التحبير شرح التحرير في أصول الفقه

 (بَاب التَّخْصِيص)

(6/2507)


فارغة

(6/2508)


(قَوْله: {بَاب التَّخْصِيص} )

لما انْتهى الْكَلَام فِي الْعُمُوم وصيغه شرعنا فِي مُقَابِله، وَهُوَ الْخُصُوص.
فالخاص فِي الِابْتِدَاء أمره ظَاهر، وَإِنَّمَا النّظر فِيمَا إِذا كَانَ عَاما ثمَّ صَار خَاصّا بِدَلِيل، فَهَذَا تتَوَقَّف مَعْرفَته على بَيَان التَّخْصِيص والمخصص - بِالْفَتْح - والمخصص - بِالْكَسْرِ -.
فَأَما التَّخْصِيص فرسمه: {قصر الْعَام على بعض أَجْزَائِهِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّه مُرَاد من قَالَ على بعض مسمياته، فَإِن مُسَمّى الْعَام جَمِيع مَا يصلح لَهُ اللَّفْظ، لَا بعضه.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: هُوَ قصر الْعَام على بعض مسمياته.
وَوَافَقَهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره.

(6/2509)


وَقَالَ الْبرمَاوِيّ تبعا ل " جمع الْجَوَامِع ": (هُوَ قصر الْعَام على بعض أَفْرَاده، فَخرج تَقْيِيد الْمُطلق؛ لِأَنَّهُ قصر مُطلق لَا عَام، كرقبة مُؤمنَة، وَكَذَا الْإِخْرَاج من الْعدَد كعشرة إِلَّا ثَلَاثَة، وَنَحْو ذَلِك، وَدخل مَا عُمُومه بِاللَّفْظِ ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} قصر بِالدَّلِيلِ على غير الذِّمِّيّ وَغَيره مِمَّن عصم بِأَمَان، وَمَا عُمُومه بِالْمَعْنَى كقصر عِلّة الرِّبَا فِي بيع الرطب بِالتَّمْرِ - مثلا - بِأَنَّهُ ينقص إِذا جف على غير الْعَرَايَا.
وَالَّذِي يظْهر أَن الْحَد الَّذِي قدمْنَاهُ مُوَافق لما قَالَه فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره، وَمَا قَالَه ابْن الْحَاجِب وَغَيره، هُوَ كَمَا قَالَه ابْن مُفْلِح فَيكون معنى هَذِه الْحُدُود وَاحِدًا.
لَكِن قَالَ الكوراني: وَإِنَّمَا عدل المُصَنّف عَن حد ابْن الْحَاجِب على مَا فِي بعض الشُّرُوح؛ لِأَن مُسَمّى الْعَام وَاحِد، وَهُوَ كل الْأَفْرَاد، قَالَ: وَهَذَا وهم مِنْهُ؛ لِأَن المُرَاد بالمسميات هِيَ الْآحَاد الَّتِي اشتركت فِي أَمر، كالرجال - مثلا - فَإِنَّهَا مُشْتَركَة فِي معنى الرجل، فَهِيَ مسميات ذَلِك الْأَمر الْمُشْتَرك فِيهِ لَا مسميات الْعَام؛ وَلذَلِك يصدق على كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد أَنه ذَلِك الْأَمر الْمُشْتَرك مَعَ توجه الِاعْتِرَاض على عبارَة المُصَنّف من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْمُتَبَادر من الْأَفْرَاد هِيَ الجزئيات، كزيد، وَعَمْرو، وَبكر؛ فَإِنَّهَا أَفْرَاد الْإِنْسَان، أَي: جزئياته فَيصدق على كل وَاحِد أَنه إِنْسَان بِخِلَاف

(6/2510)


الْعَام فَإِنَّهُ لَا يصدق على تِلْكَ الْأَفْرَاد.
الثَّانِي: أَن أَفْرَاد الْجمع الْمُسْتَغْرق هِيَ الجموع، لَا الوحدان؛ فَيلْزم أَن يكونه معنى الْعُمُوم فِي الرِّجَال يتَنَاوَلهُ جَمِيع الجموع، لَا الوحدان، وَالْمُصَنّف لم يقل بِهِ، وَإِن صَار إِلَى التَّأْوِيل فَإِن المُرَاد هِيَ آحَاد بِاعْتِبَار أَمر اشتركت فِيهِ على مَا ذَكرْنَاهُ فِي تَوْجِيه كَلَام الشَّيْخ فَلَا وَجه للعدول عَنهُ.
تَنْبِيه: المُرَاد من قصر الْعَام قصر حكمه، وَإِن كَانَ لفظ الْعَام بَاقِيا على عُمُومه، لَكِن لفظا لَا حكما فبذلك يخرج إِطْلَاق الْعَام وَإِرَادَة الْخَاص، فَإِن ذَلِك قصر دلَالَة لفظ الْعَام لَا قصر حكمه.
وَقد أورد على تَعْرِيف التَّخْصِيص أَنه إِنَّمَا يكون تَخْصِيصًا بِدَلِيل، فَلم لَا، قيل: قصر الْعَام بدليله؟
وَجَوَابه: أَن الْكَلَام فِي التَّخْصِيص الشَّرْعِيّ فالتقدير قصر الشَّارِع الْعَام على بعض أَفْرَاده فأضيف الْمصدر إِلَى مَفْعُوله وَحذف الْفَاعِل للْعلم بِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ المعتزلي: هُوَ {إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب} عَن الْخطاب، لشُمُوله - بِتَقْدِير وجود الْمُخَصّص - جَمِيع الْأَفْرَاد فِي نَفسه، والمخصص أخرج بَعْضهَا عَنهُ.

(6/2511)


وَقيل: أَرَادَ مَا يتَنَاوَلهُ بِتَقْدِير عدم الْمُخَصّص، نَحْو قَوْلهم، خص الْعَام فَيرد - إِذا - دور لَا جَوَاب عَنهُ.
وَعند الْآمِدِيّ: تَعْرِيف أَن الْعُمُوم للخصوص، فَيرد الدّور؛ لِأَنَّهُمَا لِمَعْنى وَاحِد.
أُجِيب: المُرَاد فِي الْحَد التَّخْصِيص لُغَة أَخذ فِي حَده اصْطِلَاحا، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَيُطلق على قصر لفظ غير عَام على بعض مُسَمَّاهُ كَمَا يُطلق عَام على غير لفظ عَام} ، كعشرة وَالْمُسْلِمين للْعهد.
زَاد بَعضهم وضمائر الْجمع؛ لِأَنَّهَا لَا تدل بِنَفسِهَا.
وَلَيْسَ كَذَلِك كَمَا سبق؛ لِأَنَّهَا تَابِعَة للمظهر.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَيُطلق التَّخْصِيص على قصر اللَّفْظ على بعض مُسَمَّاهُ، وَإِن لم يكن عَاما بالاصطلاح، كإطلاق الْعشْرَة على بعض آحادها، وَكَذَلِكَ يُطلق على اللَّفْظ عَام وَإِن لم يكن عَاما؛ لتعدده كعشرة

(6/2512)


وَالْمُسْلِمين المعهودين، لَا الْمُسلمين مُطلقًا، وَإِلَّا كَانَ عَاما اصْطِلَاحا. انْتهى.
قَالَ الْعَضُد: كَمَا يُطلق الْعَام على بعض مسمياته فقد يُطلق على قصر اللَّفْظ على بعض مسمياته وَإِن لم يكن عَاما، وَذَلِكَ كَمَا يُطلق على اللَّفْظ كَونه عَاما؛ لتَعَدد مسمياته كعشرة، يُقَال لَهُ عَام بِاعْتِبَار آحاده، فَإِذا قصر على خَمْسَة بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ قيل: قد خصص، وَكَذَلِكَ الْمُسلمُونَ للمعهودين، نَحْو: جَاءَنِي مُسلمُونَ، وأكرمت الْمُسلمين إِلَّا زيدا؛ فَإِنَّهُم يسمون الْمُسلمُونَ عَاما، وَالِاسْتِثْنَاء مِنْهُ تَخْصِيصًا. انْتهى.
قَوْله: {وَأَجَازَهُ الْأَرْبَعَة والمعظم مُطلقًا، وَلَو لمؤكد فِي الْأَصَح، وَمنع قوم فِي الْخَبَر، وَقوم فِي الْأَمر} .
أجَاز الْجُمْهُور التَّخْصِيص مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ أمرا أَو نهيا أَو خَبرا.

(6/2513)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد تعرض ابْن الْحَاجِب، وَغَيره إِلَى حِكَايَة الْخلاف فِي جَوَاز تَخْصِيص الْعَام فَقَالَ: التَّخْصِيص جَائِز إِلَّا عِنْد شذوذ، وَأَرَادَ بذلك أَن الْعَام، سَوَاء كَانَ أمرا، أَو خَبرا، أَو نهيا يجوز أَن يطرقه التَّخْصِيص. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: التَّخْصِيص جَائِز عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ فِي الْخَبَر، وَعَن بَعضهم: وَفِي الْأَمر. انْتهى.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح -: بِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي الْكتاب، وَالسّنة.
قَالُوا: يُوهم فِي الْخَبَر الْكَذِب، وَفِي الْأَمر البداء.
رد: بِالْمَنْعِ.
قَالُوا: كنسخ الْخَبَر.

(6/2514)


فَأجَاب أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، والآمدي بِالْمَنْعِ، ثمَّ التَّخْصِيص يبين المُرَاد بِاللَّفْظِ، والنسخ رفع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن مُقْتَضى إِيرَاد جمَاعَة، مِنْهُم: الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وسليم، وَابْن الصّباغ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو الْحُسَيْن، والآمدي: أَن الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي تَخْصِيص الْعَام إِذا كَانَ خَبرا لَا أمرا، أَو نهيا فَإِنَّهُ جَائِز بِلَا خلاف.
وَيرد ذَلِك كُله وُرُود مَا هُوَ مَخْصُوص قطعا، نَحْو: {الله خلق كل شَيْء} [الزمر: 62] ، {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} [الْأَحْقَاف: 25] ، {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء} [الْقَصَص: 57] ، {وَأُوتِيت من كل شَيْء} [النَّمْل: 23] ، {وَآتَيْنَاهُ من كل شَيْء سَببا} [الْكَهْف: 84] .
وَفِي الْأَمر: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، وَفِي النَّهْي: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] مَعَ أَن بعض القربان غير مَنْهِيّ عَنهُ قطعا.

(6/2515)


بل قَالُوا: لَا عَام إِلَّا وطرقه التَّخْصِيص إِلَّا مَوَاضِع يسيرَة.
قَوْله: وَلَو لمؤكد فِي الْأَصَح، أَي: لعام مُؤَكد، فالعام إِذا أكد لَا يمْنَع تَخْصِيصه على أصح قولي الْعلمَاء، حَكَاهُمَا جمع من الْعلمَاء وصححوا الْجَوَاز، وَنقل القَوْل بِالْمَنْعِ من ذَلِك أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن بَعضهم، وَجزم بِهِ الْمَازرِيّ، مستندين إِلَى التَّأْكِيد لنفي الْمجَاز، وَلِهَذَا وَقع الْجَواب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ هَل لنا من الْأَمر من شَيْء قل إِن الْأَمر كُله لله} [آل عمرَان: 154] على قِرَاءَة نصب (كُله) ؛ لِأَنَّهُ لَو لم يكن معينا للْعُمُوم لما وَقع جَوَابا لمن قَالَ: {هَل لنا من الْأَمر من شَيْء} ، وَلَكِن الْأَصَح أَنه يخصص بِدَلِيل {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيس} [الْحجر: 30، 31] إِذا قدر مُتَّصِلا.

(6/2516)


وَفِي الحَدِيث: " فأحرموا كلهم إِلَّا أَبَا قَتَادَة ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِي " الْبُرْهَان " لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن الْجَوَاز قَضِيَّة كَلَام الْأَشْعَرِيّ، وَصرح بِهِ الْقفال الشَّاشِي، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، بل ظَاهر كَلَام الْهِنْدِيّ فِي بَاب النّسخ أَنه إِجْمَاع. انْتهى.
قَوْله: {وَلَا تَخْصِيص إِلَّا فِيمَا لَهُ شُمُول حسا أَو حكما} .
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: لَا تَخْصِيص إِلَّا فِيمَا يَصح توكيده بِكُل، وَهُوَ مَا لَهُ شُمُول حسا، نَحْو: جَاءَنِي الْقَوْم، أَو حكما نَحْو: اشْتريت العَبْد.

(6/2517)


قَالَ الْعَسْقَلَانِي: لَا يَسْتَقِيم التَّخْصِيص إِلَّا بِمَا فِيهِ معنى الشُّمُول، وَيصِح توكيده بِكُل ليَكُون ذَا أَجزَاء يَصح اقترانها إِمَّا حسا ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} ، أَو حكما كاشتريت الْجَارِيَة كلهَا لِإِمْكَان افْتِرَاق أَجْزَائِهَا. انْتهى.
قَالَ ابْن عقيل: التَّخْصِيص والنسخ فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا يتَنَاوَل أفعالنا الْوَاقِعَة فِي الْأَزْمَان، والأعيان فَقَط، وَالْفُقَهَاء والمتكلمون أَكْثرُوا القَوْل بِأَن النّسخ يتَنَاوَل الْأَزْمَان فَقَط، والتخصيص يتَنَاوَل الْجَمِيع، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلهُ المحصلون تجوزا. انْتهى.

(6/2518)


(قَوْله: {فصل} )

{أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم يجوز تَخْصِيصه إِلَى أَن يبْقى وَاحِد.
وَمنع الْمجد وَغَيره} من أَصْحَابنَا، {وَأَبُو بكر الرَّازِيّ من أقل الْجمع.
والقفال وَغَيره إِن كَانَ لَفظه جمعا.
وَالْقَاضِي وَولد الْمجد، وَجمع لَا بُد أَن تبقى كَثْرَة وَإِن لم تقدر.
وَالْمجد، وَابْن حمدَان، وَطَائِفَة كثرت تقرب من مَدْلُول اللَّفْظ.
وَجوزهُ ابْن الْحَاجِب باستثناء وَبدل إِلَى وَاحِد، وبمتصل

(6/2519)


كصفة، ومنفصل فِي مَحْصُور قَلِيل إِلَى اثْنَيْنِ، وَغير المحصور، وَالْعدَد الْكثير، كالمجد} .
الْمَذْهَب الأول هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد، وَأَصْحَابه.
قَالَ ابْن مُفْلِح: يجوز تَخْصِيص الْعَام إِلَى أَن يبْقى وَاحِد عِنْد أَصْحَابنَا.
قَالَ الْحلْوانِي: هُوَ قَول الْجَمَاعَة. وَكَذَا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَالَ ابْن برهَان: هُوَ الْمَذْهَب الْمَنْصُور.
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: هُوَ قَول مَالك وَالْجُمْهُور.
وَحكى الْجُوَيْنِيّ إِجْمَاع أهل السّنة على ذَلِك فِي (من) و (مَا)

(6/2520)


وَنَحْوهمَا، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص " وَغَيره عَن مُعظم أَصْحَاب الشَّافِعِي، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ.
وَنَقله أَيْضا عَن معظمهم ابْن الصّباغ، وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ عَن سَائِر أَصْحَاب الشَّافِعِي خلا الْقفال.
وَحَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَن إِجْمَاع أَئِمَّتنَا، وَصَححهُ القَاضِي أَبُو الطّيب.
وَمنع الْمجد، وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ، والقفال، وَالْغَزالِيّ النَّقْص من أقل الْجمع، قَالَه ابْن مُفْلِح.

(6/2521)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيهِ مَذَاهِب:
أَحدهَا - وَهُوَ الْمُخْتَار، ورأي الْقفال -: أَنه يجوز التَّخْصِيص إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى أقل الْمَرَاتِب الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا ذَلِك الْعَام الَّذِي يخص، فَإِن لم يكن جمعا، وَلَا فِي معنى الْجمع كمن، وَمَا، وَأَيْنَ، وَنَحْو ذَلِك، فَإلَى أَن يبْقى وَاحِد، وَإِن كَانَ جمعا، كالرجال أَو مَا فِي مَعْنَاهُ كالنساء وَالْقَوْم، والرهط، وَنَحْو ذَلِك، فَإلَى أَن يبْقى أقل مَا ينطبق عَلَيْهِ الْجمع، أَو مَا فِي مَعْنَاهُ.
وعَلى هَذَا فيفصل فِي الْجمع فَإِن كَانَ جمع قلَّة فَإلَى ثَلَاثَة، وَإِن كَانَ جمع كَثْرَة، أَو مَا فِي معنى الْجمع فَإلَى أحد عشر.
لَكِن هَذَا التَّفْصِيل مُفَرع على أَن الْجمع الْعَام آحاده جموع لَا وحدان، فَأَما إِن قُلْنَا الْآحَاد وحدان فَهُوَ حِينَئِذٍ كمن، وَمَا، وَنَحْوهمَا. انْتهى.
لَكِن القَوْل الثَّانِي غير قَول الْقفال، فَإِن القَوْل الثَّانِي الْمَنْع من أقل الْجمع مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ لفظا أَو معنى، أَو لَا كَمَا تقدم تمثيله، وَهُوَ مَذْهَب حَكَاهُ الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: الْمَذْهَب الرَّابِع: أَنه لَا بُد من بَقَاء أقل الْجمع مُطلقًا، وَلَو لم تكن صِيغَة الْعُمُوم جمعا، حَكَاهُ ابْن برهَان، وَغَيره. انْتهى.

(6/2522)


فَنقل ابْن مُفْلِح فِيهِ نظر؛ فَإِن مَذْهَب الْمجد، وَجمع كَمَا ذكر، وَهَذَا الْمَذْهَب غَيره، وَلذَلِك أفردناه فِي الْمَتْن عَن هَذَا القَوْل فَقُلْنَا بعد حِكَايَة القَوْل الثَّانِي: والقفال وَغَيره إِن كَانَ لَفظه جمعا، فمذهب الْقفال وَالْجمع الَّذِي مَعَه أخص من الْمَذْهَب الَّذِي قبله، فَليعلم ذَلِك.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْكِفَايَة "، وَولد الْمجد الشَّيْخ عبد الْحَلِيم وَالِد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَجمع: لَا بُد أَن تبقى كَثْرَة وَإِن لم تقدر.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمَذْهَب الثَّالِث: مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْن، وَرُبمَا نقل عَن الْمُعْتَزلَة من غير تعْيين وَإِلَيْهِ ميل إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، وَنَقله بعض الْمُتَأَخِّرين عَن أَكثر أَصْحَابنَا، وَأَنه لَا بُد مِمَّن بَقَاء جمع كثير.
قيل: إِلَّا أَن يسْتَعْمل ذَلِك الْعَام فِي الْوَاحِد تَعْظِيمًا، نَحْو: {فقدرنا فَنعم القادرون} [المرسلات: 23] ، وَلَكِن لَا حَاجَة إِلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاء؛ لِأَن هَذَا من إِطْلَاق الْعَام وَإِرَادَة الْخَاص، وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ.

(6/2523)


وَهَذَا الْمَذْهَب نَقله أَيْضا الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عَن الْأَكْثَرين، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه، لَكِن اخْتلفُوا فِي ذَلِك الْجمع الْكثير، فَقَالَ الْمجد بن تَيْمِية، وَابْن حمدَان، وَطَائِفَة: كَثْرَة تقرب من مَدْلُول اللَّفْظ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: فَقَالَ ابْن الْحَاجِب: الَّذِي يقرب من مَدْلُوله قبل التَّخْصِيص، قَالَ: وَمُقْتَضى هَذَا أَن يكون أَكثر من النّصْف.
وَفسّر جمع - كالبيضاوي - بِأَن يبْقى غير مَحْصُور.
قلت: وَقَرِيب مِنْهُ مَا قَالَه القَاضِي، وَولد الْمجد، لَا بُد أَن تبقى كَثْرَة وَإِن لم تقدر بِحَال.

(6/2524)


وَالتَّفْسِير متقاربان؛ إِذْ المُرَاد بِكَوْنِهِ يقرب من مَدْلُول الْعَام أَن يكون غير مَحْصُور فَإِن الْعَام هُوَ الْمُسْتَغْرق لما يصلح لَهُ من غير حصر فَهُوَ معنى أَن يبْقى غير مَحْصُور.
قَوْله: {وَجوزهُ ابْن الْحَاجِب} ، هَذَا تَفْصِيل لِابْنِ الْحَاجِب وَقَالَ: إِنَّه الْمُخْتَار، وَهُوَ أَنه جوزه {باستثناء وَبدل إِلَى وَاحِد، وبمتصل كصفة ومنفصل فِي مَحْصُور قَلِيل إِلَى اثْنَيْنِ} ، مثل: قتلت كل زنديق، وَقد قتل اثْنَيْنِ والزنادقة كَانُوا ثَلَاثَة.
{وَغير المحصور وَالْعدَد الْكثير ك} - يَقُول {الْمجد} ، وَهُوَ أَن تبقى بعد التَّخْصِيص كَثِيرَة تقرب من مَدْلُول الْعَام، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي وَغَيره: وَلَا يعرف هَذَا التَّفْصِيل لغيره.
وَلَهُم قَول آخر بالتفصيل بَين أَن يكون التَّخْصِيص بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالْبدل فَيجوز إِلَى وَاحِد، وَبَين أَن لَا يكون بهما فَلَا يجوز إِلَى وَاحِد، حَكَاهُ ابْن المطهر.

(6/2525)


اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول - وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب -: لَو امْتنع ذَلِك لَكَانَ الِامْتِنَاع، إِمَّا لِأَنَّهُ مجَاز، أَو لاستعماله فِي غير مَوْضُوعه فَيمْتَنع تَخْصِيصه مُطلقًا.
وَاعْترض على ذَلِك بِأَن الْمَنْع لعدم اسْتِعْمَاله فِيهِ لُغَة.
وَجَوَابه بِالْمَنْعِ، ثمَّ لَا فرق.
وَأَيْضًا: أكْرم النَّاس إِلَّا الْجُهَّال.
وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خص بِالِاسْتِثْنَاءِ.
وَجَوَابه: الْمَعْرُوف التَّسْوِيَة، ثمَّ لَا فرق.
اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} [آل عمرَان: 173] وَأُرِيد نعيم بن مَسْعُود.
رد: لَيْسَ بعام؛ لِأَنَّهُ لمعهود.
وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الْحجر: 9] .
أُجِيب: أطلق الْجمع عَلَيْهِ؛ للتعظيم وَمحل النزاع فِي الْإِخْرَاج مِنْهُ.
وَاسْتدلَّ بِجَوَاز قَوْله: (أكلت الْخبز وشربت المَاء لأَقل) .
رد: المُرَاد بعض مُطَابق لمعهود ذهني.
الْقَائِل بِأَقَلّ الْجمع مَا سبق.

(6/2526)


رد: لَيْسَ الْجمع بعام ليطلق الْعَام على مَا يُطلق عَلَيْهِ.
الْقَائِل بِالْكَثْرَةِ لَو قَالَ: قتلت كل من كَانَ فِي الْبَلَد، أَو أكلت كل رمانة، أَو من دخل فَأكْرمه، وَفَسرهُ بِثَلَاثَة عد قبيحا لُغَة.
أجَاب الْآمِدِيّ بِالْمَنْعِ مَعَ قرينَة بِدَلِيل مَا سبق من إِرَادَة نعيم بن مَسْعُود من (النَّاس) وَصِحَّة (أكلت الْخبز) .
وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": يلْزم الِاسْتِثْنَاء فِيهِ لُغَة، وَيجوز عِنْد الْخصم، وَبِأَنَّهُ قد يَقُول ذَلِك وَإِن أكل قَلِيلا كَقَوْل مَرِيض: أكلت اللَّحْم، يُرِيد قَلِيلا.
وَفِي هَذَا الْموضع يَقُول الْخصم: المُرَاد أكل الْجِنْس فَلَا يلْزمه.
قَوْله: {والمخصص الْمخْرج وَهُوَ إِرَادَة الْمُتَكَلّم وَيُطلق على الدَّلِيل مجَازًا وَهُوَ المُرَاد هُنَا} وَقَالَ ذَلِك أَكثر الْعلمَاء.
لما فرغ من بَيَان التَّخْصِيص شرعنا فِي الْمُخَصّص - بِكَسْر الصَّاد - وَهُوَ حَقِيقَة فَاعل التَّخْصِيص الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاج، 5 ثمَّ أطلق على إِرَادَة الْإِخْرَاج؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يخصص بالإرادة فَأطلق على نفس الْإِرَادَة مُخَصّصا، حَتَّى

(6/2527)


قَالَ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: إِن حَقِيقَة التَّخْصِيص هُوَ الْإِرَادَة ثمَّ أطلق الْمُخَصّص على الدَّلِيل الدَّال على الْإِرَادَة.
وَمِنْهُم من يَحْكِي هذَيْن قَوْلَيْنِ، كَمَا فعل القَاضِي عبد الْوَهَّاب وَابْن برهَان:
أَحدهمَا: أَن الْمُخَصّص إِرَادَة الْمُتَكَلّم إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب.
وَالثَّانِي: الدَّلِيل الدَّال على إدادة ذَلِك.
وَبِالْجُمْلَةِ فالمقصود من التَّرْجَمَة الثَّانِي وَهُوَ الدَّلِيل فَإِنَّهُ الشَّائِع فِي الْأُصُول حَتَّى صَار حَقِيقَة عرفية، وَرُبمَا أطلق الْمُخَصّص على الْمظهر لإِرَادَة مُرِيد التَّخْصِيص من مُجْتَهد وَغَيره.
إِذا علم ذَلِك فالمخصص قِسْمَانِ:
مُتَّصِل: وَهُوَ مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ، بل مُرْتَبِط بِكَلَام آخر.
ومنفصل: وَهُوَ مَا يسْتَقلّ.
فَلذَلِك قُلْنَا: {وَهُوَ مُتَّصِل، ومنفصل، وَخَصه بعض أَصْحَابنَا

(6/2528)


وَغَيرهم بالمنفصل، وَقَالَ: لَا يدْخل فِي التَّخْصِيص الْمُطلق} .
أَكثر أهل الْعلم، على أَن الْمُخَصّص قِسْمَانِ: مُتَّصِل، ومنفصل وَقَطعُوا بذلك.
وَخَصه بعض أَصْحَابنَا بالمنفصل، وَقَالَ: هُوَ اصْطِلَاح كثير من الْأُصُولِيِّينَ؛ لِأَن الِاتِّصَال مَنعه الْعُمُوم فَلم يدل إِلَّا مُتَّصِلا فَلَا يُسمى عَاما مَخْصُوصًا.
وَقَالَ أَيْضا: لَا يدْخل فِي التَّخْصِيص الْمُطلق.
وَفِي " التَّمْهِيد ": الْعُمُوم بِدُونِ ذَلِك لَيْسَ حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، بل الْمَجْمُوع الْحَقِيقَة؛ لِأَن الْمُتَكَلّم أَرَادَ الْبَعْض بالمجموع، وَاحْتج بِهَذَا على أَنه لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس، وَفِي " الرَّوْضَة " فِي كَلَامه على الشَّرْط معنى ذَلِك.
قَوْله: {فالمتصل: اسْتثِْنَاء مُتَّصِل [وَشرط] ، وَصفَة، وَغَايَة،

(6/2529)


وَزَاد الْآمِدِيّ وَمن تبعه} - كَابْن الْحَاجِب - {بدل الْبَعْض} .
أما الْأَرْبَعَة الأول فَلَا خلاف فِي أَنَّهَا من المخصصات، وَأما بدل الْبَعْض فَذكره الْآمِدِيّ وَمن تبعه من المخصصات.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " وَغَيره: وَقد زَاد المُصَنّف بدل الْبَعْض عَن الْكل؛ لِأَنَّهُ إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ اللَّفْظ.
قَالَ: وَفِيه نظر، فَإِن الْمُبدل فِي حكم المطرح وَالْبدل قد أقيم مقَامه فَلَا يكون مُخَصّصا لَهُ، وَخص المُصَنّف بدل الْبَعْض بِكَوْنِهِ مُخَصّصا دون الأبدال الْبَاقِيَة لكَونهَا غير متناهية. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: من المخصصات الْمُتَّصِلَة بدل الْبَعْض من الْكل، مثل: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمرَان: 97] ، {قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا (2) نصفه} [المزمل: 2، 3] ، {ثمَّ عموا وصموا كثير مِنْهُم} [الْمَائِدَة: 71] ، عده ابْن الْحَاجِب من الْمُخَصّص، وَأنْكرهُ الصفي

(6/2530)


الْهِنْدِيّ فِي " الرسَالَة السيفية "، قَالَ: لِأَن الْمُبدل مِنْهُ كالمطرح فَلم يتَحَقَّق فِيهِ معنى الْإِخْرَاج والتخصيص لَا بُد فِيهِ من الْإِخْرَاج، فَلذَلِك قدرُوا فِي آيَة الْحَج: وَللَّه الْحَج على المستطيع.
وَكَذَا انْظُر الْأَصْفَهَانِي كَمَا تقدم، وَمن ثمَّ لم يذكرهُ الْأَكْثَر - مِنْهُم: السُّبْكِيّ -، وعللوه بِمَا تقدم.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيمَا قَالُوهُ نظر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن أَبَا حَيَّان نقل التَّخْصِيص بِالْبَدَلِ عَن الشَّافِعِي؛ إِذْ قَالَ فِي قصيدته الَّتِي مدح فِيهَا الشَّافِعِي:
إِنَّه هُوَ الَّذِي استنبط الْفَنّ الأصولي، وَإنَّهُ الَّذِي يَقُول بتخصيص الْعُمُوم بالبدلين.
وَمرَاده بدل الْبَعْض، وَبدل الاشتمال، فاستفدنا مِنْهُ أَن بدل الاشتمال فِي معنى بدل الْبَعْض فِي التَّخْصِيص عِنْد من يَقُول بِهِ، وَمَعْنَاهُ ظَاهر؛ لِأَن قَوْلك: أعجبني زيد علمه، يكون الأول معبرا بِهِ عَن مَجْمُوع

(6/2531)


ذَاته وَعلمه وَسَائِر أَوْصَافه، فَإِذا قلت: علمه، تخصص الحكم بِعِلْمِهِ فَقَط، وَفهم بَعضهم من الْبَدَلَيْنِ بدل الْبَعْض، وَبدل الْمُطَابقَة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن مَا قَالُوهُ فِي اطراح الْمُبدل مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيع على أَن الْمُبدل مِنْهُ مطرح، وَهُوَ أحد الْأَقْوَال فِي الْمَسْأَلَة، وَالْأَكْثَر على خِلَافه. انْتهى.
قَوْله: {الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل كَلَام ذُو صِيغ محصورة تدل على أَن الْمَذْكُور فِيهِ لم يرد بالْقَوْل الأول قَالَه القَاضِي وَابْن عقيل وَالْغَزالِيّ} .
لما ذكرنَا أَن المخصصات أَرْبَعَة أَو خَمْسَة - على رَأْي - شرعنا نبين أَحْكَامهَا على التَّرْتِيب، فالاستثناء مَأْخُوذ من الثني وَهُوَ الْعَطف، تَقول: ثنيت الْحَبل أثنيه إِذا عطف بعضه على بعض.

