّمَاء وَالْأَرْض " رَوَاهُ
البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَقيل: لَا تعم، فَلَا تفِيد الِاسْتِغْرَاق.
وَحَكَاهُ صَاحب الْمُعْتَمد عَن الجبائي، وَحكي أَيْضا عَن
جمع من
(5/2358)
الْفُقَهَاء، وَحكي أَيْضا فِي "
الْمُعْتَمد " عَن أبي هَاشم أَنه يُفِيد الْجِنْس دون
الِاسْتِغْرَاق، وَحَكَاهُ غَيره عَنهُ أَيْضا وَعَن
الْفَارِسِي.
وَقيل: لَا يعم غَيره، قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": قَالَ
البستي: الْكَامِل فِي الْعُمُوم هُوَ الْجمع؛ لوُجُود صورته
وَمَعْنَاهُ، وَمَا عداهُ قَاصِر فِي الْعُمُوم؛ لِأَنَّهُ
لصيغته إِنَّمَا يتَنَاوَل وَاحِدًا لكنه يَنْتَظِم جَمِيعًا
من المسميات معنى فالعموم قَائِم بمعناها لَا بصيغتها. انْتهى.
قَالَ القَاضِي وَغَيره: التَّعْرِيف يصرف الِاسْم إِلَى مَا
الْإِنْسَان بِهِ أعرف، فَإِن كَانَ معهودا فَهُوَ بِهِ أعرف
فَيَنْصَرِف إِلَيْهِ، وَلَا يكون مجَازًا وَإِلَّا انْصَرف
إِلَى الْجِنْس؛ لِأَنَّهُ بِهِ أعرف من أَبْعَاضه، وَاحْتج
بعمومها مَعَ الْعَهْد على من خَالف فِيهِ مَعَ الْجِنْس.
وَقَالَهُ أَبُو الْحُسَيْن، وَأَبُو الْخطاب، وَقَالَ: لَو
قيل: يصير الِاسْم مجَازًا بِقَرِينَة الْعَهْد، لجَاز.
(5/2359)
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَجزم بِهِ غَيره.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: زعم بَعضهم أَن القَوْل بِعُمُوم الْجمع
الْمُعَرّف إِذا كَانَ جمع قلَّة مُشكل؛ لِأَنَّهُ إِلَى عشرَة
والعموم يُنَافِي ذَلِك، وَعنهُ أجوبة كَثِيرَة:
مِنْهَا: جَوَاب أبي الْمَعَالِي: حمل كَلَام سِيبَوَيْهٍ
والنحاة على الْمُنكر وَكَلَام الْأُصُولِيِّينَ على
الْمُعَرّف.
وَمِنْهَا: أَن أصل الْوَضع فِي الْقلَّة ذَلِك، وَلَكِن
اسْتِعْمَاله كالكثرة إِمَّا بعرف الِاسْتِعْمَال أَو بعرف
الشَّرْع.
وَمِنْهَا: أَن الْمُقْتَضى للْعُمُوم إِذا دخل على الْوَاحِد
لَا تَدْفَعهُ وحدته فدخوله على جمع الْقلَّة لَا يَدْفَعهُ
تحديده بِهَذَا الْعدَد من بَاب أولى.
وَقيل: السُّؤَال من أَصله لَا يرد، فقد قَالَ الزّجاج وَابْن
خروف: إِن جمعي الْقلَّة وَالْكَثْرَة سَوَاء.
وَقيل: لَا يرد لأمر آخر، وَهُوَ: أَن الْمُقْتَضى للْعُمُوم
إِذا دخل على جمع، فِيهِ خلاف سَيَأْتِي أَن آحاده جموع أَو
وحدان، فَإِن كَانَ وحدانا فقد ذهب
(5/2360)
اعْتِبَار الجمعية بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِن
كَانَ جموعا فَلَا تنَافِي بَين استغراق كل جمع جمع؛ لِأَن
تِلْكَ الجموع كل وَاحِد مِنْهَا لَهُ عدد معِين، وَقيل: غير
ذَلِك. انْتهى.
تَنْبِيه: على القَوْل بِالْعُمُومِ قيل: أَفْرَاده جموع،
وَالأَصَح آحَاد فِي الْإِثْبَات وَغَيره، وَعَلِيهِ أَئِمَّة
التَّفْسِير فِي اسْتِعْمَال الْقُرْآن، نَحْو: {وَالله يحب
الْمُحْسِنِينَ} [آل عمرَان: 134] أَي: يحب كل محسن، {فَإِن
الله لَا يحب الْكَافرين} [آل عمرَان: 32] أَي: كلا مِنْهُم
بِأَن يعاقبهم، {فَلَا تُطِع المكذبين} [الْقَلَم: 8] أَي: كل
وَاحِد مِنْهُم، وتؤيده صِحَة اسْتثِْنَاء الْوَاحِد مِنْهُ،
نَحْو: جَاءَ الرِّجَال إِلَّا زيدا، وَلَو كَانَ مَعْنَاهُ
جَاءَ كل جمع من جموع الرِّجَال لم يَصح إِلَّا أَن يكون
مُنْقَطِعًا، قَالَه الْمحلي وَغَيره.
قَالَ من قَالَ بِالْأولِ: يَقُول: قَامَت قرينَة الْآحَاد فِي
الْآيَات الْمَذْكُورَة وَنَحْوهَا.
قَوْله: {وَاسم جنس معرف تَعْرِيف جنس} ، وَهُوَ مَا لَا
وَاحِد لَهُ من لَفظه كالناس، وَالْحَيَوَان، وَالْمَاء،
وَالتُّرَاب، وَنَحْوهَا، حملا للتعريف على فَائِدَة لم تكن،
وَهُوَ تَعْرِيف جمع الْجِنْس؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِر كالجمع،
وَالِاسْتِثْنَاء
(5/2361)
مِنْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن
الْإِنْسَان لفي خسر (2) إِلَّا الَّذين آمنُوا} [الْعَصْر: 2،
3] .
{وَقَالَ الْغَزالِيّ: إِن تميز واحده عَن جنسه بِالتَّاءِ
وخلا عَنْهَا أَو لم يتَمَيَّز بوصفه بالوحدة عَم وَإِلَّا
فَلَا} ، كالبر، وَالتَّمْر، وَنَحْوهمَا فَيعم؛ لِأَن وَاحِد
الْبر برة، وَوَاحِدَة التَّمْر تَمْرَة بِخِلَاف مَا لم يدْخل
عَلَيْهِ التَّاء، كَالرّجلِ، وَالدُّنْيَا، فَلَا عُمُوم فِي
ذَلِك.
قَوْله: {وَلَا يعم مَعَ قرينَة اتِّفَاقًا} ، إِذا عَارض اسْم
الْجِنْس الْمُعَرّف تَعْرِيف الْجِنْس قرينَة عهد منعته
الْعُمُوم اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ كسبق تنكير قَوْله تَعَالَى:
{كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا (15) فعصى فِرْعَوْن
الرَّسُول} [المزمل: 15، 16] ؛ لِأَنَّهُ يصرفهُ إِلَى ذَلِك،
فَلَا يعم إِذا عرف، إِرَادَة الْعَهْد لقَرِينَة، وَكَقَوْلِه
تَعَالَى: {يَا لَيْتَني اتَّخذت مَعَ الرَّسُول سَبِيلا}
[الْفرْقَان: 27] ، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَيْسَ الذّكر
كالأنثى} [آل عمرَان: 36] .
وَمِمَّنْ نقل الِاتِّفَاق على ذَلِك الْفَخر الرَّازِيّ فِي "
الْمَحْصُول " وَغَيره.
(5/2362)
[ {وَمَعَ جهلها يعم عندنَا وَعند
الْأَكْثَر ووقف أَبُو الْمَعَالِي وَإِن عَارض الِاسْتِغْرَاق
احْتِمَال تَعْرِيف جنس وَعرف. كعلي الطَّلَاق وَنَحْوه لم يعم
على الْأَصَح.
ومفرد محلي بلام غير عهدية عندنَا وَعند الْأَكْثَر كَالرّجلِ
وَالسَّارِق لفظا عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ السَّمْعَانِيّ:
معنى، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره:
(5/2363)
لَا يعم، وَقيل: مُجمل.
وَجمع مُضَاف ومفرد مُضَاف لمعْرِفَة كعبدي وامرأتي، عِنْد
أَحْمد وَأَصْحَابه وَمَالك وَبَعض أَصْحَابه تبعا لعَلي
وَابْن عَبَّاس وَحكي عَن الْأَكْثَر، وَخَالف الْحَنَفِيَّة
وَالشَّافِعِيَّة.
ونكرة فِي نفي: وضعا، وَقيل: لُزُوما، نصا وظاهرا
(5/2364)
وَعند أبي الْبَقَاء وَغَيره لَا تعمم
إِلَّا مَعَ من ظَاهِرَة أَو مقدرَة، وَحكي إِجْمَاع وَمَعَ من
الْعُمُوم قَطْعِيّ فَلَا مجَاز.
وَفِي إِثْبَات لامتنان واستفهام إنكاري، وَفِي نهي، وَقيل:
وَأمر، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَالشَّيْخ وَغَيرهمَا وَشرط.
(5/2365)
قَالَ الشَّيْخ: هَل تفيده لفظا أَو معنى
فِيهِ نظر. وَفِي " الْمُغنِي " مَا يدل على أَنَّهَا لَا تعم.
وَجمع مُنكر غير مُضَاف لَا يعم عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه
وَالْأَكْثَر، وَيحمل على أقل الْجمع.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر: وَجمع يعم.
فَائِدَتَانِ:
الأولى: الْأَكْثَر ساير بِمَعْنى بَاقٍ، وَفِي الصِّحَاح
وَغَيرهَا لجملة
(5/2366)
الشَّيْء، وَهُوَ فِي كَلَام الْخرقِيّ
والموفق وَجمع.
الثَّانِيَة: معيار الْعُمُوم صِحَة الِاسْتِثْنَاء من غير
عدد.
(5/2367)
(فصل:)
الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: أقل الْجمع ثَلَاثَة حَقِيقَة.
والأستاذ والباقلاني وَالْغَزالِيّ وَبَعض أَصْحَابنَا
والمالكية وَغَيرهم اثْنَان حَقِيقَة، ثمَّ قَالَ: أَبُو
الْمَعَالِي: يَصح فِي الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحد مجَازًا وَقيل
فِي الِاثْنَيْنِ.
وَقيل: لَا يَصح.
(5/2368)
فَائِدَة:
مَحل الْخلاف فِي غير لفظ " جمع " و " نَحن " و " قُلْنَا " و
" قُلُوبكُمَا " مِمَّا فِي الْإِنْسَان مِنْهُ شَيْء وَاحِد
فَإِنَّهُ وفَاق وَأَقل الْجَمَاعَة فِي غير صَلَاة ثَلَاثَة.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَصَاحب الْبلْغَة: اثْنَان.
وَقيل: جمع قلَّة من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة حَقِيقَة، وَجمع
كَثْرَة مَا زَاد على عشرَة حَقِيقَة وَحكي عَن أهل اللُّغَة}
] .
(5/2369)
وَقَالَ ابْن الصّباغ: إِنَّه قَول
أَصْحَابنَا وَبِه قَالَ ألكيا.
قَالَ: لكنه دون مَا [لم] يتَطَرَّق التَّخْصِيص إِلَيْهِ
يكسبه ضربا من التَّجَوُّز.
وَقَالَ الدبوسي: هُوَ الَّذِي صَحَّ عندنَا من مَذْهَب السّلف
... قَالَ: لكنه غير مُوجب للْعلم قطعا بِخِلَاف مَا قبل
التَّخْصِيص. انْتهى.
وَالْمرَاد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا خص بِمَعْلُوم، أَو خص
باستثناء بِمَعْلُوم على مَا يَأْتِي فِي كلامنا فِي أَوَاخِر
الْمَسْأَلَة.
وَقيل: حجَّة فِي أقل الْجمع اثْنَيْنِ، أَو ثَلَاثَة على
الْخلاف، لَا فِي مَا زَاد، حَكَاهُ الباقلاني، وَالْغَزالِيّ،
والقشيري، وَقَالَ: إِنَّه تحكم. وَقَالَ الْهِنْدِيّ:
لَعَلَّه قَول من لَا يجوز التَّخْصِيص إِلَيْهِ.
وَقيل: حجَّة فِي وَاحِد فَقَط، حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي "
المنخول " عَن أبي هَاشم، وَلَا يتَمَسَّك بِهِ فِي جمع.
(5/2370)
وَقَالَ الْبَلْخِي: حجَّة إِن خص
بِمُتَّصِل، وَإِن خص بمنفصل فمجمل فِي الْبَاقِي.
وَقَالَ أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ: إِن كَانَ الْعُمُوم
منبئا عَنهُ قبل التَّخْصِيص ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} منبئ
عَن الذِّمِّيّ، وَإِلَّا فَلَا، ك (السَّارِق) لَا يُنبئ عَن
النّصاب والحرز فيفتقر إِلَى بَيَان كَحكم مُجمل.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة:
5] فَهُوَ حجَّة فَإِنَّهُ يُنبئ عَن الْحَرْبِيّ كَمَا يُنبئ
عَن الْمُسْتَأْمن، وَإِن يكن منبئا فَلَيْسَ بِحجَّة، ك
{وَالسَّارِق والسارقة} [الْمَائِدَة: 38] فَإِنَّهُ لَا يُنبئ
عَن النّصاب والحرز، فَإِذا انْتَفَى الْعَمَل بِهِ عِنْد عدم
النّصاب والحرز، لم يعْمل بِهِ عِنْد وجودهما. انْتهى.
قَالَ عبد الْجَبَّار: إِن كَانَ قبله غير مفتقر إِلَى بَيَان
ك (الْمُشْركين) فَهُوَ حجَّة، وَإِلَّا فَلَا، ك (أقِيمُوا
الصَّلَاة) فَإِنَّهُ مفتقر قبل إِخْرَاج الْحَائِض.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هُوَ حجَّة عندنَا إِن كَانَ لَا
يتَوَقَّف على الْبَيَان، ك (الْمُشْركين) فَإِنَّهُ بَين فِي
الذِّمِّيّ قبل إِخْرَاجه بِخِلَاف نَحْو: (أقِيمُوا
الصَّلَاة) فَإِنَّهُ مفتقر إِلَى الْبَيَان قبل إِخْرَاج
الْحَائِض من عُمُوم اللَّفْظ؛ وَلذَلِك بَينه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَ: " صلوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". انْتهى.
(5/2371)
قَالَ ابْن مُفْلِح: رد؛ إِذْ لَا فرق،
ثمَّ فرق ابْن عقيل بِأَنَّهُ إِذا خرج من (أقِيمُوا
الصَّلَاة) من لم يرد، وَلم يُمكن الْحمل على المُرَاد
بِالْآيَةِ. انْتهى.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر، وَبَعض أَصْحَابنَا، وَعِيسَى بن أبان،
والكرخي، وَحَكَاهُ الْقفال الشَّاشِي عَن أهل الْعرَاق،
وَحَكَاهُ الْغَزالِيّ عَن الْقَدَرِيَّة، وَنَقله إِمَام
الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي، عَن كثير من الشَّافِعِيَّة،
والمالكية، وَالْحَنَفِيَّة، وَعَن الجبائي وَابْنه: إِنَّه
لَيْسَ بِحجَّة.
قَالُوا: لِأَن اللَّفْظ مَوْضُوع للاستغراق وَإِنَّمَا يخرج
عَنهُ بِقَرِينَة، وَمِقْدَار تَأْثِير الْقَرِينَة فِي
اللَّفْظ مَجْهُول فَيصير مُجملا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَمُرَاد من قَالَ من
أَصْحَابنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة إِلَّا فِي
الِاسْتِثْنَاء بِمَعْلُوم فَإِنَّهُ بالِاتِّفَاقِ.
(5/2372)
ذكره القَاضِي وَالْمجد من أَصْحَابنَا
وَغَيرهمَا، وَاحْتَجُّوا بِهِ وَفهم الْآمِدِيّ، وَغَيره
الْإِطْلَاق فَلم يستثنوا ذَلِك.
قَوْله: {وَقيل بِالْوَقْفِ} ، أَي فِي الْمَسْأَلَة، فَلَا
يحكم بِأَنَّهُ خَاص أَو عَام أَلا بِدَلِيل، حَكَاهُ ابْن
الْقطَّان، وَجعله مغايرا لقَوْل ابْن أبان وَغَيره.
نعم، من يَقُول: أَنه مُجمل اخْتلفُوا: هَل هُوَ مُجمل من
حَيْثُ اللَّفْظ وَالْمعْنَى؛ فَإِنَّهُ لَا يعقل المُرَاد من
ظَاهره إِلَّا بِقَرِينَة، أَو مُجمل من حَيْثُ الْمَعْنى
فَقَط؟ وَجْهَان للشَّافِعِيَّة: الْأَكْثَرُونَ على الثَّانِي
لافتقار الْعَام الْمَخْصُوص لقَرِينَة تبين مَا هُوَ مُرَاد
بِهِ، وافتقار الْعَام المُرَاد بِهِ خَاص إِلَى قرينَة تبين
مَا لَيْسَ مرَادا بِهِ فتزيد الْمذَاهب.
وَاسْتدلَّ للصحيح بِمَا سبق فِي إِثْبَات الْعُمُوم بِأَن
الصَّحَابَة لم تزل تستدل بالعمومات مَعَ وجود التَّخْصِيص
فِيهَا، وَلَو قَالَ: أكْرم بني تَمِيم وَلَا تكرم فلَانا
فَترك عصي قطعا، وَلِأَنَّهُ كَانَ حجَّة، وَالْأَصْل
بَقَاؤُهُ؛ وَلِأَن دلَالَته على بعض لَا تتَوَقَّف على بعض
آخر للدور.
وَاسْتدلَّ: لَو لم يكن حجَّة بعد التَّخْصِيص كَانَت دلَالَته
عَلَيْهِ قبله مَوْقُوفَة على دلَالَته على الآخر وَاللَّازِم
بَاطِل؛ لِأَنَّهُ إِن عكس فدور، وَإِلَّا فتحكم.
(5/2373)
فَأُجِيب بِالْعَكْسِ، وَلَا دور؛
لِأَنَّهُ توقف معية كتوقف كل من معلولي عِلّة على الآخر، لَا
توقف تقدم كتوقف مَعْلُول على عِلّة.
قَالُوا: صَار مجَازًا.
رد بِالْمَنْعِ، ثمَّ هِيَ حجَّة.
وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ مجَاز
لُغَة، حَقِيقَة شرعا.
قَالُوا: صَار مُجملا؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه مجَاز فِي
الْبَاقِي، وَفِي كل فَرد مِنْهُ، وَلَا تَرْجِيح.
رد: بِالْمَنْعِ؛ لِأَن الْبَاقِي كَانَ مرَادا، وَالْأَصْل
بَقَاؤُهُ.
فَائِدَة: قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ، وَغَيره فِي " شرح جمع
الْجَوَامِع ": الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُفَرع على
القَوْل بِأَن الْعَام بعد التَّخْصِيص مجَاز، فَأَما إِن
قُلْنَا إِنَّه حَقِيقَة فَهُوَ حجَّة قطعا، وَكَانَ يَنْبَغِي
الإفصاح فِي ذَلِك؛ لدفع الْإِيهَام. انْتهى.
قلت: وَهُوَ ظَاهر صَنِيع ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "،
فَإِنَّهُ فِي الْمَسْأَلَة الأولى نصر أَن الْعَام بعد
التَّخْصِيص مجَاز، وَنصر بعد ذَلِك أَنه حجَّة.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: قد ذكرنَا أَن الْخلاف فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة مُفَرع على الَّتِي
(5/2374)
قبلهَا، نعم، من جوز التَّعَلُّق بِهِ مَعَ
كَونه مجَازًا كَالْقَاضِي يبْقى الْخلاف على قَوْله لفظيا،
كَمَا قَالَه أَبُو حَامِد وَغَيره؛ لِأَنَّهُ هَل يحْتَج
بِهِ، وَيُسمى مجَازًا أم لَا يُسمى مجَازًا؟
وَقَالَ صَاحب " الْمِيزَان " من الْحَنَفِيَّة: إِن
الْمَسْأَلَة مفرعة على أَن دلَالَة الْعَام على أَفْرَاده
قَطْعِيَّة، أَو ظنية، فَمن قَالَ قَطْعِيَّة جعل الَّذِي خص
كَالَّذي لم يخص.
قيل: وَفِيه نظر.
وَقيل: مفرعة على أَن اللَّفْظ الْعَام هَل يتَنَاوَل
الْجِنْس، وتندرج الْآحَاد تَحْتَهُ ضَرُورَة اشتماله
عَلَيْهَا، أَو يتَنَاوَل الْآحَاد وَاحِدًا وَاحِدًا؛ حَتَّى
يسْتَغْرق الْجِنْس؟
فالمعتزلة قَالُوا بِالْأولِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يظْهر
عُمُومه، فَإِذا خص تبين أَنه لم يرد الْعُمُوم، وَعند
إِرَادَة عدم الْعُمُوم لَيْسَ بعض أولى من بعض فَيكون مُجملا.
انْتهى.
تَنْبِيه: وَقد علمنَا أَن هَذَا الْخلاف فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَام الْمَخْصُوص، أما
الْعَام المُرَاد بِهِ الْخُصُوص فمجاز قطعا.
(5/2375)
قَوْله: {وَلَو خص بِمَجْهُول لم يكن حجَّة
كاقتلوا الْمُشْركين إِلَّا بَعضهم اتِّفَاقًا} . قَالَه جمع
مِنْهُم: الباقلاني، والآمدي، والأصفهاني فِي " شرح
الْمَحْصُول "، وَهُوَ ظَاهر تَقْيِيد ابْن الْحَاجِب،
والبيضاوي، وَغَيرهمَا.
مَحل الْخلاف الْمُخَصّص بِمعين، وَقطع بِهِ أَبُو الْخطاب فِي
" التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَغَيرهمَا،
فَلَا يسْتَدلّ بِالْآيَةِ على الْأَمر بقتل فَرد من
الْأَفْرَاد، إِذْ مَا من فَرد إِلَّا وَيجوز أَن يكون هُوَ
الْمخْرج، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أحلّت لكم بَهِيمَة
الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 1] .
(5/2376)
وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: حجَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَاخْتَارَهُ صَاحب "
الْمَحْصُول "، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي " التَّمْهِيد "،
فَإِنَّهُ قَالَ: أَلا ترى أَنه لَو أقرّ بِعشْرَة إِلَّا
درهما لزمَه تِسْعَة، وَلَو قَالَ: إِلَّا شَيْئا إِلَّا عددا
جهلنا الْبَاقِي فَلم يُمكن الحكم بِهِ، فعلى هَذَا يقف على
الْبَيَان. انْتهى.
وَقدمه فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَعَزاهُ إِلَى الْأَكْثَر،
وَتبع فِي ذَلِك ابْن برهَان، وَالصَّوَاب مَا تقدم، وَالَّذِي
حَكَاهُ الْبرمَاوِيّ عَن الرَّازِيّ أَنه لَيْسَ بِحجَّة،
فَليعلم ذَلِك، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَيْسَ حِكَايَة
الِاتِّفَاق بصحيحة.
فَفِي " الْوَجِيز " لِابْنِ برهَان حِكَايَة الْخلاف فِي
هَذِه الْحَالة، بل صحّح الْعَمَل بِهِ مَعَ الْإِبْهَام
قَالَ: لأَنا إِذا نَظرنَا إِلَى فَرد شككنا فِيهِ: هَل هُوَ
من الْمخْرج، أَو لَا؟ وَالْأَصْل عَدمه فَيبقى على الأَصْل،
وَيعْمل بِهِ إِلَى أَن يعلم بِالْقَرِينَةِ، أَن الدَّلِيل
الْمُخَصّص معَارض للفظ الْعَام، وَإِنَّمَا يكون مُعَارضا
عِنْد الْعلم بِهِ. انْتهى.
(5/2377)
وَهُوَ صَرِيح فِي الإضراب عَن الْمُخَصّص،
وَالْعَمَل بِالْعَام فِي جَمِيع أَفْرَاده وَهُوَ بعيد، وَإِن
قَالَ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة، وَحكي عَن بعض الشَّافِعِيَّة.