(6/2532)


وَقيل: من ثنيته عَن الشَّيْء إِذا صرفته عَنهُ.
وَهُوَ شَيْئَانِ: اسْتثِْنَاء مُتَّصِل، واستثناء مُنْقَطع، وَالْمرَاد هُنَا الْمُتَّصِل، أما الْمُنْقَطع فَسَيَأْتِي أَن الرَّاجِح أَنه لَا يعد من المخصصات، وَفِي تَعْرِيف كل مِنْهُمَا عِبَارَات، ذكرنَا فِي الْمُتَّصِل عبارتين: مَا قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، وَابْن عقيل، وَالْغَزالِيّ الْمُتَقَدّم ذكره.
فَقَوْلهم: ذُو صِيغ محصورة مُرَادهم أدوات الِاسْتِثْنَاء الثَّمَانِية الْمَشْهُورَة الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ حرف اتِّفَاقًا ك (إِلَّا) ، أَو على الْأَصَح ك (حاشا) فَإِنَّهَا حرف عِنْد سِيبَوَيْهٍ دَائِما، وَيُقَال فِيهَا: حاش وحشا.
وَمِنْهَا مَا هُوَ فعل ك (لَا يكون) ، أَو على الرَّاجِح ك (لَيْسَ) ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَرَدّد بَين الحرفية، والفعلية، فَإِن نصب مَا بعده كَانَ فعلا،

(6/2533)


أَو جَرّه كَانَ حرفا، وَهُوَ (خلا) بِاتِّفَاق، و (عدا) عِنْد غير سِيبَوَيْهٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ اسْم، وَهُوَ (غير) ، و (سوى) .
سَوَاء قُلْنَا: هُوَ ظرف، وَإِنَّمَا اسْتثْنِي بِهِ، أَو قُلْنَا: يتَصَرَّف تصرف الْأَسْمَاء، وَيُقَال فِيهِ: سوا - بِضَم السِّين - وسَوآ - بِفَتْحِهَا وَالْمدّ وبكسرها وَالْمدّ، ذكرهَا الفاسي فِي " شرح الشاطبية ".
إِذا علم ذَلِك رَجعْنَا إِلَى قيود الْحَد:
فَقَوْلهم: (كَلَام) احْتِرَاز من التَّخْصِيص بِغَيْر القَوْل، كَفعل، وقرينة، وَدَلِيل، عقل، وحس.
وَقَوْلهمْ: (ذُو صِيغ محصورة) أورد عَلَيْهِ الْأَقْوَال الْمُوجبَة للتخصيص الْخَارِجَة عَن الِاسْتِثْنَاء، كالشرط، والغاية، وَنَحْو: (فَاقْتُلُوا

(6/2534)


الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] وَلَا تقتلُوا النِّسَاء، فَلَو زادوا بعد (صِيغ محصورة) مَخْصُوصَة لاندفع الْإِيرَاد.
قلت: قد ذكره ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره " عَن الْغَزالِيّ، قَالَ: وَأوردهُ على طرده التَّخْصِيص بِالشّرطِ، وَالْوَصْف بِالَّذِي، والغاية، وَمثل: قَامَ الْقَوْم، وَلم يقم زيد، وَلَا يرد الْأَوَّلَانِ، وعَلى عَكسه جَاءَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِذِي صِيغ. انْتهى.
قَالَ الطوفي: وَهَذَا الْحَد قَول من يزْعم أَن التَّعْرِيف بِالْإِخْرَاجِ تنَاقض؛ لِأَن قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا ينْحل إِلَى (قَامَ زيد، لم يقم زيد وَلَيْسَ بِشَيْء) ؛ لِأَن دُخُول زيد إِنَّمَا هُوَ بِحَسب اللَّفْظ ظَاهرا، لَا بِحَسب الحكم؛ إِذْ لَا يثبت إِلَّا بِتمَام الْكَلَام فَيكون الِاسْتِثْنَاء دافعا لثُبُوت الحكم؛ لِأَن أَفعاله بعد ثُبُوته، وَإِلَّا لزم التَّنَاقُض الْمَحْض فِي قَوْله تَعَالَى: {ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} [العنكبوت: 14] وَهُوَ محَال، وَهَذَا مَحل شُبْهَة أبي بكر من

(6/2535)


أَصْحَابنَا، وَمنعه صِحَة الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق بِنَاء على امْتنَاع ارْتِفَاع الطَّلَاق بعد وُقُوعه.
ثمَّ الْمرجع فِي هَذَا الشَّأْن إِلَى أهل اللُّغَة وَقد عرفوه بِالْإِخْرَاجِ، مِنْهُم ابْن جني، وَغَيره، فَلهَذَا قُلْنَا: وَالأَصَح الْإِخْرَاج بإلا، أَو إِحْدَى أخواتها، وَقد عرفت أخواتها فِيمَا تقدم، وَيَأْتِي تَتِمَّة الْحَد قَرِيبا، وَهَذَا الْحَد قَالَه الطوفي، وَكثير من الْعلمَاء.
قَوْله: {من مُتَكَلم وَاحِد [و] قيل مُطلقًا} .
الصَّحِيح أَن من شَرط صِحَة الِاسْتِثْنَاء كَونه من مُتَكَلم وَاحِد، ليخرج مَا لَو قَالَ الله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِلَّا أهل الذِّمَّة؛ فَإِن ذَلِك اسْتثِْنَاء مُنْفَصِل، لَا مُتَّصِل، وَقدم هَذَا القَوْل فِي " جمع الْجَوَامِع ".

(6/2536)


وَقَالَهُ الباقلاني، والصفي الْهِنْدِيّ، وَغَيرهمَا، وَضعف مُقَابِله؛ وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ: لَو قَالَ: لي عَلَيْك مائَة، فَقَالَ: إِلَّا درهما لم يكن مقرا بِمَا عدا الْمُسْتَثْنى على الْأَصَح.
وَأما استناد من جوزه من متكلمين إِلَى أَن الْمِثَال السَّابِق فِي قَول الله تَعَالَى، وَقَول الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا بدع فِيهِ؛ لِأَن الْكَلَامَيْنِ كالواحد؛ لِأَنَّهُ مبلغ عَن الله تَعَالَى فَذَاك بِخُصُوص الْمِثَال، لَا فِي كل اسْتثِْنَاء من متكلمين.
وَلذَلِك احْتِيجَ فِي قَول الْعَبَّاس بعد قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا يخْتَلى خلاه إِلَّا الْإِذْخر " فَقَالَ: " إِلَّا الْإِذْخر "، إِلَى تَأْوِيله بِأَن الْعَبَّاس أَرَادَ أَن يذكرهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالِاسْتِثْنَاءِ خشيَة أَن يسكت عَنهُ اتكالا على فهم السَّامع ذَلِك بِقَرِينَة، وَفهم مِنْهُ أَنه يُرِيد اسْتثِْنَاء؛ وَلأَجل ذَلِك أعَاد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الِاسْتِثْنَاء فَقَالَ: " إِلَّا الْإِذْخر " وَلم يكْتب باستثناء الْعَبَّاس.
فَكل ذَلِك يرشد إِلَى اعْتِبَار كَونه من مُتَكَلم وَاحِد، وَأطَال الْبرمَاوِيّ فِي ذَلِك.

(6/2537)


تَنْبِيه: أورد على تَعْرِيف الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بِأَن إِلَّا، وَنَحْوه من التَّعْرِيف لكَونه أَدَاة اسْتثِْنَاء فتصور ذَلِك فِيهِ مُتَوَقف على تصور الِاسْتِثْنَاء، فَلَو عَرفْنَاهُ بِهِ كَانَ دورا.
وَجَوَابه: أَنه إِنَّمَا وقف التَّعْرِيف بهَا من حَيْثُ كَونهَا مخرجة لَا من حَيْثُ خُصُوص الِاسْتِثْنَاء، فَإِن الْإِخْرَاج أَعم.
وَيُجَاب بِهَذَا - أَيْضا - عَن السُّؤَال فِي قَوْله: (وَنَحْوهَا) أَنه كَانَ من حَيْثُ الِاسْتِثْنَاء لزم الدّور؛ إِذْ من حَيْثُ الْإِخْرَاج فِي الْجُمْلَة دخل التَّخْصِيص بالمنفصل، وَغير الِاسْتِثْنَاء من الْمُتَّصِل، فَقَالَ الْمخْرج بِالْوَضْعِ إِنَّمَا هُوَ ذَوَات الِاسْتِثْنَاء، فَهُوَ المُرَاد. انْتهى.
قَوْله: {فَهُوَ إِخْرَاج مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله لُغَة، عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين هَذَا قَول أَصْحَابنَا، والأكثرين.
فعلى هَذَا لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء من النكرَة، لَا مَا جَازَ دُخُوله.
يَعْنِي: أَنه لَا يقدر إِخْرَاج مَا لولاه لجَاز دُخُوله، خلافًا لقوم فِي هَذَا القَوْل يَصح الِاسْتِثْنَاء من النكرَة، وَسلمهُ القَاضِي، وَابْن

(6/2538)


عقيل، وَقَالَهُ ابْن مَالك، أَي: قَالَ بِالصِّحَّةِ، إِن وصفت النكرَة، وَإِلَّا فَلَا.
وَالْأول هُوَ الصَّحِيح من الْأَقْوَال، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء، أَعنِي: أَن الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله لُغَة، احْتِرَاز من نَحْو: جَاءَ رجال إِلَّا زيدا؛ لاحْتِمَال أَن لَا يُرِيد الْمُتَكَلّم دُخُوله حَتَّى يُخرجهُ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: أما إِذا أَفَادَ الِاسْتِثْنَاء من النكرَة كاستثناء جُزْء من مركب فَيجوز، نَحْو: اشْتريت عبدا إِلَّا ربعه، أَو دَارا إِلَّا سقفها، فالاستثناء من النكرَة إِذا لم يفد لم يكن مُتَّصِلا، وَلَا يكون مُنْقَطِعًا؛ لِأَن شَرطه لَا يدْخل فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ قطعا.
وَقَالَ ابْن مَالك: إِن وصفت النكرَة صَحَّ الِاسْتِثْنَاء مِنْهَا، وَإِلَّا فَلَا.
قَوْله: {وَالْمرَاد من قَوْله عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة سَبْعَة، و (إِلَّا) قرينَة مخصصة عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} .
اخْتلف فِي تَقْدِير دلَالَة الِاسْتِثْنَاء على مَذَاهِب.

(6/2539)


منشأ الْمذَاهب إِشْكَال فِي معقولية الِاسْتِثْنَاء، فَإنَّك إِذا قلت: قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، فَإِن لم يكن زيد دخل فيهم فَكيف أخرج؟
هَذَا، وَقد اتّفق أهل الْعَرَبيَّة على أَنه إِخْرَاج، وَإِن كَانَ دخل فيناقض أول الْكَلَام آخِره، وَكَذَا نَحْو قَوْله: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما، بل أبلغ؛ لِأَن الْعدَد نَص فِي مَدْلُوله وَالْعَام فِيهِ الْخلاف السَّابِق، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى نفي الِاسْتِثْنَاء من كَلَام الْعَرَب؛ لِأَنَّهُ كذب على هَذَا التَّقْدِير فِي أحد الطَّرفَيْنِ، وَلَكِن قد وَقع فِي الْقُرْآن الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه.
أحد الْمذَاهب الْمَذْكُورَة قبل، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الْأَكْثَر.
نَقله ابْن الْحَاجِب عَنْهُم أَن المُرَاد بِعشْرَة سَبْعَة، وَإِلَّا قرينَة تثبت أَن الْكل اسْتعْمل وَأُرِيد بِهِ الْجُزْء مجَازًا.
وعَلى هَذَا فالاستثناء مُبين لغَرَض الْمُتَكَلّم بِهِ، بالمستثنى مِنْهُ، فَإِذا قَالَ: لَهُ عَليّ عشرَة كَانَ ظَاهرا فِي الْجَمِيع وَيحْتَمل إِرَادَة بَعْضهَا مجَازًا، فَإِذا قَالَ: إِلَّا ثَلَاثَة فقد بَين أَن مُرَاده بِالْعشرَةِ سَبْعَة فَقَط كَمَا فِي سَائِر التخصيصات.

(6/2540)


قَالَ ابْن مُفْلِح: الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج مَا تنَاوله الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، يبين أَنه لم يرد بِهِ كالتخصيص عِنْد القَاضِي وَغَيره.
وَفِي " التَّمْهِيد " - أَيْضا -: مَا لولاه لدخل فِي اللَّفْظ كالتخصيص.
وَمرَاده كَالْأولِ، وَمَعْنَاهُ قَالَه الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره. انْتهى. واستنكر أَبُو الْمَعَالِي هَذَا الْمَذْهَب وَقَالَ: إِنَّه محَال لَا يَعْتَقِدهُ لَبِيب. انْتهى.
وَالْمذهب الثَّانِي - وَبِه قَالَ أَبُو بكر الباقلاني - أَن نَحْو عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة مَدْلُوله سَبْعَة، لَكِن لَهُ لفظان: أَحدهمَا مركب، وَهُوَ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، وَاللَّفْظ الآخر سَبْعَة.
وَقصد بذلك أَن يفرق بَين التَّخْصِيص بِدَلِيل مُتَّصِل فَيكون الْبَاقِي فِيهِ حَقِيقَة، أَو بالمنفصل فَيكون تنَاول اللَّفْظ للْبَاقِي مجَازًا.
وَوَافَقَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ على ذَلِك بِمَنْزِلَة اسْمَيْنِ بِالْوَضْعِ: أَحدهمَا

(6/2541)


مُفْرد، وَالْآخر مركب، وَمَعْنَاهُ فِي " الرَّوْضَة " فِي كَلَامه فِي الشَّرْط.
وَحكي عَن الشَّافِعِي: إِخْرَاج لشَيْء دلّ عَلَيْهِ صدر الْجُمْلَة بالمعارضة فَمَعْنَى عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة فَإِنَّهَا لَيست عَليّ.
وَالْمذهب الثَّالِث - وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَغَيره مِنْهُم: ابْن قَاضِي الْجَبَل وَنَصره من سِتَّة أوجه -: أَن المُرَاد بِالْعشرَةِ عشرَة بِاعْتِبَار أَفْرَاده، وَلَكِن لَا يحكم بِمَا أسْند إِلَيْهَا إِلَّا بعد إِخْرَاج الثَّلَاثَة مِنْهَا، فَفِي اللَّفْظ أسْند الحكم إِلَى عشرَة، وَفِي الْمَعْنى إِلَى سَبْعَة، وعَلى هَذَا فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاء مُبينًا للمراد بِالْأولِ، بل بِهِ يحصل الْإِخْرَاج، وَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا الْإِثْبَات، وَلَا نفي أصلا، فَلَا تنَاقض، وَنصر ذَلِك وَأطَال.
فالاستثناء على قَول الباقلاني لَيْسَ بتخصيص؛ لِأَن التَّخْصِيص قصر الْعَام على بعض أَفْرَاده، وَهنا لم يرد بِالْعَام بعض أَفْرَاده، بل بالمجموع

(6/2542)


الْمركب، وَأَنه على قَول الْأَكْثَرين تَخْصِيص، أَي: لما فِيهِ من قصر اللَّفْظ على بعض مسمياته.
وَأما على الْمَذْهَب الثَّالِث فَيحْتَمل أَن يكون تَخْصِيصًا نظرا إِلَى كَون الحكم فِي الظَّاهِر للعام وَالْمرَاد الْخُصُوص، وَيحْتَمل أَن لَا يكون تَخْصِيصًا نظرا إِلَى أَنه أُرِيد بالمستثنى مِنْهُ تَمام مُسَمَّاهُ.
وَذكر القَاضِي عضد الدّين فِي تَحْقِيق هَذِه الْمذَاهب كلَاما أَطَالَ فِيهِ، وَتعقب عَلَيْهِ فِي بعضه ابْن السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر " فَليُرَاجع مِنْهُ.
وَجه الأول: لَو أُرِيد عشرَة كَامِلَة امْتنع مثل {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} [العنكبوت: 14] ؛ لِأَنَّهُ يلْزم كذب أَحدهمَا وَلم نقطع بِأَنَّهُ إِنَّمَا أقرّ بسبعة.
رد ذَلِك بِأَن الصدْق وَالْكذب وَالْحكم بِالْإِقْرَارِ بِاعْتِبَار الْإِسْنَاد لَا بِاعْتِبَار الْعشْرَة، والإسناد بعد الْإِخْرَاج.
وَوجه الثَّانِي: مَا سبق وَضعف أَدِلَّة غَيره.

(6/2543)


وَوجه الثَّالِث: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَبِالْعَكْسِ لما يَأْتِي فَوَجَبَ كَونه مُعَارضا لصدر الْجُمْلَة فِي بعض.
رد: معَارض بقَوْلهمْ تكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا.
وَوجه الْأَخير: ضعف مَا سبق، أما الأول فَلِأَنَّهُ يلْزم من قَالَ اشْتريت الشَّيْء إِلَّا نصفه، أَن يُرِيد اسْتثِْنَاء نصفه من نصفه ولتسلسله إِذا، وللقطع بِأَن الضَّمِير للشَّيْء الْمَبِيع كَامِلا، ولإجماع النُّحَاة أَنه إِخْرَاج بعض من كل، ولإبطال النُّصُوص، وللقطع بِأَنا نسقط الْخَارِج فَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مَا بَقِي، وَلَو كَانَ المُرَاد بالمستثنى مِنْهُ هُوَ الْبَاقِي لم يعلم بالإسقاط أَن الْمسند إِلَيْهِ هُوَ مَا بَقِي لتوقف إِسْقَاطه على حُصُول خَارج، وَلَا خَارج إِذا.
رد ذَلِك: أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ هُوَ الْجَمِيع بِحَسب ظَاهره وَالِاسْتِثْنَاء بَين أَن المُرَاد بِهِ النّصْف فَجَمِيع ذَلِك بِحَسب الظَّاهِر، فَلَا مُنَافَاة، وَلَا يلْزم إبِْطَال نَص، وَهُوَ مَا لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِد عِنْد عدم قرينَة.
وَأما ضعف الثَّانِي فخروجه عَن اللُّغَة؛ إِذْ لَيْسَ فِيهَا كلمة وَاحِدَة مركبة من ثَلَاث وأولها مُعرب أَيْضا وَلَا إِضَافَة؛ وَلِأَنَّهُ يعود الضَّمِير فِي إِلَّا

(6/2544)


نصفه على جُزْء الِاسْم وَهُوَ مُمْتَنع ولإجماع النُّحَاة أَنه إِخْرَاج.
فَوَائِد: ذكرهَا الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ":
إِحْدَاهَا: أَن الِاسْتِثْنَاء أَرْبَعَة أَنْوَاع:
أَحدهَا: مَا لولاه لعلم دُخُوله كالاستثناء من النُّصُوص مثل: عنْدك عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة.
الثَّانِي: لظن دُخُوله كالاستثناء من الظَّوَاهِر، نَحْو: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا زيدا.
وَالثَّالِث: مَا لولاه لجَاز دُخُوله كالاستثناء من الْمحَال والأزمان وَالْأَحْوَال، كأكرم رجلا إِلَّا زيدا أَو عمرا، وصل إِلَّا عِنْد الزَّوَال {لتأتنني بِهِ إِلَّا أَن يحاط بكم} [يُوسُف: 66] .
وَالرَّابِع: مَا لولاه لقطع بِعَدَمِ دُخُوله كالاستثناء الْمُنْقَطع، كجاء الْقَوْم إِلَّا حمارا.
قلت: وَفِي هَذَا نظر.
الْفَائِدَة الثَّانِيَة: يَقع الِاسْتِثْنَاء فِي عشرَة أُمُور: اثْنَان ينْطق بهما وَثَمَانِية لَا ينْطق بهَا، وَوَقع الِاسْتِثْنَاء مِنْهَا، فَمَا ينْطق بهَا الْأَحْكَام وَالصِّفَات، فالأحكام: قَالَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَالصِّفَات قَول الشَّاعِر:
(قَاتل ابْن البتول إِلَّا عليا ... )

(6/2545)


يُرِيد الْحُسَيْن ابْن فَاطِمَة، وَمعنى البتول: المنقطعة، قيل: عَن النظير والشبيه، وَقيل: عَن الْأزْوَاج، وَهُوَ مُرَاد الشَّاعِر. قيل: انْقَطَعت عَن الْأزْوَاج إِلَّا عَن عَليّ فاستثنى من صفتهَا، لَا مِنْهَا.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أفما نَحن بميتين (58) إِلَّا موتنا الأولى} [الصافات: 58، 59] استثنوا من صفتهمْ الموتة الأولى، لَا من ذواتهم.
وَالِاسْتِثْنَاء من الصّفة ثَلَاثَة أَقسَام:
أَحدهَا: عَن متعلقها: كَقَوْل الشَّاعِر الْمُتَقَدّم مُتَعَلق التبتل.
وَثَانِيها: من بعض أَنْوَاعهَا: كالآية؛ لِأَن الموتة الأولى أحد أَنْوَاع الْمَوْت.
وَثَالِثهَا: أَن يَسْتَثْنِي بجملتها لَا يتْرك مِنْهَا شَيْء، كَأَنْت طَالِق وَاحِدَة إِلَّا وَاحِدَة.
وَالثَّمَانِيَة الْبَاقِيَة لَا ينْطق بهَا وَيَقَع الِاسْتِثْنَاء مِنْهَا:
أَحدهَا: الْأَسْبَاب، نَحْو: لَا عُقُوبَة إِلَّا بِجِنَايَة.
وَالثَّانيَِة: الشُّرُوط، لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور.
وَالثَّالِث: الْمَوَانِع، لَا تسْقط الصَّلَاة عَن الْمَرْأَة إِلَّا بِالْحيضِ.
وَالرَّابِع: الْمحَال، أكْرم رجلا إِلَّا زيدا، أَو عمرا، أَو بكرا فَإِن كل شخص هُوَ مَحل الأعمية.

(6/2546)


وَالْخَامِس: الْأَحْوَال {لتأتنني بِهِ إِلَّا أَن يحاط بكم} [يُوسُف: 66] ، أَي: لتأتنني بِهِ فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا فِي حَالَة الْإِحَاطَة فَإِنِّي أعذركم.
وَالسَّادِس: الْأَزْمَان، صل إِلَّا عِنْد الزَّوَال.
وَالسَّابِع: الْأَمْكِنَة، صل إِلَّا على المزبلة، وَنَحْوهَا.
وَالثَّامِن: مُطلق الْوُجُود مَعَ قطع النّظر عَن الخصوصيات: {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} [النَّجْم: 23] ، أَي: لَا حَقِيقَة للأصنام أَلْبَتَّة إِلَّا أَنَّهَا لفظ مُجَرّد فاستثنى اللَّفْظ من مُطلق الْوُجُود على سَبِيل الْمُبَالغَة فِي النَّفْي، أَي: لم يثبت لَهَا وجود أَلْبَتَّة إِلَّا وجود اللَّفْظ وَلَا شَيْء وَرَاءه.
فَهَذِهِ الثَّمَانِية لم يذكر فِيهَا الِاسْتِثْنَاء، وَإِنَّمَا يعلم لما ذكر بعد الِاسْتِثْنَاء فَرد مِنْهَا، فيستدل بذلك الْفَرد على جنسه، وَهُوَ الْكَائِن بعد الِاسْتِثْنَاء وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَن يعلم أَن الِاسْتِثْنَاء فِي هَذِه الْأُمُور الَّتِي لم تذكر كلهَا اسْتثِْنَاء مُتَّصِل؛ لِأَنَّهُ من الْجِنْس وَحكم بالنقيض بعد (إِلَّا) ، وَهَذَانِ القيدان وافيان بِحَقِيقَة الْمُتَّصِل. انْتهى.

(6/2547)


(قَوْله: {فصل} )

{أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَمُحَمّد، وَزفر، وَحكي عَن الْأَكْثَر لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس} ، حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر.
وَذكر التَّمِيمِي أَن أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد اخْتلفُوا، وَقَالَ ابْن برهَان: قَول عدم صِحَّته قَول عَامَّة أَصْحَابنَا وَالْفُقَهَاء قاطبة، وَهُوَ الْمَنْصُور، نَقله ابْن مُفْلِح عَنهُ، وَنَقله ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن ابْن كيسَان بِهَذَا

(6/2548)


اللَّفْظ و [هُوَ] وَالله أعلم تَصْحِيف، وَإِنَّمَا هُوَ ابْن برهَان، وَحَكَاهُ جمَاعَة عَن أبي حنيفَة، وَاخْتَارَهُ ألكيا، وَابْن برهَان، وَحكي عَن ابْن الْبَاجِيّ، وَابْن خويزمنداد.
وَعَن الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله رِوَايَة بِصِحَّة اسْتثِْنَاء أحد النَّقْدَيْنِ من الآخر، فَإِذا قَالَ: لَهُ عِنْدِي مائَة إِلَّا دِينَارا، أَو مائَة دِينَار إِلَّا ألف دِرْهَم، صَحَّ اخْتَارَهُ الْخرقِيّ، وَجَمَاعَة من أَصْحَابنَا، مِنْهُم: أَبُو حَفْص العكبري والحلواني صَاحب " التَّبْصِرَة "، وَقدمه فِي " الْخُلَاصَة " لِابْنِ المنجي و " شرح ابْن رزين ".

(6/2549)


ثمَّ اخْتلف الْأَصْحَاب فِي مَأْخَذ هَذِه الرِّوَايَة، فَقَالَ فِي " رَوْضَة فقه أَصْحَابنَا " بِنَاء على أَنه جنس، أَو جِنْسَانِ، وَإِن قُلْنَا: هما جنس صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لِأَنَّهُمَا كالجنس فِي أَشْيَاء فَكَذَا فِي الِاسْتِثْنَاء.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي ": يُمكن حمل هَذِه الرِّوَايَة على مَا إِذا كَانَ أَحدهمَا يعبر بِهِ عَن الآخر، أَو يعلم قدره مِنْهُ.
وَقَالَ الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره " فِي الْأُصُول: إِنَّمَا صَحَّ ذَلِك اسْتِحْسَانًا، وأجراه بعض أَصْحَابنَا على ظَاهره، وأنهما نَوْعَانِ، فَيصح اسْتثِْنَاء نوع من نوع آخر، فَقَالَ: يلْزم من هَذِه الرِّوَايَة صِحَة اسْتثِْنَاء نوع من آخر.
فَقَالَ أَبُو الْخطاب: يلْزم مِنْهَا صِحَة اسْتثِْنَاء ثوب وَنَحْوه من دَرَاهِم.

(6/2550)


وَقَالَهُ الْمَالِكِيَّة، وَابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين، والنحاة.
قَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي ": وَقَالَ مَالك، وَالشَّافِعِيّ: يَصح الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس مُطلقًا؛ لِأَنَّهُ ورد فِي الْكتاب الْعَزِيز ولغة الْعَرَب. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلِهَذَا نقل الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الِاتِّفَاق على صِحَة الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس.
وللشافعية كالقولين، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَالْأَشْهر عَن أبي حنيفَة صِحَّته فِي مَكِيل أَو مَوْزُون من أَحدهمَا فَقَط.

(6/2551)


وَجه الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح -: أَن الِاسْتِثْنَاء صرف اللَّفْظ بحرفه عَمَّا يَقْتَضِيهِ لولاه، أَو إِخْرَاج؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من الثني من قَوْلهم: ثنيت فلَانا عَن رَأْيه، وثنيت عنان دَابَّتي كَمَا تقدم.
وَلِأَن الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَصح؛ لتَعَلُّقه بِالْأولِ لعدم استقلاله، وَإِلَّا لصَحَّ كل شَيْء من كل شَيْء؛ لاشْتِرَاكهمَا فِي معنى عَام.
وَلِأَنَّهُ لَو قَالَ: جَاءَ النَّاس إِلَّا الْكلاب، وَإِلَّا الْحمير عد قبيحا لُغَة وَعرفا.
ورد الأول بِأَنَّهُ مَحل النزاع، وَبِأَنَّهُ مُشْتَقّ من التَّثْنِيَة كَأَنَّهُ ثنى الْكَلَام بِهِ، وَلَا يلْزم من الِاشْتِقَاق لِمَعْنى [نفي] كَونه حَقِيقَة لِمَعْنى آخر. وَلَا الاطراد، وقبح مَا ذكر لَا يمْتَنع لُغَة كَقَوْل الدَّاعِي: يَا رب الْكلاب وَالْحمير.
ثمَّ إِن امْتنع من اللَّفْظ مُطَابقَة لَا يمْتَنع من لَازم لَهُ، وَلَا يلْزم اسْتثِْنَاء كل شَيْء من كل شَيْء لاعْتِبَار مُنَاسبَة بَينهمَا كَقَوْل الْقَائِل: لَيْسَ لي بنت إِلَّا ذكر، بِخِلَاف قَوْله: إِلَّا أَنِّي بِعْت دَاري.
وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَنَّهُ تَخْصِيص فَلَا يَصح فِي غير دَاخل.

(6/2552)


وَجه الثَّانِي: وُقُوعه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِلَّا رمزا} [آل عمرَان: 41] ، {أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطئا} [النِّسَاء: 92] ، {من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} [النِّسَاء: 157] ، {من سُلْطَان إِلَّا أَن دعوتكم} [إِبْرَاهِيم: 22] ، وَقَول الْعَرَب: مَا بِالدَّار أحد إِلَّا وتد، وَمَا جَاءَنِي زيد إِلَّا عَمْرو، وَلِأَنَّهُ لَو أقرّ بِمِائَة دِرْهَم إِلَّا ثوبا لغى على الأول مَعَ إِمْكَان تَصْحِيحه بِأَن مَعْنَاهُ قيمَة ثوب، لَا سِيمَا إِن أَرَادَهُ.
ورد أَن (إِلَّا) فِي ذَلِك بِمَعْنى (لَكِن) عِنْد النُّحَاة، مِنْهُم: الزّجاج وَابْن قُتَيْبَة، وَقَالَ: هُوَ قَول سِيبَوَيْهٍ، وَهُوَ اسْتِدْرَاك، وَلِهَذَا لم يَأْتِ إِلَّا بعد نفي، أَو بعد إِثْبَات بعده جملَة، وَلَا مدْخل للاستدراك فِي إِقْرَار فَبَطل وَلَو مَعَ جملَة بعده، كَقَوْلِه: مائَة دِرْهَم إِلَّا ثوبا لي عَلَيْهِ، فَيصح كإقراره وَتبطل دَعْوَاهُ، كتصريحه بذلك بِغَيْر اسْتثِْنَاء.
وَفِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد ": لَو صَحَّ لصَحَّ إِذا أقرّ بِثَوْب، وَأَرَادَ قِيمَته.

(6/2553)


زَاد فِي " التَّمْهِيد ": وَقد قيل يَصح ذَلِك لَا على وَجه الِاسْتِثْنَاء؛ بل للفظ الْمقر، كمن أقرّ بِمِائَة ثمَّ فَسرهَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَا، قَالَ: وَالْمذهب الأول أظهر لسبق الْمُتَّصِل إِلَى الْفَهم، وَهُوَ دَلِيل الْحَقِيقَة، لَكِن عِنْد تعذره فِي الْعَمَل بالمنقطع نظر. انْتهى.
قَوْله: {فَائِدَة: الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع مجَاز} . إِذا قُلْنَا بِصِحَّة الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس وَهُوَ الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع، فَهَل هُوَ حَقِيقَة: أَو مجَاز؟ فِيهِ قَولَانِ:
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر أَنه مجَاز، قَالَه الْبرمَاوِيّ وَغَيره، وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو بكر الباقلاني، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع "، وَغَيرهم.

(6/2554)


وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه حَقِيقَة، فعلى هَذَا القَوْل هَل يكون مَعَ الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل مُشْتَركا أَو مَوْضُوعا للقدر الْمُشْتَرك بَين الْمُتَّصِل والمنقطع فَيكون متواطئا؟ فِيهِ قَولَانِ، أَحدهمَا: إِن إِطْلَاقه عَلَيْهِ وعَلى الْمُتَّصِل من بَاب الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ، أَي: أَنه مَوْضُوع لكل مِنْهُمَا على انْفِرَاده فَإِنَّهُ لَيْسَ بَينهمَا قدر مُشْتَرك، فَإِن الْمُتَّصِل إِخْرَاج بِخِلَاف الْمُنْفَصِل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه من بَاب المتواطئ، أَي: أَن حقيقتهما وَاحِدَة والاشتراك بَينهمَا معنوي، وَالله أعلم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لتقسيم الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا، وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك وَالْمجَاز.
{وَقيل بِالْوَقْفِ} لتكافؤ الْأَدِلَّة واختلافها من الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ من زِيَادَته فِي " جمع الْجَوَامِع "، وعَلى كل الْأَقْوَال يُسمى اسْتثِْنَاء قطع بِهِ الْأَكْثَر.
قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره الْكَبِير ": إِن ذَلِك بالِاتِّفَاقِ.

(6/2555)


لَكِن حكى الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ أَنه لَا يُسمى اسْتثِْنَاء لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا.
ثمَّ قَالَ ابْن الْحَاجِب وَمن تَابعه: إِنَّه إِذا قُلْنَا إِنَّه مجَاز أَو مُشْتَرك لَا يَجْتَمِعَانِ فِي حد وَاحِد.
ثمَّ عرف الْمُنْقَطع، لكنه قَالَ فِي تَعْرِيفه: (من غير إِخْرَاج) . ليخرج بِهِ الْمُتَّصِل، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنه إِذا سَقَطت هَذِه اللَّفْظَة كَانَ بَقِيَّة التَّعْرِيف شَامِلًا لَهما، ثمَّ ذكر تَعْرِيفه على القَوْل بالتواطؤ بِمَا دلّ على مُخَالفَة بإلا غير الصّفة وَأَخَوَاتهَا.
وَأما ابْن مَالك فجمعهما فِي تَعْرِيفه فِي " التسهيل "، فَقَالَ فِي الْمُسْتَثْنى: هُوَ الْمخْرج تَحْقِيقا، أَو تَقْديرا من مَذْكُور، أَو مَتْرُوك بإلا، أَو بِمَا فِي مَعْنَاهَا بِشَرْط الْفَائِدَة، فَأدْخل الْمُنْقَطع بقوله: (أَو تَقْديرا) نَحْو: {مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} [النِّسَاء: 157] ، فالظن لم يدْخل فِي الْعلم تَحْقِيقا، لكنه فِي تَقْدِير الدَّاخِل؛ إِذْ هُوَ مستحضر بِذكرِهِ، أَي: مَا لَهُم بِهِ من علم، وَلَا غَيره من الشُّعُور إِلَّا اتِّبَاع الظَّن، وَمثله، مَا فِي الدَّار أحد إِلَّا حمارا، فَإِن الْمَعْنى مَا فِيهَا عَاقل وَلَا شَيْء من متعلقاته إِلَّا الْحمار.

(6/2556)


قَوْله: {وَيشْتَرط لصِحَّته مُخَالفَة فِي نفي الحكم، أَو فِي أَن الْمُسْتَثْنى حكم آخر لَهُ مُخَالفَة بِوَجْه} .
لَا بُد فِي الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع من مُخَالفَة الْمُسْتَثْنى للمستثنى مِنْهُ فِي نفي الحكم، نَحْو: مَا جَاءَنِي الْقَوْم إِلَّا حمارا، أَو مَا جَاءَ زيد إِلَّا عمرا.
أَو إِن فِي الْمُسْتَثْنى حكم آخر، لَهُ مُخَالفَة مَعَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، نَحْو: مَا زَاد إِلَّا مَا نقص، وَمَا نفع إِلَّا مَا ضرّ، فَالْمَشْهُور أَنه اسْتثِْنَاء من غير الْجِنْس لاستثناء النُّقْصَان من الزِّيَادَة، وَالنُّقْصَان لَيْسَ مِنْهَا.
ورد بِمَنْع كَون مَعْنَاهُ مَا زَاد إِلَّا النُّقْصَان لجَوَاز أَن لَا يكون (مَا) مَصْدَرِيَّة، بل يكون بِمَعْنى (الَّذِي) كَأَنَّهُ قَالَ: مَا زَاد إِلَّا الَّذِي نقص.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: أَي مَا زَاد المَاء إِلَّا مَا نقص، وَمَا نفع زيد إِلَّا مَا ضرّ. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ أَيْضا: قسم النُّحَاة الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع إِلَى مَا لَيْسَ لِلْعَامِلِ عَلَيْهِ تسلط فَيجب نَصبه بِاتِّفَاق، نَحْو: مَا زَاد المَال إِلَّا نقص، وَمَا نفع زيدا إِلَّا مَا ضرّ.

(6/2557)


وَمَا لِلْعَامِلِ عَلَيْهِ تسلط فالحجازيون يوجبون نَصبه، وَتَمِيم ترجحه وتجيز الْبَدَل. انْتهى.
وَإِذا علم ذَلِك فَفِي (مَا) الثَّانِيَة قَولَانِ، أَحدهمَا: إِنَّهَا مَصْدَرِيَّة، قَالَه سِيبَوَيْهٍ، فَقَالَ: الأولى نَافِيَة، وَالثَّانيَِة مَصْدَرِيَّة، وفاعلهما مصدر، أَي: فلَان، ومفعولهما مَحْذُوف، أَي: إِلَّا نُقْصَانا، ومضرة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا مَوْصُولَة بِمَعْنى الَّذِي، وَالله أعلم.
فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: يَنْقَسِم الِاسْتِثْنَاء إِلَى مُنْقَطع ومتصل، وَفِي ضبط الْمُنْقَطع إِشْكَال، فكثير من الْعُقَلَاء يَعْتَقِدُونَ أَن الْمُنْقَطع الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس، وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} [الدُّخان: 56] مُنْقَطع على الْأَصَح مَعَ أَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بعد إِلَّا هُوَ نقيض الْمَحْكُوم عَلَيْهِ أَولا وَمن جنسه.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة} [النِّسَاء: 29] مُنْقَطع، مَعَ أَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بعد إِلَّا هُوَ عين الْأَمْوَال الَّتِي حكم عَلَيْهَا قبل إِلَّا، بل الْمُحَقق أَن يعلم أَن الْمُتَّصِل عبارَة عَن أَن تحكم على جنس كَمَا حكمت عَلَيْهِ أَولا بنقيض مَا حكمت فِيهِ أَولا، فَمَتَى انخرم قيد من هذَيْن القيدين كَانَ مُنْقَطِعًا وَيكون الْمُنْقَطع بِحكم على جنس كَمَا حكمت عَلَيْهِ أَولا بِغَيْر مَا حكمت عَلَيْهِ أَولا، وعَلى هَذَا يكون الِاسْتِثْنَاء فِي الْآيَتَيْنِ مُنْقَطِعًا، فَإِن نقيض {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت}

(6/2558)


يذوقون فِيهَا الْمَوْت وَلم يحكم بِهِ بل بالذوق فِي الدُّنْيَا، ونقيض: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} كلوها بِالْبَاطِلِ وَلم يحكم بِهِ، وعَلى هَذَا تخرج أَقْوَال الْعلمَاء فِي الْكتاب وَالسّنة ولسان الْعَرَب. انْتهى.

(6/2559)


(قَوْله: فصل) .
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم شَرط الِاسْتِثْنَاء اتِّصَال مُعْتَاد لفظا، أَو حكما كانقطاعه بتنفس، وسعال، وَنَحْوه كَبَقِيَّة التوابع.
عَن ابْن عَبَّاس: يَصح وَلَو بعد سنة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وروى سعيد، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة، ثَنَا الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يرى الِاسْتِثْنَاء وَلَو بعد سنة، الْأَعْمَش مُدَلّس {وَمَعْنَاهُ} قَول {طَاوُوس ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

(6/2560)


وَمُجاهد} .
وَعَن مُجَاهِد أَيْضا: إِلَى سنتَيْن.
{وَعَن ابْن عَبَّاس} أَيْضا: أَنه يَصح الِاسْتِثْنَاء {إِلَى شهر} .
وَرُوِيَ عَنهُ: يَصح أبدا كَمَا يجوز التَّأْخِير فِي تَخْصِيص الْعَام، وَبَيَان الْمُجْمل. لَكِن حمل الإِمَام أَحْمد، وَجَمَاعَة من الْعلمَاء كَلَام ابْن عَبَّاس على نِسْيَان قَول (إِن شَاءَ الله تَعَالَى) ، مِنْهُم الْقَرَافِيّ.
قَالَ ابْن جرير: إِن صَحَّ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس فَمَحْمُول على أَن السّنة أَن يَقُول الْحَالِف: إِن شَاءَ الله، وَلَو بعد سنة.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: إِنَّه لَا يثبت عَن ابْن عَبَّاس، ثمَّ قَالَ: إِن صَحَّ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس فَيحْتَمل أَن الْمَعْنى إِذا نسيت الِاسْتِثْنَاء فَاسْتَثْنِ إِذا ذكرت، وَقيل: رَجَعَ. قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى: يحْتَمل أَيْضا أَنه رَجَعَ عَنهُ.

(6/2561)


{و} رُوِيَ {عَن} سعيد {بن جُبَير} أَنه أجَازه {أَرْبَعَة اشهر.
وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: يَصح اتِّصَاله بِالنِّيَّةِ وانقطاعه لفظا فيدين} ، قَالَ الْآمِدِيّ: وَلَعَلَّه مَذْهَب ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: لَعَلَّ مُرَاد ابْن عَبَّاس أَن يَسْتَثْنِي مُتَّصِلا بالْكلَام ثمَّ يظْهر مَا نَوَاه بعد ذَلِك، فَإِنَّهُ يدين.
{وَعَن أَحْمد: يَصح فِي الْيَمين مُنْفَصِلا فِي زمن يسير إِذا لم يخلط كَلَامه بِغَيْرِهِ، وَعنهُ} أَيْضا: {وَفِي الْمجْلس، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين وَغَيره، {وَرُوِيَ عَن الْحسن وَعَطَاء.

(6/2562)


وَقيل} : يَصح {مَا لم يدْخل فِي كَلَام آخر} .
وَقَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي: يَصح {وَلَو تكلم.
وَقيل} : يجوز ذَلِك {فِي الْقُرْآن خَاصَّة} .
وَحمل بَعضهم كَلَام ابْن عَبَّاس عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: ذهب بَعضهم إِلَى جَوَاز الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل فِي كَلَام الله تَعَالَى، وَحمل بَعضهم كَلَام ابْن عَبَّاس عَلَيْهِ، وَأَنه جوز ذَلِك فِي استثناءات الْقُرْآن خَاصَّة.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفر عَن يَمِينه وليأت الَّذِي هُوَ خير " وَلم يقل: أَو يسْتَثْن.
وَكَذَلِكَ لما أرشد الله - أَيُّوب - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بقوله: {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} [ص: 44] جعل طَرِيق بره ذَلِك، وَلَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء المتراخي يحصل بِهِ الْبر لما جعل الله تَعَالَى لَهُ الْوَسِيلَة إِلَى الْبر ذَلِك.

(6/2563)


وَفِي " تَارِيخ بَغْدَاد " لِابْنِ النجار أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ أَرَادَ الْخُرُوج مرّة من بَغْدَاد فاجتاز فِي بعض الطَّرِيق وَإِذا بِرَجُل على رَأسه سلة فِيهَا بقل وَهُوَ يَقُول لآخر: مَذْهَب ابْن عَبَّاس فِي تراخي الِاسْتِثْنَاء غير صَحِيح، وَلَو صَحَّ لما قَالَ الله تَعَالَى لأيوب عَلَيْهِ السَّلَام: {وَخذ بِيَدِك ضغثا ... وَلَا تَحنث} ، بل كَانَ يَقُول لَهُ: استثن، وَلَا حَاجَة إِلَى التوسل إِلَى الْبر بذلك، فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق: بَلْدَة فِيهَا رجل يحمل البقل يرد على ابْن عَبَّاس لَا تسْتَحقّ أَن يخرج مِنْهَا. انْتهى.
وَحكى ابْن الْعَرَبِيّ فِي الْفِقْه، مثل ذَلِك عَن امْرَأَة قَالَت لجارتها ذَلِك كَمَا تقدم.

(6/2564)


وَمن لطيف مَا يَحْكِي أَن الرشيد استدعى أَبَا يُوسُف القَاضِي وَقَالَ لَهُ: كَيفَ مَذْهَب ابْن عَبَّاس فِي الِاسْتِثْنَاء؟ فَقَالَ: يلْحق عِنْده بِالْخِطَابِ، ويغير حكمه وَلَو بعد زمَان، فَقَالَ: عزمت عَلَيْك أَن تُفْتِي بِهِ وَلَا تخَالفه.
وَكَانَ أَبُو يُوسُف لطيفا فِيمَا يُورِدهُ متأنيا فِيمَا يَقُوله، فَقَالَ: رأى ابْن عَبَّاس يفْسد عَلَيْك بيعتك؛ لِأَن من حلف لَك وبايعك يرجع إِلَى منزله فَيَسْتَثْنِي، فانتبه الرشيد، وَقَالَ: إياك أَن تعرف النَّاس مذْهبه فِي ذَلِك، واكتمه.
وَوَقع قريب من ذَلِك لأبي حنيفَة مَعَ الْمَنْصُور، وَكَانَ قَالَ لَهُ رجل يبغض أَبَا حنيفَة: أَبُو حنيفَة يبغض جدك ابْن عَبَّاس وَيَقُول: إِن الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل لَا يَصح، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا الرجل يُرِيد أَن يفْسد عَلَيْك دولتك، فَقَالَ: وَكَيف ذَلِك؟ قَالَ: لِأَن الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل لَو صَحَّ لجَاز لكل من بَايَعَك عَام أول أَن يَسْتَثْنِي الْآن، أَو بعده مُدَّة اسْتثِْنَاء تحل بِهِ الْبيعَة من عُنُقه، ثمَّ يخرج عَلَيْك! فَضَحِك الْمَنْصُور، وَقَالَ لَهُ: الزم مَقَالَتك. انْتهى.

(6/2565)


{وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {يجب إِجْرَاء الرِّوَايَتَيْنِ} اللَّتَيْنِ فِي الْيَمين المتقدمتين {فِي صلات الْكَلَام الْمُغيرَة لَهُ من تَخْصِيص، وَتَقْيِيد قِيَاسا على الْيَمين وَجوزهُ فِي الْجَزَاء مَعَ الشَّرْط، وَالْخَبَر مَعَ الْمُبْتَدَأ بِزَمن يسير} .
قَوْله: {وتشترط نِيَّة الِاسْتِثْنَاء قبل تَمام الْمُسْتَثْنى مِنْهُ عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر} .
تقدم أَنه يشْتَرط فِي الِاسْتِثْنَاء الِاتِّصَال الْمُعْتَاد إِلَّا مَا اسْتثْنى وَمَعَ هَذَا يشْتَرط نِيَّة الِاسْتِثْنَاء قبل تَمام الْمُسْتَثْنى مِنْهُ على الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد، وَمذهب أَصْحَابه.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": هَذَا الْمَذْهَب وَقَالَهُ القَاضِي وَغَيره، وَاخْتَارَهُ فِي " التَّرْغِيب " وَغَيره، وَقطع بِهِ الْمجد فِي " محرره "، وَابْن حمدَان فِي رعايته، وَصَاحب " الْحَاوِي " و " الْوَجِيز "، و " النّظم "،

(6/2566)


و " تَجْرِيد الْعِنَايَة "، و " الْمنور "، وَغَيرهم.
وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِيَّة.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: اتّفق الذاهبون إِلَى اشْتِرَاط اتِّصَاله أَنه يَنْوِي فِي الْكَلَام، فَلَو لم يعرض لَهُ نِيَّة الِاسْتِثْنَاء إِلَّا بعد فرَاغ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لم يعْتد بِهِ، ثمَّ قيل: يعْتَبر وجود النِّيَّة فِي أول الْكَلَام، وَقيل: يَكْتَفِي بوجودها قبل فَرَاغه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. انْتهى.
{وَقيل} : يشْتَرط أَن تكون {من أول الْكَلَام} ، قَالَه فِي " التَّرْغِيب " توجيها من عِنْده.
وَقد سَأَلَ أَبُو دَاوُد أَحْمد عَمَّن تزوج امْرَأَة، فَقيل: لَك امْرَأَة سوى هَذِه؟ فَقَالَ: كل امْرَأَة لي طَالِق، فَسكت، فَقيل: إِلَّا فُلَانَة، قَالَ: إِلَّا فُلَانَة فَإِنِّي لم أعنها، فَأبى أَن يُفْتِي بِهِ.
وَقطع أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ فِي " الْمُبْهِج "، وَصَاحب " الْمُسْتَوْعب "، و " الْمُغنِي " و " الشَّرْح ".

(6/2567)


وَبعد فرَاغ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ قبل فرَاغ الْمُسْتَثْنى، قَالَ فِي " التَّرْغِيب ": هُوَ ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَقَالَ: دلّ عَلَيْهِ كَلَام أَحْمد، وَعَلِيهِ متقدمو أَصْحَابه، وَزَاد أَيْضا: لَا يضر فصل يسير بِالنِّيَّةِ وَلَا بِالِاسْتِثْنَاءِ. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا بُد أَن يَنْوِي قبل تَمام اللَّفْظ بالمستثنى بِهِ، وَمرَاده قبل تَمام آلَة الِاسْتِثْنَاء، وَهِي إِلَّا أَو إِحْدَى أخواتها، وَالله أعلم.

(6/2568)


(قَوْله: {فصل} )

{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء إِلَّا نطقا إِلَّا فِي يَمِين خَائِف بنطقه} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء إِلَّا نطقا عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم لما سبق، يَعْنِي فِي الِاسْتِدْلَال فِي مَسْأَلَة شَرط الِاسْتِثْنَاء الِاتِّصَال، كَمَا تقدم.
ثمَّ قَالَ: إِلَّا فِي يَمِين لخائف من نطقه، وَهَذَا وَاضح للضَّرُورَة.
قَالَ فِي " الْفُرُوع ": وَيعْتَبر نطقه إِلَّا من مظلوم خَائِف، نَص على ذَلِك، وَلم يذكر فِي " الْمُسْتَوْعب " (خَائِف) ، وَالْأَصْحَاب على الأول، لَكِن ظَاهر مَا قدمه فِي " الْمُغنِي " و " الشَّرْح " أَنه لَا يَصح إِلَّا نطقا، وَقَالا: وَرُوِيَ عَن أَحْمد أَنه إِن كَانَ مَظْلُوما فاستثنى فِي نَفسه: رَجَوْت أَن يجوز إِذا خَافَ على نَفسه.

(6/2569)


فَهَذَا فِي حق الْخَائِف على نَفسه؛ لِأَن يَمِينه غير منعقدة، أَو لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة المتأول. انْتهى.
ثمَّ قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة - فِي الْيَمين -: قِيَاس مَذْهَب مَالك صِحَّته بِالنِّيَّةِ} . انْتهى.
قَوْله: {وَيجوز تَقْدِيمه عِنْد الْكل} .
يَعْنِي يجوز تَقْدِيم الْمُسْتَثْنى على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالله إِن شَاءَ الله لَا أَحْلف على يَمِين ... " الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ، وكقول الْكُمَيْت:
(وَمَا لي إِلَّا آل أَحْمد شيعَة ... وَمَالِي إِلَّا مَذْهَب الْحق مَذْهَب)

(6/2570)


قَوْله: {اسْتثِْنَاء الْكل بَاطِل} عِنْد الْعلمَاء، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم إِجْمَاعًا، {وشذ بَعضهم} فِي حِكَايَة خلاف، فَقَالَ ابْن طَلْحَة الْمَالِكِي فِي كتاب " الْمدْخل " لَهُ فِي الْفِقْه: إِذا قَالَ: أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، هَل يَقع الطَّلَاق؟ على قَوْلَيْنِ عَن مَالك.
قَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: وَمُقْتَضى هَذَا النَّقْل جَوَاز اسْتثِْنَاء الْكل من الْكل.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هَذَا على قَول مَالك، وبيض لذَلِك، وَنقل اللَّخْمِيّ عَن بَعضهم فِي قَوْله (أَنْت طَالِق وَاحِدَة

(6/2571)


إِلَّا وَاحِدَة) أَن الطَّلَاق لَا يَقع؛ لِأَن النَّدَم مُنْتَفٍ بِإِمْكَان الرّجْعَة بِخِلَاف (ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا) .
وَفِي " الْهِدَايَة " للحنفية: أَن الطَّلَاق الْمُسْتَغْرق إِنَّمَا هُوَ فِي نَحْو: نسَائِي طَوَالِق إِلَّا نسَائِي، أَو أوصيت بِثلث مَالِي إِلَّا ثلث مَالِي، لَا فِي نَحْو: نسَائِي طَوَالِق إِلَّا هَؤُلَاءِ مُشِيرا إلَيْهِنَّ، أَو ثلث مَالِي إِلَّا ألف دِرْهَم، وَهُوَ ثلثه. انْتهى.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": قلت: وَلقَائِل أَن يَقُول: إِذا قَالَ: أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِنَّه يَقع وَاحِدَة، إِذا قُلْنَا يَصح اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، وَاثْنَتَانِ على الْمَذْهَب؛ لِأَن اسْتثِْنَاء الْأَقَل عندنَا صَحِيح، وَلنَا فِي الْأَكْثَر وَجه، فالمستثنى للثلاث جَامع بَين مَا يجوز، وَمَا لَا يجوز فَيخرج على قَاعِدَة تَفْرِيق الصَّفْقَة. انْتهى.
وَمحل امْتنَاع اسْتثِْنَاء الْكل فِي غير الصّفة على مَا يَأْتِي قَرِيبا فِي كَلَام أبي الْخطاب وَغَيره، وَكَلَام ابْن مُفْلِح، وَغَيره وَمحل ذَلِك وَهُوَ بطلَان

(6/2572)


الْمُسْتَغْرق مَا لم يعقب الْمُسْتَغْرق اسْتثِْنَاء بعضه: كعشرة إِلَّا عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، على مَا يَأْتِي الْخلاف فِيهِ فِي الْمَتْن وَالشَّرْح - إِن شَاءَ الله تَعَالَى -.
قَوْله: {وَكَذَا الْأَكْثَر من عدد مُسَمّى عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأبي يُوسُف، وَابْن الْمَاجشون، وَأكْثر النُّحَاة} ، وَذكر ابْن هُبَيْرَة أَنه قَول أهل اللُّغَة.
وَنَقله أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ، وَأَبُو حَيَّان فِي " الارتشاف " عَن نحاة الْبَصْرَة، وَهُوَ أحد قولي القَاضِي أبي بكر ابْن الباقلاني، وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره عَن الْأَشْعَرِيّ.