وَبِالْجُمْلَةِ فالراجح الْمَنْع؛ لِأَن إِخْرَاج الْمَجْهُول
من الْمَعْلُوم، يصير الْمَعْلُوم مَجْهُولا.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: الْعَام الْخُصُوص عُمُومه مُرَاد تناولا لَا حكما،
وقرينته لفظية قد تنفك عَنهُ، وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ
الْخُصُوص لَيْسَ مرَادا، بل كلي اسْتعْمل فِي جزئي، وَمن ثمَّ
كَانَ مجَازًا قطعا، وقرينته عقلية، لَا تنفك عَنهُ، وَالْأول
أَعم مِنْهُ} .
لم يتَعَرَّض كثير من الْعلمَاء، بل أَكْثَرهم للْفرق بَين
الْعَام الْمَخْصُوص وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص،
وَهُوَ من مهمات هَذَا الْبَاب، وَهُوَ عَزِيز الْوُجُود.
(5/2378)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد أَشَارَ
الشَّافِعِي إِلَى تغايرهما فِي ترديده فِي آيَة البيع
وَنَحْوه، وَكَثُرت مقالات أَصْحَابه فِي تَقْرِير ذَلِك،
وَفرق بَينهمَا أَبُو حَامِد أَن الَّذِي أُرِيد بِهِ
الْخُصُوص كَانَ المُرَاد بِهِ أقل، وَمَا لَيْسَ بِمُرَاد
هُوَ الْأَكْثَر.
قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: وَلَيْسَ كَذَلِك الْعَام
الْمَخْصُوص؛ لِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْأَكْثَر، وَمَا
لَيْسَ بِمُرَاد هُوَ الْأَقَل.
قَالَ: ويفترقان فِي الحكم من جِهَة أَن الأول لَا يَصح
الِاحْتِجَاج بِظَاهِرِهِ، وَهَذَا يُمكن التَّعَلُّق
بِظَاهِرِهِ اعْتِبَارا بِالْأَكْثَرِ.
وَفرق الْمَاوَرْدِيّ بِوَجْهَيْنِ، أَحدهمَا هَذَا.
وَالثَّانِي: أَن إِرَادَة مَا أُرِيد بِهِ الْعُمُوم، ثمَّ خص
مُتَأَخّر أَو تقارن.
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: يجب أَن ينتبه للْفرق بَينهمَا،
فالعام الْمَخْصُوص أَعم من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ
الْخُصُوص، أَلا ترى أَن الْمُتَكَلّم إِذا أَرَادَ
بِاللَّفْظِ أَولا مَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهره من الْعُمُوم، ثمَّ
أخرج بعد ذَلِك بعض مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ كَانَ عَاما
مَخْصُوصًا، وَلم يكن عَاما أُرِيد بِهِ الْخُصُوص.
(5/2379)
وَيُقَال: إِنَّه مَنْسُوخ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الْبَعْض الَّذِي أخرج، وَهَذَا مُتَوَجّه إِذا قصد
الْعُمُوم، وَفرق بَينه وَبَين أَن لَا يقْصد الْخُصُوص
بِخِلَاف مَا إِذا نطق بِاللَّفْظِ الْعَام مرِيدا بِهِ بعض
مَا تنَاوله فِي هَذَا. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحَاصِل مَا قَرَّرَهُ أَن الْعَام إِذا
قصر على بعضه، لَهُ ثَلَاث حالات:
الأولى: أَن يُرَاد بِهِ فِي الِابْتِدَاء خَاص، فَهَذَا هُوَ
المُرَاد بِهِ خَاص.
الثَّانِيَة: أَن يُرَاد بِهِ عَام ثمَّ يخرج مِنْهُ بعضه
فَهُوَ نسخ.
وَالثَّالِثَة: أَن لَا يقْصد بِهِ خَاص وَلَا عَام فِي
الِابْتِدَاء، ثمَّ يخرج مِنْهُ أَمر، ويتبين بذلك أَنه لم يرد
بِهِ فِي الِابْتِدَاء عُمُومه، فَهَذَا هُوَ الْعَام
الْمَخْصُوص؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّخْصِيص عندنَا بَيَانا لَا
نسخا، إِلَّا إِن أخرج بعد دُخُول وَقت الْعَمَل بِالْعَام
فَيكون نسخا؛ لِأَنَّهُ قد تبين أَن الْعُمُوم أُرِيد فِي
الِابْتِدَاء. انْتهى.
وَفرق السُّبْكِيّ فَقَالَ: الْعَام الْمَخْصُوص أُرِيد
عُمُومه وشموله لجَمِيع الْأَفْرَاد من جِهَة تنَاول اللَّفْظ
لَهَا، لَا من جِهَة الحكم، وَالَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص
لم يرد شُمُوله لجَمِيع الْأَفْرَاد لَا من جِهَة التَّنَاوُل
وَلَا من جِهَة الحكم، بل هُوَ كلي اسْتعْمل فِي جزئي،
وَلِهَذَا كَانَ مجَازًا قطعا لنقل اللَّفْظ عَن مَوْضِعه
الْأَصْلِيّ بِخِلَاف الْعَام الْمَخْصُوص فَإِن فِيهِ خلافًا
يَأْتِي.
(5/2380)
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ:
الْفرق بَينهمَا من أوجه:
أَحدهَا: أَن قرينَة الْعَام الْمَخْصُوص لفظية، وقرينة
الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص عقلية.
الثَّانِي: أَن قرينَة الْمَخْصُوص قد تنفك عَنهُ، وقرينة
الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لَا تنفك عَنهُ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ بعد أَن حكى الفروق فِي ذَلِك: وَيعلم من
ذَلِك أَن قَول بعض متأخري الْحَنَابِلَة فِي الْفرق بِأَن
الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ [الْخُصُوص أَن يُطلق
الْمُتَكَلّم اللَّفْظ الْعَام وَيُرِيد بِهِ بَعْضًا معينا
وَالْعَام الْمَخْصُوص هُوَ الَّذِي أُرِيد بِهِ] سلب الحكم
عَن بعض مِنْهُ، وَأَيْضًا فَالَّذِي أُرِيد بِهِ خُصُوص
يحْتَاج لدَلِيل معنوي يمْنَع إِرَادَة الْجَمِيع فَتعين لَهُ
الْبَعْض، والمخصوص يحْتَاج لدَلِيل لَفْظِي غَالِبا، كالشرط
وَالِاسْتِثْنَاء والغاية والمنفصل. انْتهى.
وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَيحْتَمل
إِرَادَة غَيره، وَلم نطلع على قَائِله. وَقد قَالَ ابْن
قَاضِي الْجَبَل: يجوز وُرُود الْعَام وَالْمرَاد بِهِ
الْخُصُوص خَبرا كَانَ أَو أمرا.
(5/2381)
قَالَ أَبُو الْخطاب: وَقد ذكره الإِمَام
أَحْمد فِي قَوْله تَعَالَى: {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا}
[الْأَحْقَاف: 25] قَالَ: وَأَتَتْ على أَشْيَاء لم تدمرها
كمساكنهم وَالْجِبَال. وَبِه قَالَ الْجُمْهُور. انْتهى.
فَهَذَا عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فِيمَا يظْهر.
قَوْله: {الثَّانِيَة، قيل: لَيْسَ فِي الْقُرْآن عَام لم يخص
إِلَّا قَوْله تَعَالَى:} {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض
إِلَّا على الله رزقها} [هود: 6] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ
بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] .
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": مَا من عُمُوم إِلَّا وَقد
تطرق إِلَيْهِ التَّخْصِيص إِلَّا الْيَسِير، كَقَوْلِه
تَعَالَى ... وَذكر الْآيَتَيْنِ.
قَالَ الطوفي فِي " الإشارات ": قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ
بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] هَذَا عَام لم يخص بِشَيْء
أصلا لتَعلق علمه عز وَجل بالمواد الثَّلَاث مَادَّة الْوَاجِب
والممكن والممتنع، بِخِلَاف قَوْله تَعَالَى: {إِن الله على كل
شَيْء قدير} [الْبَقَرَة: 20] فَإِنَّهُ عَام مَخْصُوص
بالمحالات والواجبات الَّتِي لَا تدخل تَحت الْمَقْدُور بِهِ
كالجمع بَين الضدين، وكخلق ذَاته وَصِفَاته، وَأَشْبَاه ذَلِك.
انْتهى.
(5/2382)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: اعْترض ابْن دَاوُد
على الشَّافِعِي فِي جعله {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض
إِلَّا على الله رزقها} من الْعَام الَّذِي لم يخص، بِأَن من
الدَّوَابّ من أفناه الله تَعَالَى قبل أَن يرزقه.
ورده الصَّيْرَفِي: بِأَن ذَلِك خطأ؛ لِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ
من رزق يقوم بِهِ وَلَو بِنَفس يَأْتِيهِ، وَقد جعل الله
تَعَالَى غذَاء طَائِفَة من الطير التنفس إِلَى مُدَّة يصلح
فِيهَا للْأَكْل وَالشرب. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ أَيْضا: نعم، هَل يُطلق على الْمَعْدُوم
شَيْء؟ إِن كَانَ مستحيلا فَلَا، بِلَا خلاف عِنْد
الْمُتَكَلِّمين، وَغلظ الزَّمَخْشَرِيّ على الْمُعْتَزلَة فِي
ذَلِك، وَإِنَّمَا خلافهم فِي الْمَعْدُوم الَّذِي لَيْسَ
بمستحيل. نعم، عِنْد النُّحَاة أَن الْمَعْدُوم يُطلق عَلَيْهِ
شَيْء مستحيلا كَانَ أَو لَا.
إِذا تقرر أَن المستحيل لَا يُسمى شَيْئا على رَأْي لَا يُسمى
شَيْئا على رَأْي الْمُتَكَلِّمين تبين أَن نَحْو قَوْله:
{الله على كل شَيْء قدير} من الْعَام الْمَخْصُوص بِالْعقلِ،
أَو من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص على الْخلاف
السَّابِق. انْتهى.
وَقَالَ بعض أهل الْعلم: الْعَام الْبَاقِي على عُمُومه قَلِيل
جدا، وَلم يُوجد مِنْهُ إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالله بِكُل
شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَقَوله تَعَالَى: {خَلقكُم
من نفس وَاحِدَة} [النِّسَاء: 1] ثمَّ قَالَ: قلت: الظَّاهِر
(5/2383)
إِن من ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {حرمت
عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} الْآيَة [النِّسَاء: 23] ، فَإِن من
صِيغ الْعُمُوم الْجمع الْمُضَاف، وَلَا تَخْصِيص فِيهَا.
انْتهى.
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِي فِي " شرح الطوفي ": وَقد ولع النَّاس
كثيرا بقَوْلهمْ: إِن كل عَام فِي الْقُرْآن مَخْصُوص إِلَّا
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} ، وَقَوله
تَعَالَى: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله
رزقها} وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا:، وَقد تدبرت ذَلِك فَوجدت فِي
الْقُرْآن وَالسّنة مَا لَا تحصى كَثْرَة من العمومات
الْبَاقِيَة على عمومها، فَتَأَمّله تَجدهُ كَذَلِك. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هُنَا نَوْعَانِ: نوع يمْتَنع
لذاته مِمَّا يُنَاقض صِفَاته اللَّازِمَة كالموت، وَالنَّوْم،
وَالْجهل، واللغوب، وَنَحْوه، فَهَذَا مُمْتَنع وجوده مُطلقًا،
كَمَا يمْتَنع وجود إِلَه آخر مسَاوٍ لَهُ، وكما يمْتَنع عَدمه
- سُبْحَانَهُ -، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء بِاتِّفَاق
الْعُقَلَاء فَلَا يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله على
كل شَيْء قدير} فَإِنَّهُ يمْتَنع وجوده فِي الْخَارِج؛ إِذْ
كَانَ مستلزما للْجمع بَين النقيضين بَين الْوُجُود والعدم،
وَكَون الشَّيْء مَوْجُودا مَعْدُوما مُمْتَنع. انْتهى.
(5/2384)
(قَوْله: {فصل} )
{الْجَواب غير المستقل تَابع للسؤال فِي عُمُومه اتِّفَاقًا} ،
كجوابه لمن سَأَلَهُ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ: " أينقص الرطب
إِذا يبس؟ " قيل: نعم. قَالَ: " فَلَا إِذا "، لَكِن ابْن
قَاضِي الْجَبَل قَالَ: تَابع فِي عُمُومه عِنْد الْأَكْثَر.
قَوْله: {وَكَذَا فِي خصوصه} ، يَعْنِي: أَن الْجَواب غير
المستقل تَابع للسؤال فِي خصوصه أَيْضا، كنحو قَوْله تَعَالَى:
{فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم}
[الْأَعْرَاف: 44] ، وكحديث أنس: قَالَ رجل: يَا رَسُول الله،
الرجل منا يلقى أَخَاهُ أَو صديقه أينحني لَهُ؟ قَالَ: " لَا
"، قَالَ: أفيلزمه
(5/2385)
ويقبله؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: فَيَأْخُذ
بِيَدِهِ ويصافحه؟ قَالَ: " نعم ". قَالَ التِّرْمِذِيّ:
حَدِيث حسن.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": كَقَوْلِه لغيره:
تغد عِنْدِي، فَيَقُول: لَا.
وَقَالَ القَاضِي وَغَيره: كَقَوْلِه لأبي بردة: " تجزئك وَلَا
تجزيء أحدا بعْدك "، أَي: فِي الْأُضْحِية.
قَالَ الْآمِدِيّ: فَهَذَا وَأَمْثَاله وَإِن ترك فِيهِ
الاستفصال مَعَ تعَارض الْأَحْوَال لَا يدل على التَّعْمِيم
فِي حق غَيره كَمَا قَالَه الشَّافِعِي؛ إِذْ اللَّفْظ لَا
عُمُوم لَهُ، وَلَعَلَّ الحكم على ذَلِك الشَّخْص لِمَعْنى
مُخْتَصّ بِهِ كتخصيص أبي بردة بقوله: " وَلَا تجزيء أحدا
بعْدك "، ثمَّ بِتَقْدِير تَعْمِيم الْمَعْنى فبالعلة لَا
بِالنَّصِّ.
(5/2386)
وَقَالَهُ قبله أَبُو الْمَعَالِي
لاحْتِمَال مَعْرفَته، فَأجَاب على مَا عرف وعَلى هَذَا تجْرِي
أَكثر الْفَتَاوَى من الْمُفْتِينَ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَالَّذِي عِنْد أَصْحَابنَا
التَّعْمِيم، قَالُوا: لَو اخْتصَّ بِهِ لما احْتِيجَ إِلَى
تَخْصِيص، {وَهَذَا ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي} أَيْضا {فِي
قَوْله: ترك الاستفصال فِي حِكَايَة الْحَال مَعَ قيام
الِاحْتِمَال ينزل منزلَة الْعُمُوم فِي الْمقَال، وَيحسن بهَا
الِاسْتِدْلَال} .
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَهَذَا ظَاهر كَلَام الإِمَام
أَحْمد؛ لِأَنَّهُ احْتج فِي مَوَاضِع كَثِيرَة بِمثل ذَلِك،
وَكَذَلِكَ أَصْحَابنَا.
قَالَ الْمجد: فِيمَا سبق إِنَّمَا يمْنَع قُوَّة الْعُمُوم
لَا ظُهُوره؛ لِأَن الأَصْل عدم الْمعرفَة لما لم يذكر.
وَمثله الشَّافِعِي بقوله لغيلان وَقد أسلم على عشر نسْوَة: "
أمسك أَرْبعا " وَلم يسْأَله هَل ورد العقد عَلَيْهِنَّ مَعًا
أَو مُرَتبا فَدلَّ على عدم الْفرق.
وَرُوِيَ عَن الشَّافِعِي عبارَة أُخْرَى، {وَهِي: حِكَايَة
الْحَال؛ إِذا تطرق إِلَيْهَا الِاحْتِمَال كساها ثوب
الْإِجْمَال وَسقط بهَا الِاسْتِدْلَال} ، فاختلفت أجوبة
الْعلمَاء عَن ذَلِك، فَمنهمْ من قَالَ: هَذَا
(5/2387)
مُشكل، وَمِنْهُم من قَالَ: لَهُ قَولَانِ.
{وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: يحمل الأول على قَول يُحَال
عَلَيْهِ الْعُمُوم، و} يحمل {الثَّانِي على فعل؛ لِأَنَّهُ
لَا عُمُوم لَهُ، وَاخْتَارَهُ} شيخ الْإِسْلَام
البُلْقِينِيّ، وَابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْإِلْمَام
"، والسبكي فِي بَاب مَا يحرم من النِّكَاح فِي " شرح
الْمِنْهَاج ".
{وَقَالَ الْقَرَافِيّ: الأول مَعَ بعد الِاحْتِمَال} ،
وَالثَّانِي مَعَ قرب الِاحْتِمَال ثمَّ الِاحْتِمَال إِن
كَانَ فِي دَلِيل الحكم سقط الِاسْتِدْلَال، كَقَوْلِه فِي
الْمحرم: " لَا تقربوه طيبا فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم
الْقِيَامَة ملبيا ".
وَقَالَ أَيْضا: الأول إِذا كَانَ الِاحْتِمَال فِي مَحل الحكم
كقصة غيلَان، وَالثَّانِي إِذا كَانَ الِاحْتِمَال فِي دَلِيل
الحكم.
(5/2388)
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَعند
أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه الحكم عَام فِي كل محرم،
قَالَ أَصْحَابنَا فِي ذَلِك: حكمه فِي وَاحِد حكمه فِي مثله
إِلَّا أَن يرد تَخْصِيصه.
وَهَذَا حكمه فِي شُهَدَاء أحد حكم فِي سَائِر الشُّهَدَاء.
قَالَ القَاضِي وَغَيره: اللَّفْظ خَاص، وَالتَّعْلِيل عَام
فِي كل محرم، وَعند الْحَنَفِيَّة، وَعند الْمَالِكِيَّة
يخْتَص بذلك الْمحرم.
قَوْله: {وَإِن اسْتَقل الْجَواب} بِحَيْثُ لَو ورد ابْتِدَاء
لأفاد الْعُمُوم {وساوى السُّؤَال، تَابعه فِي عُمُومه وخصوصه}
عِنْد كَون السُّؤَال عَاما أَو خَاصّا، كَمَا لَو لم
يسْتَقلّ، فالخصوص: كسؤال الْأَعرَابِي عَن وَطئه فِي نَهَار
رَمَضَان فَقَالَ: " اعْتِقْ رَقَبَة "، والعموم: كسؤال عَن
الْوضُوء بِمَاء
(5/2389)
الْبَحْر، فَقَالَ: " هُوَ الطّهُور
مَاؤُهُ، الْحل ميتَته ".
{قَالَ الْغَزالِيّ: هَذَا مُرَاد الشَّافِعِي بالعبارة
الأولى} .
قَوْله: {وَإِن كَانَ أخص من السُّؤَال اخْتصَّ بِالْجَوَابِ}
، كسؤاله عَن قتل النِّسَاء الكوافر، فَيَقُول: اقْتُلُوا
المرتدات فَيخْتَص بِالْجَوَابِ.
قَوْله: {وَإِن كَانَ أَعم} ، يَعْنِي إِذا كَانَ الْجَواب
أَعم من السُّؤَال فَهُوَ مندرج فِي الْآتِي بعده، وَهُوَ
الْعَام على سَبَب خَاص؛ لِأَن السَّبَب قد يكون سؤالا وَقد
يكون غَيره.
مِثَاله: سُؤَاله عَن مَاء بِئْر بضَاعَة، فَقَالَ: " المَاء
طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء ".
(5/2390)
{أَو ورد عَام على سَبَب خَاص بِغَيْر
سُؤال} ، كَمَا رُوِيَ أَنه مر بِشَاة ميتَة لميمونة فَقَالَ:
" أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر " {اعْتبر عُمُومه وَلم يقصر على
سَببه عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما،
وَالْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الْمَالِكِيَّة، والأشعرية} ، فالسبب
لَا يخْتَص بِهِ والعموم بَاقٍ على عُمُومه؛ لِأَن عدُول
الْمُجيب عَمَّا سُئِلَ عَنهُ، أَو عَمَّا اقْتَضَاهُ حَال
السَّبَب الَّذِي ورد الْعَام عَلَيْهِ عَن ذكره بِخُصُوصِهِ
إِلَى الْعُمُوم دَلِيل على إِرَادَته؛ لِأَن الْحجَّة فِي
اللَّفْظ - وَهُوَ مُقْتَضى الْعُمُوم - وَالسَّبَب لَا يصلح
مُعَارضا
(5/2391)
لجَوَاز أَن يكون الْمَقْصُود عِنْد وُرُود
السَّبَب بَيَان الْقَاعِدَة الْعَامَّة لهَذِهِ الصُّورَة،
وَغَيرهَا.
قَالَ أَبُو حَامِد، وَأَبُو الطّيب، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَابْن
برهَان: هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: عَامَّة الْأَصْحَاب تسنده إِلَى
الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ الصَّيْرَفِي، وَابْن الْقطَّان،
وَصَححهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق، وَالشَّيْخ أَبُو
إِسْحَاق، وَابْن الْقشيرِي، وألكيا، وَالْغَزالِيّ، وَجزم
بِهِ الْقفال الشَّاشِي، وَنَقله ابْن كج عَن عَامَّة
أَصْحَابهم، وَأَنه
(5/2392)
مَذْهَب الشَّافِعِي.
وَأَن بِهِ قَالَ أَبُو حنيفَة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة،
والمالكية، وَنَقله الْبَاجِيّ أَيْضا عَن أَكثر
الْمَالِكِيَّة، وَصَححهُ أَيْضا الباقلاني.
{وَلنَا قَول} فِي مَذْهَبنَا.
{وَقَالَهُ جمع} كثير إِنَّه {يقصر على سَببه} .
قَالَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": قَالَ بعض أَصْحَابنَا
يقصر على سَببه، وَذكره بعض أَصْحَابنَا رِوَايَة من لفظين،
وذكرهما ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَنَقله جمَاعَة عَن
أبي ثَوْر، والمزني، والدقاق،
(5/2393)
والخفاف فِي " الْخِصَال "، وَنسبه
الْأُسْتَاذ إِلَى الْأَشْعَرِيّ، وَنسبه عبد الْوَهَّاب لأبي
الْفرج من أَصْحَاب مَالك، وَابْن نصر، وَنسبه كثير من
الْمُتَأَخِّرين للشَّافِعِيّ، وَنسبه أَبُو الْمَعَالِي لأبي
حنيفَة، وَقَالَ: إِنَّه الَّذِي صَحَّ عندنَا من مَذْهَب
الشَّافِعِي، وَنَقله جمَاعَة عَن مَالك.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَالصَّحِيح -: أَن الصَّحَابَة
وَمن بعدهمْ استدلوا على التَّعْمِيم مَعَ السَّبَب الْخَاص
وَلم يُنكر، كآية اللّعان، وَنزلت
(5/2394)
فِي هِلَال بن أُميَّة وَهُوَ فِي "
الصَّحِيح "، وَآيَة الظِّهَار، وَنزلت فِي أَوْس بن
الصَّامِت. رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا،
وَمَعْنَاهُ فِي البُخَارِيّ، وقصة عَائِشَة فِي الْإِفْك فِي
" الصَّحِيحَيْنِ " وَغير ذَلِك، فَكَذَا هُنَا؛ وَلِأَن
اللَّفْظ عَام بِوَضْعِهِ، وَالِاعْتِبَار بِهِ، بِدَلِيل لَو
كَانَ أخص، وَالْأَصْل عدم مَانع.
وقاس أَصْحَابنَا وَغَيرهم على الزَّمَان وَالْمَكَان مَعَ أَن
الْمصلحَة قد تخْتَلف فيهمَا.
(5/2395)
رد: لَا يصلحان عِلّة للْحكم بِخِلَاف لفظ
السَّائِل.
رد: بِالْمَنْعِ.
قَالُوا: لَو عَم جَازَ تَخْصِيص السَّبَب بِالِاجْتِهَادِ
كَغَيْرِهِ.
رد: السَّبَب مُرَاد قطعا بِقَرِينَة خارجية لوُرُود الْخطاب
بَيَانا لَهُ، وَغَيره ظَاهر، وَلِهَذَا لَو سَأَلته امْرَأَة
من نِسَائِهِ طَلاقهَا، فَقَالَ: نسَائِي طَوَالِق، طلقت، ذكره
ابْن عقيل إِجْمَاعًا، وَأَنه لَا يجوز تَخْصِيصه، وَالْأَشْهر
عندنَا وَلَو استثناها بِقَلْبِه، لَكِن يدين.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ فِيهِ خلاف، وَلَو اسْتثْنى
غَيرهَا لم تطلق على أَنه منع فِي " الْإِرْشَاد " و "
الْمُبْهِج " و " الْفُصُول " الْمُعْتَمِر الْمحصر من
التَّحَلُّل مَعَ أَن سَبَب الْآيَة فِي حصر الْحُدَيْبِيَة
وَكَانُوا معتمرين.
وَحكي هَذَا عَن مَالك، وَأَنه لَا هدي أَيْضا.
(5/2396)
وَعَن أَحْمد أَنه حمل مَا فِي " الصَّحِيح
" من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر
مرَّتَيْنِ " على أَمر الْآخِرَة مَعَ أَن سَببه أَمر
الدُّنْيَا، لَكِن يحْتَمل أَنه لم يَصح عِنْده سَببه،
وَالأَصَح عَن أَحْمد أَنه لَا يَصح اللّعان على حمل،
وَقَالَهُ أَبُو حنيفَة، وَهُوَ سَبَب آيَة اللّعان وَاللّعان
عَلَيْهِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، لَكِن ضعفه أَحْمد،
وَلِهَذَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنه لَاعن بعد الْوَضع.
ثمَّ يحْتَمل أَنه علم وجوده بِوَحْي فَلَا يكون اللّعان
مُعَلّقا بِشَرْط، وَلَيْسَ سَبَب الْآيَة قذف حَامِل ولعانها.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن عَائِشَة أَن عتبَة بن أبي وَقاص
عهد إِلَى أَخِيه
(5/2397)
سعد أَن ابْن وليدة زَمعَة ابْني فاقبضه
إِلَيْك فَلَمَّا كَانَ عَام الْفَتْح أَخذه سعد، وَفِيه:
فَقَالَ سعد: هَذَا يَا رَسُول الله ابْن أخي عتبَة عهد إِلَيّ
أَنه ابْنه، انْظُر: إِلَى شبهه! فَرَأى شبها بَينا بِعتبَة،
فَقَالَ: " هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة، الْوَلَد للْفراش
وللعاهر الْحجر، واحتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة بنت زَمعَة ".
وَكَانَت تَحت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-.
وَفِي لفظ البُخَارِيّ: " هُوَ أَخُوك يَا عبد ".
وَلأَحْمَد، وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث عبد الله
بن الزبير أَن زَمعَة
(5/2398)
كَانَت لَهُ جَارِيَة يَطَؤُهَا، وَكَانَت
تظن بآخر، وَفِيه: " احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة! فَلَيْسَ لَك
بِأَخ " زَاد أَحْمد: " أما الْمِيرَاث فَلهُ ".
وَعند أبي حنيفَة لَا تصير الْأمة فراشا حَتَّى يقر
بِوَلَدِهَا، فَإِذا أقرّ بِهِ صَارَت فراشا ولحقه أَوْلَاده
بعد ذَلِك فَأخْرج السَّبَب قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لم
يبلغهُ هَذَا وَاللّعان على الْحمل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَسبق الْجَواب عَن اللّعان،
وَهَذَا لَا جَوَاب عَنهُ.
قَالُوا: لَو عَم لم ينْقل السَّبَب لعدم الْفَائِدَة.
رد: فَائِدَته منع تَخْصِيصه، وَمَعْرِفَة الْأَسْبَاب.
قَالُوا: لَو قَالَ تغد عِنْدِي، فَحلف: لَا تغديت، لم يعم،
وَمثله نظائرها.
(5/2399)
رد: بِالْمَنْعِ فِي الْأَصَح عَن أَحْمد،
وَإِن سلم كَقَوْل مَالك: فللعرف ولدلالة السَّبَب على
النِّيَّة فَصَارَ كمنوي.
قَالُوا: لَو عَم لم يُطَابق الْجَواب السُّؤَال.
رد: طابق وَزَاد.
قَوْله: {وَصُورَة السَّبَب قَطْعِيَّة الدُّخُول عِنْد
الْأَكْثَر فَلَا يخص بِالِاجْتِهَادِ} .
صُورَة السَّبَب مَقْصُودَة بِالْعُمُومِ قطعا، وَالْخلاف
إِنَّمَا هُوَ فِيمَا عَداهَا فيطرق التَّخْصِيص ذَلِك الْعَام
إِلَّا تِلْكَ الصُّورَة؛ فَإِنَّهُ لَا يجوز إخْرَاجهَا.
لَكِن السُّبْكِيّ قَالَ: إِنَّمَا تكون صُورَة السَّبَب
قَطْعِيَّة إِذا دلّ الدَّلِيل على دُخُولهَا وضعا تَحت
اللَّفْظ الْعَام، وَإِلَّا فقد يُنَازع فِيهِ الْخصم،
وَيَدعِي أَنه قد يقْصد الْمُتَكَلّم بِالْعَام إِخْرَاج
السَّبَب، فالمقطوع بِهِ إِنَّمَا هُوَ بَيَان حِكْمَة
السَّبَب، وَهُوَ حَاصِل مَعَ كَونه خَارِجا كَمَا يحصل
بِدُخُولِهِ، وَلَا دَلِيل على تعْيين وَاحِد من الْأَمريْنِ.
(5/2400)
وللحنفية أَن يَقُولُوا فِي حَدِيث عبد بن
زَمعَة: إِن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
الْوَلَد للْفراش " وَإِن كَانَ واردا فِي أمه فَهُوَ وَارِد
لبَيَان حكم ذَلِك الْوَلَد، وَبَيَان حكمه إِمَّا بالثبوت أَو
بالانتفاء فَإِذا ثَبت أَن الْفراش هُوَ الزَّوْجَة؛
لِأَنَّهَا الَّتِي يتَّخذ لَهَا الْفراش غَالِبا، وَقَالَ
الْوَلَد للْفراش كَانَ فِيهِ حصر أَن الْوَلَد للْحرَّة،
وَمُقْتَضى ذَلِك أَن لَا يكون للْأمة فَكَانَ فِيهِ بَيَان
الْحكمَيْنِ جَمِيعًا نفي النّسَب عَن السَّبَب وإثباته لغيره،
وَلَا يَلِيق دَعْوَى الْقطع هُنَا، وَذَلِكَ من جِهَة
اللَّفْظ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة نزاع فِي أَن اسْم الْفراش
هَل هُوَ مَوْضُوع للْحرَّة وَالْأمة الْمَوْطُوءَة، أَو
للْحرَّة فَقَط، فالحنفية يدعونَ الثَّانِي فَلَا عُمُوم
عِنْدهم فِي الْآيَة فَتخرج الْمَسْأَلَة من بَاب أَن
الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ أَو بِخُصُوص السَّبَب.
قَوْله: {وَأكْثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر يَصح إِطْلَاق
الْمُشْتَرك على معنييه، أَو مَعَانِيه مَعًا، والحقيقة
وَالْمجَاز الرَّاجِح بِلَفْظ وَاحِد} .
هُنَا مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: يَصح أَن يُرِيد الْمُتَكَلّم بالمشترك معنييه
أَو مَعَانِيه فاستعماله
(5/2401)
فِي أحد معنييه، أَو مَعَانِيه جَائِز
قطعا، وَهُوَ حَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ فِيمَا وضع لَهُ.
وَأما إِطْلَاقه على الْكل مَعًا فِي حَالَة وَاحِدَة فَفِيهِ
مَذَاهِب:
أَحدهَا - وَهُوَ الصَّحِيح - يَصح كَقَوْلِنَا الْعين مخلوقة،
ونريد جَمِيع مَعَانِيهَا، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا،
كَالْقَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، والحلواني،
وَغَيرهم.
قَالَ فِي " الِانْتِصَار ": وَلما قيل لَهُ فِيمَن لَا يجد
نَفَقَة امْرَأَته، يفرق
(5/2402)
بَينهمَا - أَي: لَا يحبسها؟ فَقَالَ:
الظَّاهِر مِنْهَا الْإِطْلَاق، على أَنه عَام فِي العقد
وَالْمَكَان مَعًا.
وَنسب للشَّافِعِيّ، وَقطع بِهِ من أَصْحَابه ابْن أبي
هُرَيْرَة، وَمثله بقوله: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على
النَّبِي} [الْأَحْزَاب: 56]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -؛ فَإِن الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن
الْمَلَائِكَة دُعَاء، وَكَذَا لفظ {شهد الله أَنه لَا إِلَه
إِلَّا هُوَ} [آل عمرَان: 18] وشهادته تَعَالَى علمه، وَغَيره
إِقْرَار بذلك، وَبِقَوْلِهِ: {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم
من النِّسَاء} [النِّسَاء: 22] النِّكَاح: العقد وَالْوَطْء
مرادان مِنْهُ إِذا قُلْنَا مُشْتَرك، وَقطع بِهِ الباقلاني،
وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن مَذْهَب الْمُحَقِّقين، وجماهير
الْفُقَهَاء، وَحكي عَن أَكثر الْمُعْتَزلَة، وَأكْثر
الْحَنَفِيَّة، وَعَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَنسبه القَاضِي
عبد الْوَهَّاب لمذهبهم، قَالَ: وَهُوَ قَول جُمْهُور أهل
الْعلم.
(5/2403)
قَوْله: {مجَازًا} ، اخْتلف من صحّح
إِطْلَاق الْمُشْتَرك على معنييه مَعًا، فَقيل: يكون إِطْلَاقه
على معنييه، أَو مَعَانِيه مجَازًا، لَا حَقِيقَة، نَقله صَاحب
" التَّلْخِيص " من الشَّافِعِيَّة عَن الشَّافِعِي،
وَإِلَيْهِ مَال إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَاخْتَارَهُ ابْن
الْحَاجِب، وَتَبعهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ".
وَقيل: {حَقِيقَة} ، قَالَ الْأَصْفَهَانِي: وَهُوَ اللَّائِق
بِمذهب الشَّافِعِي؛ لِأَنَّهُ يُوجب حمله على الْجَمِيع،
وَنَقله أَيْضا عَن الشَّافِعِي، وَالْقَاضِي أبي بكر
الباقلاني، وَنَقله أَيْضا الْآمِدِيّ عَنْهُمَا.
الْمَذْهَب الثَّانِي: {يَصح} إِطْلَاقه على معنييه أَو
مَعَانِيه {بِقَرِينَة مُتَّصِلَة} ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أبي
الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، وَأبي بكر الباقلاني.
الْمَذْهَب الثَّالِث: صِحَة اسْتِعْمَاله فِي معنييه {فِي
النَّفْي} دون
(5/2404)
الْإِثْبَات؛ لِأَن النكرَة فِي النَّفْي
تعم.
ورد بِأَن النَّفْي لَا يرفع إِلَّا مَا يَقْتَضِيهِ
الْإِثْبَات.
وَهَذَا القَوْل احْتِمَال لأبي الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد
"، وَتَبعهُ عَلَيْهِ الرَّازِيّ، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة،
وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْحَنَفِيَّة.
الْمَذْهَب الرَّابِع: صِحَة اسْتِعْمَاله {فِي غير مُفْرد} ،
فَإِن كَانَ جمعا كاعتدي بِالْأَقْرَاءِ، أَو مثنى: كقرءين
صَحَّ؛ لِأَن الْجمع فِي حكم تعدد الْأَلْفَاظ، وَهُوَ وَجه
للشَّافِعِيَّة، وَهُوَ مُفَرع على جَوَاز تَثْنِيَة
الْمُشْتَرك وَجمعه بِاعْتِبَار معنييه، أَو مَعَانِيه على مَا
يَأْتِي فِي آخر الْمَسْأَلَة.
الْمَذْهَب الْخَامِس: صِحَة اسْتِعْمَاله {إِن تعلق أحد
الْمَعْنيين بِالْآخرِ}
(5/2405)
نَحْو قَوْله: {أَو لامستم النِّسَاء}
[النِّسَاء: 43] فَإِن كلا من اللَّمْس بِالْيَدِ وَالْوَطْء
لَازم للْآخر، وَالنِّكَاح للْوَطْء وَالْعقد كَذَلِك،
وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ غَرِيب.
الْمَذْهَب السَّادِس {- قَالَه بعض أَصْحَابنَا،
وَالْغَزالِيّ - يَصح} اسْتِعْمَاله {إِرَادَة، لَا لُغَة}
فَيصح أَن يُرَاد بِاللَّفْظِ الْوَاحِد معنياه بِوَضْع
جَدِيد؛ لَكِن لَيْسَ من اللُّغَة؛ فَإِن اللُّغَة منعت
مِنْهُ.
الْمَذْهَب السَّابِع: {لَا يَصح مُطلقًا} ، اخْتَارَهُ
القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن الْقيم،
وَحَكَاهُ عَن الْأَكْثَر، وَقَالَهُ أَبُو هَاشم، والكرخي،
وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، وَابْن الصّباغ، والرازي،
وَغَيرهم.
(5/2406)
وَحَكَاهُ الْكَرْخِي عَن أبي حنيفَة،
وَنقل عَن جمع من أَصْحَابه، وَغَيرهم، فَلَا يَصح إِرَادَة
جَمِيع مَعَانِيه، وَلَا يحمل عِنْد الْإِطْلَاق على
جَمِيعهَا.
قَالَ ابْن الْقيم فِي كِتَابه " الصَّلَاة على النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي منع كَون الصَّلَاة
من الله الرَّحْمَة: الْأَكْثَرُونَ لَا يجوزون اسْتِعْمَال
اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي معنييه لَا بطرِيق الْحَقِيقَة،
وَلَا بطرِيق الْمجَاز، ورد مَا ورد عَن الشَّافِعِي قَالَ:
وَقد ذكرنَا على إبِْطَال اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْمُشْتَرك
فِي معنييه مَعًا بضعَة عشر دَلِيلا فِي مَسْأَلَة الْقُرْء
فِي كتاب التَّعْلِيق على الْأَحْكَام. انْتهى.
تَنْبِيه: قَالَ الْبرمَاوِيّ: اخْتلف المانعون فِي سَبَب
الْمَنْع، فَقيل: لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يقْصد من حَيْثُ
اللُّغَة لكَونه لم يوضع إِلَّا لوَاحِد، قَالَه الْغَزالِيّ
كَمَا تقدم، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَضعف ذَلِك.
وَقيل: السَّبَب أَنه اسْتِعْمَال فِي غير مَا وضع لَهُ،
وَهُوَ على الْبَدَل فَيكون مجَازًا، فَهُوَ رَاجع إِلَى
القَوْل بِأَنَّهُ مجَاز.
الْمَذْهَب الثَّامِن: {الْوَقْف} ، قَالَ الْآمِدِيّ: إِذْ
لَيْسَ بَعْضهَا أولى من بعض فَوَجَبَ التَّوَقُّف حَتَّى يدل
دَلِيل على الْكل، أَو الْبَعْض.
(5/2407)
تَنْبِيه آخر: قَالَ الْإِسْنَوِيّ
وَغَيره: مَحل الْخلاف بَين الشَّافِعِي وَغَيره فِي
اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي كل مَعَانِيه إِنَّمَا هُوَ فِي
الْكُلِّي العددي، كَمَا قَالَه فِي " التَّحْصِيل "، أَي: فِي
كل فَرد فَرد، وَذَلِكَ بِأَن يَجعله يدل على كل وَاحِد
مِنْهُمَا على حِدته، بالمطابقة فِي الْحَالة الَّتِي تدل على
الْمَعْنى الآخر بهَا وَلَيْسَ المُرَاد الْكُلِّي المجموعي،
أَي: يَجعله مَجْمُوع الْمَعْنيين مدلولا مطابقا، كدلالة
الْعشْرَة على آحادها، وَإِلَّا الْكُلِّي البدلي، أَي:
يَجْعَل كل وَاحِد مِنْهُمَا مدلولا مطابقا على الْبدن.
انْتهى.
وَادّعى الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمَحْصُول " أَنه رأى فِي
مُصَنف آخر لصَاحب " التَّحْصِيل " أَن الْخلاف فِي الْكل
المجموعي، قَالَ: لِأَن أَكْثَرهم صَرَّحُوا بِأَن الْمُشْتَرك
عِنْد الشَّافِعِي كالعام.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا عَلَيْهِ، لَا لَهُ، فَإِن دلَالَة
الْعَام من دلَالَة الْكُلِّي على جزئياته، لَا الْكل على
أَجْزَائِهِ، وَإِلَّا لتعذر الِاسْتِدْلَال بِالْعَام على بعض
أَفْرَاده، وَأما إِذا لم يسْتَعْمل فِي وَقت وَاحِد، بل فِي
وَقْتَيْنِ - مثلا - فَإِن ذَلِك جَائِز قطعا. انْتهى.
قَوْله: {فعلى الْجَوَاز هُوَ ظَاهر فيهمَا مَعَ عدم قرينَة
فَيحمل عَلَيْهِمَا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد أَن ذكر الْجَوَاز:
هَل هُوَ ظَاهر فِي ذَلِك مَعَ عدم قرينَة كالعام، أم مُجمل،
فَيرجع إِلَى مُخَصص خَارج؟
(5/2408)
ظَاهر كَلَامهم أَو صَرِيحه: الأول،
وَلِهَذَا قَالُوا يحمل عَلَيْهِمَا.
وَهُوَ كثير فِي كَلَام القَاضِي وَأَصْحَابه، وَقَالَ هُوَ،
وَابْن عقيل: اللَّمْس حَقِيقَة فِي اللَّمْس بِالْيَدِ مجَاز
فِي الْجِمَاع فَيحمل عَلَيْهِمَا، وَيجب الْوضُوء مِنْهُمَا
جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا تدافع بَينهمَا.
وَقَالَ الْمجد فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " اقرؤوا يس
على مَوْتَاكُم ": يَشْمَل المحتضر، وَالْمَيِّت قبل الدّفن
وَبعده.
وَنقل عَن عبد الْجَبَّار، والجبائي، وَغَيرهمَا، وَقَالَ ابْن
الْقشيرِي: وَعَلِيهِ يدل كَلَام الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ حمل
{أَو لامستم النِّسَاء} [النِّسَاء: 43] على الجس بِالْيَدِ
الَّذِي هُوَ فِيهِ حَقِيقَة، وعَلى الوقاع الَّذِي هُوَ فِيهِ
مجَاز، قَالَ: وَإِذا قَالَ ذَلِك فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
فَفِي الحقيقتين أولى.
(5/2409)
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور:
إِنَّه قَول أَصْحَابنَا، قَالَ: وَلِهَذَا حملنَا اللَّمْس
على الْجِمَاع، والجس بِالْيَدِ.
وَنَقله غَيرهمَا أَيْضا عَن الشَّافِعِي وَالْقَاضِي
صَرِيحًا. انْتهى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه مُجمل فَيرجع إِلَى مُخَصص
خَارج. صرح بِهِ أَيْضا القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالشَّيْخ،
وَغَيرهم، نَقله عَنْهُم ابْن مُفْلِح، وَنَقله الْهِنْدِيّ
عَن الْأَكْثَر، وَنَقله أَبُو زيد الدبوسي عَن الْحَنَفِيَّة.
القَوْل الثَّالِث: الْوَقْف فِي الْحمل؛ إِذْ لَيْسَ بَعْضهَا
أولى من بعض فَيجب التَّوَقُّف حَتَّى يدل على الْكل، أَو
الْبَعْض.
(5/2410)
القَوْل الرَّابِع: قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي
" شرح منظومته ": إِن كَانَ بِلَفْظ الْمُفْرد فمجمل، أَو
بِلَفْظ الْجمع فَيجب الْحمل، وَبِه قَالَ القَاضِي من
الْحَنَابِلَة. انْتهى.
فتلخص إِذا قُلْنَا بِصِحَّة إِطْلَاق الْمُشْتَرك على معنييه
هَل يجب الْحمل عَلَيْهِمَا مَعَ عدم قرينَة، أَو لَا يجب؟
فَيكون مُجملا، أَو يجب إِن كَانَ بِلَفْظ الْجمع، وَإِلَّا
فمجمل أَو الْوَقْف: أَرْبَعَة أَقْوَال، وَالصَّحِيح الأول.
قَوْله: {كالعام فِي الْأَصَح} . الْقَائِلُونَ بِوُجُوب
الْحمل على الْجَمِيع اخْتلفُوا فِي سَبَب ذَلِك: هَل هُوَ
لكَونه من بَاب الْعُمُوم أَو أَن ذَلِك احْتِيَاطًا؟ فبالأول
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن الْقشيرِي، وَالْغَزالِيّ،
والآمدي، وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب حَتَّى إِنَّه ذكر
الْمَسْأَلَة فِي بَاب الْعُمُوم، وَقَالَهُ ابْن مُفْلِح،
وتابعناه.
وَقيل: إِنَّه قَول الواقفية فِي صِيغ الْعُمُوم.
(5/2411)
وتوجيه ذَلِك أَن نِسْبَة الْمُشْتَرك
إِلَى مَعَانِيه كنسبة الْعَام إِلَى أَفْرَاده، وَعند التجرد
يعم الْأَفْرَاد، فَكَذَا الْمُشْتَرك، وَالْجَامِع صدق
اللَّفْظ بِالْوَضْعِ على كل فَرد من أَفْرَاده، وَإِن
افْتَرقَا من حَيْثُ إِن الْعَام صدقه بِوَاسِطَة أَمر اشتركت
فِيهِ، والمشترك صدقه بِوَاسِطَة الِاشْتِرَاك فِي أَن
اللَّفْظ وضع لكل وَاحِد.
وبالقول الثَّانِي وَهُوَ كَونه احْتِيَاطًا مَنْقُول عَن
الباقلاني، نَقله ابْن السُّبْكِيّ، وَنقل الْآمِدِيّ عَن
الشَّافِعِي، والباقلاني أَنه من بَاب الْعُمُوم، وَنقل
الْبَيْضَاوِيّ عَنْهُمَا أَنه من بَاب الِاحْتِيَاط.
{تَنْبِيه: مَحل صِحَة الْإِطْلَاق، وَالْحمل إِذا لم يتنافيا،
فَإِن تنافيا امتنعا كافعل، أمرا، وتهديدا} ، مَحل الْحمل على
الْكل عِنْد الْقَائِل بِهِ؛ حَيْثُ لَا يكون بَين
الْمَعْنيين، أَو الْمعَانِي تناف كاستعمال لفظ (افْعَل) فِي
الْأَمر، والتهديد عَن الْفِعْل، وَهَذَا قيد فِي
الِاسْتِعْمَال أَيْضا.
(5/2412)
وَذكر هَذَا الْقَيْد ابْن الْحَاجِب
حَيْثُ قَالَ: إِن صَحَّ الْجمع، والبيضاوي بقوله: فِي جَمِيع
مفهوماته الْغَيْر متضادة، وَإِن لم يذكرهُ شَيْخه الرَّازِيّ،
وَنَقله الْآمِدِيّ عَن الشَّافِعِي، والباقلاني، والجبائي،
وَعبد الْجَبَّار، وَغَيرهم.
وَمَعْنَاهُ ذكره أَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو الْخطاب عَن
المجوزين، وَقَالَهُ ابْن عقيل، قَالَ: وَلِهَذَا لَا يحسن أَن
يُصَرح بِهِ بِخِلَاف هَذَا.
تَنْبِيه: الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: قد تقدم من أول الْكَلَام
على ذَلِك.