(6/2573)


{وَعند الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، والخلال} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا {يَصح} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعند أَكثر الْفُقَهَاء، والمتكلمين يَصح.
وَقيل: اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر مستقبح عِنْد الْعَرَب لَا مُمْتَنع فِي لغتهم.
وَقيل: يمْتَنع اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر إِن كَانَ الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ فِي أعداد صَرِيحَة، نَحْو: عشرَة إِلَّا تِسْعَة، فَإِن لم يكن كَذَلِك، نَحْو: خُذ مَا فِي هَذَا الْكيس إِلَّا الزُّيُوف، وَكَانَت الزُّيُوف أَكثر من الْبَاقِي فَهُوَ جَائِز.
وَقيل: يمْتَنع اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر جملَة، وَلَا يمْتَنع تَفْصِيلًا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قيل وَهُوَ الْمَوْجُود فِي كتب الْحَنَابِلَة، فَيمْتَنع: جَاءَ إخْوَتك الْعشْرَة إِلَّا تِسْعَة، وَيجوز إِلَّا زيدا، وعمرا، وبكرا، وَهَكَذَا لتَمام التِّسْعَة.

(6/2574)


وَقيل: التَّفْصِيل بَين أَن يكون السَّامع عَالما بِأَن الْمخْرج أَكثر فَيمْتَنع أَو لَا فَيجوز.
وَقيل: يجوز اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، لَكِن لم ترد بِهِ اللُّغَة، بل ذكر قِيَاسا على التَّخْصِيص.
وَقيل: قَالَ الْبرمَاوِيّ، ويعزى للحنابلة: يجوز فِي الْمُنْقَطع لَا الْمُتَّصِل فَيجوز: لَهُ عِنْدِي ألف دِرْهَم إِلَّا الثَّوْب الْفُلَانِيّ إِذا كَانَ ذَلِك الثَّوْب يُسَاوِي سِتّمائَة.
ذكر هَذِه الْأَقْوَال الْبرمَاوِيّ.
وَجه القَوْل الأول: أَنه لُغَة، فَمن ادَّعَاهُ فَعَلَيهِ الْبَيَان.
ثمَّ نقُول: لَا يعرف لما سبق.
وَأنْكرهُ الزّجاج، وَابْن قُتَيْبَة، وَابْن درسْتوَيْه، وَابْن

(6/2575)


جني، فَإِن قيل: جوزه أَكثر الْكُوفِيّين.
قيل: يمْتَنع ثُبُوته عَنْهُم فِي الْأَعْدَاد، ثمَّ عَلَيْهِم الدَّلِيل، والبصريون أثبت مِنْهُم فِي اللُّغَة، كالخليل، وسيبويه، وَقد منعُوهُ، وَأنْكرهُ من تتبعه كَمَا سبق.
وَأَيْضًا وضع للاستدراك والاختصار، فَمن أقرّ بِأَلف إِلَّا تِسْعمائَة [و] تِسْعَة وَتِسْعين فَهُوَ خلاف الْوَضع، وَلِهَذَا يعد قبيحا عرفا، وَالْأَصْل التَّقْرِير.
وَاسْتدلَّ بِأَنَّهُ خلاف الأَصْل؛ لِأَنَّهُ إِنْكَار بعد إِقْرَار فصح فِي الْأَقَل؛ لِأَنَّهُ قد ينساه فينضر فِي الْأَقَل إِن لم يَصح.
رد: بِالْمَنْعِ؛ فَإِنَّهُمَا كجملة، وَهُوَ تكلم بِالْبَاقِي، ثمَّ: بِمَنْع مُخَالفَة الأَصْل فَيصح فِي الْأَكْثَر لِئَلَّا ينضر، وَصدقه مُمكن.
قَالُوا: وَقع فِي قَوْله: {إِلَّا من اتبعك من الغاوين} [الْحجر: 42] ، وَقَوله: {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} [الْحجر: 40] ، وَأيهمَا كَانَ أَكثر فقد اسْتَثْنَاهُ، أَو أَن الغاوين أَكثر؛ لقَوْله: {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} [يُوسُف: 103] .

(6/2576)


رد ذَلِك: بِأَن مَحل الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِثْنَاء من عدد، وَأما هَذَا فتخصيص بِصفة وَفرق بَينهمَا؛ لِأَنَّهُ - كَمَا يَأْتِي قَرِيبا - يسْتَثْنى بِالصّفةِ مَجْهُول من مَعْلُوم، وَمن مَجْهُول، ويستثني الْجَمِيع أَيْضا، فَلَو قَالَ: اقْتُل من فِي الدَّار إِلَّا بني تَمِيم، أَو إِلَّا الْبيض، فَكَانُوا كلهم بني تَمِيم، أَو بيضًا لم يجز قَتلهمْ بِخِلَاف الْعدَد، ثمَّ الْجِنْس ظَاهر، وَالْعدَد صَرِيح، وَلِهَذَا فرقت اللُّغَة بَينهمَا.
ثمَّ هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، أَي: لَكِن قَوْله: {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم} يَعْنِي: ولد آدم، وَفِي الْآيَة الْأُخْرَى أضَاف الْعباد إِلَيْهِ، وَالْمَلَائِكَة مِنْهُم، فاستثنى الْأَقَل مِنْهُمَا.
وَاعْتمد القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا على الْجَواب الأول، وَبِه يُجَاب عَن قَوْله تَعَالَى: " كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته " رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي ذَر، وَلم يعرج عَلَيْهِ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ".

(6/2577)


وَبَعض النَّاس ذكر فِيهِ خلافًا، قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَا خلاف فِيهِ لَكِن اتَّفقُوا أَنه لَو أقرّ بِهَذِهِ الدَّار إِلَّا هَذَا الْبَيْت صَحَّ، وَلَو كَانَ أَكثر، بِخِلَاف إِلَّا ثلثيها؛ فَإِنَّهُ على الْخلاف.
وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ فِي " المسودة ": لَا خلاف فِي جَوَازه إِذا كَانَت الْكَثْرَة من دَلِيل خَارج، لَا من اللَّفْظ.
قَالُوا: كالتخصيص، وكاستثناء الْأَقَل.
وَجَوَابه وَاضح، وَعجب مِمَّن ذكر الْخلاف، ثمَّ يحْتَج بِالْإِجْمَاع أَن من أقرّ بِعشْرَة إِلَّا درهما يلْزمه تِسْعَة {}
تقرر أَن الْمَذْهَب لَا يَصح اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر فَكيف صحّح الْأَصْحَاب اسْتثِْنَاء الرّبع من الثَّالِث وَالْخمس من الرّبع وَنَحْو ذَلِك، وَقد تنبه أَبُو الْخطاب لهَذَا الْإِشْكَال فِي " التَّهْذِيب "، وَأجَاب عَنهُ بِأَن هَذَا لَيْسَ من بَاب اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر وَإِنَّمَا كَأَنَّهُ أوصى لَهُ بِشَيْء ثمَّ رَجَعَ عَن بعضه وَترك الْبَعْض.

(6/2578)


قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَفِي الْجَواب نظر؛ إِذْ هُوَ تَحْويل للفظ الِاسْتِثْنَاء إِلَى غير معنى الرُّجُوع. وَأَيْضًا فَإِن الرُّجُوع لَا يكون [إِلَّا] بعد اسْتِقْرَار الحكم وَالِاسْتِثْنَاء مَانع من اسْتِقْرَار الحكم، وَحَقِيقَته [إِخْرَاج] مَا لولاه لدخل فِي اللَّفْظ، فَهُوَ مَانع من دُخُول مَا يَقْتَضِي اللَّفْظ دُخُوله، لَا أَنه يسْتَقرّ دُخُوله ثمَّ يخرج، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال فِي تحريره إِنَّا إِنَّمَا منعنَا اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ إبِْطَال للفظ الأول، لَا تَخْصِيص لَهُ، وَهُوَ لَا يملك إبطالهما بِالرُّجُوعِ فَنزل اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر فِيهَا بِمَنْزِلَة الرُّجُوع. انْتهى.
وَاسْتشْكل الْحَارِثِيّ مَسْأَلَة من لَهُ ثَلَاثَة بَنِينَ، وَأوصى بِمثل نصيب أحدهم إِلَّا ربع المَال، فأورد هَاهُنَا أَن الِاسْتِثْنَاء مُسْتَغْرق؛ لِأَن الْمثل مَعَ الثَّلَاثَة ربع فَكيف يَسْتَثْنِي مِنْهُ الرّبع؟
وَأجَاب عَنهُ بِأَن الِاسْتِثْنَاء يَتَّسِع بِهِ النَّصِيب كَذَا الْوَصِيَّة؛ لِأَن الْحَاصِل للْوَارِث مَعَ [عدم] الِاسْتِثْنَاء ربع فَقَط، وَمَعَ الِاسْتِثْنَاء ربع وَشَيْء فالمثل الْمُوصى بِهِ كَذَلِك، فَإِذا اسْتثْنى مِنْهُ الرّبع لم يكن الِاسْتِثْنَاء مُسْتَغْرقا.

(6/2579)


ثمَّ قَالَ: وَلقَائِل أَن يَقُول: الزِّيَادَة على الرّبع إِنَّمَا تثبت بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالْقدر الثَّابِت بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يثبت قبله فَلَا يحصل بذلك تَخْلِيص عَن الْإِيرَاد، وَالله أعلم.
وَأجَاب بعض الْمُتَأَخِّرين عَن الأول بِمَا ذكره الْمُوفق، وَغَيره من أَن اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر إِنَّمَا يمْتَنع من الْعدَد خَاصَّة، أما من الجموع المستغرقة فَلَا يمْتَنع اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، وَكَذَلِكَ اخْتَار ابْن عُصْفُور، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " الْمسَائِل البغداديات " الِاتِّفَاق على ذَلِك، ذكره فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ".
قَوْله: تَنْبِيهَات:
{قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {لَا خلاف فِي جَوَازه إِذا كَانَت الْكَثْرَة من دَلِيل خَارج، لَا من اللَّفْظ.
وَجوز أَبُو الْخطاب، وَأَبُو يعلى الصَّغِير، وَجمع} من الْعلمَاء {اسْتثِْنَاء الْكل من الجموع غير ذَوَات الْعدَد.

(6/2580)


قَالَ ابْن مُفْلِح، وَغَيره: يسْتَثْنى بِالصّفةِ مَجْهُول من مَعْلُوم، وَمن مَجْهُول، والجميع أَيْضا، كأقتل من فِي الدَّار إِلَّا بني تَمِيم، أَو الْبيض، وَيكون الْكل بني تَمِيم، أَو بيضًا} فَإِنَّهُم لَا يقتلُون، وَقد تقدم ذَلِك كُله فِي الْبَحْث الْمُتَقَدّم.
قَوْله: {الثَّانِي: حَيْثُ بَطل الِاسْتِثْنَاء وَاسْتثنى مِنْهُ رَجَعَ إِلَى مَا قبله.
وَقيل: يبطل الْكل.
وَقيل: يعْتَبر مَا تؤول إِلَيْهِ الاستثناءات} .
القَوْل الأول قَالَ فِي " تَصْحِيح الْمُحَرر ": جزم بِهِ فِي " الْمُغنِي ".
وَالْقَوْل الْأَخير قَالَ فِي " تَصْحِيح الْمُحَرر ": اخْتَارَهُ القَاضِي. انْتهى.
فَإِذا قَالَ: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا عشرَة، إِلَّا ثَلَاثَة.

(6/2581)


أَحدهَا: يلْزمه عشرَة، فَإِن الِاسْتِثْنَاء الأول لم يَصح، وَالثَّانِي مُرَتّب عَلَيْهِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: يلْزمه ثَلَاثَة، واستثناء الْكل من الْكل إِنَّمَا لَا يَصح إِذا اقْتصر عَلَيْهِ، أما إِذا أعقبه باستثناء صَحِيح فَيصح؛ لِأَن الْكَلَام بِآخِرهِ.
وَهَذَا الْمُرَجح عِنْد الشَّافِعِيَّة.
وَالْوَجْه الثَّالِث: يلْزمه سَبْعَة، وَالِاسْتِثْنَاء الأول لَا يَصح فَيسْقط فَيبقى كَأَنَّهُ اسْتثْنى ثَلَاثَة من عشرَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": اسْتثِْنَاء الْكل بَاطِل إِجْمَاعًا، ثمَّ إِذا اسْتثْنى مِنْهُ فَهَل يبطل الْجَمِيع؛ لِأَن الثَّانِي فرع الأول، أم يرجع إِلَى مَا قبله؛ لِأَن الْبَاطِل كَالْعدمِ، أم يعْتَبر مَا تؤول إِلَيْهِ الاستثناءات فِيهِ أَقْوَال لنا وللعلماء.
قَوْله: {وَيصِح اسْتثِْنَاء النّصْف فِي الْأَصَح عندنَا، وفَاقا للكوفيين وَبَعض الْبَصرِيين} .

(6/2582)


وَقَالَ أَكثر الْبَصرِيين، والناظم، والطوفي من أَصْحَابنَا أَيْضا: لَا يَصح. وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب رِوَايَة عَن أَحْمد.
لِأَصْحَابِنَا فِي صِحَة اسْتثِْنَاء النّصْف وَعدمهَا وَجْهَان، وَأطلقهُمَا فِي " الْهِدَايَة "، و " الْمَذْهَب "، و " الْمُسْتَوْعب "، و " الْخُلَاصَة "، و " الْمُغنِي "، و " الْكَافِي "، و " الْهَادِي "، و " الْبلْغَة "، و " الشَّرْح "، و " الْمُحَرر "، و " النّظم "، و " الْفُرُوع "، و " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة "، وَغَيرهم.

(6/2583)


أَحدهمَا: يَصح - وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا قدمْنَاهُ وصححناه -.
قَالَ ابْن هُبَيْرَة: الصِّحَّة ظَاهر الْمَذْهَب، وَصَححهُ فِي " التَّصْحِيح "، و " تَصْحِيح الْمُحَرر "، و " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " الْحَاوِي الصَّغِير "، وَاخْتَارَهُ ابْن عَبدُوس، وَجزم بِهِ فِي " الْإِرْشَاد "، و " الْوَجِيز "، و " الْمنور "، و " منتخب الأدمِيّ ".
وَالْوَجْه الثَّانِي: لَا يَصح، اخْتَارَهُ ابْن عبد الْقوي فِي " منظومته "، والطوفي فِي " مُخْتَصر الرَّوْضَة "، وشارحه الْعَسْقَلَانِي.
وحكاهما أَبُو الْفرج، وَصَاحب " الْخُلَاصَة "، و " رَوْضَة فقهنا " رِوَايَتَيْنِ،

(6/2584)


وَاخْتَارَ الصِّحَّة أَيْضا الباقلاني فِي أحد قوليه، وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ عَن الْأَشْعَرِيّ.
قَوْله: {وَقيل: لَا يَصح مُطلقًا من عدد} .
فِي الِاسْتِثْنَاء من الْعدَد مَذَاهِب، الْمَشْهُور الْجَوَاز مُطلقًا كَغَيْرِهِ.
الثَّانِي: الْمَنْع مُطلقًا، وَهُوَ هَذَا القَوْل الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَاخْتَارَهُ ابْن عُصْفُور، وَأجَاب عَن قَوْله تَعَالَى: {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} [العنكبوت: 14] بِأَن الْألف تسْتَعْمل فِي التكثير، كَقَوْلِه: اقعد ألف سنة، أَي: زَمَانا طَويلا.
{وَقيل} : لَا يَصح مُطلقًا {من عقد كنحو: عشرَة من مائَة} ، وَهُوَ القَوْل الآخر الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَلَا يَصح اسْتثِْنَاء عقد صَحِيح، نَحْو قَوْله: مائَة إِلَّا عشرَة، وَيجوز إِلَّا ثَلَاثَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعَن جمَاعَة من أهل اللُّغَة لَا يَصح اسْتثِْنَاء عقد كعشرة من مائَة، بل بعضه كخمسة. انْتهى.

(6/2585)


(قَوْله: {فصل} )

{الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وأصحابهم إِذا تعقب الِاسْتِثْنَاء جملا بواو عطف، وَصلح عوده إِلَى كل وَاحِدَة فللجميع، إِلَّا لمَانع، كبعد مُفْرَدَات، وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، والرازي، وَالْمجد، للأخيرة.
وَقيل: مَعْنَاهُ [فِي] الْكِفَايَة إِن تبين إضراب عَن الأولى فللأخيرة، وَإِلَّا فللكل، والإضراب أَن يختلفا نوعا أَو اسْما مُطلقًا، أَو حكما اشتركت الجملتان فِي غَرَض أَو لَا، وَالْغَرَض الْحمل.

(6/2586)


ووقف جمع، وَقَالَ المرتضي بالاشتراك، والآمدي إِن ظهر أَن الْوَاو للابتداء فللأخيرة أَو عاطفة للْجَمِيع، وَإِن أمكنا فالوقف.
وَقيل: إِن كَانَ بَينهمَا تعلق، وَإِلَّا فللأخيرة} .
اعْلَم أَن الِاسْتِثْنَاء إِذا تعقب جملا مذكورات متعاطفة بِالْوَاو، فَإِن لم يُمكن عوده إِلَى كل مِنْهَا لدَلِيل اقْتضى عوده إِلَى الأولى فَقَط، أَو إِلَى الْأَخِيرَة فَقَط، أَو كَانَ عَائِدًا إِلَى كل مِنْهَا بِالدَّلِيلِ فَلَا خلاف فِي الْعود إِلَى مَا قَامَ لَهُ الدَّلِيل، وَإِن أمكن بِأَن تجرد عَن قرينَة شَيْء من ذَلِك فَهُوَ مَحل الْخلاف الْآتِي بَيَانه.
مِثَال مَا دلّ على عوده إِلَى الأول دَلِيل فَيَعُود إِلَيْهِ قطعا قَوْله تَعَالَى: {إِن الله مبتليكم بنهر فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ مني وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ} [الْبَقَرَة: 249] ، فالاستثناء من اغترف إِنَّمَا يعود إِلَى (مِنْهُ) لَا إِلَى (من لم يطعمهُ) .
وَقَوله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا أَن تبدل بِهن من أَزوَاج ... إِلَّا مَا ملكت يَمِينك} [الْأَحْزَاب: 52] فاستثناء (مَا ملكت يَمِينك) يعود

(6/2587)


إِلَى لفظ النِّسَاء لَا إِلَى الْأزْوَاج؛ لِأَن زَوجته لَا تكون ملك يَمِينه.
وَحَدِيث: " لَيْسَ على الْمُسلم فِي عَبده، وَلَا فِي فرسه صَدَقَة إِلَّا زَكَاة الْفطر فِي الرَّقِيق " وَنَحْو ذَلِك مَا قَالَه الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا قَلِيلا} [النِّسَاء: 83] أَنه اسْتثِْنَاء من الْجُمْلَة الأولى.
وَمِثَال الْعَائِد إِلَى الْأَخير جزما للدليل إِلَّا إِلَى غَيره قَوْله تَعَالَى: {فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن} الْآيَة [النِّسَاء: 92] فَإِن (إِلَّا أَن يصدقُوا) إِنَّمَا يعود للدية لَا لِلْكَفَّارَةِ.
وَنَحْوه: {إِلَّا عابري سَبِيل} [النِّسَاء: 43] لَا يعود للسكارى؛ لِأَن السَّكْرَان مَمْنُوع من دُخُول الْمَسْجِد؛ إِذْ لَا يُؤمن تلويثه، ... ... ... ...

(6/2588)


قَالَه الْعلمَاء.
أَو يعود للأخير جزما وَإِن كَانَ فِي غَيره مُحْتملا، فَيجْرِي فِيهِ الْخلاف كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} الْآيَة [النُّور: 4] ف {إِلَّا الَّذين تَابُوا} [النُّور: 5] عَائِد إِلَى الْإِخْبَار بِأَنَّهُم فَاسِقُونَ قطعا حَتَّى يَزُول عَنْهُم بِالتَّوْبَةِ اسْم الْفسق.
بل قَالَ بعض الْعلمَاء: وَيلْزم مِنْهُ لَازم الْفسق، وَهُوَ عدم قبُول الشَّهَادَة، خلافًا لأبي حنيفَة إِنَّه يَزُول اسْم الْفسق، وَلَا تقبل شَهَادَته عملا بِمَا سَيَأْتِي من قَاعِدَته وَهُوَ الْعود إِلَى الْأَخير، لَا إِلَى غَيره.
وَلَا يعود فِي هَذِه الْآيَة للجلد الْمَأْمُور بِهِ قطعا؛ لِأَن حد الْقَذْف حق لآدَمِيّ فَلَا يسْقط بِالتَّوْبَةِ، وَهل يعود إِلَى قبُول الشَّهَادَة فَيقبل إِذا تَابَ أَو لَا فَلَا يقبل؟ فِيهِ الْخلاف الْآتِي.
وَمِثَال الْعَائِد إِلَى الْكل قطعا بِالدَّلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} الْآيَة [الْمَائِدَة: 33] ف {إِلَّا الَّذين تَابُوا} عَائِد إِلَى الْجَمِيع بِالْإِجْمَاع، كَمَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ.

(6/2589)


وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} الْآيَة ف {إِلَّا مَا ذكيتم} [الْمَائِدَة: 3] عَائِد إِلَى الْكل، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} [الْفرْقَان: 68] ف {إِلَّا من تَابَ} عَائِد إِلَى الْجَمِيع، قَالَ السُّهيْلي: بِلَا خلاف.
أما مَا تجرد عَن الْقَرَائِن، وَأمكن عوده إِلَى الْأَخير، وَلغيره فَفِيهِ مَذَاهِب:
أَحدهَا: الْعود إِلَى الْجَمِيع، وَهُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد وأصحابهم، وَغَيرهم. نَقله الْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي " سنَنه " عَن الشَّافِعِي، وَنَقله ابْن الْقصار عَن مَالك، وَقَالَ: إِنَّه الظَّاهِر من مَذَاهِب أَصْحَابه، وَهُوَ الرَّاجِح من مَذْهَبنَا.

(6/2590)


وَنَقله الْأَصْحَاب عَن نَص أَحْمد حَيْثُ قَالَ فِي حَدِيث: " لَا يُؤمن الرجل فِي سُلْطَانه وَلَا يجلس على تكرمته إِلَّا بِإِذْنِهِ ": أَرْجُو أَن يكون الِاسْتِثْنَاء على كُله.
وَقَالَ القَاضِي: نَص عَلَيْهِ فِي كتاب طَاعَة الرَّسُول.
قَوْلنَا: {كبعد مُفْرَدَات} ، قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": والوارد بعد مُفْرَدَات أولى بِالْكُلِّ. انْتهى.
قَالَ الْمحلي: الْوَارِد بعد مُفْرَدَات، نَحْو: تصدق على الْفُقَرَاء، وَالْمَسَاكِين، وَأَبْنَاء السَّبِيل، إِلَّا الفسقة مِنْهُم، أولى بِالْكُلِّ أَي: بعوده للْكُلّ من الْوَارِد بعد جمل لعدم اسْتِقْلَال الْمُفْردَات. انْتهى.
تَنْبِيه: قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لفظ الْجمل يُرَاد بِهِ مَا فِيهِ شُمُول لَا الْجمل النحوية، لَكِن القَاضِي أَبُو يعلى، - وَغَيره - ذكر الْأَعْدَاد من صورها وَسوى بَين قَوْله رجل، وَرجل وَبَين قَوْله رجلَيْنِ.

(6/2591)


وَذكر أَصْحَابنَا فِي الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِقْرَار والعطف إِذا تعقب جملتين هَل يعود إِلَيْهِمَا، أَو إِلَى الثَّانِيَة؟ على وَجْهَيْن كَمَا لَو عطف على مُسْتَثْنى فَهَل يصير الْمَعْطُوف، والمعطوف عَلَيْهِ كجملة، أَو كجملتين؟ على وَجْهَيْن.
وَقَالَ أَيْضا: وَكثير من النَّاس يدْخل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الِاسْتِثْنَاء المتعقب اسْما فيريدون بقَوْلهمْ جملَة الْجُمْلَة الَّتِي تقبل الِاسْتِثْنَاء، لَا يُرِيدُونَ الْجُمْلَة من الْكَلَام، وَلَا بُد من الْفرق فَإِنَّهُ فرق بَين أَن يُقَال: أكْرم هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاء إِلَّا الْفُسَّاق، أَو يُقَال: أكْرم هَؤُلَاءِ، وَأكْرم هَؤُلَاءِ إِلَّا الْفُسَّاق، ذكره فِي " المسودة "، وَابْن قَاضِي الْجَبَل عَنهُ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمَشْهُور أَن الْجُمْلَة هِيَ الاسمية من مُبْتَدأ وَخبر، والفعلية من فعل، وفاعل، وَقَالَ ابْن تَيْمِية - إِلَى آخِره - ثمَّ قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحَاصِله يرجع إِلَى أَن من عبر بِالْجُمْلَةِ فَإِنَّمَا أَرَادَ الْأَعَمّ بالتقرير الَّذِي ذكره - ابْن تَيْمِية - وَهُوَ حسن. انْتهى.
الْمَذْهَب الثَّانِي: أَنه يعود للأخيرة فَقَط، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَأكْثر أَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي " المعالم "، وَالْمجد ابْن تَيْمِية فِي

(6/2592)


" المسودة "، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " الْقَوَاعِد ": إِنَّه الْأَشْبَه.
وَنَقله صَاحب " الْمُعْتَمد " عَن الظَّاهِرِيَّة، ويحكى عَن أبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَعَن الْكَرْخِي، وَإِلَيْهِ ذهب الْفَارِسِي، والمهاباذي فِي " شرح اللمع ".
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة: إِن شَهَادَة الْقَاذِف مَرْدُودَة، وَلَو تَابَ.
الْمَذْهَب الثَّالِث: قَول جمَاعَة من الْمُعْتَزلَة، مِنْهُم: عبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن، وَمَعْنَاهُ للْقَاضِي أبي يعلى فِي " الْكِفَايَة ": إِن تبين

(6/2593)


إضراب عَن الأولى فللأخيرة وَإِلَّا فللكل ... إِلَى آخِره.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: إِن تبين الإضراب عَن الْجُمْلَة الأولى فللأخيرة، وَإِلَّا فللجميع، والإضراب إِنَّمَا يتَحَقَّق باخْتلَاف الجملتين بالنوع بِأَن تكون إِحْدَاهمَا طلبا، وَالْأُخْرَى خَبرا، مثل أَن يُقَال: جَاءَ الْقَوْم وَأكْرم بني تَمِيم إِلَّا الطوَال، أَو باختلافهما اسْما، وَلَا يكون الِاسْم فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة ضميرا للاسم فِي الْجُمْلَة الأولى، مثل: أكْرم بني تَمِيم ... ، وأهن بني خَالِد إِلَّا الطوَال.
وَمِثَال مَا يكون الِاسْم فِي الثَّانِي ضميرا للْأولِ، مثل: أكْرم بني تَمِيم واستأجرهم إِلَّا الصغار.
قلت: هَذَا معنى قَوْلنَا: أَو اسْما مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ الضَّمِير فِي الثَّانِيَة ضميرا للأولى، أَو لَا. انْتهى.
أَو باختلافهما حكما وَلَا تكون الجملتان مشتركتين فِي غَرَض، مثل: أكْرم بني تَمِيم، واستأجر بني تَمِيم إِلَّا الضُّعَفَاء.