إِن هُنَا مَسْأَلَتَيْنِ ذكرنَا أَحْكَام الْمَسْأَلَة
الأولى، وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَالْكَلَام الْآن فِي
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة، وَهِي أَنَّهَا مثل الْمَسْأَلَة
الأولى فِي الْأَحْكَام، وَهِي إِطْلَاق اللَّفْظ الْوَاحِد
على الْحَقِيقَة، وَالْمجَاز إِذا كَانَ للفظ حَقِيقَة، ومجاز،
وَالْحمل عَلَيْهِمَا على مَا تقدم من الْأَقْوَال
وَالْأَحْكَام، وَلذَلِك جَمعنَا فِي الْمَتْن
(5/2413)
بَينهَا وَبَين الْمُشْتَرك فِي الحكم
لاتحادهما، إِلَّا أَن القَاضِي أَبَا بكر الباقلاني قَالَ:
لَا يَصح إِطْلَاق اللَّفْظ الْوَاحِد على الْحَقِيقَة
وَالْمجَاز مَعًا، وَإِن صَححهُ فِي غَيره.
وَقَالَ: اسْتِعْمَاله فيهمَا محَال هُنَا؛ لِأَن الْحَقِيقَة
اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِيمَا وضع لَهُ، وَالْمجَاز فِيمَا لم
يوضع لَهُ، وهما متناقضان، فَلَا يَصح أَن يُرَاد
بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة مَعْنيانِ متناقضان. انْتهى.
فعلى الأول مَحَله فِي الْحَقِيقَة مُقَدّمَة قطعا، مِثَال
ذَلِك إِطْلَاق النِّكَاح للْعقد، وَالْوَطْء مَعًا إِذا
قُلْنَا حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَاز فِي الآخر؛ وَلذَلِك حمل
قَوْله تَعَالَى: {أَو لامستم النِّسَاء فامسحوا} على الجس
بِالْيَدِ، وَهُوَ حَقِيقَة، وعَلى الوقاع، وَهُوَ مجَاز.
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم}
[النِّسَاء: 11] فَإِنَّهُ حَقِيقَة فِي ولد الصلب، مجَاز فِي
ولد الابْن.
(5/2414)
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وافعلوا
الْخَيْر} [الْحَج: 77] فَإِنَّهُ شَامِل للْوُجُوب وَالنَّدْب
خلافًا لمن خصّه بِالْوَاجِبِ بِنَاء على منع الِاسْتِعْمَال
فِي الْكل، وَبَعْضهمْ قَالَ: للقدر الْمُشْتَرك، وَهُوَ مُطلق
الطّلب فِرَارًا من الِاشْتِرَاك، وَالْمجَاز.
وَمن ذَلِك مَا قَالَه الْمجد فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام:
" اقرؤوا يس على مَوْتَاكُم " يَشْمَل المحتضر وَالْمَيِّت قبل
الدّفن وَبعده، كَمَا تقدم، فَبعد الْمَوْت حَقِيقَة، وَقَبله
مجَاز.
وَمن ذَلِك مَا قَالَه القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا:
اللَّمْس حَقِيقَة فِي اللَّمْس بِالْيَدِ مجَاز فِي
الْجِمَاع، كَمَا تقدم التَّمْثِيل بذلك فَيحمل عَلَيْهِمَا
وَيجب الْوضُوء مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا تدافع
بَينهمَا.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول آخر إِنَّه يجب الْحمل على
الْحَقِيقَة دون الْمجَاز، قَالَه القَاضِي عبد الْوَهَّاب
الْمَالِكِي، وَهُوَ المُرَاد بقولنَا كالعام فِي الْأَصَح.
{وَقيل: على الْحَقِيقَة فَقَط} فَهَذَا القَوْل هُوَ مَا
قَالَه عبد الْوَهَّاب يَعْنِي أَنه فِي الْمُشْتَرك حمله على
الْجَمِيع، وَهنا فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز يجب حمله على
(5/2415)
الْحَقِيقَة فَقَط، فَهَذَا القَوْل
مُخَالف للمشترك أَيْضا، فَهُنَا ثَلَاث مسَائِل فِي مُخَالفَة
الْحَقِيقَة، وَالْمجَاز للمشترك:
إِحْدَاهَا: إِذا أطلق عَلَيْهِمَا وجوزناه لَا يكون إِلَّا
مجَازًا، وَفِي الْمُشْتَرك قَولَانِ: هَل هُوَ حَقِيقَة أم
مجَاز، فَإِن قُلْنَا مجَاز أَيْضا فَلَا مُخَالفَة، وَإِن
قُلْنَا: حَقِيقَة حصلت الْمُخَالفَة.
الثَّانِيَة: عدم جَوَاز الْإِطْلَاق فِي الْحَقِيقَة
وَالْمجَاز، وَإِن جوزناه فِي الْمُشْتَرك، وَهُوَ قَول
الباقلاني، كَمَا تقدم.
الثَّالِثَة: الْحمل فِي الْمُشْتَرك على الْجَمِيع، وَفِي
هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يحمل إِلَّا على الْحَقِيقَة فَقَط،
على قَول تقدم، وَالله أعلم.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: ألحق جمع من الْعلمَاء المجازين المتساويين
بِالْحَقِيقَةِ وَالْمجَاز} إِذا تعذر حمل اللَّفْظ على
مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، أَو قَامَ دَلِيل على أَنه غير
مُرَاد، وَعدل إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي إطلاقا أَو حملا
وَكَانَ الْمجَاز متعذرا، هَل يجوز إِرَادَة الْكل وَهل يسوغ
مَعَه الْحمل على الْكل؟
وَقل من تعرض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة، وَقد ذكرهَا أَبُو
الْمَعَالِي، وَابْن
(5/2416)
السَّمْعَانِيّ، والأصفهاني فِي " شرح
الْمَحْصُول "، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب فِي بَاب الْمُجْمل،
لَكِن اختارا فيهمَا الْإِجْمَال عكس اختيارهما فِي الحقيقتين
والحقيقة وَالْمجَاز.
فعلى قَول من قَالَ بِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة كالحقيقة
وَالْمجَاز أَعْطَاهَا حكم تِلْكَ، فَفِيهَا من الْأَحْكَام
مَا فِي تِلْكَ، لَكِن يشْتَرط أَن يكون المجازان متساويين.
مِثَال ذَلِك: لَو حلف لَا يَشْتَرِي دَار زيد، وَقَامَت
قرينَة على أَن المُرَاد أَنه لَا يعْقد بِنَفسِهِ وَتردد
الْحَال بَين السّوم وشرى الْوَكِيل، هَل يحمل عَلَيْهِمَا، أم
لَا؟ فَمن جوز الْحمل يَقُول يَحْنَث بِكُل مِنْهُمَا.
قَوْله: {الثَّانِيَة: جمع الْمُشْتَرك بِاعْتِبَار مَعَانِيه}
مَبْنِيّ على جَوَاز اسْتِعْمَال الْمُفْرد فِي مَعَانِيه.
وَهَذِه إِحْدَى الطّرق فِي الْمَسْأَلَة.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَالْأَكْثَر: جمعه بِاعْتِبَار معنييه
مَبْنِيّ على الْخلاف فِي الْمُفْرد فِيهِ: إِن جَازَ سَاغَ،
وَإِلَّا فَلَا.
(5/2417)
وَوجه الْبناء أَن التَّثْنِيَة وَالْجمع
تابعان لما يسوغ الْمُفْرد فِيهِ فَحَيْثُ جَازَ اسْتِعْمَال
مُفْرد فِي معنييه، أَو مَعَانِيه جَازَ تَثْنِيَة الْمُشْتَرك
وَجمعه، وَحَيْثُ لَا، فَلَا، فَيَقُول: عُيُون زيد وتريد بِهِ
الْعين الباصرة، وَالْعين الْجَارِيَة، وَعين الْمِيزَان
وَالذَّهَب، وَغَيرهَا.
وَالطَّرِيق الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال،
رجح ابْن الْحَاجِب فِي " شرح الْمفصل " الْمَنْع مُطلقًا،
وَحَكَاهُ عَن الْأَكْثَرين.
وَرجح ابْن مَالك الْجَوَاز مُطلقًا كَمَا فِي الحَدِيث
الْأَيْدِي ثَلَاثَة، وَحَدِيث: " مَا لنا إِلَّا الأسودان "،
وَاسْتعْمل الْحَرِير ذَلِك فِي المقامات فِي قَوْله:
(5/2418)
( ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... فانثنى بِلَا عينين)
يُرِيد الباصرة وَالذَّهَب.
وَفصل ابْن عُصْفُور بَين أَن يتَّفقَا فِي معنى التَّسْمِيَة
نَحْو: الأحمران الذَّهَب والزعفران فَيجوز، أَو لَا، فَلَا
يجوز كَالْعَيْنِ الباصرة وَالذَّهَب، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من
النّظر.
وَقَالَ بَعضهم: يجوز، وَإِن لم يجز فِي الْمُفْرد؛ لِأَنَّهُ
كَمَا سبق فِي حكم أَلْفَاظ مُتعَدِّدَة. انْتهى. وَهَذِه
الطَّرِيق الثَّالِث.
تَنْبِيه: تلخص لنا فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاث طرق:
أَحدهَا: جَوَاز تَثْنِيَة الْمُشْتَرك وَجمعه بِاعْتِبَار
معنييه، أَو مَعَانِيه، مَبْنِيّ على جَوَاز اسْتِعْمَال
الْمُفْرد فِي مَعَانِيه، وَهُوَ الَّذِي ذكره ابْن الْحَاجِب،
وَالْأَكْثَر.
وَالثَّانِي: فِي جَوَاز تثنيته وَجمعه بِاعْتِبَار معنييه أَو
مَعَانِيه أَقْوَال.
وَالثَّالِث: جَوَاز تثنيته وَجمعه وَإِن لم نصحح إِطْلَاق
الْمُفْرد على مَعَانِيه كَمَا تقدم، وَقد تحررت الْمَسْأَلَة
وَللَّه الْحَمد.
(5/2419)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة نفي الْمُسَاوَاة للْعُمُوم}
نَحْو قَوْله: {هَل يستوون الْحَمد لله} [النَّحْل: 75] ، {هَل
يستويان مثلا} [هود: 24] وَنَحْوه.
{وَعند الْحَنَفِيَّة} ، والمعتزلة، وَالْغَزالِيّ، والرازي،
والبيضاوي، وَغَيرهم لَيْسَ للْعُمُوم، {وَيَكْفِي النَّفْي
فِي شَيْء وَاحِد} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نفي الاسْتوَاء، وَمَا فِي مَعْنَاهُ من
التَّسَاوِي والمساواة والتماثل والمماثلة وَنَحْو ذَلِك،
سَوَاء فِيهِ نَفْيه فِي فعل، مثل: لَا يَسْتَوِي كَذَا
وَكَذَا، أَو فِي اسْم، مثل: لَا مُسَاوَاة بَين كَذَا
وَكَذَا، هَل يعم كل اسْتِوَاء، أَو لَا؟ قَولَانِ:
(5/2420)
بأولهما قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا،
وَعَلِيهِ جرى الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا،
وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو حنيفَة، وَأَصْحَابه، والمعتزلة،
وَالْغَزالِيّ، والرازي وَأَتْبَاعه، كالبيضاوي.
وَأثر الْخلاف فِي الِاسْتِدْلَال على أَن الْمُسلم لَا يقتل
بالذمي بقوله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار
وَأَصْحَاب الْجنَّة} [الْحَشْر: 20] فَلَو قتل بِهِ لثبت
استواؤهما، وَالِاسْتِدْلَال على أَن الْفَاسِق لَا يَلِي عقد
النِّكَاح بقوله تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ
فَاسِقًا لَا يستوون} [السَّجْدَة: 18] ، إِذْ لَو قُلْنَا:
يَلِي لاستوى، مَعَ الْمُؤمن الْكَامِل، وَهُوَ الْعدْل وَمن
نفى الْعُمُوم فِي الْآيَتَيْنِ لَا يمْنَع قصاص الْمُؤمن
بالذمي، لَا ولَايَة الْفَاسِق.
ثمَّ قَالَ: وَاعْلَم أَن مَأْخَذ الْقَوْلَيْنِ فِي
الْمَسْأَلَة أَن الاسْتوَاء فِي الْإِثْبَات هَل هُوَ من كل
وَجه فِي اللُّغَة، أَو مدلولة لُغَة الاسْتوَاء من وَجه مَا؟
فَإِن قُلْنَا: من كل وَجه فنفيه من سلب الْعُمُوم فَلَا يكون
عَاما.
وَإِن قُلْنَا: من بعض الْوُجُوه فَهُوَ من عُمُوم السَّلب فِي
الحكم؛ لِأَن
(5/2421)
نقيض الْإِيجَاب الْكُلِّي سلب جزئي، ونقيض
الْإِيجَاب الجزئي سلب كلي، وَلَكِن كَون الاسْتوَاء فِي
الْإِثْبَات عَاما من غير صِيغَة عُمُوم مَمْنُوع.
غَايَته: أَن حَقِيقَة الاسْتوَاء ثبتَتْ، وَقَول الرَّازِيّ
وَأَتْبَاعه نفي الاسْتوَاء أَعم من نَفْيه من كل وَجه، وَمن
نَفْيه من بعض الْوُجُوه، والأعم لَا يلْزم مِنْهُ الْأَخَص
مَرْدُود بِمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره: بِأَن ذَلِك فِي
الْإِثْبَات، أما نفي الْأَعَمّ فَيلْزم مِنْهُ انْتِفَاء
الْأَخَص، كنفي الْحَيَوَان نفي الْإِنْسَان، هَذَا إِذا
سلمنَا أَن الاسْتوَاء عَام لَهُ جزئيات.
أما إِذا قُلْنَا حَقِيقَته وَاحِدَة، فَإِنَّهُ يلْزم من
نَفيهَا نفي كل متصف بهَا.
وَقد اسْتدلَّ من نفي الْعُمُوم فِي الْمَسْأَلَة أَيْضا:
بِأَنَّهُ لَو عَم لم يصدق؛ إِذْ لَا بُد بَين كل شَيْئَيْنِ
من مُسَاوَاة وَلَو فِي نفي مَا سواهُمَا عَنْهُمَا.
وَجَوَابه: أَنه إِنَّمَا يَنْفِي مُسَاوَاة يَصح انتفاؤها لَا
كل مُسَاوَاة؛ لِأَن ذَلِك مدرك إِرَادَته بِالْعقلِ، وَقد ذكر
مَعْنَاهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: إِنَّه من بَاب الْمُجْمل؛
لِأَنَّهُ يحْتَمل من كل وَجه، وَمن الْوَجْه الَّذِي قد ذكر
فِي الْآيَتَيْنِ الْأَوليين، وَعَلِيهِ جرى
(5/2422)
الْهِنْدِيّ إِذْ قَالَ: الْحق أَن قَوْله
(يَسْتَوِي أَو لَا يَسْتَوِي) من بَاب الْمُجْمل، من بَاب
المتواطئ لَا الْعَام. انْتهى.
وَقد سبق أَن ذَلِك من ذكر بعض أَفْرَاد الْعَام، وَلَا يلْزم
مِنْهُ أَن يبْقى مُجملا، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَدلَالَة الِاقْتِضَاء، والإضمار عَامَّة عِنْد
أَكثر أَصْحَابنَا وَأكْثر الْمَالِكِيَّة، وَالنَّوَوِيّ}
وَغَيرهم.
{وَعند القَاضِي أَيْضا} ، وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ،
وَابْن السَّمْعَانِيّ، {وَالْغَزالِيّ، ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ...
(5/2423)
والرازي، والآمدي، وَغَيرهم مجملة.
وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَابْن حمدَان
هِيَ لنفي الْإِثْم} .
اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح -: بِمَا روى
الطَّبَرَانِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد جيد عَن ابْن
عَبَّاس مَرْفُوعا: " إِن الله تجَاوز لي عَن أمتِي الْخَطَأ
وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ ".
وَرَوَاهُ ابْن ماجة، وَلَفظه: " إِن الله وضع "، وروى ابْن
عدي: " رفع الله عَن هَذِه الْأمة ثَلَاثًا: الْخَطَأ،
وَالنِّسْيَان، وَالْأَمر يكْرهُونَ عَلَيْهِ "، فَمثل
(5/2424)
هَذَا يُقَال فِيهِ: مُقْتَضى الْإِضْمَار
وَمُقْتَضَاهُ الْإِضْمَار ودلالته على الْمُضمر، دلَالَة
إِضْمَار واقتضاء فالمضمر عَام.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَيُسمى مقتضيا؛ لِأَنَّهُ أَمر
اقْتَضَاهُ النَّص لتوقف صِحَّته عَلَيْهِ، وَهُوَ بِكَسْر
الضَّاد اللَّفْظ الطَّالِب للإضمار، وَبِفَتْحِهَا ذَلِك
الْمُضمر نَفسه الَّذِي اقْتَضَاهُ الْكَلَام تَصْحِيحا،
وَهُوَ المُرَاد هُنَا. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُقْتَضِي - بِالْكَسْرِ - الْكَلَام
الْمُحْتَاج للإضمار - بِالْفَتْح - هُوَ ذَلِك الْمَحْذُوف،
ويعبر عَنهُ أَيْضا بالمضمر، فالمختلف فِي عُمُومه على
الصَّحِيح الْمُقْتَضى - بِالْفَتْح - بِدَلِيل اسْتِدْلَال من
نفى عُمُومه بِكَوْن الْعُمُوم من عوارض الْأَلْفَاظ، فَلَا
يجوز دَعْوَاهُ فِي الْمعَانِي، وَيحْتَمل أَن يكون فِي
الْمُقْتَضِي - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الْمَنْطُوق بِهِ
الْمُحْتَاج فِي دلَالَته للإضمار، كَمَا صور بِهِ بعض
الْحَنَفِيَّة.
وَبِالْجُمْلَةِ فِي أصل الْمَسْأَلَة أَن الْمُحْتَاج إِلَى
تَقْدِير فِي نَحْو: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} [الْمَائِدَة:
5] وَغَيرهَا من الْأَمْثِلَة، إِن دلّ دَلِيل على تَقْدِير
شَيْء من المحتملات بِعَيْنِه فَذَاك سَوَاء كَانَ الْمُقدر
عَاما فِي أُمُور كَثِيرَة، أَو خَاصّا بفرد، وَإِن لم يدل
دَلِيل على تعْيين شَيْء، لَا عَام، وَلَا خَاص مَعَ احْتِمَال
أُمُور
(5/2425)
مُتعَدِّدَة، لم يتَرَجَّح بَعْضهَا فَهَل
تقدر المحتملات كلهَا وَهُوَ المُرَاد بِالْعُمُومِ فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة أَو لَا فِيهِ مَذَاهِب.
وَوَجهه: أَنه لم يرد رفع الْفِعْل الْوَاقِع، بل مَا تعلق
بِهِ، فاللفظ مَحْمُول عَلَيْهِ بِنَفسِهِ لَا بِدَلِيل.
احْتج بِهِ القَاضِي وَغَيره، قَالَ بعض أَصْحَابنَا مضمونه
أَن مَا عَلَيْهِ اللَّفْظ بِنَفسِهِ مَعَ قرينَة عقلية فَهُوَ
حَقِيقَة، أَو أَنه حَقِيقَة عرفية، لَكِن مُقْتَضَاهُ الأول،
وَكَذَا فِي " التَّمْهِيد " و " الرَّوْضَة " أَن اللَّفْظ
يَقْتَضِي ذَلِك.
وَاعْترض: لَا بُد من إِضْمَار فَهُوَ مجَاز.
رد بِالْمَنْعِ لذَلِك، ثمَّ قَوْلنَا أقرب إِلَى الْحَقِيقَة.
عورض: بِأَن بَاب الْإِضْمَار فِي الْمجَاز أولى فَكلما قل قلت
مُخَالفَة الأَصْل فِيهِ فَيسلم قَوْلنَا لَو عَم اضمر من غير
حَاجَة، وَلَا تجوز.
(5/2426)
رد بِالْمَنْعِ فَإِن حكم الْخَطَأ عَام
وَلَا زِيَادَة.
ونمنع أَن زِيَادَة حكم مَانع.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا عَن بَعضهم: التَّخْصِيص كالإضمار،
وَكَذَا قَالَ ألكيا فِي الْإِضْمَار: هَل هُوَ من الْمجَاز،
أم لَا؟
فِيهِ قَولَانِ كالقولين فِي الْعُمُوم الْمَخْصُوص، فَإِنَّهُ
نقص الْمَعْنى عَن اللَّفْظ، والإضمار عَكسه لَيْسَ فيهمَا
اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي مَوْضُوع آخر.
وَفِي " التَّمْهِيد ": لِأَن الْإِثْم لَا مزية لأمته فِيهِ
على الْأُمَم؛ لِأَن النَّاسِي غير مُكَلّف؛ وَلِأَنَّهُ
الْعرف نَحْو: لَيْسَ للبلد سُلْطَان لنفي الصِّفَات الَّتِي
تنبغي لَهُ، وَلَا وَجه لمنع الْآمِدِيّ الْعرف فِي نَحْو:
لَيْسَ للبلد سُلْطَان، وَلَا لرد غَيره بِأَنَّهُ قِيَاس فِي
الْعرف، وَلَا يجوز كاللغة بِأَنَّهُ لم يرد بِهِ الْقيَاس،
ثمَّ من مَنعه عرفا، ثمَّ فِيهِ لُغَة خلاف سبق ذكره ابْن
مُفْلِح.
(5/2427)
وَكَلَام الْآمِدِيّ وَغَيره فِي
التَّحْرِيم الْمُضَاف إِلَى الْعين، وَنَحْو: " لَا صَلَاة
إِلَّا بِطهُور "، يُخَالف مَا ذَكرُوهُ هُنَا، وَقَالُوا
فِيهِ بِزِيَادَة الْإِضْمَار، وَإنَّهُ أولى.
وَقَالُوا أَيْضا فِي " رفع عَن أمتِي " لَا إِجْمَال فِيهِ،
وَلَا إِضْمَار لظُهُوره لُغَة قبل الشَّرْع فِي نفي
الْمُؤَاخَذَة، وَالْعِقَاب، وتبادره إِلَى الْفَهم،
وَالْأَصْل فِيمَا تبادر أَنه حَقِيقَة لُغَة، أَو عرفا.
فَقيل لَهُم: فَلم يجب الضَّمَان؟
فَقَالُوا: لَيْسَ بعقوبة؛ لوُجُوبه على من لَا عُقُوبَة
عَلَيْهِ أَو تَخْصِيصًا لعُمُوم الْخَبَر، وَالله أعلم.
(5/2428)
(قَوْله: {فصل} )
مثل: {لَا آكل، أَو إِن أكلت فَعَبْدي حر، يعم مفعولاته فَيقبل
تَخْصِيصه} .
الْفِعْل الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعول، نَحْو: وَالله لَا آكل،
إِن أكلت فَعَبْدي حر يعم مفعولاته فَيقبل تَخْصِيصه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْفِعْل الْمَنْفِيّ هَل يعم؟ حَتَّى
إِذا وَقع فِي عين نَحْو: وَالله لَا آكل، أَو لَا أضْرب،
أَولا أقوم، أَو مَا أكلت، أَو مَا قعدت، وَنَحْو ذَلِك وَنوى
تَخْصِيصه بِشَيْء يقبل، أَو لَا يعلم فَلَا يقبل.
ينظر: إِمَّا أَن يكون الْفِعْل مُتَعَدِّيا، أَو لَازِما،
فَالْأول هُوَ الَّذِي ينصب فِيهِ الْخلاف عِنْد الْأَكْثَر،
فَإِذا نفي وَلم يذكر لَهُ مفعول بِهِ فَفِيهِ مذهبان:
أَحدهمَا: قَوْله أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة،
وَأبي يُوسُف إِنَّه يعم.
(5/2429)
وَالْمذهب الثَّانِي: أَنه لَا يعم، وَهُوَ
قَول أبي حنيفَة والقرطبي والرازي.
ومنشأ الْخلاف [أَن] الْمَنْفِيّ الْأَفْرَاد، فَيقبل إِرَادَة
التَّخْصِيص بِبَعْض المفاعيل بِهِ لعمومه، أَو الْمَنْفِيّ
الْمَاهِيّة وَلَا تعدد فِيهَا فَلَا عُمُوم.
وَالأَصَح هُوَ الأول.
قَوْله: {فَلَو نوى مَأْكُولا معينا قبل بَاطِنا عِنْد
أَصْحَابنَا والمالكية وَالشَّافِعِيَّة.
وَعند الْحَنَفِيَّة، وَابْن الْبَنَّا} ، والقرطبي، والرازي،
{لَا يقبل بَاطِنا} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ لما ذكر الْمَسْأَلَة، وَالْخلاف فِيهَا
قَالَ: وبنوا عَلَيْهِ أَن الْحَالِف إِذا قَالَ: إِن تزوجت،
أَو أكلت، أَو شربت، أَو سكنت، أَو لبست، وَنوى شَيْئا دون
شَيْء، هَل يقبل أَو لَا يقبل؟ - على
(5/2430)
الْخلاف - فَإِن ذكر الْمَفْعُول بِهِ، ك
لَا آكل تَمرا، أَو لَا أضْرب زيدا، فَلَا خلاف بَين
الْفَرِيقَيْنِ فِي عُمُومه وقبوله التَّخْصِيص. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَو نوى مَأْكُولا معينا لم يَحْنَث
بِغَيْرِهِ بَاطِنا عِنْد أَصْحَابنَا، والمالكية،
وَالشَّافِعِيَّة، وَهل يقبل حكما - كَقَوْل مَالك، وَأبي
يُوسُف، وَمُحَمّد، أم لَا؟ كَقَوْل الشَّافِعِيَّة.
فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، وَعند ابْن الْبَنَّا من
أَصْحَابنَا لَا يقبل بَاطِنا وفَاقا للحنفية، ثمَّ قَالَ: لنا
عُمُومه، وإطلاقه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأكل، وَلَا يعقل
إِلَّا بِهِ فَثَبت بِهِ حكمه، وَكَقَوْلِه: لَا آكل أكلا.
وَفرق الْحَنَفِيَّة بِأَن أكلا يدل على التَّوْحِيد.
رد: هُوَ تَأْكِيد، فالواحد وَالْجمع سَوَاء.
(5/2431)
وَاحْتج القَاضِي بِصِحَّة الِاسْتِثْنَاء
فِيهِ، فَكَذَا تَخْصِيصه.
قَالُوا: الْمَأْكُول لم يلفظ بِهِ فَلَا عُمُوم كالزمان
وَالْمَكَان.
رد: الحكم وَاحِد عندنَا، وَعند الْمَالِكِيَّة وَعنهُ
قَوْلَيْنِ، ويعم للزمان، وَالْمَكَان عندنَا، وَعند
الْمَالِكِيَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ احْتِمَال بِالْفرقِ،
كَقَوْل الشَّافِعِيَّة، وَجزم بِهِ الْآمِدِيّ لِأَنَّهُمَا
لَا يدل عَلَيْهِمَا اللَّفْظ بل من ضَرُورَة الْفِعْل
بِخِلَاف الْمَأْكُول.
قَالُوا: الْأكل مُطلق كلي لَا يشْعر بالمخصص فَلَا يَصح
تَفْسِيره بِهِ.
رد: الْكُلِّي غير مُرَاد لاستحالته خَارِجا، بل الْمُقَيد
المطابق لَهُ؛ وَلِهَذَا يَحْنَث بِهِ إِجْمَاعًا.
قَوْله: {فَلَو زَاد فَقَالَ لَحْمًا مثلا وَنوى معينا قبل
عندنَا} ، وَهُوَ ظَاهر مَا ذكر عَن غَيرنَا، قَالَه ابْن
مُفْلِح، {و} قَالَه {الْحَنَفِيَّة} ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا
اتِّفَاقًا.
(5/2432)
وخرجه الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا على
رِوَايَتَيْنِ بَاطِنا، وَذكر غَيره عَن ابْن الْبَنَّا: لَا
يقبل. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَذكر بَعضهم: يقبل
حكما على الْأَصَح عَن أَحْمد.
قَوْله: {تَنْبِيه: علم من ذَلِك} ، يَعْنِي مَا تقدم {أَن
الْعَام فِي شَيْء عَام فِي متعلقاته، قَالَه الْعلمَاء إِلَّا
من شَذَّ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقد عرف من ذَلِك أَن الْعَام فِي شَيْء
عَام فِي متعلقاته كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الْعلمَاء
خلافًا لبَعض الْمُتَأَخِّرين.
قَالَ أَحْمد فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي
أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ظَاهرهَا على الْعُمُوم، أَن من
وَقع عَلَيْهِ اسْم ولد فَلهُ مَا فرض الله، فَكَانَ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمعبر عَن
الْكتاب إِن الْآيَة إِنَّمَا قصدت الْمُسلم، لَا الْكَافِر.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: سَمَّاهُ عَاما وَهُوَ مُطلق فِي
الْأَحْوَال يعمها على الْبَدَل، وَمن أَخذ بِهَذَا لم يَأْخُذ
بِمَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهر لفظ الْقُرْآن، بل بِمَا ظهر لَهُ
مِمَّا سكت عَنهُ الْقُرْآن.
(5/2433)
وَقَالَ فِي: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين}
[التَّوْبَة: 5] عَامَّة فيهم، مُطلقَة فِي أَحْوَالهم لَا يدل
عَلَيْهَا بِنَفْي وَلَا إِثْبَات، فَإِذا جَاءَت السّنة بِحكم
لم يكن مُخَالفا لظَاهِر لفظ الْقُرْآن، بل لما لم يتَعَرَّض
لَهُ.
وَقَالَ: وَاحْتج أَصْحَابنَا كَالْقَاضِي، وَأبي الْخطاب،
وَغَيرهم من الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة بِعُمُوم
قَوْله: " لَا وَصِيَّة لوَارث " فِي وَصِيَّة الْقَاتِل وَفِي
وَصِيَّة الْمُمَيز، وَفِيه نظر.
وَاحْتج جمَاعَة على الشُّفْعَة للذِّمِّيّ على الْمُسلم
بقوله: " الشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم ".
وَأجَاب جمَاعَة من أَصْحَابنَا: إِنَّمَا هُوَ عَام فِي
الْأَمْلَاك، وَالله أعلم.
(5/2434)
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: إِذا قَالَ: إِن أكلت، فَهُوَ مثل لَا أكلت؛ لِأَن
النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط تعم، كالنفي فَمن ثمَّ جَمعنَا
بَينهمَا؛ تبعا لِابْنِ مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب،
وَغَيرهمَا، وَإِن كَانَ التَّاج السُّبْكِيّ جعل ذَلِك
ضَعِيفا فِي " جمع الْجَوَامِع "؛ إِذْ قَالَ: لَا أكلت، قيل:
وَإِن أكلت؛ لِأَنَّهُ يحمل كَلَام من قَالَ: النكرَة فِي
سِيَاق الشَّرْط للْعُمُوم البدلي.
وَقد تقدم رد ذَلِك، وَأَن المُرَاد الْعُمُوم الشمولي.
الثَّانِي: لَا يخْتَص جَوَاز التَّخْصِيص بِالنِّيَّةِ
بِالْعَام، بل يجْرِي فِي تَقْيِيد الْمُطلق بِالنِّيَّةِ،
وَلذَلِك لما قَالَ الْحَنَفِيَّة فِي (لَا أكلت) إِنَّه لَا
عُمُوم فِيهِ، بل مُطلق، والتخصيص فرع الْعُمُوم.
اعْترض عَلَيْهِم بِأَنَّهُ يصير بِالنِّيَّةِ تقييدا فَلم
يمنعوه.
الثَّالِث: هَذِه الْمَسْأَلَة هِيَ مَسْأَلَة تَخْصِيص
الْعُمُوم بِالنِّيَّةِ، وَقد ذكر الْأَصْحَاب حكمهَا فِي أول
بَاب جَامع الْأَيْمَان، وَذكروا الْخلاف فِي ذَلِك.
(5/2435)
(قَوْله: {فصل} )
{فعله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يعم أقسامه وجهاته} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الْفِعْل الْوَاقِع لَا
يعم أقسامه وجهاته كصلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - دَاخل الْكَعْبَة لَا يعم الْفَرْض وَالنَّفْل فَلَا
يحْتَج بِهِ على جوازهما فِيهَا، وَقَول الرَّاوِي: صلى
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد الشَّفق
لَا يعم الشفقين إِلَّا عِنْد من حمل الْمُشْتَرك على معنييه.
قَوْله: {وتكرر الْجمع مِنْهُ مَبْنِيّ على (كَانَ) } هَل هِيَ
لدوام الْفِعْل وتكراره، أَوله عرفا، أَو لَا مُطلقًا على
أَقْوَال.
(5/2436)
وَالَّذِي قَالَه القَاضِي وَأَصْحَابه:
إِنَّهَا لدوام الْفِعْل وتكراره، وَذكر القَاضِي أَيْضا فِي "
الْكِفَايَة ": هَل تفِيد التّكْرَار؟ فِيهِ قَولَانِ.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " وَأَتْبَاعه فِي اعْتِبَار
التّكْرَار للْعَادَة (كَانَ) لدوام الْفِعْل وتكراره.
{وَاخْتَارَهُ} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني، وَأَبُو
الطّيب، والآمدي وَغَيرهم} ؛ لِأَنَّهُ الْعرف كَقَوْل
الْقَائِل: كَانَ فلَان يكرم الضيفان، وَقد قَالَ الله
تَعَالَى عَن إِسْمَاعِيل: {وَكَانَ يَأْمر أَهله بِالصَّلَاةِ
وَالزَّكَاة} [مَرْيَم: 55] أَي: كَانَ يداوم على ذَلِك.
وَفِي " صَحِيح البُخَارِيّ ": " كَانَ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَخَوَّلنَا بِالْمَوْعِظَةِ
" فَالْمُرَاد هُنَا الِاسْتِمْرَار.
(5/2437)
وَمِنْه: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سلم سلم ثَلَاثًا، وَإِذا تكلم
بِكَلِمَة أَعَادَهَا ثَلَاثًا.
وَمِنْه: كَانَ يعالج من التَّنْزِيل شدَّة. فَهِيَ كَذَلِك
تفِيد الِاسْتِمْرَار والتكرار.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهِي لمُطلق الْفِعْل فِي الْمَاضِي
كَسَائِر الْأَفْعَال تكَرر، أَو انْقَطع أَو لَا، فَلهَذَا
قَالَ جمَاعَة: يَصح وَيصدق على وجود الله تَعَالَى، كَانَ
كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " كَانَ الله وَلَا شَيْء قبله
"، وَفِي لفظ: " شَيْء مَعَه ".
وَمِنْه جمَاعَة لشعوره بالتقضي والعدم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّ المُرَاد عرفا، نَحْو: {وَكَانَ
الله غَفُورًا رحِيما} [النِّسَاء: 96] أَي: لم يزل، قَالَ
بَعضهم: للقرينة.
وَزعم الْجَوْهَرِي زيادتها.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": وَتَكون (كَانَ) زَائِدَة.
وَقَالَ عبد الْجَبَّار: إِنَّهَا تَقْتَضِي التّكْرَار عرفا
لَا لُغَة.
(5/2438)
قلت: وَهُوَ قوي جدا.
وَقَالَهُ الرَّازِيّ، وَالنَّوَوِيّ - فِي " شرح مُسلم " -
وَقَالَ: عَلَيْهِ أَكثر الْمُحَقِّقين من الْأُصُولِيِّينَ
فَهِيَ تفِيد مرّة.
فَإِن دلّ دَلِيل على التّكْرَار من خَارج عمل بِهِ، وَإِلَّا
فَلَا، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالتَّحْقِيق مَا قَالَه ابْن
دَقِيق الْعِيد: إِنَّهَا تدل على التّكْرَار كثيرا، كَمَا
يُقَال: كَانَ فلَان يقري الضَّيْف، وَمِنْه كَانَ النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَجود النَّاس.
الحَدِيث.
ولمجرد الْفِعْل قَلِيلا من غير تكَرر، نَحْو: كَانَ النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقف بِعَرَفَات عِنْد
الصخرات، وَقَول عَائِشَة: كنت أطيب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحلِّهِ وَحرمه.
(5/2439)
وَلم يَقع وُقُوفه بِعَرَفَة وإحرامه
وَعَائِشَة مَعَه إِلَّا مرّة وَاحِدَة.
وَمِنْه: مَا فِي سنَن أبي دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن
عَائِشَة، وَهِي تذكر شَأْن خَيْبَر: كَانَ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبْعَث عبد الله بن رَوَاحَة
إِلَى يهود خَيْبَر فيخرص النّخل. فَهَذَا لَا يُمكن فِيهِ
التّكْرَار؛ لِأَن فتح خَيْبَر كَانَ سنة سبع، وَعبد الله بن
رَوَاحَة قتل فِي غَزْوَة مُؤْتَة سنة ثَمَان.
وَاعْلَم أَن هَذَا الْخلاف غير خلاف النُّحَاة فِي أَن
(كَانَ) هَل تدل على الِانْقِطَاع أَو لَا؟ اخْتِيَار ابْن
مَالك الثَّانِي، وَرجح أَبُو حَيَّان الأول.
(5/2440)
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه غَيره؛
لِأَنَّهُ لَا يلْزم من التّكْرَار عدم الِانْقِطَاع فقد
يتَكَرَّر الشَّيْء ثمَّ يَنْقَطِع نعم يلْزم بِالضَّرُورَةِ
فِي عدم الِانْقِطَاع التكرر، لَكِن لَا قَائِل بِهِ.
قَوْله: {وَأما الْأمة فَلم تدخل بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَأما الْأمة فَلم تدخل
بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بل
بِدَلِيل قَوْله أَو قرينَة، نَحْو: " صلوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، و " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "،
ووقوعه بعد إِجْمَال، أَو إِطْلَاق، أَو عُمُوم قصد بَيَانه،
أَو بالتأسي بِهِ، أَو بِالْقِيَاسِ على فعله.
وَاعْترض بِعُمُومِهِ، نَحْو: (سَهَا فَسجدَ) ، وَقَوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أما أَنا فأفيض
المَاء ".
(5/2441)
رد بِالْفَاءِ فَإِنَّهَا للسَّبَبِيَّة،
وَبِمَا سبق.
(5/2442)
(قَوْله: {فصل} )
نَحْو {قَول صَحَابِيّ: نهى عَن بيع الْغرَر، وَالْمُخَابَرَة،
وَقضى بِالشُّفْعَة للْجَار} فِيمَا لم يقسم، {يعم كل غرر،
ومخابرة، وجار} عندنَا وَعند جمَاعَة مِنْهُم: الْآمِدِيّ،
وَابْن الْحَاجِب وَشَيْخه الأبياري، وَابْن الساعاتي فِي "
البديع ".
{وَقَالَ الْأَكْثَر: لَا يعم} ، حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن أَكثر
الْأُصُولِيِّينَ، مِنْهُم: الباقلاني، والقفال الشَّاشِي،
والأستاذ أَبُو مَنْصُور، وَأَبُو حَامِد،
(5/2443)
وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وسليم،
وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَابْن
الْقشيرِي، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَغَيرهم، فَقَالُوا:
يحْتَمل فعلا، وجارا خَاصّا، أَو سمع صِيغَة غير عَامَّة
فَتوهم الْعُمُوم، وَالْحجّة هِيَ المحكية لَا الْحِكَايَة.
رد ذَلِك بِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر.
وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بِإِجْمَاع
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي رجوعهم إِلَيْهِ، وعملهم
بِهِ، كَمَا سبق فِي خبر الْوَاحِد.
وَلِأَنَّهُ عدل عَارِف باللغة وَالْمعْنَى، فَالظَّاهِر أَنه
لم ينْقل الْعُمُوم إِلَّا بعد ظُهُوره، وَظن صدقه مُوجب
لاتباعه لَهُ.
وَيَأْتِي: هَل يعم الحكم الْمُعَلق على عِلّة، فِي الْقيَاس
فِي قَوْله: فصل: النَّص على عِلّة حكم الأَصْل تَكْفِي فِي
التَّعَدِّي، قبيل القوادح بِيَسِير.
(5/2444)
(قَوْله: {فصل} )
{أَكثر أَصْحَابنَا، وَغَيرهم الْمَفْهُوم مُطلقًا عَام فِيمَا
سوى الْمَنْطُوق يجوز تَخْصِيصه بِمَا يخصص بِهِ الْعَام وَرفع
كُله تَخْصِيص أَيْضا} لإِفَادَة اللَّفْظ فِي منطوقه
وَمَفْهُومه فَهُوَ كبعض الْعَام.
وَقيل لأبي الْخطاب، وَغَيره من أَصْحَابنَا: لَو كَانَ حجَّة
لما خص؛ لِأَنَّهُ مستنبط من اللَّفْظ، كالعلة.
فَأَجَابُوا: بِالْمَنْعِ، وَأَن اللَّفْظ بِنَفسِهِ دلّ
عَلَيْهِ بِمُقْتَضى اللُّغَة فَخص كالنطق، وَقد قَالَ أَحْمد
فِي الْمحرم: يقتل السَّبع وَالذِّئْب، والغراب، وَنَحْوه،
وَاحْتج بقوله: {لَا تقتلُوا الصَّيْد} [الْمَائِدَة: 95]
الْآيَة.
لَكِن مَفْهُوم الْمُوَافقَة هَل يعمه النُّطْق؟ فِيهِ خلاف
يَأْتِي.
(5/2445)
{وَاخْتَارَ ابْن عقيل، والموفق،
وَالشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، {وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهم: لَا
يعم، وتكفي الْمُخَالفَة فِي صُورَة مَا} ، اخْتَارَهُ
الشَّيْخ موفق الدّين، ذكره فِي مَسْأَلَة الْقلَّتَيْنِ فِي
مَفْهُوم الْمُخَالفَة: لَا يعم، وَيَكْفِي الْمُخَالفَة فِي
صُورَة فَإِن الْجَارِي لَا ينجس إِلَّا بالتغيير خلافًا
للمشهور عَن أَحْمد وَأَصْحَابه، وَاخْتَارَ بعض
الْمُتَأَخِّرين من الشَّافِعِيَّة لَا يعم، وَاخْتَارَهُ بعض
أَصْحَابنَا، وَقَالَ: لِأَنَّهُ يدل بطرِيق التَّعْلِيل،
والتخصيص، وَالْحكم إِذا ثَبت بعلة وانتفت جَازَ أَن تخلفها
فِي بعض الصُّور، أَو كلهَا عِلّة أُخْرَى، وَقصد التَّخْصِيص
يحصل بالتفصيل.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قَالَ شَارِح " الورقات ":
الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، والأصوليين أَنه لَا عُمُوم
للمفهوم، سَوَاء كَانَ مَفْهُوم مُوَافقَة، أَو مُخَالفَة؛
لِأَنَّهُ إِنَّمَا تُوصَف الدّلَالَة بِالْعُمُومِ، إِذْ لَو
تناولت غَيرهَا، والغير هُنَا لَيْسَ من صُورَة الْمَفْهُوم،
وَلَا من صُورَة الْمَنْطُوق؛ وَلِأَن الْعُمُوم من عوارض
النُّطْق. انْتهى.
{وَقيل: لَا يتَحَقَّق الْخلاف} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الْخلاف فِي أَن
الْمَفْهُوم لَهُ عُمُوم، لَفْظِي؛ لِأَن مفهومي الْمُوَافقَة
والمخالفة عَام فِيمَا سوى الْمَنْطُوق بِهِ بِلَا خلاف،
(5/2446)
وَمن نفي الْعُمُوم - كالغزالي - أَرَادَ
أَن الْعُمُوم لم يثبت بالمنطوق بِهِ بِغَيْر توَسط
الْمَفْهُوم، وَلَا خلاف فِيهِ أَيْضا. كَذَا ذكره الْآمِدِيّ،
وَمن تبعه، وَكَذَا قَالَ صَاحب " الْمَحْصُول "، إِن عني أَنه
لَا يُسمى عَاما لفظيا فقريب، وَإِن عني أَنه لَا يُفِيد
انْتِفَاء عُمُوم الحكم، فدليل كَون الْمَفْهُوم حجَّة
يَنْفِيه. انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قَالَ الْآمِدِيّ، والرازي:
الْخلاف فِي الْمَفْهُوم هَل لَهُ عُمُوم لَا يتَحَقَّق؟ لِأَن
مفهومي الْمُوَافقَة والمخالفة عَام فِيمَا سوى الْمَنْطُوق،
وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة " يَقْتَضِي
عُمُومه سلب الحكم عَن معلوفة الْغنم دون غَيرهَا على
الصَّحِيح، فَمَتَى جَعَلْنَاهُ حجَّة لزم انْتِفَاء الحكم عَن
جملَة صور الْمُخَالفَة، وَإِلَّا لم يكن للتخصيص فَائِدَة،
وتأولوا ذَلِك على أَن الْمُخَالفين أَرَادوا أَنه لم يثبت
بالمنطوق وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.
(5/2447)
قيل: قَوْلهم الْمَفْهُوم لَا عُمُوم لَهُ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظ حَتَّى يعم لَا يُرِيدُونَ بِهِ سلب
الحكم عَن جَمِيع المعلوفة؛ لِأَنَّهُ خلاف مَذْهَب
الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ، وَلَكنهُمْ قد يذكرُونَهُ فِي
معرض الْبَحْث.
فقد قَالُوا: دلَالَة الِاقْتِضَاء تجوز رفع الْخَطَأ، أَي:
حكمه، لَا يعم حكم الْإِثْم وَالْغُرْم - مثلا - تقليلا
للإضمار فَلذَلِك يُقَال فِي الْمَفْهُوم: هُوَ حجَّة
لضَرُورَة ظُهُور فَائِدَة التَّقْيِيد بِالصّفةِ، وَيَكْفِي
فِي الْفَائِدَة انْتِفَاء الحكم عَن صُورَة وَاحِدَة لتوقف
بَيَانهَا على دَلِيل آخر، وَإِن لم يقل بذلك أهل الْمَفْهُوم،
لكنه بحث مُتَّجه.
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَلقَائِل أَن يَقُول الْحَال فِي
هَذِه منقسمة بِحَيْثُ يكون مَحل النُّطْق إِثْبَاتًا جزئيا
فَالْحكم مُنْتَفٍ فِي جملَة صور الْمُخَالفَة، وَحَيْثُ يكون
مَحل النُّطْق نفيا لم يلْزم أَنه يثبت الحكم فِي جملَة صور
الْمُخَالفَة؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْمَنْطُوق إِثْبَاتًا
لزم نفي الحكم؛ إِذا انْتَفَى عَن كل أَفْرَاد الْمُخَالف؛
لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يدل على تنَاول الحكم لكل فَرد من
أَفْرَاد الْمُخَالف، أَو لَا، فَإِن دلّ فَهُوَ المُرَاد،
وَإِن لم يدل فَهُوَ دَال حِينَئِذٍ على نفي الحكم عَن مُسَمّى
الْمُخَالف فَيلْزم انتفاؤه عَن كل فَرد ضَرُورَة أَنه يثبت
النَّفْي للمسمى وَمَا يثبت - أَعنِي النَّفْي عَن الْأَعَمّ -
يثبت لجملة أَفْرَاده.
وَهَذَا كتعليق الْوُجُوب بسائمة الْغنم فَإِن مَحل النُّطْق
إِثْبَات فَيَقْتَضِي نفي
(5/2448)
وجوب الزَّكَاة عَن المعلوفة، فَإِذا كَانَ
بِصفة للْعُمُوم فَذَاك، وَإِلَّا فَهُوَ سلب عَن مُسَمّى
المعلوفة فَيلْزم انتفا الْوُجُوب عَن كل أَفْرَاد المعلوفة
لما بَيناهُ أَن المسلوب عَن الْأَعَمّ مسلوب عَن كل
أَفْرَاده.