(6/2594)


وَمِثَال مَا تكون الجملتان مشتركتين فِي غَرَض، مثل: أكْرم الضَّعِيف وَتصدق على الْفَقِير فَإِنَّهُمَا مُشْتَركا فِي غَرَض، وَهَذَا الْحمل. انْتهى.
فاعتمد على هَذَا فَإِنَّهُ مُحَرر.
وَفِي كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَفِي " قَوَاعِد الْأُصُول " نوع خلل فِيمَا يظْهر، وَالله أعلم.
الْمَذْهَب الرَّابِع: الْوَقْف؛ حَتَّى تقوم قرينَة تصرفه للْكُلّ، أَو للأخيرة، أَو للأولى، أَو للوسطى، كَمَا فِي الْأَمْثِلَة السَّابِقَة.
قَالَ سليم: وَهُوَ مَذْهَب الأشعرية.
وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن الباقلاني، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، والرازي فِي " الْمُنْتَخب "، وَفِي الْكَلَام على التَّخْصِيص من " الْمَحْصُول " التَّصْرِيح بِهِ.
وَحَكَاهُ ألكيا عَن اخْتِيَار إِمَام الْحَرَمَيْنِ.

(6/2595)


الْمَذْهَب الْخَامِس: قَول المرتضى، وَهُوَ الِاشْتِرَاك بَين عوده الْكل وللأخيرة، وَهَذَا القَوْل مُخَالف لتوقف الباقلاني وَغَيره؛ فَإِنَّهُ لعدم الْعلم بمدلوله لُغَة، وَقد غاير فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَغَيره بَين الِاشْتِرَاك وَالْوَقْف، ووافقناهم على ذَلِك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالصَّوَاب أَنه قَول وَاحِد، وَإِن اخْتلف مدرك الْوَقْف.
الْمَذْهَب السَّادِس: اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ إِن ظهر أَن الْوَاو للابتداء كالقسم الأول فللأخيرة، أَو عاطفة فللجميع، وَإِن أمكنا فالوقف.
الْمَذْهَب السَّابِع: إِن كَانَ بَينهمَا تعلق، كأكرم الْعلمَاء، والزهاد، وَأنْفق عَلَيْهِم، إِلَّا المبتدع، فللجميع، وَإِلَّا فللأخيرة.
وَفِي الْمَسْأَلَة مَذَاهِب أخر يطول الْكَلَام بذكرها فليقتصر على هَذَا الْقدر، فَفِيهِ كِفَايَة.
وَجه الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح -: أَن الْعَطف يَجْعَل الْجَمِيع كواحد.
رد: إِنَّمَا هَذَا فِي الْمُفْردَات، وَأما فِي الْجمل فَمحل النزاع.
قَالُوا: كالشرط فَإِنَّهُ للْجَمِيع، كَذَلِك هُنَا.

(6/2596)


رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ قِيَاس فِي اللُّغَة، ثمَّ الْفرق أَن الشَّرْط رتبته التَّقْدِيم لُغَة بِلَا شكّ فالجمل هِيَ الشَّرْط وَالْجَزَاء لَهَا.
قَالُوا: لَو كرر الِاسْتِثْنَاء كَانَ مستهجنا قبيحا لُغَة، ذكره الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " باتفاقهم.
رد: بِالْمَنْعِ لُغَة، قَالَه الْآمِدِيّ، وَلِهَذَا روى سعيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يؤم الرجلُ الرجل فِي سُلْطَانه إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يقْعد على تكرمته فِي بَيته إِلَّا بِإِذْنِهِ "، ثمَّ عِنْد قرينَة اتِّصَال الْجمل، ثمَّ الاستهجان لترك الِاخْتِصَار؛ لِأَنَّهُ يُمكن بعد الْجمل، إِلَّا كَذَا فِي الْجَمِيع.
قَالُوا: صَالح للْجَمِيع فَكَانَ لَهُ كالعام فبعضه تحكم.
رد: لَا ظُهُور بِخِلَاف الْعَام، وَالْجُمْلَة الْأَخِيرَة أولى لقربها.
قَالُوا: خَمْسَة، وَخَمْسَة إِلَّا سِتَّة للْجَمِيع إِجْمَاعًا، ذكره فِي " التَّمْهِيد "، فَدلَّ على أَن المُرَاد بالجمل مَا يقبل الِاسْتِثْنَاء، لَا الْجمل النحوية.

(6/2597)


وَلِهَذَا ذكر القَاضِي، وَغَيره الْأَعْدَاد من صورتهَا، وَسوى بَين قَوْله: رجل وَرجل، وَقَوله: رجلَيْنِ.
ورد: مُفْرَدَات، وَالْخلاف فِي الْجمل، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَقَالَ: فرق بَين: أكْرم هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء إِلَّا الْفُسَّاق، وَبَين: أكْرم هَؤُلَاءِ وَأكْرم هَؤُلَاءِ إِلَّا الْفُسَّاق، وَإِن سلم؛ فلتعذره ليَصِح الْكَلَام.
وَاقْتصر الْآمِدِيّ على منع صِحَة الِاسْتِثْنَاء.
وَاحْتج الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فَقَالَ: من تَأمل غَالب الاستثناءات فِي الْكتاب وَالسّنة، واللغة وجدهَا للْجَمِيع، وَالْأَصْل إِلْحَاق الْمُفْرد بالغالب، فَإِذا جعلت حَقِيقَته فِي الْغَالِب مجَازًا فِيمَا قل، عمل بِالْأَصْلِ النَّافِي للاشتراك وَالْأَصْل النَّافِي للمجاز، وَهُوَ أولى من تَركه مُطلقًا.
الْقَائِل يخْتَص بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة لم يرجع فِي آيَة الْقَذْف إِلَى الْجلد، فَكَذَا غَيرهَا دفعا للاشتراك، وَالْمجَاز.

(6/2598)


رد: بِالْمَنْعِ فِي رِوَايَة عَن أَحْمد، ثمَّ لِأَنَّهُ حق آدَمِيّ فَلَا يسْقط بِالتَّوْبَةِ؛ وَلِهَذَا عَاد إِلَى غَيره.
قَالُوا: {اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} [النِّسَاء: 23] شَرط فِي الربائب دون أُمَّهَات النِّسَاء.
رد: لَيْسَ باستثناء، ثمَّ لِأَنَّهُ من تَتِمَّة نعت الربائب، وَلِأَن {نِسَائِكُم} الأولى مجرورة بِالْإِضَافَة، وَالثَّانيَِة بِمن فتمتنع الصّفة لاخْتِلَاف الْجَرّ، كاختلاف الْعَمَل، ثمَّ للنَّص.
قَالُوا: (عَليّ عشرَة إِلَّا أَرْبَعَة، إِلَّا اثْنَيْنِ) للأخير.
رد: لَا عطف، ومفردات، ثمَّ لتعذره؛ لِأَن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي، وَمن النَّفْي إِثْبَات، وَلَو تعذر الْأَخير فَالْأول، كعشرة إِلَّا اثْنَيْنِ إِلَّا اثْنَيْنِ.
قَالُوا: الْجُمْلَة الثَّانِيَة فاصلة كالسكوت.

(6/2599)


رد: الْجمل كجملة، ثمَّ يجب أَن لَا يعود إِلَى الْجَمِيع فِي مَوضِع.
قَالُوا: ثَبت حكم الأولى، وَعوده إِلَيْهَا مَشْكُوك فِيهِ.
رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ إِنَّمَا ثَبت بِالسُّكُوتِ من غير اسْتثِْنَاء، ذكره فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، و " الرَّوْضَة "، وَغَيرهَا.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هَذَا جيد فَإِنَّهُ مَانع، لَا رَافع.
وَمنع ابْن عقيل كَالْأولِ، ثمَّ عَارض بتخصيص قَاطع بِظَاهِر.
ثمَّ يبطل بِالشّرطِ.
قَالُوا: عوده لعدم استقلاله فتندفع الضَّرُورَة بِالْأَقَلِّ، وَمَا يَلِيهِ مُتَيَقن.
رد: بِالْمَنْعِ، بل لصلاحيته، وظهوره فالجمل كجملة، ثمَّ يبطل بِالشّرطِ.
الْقَائِل بالاشتراك: حسن الِاسْتِفْهَام عَن عوده لعدم الْعلم، أَو لرفع الِاحْتِمَال.
قَالُوا: أطلق، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة.
رد: سبق تعَارض الِاشْتِرَاك وَالْمجَاز.

(6/2600)


قَوْله: {تَنْبِيهَانِ:
الأول: ألحق جمع وَالشَّيْخ - وَقَالَ: هُوَ مُوجب قَول أَصْحَابنَا وَغَيرهم -، مَا فِي معنى الْوَاو بهَا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَقَوْلنَا فِي فرض الْمَسْأَلَة: الْوَاو العاطفة. كَذَا فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا فِي بحث الْمَسْأَلَة، أَن وَاو الْعَطف تجْعَل الْجمل كجملة، وَكَذَا بحثوا أَن الْوَاو للْجمع الْمُطلق لَا تَرْتِيب فِيهَا.
وَأَنه هُوَ الْمَعْنى الْمُوجب جعل كجملة وبنوا على ذَلِك: أَنْت طَالِق، وَطَالِق، وَطَالِق إِلَّا وَاحِدَة، هَل يَصح الِاسْتِثْنَاء؟
وَأَنه لَو أَتَى بِالْفَاءِ، أَو ثمَّ لم يَصح؛ لِأَن التَّرْتِيب أفرد الْأَخِيرَة عَمَّا قبلهَا فاختص بهَا الِاسْتِثْنَاء فَلم يَصح.
وَكَذَا لم أجد إِلَّا من خص الْوَاو بذلك، إِلَّا مَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين -.

(6/2601)


إِن أَصْحَابنَا وَغَيرهم أطْلقُوا، فموجب مَا ذَكرُوهُ لَا فرق، وَأَنه يلْزم من التَّفْرِقَة أَن لَا تشترك (الْفَاء) و (ثمَّ) حَيْثُ تشترك الْوَاو، وَهُوَ خلاف للغة، وَأَن من فرق - وَهُوَ أَبُو الْمَعَالِي - قَوْله بعيد جدا، وَأَنه اعْترف بِأَن الْأَئِمَّة أطْلقُوا، كَذَا قَالَ. انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح.
قلت: صرح القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " بِأَن غير الْوَاو الَّتِي مَعْنَاهَا كالواو، فَقَالَ: إِذا عطفت بِأَيّ حرف كَانَ من فَاء، وَاو، وَغَيرهمَا. أَي: مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُمَا.
وَكَذَا أَبُو الْمَعَالِي فِي " النِّهَايَة "، فَقَالَ: إِن الظَّاهِر أَن ثمَّ، وَحَتَّى، وَالْفَاء، مثل الْوَاو فِي ذَلِك. لَكِن نقل الرَّافِعِيّ عَنهُ أَنه قَيده بِالْوَاو.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمَحْصُول ": إِنَّه لم ير التَّقْيِيد لأحد بِالْوَاو، قبل الْآمِدِيّ. انْتهى.

(6/2602)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالصَّوَاب أَن مَا كَانَ مثل الْوَاو فِي اقْتِضَاء الْمُشَاركَة كالواو.
وَعبارَة ابْن الْقشيرِي: أما إِذا اشْتَمَل الْكَلَام على جمل مُنْقَطِعَة تنبئ كل وَاحِد عَمَّا لَا تنبئ عَنهُ أخواتها، لَكِنَّهَا جمعت بِحرف من حُرُوف الْعَطف جَامع فِي مُقْتَضى الْوَضع، ثمَّ تعقب باستثناء فَهَذَا مَحل الْخلاف.
وَنَحْوه عبارَة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ.
{وَقيل: يخْتَص بِالْوَاو} ، وَهَذَا قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب، وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب، كَمَا نَقله ابْن مُفْلِح كَمَا تقدم، وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي، نَقله عَنهُ الرَّافِعِيّ، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن الساعاتي، وَغَيرهم.
قَوْله: {الثَّانِي: مثل (بني تَمِيم وَرَبِيعَة أكْرمهم إِلَّا الطوَال) للْكُلّ.

(6/2603)


قَالَ الشَّيْخ: لَو قَالَ: أَدخل بني هَاشم، ثمَّ بني الْمطلب، ثمَّ سَائِر قُرَيْش وَأكْرمهمْ، فَالضَّمِير للْكُلّ} ، ذكر ذَلِك ابْن مُفْلِح.
وَقَالَ عَن الصُّورَة الأولى: جعلهَا فِي " التَّمْهِيد " أصلا للمسألة الَّتِي قبلهَا، كَذَا قَالَ، كَأَنَّهُ يَقُول: إِن الْخلاف لَيْسَ بجار فِيهَا، وعَلى قَوْله فِي " التَّمْهِيد " الْخلاف جَار فِيهَا.
وَقَالَ عَن الصُّورَة الثَّانِيَة عَن قَوْله: الضَّمِير (للْجَمِيع) ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوع لما تقدم، وَلَيْسَ من الْمَسْأَلَة قبلهَا. انْتهى.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَهَا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، رَأَيْتهَا لَهُ فِي مَسْأَلَة استفتى عَلَيْهَا فِيمَن وقف على أَوْلَاده، ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَاده، ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَاد أَوْلَاده على أَنه من مَاتَ مِنْهُم من غير ولد، فَنصِيبه لمن فِي دَرَجَته، كتب عَلَيْهَا قريب خمس كراريس، فَقَالَ: لَو قَالَ: أَدخل بني هَاشم، ثمَّ بني الْمطلب، ثمَّ سَائِر قُرَيْش فأكرمهم، كَانَ الضَّمِير عَائِدًا إِلَى مَا تقدم ذكره،

(6/2604)


وَلَيْسَ هَذَا من بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي الِاسْتِثْنَاء المتعقب جملا، هَل يعود إِلَى الْأَخِيرَة، أَو إِلَى الْكل؟ لِأَن الْخلاف هُنَاكَ إِنَّمَا نَشأ؛ لِأَن الِاسْتِثْنَاء يرفع بعض مَا دخل فِي اللَّفْظ، وَهَذَا الْمَعْنى غير مَوْجُود فِي الضَّمِير؛ فَإِن الضَّمِير اسْم مَوْضُوع لما تقدم ذكره، وَهُوَ صَالح للْعُمُوم على سَبِيل الْجمع فَإِذا كَانَ كَذَلِك وَجب حمله على الْعُمُوم إِذا لم يقم مُخَصص، وعَلى هَذَا فَحمل الضَّمِير على الْعُمُوم حَقِيقَة، وَحمله على الْخُصُوص مثل تَخْصِيص اللَّفْظ الْعَام. انْتهى.

(6/2605)


(قَوْله: {فصل} )

أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَبِالْعَكْسِ خلافًا للحنفية} - أَي: لمعظمهم -، {ولبعضهم} - أَي بعض الْحَنَفِيَّة - {فيهمَا} - أَي: أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي لَيْسَ بِإِثْبَات، وَلَا عَكسه -.
فعلى الأول إِذا قَالَ: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما، كَانَ إِقْرَارا بِتِسْعَة، وَإِذا قَالَ: لَيْسَ لَهُ عَليّ شَيْء إِلَّا درهما، كَانَ مقرا بدرهم.
وعَلى قَول الْحَنَفِيَّة فِي: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما، تِسْعَة من حَيْثُ أَن الدِّرْهَم الْمخْرج منفي بِالْأَصَالَةِ، لَا من حَيْثُ إِن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي.

(6/2606)


وَلَا يوجبون فِي: لَيْسَ لَهُ عَليّ شَيْء إِلَّا درهما شَيْئا؛ إِذْ المُرَاد (إِلَّا درهما) فَإِنِّي لَا أحكم عَلَيْهِ بِشَيْء، وَلَا إِقْرَار إِلَّا مَعَ حكم ثَابت.
إِذا علم ذَلِك فقد حكى الرَّازِيّ، وَطَائِفَة: الْخلاف عَن الْحَنَفِيَّة فِي أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، أَو لَا، وَأَن الِاتِّفَاق على أَن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي، وَحكى الْخلاف فِي الْأَمريْنِ مَعًا الْقَرَافِيّ فَقَالَ: الْخلاف مَوْجُود عِنْدهم فيهمَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا تعَارض بَين النقلين، فَإِن من حكى تَعْمِيم الْخلاف أَرَادَ مَا قَرَّرْنَاهُ من ثُبُوت الْوَاسِطَة بَين الْحكمَيْنِ، وَهُوَ عدم الْحكمَيْنِ بِنَاء على أَن تقَابل حكم الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ يُقَابل نقيضين عِنْدهم، حكم وَعدم حكم، وتقابل شدين عِنْد الْجُمْهُور، وَمن حكى الِاتِّفَاق فِي صُورَة الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات على أَنه أَرَادَ الِاتِّفَاق على أصل النَّفْي فِيهِ، لَا على أَن النَّفْي مُسْتَند للاستثناء كَمَا قرر، فَلَا يظْهر حِينَئِذٍ للْخلاف مَعَهم فِي الْإِثْبَات فَائِدَة. انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الِاتِّفَاق على إِثْبَات نقيض مَا قبل الِاسْتِثْنَاء بعده فالجماهير يثبتون نقيض الْمَحْكُوم بِهِ، وَالْحَنَفِيَّة يثبتون نقيض الحكم فَيكون مَا بعد الِاسْتِثْنَاء غير مَحْكُوم عَلَيْهِ.
قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَبِالْعَكْسِ خلافًا لأبي حنيفَة.

(6/2607)


قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه ": الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، وَمن الْإِثْبَات نفي، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور، وَخَالف أَبُو حنيفَة فيهمَا كَمَا حَكَاهُ الْهِنْدِيّ، وَتَبعهُ المُصَنّف، لَكِن الرَّازِيّ فِي " المعالم " جعل الْخلاف فِي الأولى فَقَط، وَحكى الِاتِّفَاق على أَن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي.
اسْتدلَّ لقَوْل الْجُمْهُور، فَقَالَ ابْن مُفْلِح: لنا اللُّغَة، وَأَن قَول الْقَائِل: لَا إِلَه إِلَّا الله، تَوْحِيد، وتبادر فهم كل من سمع لَا عَالم إِلَّا زيد، وَلَيْسَ لَك على شَيْء إِلَّا دِرْهَم، إِلَى علمه، وَإِقْرَاره.
فَإِن قيل: فَلَو قَالَ: لَيْسَ لَهُ عَليّ، أَو عِنْدِي عشرَة إِلَّا خَمْسَة، قيل: لنا وللشافعية خلاف.
وَقيل: لَا يلْزمه شَيْء؛ لِأَن قَصده نفي الْخَمْسَة، وَإِلَّا لأتى بِكَلَام الْعَرَب لَيْسَ لَهُ عَليّ إِلَّا خَمْسَة.
وَقيل: يلْزمه خَمْسَة؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات من نفي؛ لِأَن التَّقْدِير: لَيْسَ لَهُ عَليّ عشرَة، لَكِن خَمْسَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا يلْزمه شَيْء عِنْد الْأَكْثَر. انْتهى.
قَالُوا: لَو كَانَ لزم من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " ثُبُوتهَا بِالطَّهَارَةِ، وَمثله: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، و " لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء ".

(6/2608)


رد: لَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء من غير الْجِنْس، وَإِنَّمَا سبق لبَيَان اشْتِرَاط الطّهُور للصَّلَاة، وَلَا يلْزم من وجود الشَّرْط وجود الْمَشْرُوط.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": هَذِه صِيغَة الشَّرْط ومقتضاها نَفيهَا عِنْد نَفيهَا، ووجودها عِنْد وجودهَا لَيْسَ منطوقا، بل من الْمَفْهُوم، فنفي شَيْء لانْتِفَاء شَيْء لَا يدل على إثْبَاته عِنْد وجوده، بل يبْقى كَمَا قبل النُّطْق بِخِلَاف لَا عَالم إِلَّا زيد.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: جعله الْمُثبت من قَاعِدَة الْمَفْهُوم لَيْسَ بجيد، وَكَذَا جعله ابْن عقيل فِي " الْفُصُول " فِي قَول أَحْمد: كل شَيْء يُبَاع قبل قَبضه إِلَّا مَا كَانَ مَأْكُولا.
وَقد احْتج القَاضِي على أَن النِّكَاح لَا يفْسد بِفساد الْمهْر بقوله: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، وشاهدي عدل "، قَالَ: فَاقْتضى الظَّاهِر صِحَّته، وَلم يفرق.
قَالَ أَصْحَابنَا: هَذِه دلَالَة ضَعِيفَة.
فَإِن قيل: فِيهِ إِشْكَال سوى ذَلِك، وَهُوَ أَن المُرَاد النَّفْي الْأَعَمّ، أَي: لَا صفة للصَّلَاة مُعْتَبرَة إِلَّا صفة الطَّهَارَة، فنفي الصِّفَات الْمُعْتَبرَة وَأثبت الطَّهَارَة.

(6/2609)


وَقيل: المُرَاد من نَفيهَا الْمُبَالغَة فِي إِثْبَات تِلْكَ الصّفة، وَأَيْضًا آكدها، وَالْقَوْل بِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع فَلَا إِشْكَال، بعيد؛ لِأَنَّهُ مفرغ فَهُوَ من تَمام الْكَلَام، وَمثله: مَا زيد إِلَّا قَائِم وَنَحْوه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: من أَدِلَّة الْجُمْهُور أَن (لَا إِلَه إِلَّا الله) لَو لم يكن الْمُسْتَثْنى فِيهِ مثبتا لم يكن كَافِيا فِي الدُّخُول فِي الْإِيمَان، وَلكنه كَاف، أَي: بِاتِّفَاق، وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله " فَجعل ذَلِك غَايَة الْمُقَاتلَة.
وَقد أجابوا بِأَن الْإِثْبَات مَعْلُوم، وَإِنَّمَا الْكفَّار يَزْعمُونَ شركه فنفيت الشّركَة بذلك، أَو أَنه وَإِن كَانَ لَا يُفِيد الْإِثْبَات بِالْوَضْعِ اللّغَوِيّ لَكِن يفِيدهُ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيّ، فَإِن الْمَقْصُود نفي الشَّرِيك وَهُوَ مُسْتَلْزم للثبوت، فَإِذا قلت: لَا شريك لفُلَان فِي كرمه، اقْتضى أَن يكون كَرِيمًا.
وَأَيْضًا فالقرائن تَقْتَضِي الْإِثْبَات؛ لِأَن كل متلفظ بهَا ظَاهر قَصده إثْبَاته وَاحِدًا لَا للتعطيل.
رد ذَلِك: بِأَن الحكم قد علق بهَا بمجردها فَاقْتضى ذَلِك أَنَّهَا تدل بلفظها دون شَيْء زَائِد فِي الأَصْل عَدمه.
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْإِلْمَام ": كل هَذَا عِنْدِي تشغيب

(6/2610)


ومراوغات جدلية، وَالشَّرْع خَاطب النَّاس بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَأمرهمْ [بهَا] لإِثْبَات مَقْصُود التَّوْحِيد، وَحصل الْفَهم لذَلِك مِنْهُم من غير احْتِيَاج لأمر زَائِد، وَلَو كَانَ وضع اللَّفْظ لَا يَقْتَضِي ذَلِك لَكَانَ أهم الْمُهِمَّات أَن يعلمنَا الشَّارِع مَا يَقْتَضِيهِ بِالْوَضْعِ من غير احْتِيَاج لأمر آخر فَإِن ذَلِك الْمَقْصُود الْأَعْظَم فِي الْإِسْلَام. انْتهى.
وَمن أَدِلَّة الْجُمْهُور أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عذَابا} [النبأ: 30] ، وَهُوَ ظَاهر.
وَأما أَدِلَّة الْحَنَفِيَّة، فَمن أعظمها أَنه لَو كَانَ كَذَلِك للَزِمَ فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " أَن من تطهر يكون مُصَليا، أَو تصح صلَاته، وَإِن فقد بَقِيَّة الشُّرُوط.
وَجَوَابه: أَن الْمُسْتَثْنى مُطلق يصدق بِصُورَة مَا لَو تَوَضَّأ، وَصلى فَيحصل الْإِثْبَات، لَا أَنه عَام حَتَّى يكون كل متطهر مُصَليا.
وَأَيْضًا فَهُوَ اسْتثِْنَاء شَرط، أَي: لَا صَلَاة إِلَّا بِشَرْط الطَّهَارَة، وَمَعْلُوم أَن وجود الشَّرْط [لَا يلْزم مِنْهُ وجود الْمَشْرُوط، وَأَيْضًا فالمقصود الْمُبَالغَة فِي

(6/2611)


هَذَا الشَّرْط] دون سَائِر الشُّرُوط؛ لِأَنَّهُ آكِد فَكَأَنَّهُ لَا شَرط غَيره لَا أَن الْمَقْصُود نفي جَمِيع الصِّفَات.
وَأَيْضًا فقد قيل: الِاسْتِثْنَاء فِيهِ مُنْقَطع وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ، وَضَعفه ابْن الْحَاجِب على أَن هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لَا يعرف، إِنَّمَا الْمَعْرُوف: " لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور " أخرجه مُسلم، لَكِن فِي ابْن ماجة: " لَا تقبل صَلَاة إِلَّا بِطهُور "، وَلَو مثلُوا بِحَدِيث: " لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب " الثَّابِت فِي " الصَّحِيحَيْنِ " لَكَانَ أَجود، وَالله أعلم.
فَائِدَة: مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة مُوَافق لقَوْل نحاة الْكُوفَة، وَمَا قَالَه الْجُمْهُور مُوَافق لقَوْل سِيبَوَيْهٍ والبصريين، وَمحل الْخلاف فِي الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل؛ لِأَنَّهُ فِيهِ إِخْرَاج، أما الْمُنْقَطع فَالظَّاهِر أَن مَا بعد (إِلَّا) فِيهِ مَحْكُوم

(6/2612)


عَلَيْهِ بضد الحكم السَّابِق فَإِن مساقه هُوَ الحكم بذلك فنحو: {مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} [النِّسَاء: 157] المُرَاد أَن لَهُم بِهِ اتِّبَاع الظَّن لَا الْعلم، وَإِن لم يكن الظَّن دَاخِلا فِي الْعلم، وَقس عَلَيْهِ.
لَكِن هَل يجْرِي الْخلاف فِي المفرغ؟
قيل: الظَّاهِر، لَا، وَأَن الِاسْتِثْنَاء فِيهِ إِثْبَات قطعا؛ لِأَن قَوْلك: مَا قَامَ إِلَّا زيد، لَيْسَ مَعَك شَيْء يثبت لَهُ الْقيام فَيكون فَاعِلا إِلَّا زيد فَيكون مُتَعَيّنا للإثبات بِالضَّرُورَةِ بِخِلَاف قَوْلك: مَا قَامَ أحد إِلَّا زيد.
وَحكى الْقَرَافِيّ فِي " العقد المنظوم " عَن الْحَنَفِيَّة أَنهم أجروا الْخلاف فِي المفرغ أَيْضا، قَالَ: ويلزمهم أَن يعربوا زيدا فِيمَا قَامَ إِلَّا زيد بَدَلا، لَا فَاعِلا وَيكون الْفَاعِل مضمرا، أَي: مَا قَامَ أحد إِلَّا زيد، لَكِن حذف الْفَاعِل مُمْتَنع عِنْد النُّحَاة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِن قلت: لَا بُد فِي الِاسْتِثْنَاء المفرغ من معنى مَحْذُوف يسْتَثْنى مِنْهُ وَإِن لم يقدر لَفظه على الْمُرَجح، فَالْقَوْل بجريان الْخلاف فِيهِ غير بعيد. انْتهى.

(6/2613)


تَنْبِيه: إِذا علم الْأَمْرَانِ: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، وَمن الْإِثْبَات نفي ترَتّب عَلَيْهَا تعدد الِاسْتِثْنَاء، نَحْو: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا تِسْعَة، إِلَّا ثَمَانِيَة إِلَّا سَبْعَة، إِلَّا سِتَّة، إِلَّا خَمْسَة، إِلَّا أَرْبَعَة، إِلَّا ثَلَاثَة، إِلَّا اثْنَيْنِ، إِلَّا وَاحِدًا، وَقد بَينا كَيْفيَّة الْعَمَل فِي ذَلِك فِي " الْإِنْصَاف " فِي الْإِقْرَار.
وَاعْلَم أَن للمسألة أحوالا:
الأولى: مَا ذكرنَا من الْمِثَال، ولاستخراج الحكم من ذَلِك طرق للنحاة وَغَيرهم:
إِحْدَاهَا: طَريقَة الْإِخْرَاج وجبر الْبَاقِي بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي، وَهَكَذَا إِلَى آخِره، فَإِذا قَالَ: لَهُ عشرَة إِلَّا تِسْعَة ... إِلَى آخِره، فَنَقُول: أخرج تِسْعَة بِالِاسْتِثْنَاءِ الأول، جبر مَا بَقِي - وَهُوَ وَاحِد - بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي وَهُوَ ثَمَانِيَة - فَصَارَ تِسْعَة، ثمَّ خرج بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّالِث سَبْعَة، بَقِي اثْنَان فجبره بالرابع - وَهُوَ سِتَّة - فَصَارَ ثَمَانِيَة، ثمَّ خرج بالخامس خَمْسَة فَبَقيَ ثَلَاثَة، فجبر بالسادس - وَهُوَ أَرْبَعَة - فَصَارَ سَبْعَة، ثمَّ خرج بالسابع ثَلَاثَة فَبَقيَ أَرْبَعَة فجبر بالثامن - وَهُوَ اثْنَان - فَصَارَ الْبَاقِي سِتَّة، وَأخرج مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ التَّاسِع وَاحِد فَصَارَ الْمقر بِهِ خَمْسَة.