وَأما إِن كَانَ مَحل النُّطْق نفيا، أَو مَا فِي مَعْنَاهُ،
كنهيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن الْبَوْل فِي المَاء
الدَّائِم، ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي
انْتِفَاء الحكم عَن الْمُخَالف وَهُوَ النَّفْي فَيكون
الثَّابِت للمخالف إِثْبَاتًا، فَإِن مُطلق الحكم فِي السّوم
لَيْسَ يلْزم مِنْهُ الْعُمُوم، فَإِن الْعُمُوم لَهُ صِيغ
مَخْصُوصَة، لَا كل صِيغَة، فَإِذا كَانَ بعض الْأَلْفَاظ
المنطوقة بهَا لَا تدل على الْعُمُوم إِذا كَانَت فِي طرف
الْإِثْبَات، فَمَا ظَنك بِمَا لَا لفظ فِيهِ أصلا فمدعي
الْعُمُوم لَا بُد لَهُ من دَلِيل، وَقَول الْقَائِل: وَمَتى
جعلنَا حجَّة لزم انْتِفَاء الحكم فِي جملَة الصُّور، وَإِلَّا
لم يكن للتخصيص فَائِدَة مَمْنُوع؛ لأَنا إِذا علقنا الحكم
بِالْمُسَمّى الْمُطلق كَانَت فَائِدَة الْمَفْهُوم حَاصِلَة
فِي بعض الصُّور ضَرُورَة، فَلَا يَخْلُو الْمَفْهُوم من
فَائِدَة، وَفِي مثل هَذَا يتَوَجَّه كَلَام الْغَزالِيّ.
انْتهى.
(5/2449)
(قَوْله: {فصل} )
لَا يلْزم من إِضْمَار شَيْء فِي الْمَعْطُوف أَن يضمر فِي
الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، ذكره أَبُو الْخطاب، وَابْن حمدَان،
وَابْن قَاضِي الْجَبَل، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة،
وَغَيرهم خلافًا للحنفية، وَالْقَاضِي، وَابْن السَّمْعَانِيّ،
وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم} .
وَهَذِه التَّرْجَمَة الَّتِي ترجمنا بهَا الْمَسْأَلَة هِيَ
تَرْجَمَة أبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ".
(5/2450)
وترجمها الرَّازِيّ، والبيضاوي، والهندي،
وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم بقَوْلهمْ: عطف الْخَاص على
الْعَام لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ.
وترجمها ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بقوله: هَل يلْزم أَن
يضمر فِي الْمَعْطُوف مَا يُمكن مِمَّا فِي الْمَعْطُوف
عَلَيْهِ، وَإِذا لزم وَلم يضمر فِي الْمَعْطُوف خَاص يلْزم
أَن يكون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ كَذَلِك.
وَمثل الْفَرِيقَانِ لهَذِهِ الْمَسْأَلَة بقول النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد،
وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر
وَلَا ذُو عهد فِي عَهده ".
وَالْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَشْهُور بَين الْعلمَاء
مَعَ الِاتِّفَاق على أَن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي
للْعُمُوم.
فالحنفية وَمن تَابعهمْ يقدرُونَ تتميما للجملة الثَّانِيَة
لفظا عَاما تَسْوِيَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي
مُتَعَلّقه فَيكون على حد قَوْله تَعَالَى: {آمن الرَّسُول
بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون} [الْبَقَرَة: 285]
فَيقدر: وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر؛ إِذْ لَو قدر
خَاصّا، وَهُوَ وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بحربي
(5/2451)
لزم التخالف بَين المتعاطفين، وَأَن يكون
تَقْديرا بِلَا دَلِيل بِخِلَاف مَا لَو قدر عَاما فَإِن
الدَّلِيل دلّ عَلَيْهِ من الْمُصَرّح بِهِ فِي الْجُمْلَة
الَّتِي قبلهَا، وَحِينَئِذٍ فيخصص الْعُمُوم فِي الثَّانِيَة
بالحربي بِدَلِيل آخر، وَهُوَ الِاتِّفَاق على أَن الْمعَاهد
لَا يقتل بالحربي، وَيقتل بالمعاهد وَالذِّمِّيّ.
قَالُوا: وَإِذا تقرر هَذَا وَجب أَن يخصص الْعَام الْمَذْكُور
أَولا؛ ليتساويا فَيصير لَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَلَا ذُو عهد
فِي عَهده بِكَافِر حَرْبِيّ.
وَأما أَصْحَابنَا وَغَيرهم فَإِذا قدرُوا فِي الْجُمْلَة
الثَّانِيَة فَإِنَّمَا يقدرُونَ خَاصّا فَيَقُولُونَ: وَلَا
ذُو عهد فِي عَهده بحربي؛ لِأَن التَّقْدِير إِنَّمَا هُوَ
بِمَا تنْدَفع بِهِ الْحَاجة بِلَا زِيَادَة، وَفِي
التَّقْدِير بحربي كِفَايَة، وَلَا يضر تخَالفه مَعَ
الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي ذَلِك؛ إِذْ لَا يشْتَرط إِلَّا
اشتراكهما فِي أصل الحكم، وَهُوَ هُنَا منع الْقَتْل بِمَا
يذكر، أَو بِمَا يقوم الدَّلِيل عَلَيْهِ لَا فِي كل
الْأَحْوَال كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وبعولتهن أَحَق
بردهن} [الْبَقَرَة: 228] فَإِنَّهُ مُخْتَصّ بالرجعيات، وَإِن
تقدم المطلقات بِالْعُمُومِ.
(5/2452)
{وَقيل بِالْوَقْفِ} فِي الْمَسْأَلَة؛
لتعارض الْأَدِلَّة.
وَقيل: {إِن قيد بِقَيْد غير قيد الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَلَا
يضمر فِيهِ، وَإِن أطلق أضمر فِيهِ} ، وَهَذَا قَالَه أَبُو
الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ".
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرين: {إِنَّمَا يخصص
الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بِمَا فِي الْمَعْطُوف من الْخُصُوص إِذا
كَانَ بِخُصُوص الْمَادَّة كالحديث} ، لَا نَحْو: (اضْرِب زيدا
وعمرا قَائِما فِي الدَّار) ، وَلأَجل ذَلِك عيب على من ترْجم
هَذِه الْمَسْأَلَة - كالآمدي - بِأَن الْمَعْطُوف على الْعَام
هَل يَقْتَضِي الْعُمُوم فِي الْمَعْطُوف؟
فَإِن هَذَا شَامِل لما لَا خلاف فِيهِ، وَهُوَ مَا لَو قَالَ:
وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بحربي فَلَا يسمع أحدا أَن يَقُول:
باقتضاء الْعَطف على الْعَام هُنَا الْعُمُوم مَعَ كَون
الْمَعْطُوف خَاصّا، وَلَا نَحن نقُول فِيمَا إِذا قدر عَام
أَنه خَاص بِلَا دَلِيل خصصه، إِنَّمَا الْمَقْصُود
بِالْمَسْأَلَة أَن إِحْدَى الجملتين إِذا عطف على الْأُخْرَى
وَكَانَت الثَّانِيَة تَقْتَضِي إضمارا يَسْتَقِيم، وَكَانَ
نَظِيره فِي الْجُمْلَة الأولى عَاما هَل يجب أَن يُسَاوِيه
فِي عُمُومه فيضمر عَام، أَو لَا؟ كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
(5/2453)
وَلذَلِك لما رأى ابْن الْحَاجِب
التَّرْجَمَة بذلك مختلة عبر عَنْهَا بقوله مَسْأَلَة قَالَ
الْحَنَفِيَّة: مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - ... الحَدِيث.
وَمِنْهُم من يصحح التَّرْجَمَة بالْعَطْف على الْعَام، وَأَن
هَذَا خرج مخرج اللقب على الْمَسْأَلَة لَا لمراعاة قيودها.
وَترْجم الرَّازِيّ، والبيضاوي، والهندي بعطف الْخَاص على
الْعَام لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، فَإِن
(بِكَافِر) فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة مُخَصص بالحربي، فَهَل
يكون تَخْصِيصًا للعام الأول، وَيكون التَّقْدِير: لَا يقتل
مُسلم بِكَافِر حَرْبِيّ، أَي: بل يقتل بالذمي، أَو هُوَ بَاقٍ
على عُمُومه وَلَا يقْدَح عطف الْخَاص عَلَيْهِ.
الأولى قَول الْحَنَفِيَّة، وَالثَّانيَِة قَول الشَّافِعِيَّة
وَغَيرهم.
وَلَكِن هَذَا يَشْمَل مَا لَو صرح فِي الثَّانِيَة بحربي من
بَاب أولى، وَلَا يضر ذَلِك فِي التَّصْوِير إِلَّا أَنه يخرج
عَن مُلَاحظَة الْمُقدر: هَل يقدر عَاما، أَو خَاصّا؟
وَمِمَّا يضعف قَوْلهم أَن كَون الْحَرْبِيّ مهدرا من
الْمَعْلُوم من الدّين
(5/2454)
بِالضَّرُورَةِ فَلَا يتَوَهَّم أحد قتل
مُسلم بِهِ فَحمل الْكَافِر فِي " لَا يقتل مُسلم بِكَافِر "
عَلَيْهِ ضَعِيف لعدم فَائِدَته.
على أَن تَرْجَمَة الْمَسْأَلَة بالمعطوف على كل حَال فِيهِ
نظر؛ لِأَن الْمَعْطُوف فِي الحَدِيث فِي الْحَقِيقَة هُوَ
(ذُو عهد) على النَّائِب عَن الْفَاعِل فِي (يقتل) وَهُوَ
مُسلم، إِلَّا أَن يقدر بعده مجرور بباء ليقابل بِكَافِر فِي
الْجُمْلَة الأولى فَيكون من عطف معمولين على معمولي عَامل
وَهُوَ جَائِز قطعا، لَكِن فِيهِ على كل حَال إِيهَام؛ لأَنا
لَا نعلم مَا المُرَاد بالمعطوف أَو الْمَجْرُور.
نعم، جمع من الشَّافِعِيَّة وَافق الْحَنَفِيَّة على أَن
مدعاهم فِي الْمَسْأَلَة أرجح، وَكَذَا ابْن الْحَاجِب صرح
بموافقتهم، وَاسْتدلَّ لَهُم وَأجَاب عَن أَدِلَّة غَيرهم
وَإِن لم يكن من مذْهبه قتل الْمُسلم بالكافر إِلَّا أَنه
يَقُول: التَّخْصِيص طرق الْعَام الأول بِدَلِيل من خَارج،
وَالْعَام الثَّانِي كَذَلِك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ذهب قوم من أَصْحَابنَا إِلَى أَن
الْجُمْلَة الثَّانِيَة كَلَام تَامّ لَا يحْتَاج إِلَى
تَقْدِير خَاص، وَلَا عَام، وَأَن الْمَعْنى النَّهْي عَن قتل
الْمعَاهد مَا دَامَ فِي عَهده، فالقيد فِي منع قَتله كَونه
فِي عَهده والفائدة حَاصِلَة بذلك.
(5/2455)
وَذكر الْقَدُورِيّ من الْحَنَفِيَّة فِي "
كِفَايَة التَّجْرِيد ": فِي الحَدِيث تقديرين آخَرين غير
تقديرهم الْمَشْهُور:
أَحدهمَا: أَنه لَا حذف فِيهِ، بل على التَّقْدِيم
وَالتَّأْخِير، وَالْأَصْل لَا يقتل مُسلم وَلَا ذُو عهد فِي
عَهده بِكَافِر.
وَالثَّانِي: أَن ذَا عهد مُبْتَدأ، وَفِي عَهده خَبره،
وَالْوَاو للْحَال، أَي: لَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَالْحَال
أَنه لَيْسَ ذَا عهد فِي عَهده، ورد من وَجْهَيْن.
(5/2456)
(قَوْله: {فصل} )
القِران بَين شَيْئَيْنِ لفظا لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَة
بَينهمَا حكما فِي غير الْمَذْكُور إِلَّا بِدَلِيل من خَارج،
عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة} ،
وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن كل الْأَصْحَاب.
وَذَلِكَ مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
" لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم وَلَا يغْتَسل فِيهِ
من جَنَابَة "؛ لِأَن الأَصْل عدم الشّركَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَا يلْزم من تنجيسه بالبول
تنجيسه بالاغتسال.
وَمن الدَّلِيل أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {كلوا من ثمره إِذا
أثمر وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} [الْأَنْعَام: 141] فعطف ...
... ... ... ... ... ... ...
(5/2457)
وَاجِبا على مُبَاح؛ لِأَن الأَصْل عدم
الشّركَة ودليلها.
{وَخَالف أَبُو يُوسُف، والمزني، والحلواني، وَالْقَاضِي
أَيْضا} ؛ لِأَن الْعَطف يَقْتَضِي الْمُشَاركَة، نَحْو:
أقِيمُوا الصَّلَاة، وَآتوا الزَّكَاة فَلذَلِك لَا تجب
الزَّكَاة فِي مَال الصَّغِير؛ لِأَنَّهُ لَو أُرِيد دُخُوله
فِي الزَّكَاة لَكَانَ فِيهِ عطف وَاجِب على مَنْدُوب؛ لِأَن
الصَّلَاة عَلَيْهِ مَنْدُوبَة اتِّفَاقًا.
وَضعف بِأَن الأَصْل فِي اشْتِرَاك الْمَعْطُوف والمعطوف
عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يذكر لَا فِيمَا سواهُ من
الْأُمُور الخارجية وَقد أَجمعُوا على أَن اللَّفْظَيْنِ
العامين إِذا عطف أَحدهمَا على الآخر، وَخص أَحدهمَا لَا
يَقْتَضِي تَخْصِيص الآخر.
وَاسْتدلَّ لهَذَا الْمَذْهَب أَيْضا بقول الصّديق - رَضِي
الله عَنهُ -: (وَالله لأقتلن من فرق بَين الصَّلَاة
وَالزَّكَاة) .
(5/2458)
وَاسْتدلَّ ابْن عَبَّاس لوُجُوب الْعمرَة
بِأَنَّهَا قرينَة الْحَج فِي كتاب الله.
رد: لدَلِيل وقرينته فِي الْأَمر بهَا.
وَاسْتدلَّ القَاضِي بقوله تَعَالَى: {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم
من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء} [النِّسَاء: 43] قَالَ:
فعطف اللَّمْس على الْغَائِط مُوجب للْوُضُوء، قَالَ: وخصص
أَحْمد بِالْقَرِينَةِ فَذكر قَوْله فِي آيَة النَّجْوَى،
وَقَوله: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [الْبَقَرَة: 282] إِذا
أَمن فَلَا بَأْس. انْظُر إِلَى آخر الْآيَة.
وَاخْتلف كَلَام أبي يعلى الصَّغِير وَغَيره.
(5/2459)
(قَوْله: {فصل} )
أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية
الْخطاب الْخَاص بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل}
[المزمل: 1] وَنَحْوه عَام للْأمة إِلَّا بِدَلِيل يَخُصُّهُ}
.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا
أحل الله لَك} [التَّحْرِيم: 1] ، وَاخْتَارَهُ ابْن
السَّمْعَانِيّ، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ على مَا يؤول إِلَيْهِ
تَفْصِيل لَهُ.
(5/2460)
فعلى هَذَا - وَهُوَ القَوْل بالشمول -
يَقُولُونَ: إِذا قَالَ يَا أَيهَا النَّبِي للْأمة لَا
يَقُولُونَ إِنَّه باللغة بل للْعُرْف فِي مثله حَتَّى لَو
قَامَ دَلِيل على خُرُوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - من ذَلِك كَانَ من بَاب الْعَام الْمَخْصُوص،
وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُم داخلون بِدَلِيل آخر، لِأَنَّهُ
حِينَئِذٍ لَيْسَ مَحل النزاع فيتحد الْقَوْلَانِ.
{و} قَالَ {التَّمِيمِي، وَأَبُو الْخطاب، وَأكْثر
الشَّافِعِيَّة، والأشعرية} ، والمعتزلة، وَغَيرهم: {لَا يعمهم
إِلَّا بِدَلِيل} يُوجب التَّشْرِيك إِمَّا مُطلقًا، وَإِمَّا
فِي ذَلِك الحكم بِخُصُوصِهِ من قِيَاس أَو غَيره، وَحِينَئِذٍ
فشمول الحكم لَهُ بذلك لَا بِاللَّفْظِ؛ لِأَن اللُّغَة
تَقْتَضِي أَن خطاب الْمُفْرد لَا يتَنَاوَل غَيره.
وَاسْتدلَّ للْأولِ بقوله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا
وطرا زَوَّجْنَاكهَا لكَي لَا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج فِي
أَزوَاج أدعيائهم} [الْأَحْزَاب: 37] فعلل الْإِبَاحَة بِنَفْي
الْحَرج عَن أمته، وَلَو اخْتصَّ بِهِ الحكم لما كَانَ عِلّة
لذَلِك.
(5/2461)
وَأَيْضًا: {خَالِصَة لَك من دون
الْمُؤمنِينَ} [الْأَحْزَاب: 50] وَلَو كَانَ اللَّفْظ
مُخْتَصًّا لم يحْتَج إِلَى التَّخْصِيص.
فَإِن قيل: الْفَائِدَة فِي التَّخْصِيص عدم الْإِلْحَاق
بطرِيق الْقيَاس، وَلذَلِك رفع الْحَرج.
قُلْنَا: ظَاهر اللَّفْظ مُقْتَض للمشاركة؛ لِأَنَّهُ علل
إِبَاحَة التَّزْوِيج بِرَفْع الْحَرج عَن الْمُؤمنِينَ،
وَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ بالخصوية، فَالْقِيَاس بمعزل عَن ذَلِك.
وَأَيْضًا فِي مُسلم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - سَأَلَهُ رجل فَقَالَ: تدركني الصَّلَاة وَأَنا جنب فأصوم؟
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَأَنا
تدركني الصَّلَاة وَأَنا جنب فأصوم! " فَقَالَ: لست مثلنَا يَا
رَسُول الله، قد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا
تَأَخّر، فَقَالَ: " وَالله، إِنِّي لأرجو أَن أكون أخشاكم لله
وَأعْلمكُمْ بِمَا أتقي ".
وَرُوِيَ عَنهُ فِي القُبلة مثله، فَدلَّ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه أجابهم بِفِعْلِهِ، وَلَو اخْتصَّ الحكم بِهِ
لم يكن جَوَابا لَهُم.
الثَّانِي: أَنه أنكر عَلَيْهِم مراجعتهم لَهُ باختصاصه
بالحكم، فَدلَّ على أَنه لَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ.
(5/2462)
وَلِأَن الصَّحَابَة كَانُوا يرجعُونَ
إِلَى أَفعاله عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ
من الْأَحْكَام كرجوعهم فِي التقاء الختانين، وَصِحَّة صَوْم
من أصبح جنبا، وَغير ذَلِك.
قَالُوا: الْمُفْرد لَا يتَنَاوَل غَيره لُغَة.
قُلْنَا: مَحل النزاع لَيْسَ فِي اللُّغَة، بل فِي الْعرف
الشَّرْعِيّ.
قَالُوا: يُوجب كَون خُرُوج غَيره تَخْصِيصًا.
قُلْنَا: من الْعرف الشَّرْعِيّ مُسلم إِذا ظَهرت مشاركتهم
لَهُ فِي الْأَحْكَام ثَبت مشاركته لَهُم أَيْضا لوُجُود
التلازم ظَاهرا؛ فَإِن مَا ثَبت لأحد المتلازمين ثَبت للْآخر،
أَو لَو ثَبت لَهُم حكم انفردوا بِهِ دونه لثبت نقيضه فِي حَقه
دونهم، وَقد ظهر الدَّلِيل على خِلَافه. انْتهى.
{ووقف أَبُو الْمَعَالِي} ، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَيَأْتِي
تَفْصِيل فِي الْمَسْأَلَة.
(5/2463)
تَنْبِيه: مَحل ذَلِك مَا يُمكن إِرَادَة
الْأمة مَعَه، أما مَا لَا يُمكن إِرَادَة الْأمة مَعَه فِيهِ
مثل: {يَا أَيهَا المدثر (1) قُم فَأَنْذر} [المدثر: 1، 2] ،
{يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك}
[الْمَائِدَة: 67] ، وَنَحْوه فَلَا تدخل الْأمة فِيهِ قطعا،
وَمِنْه مَا قَامَت فِيهِ قرينَة على اخْتِصَاصه بِهِ من
خَارج، نَحْو: {وَلَا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] .
فتفصيل إِمَام الْحَرَمَيْنِ بَين أَن ترد الصِّيغَة فِي مَحل
التَّخْصِيص فَيكون خَاصّا بِهِ وَإِلَّا فَيكون عَاما لَيْسَ
قولا آخر، بل يتَبَيَّن بِمحل الْخلاف، وَأما [مَا] لَا يُمكن
فِيهِ إِرَادَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- بذلك الحكم المقترن بخطابه، بل يكون الْخطاب لَهُ وَالْمرَاد
الْأمة فَلَيْسَ ذَلِك من مَحل النزاع أَيْضا، وَذَلِكَ مثل
قَوْله: {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} [الزمر: 65] ، فخطابه
بذلك من مجَاز التَّرْكِيب، وَهُوَ مَا أسْند فِيهِ الحكم لغير
من هُوَ لَهُ، نَحْو: أنبت الرّبيع البقل، {يَا هامان ابْن لي
صرحا} [غَافِر: 36] ؛ وَلأَجل ذَلِك انتقد على ابْن الْحَاجِب
تمثيله مَحل النزاع بِآيَة {لَئِن أشركت} .
ورد ذَلِك ابْن عَطِيَّة بِمَا فِيهِ شِفَاء.
وَقَول التَّمِيمِي وَمن مَعَه: (لَا يعمهم إِلَّا بِدَلِيل)
تقييدا لهَذَا القَوْل
(5/2464)
بِأَن لَا قرينَة على إِرَادَة الْأمة
مَعَه فَإِن كَانَت قرينَة تدل على إرادتهم مَعَه دخلُوا بِلَا
خلاف، وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي
إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} [الطَّلَاق: 1] ، فَإِن ضمير الْجمع
فِي (طلّقْتُم) و (طلقوهن) قرينَة لفظية تدل على أَن الْأمة
مَقْصُودَة مَعَه بالحكم وَإِن تَخْصِيصه بالنداء تشريف لَهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّهُ إمَامهمْ
وقدوتهم وسيدهم الَّذِي يصدر فعلهم عَن رَأْيه وإرشاده.
انْتهى.
فتلخص أَن خطابه ثَلَاثَة أَنْوَاع:
أَحدهَا: يكون مُخْتَصًّا بِهِ بِلَا نزاع.
وَالثَّانِي: دُخُول أمته مَعَه بِلَا نزاع.
وَالثَّالِث: مَحل الْخلاف.
تَنْبِيه: عكس هَذِه الْمَسْأَلَة، نَحْو: يَا أَيهَا الْأمة،
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب، والهندي: لَا يدْخل قطعا.
(5/2465)
قَوْله: {وَكَذَا خطاب الله تَعَالَى
لأَصْحَابه، هَل يعمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-؟} فِيهِ الْخلاف الْمُتَقَدّم.
وَالصَّحِيح أَنه يعمه على مَا تقدم، لَكِن قَالَ ابْن عقيل
فِي " الْوَاضِح ": نفي دَخَلُوهُ هُنَا عَن الْأَكْثَر من
الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَذَلِكَ بِنَاء على أَنه لَا يَأْمر
كالسيد مَعَ عبيده.
رد بِأَنَّهُ مخبر بِأَمْر الله تَعَالَى.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَه القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي،
والهندي فِي التَّنْبِيه الَّذِي قبل هَذَا، وَاحْتج الأول:
بفهم أهل اللُّغَة من الْأَمر للأمير بالركوب لكسر الْعَدو،
وَنَحْوه أَنه أَمر لأتباعه مَعَه.
رد بِالْمَنْعِ، وَلِهَذَا يُقَال: أَمر الْأَمِير، لَا
أَتْبَاعه.
قَوْله: {وَكَذَا خطابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- لوَاحِد من الْأمة هَل يعم غَيره} ، أم لَا؟
(5/2466)
فِيهِ الْخلاف الْمُتَقَدّم، وَالصَّحِيح
عندنَا أَنه عَام مُطلقًا فَيتَنَاوَل الْمُخَاطب وَغَيره
وَلَو اخْتصَّ بِهِ الْمُخَاطب لم يكن - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوثًا إِلَى الْجَمِيع.
رد بِالْمَنْعِ، فَإِن مَعْنَاهُ تَعْرِيف كل وَاحِد مَا
يخْتَص بِهِ، وَلَا يلْزم شركَة الْجَمِيع فِي الْجَمِيع.