(6/2614)


الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: أَن يحط الآخر مِمَّا يَلِيهِ، وَهَكَذَا إِلَى الأول فتحط وَاحِدًا من اثْنَيْنِ يبْقى وَاحِد، تحطه من ثَلَاثَة يبْقى اثْنَان تحطهما من أَرْبَعَة يبْقى اثْنَان تحطهما من خَمْسَة يبْقى ثَلَاثَة تحطها من سِتَّة يبْقى ثَلَاثَة تحطها من سَبْعَة يبْقى أَرْبَعَة، تحطها من ثَمَانِيَة يبْقى أَرْبَعَة تحطها من تِسْعَة، يبْقى خَمْسَة، تحطها من عشرَة يبْقى الْمقر بِهِ خَمْسَة.
الطَّرِيقَة الثَّالِثَة: أَن تجْعَل كل وتر من الِاسْتِثْنَاء خَارِجا، وكل شفع مَعَ الأَصْل دَاخِلا فِي الحكم فَمَا اجْتمع فَهُوَ الْحَاصِل فَيسْقط مَا اجْتمع من الْخَارِج مِمَّا اجْتمع من الدَّاخِل فَهُوَ الْجَواب فالعشرة وَالثَّمَانِيَة والستة وَالْأَرْبَعَة، والاثنان ثَلَاثُونَ هُوَ الْمخْرج مِنْهَا، والتسعة، والسبعة، والخمسة، وَالثَّلَاثَة، وَالْوَاحد خَمْسَة، وَعِشْرُونَ هِيَ المخرجة يبْقى خَمْسَة.
الطَّرِيقَة الرَّابِعَة: إِن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَولا إِن كَانَ شفعا كالعشرة فِي مثالنا، فَخذ لكل اسْتثِْنَاء من الأوتار وَاحِدًا، واجمعه، وأسقطه مِنْهُ فالباقي الْجَواب، فعدد الاستثناءات الأوتار خَمْسَة تسقطها من الْعشْرَة يبْقى خَمْسَة، وَإِن كَانَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَولا وترا كَقَوْلِه: لَهُ عَليّ أحد عشرَة إِلَّا عشرَة، إِلَّا

(6/2615)


تِسْعَة ... إِلَى آخِره، فَخذ عدد الاستثناءات الأشفاع وَهُوَ خَمْسَة، وأسقطها من الْأَحَد عشرَة، وَالْبَاقِي سِتَّة وَهُوَ الْجَواب، لَكِن هَذِه الطَّرِيقَة لَا تتأتى إِلَّا فِي استثناءات مُتَوَالِيَة بِحَيْثُ لَا يكون بَين كل وَاحِد من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ والمستثنى شَيْء، كَمَا فِي مثالنا فَتَأَمّله، وَلَهُم طرق غير ذَلِك يطول الْكتاب بذكرها.
قَوْله: {وَاسْتثنى الْقَرَافِيّ الشَّرْط} ، فَقَالَ فِي " شرح التَّنْقِيح ": قَول الْعلمَاء الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات لَيْسَ على إِطْلَاقه؛ لِأَن الِاسْتِثْنَاء يَقع فِي الْأَحْكَام نَحْو: قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَمن الْمَوَانِع نَحْو: لَا تسْقط الصَّلَاة عَن الْمَرْأَة إِلَّا بِالْحيضِ، وَمن الشُّرُوط وَنَحْو: {لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور} .
فالاستثناء من الشُّرُوط مُسْتَثْنى من كَلَام الْعلمَاء فَإِنَّهُ لَا يلْزم من الْقَضَاء بِالنَّفْيِ لأجل عدم الشَّرْط أَن يقْضِي بالوجود لأجل وجود الشَّرْط لما علم من أَن الشَّرْط لَا يلْزم من وجوده الْوُجُود وَلَا الْعَدَم، فَقَوْلهم: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات يخْتَص بِمَا عدا الشَّرْط؛ لِأَنَّهُ {لم يقل أحد} من الْعلمَاء {إِنَّه يلْزم من وجود الشَّرْط وجود الْمَشْرُوط} .
وبهذه الْقَاعِدَة يحصل الْجَواب عَن شُبْهَة الْحَنَفِيَّة فَإِن النُّصُوص الَّتِي ألزمونا بهَا كلهَا من بَاب الشُّرُوط، وَهِي لَيست من صور النزاع، فَلَا تلزمنا. انْتهى.
وَقد تقدم من بحث الْمَسْأَلَة الْجَواب على ذَلِك بِمَا فِيهِ كِفَايَة.

(6/2616)


(قَوْله: {فصل} )

{إِذا عطف اسْتثِْنَاء على اسْتثِْنَاء أضيف إِلَى الأول} .
فعشرة إِلَّا ثَلَاثَة، وَإِلَّا اثْنَيْنِ، كعشرة إِلَّا خَمْسَة، وَأَنت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَة، وَإِلَّا وَاحِدَة يَلْغُو الثَّانِي إِن بَطل اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، وَإِلَّا وَقع وَاحِدَة فَيرجع الْكل المتعاطف إِلَى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ حملا للْكَلَام على الصِّحَّة مَا أمكن فَإِن عود كل لما يَلِيهِ قد تعذر بانفصاله بأداة الْعَطف، هَذَا إِذا لم يلْزم من عود الْكل الِاسْتِغْرَاق أَو الْأَكْثَر على الصَّحِيح كَمَا مثلنَا فِي الطَّلَاق.
قَوْله: {وَإِلَّا اسْتثِْنَاء من اسْتثِْنَاء} ، يَعْنِي: وَإِن لم تكن متعاطفة فَيكون اسْتثِْنَاء من اسْتثِْنَاء، {يَصح إِجْمَاعًا} ، قَالَه فِي " أُصُوله ".
وَحكى ابْن الْعِرَاقِيّ عَن بَعضهم مَنعه، وَحكى الْمحلي فِي " الذَّخَائِر " أَن بعض الْفُقَهَاء، حكى الْمَنْع عَن بعض أهل الْعَرَبيَّة، وَحَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ عَن بعض أهل اللُّغَة، وَعلل ذَلِك الْبرمَاوِيّ.

(6/2617)


فعلى الأول لَو قَالَ: عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، إِلَّا درهما يلْزمه ثَمَانِيَة؛ لِأَنَّهُ من الْإِثْبَات نفي وَمن نفي إِثْبَات.
وَأَنت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَة، إِلَّا وَاحِدَة، فَقيل: يَلْغُو الثَّانِيَة فَيَقَع اثْنَتَانِ، وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
وَقيل: لَا، فَيَقَع ثَلَاث؛ لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء أَكثر؛ لِأَنَّهُ نفي من إِثْبَات، وَاسْتدلَّ لجَوَاز الِاسْتِثْنَاء من الِاسْتِثْنَاء بقوله تَعَالَى: {إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا} الْآيَة [الْحجر: 59، 60] .
وعللوا الْوَجْه الضَّعِيف الَّذِي يَقُول صَاحبه بِالْمَنْعِ بِأَن الْعَامِل فِي الِاسْتِثْنَاء الْفِعْل الأول بتقوية حرف الِاسْتِثْنَاء، وَالْعَامِل لَا يعْمل فِي معمولين.
وَأَجَابُوا عَم اسْتدلَّ بِهِ الْجُمْهُور من قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين (58) إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا} بِأَن الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي وَهُوَ {إِلَّا امْرَأَته} إِنَّمَا هُوَ من قَوْله: {أَجْمَعِينَ} .
قَوْله: {تَنْبِيه: تقدم الشَّرْط} ، أَي تقدم الشَّرْط، وَأَحْكَامه وَحده، وأقسامه وَمَا يتَعَلَّق بِهِ فِي خطاب الْوَضع.

(6/2618)


قَوْله: {وَيخْتَص اللّغَوِيّ مِنْهُ عرفا بِكَوْنِهِ مُخَصّصا} .
ذكر الأصوليون الشَّرْط من المخصصات كَمَا تقدم فِي تعدادها، وَالْمرَاد بِالشّرطِ الْمُخَصّص هُنَا هُوَ الشَّرْط اللّغَوِيّ لَا غير، وَإِن كَانَ قد أطلق الأصوليون الشَّرْط هُنَا، وَبَعْضهمْ قَيده.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": الشَّرْط ثَلَاثَة أَقسَام، ثمَّ قَالَ: الثَّانِي اللّغَوِيّ، وَالْمرَاد بِهِ صِيغ التَّعْلِيق ب (إِن) وَنَحْوهَا، وَهُوَ مَا يذكر فِي أصُول الْفِقْه فِي المخصصات للْعُمُوم، نَحْو: {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاق: 6] ، وَمِنْه قَوْلهم فِي الْفِقْه: الْعتْق الْمُعَلق على شَرط، وَالطَّلَاق الْمُعَلق على شَرط.
وَهَذَا كَمَا قَالَ الْقَرَافِيّ وَغَيره يرجع إِلَى كَونه سَببا حَتَّى يلْزم من وجود الْوُجُود، وَمن عَدمه الْعَدَم لذاته، وَوهم من فسره هُنَاكَ بتفسير الشَّرْط الْمُقَابل للسبب وَالْمَانِع، كَمَا وَقع لكثير من الْأُصُولِيِّينَ، فَجعل الْمُخَصّص

(6/2619)


هُنَا من الشَّرْط اللّغَوِيّ، وَوهم من قَالَ غَيره.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": الثَّانِي من المخصصات الشَّرْط عقليا كالحياة للْعلم، أَو شَرْعِيًّا كالإحصان مَعَ الرَّجْم، وعاديا كالسلم مَعَ الصعُود.
فَجعل الْمُخَصّص الشَّرْط بأقسامه، لَكِن لم يَجْعَل من أقسامه اللّغَوِيّ بل لم يذكرهُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا أَن تكون النُّسْخَة مغلوطة، فَإِن لم تكن مغلوطة فَفِي كَلَامه نظر من وَجْهَيْن.
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ " فِي المخصصات: وَاعْلَم أَن الشَّرْط قد يكون شَرْعِيًّا، وَقد يكون عقليا، وَقد يكون لغويا، وَكَلَام الإِمَام يَقْتَضِي أَن الْمَحْدُود هُوَ الشَّرْط الشَّرْعِيّ. انْتهى.
وَظَاهر كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن مُفْلِح أَن الْمَحْدُود فِي المخصصات يَشْمَل الشُّرُوط الثَّلَاثَة، فَإِن ابْن قَاضِي الْجَبَل قَالَ لما ذكر حد الْمُوفق، وَالْغَزالِيّ: وَلَا يمْنَع لُزُوم الدّور بِحمْل الشَّرْط على اللّغَوِيّ؛ إِذْ الْمَحْدُود

(6/2620)


هُوَ الشَّرْط الَّذِي هُوَ أَعم من الْعقلِيّ، والشرعي، واللغوي. انْتهى.
قلت: وَمِمَّا يدل على أَن المُرَاد الشَّرْط اللّغَوِيّ تمثيلهم بذلك.
قَوْله: {وَهُوَ مخرج مَا لولاه لدخل} ، كَقَوْلِك: (أكْرم بني تَمِيم إِن دخلُوا) فيقصره الشَّرْط على من دخل، وَأكْرمهمْ أبدا إِن قدرت، وَإِن خرج عدم الْقُدْرَة بِالْعقلِ لَا يُنَافِي الدُّخُول لُغَة.
قَوْله: {ويتحد، ويتعدد، على الْجمع، وَالْبدل} ، ثَلَاثَة أَقسَام كل مِنْهَا مَعَ {الْجَزَاء كَذَلِك تكمل تِسْعَة} .
الشَّرْط قد يتحد، مثل: إِن دخل زيد الدَّار، وَقد يَتَعَدَّد إِمَّا على سَبِيل الْجمع، مثل: إِن دخل زيد الدَّار، والسوق، وَإِمَّا على سَبِيل [الْبَدَل] مثل: إِن دخل الدَّار، أَو السُّوق، فَيكون ثَلَاثَة أَقسَام.
وكل من هَذِه الثَّلَاثَة إِمَّا أَن يكون جَزَاؤُهُ متحدا، مثل: أكْرمه، أَو مُتَعَددًا، إِمَّا على سَبِيل الْجمع مثل: أكْرمه وأعطه، أَو على سَبِيل الْبَدَل مثل: أكْرمه، أَو أعْطه، فَتكون الْأَقْسَام تِسْعَة.
قَوْله: {وَله صدر الْكَلَام يتَقَدَّم على الْجَزَاء لفظا؛ لتقدمه عَلَيْهِ فِي الْوُجُود طبعا، فَإِن أخر لفظا فَأكْثر النُّحَاة أَن مَا تقدم لَيْسَ بجزاء بل قَامَ

(6/2621)


مقَامه، وَدلّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَحْذُوف} .
اعْلَم أَن قَول النُّحَاة: أكرمتك إِن دخلت الدَّار، خبر، وَالْجَزَاء مَحْذُوف مُرَاعَاة لتقدم الشَّرْط، كتقدم الِاسْتِفْهَام، وَالْقسم.
قَالَ ابْن مَالك فِي " التسهيل ": لأداة الشَّرْط صدر الْكَلَام فَإِن تقدم عَلَيْهَا شَبيه بِالْجَوَابِ معنى فَهُوَ دَلِيل الْجَواب، وَلَيْسَ إِيَّاه خلافًا للكوفيين، والمبرد، وَأبي زيد. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": إِن عنوا أَن الْمُقدم لَيْسَ بجزاء للشّرط فِي اللَّفْظ فَمُسلم، وَإِن عنوان أَنه لَيْسَ بجزاء للشّرط لَا لفظا، وَلَا معنى، فَهُوَ عناد؛ لِأَن الْإِكْرَام يتَوَقَّف على الدُّخُول فَيتَأَخَّر عَنهُ من حَيْثُ الْمَعْنى فَيكون جَزَاء لَهُ معنى.
قَالَ: وَالْحق أَنه لما كَانَ الْمُتَقَدّم أَي (أكرمتك) جملَة مُسْتَقلَّة من حَيْثُ اللَّفْظ دون الْمَعْنى، روعيت الشائبتان فِيهِ، أَي: شَائِبَة الِاسْتِقْلَال من حَيْثُ

(6/2622)


اللَّفْظ فَحكم بِكَوْنِهِ جَزَاء، وشائبة عدم الِاسْتِقْلَال من حَيْثُ الْمَعْنى فَحكم بِأَن الْجَزَاء مَحْذُوف لكَونه مَذْكُورا من حَيْثُ الْمَعْنى. انْتهى.
قَوْله: {وَهُوَ كاستثناء فِي اتِّصَاله بالمشروط} بِلَا خلاف، وَلَكِن قَوْله إِن شَاءَ الله يُسمى اسْتثِْنَاء، وَأَنه كالاستثناء فِي الِاتِّصَال، وَأَنه عِنْد بَعضهم أَنه مَحل الْخلاف، {وَإِن تعقب جملا متعاطفة فللكل عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
وَذكره أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " إِجْمَاعًا.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": سلمه الْأَكْثَر.
{وَقيل: يخْتَص بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تليه} حَتَّى إِن كَانَ مُتَأَخِّرًا اخْتصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة أَو مُتَقَدما اخْتصَّ بِالْأولَى، اخْتَارَهُ بعض الأدباء، وَقد حَكَاهُ الصَّيْرَفِي قبل قَوْله هَذَا.

(6/2623)


وَحكى الْغَزالِيّ عدم عوده للْجَمِيع عَن الأشعرية.
وَحكى الْمَاوَرْدِيّ، وَابْن كج عَن أبي حنيفَة أَنه كالاستثناء فِي اخْتِصَاصه بالأخيرة.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": وَهُوَ كالاستثناء فِي الِاتِّصَال وَفِي تعقبه الْجمل، وَعَن أبي حنيفَة للْجَمِيع فَفرق. انْتهى.
وَاخْتَارَ الْفَخر الرَّازِيّ التَّوَقُّف كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء، وعَلى كل حَال هُوَ أولى بِالْعودِ إِلَى الْكل من الِاسْتِثْنَاء بِدَلِيل مُوَافقَة أبي حنيفَة عَلَيْهِ.
مِثَاله: أكْرم تميما، وَأعْطِ مضرا إِن نزلُوا بِكَذَا.
قَوْله: {وَيجوز إِخْرَاج الْأَكْثَر بِهِ} . قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": اتَّفقُوا على أَنه يحسن التَّقْيِيد بِشَرْط أَن يكون الْخَارِج مِنْهُ أَكثر من الْبَاقِي، وَإِن اخْتلفُوا فِيهِ فِي الِاسْتِثْنَاء. انْتهى.

(6/2624)


فَلَو قَالَ: أكْرم بني تَمِيم إِن كَانُوا عُلَمَاء، وَكَانَ الْجُهَّال أَكثر جَازَ، بل وَلَو كَانَ الْكل جُهَّالًا، يخرج الْكل بِالشّرطِ.
قَوْله: {فَائِدَة: يحصل الْمُعَلق على الشَّرْط وَالْعقد} ، أَي: وَيحصل العقد بعد وجود الشَّرْط، وَالْقَبُول فِي العقد.
{وَقَالَ أَكثر الْمُتَكَلِّمين، وَابْن عبد السَّلَام: مَعَه} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَل يحصل الشَّرْط مَعَ الْمَشْرُوط، أَو بعده؟ وَكَذَلِكَ قَوْلك: بِعْتُك، أَو وَهبتك، هَل يحصل مَعَ الْكَاف، أَو بعْدهَا؟ على قَوْلَيْنِ، الْأَكْثَرُونَ من الْمُتَكَلِّمين على أَنَّهَا مَعهَا، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن عبد السَّلَام، وَالثَّانِي: بعده، وَهُوَ الصَّحِيح، قَاس الْأَولونَ الشَّرْط على الْعلَّة الْعَقْلِيَّة، وَالتَّحْقِيق الْمَنْع فيهمَا؛ وَلِهَذَا يدْخل فِي كَسرته فانكسر إِلَى غير ذَلِك. انْتهى.
قلت: وَمَا صَححهُ هُوَ ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب فِي تَعْلِيق الطَّلَاق بِالشُّرُوطِ.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": يُوجد الْمُسَبّب مَعَ السَّبَب على الْمُرَجح كوجود الْعتْق وَالطَّلَاق الْمُعَلق على شَرط، على الْأَصَح فِي الْمَذْهَب، كَمَا

(6/2625)


قَالَه الرَّافِعِيّ وَغَيره، وَهُوَ اخْتِيَار الْأَشْعَرِيّ، والمحققين كَالْإِمَامِ وَالْغَزالِيّ وَابْن عبد السَّلَام وَغَيرهم.
وَاخْتَارَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَأَتْبَاعه الْوُقُوع عقبه من غير تخَلّل زمَان. انْتهى.
قَوْله: {والتخصيص بِالصّفةِ كالاستثناء فِي الْعود وَلَو تقدّمت} . من جملَة المخصصات الْمُتَّصِلَة الْوَصْف.
وَالْمرَاد بِهِ: مَا أشعر بِمَعْنى ينعَت بِهِ أَفْرَاد الْعَام سَوَاء كَانَ نعتا، أَو عطف بَيَان، أَو حَالا، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك مُفردا، أَو جملَة، أَو شبهها، وَهُوَ الظروف، وَالْجَار، وَالْمَجْرُور، وَلَو كَانَ جَامِدا مؤولا بمشتق.

(6/2626)


لَكِن يخرج من ذَلِك أَن يكون الْوَصْف خرج مخرج الْغَالِب فيطرح مَفْهُومه كَمَا يَأْتِي فِي المفاهيم، أَو يساق الْوَصْف لمدح أَو ذمّ، أَو ترحم، أَو توكيد، أَو تَفْصِيل فَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك مُخَصّصا للْعُمُوم.
مِثَال التَّخْصِيص بِالصّفةِ: أكْرم بني تَمِيم الداخلين، فيقصر الْإِكْرَام عَلَيْهِم.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا، والآمدي، وَجمع: هِيَ كالاستثناء فِي الْعود كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَلَو تقدّمت} ، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر، مثل قَوْله: وقفت على محتاجي أَوْلَادِي، وَأَوْلَادهمْ، فتشترط الْحَاجة فِي أَوْلَاد الْأَوْلَاد.
{وَقيل: يخْتَص بِمَا وليته إِن توسطت} .
قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": أما المتوسطة فالمختار اختصاصها بِمَا وليته.

(6/2627)


مثل ذَلِك: على أَوْلَادِي المحتاجين وَأَوْلَادهمْ.
قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: لَا نعلم فِيهَا نقلا، وَيظْهر اختصاصها بِمَا وليته.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَيدل على اختصاصها بِمَا وليته مَا نَقله الرَّافِعِيّ فِي الْأَيْمَان عَن ابْن كج أَنه لَو قَالَ: عَبدِي حر - إِن شَاءَ الله -، وامرأتي طَالِق، وَنوى صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا، إِلَى آخِره فَإِن مَفْهُومه أَنه لَو لم ينْو لما عَاد إِلَى مَا بعده، وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الشَّرْط الَّذِي لَهُ صدر الْكَلَام، وَقد قَالَ بعوده للْجَمِيع بعض من لَا يَقُول بِعُود الِاسْتِثْنَاء وَالصّفة للْجَمِيع فَلِأَن يجْرِي مثل ذَلِك فِي الصّفة من بَاب أولى.
قَوْله: {وبغاية} . من المخصصات الْغَايَة، وَالْمرَاد بهَا أَن يَأْتِي بعد الْعَام حرف من أحرف الْغَايَة ك (إِلَى، وَحَتَّى، وَاللَّام) مِثَال اللَّام قَوْله تَعَالَى: {سقناه لبلد ميت} [الْأَعْرَاف: 57] أَي إِلَى، وَمثله {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أَي أوحى إِلَيْهَا، وكأو أَيْضا فِي قَوْله:
(لأستسهلن الصعب أَو أدْرك المنى ... )

(6/2628)


أَي: إِلَى، وَرُبمَا كَانَت (إِلَى) بِمَعْنى (مَعَ) كَمَا تقدم.
وَحَتَّى للابتداء، نَحْو:
(حَتَّى مَاء دجلة أشكل ... )

وَمِثَال حَتَّى، وَإِلَى: أكْرم بني تَمِيم أَو حَتَّى أَو إِلَى أَن يدخلُوا، فيقصر على غَيرهم كالاستثناء بعد الْجُمْلَة يشْتَرط فِيهَا الِاتِّصَال، وَكَذَا إِذا وليت مُتَعَددًا يعود إِلَى الْكل، نَحْو: وقفت على أَوْلَادِي وَأَوْلَاد أَوْلَادِي إِلَى أَن يستغنوا.
وَكَذَا فِي إِخْرَاج الْأَكْثَر، قَالَه الْبرمَاوِيّ وَغَيره، وَقَالَ: وَقَول ابْن الْحَاجِب، و " جمع الْجَوَامِع " إِنَّهَا كالاستثناء فِي الْعود، لَيْسَ الْمَقْصُود الْقصر على الْعود، بل تعرضا لَهُ لكَونه أهم.
قَوْله: {وَمَا بعْدهَا مُخَالف عِنْد الْأَكْثَر} ، أَي: مُخَالف لما قبلهَا، أَي: مَحْكُوم عَلَيْهِ بنقيض حكمه؛ لِأَن مَا بعْدهَا لَو لم يكن مُخَالفا لما قبلهَا لم تكن غَايَة، بل وسطا بِلَا فَائِدَة، قَالَ الله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] فَلَيْسَ شَيْء من اللَّيْل دَاخِلا قطعا.