قَالُوا: هُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة لرجوعهم إِلَى قصَّة
مَاعِز، وَبرْوَع بنت واشق، وَأَخذه الْجِزْيَة من مجوس هجر،
وَغير ذَلِك.
(5/2467)
رد: بِدَلِيل هُوَ التَّسَاوِي فِي
السَّبَب.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: إِن وَقع جَوَابا لسؤال، كَقَوْل
الْأَعرَابِي: واقعت أَهلِي فِي رَمَضَان فَقَالَ: اعْتِقْ،
كَانَ عَاما، وَإِلَّا فَلَا، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ "
فَلَا يدْخل فِيهِ غَيره.
وَعند الشَّافِعِي، وَأكْثر الْعلمَاء، مِنْهُم:
الْحَنَفِيَّة، أَنه لَا يعم.
قَالَت الْحَنَفِيَّة: لِأَنَّهُ عَم فِي الَّتِي قبلهَا لفهم
الِاتِّبَاع؛ لِأَنَّهُ مُتبع وَهنا مُتبع.
{وَاخْتَارَ أَبُو الْمَعَالِي} أَنه {يعم هُنَا وَأَنه قَول
الواقفية فِي الْفِعْل} ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن أبي
الْخطاب، قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
(5/2468)
تَنْبِيه: إِذا علم هَذَا النَّقْل، فقد
قَالَت الشَّافِعِيَّة: الْخطاب الْخَاص لُغَة لوَاحِد من
الْأمة لَا يتعداه إِلَى غَيره إِلَّا بِدَلِيل مُنْفَصِل،
قَالَه الْجُمْهُور.
وَقيل: يعم بِنَفسِهِ من جِهَة الْعَادة، لَا من جِهَة
اللُّغَة.
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: الْخلاف لَفْظِي.
وَقَالَ غَيره: معنوي.
قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ على قَوْله فِي " جمع الْجَوَامِع ":
وَأَن خطاب الْوَاحِد لَا يتعداه.
وَكَذَا قَالَ الكوراني، وَنسب القَوْل بِأَنَّهُ يتَعَدَّى
إِلَى جَمِيع الْأمة إِلَى الْحَنَابِلَة، وَذكر دَلِيل
الْفَرِيقَيْنِ فليعاود.
وَمَا قُلْنَا فِي الْمَتْن وَالشَّرْح تبعا لِابْنِ مُفْلِح،
وَلذَلِك الْبرمَاوِيّ صحّح مَا قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ
وَغَيره فَإِنَّهُ نَص الشَّافِعِيَّة وعَلى الْأَكْثَر.
تَنْبِيه: مَحل ذَلِك، وَالْخلاف فِيهِ إِذا لم يخص ذَلِك
الْوَاحِد فَلَا يكون غَيره مثله فِي الحكم لحَدِيث أبي بردة
لقَوْله: " اذْبَحْهَا وَلنْ تُجزئ عَن أحد بعْدك ".
(5/2469)
وَمثله حَدِيث زيد بن خَالِد، وَعقبَة بن
عَامر، فَإِنَّهُ وَقع لَهما مثل ذَلِك فَرخص النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لزيد بن خَالِد
الْجُهَنِيّ كَمَا فِي أبي دَاوُد، كَمَا رخص لأبي بردة،
وَرخّص أَيْضا لعقبة بن عَامر كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَهُوَ مَبْنِيّ على تَخْصِيص لعُمُوم بعد تَخْصِيص.
وَاسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - رُجُوع الصَّحَابَة
إِلَى التَّمَسُّك بقضايا الْأَعْيَان كقصة مَاعِز، ودية
الْجَنِين، والمفوضة، وَالسُّكْنَى للمبتوتة، وَغير ذَلِك.
وَأَيْضًا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي
بردة: " تجزئك وَلَا تُجزئ عَن أحد بعْدك " فلولا أَن
الْإِطْلَاق يَقْتَضِي الْمُشَاركَة لم يخص.
وَكَذَلِكَ تَخْصِيص خُزَيْمَة بِجعْل شَهَادَته كشهادتين،
وَقَوله تَعَالَى:
(5/2470)
{وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة
للنَّاس ... ... ... ... يعلمُونَ (28) } [سبأ: 28] ، وَقَوله
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " بعثت إِلَى الْأَحْمَر
وَالْأسود ".
قَالُوا: لتعريف كل مَا يخْتَص.
قُلْنَا: إِذا لم يكن اخْتِصَاص ظهر اقْتِصَار الحكم بِمَا
ذَكرْنَاهُ.
وَأَيْضًا فَقَوْل الرَّاوِي: نهى رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو قضى يعم، وَلَو اخْتصَّ
بِمن سوقه [لَهُ] لم يعم لاحْتِمَال سَماع الرَّاوِي أمرا، أَو
نهيا لوَاحِد فَلَا يكون عَاما.
قَالُوا: لنا مَا تقدم من الْقطع والتخصيص.
قُلْنَا: سبق جوابهما.
قَالُوا: يلْزم عدم فَائِدَة (حكمي على الْوَاحِد) .
(5/2471)
قُلْنَا: الحَدِيث غير مَعْرُوف أصلا، ثمَّ
لَو صَحَّ آكِد، قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {وتعدي فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِلَى أمته يخرج على الْخطاب المتوجه إِلَيْهِ عِنْد
الْأَكْثَر} .
قَالَ صَاحب " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة " فِي " مُخْتَصره
فِي الْأُصُول ": وَحكم فعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
فِي تعديه إِلَى أمته يخرج على الْخلاف فِي الْخطاب المتوجه
إِلَيْهِ عِنْد الْأَكْثَر.
وَفرق أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره، وَقَالُوا: يتَعَدَّى فعله.
انْتهى.
(5/2472)
وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله
" إِلَّا أَنه قَالَ: قَالَه بعض أَصْحَابنَا، زَاد بَعضهم
إِذا عرف وَجهه، وَفرق أَبُو الْمَعَالِي، وَغَيره فَقَالُوا:
يتَعَدَّى فعله، وَمعنى كَلَام الْآمِدِيّ وَغَيره الْفرق -
أَيْضا -. انْتهى.
(5/2473)
(قَوْله: {فصل} )
{لفظ الرِّجَال، والرهط لَا يعم النِّسَاء، وَلَا الْعَكْس}
أَعنِي لفظ النِّسَاء لَا يعم الرِّجَال، وَلَا الرَّهْط
{قطعا، ويعم النَّاس وَنَحْوه الْكل إِجْمَاعًا} .
ذكر أَصْحَابنَا الرَّهْط فَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي "
الْفُرُوع ": والرهط مَا دون الْعشْرَة خَاصَّة لُغَة، وَلَا
وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَجمعه أرهط وأرهاط، وأراهط، وَأما لفظ
الرِّجَال، وَالنَّاس، وَنَحْوهم فقد ذكره الْعلمَاء وَلَا
إِشْكَال فِيهِ.
قَوْله: {وَالْقَوْم للرِّجَال فِي الْأَصَح، وَقيل: ولهن
تبعا} ، أَي: وللنساء تبعا.
(5/2474)
فِي الْقَوْم ثَلَاثَة أَقْوَال: هَل
يخْتَص بِالرِّجَالِ؟ - وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ
الْأَكْثَر -، أَو يَشْمَل الرِّجَال وَالنِّسَاء؟ أَو هُوَ
للرِّجَال وَيدخل النِّسَاء تبعا؟
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْقَوْم للرِّجَال دون النِّسَاء،
قَالَ الله تَعَالَى: {لَا يسخر قوم من قوم} الْآيَة [الحجرات:
11] ، لَكِن الَّذِي يظْهر أَنه قد يَأْتِي الْقَوْم للرِّجَال
وَالنِّسَاء.
ويستأنس لَهُ بقوله تَعَالَى: {يَا قَومنَا أجِيبُوا دَاعِي
الله} [الْأَحْقَاف: 31] فَيدْخل النِّسَاء فِي ذَلِك، ثمَّ
وجدته فِي " الْقَامُوس " قَالَ: الْقَوْم الْجَمَاعَة من
الرِّجَال وَالنِّسَاء، أَو من الرِّجَال خَاصَّة، أَو يدْخل
النِّسَاء على التّبعِيَّة وَيُؤَنث. انْتهى.
فَذكر ثَلَاثَة أَقْوَال.
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": الْقَوْم جمَاعَة
الرِّجَال لَيْسَ فيهم امْرَأَة الْوَاحِد رجل وامرؤ من غير
لَفظه، وَالْجمع أَقوام، سموا بذلك؛ لقيامهم بالعظائم
والمهمات.
وَقَالَ الصغاني: وَرُبمَا دخل النِّسَاء تبعا؛ لِأَن قوم كل
نَبِي رجال وَنسَاء، وَيذكر الْقَوْم وَيُؤَنث، وَكَذَا كل
اسْم جمع لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، كرهط وَنَفر، وَنَحْوهمَا.
انْتهى.
(5/2475)
قَوْله: {وَنَحْو الْمُسلمين، وفعلوا}
وَكَذَا فافعلوا، ويفعلون، وفعلتم وَنَحْوه، بل وَلَا يخْتَص
بالضمائر بل اللواحق لذَلِك، نَحْو: ذَلِكُم وَإِيَّاكُم
{مِمَّا يغلب فِيهِ الْمُذكر يعم النِّسَاء تبعا عِنْد أَكثر
أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ
ظَاهر كَلَام أَحْمد} ، وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة،
وَحَكَاهُ أَبُو الطّيب عَن أبي حنيفَة، وَحَكَاهُ الْبَاجِيّ
عَن ابْن خويز منداد.
{وَعنهُ: لَا يعم، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، والطوفي، وَأكْثر
الشَّافِعِيَّة، والأشعرية، وَغَيرهم} .
(5/2476)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ذهب إِلَيْهِ
الشَّافِعِي، وَأَصْحَابه وَالْجُمْهُور.
وَنَقله ابْن برهَان عَن مُعظم الْفُقَهَاء، وَنَقله ابْن
الْقشيرِي عَن مُعظم أهل اللُّغَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ظَاهر القَوْل الأول أَنه لَيْسَ من
حَيْثُ اللُّغَة، بل بِالْعرْفِ أَو بِعُمُوم الْأَحْكَام، أَو
نَحْو ذَلِك.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: اندراج النِّسَاء تَحت لفظ
الْمُسلمين بالتغليب لَا بِأَصْل الْوَضع.
وَقَالَ الأبياري: لَا خلاف بَين الْأُصُولِيِّينَ والنحاة فِي
عدم تناولهن لجَمِيع كجمع الذُّكُور، وَإِنَّمَا ذهب بعض
الْأُصُولِيِّينَ إِلَى ثُبُوت التَّنَاوُل؛ لِكَثْرَة
اشْتِرَاك النَّوْعَيْنِ فِي الْأَحْكَام لَا غير فَيكون
الدُّخُول عرفا، أَو نَحوه، لَا لُغَة.
ثمَّ قَالَ: وَإِذا قُلْنَا بالتناول هَل يكون دَالا عَلَيْهَا
بِالْحَقِيقَةِ وَالْمجَاز أَو عَلَيْهِمَا مجَازًا صرفا؟
خلاف، ظَاهر مَذْهَب القَاضِي ابْن الباقلاني الثَّانِي،
وَقِيَاس قَول الإِمَام - أَي: أبي الْمَعَالِي - الأولى.
انْتهى.
(5/2477)
{و} قَالَ ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح ":
لَا يَقع مُؤمن على أُنْثَى بالتكفير بِالرَّقَبَةِ فِي
قَتلهَا قِيَاسا، وَخص الله تَعَالَى الْحجب بالأخوة، فَعدى
إِلَى الْأَخَوَات بِالْمَعْنَى} . انْتهى.
وَفِي هَذَا الْكَلَام تَقْوِيَة للْمَذْهَب الثَّانِي.
وَاسْتدلَّ للْأولِ بمشاركة الذُّكُور فِي الْأَحْكَام لظَاهِر
اللَّفْظ.
رد بِالْمَنْعِ، بل لدَلِيل، وَلِهَذَا لم يعمهن الْجِهَاد،
وَالْجُمُعَة، وَغَيرهمَا.
أُجِيب بِالْمَنْعِ، ثمَّ لَو كَانَ لعرف، وَالْأَصْل عَدمه،
وخروجهن من بعض الْأَحْكَام لَا يمْنَع كبعض الذُّكُور.
وَلِأَن أهل اللُّغَة غلبوا الْمُذكر بِاتِّفَاق.
بِدَلِيل {اهبطوا} [الْبَقَرَة: 36] لآدَم وحواء وإبليس.
رد: بِقصد الْمُتَكَلّم وَيكون مجَازًا.
أُجِيب: لم يشْتَرط أحد من أهل اللُّغَة الْعلم بِقَصْدِهِ،
ثمَّ لَو لم يعمهن لما عَم بِالْقَصْدِ بِدَلِيل جمع
الرِّجَال، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة وَلَو كَانَ مجَازًا لم يعد
الْعُدُول عَنهُ عيا.
(5/2478)
وَاسْتدلَّ: لَو أوصى لرجال وَنسَاء
بِشَيْء ثمَّ قَالَت: أوصيت لَهُم بِكَذَا، عمهم.
رد: بِقَرِينَة الْإِيصَاء الأول.
قَالُوا: لَو عمهن لما حسن {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات}
[الْأَحْزَاب: 35] .
رد: تنصيص وتأكيد لما سبق، وَإِن كَانَ التأسيس أولى، وكعطف
لَا يمْنَع بِدَلِيل عطف جِبْرِيل وَمِيكَائِيل على مَلَائكَته
وَرُسُله.
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك
وَمن نوح} [الْأَحْزَاب: 7] .
وَذكر أَصْحَابنَا وَجها بِمَنْعه.
وَمن عطف الْعَام قَوْله: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} [الْبَقَرَة: 136] ، {وأورثكم
أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ} [الْأَحْزَاب: 27] .
قَالُوا: قَالَت أم سَلمَة لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام -: مَا لنا لَا نذْكر فِي الْقُرْآن كَمَا تذكر
الرِّجَال؟ فَنزلت {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} الْآيَة.
إِسْنَاده جيد، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره، وَلَو دخلن لم
يصدق نَفيهَا، وَلم يَصح تَقْرِيره لَهُ.
(5/2479)
رد: يصدق وَيصِح لِأَنَّهَا أَرَادَت
التَّنْصِيص تَشْرِيفًا لَهُنَّ لَا تبعا لما سبق.
قَالُوا: الْجمع تَضْعِيف الْوَاحِد، وَمُسلم لرجل فمسلمون
لجمعه.
رد: يحْتَمل مَنعه، قَالَه الْحلْوانِي.
وَقَالَ فِي " الْعدة ": إِن سلمناه، ثمَّ فرق.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": مَنعه بَعضهم، وَالصَّحِيح
تَسْلِيمه للبس، ولعموم الْجمع لَهما بِدَلِيل قَصده بِخِلَاف
الْمُفْرد.
وَقد احْتج أَصْحَابنَا بِأَن قَوْله: {الْحر بِالْحرِّ}
[الْبَقَرَة: 178] عَام للذّكر وللأنثى.
تَنْبِيه: سكت الأصوليون عَن الخناثا هَل يدْخلُونَ فِي خطاب
الْمُذكر والمؤنث، أما إِن قُلْنَا بِدُخُول النِّسَاء
فالخناثا بطرِيق أولى، وَأما إِذا قُلْنَا لَا يدخلن
فَالظَّاهِر من تصرف الْفُقَهَاء دُخُولهمْ فِي خطاب النِّسَاء
فِي التَّغْلِيظ، وَالرِّجَال فِي التَّخْفِيف، وَرُبمَا
أخرجُوا من الْقسمَيْنِ، وَلَهُم أَحْكَام كَثِيرَة
مُخْتَلفَة.
(5/2480)
وللقاضي وَغَيره من أَصْحَابنَا تصنيف فِي
أَحْكَام الخناثا، وَالله أعلم.
تَنْبِيه آخر: مِمَّا يخرج على هَذِه الْقَاعِدَة مَسْأَلَة
الْوَاعِظ الْمَشْهُورَة، وَهُوَ قَوْله للحاضرين عِنْده:
طلقتكم ثَلَاثًا، وَامْرَأَته فيهم وَهُوَ لَا يدْرِي، فَأفْتى
أَبُو الْمَعَالِي بالوقوع.
قَالَ الْغَزالِيّ: وَفِي الْقلب مِنْهُ شَيْء، قلت: الصَّوَاب
عدم الْوُقُوع.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ، وَالنَّوَوِيّ: وَيَنْبَغِي أَن لَا
يَقع، وَلَهُم فِيهَا كَلَام كثير.
تَنْبِيه: لَو جَاءَ الْمُذكر بِلَفْظ الْوَاحِد، كَقَوْلِه:
فَإِن جَاءَ مُسلم أعْطه درهما، فَذكر الْحلْوانِي وَغَيره
احْتِمَالَيْنِ فِيهَا:
أَحدهمَا: اخْتِصَاص الْمُذكر.
وَالثَّانِي: الْمُشَاركَة. انْتهى.
(5/2481)
قَوْله: {وَالْمذهب أَن الْأُخوة والعمومة
يعم} الذُّكُور وَالْإِنَاث، قطع بِهِ فِي " الْمُغنِي " و "
الشَّرْح "، و " شرح ابْن رزين "، وَصَاحب " الْفُرُوع "
فِيهِ، وَغَيرهم، وَظَاهر كَلَامه فِي " الْوَاضِح "
الْمُتَقَدّم أَن الْأُخوة لَا تعم الْإِنَاث وَأَن الْمُؤمن
لَا يعمهن كَمَا تقدم.
(5/2482)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم أَن (من) الشّرطِيَّة تعم الْمُؤَنَّث}
لقَوْله تَعَالَى: {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات من ذكر أَو
أُنْثَى} [النِّسَاء: 124] فالتفسير بِالذكر وَالْأُنْثَى دَال
على تنَاول الْقسمَيْنِ.
وَلقَوْله تَعَالَى: {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله}
[الْأَحْزَاب: 31] .
وَلقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من جر
ثَوْبه خلاء لم ينظر الله إِلَيْهِ " فَقَالَت أم سَلمَة:
فَكيف يصنع النِّسَاء بذيولهن؟ فأقرها النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فهم دُخُول النِّسَاء فِي
(من) الشّرطِيَّة.
وَلِأَنَّهُ لَو قَالَ: من دخل دَاري فَهُوَ حر، فدخله
الْإِمَاء عتقن بِالْإِجْمَاع، قَالَه فِي " الْمَحْصُول ".
(5/2483)
وَحكى ابْن الْحَاجِب وَغَيره قولا
إِنَّهَا تخْتَص بالذكور، وتبعناهم على ذَلِك، وَحَكَاهُ ابْن
برهَان النَّحْوِيّ عَن الشَّافِعِي، وَهُوَ غَرِيب،
وَإِنَّمَا هُوَ محكي عَن بعض الْحَنَفِيَّة، وَأَنَّهُمْ
تمسكوا بِهِ فِي مَسْأَلَة الْمُرْتَدَّة فَجعلُوا قَوْله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه
فَاقْتُلُوهُ " لَا يَتَنَاوَلهَا، وَالصَّحِيح من مَذْهَبنَا،
وَمذهب الْجُمْهُور أَنَّهَا تقتل؛ لدخولها فِي الحَدِيث.
تَنْبِيه: قد تقدم (من) الشّرطِيَّة فِي أول صِيغ الْعُمُوم
وَكَذَلِكَ (من) الاستفهامية، وتقييدهم هُنَا بِمن الشّرطِيَّة
يخرج (من) الموصولة والاستفهامية.
وَقَالَ الصفي الْهِنْدِيّ: الظَّاهِر أَنه لَا فرق، وَالْخلاف
جَار فِي الْجَمِيع.
(5/2484)
وَاعْتذر بَعضهم عَن أبي الْمَعَالِي فِي
إِفْرَاده (من) الشّرطِيَّة دون الموصولة والاستفهامية
بِأَنَّهُ إِنَّمَا خص الشّرطِيَّة؛ لِأَنَّهُ لم يذكر
الاستفهامية والموصولة فِي صِيغ الْعُمُوم.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَالْحق أَن الاستفهامية من صِيغ
الْعُمُوم دون الموصولة، نَحْو: مَرَرْت بِمن قَامَ، فَلَا
عُمُوم لَهَا. انْتهى.
ويعاود كَلَام الْبرمَاوِيّ وَغَيره هُنَاكَ.
قَوْله: {ويعم النَّاس، والمؤمنون، وَنَحْوهمَا} ، ك
{وَالَّذين آمنُوا} [الْبَقَرَة: 9] ، و {يَا عبَادي}
[العنكبوت: 56] {العبيد عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأَصْحَابه،
وَأكْثر أَتبَاع الْأَئِمَّة} ؛ لأَنهم يدْخلُونَ فِي الْخَبَر
فَكَذَا فِي الْأَمر، وباستثناء الشَّارِع لَهُم فِي
الْجُمُعَة.
{وَقيل:} لَا يدْخلُونَ {إِلَّا بِدَلِيل} ؛ لأَنهم أَتبَاع
الْأَحْرَار.
وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح عَن أَكثر الْمَالِكِيَّة، وَبَعض
الشَّافِعِيَّة، وَذكره
(5/2485)
ابْن تَمِيم - من تَمِيم - من فُقَهَاء
أَصْحَابنَا عَن بعض أَصْحَابنَا.
لَكِن حُكيَ هَذَا القَوْل أَنهم لَا يدْخلُونَ، وَلم يقل
فِيهِ: إِلَّا بِدَلِيل.
{وَقيل: إِن تضمن تعبدا دخلُوا، وَإِلَّا فَلَا، اخْتَارَهُ
أَبُو بكر الرَّازِيّ} الْحَنَفِيّ، {وَغَيره} ، قَالَ فَإِن
تضمن الْخطاب تعبدا توجه إِلَيْهِ، وَإِن تضمن ملكا، أَو
ولَايَة، أَو عقدا فَلَا، بل حكى بَعضهم الْإِجْمَاع على عدم
خطابهم بالعبادات الْمَالِيَّة؛ لِأَنَّهُ لَا ملك لَهُم،
وَفِيه نظر.
قَالَ الْهِنْدِيّ: الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دُخُول العبيد
وَالْكفَّار فِي لفظ النَّاس وَنَحْوه، إِن زَعَمُوا أَنه لَا
يتناولهم لُغَة فمكابرة، وَإِن زَعَمُوا أَن الرّقّ وَالْكفْر
أخرجهم شرعا فَبَاطِل؛ لِأَن الْإِجْمَاع أَنهم مكلفون فِي
الْجُمْلَة. انْتهى.
(5/2486)
قَوْله: {وَأما الْمبعض فَالظَّاهِر
دُخُوله} إِن قُلْنَا بِدُخُول العبيد وَالْإِمَاء فِي الْخطاب
ويعمهم، فالمبعض بطرِيق أولى وَأَحْرَى، وَإِن قُلْنَا: لَا
يدْخلُونَ فَمَا حكم الْمبعض؟ لم يذكروه.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: أما الْمبعض فَالظَّاهِر تَغْلِيب
الْحُرِّيَّة فَلَا يجْرِي فِيهِ الْخلاف فِي العبيد. انْتهى.
قلت: لنا فِي الْفِقْه مسَائِل فِي الْمبعض مُخْتَلف فِيهَا،
مِنْهَا: الْأمة المبعضة الْحُرِّيَّة فِي الستْرَة فِي
الصَّلَاة، هَل هِيَ كَالْحرَّةِ، أَو كالأمة، وَالصَّحِيح من
الْمَذْهَب أَنَّهَا كالأمة، وَلنَا قَول اخْتَارَهُ الْمجد بن
تَيْمِية وَغَيره من الْمُحَقِّقين إِنَّهَا كَالْحرَّةِ
وَهُوَ أولى وَأظْهر.
قَوْله: {وَاخْتَارَ السَّمْعَانِيّ دُخُول الْكفَّار فِي
{الَّذين آمنُوا} } يَعْنِي: يشملهم اللَّفْظ بذلك، فَقَالَ:
الْمُخْتَار أَنه يعم الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار؛ لعُمُوم
التَّكْلِيف، وَإِنَّمَا خص الْمُؤْمِنُونَ بذلك؛ للتشريف لَا
للتخصيص بِدَلِيل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله
وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا} [الْبَقَرَة: 278] وَقد ثَبت
تَحْرِيم الرِّبَا فِي حق أهل الذِّمَّة. انْتهى.
(5/2487)
وَضعف قَوْله بِأَن هَذَا لأمر خارجي لَا
من حَيْثُ الصِّيغَة إِمَّا لعُمُوم الشَّرْع لَهُم، وَإِمَّا
للعمومات الشاملة لَهُم لُغَة، أَو غير ذَلِك، وَهَذَا قَول
الْجُمْهُور من الْعلمَاء.
قَوْله: {ويدخلون} ، أَي: الْكفَّار {فِي} لفظ {النَّاس،
وَنَحْوه} ، مثل أولي الْأَلْبَاب {فِي الْأَصَح من غير
قرينَة} لُغَة.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَبِه قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو
إِسْحَاق وَغَيره؛ إِذْ لَا مَانع من ذَلِك.
وَنقل عَن بعض الشَّافِعِيَّة أَنهم لَا يدْخلُونَ، وَلَعَلَّه
لكَون الْكفَّار غير مخاطبين بالفروع، إِلَّا أَن الْمَانِع
هُنَا أطلق وَلم يُقيد بخطاب الْفُرُوع.
تَنْبِيه: أما إِن قَامَت قرينَة بِعَدَمِ دُخُولهمْ، أَو
أَنهم هم المُرَاد لَا الْمُؤْمِنُونَ عمل بهَا، نَحْو
{الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم} [آل
عمرَان: 173] ؛ لِأَن الأول للْمُؤْمِنين فَقَط، إِمَّا نعيم
بن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ، وَهُوَ
(5/2488)
الَّذِي قَالَه الْمُفَسِّرُونَ، أَو
أَرْبَعَة كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "،
وَالثَّانِي لكفار مَكَّة، لَكِن قد يُقَال بِأَن اللَّام فِي
ذَلِك للْعهد الذهْنِي، وَالْكَلَام فِي الاستغراقية.
وَقَوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس ضرب مثل فَاسْتَمعُوا
لَهُ} [الْحَج: 73] المُرَاد الْكفَّار بِدَلِيل بَاقِي
الْآيَة، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، وَجعله
من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخَاص، فقد يدعى ذَلِك
أَيْضا فِي الْآيَة الَّتِي قبلهَا فَلَا تكون (أل) فِيهَا
عهدية.
قَوْله: {و {يَا أهل الْكتاب} [آل عمرَان: 64] {لَا يَشْمَل
الْأمة} ، أَي: أمة نَبينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد مُعظم الْعلمَاء، بل أَكْثَرهم
قطع بذلك، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي
دينكُمْ} [النِّسَاء: 171] ، {يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا
الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا} [النِّسَاء: 47] ، (قل يَا أهل
الْكتاب تَعَالَوْا
(5/2489)
إِلَى كلمة} [آل عمرَان: 64] ، {قل يَا أهل
الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ منا} [الْمَائِدَة: 59] فَلَا يدْخل
فِيهِ أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِلَّا أَن يدل دَلِيل على مشاركتهم لَهُم فِيمَا خوطبوا بِهِ،
وَذَلِكَ لِأَن اللَّفْظ قَاصِر عَلَيْهِم فَلَا يتعداهم.
وَالْمرَاد الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَخَالف فِي هَذَا الشَّيْخ مجد الدّين بن تَيْمِية فِي "
مسودته "، فَقَالَ: يَشْمَل الْأمة إِن شركوهم فِي الْمَعْنى،
قَالَ: لِأَن شَرعه عَام لبني إِسْرَائِيل وَغَيرهم من أهل
الْكتاب وَغَيرهم كالمؤمنين فَثَبت الحكم فيهم كأمي أهل
الْكتاب، وَذَلِكَ كَاف لوَاحِد من الْمُكَلّفين فَإِنَّهُ يعم
غَيره - أَي: على رَأْي من يَقُول بِهِ - قَالَ: وَإِن لم
يشركهم فَلَا، كَمَا فِي قَوْله لأهل بدر: {فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُم} [الْأَنْفَال: 69] ، وَلأَهل أحد: {إِذْ هَمت
طَائِفَتَانِ مِنْكُم أَن تَفْشَلَا} [آل عمرَان: 122] فَإِن
ذَلِك لَا يعم غَيرهم، قَالَ: ثمَّ الشُّمُول هُنَا هَل هُوَ
بطرِيق الْعَادة الْعُرْفِيَّة أَو الِاعْتِبَار الْعقلِيّ؟
فِيهِ الْخلاف الْمَشْهُور.
قَالَ: وعَلى هَذَا يَنْبَنِي اسْتِدْلَال الْأمة على حكمنَا،
بِمثل قَوْله تَعَالَى: {أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ} الْآيَة
[الْبَقَرَة: 44] فَإِن هَذِه الضمائر رَاجِعَة لبني
إِسْرَائِيل.
قَالَ: وَهَذَا كُله فِي الْخطاب على لِسَان مُحَمَّد - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أما خطابه لَهُم على لِسَان
مُوسَى وَغَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَهِيَ
مَسْأَلَة شرع من قبلنَا هَل هُوَ
(5/2490)
شرع لنا؟ وَالْحكم هُنَا لَا يثبت بطرِيق
الْعُمُوم الْخطابِيّ قطعا بل بِالِاعْتِبَارِ الْعقلِيّ عِنْد
الْجُمْهُور.
قَوْله: ويعم {يَا أَيهَا النَّاس} [الْبَقَرَة: 21] و
{وَالَّذين آمنُوا} [الْبَقَرَة: 9] و {يَا عباد} [الزمر: 10]
، وَنَحْوه الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
عِنْد الْأَكْثَر من الْعلمَاء حَيْثُ لَا قرينَة، مثل: {يَا
أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم} [الْبَقَرَة: 21] ، {يَا أَيهَا
الَّذين آمنُوا اتَّقوا} [الْبَقَرَة: 278] ، {يَا عباد لَا
خوف عَلَيْكُم} [الزخرف: 68] ، هَل يَشْمَل الرَّسُول - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟
فِيهِ مَذَاهِب:
أَحدهَا: يعمه حَيْثُ لَا قرينَة، وَهُوَ الصَّحِيح من
أَقْوَال الْعلمَاء، وَعَلِيهِ جُمْهُور الْعلمَاء؛ لصدق ذَلِك
عَلَيْهِ فَلَا يخرج إِلَّا بِدَلِيل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يدْخل فِي خطاب الْقُرْآن وَلَا يدْخل
فِي خطاب السّنة، قَالَه المقترح.
(5/2491)
وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا يدْخل مُطلقًا
لقَرِينَة المشافهة؛ لِأَن المشافِه غير المشافَه، والمبلِّغ
غير المبلَّغ، والآمر والناهي غير الْمَأْمُور والمنهي فَلَا
يكون دَاخِلا.
رد: بِأَن الْخطاب فِي الْحَقِيقَة هُوَ من الله تَعَالَى
للعباد، وَهُوَ مِنْهُم وَهُوَ مَعَ ذَلِك مبلغ للْأمة، فَالله
تَعَالَى هُوَ الْآمِر الناهي وَجِبْرِيل هُوَ الْمبلغ لَهُ،
وَلَا يُنَافِي كَون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - مخاطِبا مخاطَبا مبلِّغا مبلَّغا باعتبارين.
وَرُبمَا اعتل الْمَانِع بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لَهُ خَصَائِص، فَيحْتَمل أَنه غير دَاخل
لخصوصيته بِخِلَاف الْأَمر الَّذِي خَاطب بِهِ النَّاس.
ورد بِأَن الأَصْل عَدمه حَتَّى يَأْتِي دَلِيل.
وَالْقَوْل الرَّابِع: لَا يدْخل إِن اقْترن ذَلِك ب (قل)
نَحْو: {قل يَا أَيهَا النَّاس} [الْأَعْرَاف: 158] ، {قل يَا
عبَادي} [الزمر: 53] اخْتَارَهُ الصَّيْرَفِي والحليمي.
(5/2492)
ورده أَبُو الْمَعَالِي بِأَن القَوْل
مُسْتَند إِلَى الله وَالرَّسُول مبلغ عَنهُ فَلَا معنى
للتفرقة.
تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: مَحل هَذَا الْخلاف الْمُتَقَدّم
حَيْثُ لَا قرينَة تَنْفِي دُخُوله، نَحْو: يَا أيتها الْأمة،
يَا أمة مُحَمَّد فَلَا يدْخل بِلَا خلاف. قَالَه الْهِنْدِيّ،
وَأَشَارَ إِلَيْهِ القَاضِي عبد الْوَهَّاب.
وَمثله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله
وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} [الْأَنْفَال:
24] لأَنا مأمورون بالاستجابة.
الثَّانِي: قيل: لَا فَائِدَة للْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَاخل فِي
الحكم كالأمة قطعا.
ورد بِاحْتِمَال أَن يَقُول الْمُخَالف إِن ذَلِك بِدَلِيل
خارجي، وَتظهر فَائِدَته فِيمَا إِذا فعل مَا يُخَالف ذَلِك،
هَل يكون نسخا فِي حَقه إِن قُلْنَا هُوَ دَاخل فنسخ، أَي:
إِذا دخل وَقت الْعَمَل؛ لِأَن ذَلِك شَرط الْمَسْأَلَة
وَإِلَّا فَلَا.
(5/2493)
قَوْله: {قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيرهم: ويعم
الْغَائِب والمعدوم إِذا وجد وكلف لُغَة. وَقيل: بل بِدَلِيل
وَتقدم} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَيْسَ النزاع فِي قَوْلنَا: ويعم
الْغَائِب والمعدوم إِذا وجد وكلف، فِي الْكَلَام النَّفْسِيّ،
بل هَذِه خَاصَّة بِاللَّفْظِ اللّغَوِيّ؛ ولأننا مأمورون
بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
وَحصل ذَلِك إِخْبَارًا عَن أَمر الله تَعَالَى عِنْد وجودنا
مُقْتَض بطرِيق التَّصْدِيق والتكذيب، وَأَن لَا يكون قسيما
للْخَبَر. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: مِمَّا اخْتلف فِي عُمُومه الْخطاب
الْوَارِد شفاها فِي الْكتاب وَالسّنة، مثل قَوْله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا النَّاس} ، {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} ، {يَا
عبَادي} لَا خلاف فِي أَنه عَام فِي الحكم الَّذِي تضمنه لمن
لم يشافه بِهِ، سَوَاء كَانَ مَوْجُودا غَائِبا وَقت تَبْلِيغ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو
مَعْدُوما بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذا بلغ الْغَائِب والمعدوم
بِعَدَمِ وجوده تعلق بِهِ الحكم، وَإِنَّمَا اخْتلف فِي جِهَة
عُمُومه.
(5/2494)
وَالْحَاصِل: أَن الْعَام المشافه فِيهِ
بِحكم لَا خلاف فِي شُمُوله لُغَة للمشافهين وَفِي غَيرهم
حكما، وَكَذَا الْخلاف فِي غَيرهم: هَل الحكم شَامِل لَهُم
باللغة، أَو بِدَلِيل آخر؟
ذهب جمع من الْحَنَابِلَة وَالْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه من
اللَّفْظ، أَي: اللّغَوِيّ.
وَذهب الْأَكْثَر إِلَى أَنه بِدَلِيل آخر، وَذَلِكَ مِمَّا
علم من عُمُوم دينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بِالضَّرُورَةِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيدل عَلَيْهِ
قَوْله تَعَالَى: {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} [الْأَنْعَام: 19] ،
وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بعث إِلَى
النَّاس كَافَّة " قَالَ: وَهَذَا معنى قَول كثير كَابْن
الْحَاجِب: إِن مثل {يَا أَيهَا النَّاس} لَيْسَ خطابا لمن
بعدهمْ، أَي: من بعد المواجهين وَإِنَّمَا ثَبت الحكم بِدَلِيل
آخر من إِجْمَاع أَو نَص، أَو قِيَاس.
وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّهُ لَا يُقَال للمعدومين: {يَا أَيهَا
النَّاس} .
وَأَجَابُوا عَمَّا اسْتدلَّ بِهِ الْخصم بِأَنَّهُ لَو لم يكن
المعدومون مخاطبين بذلك لم يكن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا إِلَيْهِم، بِأَنَّهُ لَا
يتَعَيَّن الْخطاب الشفاهي فِي الْإِرْسَال، بل مُطلق الْخطاب
كَاف، وَالله أعلم.
(5/2495)
قَوْله: {أَكثر أَصْحَابنَا، وَبَعض
الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم: الْمُتَكَلّم دَاخل فِي عُمُوم
كَلَامه مُطلقًا} ، أَي: سَوَاء كَانَ خَبرا أَو إنْشَاء، أَو
أمرا، أَو نهيا {إِن صلح} ، نَحْو: {وَالله بِكُل شَيْء عليم}
[الْبَقَرَة: 282] إِذا قُلْنَا بِصِحَّة إِطْلَاق شَيْء
عَلَيْهِ، وَقَول السَّيِّد لعَبْدِهِ: من أحسن إِلَيْك
فَأكْرمه، أَو فَلَا تهنه. ذكره الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر.
وَلِأَن اللَّفْظ عَام، وَلَا مَانع من الدُّخُول، وَالْأَصْل
عَدمه.
{وَعنهُ} : لَا يدْخل إِلَّا {بِدَلِيل} .
{وَقيل: لَا} يدْخل مُطلقًا.
(5/2496)
{و} قَالَ {أَبُو الْخطاب وَالْأَكْثَر:
لَا فِي الْأَمر} وَالنَّهْي {وَهُوَ أَكثر كَلَام القَاضِي،
وَهُوَ أظهر} .
خرج بقولنَا: (إِن صلح) يَعْنِي أَن يكون اللَّفْظ صَالحا لَهُ
أَي: لدُخُوله فِيهِ، مَا إِذا كَانَ بِلَفْظ المخاطبة، نَحْو:
" إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ ".
وَقَوْلنَا: (مُطلقًا) ليشْمل الْخَبَر والإنشاء وَالْأَمر
وَالنَّهْي.
وَعَزاهُ فِي " الْمَحْصُول " إِلَى الْأَكْثَر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يدْخل إِلَّا بِدَلِيل، وَهُوَ
رِوَايَة عَن أَحْمد، حَكَاهَا التَّمِيمِي عَنهُ، فَقَالَ:
وَعَن أَحْمد لَا يدْخل الْآمِر فِي الْأَمر إِلَّا بِدَلِيل،
وَاخْتلف أَصْحَابه.
(5/2497)
وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا يدْخل مُطلقًا،
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد سبق فِي بَاب الْأَوَامِر والنواهي
أَن مُقْتَضى كَلَام الرَّافِعِيّ، وَالنَّوَوِيّ فِي مسَائِل
من الطَّلَاق أَن الْمُتَكَلّم لَا يدْخل فِي عُمُوم كَلَامه
وَلَو كَانَ غير آمُر وناه على الْأَصَح. انْتهى.
وَمن الْمسَائِل الْمُتَعَلّقَة بِهَذَا: الْوَقْف على
الْفُقَرَاء ثمَّ صَار فَقِيرا، هَل يجوز لَهُ الْأَخْذ، أم
لَا؟ وَالصَّحِيح من مَذْهَبنَا جَوَاز الْأَخْذ، وَقيل: لَا
يجوز لَهُ الْأَخْذ؛ لِأَن مُطلق الْوَقْف ينْصَرف إِلَى غير
الْوَاقِف.
وَالْقَوْل الرَّابِع: لَا يدْخل فِي الْأَمر وَالنَّهْي،
وَيدخل فِي غَيرهمَا.
اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَأكْثر الْفُقَهَاء والمتكلمين،
وَهُوَ أَكثر كَلَام القَاضِي أَبُو يعلى، وَهُوَ أظهر.
وَفرق أَبُو الْخطاب بَينهمَا بِأَن الْأَمر استدعاء الْفِعْل
على جِهَة الاستعلاء، فَلَو دخل الْمُتَكَلّم تَحت مَا يَأْمر
بِهِ غَيره لَكَانَ مستدعيا من نَفسه
(5/2498)
ومستعليا وَهُوَ محَال، وَهُوَ احْتِمَال
فِي " الْمَحْصُول ".
تَنْبِيه: من فروع هَذِه الْمَسْأَلَة: هَل كَانَ للنَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يتَزَوَّج بِلَا
ولي، وَلَا شُهُود، وزمن الْإِحْرَام؟ فِي الْمَسْأَلَة
وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا، الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب جَوَاز
ذَلِك لَهُ، وَخَالف ابْن حَامِد فِي ذَلِك.
وَقَالَ الشَّيْخ موفق الدّين: يُمكن أَن تنبني هَذِه
الْمَسْأَلَة على أَن مَا ثَبت فِي حَقهم شاركهم النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك الحكم،
وَلذَلِك لما أَمرهم بِفَسْخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، ثمَّ لم
يفعل سَأَلُوهُ عَن تَركه الْفَسْخ فَبين لَهُم عذره. انْتهى.
قَوْله: {وَيَأْتِي آخل الْبَيَان: هَل يجب اعْتِقَاد
الْعُمُوم وَغَيره قبل الْبَحْث} عَنهُ، أم لَا؟
فَإِن جمَاعَة يذكرُونَ الْمَسْأَلَة هُنَا، وَجَمَاعَة
يذكرونها هُنَاكَ، مِنْهُم: ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "
وَنحن تابعناه على ذَلِك فنذكرها هُنَاكَ إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
(5/2499)
(قَوْله: {فصل} )
{مثل {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} [التَّوْبَة: 103] يَقْتَضِي
أَخذ الصَّدَقَة من كل نوع من المَال فِي ظَاهر كَلَام أبي
الْفرج} الشِّيرَازِيّ، {وَقَالَهُ ابْن حمدَان} فِي " الْمقنع
"، وَأكْثر الْعلمَاء من أَصْحَاب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة
وَغَيرهم، إِلَّا أَن يخص بِدَلِيل من السّنة، وَهُوَ مَا نَص
عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ".
{وَخَالف الْكَرْخِي وَابْن الْحَاجِب} ، فَقَالَا: يَكْفِي
الْأَخْذ من نوع وَاحِد.
(5/2500)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَنقل عَن الْكَرْخِي
من الْحَنَفِيَّة أَن مُقْتَضى الْآيَة إِنَّمَا هُوَ أَخذ
صَدَقَة وَاحِدَة من نوع وَاحِد، وَرجحه ابْن الْحَاجِب حَيْثُ
قَالَ: خلافًا للأكثرين، ثمَّ قَالَ: لنا أَنه بِصَدقَة
وَاحِدَة يصدق أَنَّهَا أَخذ مِنْهَا صَدَقَة فَيلْزم
الِامْتِثَال، وَأَيْضًا فَإِن كل دِينَار مَال وَلَا يجب
ذَلِك بِإِجْمَاع. انْتهى.
أُجِيب عَن الأول بِمَنْع صدق ذَلِك؛ لِأَن أَمْوَالهم جمع
مُضَاف فَكَانَ عَاما فِي كل نوع نوع، وفرد فَرد إِلَّا مَا
خرج بِالسنةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي.
وَعَن الثَّانِي: بِأَن المُرَاد عَن كل نِصَاب نِصَاب كَمَا
بَينته السّنة.
وَمِمَّا ذكر احتجاجا للكرخي أَن (من) فِي الْآيَة
للتَّبْعِيض، وَلَو كَانَت الْآيَة عَامَّة، والتبعيض يصدق
بِبَعْض الْمَجْمُوع، وَلَو من نوع وَاحِد.
وَجَوَابه: أَن التَّبْعِيض فِي الْعَام إِنَّمَا يكون
بِاعْتِبَار تبعيض كل جزئي جزئي مِنْهُ فَلَا بُد أَن يكون
مأخوذا من كل نِصَاب، إِذْ لَو أسقطت (مِن) لَكَانَ المَال
يُؤْخَذ كُله صَدَقَة.
وَأما الْآمِدِيّ فتوقف فِي الْمَسْأَلَة، فَلم يرجح شَيْئا؛
إِذْ قَالَ فِي آخر كَلَامه: وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ
مُحْتَملَة، ومأخذ الْكَرْخِي دَقِيق، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
(5/2501)
قلت: بل ميل الْآمِدِيّ إِلَى مُوَافقَة
الْكَرْخِي لقَوْله: مأخذه دَقِيق؛ وَلأَجل ذَلِك - وَالله
أعلم - اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَنَصره.
قَوْله: {وَإِذا تضمن الْعَام مدحا أَو ذما كالأبرار، والفجار}
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (13)
وَإِن الْفجار لفي جحيم} [الانفطار: 13، 14] ، وَمِنْه قَوْله
تَعَالَى: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله} [التَّوْبَة: 34] ، وَقَوله
تَعَالَى: {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون} [الْمُؤْمِنُونَ: 5]
{لم يمْنَع عُمُومه} ، أَي: لم يُغير عُمُومه {عِنْد}
الْأَئِمَّة {الْأَرْبَعَة} .
قَالَ الْأُسْتَاذ: هُوَ ظَاهر الْمَذْهَب، وَقَالَ أَبُو
حَامِد، وسليم، وَابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ، هُوَ
الْمَذْهَب وَهُوَ الثَّابِت عَن الشَّافِعِي،
(5/2502)
وَهُوَ الصَّحِيح؛ إِذْ لَا تنَافِي بَين
قصد الْعُمُوم وَبَين الْمَدْح، أَو الذَّم فَيحمل الذَّهَب
وَالْفِضَّة وَغَيرهمَا على الْعُمُوم؛ إِذْ لَا صَارف لَهُ
عَنهُ.
{وَقيل: بلَى} ، أَي: تمنع الْعُمُوم، وَنَقله أَبُو
الْمَعَالِي وَغَيره عَن الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ ألكيا،
والقفال، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَقَالَهُ بعض الْحَنَفِيَّة
كالكرخي وَغَيره، وَبَعض الْمَالِكِيَّة.
وَلذَلِك منع الشَّافِعِي التَّمَسُّك بِآيَة الزَّكَاة
السَّابِقَة فِي وجوب زَكَاة الْحلِيّ الْمُبَاح.
(5/2503)
وَالْآيَة {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب}
قَالُوا: الْقَصْد الْمُبَالغَة فِي الْحَث والزجر فَلم يعم.
رد: الْعُمُوم أبلغ من ذَلِك، وَلَا مُنَافَاة فَعم للمقتضي،
وَانْتِفَاء الْمَانِع.
{وَقيل: يمْنَع إِن عَارضه عَام آخر، وَإِلَّا فَلَا} يمْنَع
فَيكون بَاقِيا على عُمُومه إِذا لم يُعَارضهُ عَام آخر لم يسق
لمدح وَلَا ذمّ، فَإِن عَارضه ذَلِك عمل بالمعارض الْخَالِي
عَن الْمَدْح والذم.
وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة عين القَوْل بِالْعُمُومِ؛ لِأَن
غَايَة الْمُعَارضَة قرينَة تقدم غَيره عَلَيْهِ فِي صُورَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَا القَوْل أَصَحهَا، وَهُوَ
الثَّابِت عَن الشَّافِعِي الصَّحِيح من مذْهبه.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: الثَّالِث أَنه للْعُمُوم إِلَّا إِن
عَارضه عَام آخر لم يقْصد بِهِ الْمَدْح أَو الذَّم فيترجح
الَّذِي لم يسق لذَلِك عَلَيْهِ، نَحْو قَوْله تَعَالَى:
(5/2504)
{وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ}
[النِّسَاء: 23] ، مَعَ قَوْله: {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم}
[النِّسَاء: 3] فَالْأولى سيقت؛ لبَيَان الحكم فَقدمت على مَا
سياقها الْمِنَّة بِإِبَاحَة الْوَطْء بِملك الْيَمين.
وَقد رد أَصْحَابنَا بِهَذَا على دَاوُد الظَّاهِرِيّ احتجاجه
بِالثَّانِيَةِ على إِبَاحَة الْأُخْتَيْنِ بِملك الْيَمين.
انْتهى.
(5/2505)
|