(6/2629)


قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، وَالْجُمْهُور، كَمَا قَالَه أَبُو الْمَعَالِي.
{وَقَالَ} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني} : مُخَالف لما بعْدهَا {نطقا} .
وَيَأْتِي فِي مَفْهُوم الْغَايَة لَفظه وتحريره.
وَقيل: مَا بعْدهَا لَيْسَ مُخَالفا لما قبلهَا، بل هُوَ دَاخل مُطلقًا.
وَقيل: مُخَالفا بِمَا بعْدهَا إِن كَانَ مَعهَا (من) نَحْو: بِعْتُك من هَذَا إِلَى هَذَا.
{وَقَالَ الرَّازِيّ: إِن تميز عَمَّا قبله بالحس لم يدْخل، وَإِلَّا دخل} .
والتمييز نَحْو: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} فَإِن لم يتَمَيَّز حسا اسْتمرّ ذَلِك الحكم على مَا بعْدهَا، {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} [الْمَائِدَة: 6] فَإِن الْمرْفق غير مُنْفَصِل عَن الْيَد بفصل محسوس.
{وَقيل: إِن كَانَ المغيا عينا، أَو وقتا لم يدْخل، وَإِلَّا دخل} . قَالَه بعض الْحَنَفِيَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] ؛ لِأَن

(6/2630)


الْغَايَة هُنَا فعل وَالْفِعْل لَا يدْخل بِنَفسِهِ مَا لم يفعل، وَمَا لم تُوجد الْغَايَة لَا يَنْتَهِي المغيا فَلَا بُد من وجود الْفِعْل الَّذِي هُوَ غَايَة النَّهْي؛ لانْتِهَاء النَّهْي فَيبقى الْفِعْل دَاخِلا فِي النَّهْي.
وَقيل: دَاخل إِن كَانَ من الْجِنْس، نَحْو: (بِعْتُك الرُّمَّان إِلَى هَذِه الشَّجَرَة وَالْوَاقِع أَنَّهَا رمانة) ، وَإِلَّا فَلَا.
{قَالَ الْآمِدِيّ: لَا تدل} الْغَايَة {على شَيْء} ، يَعْنِي: لَا تدل على أَن مَا بعْدهَا مُخَالف وَلَا مُوَافق.
وَتقدم عِنْد الْكَلَام على (إِلَى) فِي الْحُرُوف مَا يتَعَلَّق بِهَذَا، وَذكرنَا هُنَاكَ أقوالا لم نذكرها هَاهُنَا.
فَائِدَة غَايَة الشَّيْء طرفه ومنتهاه، ثمَّ تطلق تَارَة على الْحَرْف، كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى مطلع الْفجْر} [الْقدر: 5] ، {حَتَّى يطهرن} ، {إِلَى الْمرَافِق} {إِلَى اللَّيْل} .
فَإِذا قيل: الْغَايَة هَل تدخل فِي المغيا، أَو لَا تدخل؟

(6/2631)


فَيُقَال: إِن أُرِيد بِالْمَعْنَى الأول - وَهُوَ طرف الشَّيْء ومنتهاه - فداخلة قطعا وَإِن أُرِيد مَا بعد الَّذِي دخل عَلَيْهِ الْحَرْف فَلَا خلاف فِي عدم دُخُوله، وَإِن أُرِيد نفس مَا دخل عَلَيْهِ حرف الْغَايَة فَهُوَ مَحل الْخلاف الَّذِي ذَكرْنَاهُ قبل، الْمعبر عَنهُ بِمَا بعد الْغَايَة هَل يدْخل فِيمَا قبلهَا؟ فَإِن الْغَايَة هُنَا نفس الْحَرْف، وَمَا دخل عَلَيْهِ هُوَ مَا بعد الْغَايَة فَليعلم ذَلِك.
قَوْله: {وَمحله فِي غَايَة تقدمها عُمُوم يشملها لَو لم تأت، بِخِلَاف {حَتَّى مطلع الْفجْر} وَقطعت أَصَابِعه كلهَا من الْخِنْصر إِلَى الْإِبْهَام، فالغاية فِي الأولى خَارِجَة قطعا، وَفِي الثَّانِيَة دَاخِلَة قطعا} .
قَالَ السُّبْكِيّ الْكَبِير: قَول الْأُصُولِيِّينَ إِن الْغَايَة من المخصصات إِنَّمَا هُوَ إِذا تقدمها عُمُوم يشملها لَو لم يُؤْت بهَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} [التَّوْبَة: 29] فلولا الْغَايَة لقاتلنا الْكفَّار أعْطوا أَو لم يُعْطوا، أما نَحْو: " رفع الْقَلَم عَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ، وَعَن النَّائِم عَن يَسْتَيْقِظ، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق "، وَلَو سكت عَن الْغَايَة لم يكن الصَّبِي شَامِلًا للبالغ، وَلَا النَّائِم

(6/2632)


للمستيقظ وَلَا الْمَجْنُون للمفيق، فَذكر الْغَايَة فِي ذَلِك إِمَّا تَأْكِيد لتقرير أَن أزمنة الصَّبِي وأزمنة الْجُنُون وأزمنة النّوم لَا يسْتَثْنى مِنْهَا شَيْء، وَنَحْوه: {حَتَّى مطلع الْفجْر} طلوعه، أَو زمن طلوعه لَيْسَ من اللَّيْل حَتَّى يَشْمَلهُ {سَلام هِيَ} بل حقق بِهِ ذَلِك، وَإِمَّا للإشعار بِأَن مَا بعد الْغَايَة حكمه مُخَالف لما قبله، وَلَوْلَا الْغَايَة لَكَانَ مسكوتا عَن ذكر الحكم مُحْتملا، وَهَذَا على رَأْي من يَقُول بِالْمَفْهُومِ.
قَالَ الشَّيْخ: وَهَذَا وَإِن قيل بِهِ فِي نَحْو {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} فَهُوَ أقوى من القَوْل بِهِ هُنَا؛ لِأَن هُنَاكَ لَو لم يقل بِهِ لم يكن للغاية فَائِدَة، وَهنا فائدتها الْمَذْكُورَة أَولا فِيمَا سبق تعم قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} يحْتَمل أَنه مثل {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} نظرا إِلَى أَن الصَّوْم اللّغَوِيّ شَامِل اللَّيْل وَالنَّهَار، وَلِهَذَا مثل الْبَيْضَاوِيّ بِهِ.
وَيحْتَمل أَنه مثل {حَتَّى مطلع الْفجْر} نظرا إِلَى أَن الصَّوْم الشَّرْعِيّ مُخْتَصّ بِالنَّهَارِ.
وَأَيْضًا فالعموم فِي الصّيام إِنَّمَا هُوَ فِي أَفْرَاد الصَّوْم لَا لأوقاته.
وَأَيْضًا إِطْلَاق كَون الْغَايَة من المخصصات لَا بُد فِيهِ من إِخْرَاج مَا سبق فِي حَدِيث: " رفع الْقَلَم " و {حَتَّى مطلع الْفجْر} ، و {حَتَّى يطهرن} ،

(6/2633)


وَنَحْوه مِمَّا لَا يكون شَامِلًا لما بعد الْغَايَة وَإِخْرَاج نَحْو قطعت أَصَابِعه من الْخِنْصر إِلَى الْإِبْهَام وَأَن الْغَايَة دَاخِلَة فِيهِ قطعا فَهُوَ تَأْكِيد وَتَحْقِيق للْعُمُوم كَمَا سبق.
وَلَو كَانَ اللَّفْظ غير صَرِيح، نَحْو: (ضربت الْقَوْم حَتَّى زيدا) كَانَ تَأْكِيدًا بالظهور، لَا بِالْقطعِ؛ لاحْتِمَال أَنه أَرَادَ أَن الضَّرْب انْتهى إِلَيْهِ وَلم يَشْمَلهُ. انْتهى.
قَوْله: {والغاية والمغيّا أَي: الْمُقَيد بهَا يتحدان ويتعددان تِسْعَة أَقسَام} ، قد تكون الْغَايَة والمغيا أَي: الْمُقَيد بهَا متحدين، كأكرم بني تَمِيم إِلَى أَن يدخلُوا، وَقد يكونَانِ متعددين إِمَّا على سَبِيل الْجمع كأكرم بني تَمِيم وأعطهم ألى أَن يدخلُوا ويقوموا، أَو على سَبِيل الْبَدَل، كأكرم بني تَمِيم أَو أعطهم إِلَى أَن يدخلُوا، أَو يقومُوا.
وَقد يكون أَحدهمَا متحدا، وَالْآخر مُتَعَددًا فَتكون الْأَقْسَام تِسْعَة كالشرط وتعرف أمثله بَاقِي الْأَقْسَام مِمَّا قد مر، وَتقدم الْكَلَام على التَّخْصِيص بِبَدَل الْبَعْض.
قَوْله: {فَائِدَة: قَالَ الشَّيْخ: التوابع المخصصة كبدل، وَعطف بَيَان، وتوكيد وَنَحْوه كاستثناء، والشروط المعنوية بِحرف الْجَزَاء، وبحرف

(6/2634)


الْعَطف كالشرط وتتعلق حُرُوف الْجَرّ الْمُتَأَخِّرَة بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدّم} انْتهى.
أخذت ذَلِك من نقل ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ بعض أَصْحَابنَا: والتوابع المخصصة للأسماء الْمُتَقَدّمَة كالبدل، وَعطف الْبَيَان كالاستثناء.
والشروط المعنونة بحروف الْجَرّ كَقَوْلِه: على أَنه، أَو بِشَرْط أَنه، أَو بحروف الْعَطف كَقَوْلِه: وَمن شَرطه كَذَا، فَهَذَا كالشرط، فَأكْرم بني تَمِيم، وَبني أَسد، وَبني بكر الْمُؤمنِينَ، أمكن كَونه تَمامًا لبكر فَقَط، وبشرط كَونهم مُؤمنين، أَو على أَنه مُتَعَلق بالإكرام وَهُوَ للْجَمِيع مَعًا، كَقَوْلِه: إِن كَانُوا مُؤمنين، وَلذَا تتَعَلَّق حُرُوف الْجَرّ الْمُتَأَخِّرَة بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدّم، وَهُوَ قَوْله: وقفت، وَهُوَ الْكَلَام وَالْجُمْلَة، فَيجب الْفرق بَين مَا تعلق بِالِاسْمِ، وَمَا تعلق بالْكلَام.

(6/2635)


قَالَ: وَالْوَقْف على جمل أجنبيات كالوقف على أَوْلَاده، ثمَّ أَوْلَاد فلَان ثمَّ الْمَسَاكِين على أَنه لَا يعْطى مِنْهُم إِلَّا صَاحب عِيَال، يقوى اخْتِصَاص الشَّرْط بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّة من الأولى. انْتهى.
قَوْله: {وَالْإِشَارَة بِلَفْظ ذَلِك بعد الْجمل يعود إِلَى الْكل. ذكره القَاضِي وحفيده، وَابْن عقيل، وَأَبُو الْبَقَاء} .
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْإِرْشَاد " فِي الْوَعيد: والوعيد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} [الْفرْقَان: 68] يجب عوده إِلَى جَمِيع مَا تقدم، وَعوده إِلَى بعضه لَيْسَ بلغَة الْعَرَب، وَلِهَذَا لَو قَالَ: من دخل، وخدمني، وأكرمني، فَلهُ دِرْهَم لم يعد إِلَى الدُّخُول فَقَط. وَذكره أَيْضا فِي " الْوَاضِح " فِي مُخَاطبَة الْكفَّار، وَقَالَ: إِذا عَاد للْجَمِيع فالمؤاخذة بِكُل من الْجمل فالخلود للكفر، والمضاعفة فِي قدر الْعَذَاب لما ذكره من الذُّنُوب.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الْوَارِث مثل ذَلِك} [الْبَقَرَة: 233] .
قيل: الْإِشَارَة إِلَى أُجْرَة الرَّضَاع وَالنَّفقَة.
وَقيل: إِلَى النَّهْي عَن الضرار.

(6/2636)


وَقيل: إِلَى الْجَمِيع، اخْتَارَهُ القَاضِي؛ لِأَنَّهُ على الْمَوْلُود لَهُ، وَهَذَا مَعْطُوف عَلَيْهِ فَيجب للْجَمِيع.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء فِي قَوْله تَعَالَى: {ذالكم فسق} [الْمَائِدَة: 3] : إِشَارَة إِلَى الْجَمِيع وَيجوز أَن يرجع إِلَى الاستقسام.
وَقَالَ أَبُو يعلى الصَّغِير من أَصْحَابنَا فِي قتل مَانع الزَّكَاة فِي آيَة الْفرْقَان الْمَذْكُورَة: ظَاهر اللَّفْظ يَقْتَضِي عود الْعَذَاب وَالتَّخْلِيد إِلَى الْجَمِيع، وكل وَاحِد مِنْهُ لَكِن قَامَ دَلِيل على أَن التخليد لَا يكون إِلَّا بالْكفْر فخصت بِهِ الْآيَة.
قَوْله: {والتمييز بعد جمل، مُقْتَضى كَلَام النُّحَاة وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ عوده إِلَى الْجَمِيع، وَلنَا خلاف فِي الْفُرُوع} . قَالَه البعلي فِي " أُصُوله ".
وَقَالَ فِي " قَوَاعِده الْأُصُولِيَّة ": وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي " الْفُرُوع " على وَجْهَيْن، أصَحهمَا أَن الْأَمر كَذَلِك، فَإِن قَالَ: لَهُ عَليّ - مثلا - ألف وَخَمْسُونَ درهما فالجميع دَرَاهِم على الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
وَقَالَ أَبُو الْحسن التَّمِيمِي: يرجع فِي تَفْسِير الْألف إِلَيْهِ.

(6/2637)


(قَوْله: {فصل} {التَّخْصِيص الْمُنْفَصِل} )

مَا تقدم من الْكَلَام هُوَ فِي التَّخْصِيص بالمتصل، وَالْكَلَام الْآن فِي التَّخْصِيص بالمنفصل.
وَالْفرق بَينهمَا أَن الْمُتَّصِل لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ، بل يكون مُتَعَلقا بِاللَّفْظِ الَّذِي فِيهِ الْعَام، والمنفصل عَكسه.
قَوْله: {مِنْهُ الْحس} .
يجوز التَّخْصِيص بالحس، أَي: الْمُشَاهدَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأُوتِيت من كل شَيْء} [النَّمْل: 23] ، {تدمر كل شَيْء} [الْأَحْقَاف: 25] فَنحْن نشاهد أَشْيَاء كَثِيرَة لم تؤتها بلقيس كملك سُلَيْمَان، وَنحن نشاهد أَشْيَاء كَثِيرَة لم تدمرها الرّيح كالسموات، وَالْجِبَال، وَغَيرهَا.
وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى: {مَا تذر من شَيْء أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم}

(6/2638)


[الذاريات: 42] ، {يَجِيء إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء} [الْقَصَص: 57] فَإنَّا نشاهد أَشْيَاء لم تجعلها كالرميم، وَأَن مَا فِي أقْصَى الْمغرب والمشرق لم يجب إِلَيْهِ.
وَاعْلَم أَن هُنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء:
الأول: أَن هَذِه الْأَمْثِلَة لَا تتَعَيَّن أَن تكون من الْعَام الْمَخْصُوص بالحس، فقد يدعى أَنَّهَا من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص.
الثَّانِي: أَن مَا كَانَ خَارِجا بالحس قد يدعى أَنه لم يدْخل حَتَّى يخرج، كَمَا يَأْتِي نَظِيره فِي التَّخْصِيص بِالْعقلِ، فَلْيَكُن هَذَا على الْخلاف الَّذِي هُنَاكَ.
الثَّالِث: يؤول التَّخْصِيص بالحس إِلَى أَن الْعقل يحكم بِخُرُوج بعض الْأَفْرَاد بِوَاسِطَة الْحس، فَلم يخرج عَن كَونه خَارِجا بِالْعقلِ فليكونا قسما وَاحِدًا، وَإِن اخْتلف طَرِيق الْحُصُول.
قَوْله: {وَالْعقل أَيْضا} من المخصصات الْمُنْفَصِلَة.
الْعقل ضَرُورِيًّا كَانَ أم نظريا، فالضروري كَقَوْلِه تَعَالَى:

(6/2639)


{الله خَالق كل شَيْء} [الرَّعْد: 16] ، فَإِن الْعقل قَاض بِالضَّرُورَةِ أَنه لم يخلق نَفسه الْكَرِيمَة، وَلَا صِفَاته.
والنظري كتخصيص قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمرَان: 97] فَإِن الْعقل بنظره اقْتضى عدم دُخُول الطِّفْل، وَالْمَجْنُون بالتكليف بِالْحَجِّ؛ لعدم فهمهما، بل هما من جملَة الغافلين الَّذين هم غير مخاطبين بخطاب التَّكْلِيف.
قَالَ بعض أَعْيَان الشَّافِعِيَّة: لَا خلاف فِي ذَلِك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، منع كثير من الْعلمَاء أَن مَا خرج من الْأَفْرَاد بِالْعقلِ من بَاب التَّخْصِيص، وَإِنَّمَا الْعقل اقْتضى عدم دُخُوله فِي لفظ الْعَام، وَفرق بَين عدم دُخُوله فِي لفظ الْعَام، وَبَين خُرُوجه بعد أَن دخل.
وَمَا ذَكرُوهُ هُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَاب: مَا نزل من الْكتاب عَاما يُرَاد بِهِ الْعَام الَّذِي لم يدْخلهُ خُصُوص: قَوْله تَعَالَى: {الله خَالق كل شَيْء} ، {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها وَيعلم مستقرها ومستودعها} [هود: 6] قَالَ: فَهَذَا عَام لَا خَاص فِيهِ، فَكل

(6/2640)


شَيْء من سَمَاء وَأَرْض، وَذي روح وَشَجر وَغير ذَلِك فَالله تَعَالَى خالقه، وكل دَابَّة فعلى الله رزقها، وَيعلم مستقرها ومستودعها. انْتهى.
فَجعله الشَّافِعِي مِمَّا لم يدْخلهُ تَخْصِيص، وَمَا ذَاك إِلَّا لِأَن مَا اقْتضى الْعقل عدم دُخُوله لم يدْخل، فَكيف يُقَال دخل ثمَّ خرج؟
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم اخْتلف فِي أَن هَذَا الْخلاف هَل هُوَ معنوي، أَو لَفْظِي لَا فَائِدَة فِيهِ؟ وَبِالثَّانِي قَالَ الباقلاني، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي، وَالْغَزالِيّ، وألكيا، وَغَيرهم، وَوَافَقَهُمْ الْقَرَافِيّ، والتاج السُّبْكِيّ، وَغَيرهم - وَهُوَ الَّذِي صححناه فِي الْمَتْن -.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: الْخلاف لَفْظِي عِنْد التَّحْقِيق، وَيشْهد لَهُ قَول الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: أَجمعُوا على صِحَة دلَالَة الْعقل على خُرُوج شَيْء

(6/2641)


عَن حكم الْعُمُوم، وَاخْتلفُوا فِي تَسْمِيَته تَخْصِيصًا، وَمن قَالَ بِالْأولِ قَالَ: لِأَن الْعَام الْمَخْصُوص بِدَلِيل الْعقل على قَول من يجوز تَخْصِيصه بِهِ، يَقُول هُوَ حَقِيقَة بِلَا خلاف كَمَا قَالَه الصفي الْهِنْدِيّ.
قَالَ بَعضهم: أَو يكون عِنْدهم من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فيظنه الْخلاف فِي أَنه هَل يكون حَقِيقَة أَو مجَازًا.
وَجعل أَبُو الْخطاب مَأْخَذ الْخلاف فِي كَون الْعقل مُخَصّصا أَو لَا، التحسين والتقبيح العقليين، فَإِن صَحَّ ذَلِك كَانَ هَذَا أَيْضا من فَائِدَة الْخلاف، لَكِن استدركه عَلَيْهِ الْأَصْفَهَانِي والنقشواني بِمَا فِيهِ نظر.

(6/2642)


(قَوْله: {فصل} )

{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر إِذا ورد عَام وخاص مقترنين يقدم الْخَاص، وَقيل: يُعَارض الْخَاص بِمَا قابله من الْعَام، وَإِن لم يقترنا قدم الْخَاص مُطلقًا عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه، وَغَيرهم، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد.
وَعنهُ وَقَالَهُ أَكثر الْحَنَفِيَّة، والباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي: الْمُتَأَخر نَاسخ} .

(6/2643)


إِذا ورد عَام وخاص فَتَارَة يكونَانِ مقترنين، وَتارَة لَا يكونَانِ مقترنين، فَإِن كَانَا مقترنين مثل مَا لَو قَالَ فِي كَلَام متواصل: اقْتُلُوا الْكفَّار وَلَا تقتلُوا الْيَهُود، أَو يَقُول: زكوا الْبَقر وَلَا تزكوا العوامل، ذكره الْمجد فِي " المسودة "، وَقَالَ: وَبِه قَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين.
وَحكي عَن بَعضهم تعَارض الْخَاص وَمَا قابله من الْعَام وَلَا يخصص بِهِ، ذكره أَبُو الْخطاب.
وَإِن كَانَا غير مقترنين قدم الْخَاص مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ الْخَاص مُتَقَدما، أَو مُتَأَخِّرًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقَالَهُ أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه، وَجَمَاعَة من الْحَنَفِيَّة مِنْهُم: أَبُو زيد.
لِأَن فِي تَقْدِيم الْخَاص عملا بكليهما بِخِلَاف الْعَكْس فَكَانَ أولى.
وَعَن أَحْمد، وَقَالَهُ أَكثر الْحَنَفِيَّة والمعتزلة، وَابْن الباقلاني،

(6/2644)


وَأَبُو الْمَعَالِي: إِن تَأَخّر الْعَام نسخ، وَإِن تَأَخّر الْخَاص نسخ من الْعَام بِقَدرِهِ.
فعلى على هَذَا القَوْل إِن جهل التَّارِيخ وقف الْأَمر حَتَّى يعلم التَّارِيخ.
قَالَت الْحَنَفِيَّة: وَيُؤَخر الْمحرم احْتِيَاطًا.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله بعد كَلَام طَوِيل: يُؤْخَذ بهما حَتَّى تؤتي دلَالَة بِأَن الْخَبَر قبل الْخَبَر فَيكون الْأَخير أولى.
وتأولها القَاضِي على أَن الْخَبَرَيْنِ خاصان.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": وَفِيه نظر، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَاسد لتمثيله أول الرِّوَايَة بِخَبَر حَكِيم، وَهُوَ عَام فِي البيع مَعَ السّلم وَهُوَ

(6/2645)


خَاص، وبخبر الْمُصراة، وَهُوَ خَاص مَعَ الْخراج بِالضَّمَانِ، وَهُوَ عَام فِي كل ضَمَان.
وَذكر الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة بِتَقْدِيم الْمُتَأَخر مُطلقًا.
وخرجه بعض أَصْحَابنَا على قَول من منع من تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب إِلَى وَقت الْحَاجة من أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ بعض الْمَالِكِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، فَإِن جهل التَّارِيخ اقْتَضَت تعارضهما، هَكَذَا قَالَ فِي " الرَّوْضَة ".
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: مَنْصُوص أَحْمد إِن فقد التَّارِيخ يقدم الْخَاص، وَإِلَّا قدم الْمُتَأَخر وَهُوَ أقوى.

(6/2646)


قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقَالَهُ بعض الْحَنَفِيَّة وَبَعض الْمُعْتَزلَة.
قَالَ: وَيقدم الْخَاص؛ لجهل التَّارِيخ، وَإِن قُلْنَا الْعَام الْمُتَأَخر ينْسَخ؛ لِأَن الْعَام لم يعلم ثُبُوته فِي قدر الْخَاص لجَوَاز اتصالهما، أَو تقدم الْعَام، أَو تَأَخره مَعَ بَيَان التَّخْصِيص مُقَارنًا، نَقله ابْن مُفْلِح.
وَجه القَوْل الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} [الْمَائِدَة: 5] خص {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221] ، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: على هَذَا عَامَّة الْفُقَهَاء، وروى مَعْنَاهُ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، مِنْهُم: عُثْمَان، وَطَلْحَة، وَحُذَيْفَة، وَجَابِر، وَابْن عَبَّاس.
وَأَيْضًا الْخَاص قَاطع، أَو أَشد تَصْرِيحًا، وَأَقل احْتِمَالا.
وَلِأَنَّهُ لَا فرق لُغَة بَين تَقْدِيم الْخَاص وتأخيره، قَالُوا: فِي النّسخ: إِعْمَال الدَّلِيلَيْنِ فِي زمانين، وَفِي التَّخْصِيص إبِْطَال للْعُمُوم فِي بعض أَفْرَاده.

(6/2647)


وَلِأَنَّهُ لَو قَالَ: لَا تقتل زيدا للشرك، ثمَّ قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْركين، كَانَ فِي قُوَّة: اقْتُل زيدا وَأَنه نسخ.
رد: شَرطه الْمُسَاوَاة، وَعدم الْجمع، ثمَّ التَّخْصِيص مَانع، والنسخ رَافع، وَالدَّفْع أسهل مِنْهُ، وَهُوَ أغلب، والنسخ نَادِر.
قَالُوا: عَن ابْن عَبَّاس عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنه صَامَ فِي سفر ثمَّ أفطر، قَالَ: وَكَانَ صحابة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتبعُون الأحدث فالأحدث من أمره. رَوَاهُ مُسلم.
وَفِي البُخَارِيّ عَن الزُّهْرِيّ وَإِنَّمَا يُؤْخَذ من أمره - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بِالْآخرِ فالآخر.
وَاحْتج بِهِ أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله السَّابِقَة.
رد: بِحمْلِهِ على غير الْمُخَصّص جمعا بَين الْأَدِلَّة. الْمَانِع مِنْهُ فِي الْكتاب.

(6/2648)


لَو جَازَ لم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُبينًا، وَقد قَالَ تَعَالَى: {لتبين للنَّاس} [النَّحْل: 44] عرُوض بقوله: {تبيانا لكل شَيْء} [النَّحْل: 89] ثمَّ عَلَيْهِ السَّلَام مُبين لَهما.
قَوْله: {وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا عَاما من وَجه، خَاصّا من وَجه تَعَارضا وَطلب الْمُرَجح} .
مَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا فِي حكم الْعَام وَالْخَاص إِذا كَانَا مقترنين أَو غير مقترنين، وَالْكَلَام هُنَا إِذا كَانَ كل مِنْهُمَا عَاما من وَجه، خَاصّا من وَجه.
مِثَاله: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فَليصل إِذا ذكرهَا " مَعَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس "، فَالْأول خَاص فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة الْفَائِتَة، عَام فِي الْوَقْت، وَالثَّانِي عَكسه؛ لِأَنَّهُ عَام فِي الْمَكْتُوبَة والنافلة، خَاص فِي الْوَقْت.
مثله قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " مَعَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نهيت عَن قتل النِّسَاء " فَالْأول عَام فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء، خَاص فِي الْمُرْتَدين، وَالثَّانِي

(6/2649)


خَاص فِي النِّسَاء عَام فِي الحربيات والمرتدات.
إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح أَنَّهُمَا يتعادلان؛ لعدم أَوْلَوِيَّة أَحدهمَا بِالْعَمَلِ بِهِ دون الآخر، وَيطْلب الْمُرَجح من خَارج، وَقد يرجح الأول بِقِيَام الْقَرِينَة على اخْتِصَاص الثَّانِي بِسَبَبِهِ، وَهُوَ الحربيات.
{وَعند الْحَنَفِيَّة الْمُتَأَخر نَاسخ} ، تابعت فِي ذَلِك التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " لَكِن قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِحه: وَمَا حَكَاهُ عَن الْحَنَفِيَّة من أَن الْمُتَأَخر نَاسخ، فَهُوَ قِيَاس مَا تقدم عَنْهُم، لَكِن لم أَجِدهُ صَرِيحًا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. انْتهى.
قَوْله: {وَقيل لَا يخصص الْكتاب بِالْكتاب وَلَا السّنة بِالسنةِ} . هَذَا القَوْل عَائِد إِلَى أصل الْمَسْأَلَة، وَهُوَ مَا إِذا ورد عَام وخاص.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعلمَاء أَن الْكتاب يخص بِالْكتاب، وَأَن السّنة تخص بِالسنةِ، وَهُوَ من تَخْصِيص قَطْعِيّ الْمَتْن بقطعيه.

(6/2650)


مِثَاله قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} [الْبَقَرَة: 228] فَخص عُمُومه بالحوامل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} [الطَّلَاق: 4] وَخص أَيْضا عُمُومه فِي الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا بقوله تَعَالَى فِي غير الْمَدْخُول بهَا: {تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها} [الْأَحْزَاب: 49] .
وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} الْآيَة [الْبَقَرَة: 234] ، خص بقوله تَعَالَى: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} [الْبَقَرَة: 221] بقوله تَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} [الْمَائِدَة: 5] كَمَا تقدم فِي بحث الْمَسْأَلَة.
والمخالف فِي مَسْأَلَة تَخْصِيص الْكتاب بِالْكتاب بعض الظَّاهِرِيَّة، وتمسكوا بِأَن التَّخْصِيص بَيَان للمراد بِاللَّفْظِ فَلَا يكون إِلَّا بِالسنةِ؛ لقَوْله تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] وَمَا ذكر من الْأَمْثِلَة يجوز أَن يكون التَّخْصِيص فِيهِ بِالسنةِ، كَمَا فِي حَدِيث أبي السنابل بن بعكك مَعَ سبيعة الأسْلَمِيَّة حِين قَالَ: مَا أَنْت بناكح حَتَّى تمر عَلَيْك أَرْبَعَة أشهر

(6/2651)


وَعشر، فَجَاءَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأفتاها بِأَنَّهَا قد حلت بِوَضْع حملهَا.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يخرج عَن كَونه مُبينًا إِذا بَين مَا أنزل بِآيَة أُخْرَى منزلَة كَمَا بَين مَا أنزل عَلَيْهِ من السّنة، فَإِن الْكل منزل.
تَنْبِيه: لَا يخفى أَن هَذِه الْمَسْأَلَة فرع عَن كَون الْخَاص مَعَ الْعَام يخصصه، سَوَاء تقدم، أَو تَأَخّر، أَو جهل، أَو قَارن فَهُوَ تَخْصِيص، لَا نسخ خلافًا لأبي حنيفَة، وَإِن كَانَ ابْن الْحَاجِب مزجهما مَعًا فِي " مُخْتَصره "، حَتَّى اضْطربَ الشُّرَّاح فِي تَقْرِير كَلَامه. قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَالصَّحِيح أَيْضا أَن السّنة تخص بِالسنةِ، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء.
وَاسْتدلَّ لذَلِك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر " يخصص

(6/2652)


بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة "، وَهُوَ كثير، والمخالف فِي ذَلِك دَاوُد الظَّاهِرِيّ وَطَائِفَة فَقَالَ: إنَّهُمَا يتعارضان.
ومنشأ الْخلاف أَيْضا مَا سبق فِي أَن السّنة إِنَّمَا تكون مبينَة لَا محتاجة للْبَيَان.
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: منع بَعضهم من تَخْصِيص السّنة بِالسنةِ.

(6/2653)


(قَوْله: {فصل} {تَخْصِيص السّنة بِالْكتاب} )

وَهَذَا قَلِيل جدا حَتَّى إِن الْبَيْضَاوِيّ لم يذكرهُ وَابْن الْحَاجِب وَإِن ذكره لم يمثل لَهُ.
ومثاله قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أبين من حَيّ فَهُوَ ميت " رَوَاهُ ابْن ماجة، خص بقوله تَعَالَى: {وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين} [النَّحْل: 80] .
وَمن أمثلته قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ مُسلم عَن عبَادَة بن الصَّامِت: " خُذُوا عني، خُذُوا عني قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا الْبكر بالبكر: جلد مائَة وَنفي

(6/2654)


سنة، وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ: جلد مائَة وَالرَّجم " فَإِن ذَلِك يَشْمَل الْحر وَالْعَبْد، فخصص بقوله تَعَالَى: {فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} [النِّسَاء: 25] .
وَمِنْه حَدِيث: " لَا يقبل الله صَلَاة أحدكُم حَتَّى يتَوَضَّأ " خص مِنْهُ الْمُتَيَمم بِآيَة التَّيَمُّم.
وَقد يمْنَع هَذَا من يرى أَن التَّيَمُّم يرفع الْحَدث.
وَمِنْه حَدِيث: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله " خص بقوله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} [التَّوْبَة: 29] .
وَمِنْه حَدِيث: " إِن الله تجَاوز لأمتي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا " خص بقوله

(6/2655)


تَعَالَى فِي سبق اللِّسَان بِالْيَمِينِ: {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} [الْبَقَرَة: 225] .
وَعَن أَحْمد: لَا تخصص السّنة بِالْكتاب، اخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَهُوَ مُقْتَضى قَول مَكْحُول، وَيحيى بن أبي كثير [إِن] السّنة تقضي على الْكتاب، وَالْكتاب لَا يقْضِي على السّنة. قَالَ: وَهُوَ الْأَغْلَب على كَلَام الشَّافِعِي.
قَوْله: {ويخص الْكتاب بالمتواترة إِجْمَاعًا} ، حَكَاهُ ابْن مُفْلِح وَغَيره.
قَوْله: {وبخبر الْوَاحِد} ، أَي: يخص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. وَقَالَهُ أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، ...

(6/2656)


وأصحابهم، وَبَعض الْحَنَفِيَّة.
وَنَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة.
{وَعنهُ الْمَنْع، اخْتَارَهُ الْفَخر} إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا، {وَغَيره} فَقَالَ: لَهُ ظُهُور واتجاه.
وَنَقله الْغَزالِيّ عَن الْمُعْتَزلَة، وَنَقله ابْن برهَان عَن طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ خص بِدَلِيل مجمع عَلَيْهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ ابْن أبان: {إِن خص بقاطع جَازَ} تَخْصِيصه بعد ذَلِك بالآحاد؛ لِأَنَّهُ بعد التَّخْصِيص يكون مجَازًا فِي الْبَاقِي، أما قبله فحقيقة فِي الْأَفْرَاد.

(6/2657)


وَقَالَ {الْكَرْخِي: إِن خص} قبل ذَلِك {بمنفصل جَازَ} أَن يخص بالآحاد، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ بالتخصيص بالمنفصل يصير مجَازًا عِنْده.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا القَوْل وَالَّذِي قبله مبنيان على القَوْل بِأَن دلَالَة الْعَام على كل فَرد من أَفْرَاده قطيعة.
{ووقف} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني} : إِمَّا على معنى لَا نَدْرِي، وَإِمَّا على معنى تعَارض أَمريْن: دلَالَة الْعُمُوم على إثْبَاته، وَدلَالَة الْخُصُوص على نَفْيه؛ وَذَلِكَ لِأَن متن الْكتاب قَطْعِيّ وفحواه مظنون، وَخبر الْوَاحِد بِالْعَكْسِ فتعارضا، وَلَا مُرَجّح فالوقف، وَالله أعلم.
وَقيل: يجوز أَن يَقع التَّخْصِيص بذلك وَلَكِن مَا وَقع حَكَاهُ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَهُوَ معنى قَوْلنَا: {وَقيل لم يَقع} .
وَاسْتدلَّ للْأولِ: بِأَنَّهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة كَمَا خصوا {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} [النِّسَاء: 24] بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة: " لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا، وَلَا على خَالَتهَا " مُتَّفق عَلَيْهِ.

(6/2658)


وَآيَة السّرقَة بِمَا دون النّصاب، وَقتل الْمُشْركين بِإِخْرَاج الْمَجُوس وَغير ذَلِك.
قَالُوا: رد عمر خبر فَاطِمَة بنت قيس أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يَجْعَل لَهَا سُكْنى، وَلَا نَفَقَة لتخصيصه لقَوْله: {أسكنوهن} ؛ وَلِهَذَا قَالَ: كَيفَ نَتْرُك كتاب الله لقَوْل امْرَأَة!
رد: لتردده فِي صِحَّته، أَو مُخَالفَته سنة عِنْده، وَلِهَذَا فِي مُسلم: لَا نَتْرُك كتاب الله وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَعَلَّهَا حفظت، أَو نسيت.
مَعَ أَن أَحْمد ضعفه، وَذكر ابْن عقيل عَنهُ بِأَنَّهُ أجَاب بِأَنَّهُ احْتِيَاط، وَضعف الدَّارَقُطْنِيّ قَوْله: (وَسنة نَبينَا) .

(6/2659)


وَلَا يَصح: صدقت أَو كذبت.
قَالُوا: الْعَام قَطْعِيّ، وَالْخَبَر ظَنِّي لَا سِيمَا إِن ضعف بتخصيصه.
رد: دلَالَته ظنية والتخصيص فِيهَا، وَالْخَبَر دلَالَته قَطْعِيَّة.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَحكمه يثبت بِأَمْر قَاطع فالجمع أولى.
الْقَائِل بِالْوَقْفِ: كِلَاهُمَا قَطْعِيّ ظَنِّي من وَجه.
رد: الْجمع أولى.
قَوْله: {وَخص السَّمْعَانِيّ مَحل الْخلاف بِخَبَر لم يجمع على الْعَمَل بِهِ} ، فَإِن أجمع على الْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ فِيهِ خلاف فِي أَنه يجوز التَّخْصِيص بِهِ عِنْده.
وَكَذَا ألحق الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور بالمتواتر الْمَقْطُوع بِصِحَّتِهِ، وَمثله بتخصيص آيَة الْمَوَارِيث بِحَدِيث: " لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر ".

(6/2660)


و [مثله] السَّمْعَانِيّ بِحَدِيث: " لَا مِيرَاث لقَاتل "، و " لَا وَصِيَّة لوَارث " وَنَهْيه عَن الْجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها، فَيجوز التَّخْصِيص بِهِ بِلَا خلاف؛ لِأَن هَذِه الْأَخْبَار بِمَنْزِلَة الْمُتَوَاتر؛ لانعقاد الْإِجْمَاع على حكمهَا وَإِن لم ينْعَقد على رِوَايَتهَا. انْتهى.
ورده الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: قلت وَفِي ذَلِك كُله نظر؛ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد الْقطع بِصِحَّة الْمَتْن فَهَذِهِ مَسْأَلَة مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مُسْندًا هَل هُوَ مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ - كَمَا اخْتَارَهُ ابْن الصّلاح - أَولا؟ وَهُوَ الَّذِي صَوبه النَّوَوِيّ وَقَالَ بِهِ الْأَكْثَر.

(6/2661)


وعَلى الثَّانِي فَكيف يُسَاوِي الْقُرْآن وَالْمَانِع من التَّخْصِيص بِالسنةِ لِلْقُرْآنِ إِنَّمَا مُسْتَنده عدم الْمُسَاوَاة.
وَإِن أُرِيد الْقطع فِي الدّلَالَة فَلَا شَيْء مَقْطُوع بدلالته من النقليات، وَإِن أُرِيد انْعِقَاد الْإِجْمَاع على الحكم فالتخصيص حِينَئِذٍ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِجْمَاع لَا بِالسنةِ.
قَوْله: {وَكَذَا تَخْصِيص متواتر بآحاد} . هَذِه الْمَسْأَلَة قل من ذكرهَا، وَهِي وَاضِحَة كتخصيص الْكتاب بالآحاد، وَقد صرح بهَا القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني وَغَيره.

(6/2662)


(قَوْله: {فصل} )

{يخص الْعَام بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة اتِّفَاقًا} ، قَالَه الْآمِدِيّ وَغَيره.
وَمن المخصصات الْمُنْفَصِلَة تَخْصِيص اللَّفْظ الْعَام بفحوى الْخطاب، أَي: بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة مِثَاله: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ليُّ الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد.

(6/2663)


واللي: المطل، وَالْمرَاد بِحل عرضه أَن يَقُول غَرِيمه: ظَلَمَنِي، وبعقوبته: الْحَبْس.
خص بِمَفْهُوم قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] فمفهومه أَنه لَا يؤذيهما بِحَبْس، وَلَا غَيره؛ فَلذَلِك لَا يحبس الْوَالِد بدين وَلَده، بل وَلَا لَهُ مُطَالبَته على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء.
وَمحل هَذَا حَيْثُ لم يَجْعَل من بَاب الْقيَاس فَأَما إِن قُلْنَا: إِنَّه من بَاب الْقيَاس فَيكون مُخَصّصا بِالْقِيَاسِ.
قَوْله: {وبالمخالفة عِنْد الْقَائِل بِهِ} . يخص الْعُمُوم بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة عِنْد الْقَائِل بِهِ على الصَّحِيح من قولي الْعلمَاء، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.

(6/2664)


مِثَال ذَلِك قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث ". رَوَاهُ الْأَرْبَعَة، وَصَححهُ ابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، وَغَيره.
خص بمفهومه وَهُوَ مَا لم يبلغ قُلَّتَيْنِ عُمُوم قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء إِلَّا مَا غلب على رِيحه، أَو طعمه، أَو لَونه ". رَوَاهُ ابْن ماجة، وَالْبَيْهَقِيّ، فَإِنَّهُ أَعم من الْقلَّتَيْنِ ودونهما فَتَصِير القلتان فِي الحَدِيث الأول تنجسهما مَخْصُوص بالتغيير بِالنَّجَاسَةِ، وَيبقى مَا دونهمَا ينجس بِمُجَرَّد الملاقاة فِي غير الْمَوَاضِع المستثناة بِدَلِيل آخر.

(6/2665)


قَوْله: {وَخَالف القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب أَيْضا، والمالكية، وَابْن حزم} ، وَغَيرهم، فَقَالُوا: لَا يخص الْعُمُوم بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة.
اسْتدلَّ للْأولِ: أَنه خَاص، وَفِيه جمع بَينهمَا فَكَانَ أولى.
قَالُوا: الْعَام مجمع على دلَالَته.
رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ الْفَرْض أَن الْمَفْهُوم حجَّة، فَإِن كَانَت صُورَة السُّكُوت أولى بالحكم من الْمَنْطُوق فَهُوَ التَّنْبِيه، وَهُوَ أولى من الْمَفْهُوم أَو اقْتضى الْقيَاس استواءهما فَهُوَ أولى من الْمَفْهُوم كنهيه عَن بيع الطَّعَام مَعَ نَهْيه

(6/2666)


عَن بيع مَا لم يقبض، وَقَوله فِي اخْتِلَاف الْمُتَبَايعين والسلعة قَائِمَة. ذكر ذَلِك القَاضِي.
وَفِي " الْوَاضِح ": نَهْيه عَن بيع الطَّعَام مَعَ الْحَاجة إِلَيْهِ تَنْبِيه على غَيره فَقدم والتحالف مَعَ تلف السّلْعَة أولى؛ لِإِمْكَان الدّلَالَة على صدق أَحدهمَا بِقِيمَتِهَا الشاهدة بِالثّمن لمثلهَا.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَيجب أَن يخرج فِي تَقْدِيم الْقيَاس على الْمَفْهُوم وَجْهَان كتخصيص الْمَفْهُوم بِالْقِيَاسِ، بل أولى، وَصرح القَاضِي بِأَن تَقْدِيم الْقيَاس مَأْخُوذ من تَقْدِيمه على الْعُمُوم، وَقَالَهُ فِي " التَّمْهِيد ".

(6/2667)


وَفِي الْقيَاس من " الْوَاضِح ": لَا عدَّة على ذِمِّيَّة قبل الدُّخُول قِيَاسا على المؤمنة تَقْدِيمًا لَهُ على الْمَفْهُوم، قَالَ: وَلم يذكر الله قذف المحصنين من الرِّجَال، فَنظر القائسون إِلَى الْمَعْنى.
وَمِنْه قِيَاس عبد على أمة فِي تنصيف الْحَد.
وقاس الْجُمْهُور اسْتِعْمَال آنِية ذهب وَفِضة فِي غير أكل وَشرب عَلَيْهِمَا، وَغير الْحجر عَلَيْهِ فِي الِاسْتِجْمَار، وَالظفر على الشّعْر فِي الْإِحْرَام.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْمَفْهُومِ إِنَّمَا هُوَ فِي كلامين منفصلين من مُتَكَلم وَاحِد، أَو فِي حكم الْوَاحِد، ككلام الله وَرَسُوله، لَا فِي كَلَام وَاحِد مُتَّصِل، وَلَا متكلمين يجب اتِّحَاد مقصودهما، كبينة شهِدت أَن جَمِيع الدَّار لزيد، وَأُخْرَى أَن الْموضع الْفُلَانِيّ مِنْهَا لعَمْرو، فَإِنَّهُمَا يتعارضان فِي ذَلِك الْموضع.
قَالَ: وَغلط بعض النَّاس، فَجمع بَينهمَا؛ لِأَنَّهُ من بَاب الْعَام وَالْخَاص كَمَا غلط بَعضهم فِي كَلَام مُتَكَلم مُتَّصِل.

(6/2668)


قَوْله: {وبالإجماع، أَي: بدليله} . يخص الْعَام بِالْإِجْمَاع.
وَالْمرَاد بِدَلِيل الْإِجْمَاع لَا أَنه نَفسه مُخَصص؛ لِأَنَّهُ لَا يعْتَبر زمن الْوَحْي؛ إِذْ الْإِجْمَاع لَا بُد لَهُ من دَلِيل يسْتَند إِلَيْهِ، وَإِن لم نعرفه.
ومثاله: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} [النُّور: 4] خص بِالْإِجْمَاع على أَن العَبْد الْقَاذِف يجلد على النّصْف من الْحر.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِي التَّمْثِيل بذلك نظر؛ لاحْتِمَال أَن يكون التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ، ثمَّ قَالَ: فَإِن قيل لم لَا تَقولُونَ بِأَن الْإِجْمَاع يكون نَاسِخا على معنى أَنه يتَضَمَّن نَاسِخا؟
فَجَوَابه: أَن سَنَد الْإِجْمَاع قد يكون مِمَّا لَا ينْسَخ بِهِ، فَلَيْسَ فِي كل إِجْمَاع تضمن لما يسوغ النّسخ بِهِ، وَأما التَّخْصِيص فَلَمَّا كَانَ من الْبَيَان كَانَ كل دَلِيل مُخَصّصا بِهِ. انْتهى.
وَجعل بعض الْعلمَاء من أَمْثِلَة الْمَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله ... ... كُنْتُم تعلمُونَ} [الْجُمُعَة: 9] خص بِالْإِجْمَاع على عدم وجوب الْجُمُعَة على العَبْد وَالْمَرْأَة.

(6/2669)


هَذَا فِي تَخْصِيص الْكتاب بِالْإِجْمَاع، وَأما تَخْصِيص السّنة الْعَامَّة بِالْإِجْمَاع فَلم أرهم تعرضوا لَهُ كَأَنَّهُمْ استغنوا بمثال تَخْصِيص الْقُرْآن، وَالله أعلم.
قَوْله: وَلَو عمل أهل الْإِجْمَاع بِخِلَاف نَص خَاص تضمن نَاسِخا، أَي: لَا يكون إِجْمَاعهم نَاسِخا لذَلِك النَّص، بل النَّاسِخ هُوَ الدَّلِيل الَّذِي تضمنه الْإِجْمَاع، وَهُوَ مُسْتَند الْإِجْمَاع، وَالْإِجْمَاع دَلِيل عَلَيْهِ، وَتَخْصِيص الْإِجْمَاع كَذَلِك فَإِن الدَّلِيل الَّذِي تضمنه الْإِجْمَاع هُوَ الْمُخَصّص، وَالْإِجْمَاع دَلِيل عَلَيْهِ كَمَا تقدم ذَلِك.
قَوْله: {وبفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم إِن شَمله الْعُمُوم، وَمنعه قوم، ووقف عبد الْجَبَّار} .

(6/2670)


من المخصصات للعام فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشَرْط على الصَّحِيح من أَقْوَال الْعلمَاء، كَمَا لَو قَالَ: كشف الْفَخْذ حرَام على كل مُسلم، ثمَّ فعله؛ لِأَن فعله كَقَوْلِه فِي الدّلَالَة، سَوَاء فاستويا فِي التَّخْصِيص.
وَالظَّاهِر أَنه وَأمته سَوَاء فِيهِ.
وَقد خص أَحْمد قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: دلّ على أَنه أَرَادَ الْجِمَاع.
وَقَالَ جمع - مِنْهُم الْكَرْخِي -: لَا يخص بِهِ مُطلقًا.
اخْتَارَهُ ابْن برهَان، وَذَلِكَ تَخْصِيصًا لدَلِيل الِاتِّبَاع الْعَام بِهَذَا جمعا بَينهمَا.
وَقيل: إِن فعله مرّة فَلَا تَخْصِيص بِهِ؛ لاحْتِمَال أَنه من خَصَائِصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، نَقله صَاحب " الكبريت الْأَحْمَر " عَن الْكَرْخِي، وَغَيره من الْحَنَفِيَّة، قَالَ: فَإِن تكَرر خص بِهِ إِجْمَاعًا.

(6/2671)


وَقيل: إِن كَانَ فعلا ظَاهرا خص بِهِ، وَإِن كَانَ مستترا فَلَا.
وَقيل: إِن اشْتهر كَون الْفِعْل من خَصَائِصه لم يخص بِهِ، وَإِلَّا خص، جزم بِهِ سليم الرَّازِيّ فِي " التَّقْرِيب ".
وَقَالَ ألكيا: إِنَّه أصح، قَالَ: وَلِهَذَا حمل الشَّافِعِي تَزْوِيج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم على أَنه كَانَ من خَصَائِصه.
وَقيل بِالْوَقْفِ، وَنقل عَن عبد الْجَبَّار.
وَقيل: إِن كَانَ منافيا للظَّاهِر خص بِهِ، أَو مُوَافقا فَلَا.
قَوْله: {أما إِن ثَبت وجوب اتِّبَاع الْأمة لَهُ بِدَلِيل خَاص فالدليل نَاسخ للعام} مَحل كَونه مُخَصّصا مَا إِذا كَانَ الْعُمُوم شَامِلًا لَهُ وللأمة، بِتَحْرِيم شَيْء مثلا، ثمَّ يفعل الْفِعْل الْمنْهِي عَنهُ، وَهُوَ مِمَّا لَا يجب اتِّبَاعه فِيهِ، إِمَّا لكَونه من خَصَائِصه، أَو غير ذَلِك.
أما إِذا أَوجَبْنَا التأسي بِهِ فِيهِ فيرتفع الحكم عَن الْكل، وَذَلِكَ نسخ، لَا تَخْصِيص.

(6/2672)


وَأما إِذا كَانَ الْعُمُوم للْأمة دونه فَفعله لَيْسَ بتخصيص لعدم دُخُوله فِي الْعُمُوم، وَقد مثل لذَلِك بِالنَّهْي عَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها، ثمَّ جلس فِي بَيت حَفْصَة مُسْتَقْبلا بَيت الْمُقَدّس.
فعلى القَوْل بِأَن النَّهْي شَامِل للصحراء والبنيان فَيحرم فيهمَا، وَبِه قَالَ جمع وَيكون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خص بذلك وَخرج من عُمُوم النَّهْي، وَإِن قُلْنَا: إِنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ مُخْتَصًّا بذلك فالتخصيص للبنيان من الْعُمُوم، سَوَاء هُوَ وَالْأمة فِي ذَلِك.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ أَنه لَا وَجه للْخلاف فِي التَّخْصِيص بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إِن وَجب التأسي فنسخ، وَإِلَّا فَلَا تَخْصِيص، قَالَ: وَالْأَظْهَر الْوَقْف؛ لِأَن دَلِيل وجوب التأسي عَام أَيْضا فتعارضا.

(6/2673)


فَقيل لَهُ: الْفِعْل مَعَ أَدِلَّة التأسي أخص من اللَّفْظ الْعَام.
فَأجَاب: لَا دلَالَة للْفِعْل على وجوب التأسي والموجب مسَاوٍ للعام.
قَوْله: {وبإقراره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعل عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر وَهُوَ أقرب من نسخه مُطلقًا، أَو عَن فَاعله، وَقيل: ينْسَخ إِن نسخ بِالْقِيَاسِ} .
تَقْرِيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن فعل فعلا من أمته بِحَضْرَتِهِ مُخَالفا للْعُمُوم وَلم يُنكره مَعَ علمه، تَخْصِيص على الصَّحِيح من أَقْوَال الْعلمَاء، وَقَالَهُ أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَهُوَ أقرب من نسخه مُطلقًا أَو عَن فَاعله.
اسْتدلَّ للْأولِ بِأَن سُكُوته عَن ذَلِك مَعَ علمه دَلِيل جَوَازه وَإِلَّا لوَجَبَ إِنْكَاره.
قَالَ المنكرون لذَلِك: التَّقْرِير لَا صِيغَة لَهُ فَلَا يُقَابل: الصِّيغَة.
رد: بِجَوَازِهِ.

(6/2674)


قَالَ الْآمِدِيّ: قطعا، فَجَاز تَخْصِيصه.
ثمَّ قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": يعم غَيره.
وَغَيره على الْمُخْتَار، وَهُوَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب أَنه لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره وَإِن فهم الْمَعْنى فَمثله يُشَارِكهُ فِيهِ، وَلَو عَم الْأمة كَانَ نسخا لَا تَخْصِيصًا، كَمَا ظن بَعضهم.
وَقَالَ بَعضهم: يكون نَاسِخا إِن جَازَ النّسخ بِالْقِيَاسِ، وَسَيَأْتِي الْخلاف فِي جَوَاز النّسخ بِالْقِيَاسِ فِي بَاب النّسخ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: فَائِدَة: التَّخْصِيص بالتقرير، هَل هُوَ تَخْصِيص بِنَفس تَقْرِيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو بِمَا تضمنه من سبق قَول بِهِ، فَيكون مستدلا بتقريره على أَنه خص بقول سَابق؛ إِذْ لَا يجوز لَهُم أَن يَفْعَلُوا مَا فِيهِ مُخَالفَة للعام إِلَّا بِإِذن صَرِيح فتقريره دَلِيل ذَلِك.
فِيهِ وَجْهَان للشَّافِعِيَّة حَكَاهُمَا ابْن الْقطَّان، وألكيا.

(6/2675)


قَالَ ابْن فورك، والطبري: الظَّاهِر الأول.
قلت: وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
قَوْله: {وَمذهب الصَّحَابِيّ إِن قيل هُوَ حجَّة وَإِلَّا فَلَا عِنْد} الْأَئِمَّة {الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: إِذا قُلْنَا قَول الصَّحَابِيّ حجَّة جَازَ تَخْصِيص الْعَام بِهِ، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَبِه قَالَت الْحَنَفِيَّة، والمالكية،

(6/2676)


وَابْن حزم، وَعِيسَى بن أبان، وللشافعية وَجْهَان إِذا قَالُوا بقوله الْقَدِيم فِي كَونه حجَّة. انْتهى.
إِذا علم ذَلِك هَل يكون مَذْهَب الصَّحَابِيّ مُخَصّصا أم لَا؟
تَارَة نقُول: إِن قَوْله حجَّة، وَتارَة يَقُول: لَيْسَ بِحجَّة، فَإِن قُلْنَا: إِنَّه حجَّة كَانَ مُخَصّصا على الصَّحِيح، وَقد نَقله ابْن مُفْلِح عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.
وَقَالَ: {وَمنعه بعض الشَّافِعِيَّة مُطلقًا} ، أَي: لَا يكون مُخَصّصا وَلَو قُلْنَا إِنَّه حجَّة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِذا كَانَ مورد النزاع فِي الصَّحَابِيّ، فَهَل هُوَ تَفْرِيع على أَن قَوْله حجَّة؟
فَأَما إِن قُلْنَا إِنَّه غير حجَّة فَلَا يخصص بِهِ قطعا.
أَو أَنه تَفْرِيع على أَنه غير حجَّة، أما إِذا قُلْنَا إِنَّه حجَّة فيخصص بِهِ قطعا فِيهِ اضْطِرَاب أَيْضا، فَفِي " التَّقْرِيب " للباقلاني الأول، قَالَ: وَقد ينْسب للشَّافِعِيّ ذَلِك فِي قَوْله الَّذِي يجوز فِيهِ تَقْلِيد الصَّحَابِيّ.

(6/2677)


قَالَ: وَنقل عَنهُ أَنه لَا يخصص بِهِ إِلَّا إِذا انْتَشَر فِي أهل الْعَصْر / وَلم ينكروه وَجعل ذَلِك منزلا منزلَة الْإِجْمَاع.
وَكَذَا فَرعه كثير من الْعلمَاء على حجية قَول الصَّحَابِيّ، لَكِن فِي استدلالات ابْن الْحَاجِب فِي الْمَسْأَلَة، وَبِه قَالَ جمع من الْعلمَاء إِن ذَلِك إِذا قُلْنَا إِن قَوْله غير حجَّة؛ لِأَن القَوْل بحجيته إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لم يُخَالف قَوْله قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. انْتهى.
وَإِن قُلْنَا: إِن قَول الصَّحَابِيّ غير حجَّة فَلَا يكون مُخَصّصا للعام، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ مُعظم الْعلمَاء.
وَقيل: يخصص بِهِ سَوَاء كَانَ الرَّاوِي صحابيا أَو غَيره، وَنَقله ابْن الْحَاجِب وَغَيره عَن الْحَنَفِيَّة.
اسْتدلَّ لقَوْل من قَالَ: إِنَّه لَا يخصص مُطلقًا بِأَن الصَّحَابِيّ يتْرك مذْهبه للْعُمُوم، كَتَرْكِ ابْن عمر للمخابرة لخَبر رَافع بن خديج.
وَأجَاب أَصْحَابنَا أَنه لَا يتْركهُ إِلَّا للنَّص؛ لِأَن قَوْله عَن دَلِيل نَص أَو قِيَاس ويخص بهما الْعُمُوم، أَو عُمُوم فالترجيح.

(6/2678)


وَخرج بعض أَصْحَابنَا [من] الرُّجُوع إِلَى قَوْله مُطلقًا - إِذا كَانَ الرَّاوِي للْخَبَر وَتَركه - مثله هُنَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَالفه لدَلِيل فيخص، وَإِلَّا فسق فَيجب الْجمع.
رد: لدَلِيل فِي ظَنّه يلْزمه اتِّبَاعه لَا غَيره بِدَلِيل صَحَابِيّ آخر.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يَخُصُّهُ إِن سمع الْعَام وَخَالفهُ، وَإِلَّا فمحتمل، وَهُوَ قَول الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقد مثل للمسألة بأمثلة، مِنْهَا: مَا ذكره فِي " الْمَحْصُول " مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة فِي الْأَمر بِالْغسْلِ من ولوغ الْكَلْب سبعا مَعَ فتواه بِثَلَاث.
وَفِيه نظر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن ذَلِك لم يَصح عَن أبي هُرَيْرَة.

(6/2679)


وَثَانِيهمَا: أَن ذَلِك لَيْسَ من بَاب الْعُمُوم، فَإِن الْعدَد نَص لَا عُمُوم فِيهِ والتخصيص فرع الْعُمُوم.
وَقَررهُ الْبَاجِيّ بِأَن لفظ الْكَلْب مُفْرد معرف، وَقَالَ: فَهُوَ عَام يَشْمَل كلب الزَّرْع وَغَيره، وَأَبُو هُرَيْرَة يرى الِاقْتِصَار فِي كلب الزَّرْع على ثَلَاث.
لَكِن لم تعرف هَذِه التَّفْرِقَة عَن أبي هُرَيْرَة.
وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " فَإِن مَذْهَب رَاوِيه ابْن عَبَّاس أَن الْمَرْأَة لَا تقتل بِالرّدَّةِ، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا.
قيل: وَفِي التَّمْثِيل بِهِ نظر؛ لاحْتِمَال أَن يكون من الْقَائِلين بِأَن من الشّرطِيَّة لَا تتَنَاوَل الْإِنَاث.
وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يحتكر إِلَّا خاطئ " رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن

(6/2680)


الْمسيب عَن معمر بن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ سعيد يحتكر الزَّيْت، فَقيل لَهُ، فَقَالَ: إِن معمرا رَاوِي الحَدِيث كَانَ يحتكر.
تَنْبِيه: قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقد ترْجم بعض أَصْحَابنَا وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَابْن برهَان مَسْأَلَة هَل يخص الْعُمُوم بِمذهب الرَّاوِي. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: فِي مَوْضُوع الْمَسْأَلَة اضْطِرَاب، فَمرَّة يُقَال: مَذْهَب الصَّحَابِيّ هَل يخص بِهِ، أَو لَا؟ سَوَاء كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَو غَيره، وَمرَّة يُقَال: مُخَالفَة الرَّاوِي فِي بعض مَا رَوَاهُ، هَل هُوَ تَخْصِيص، أَو لَا؟ أَي: وَلَو كَانَ صحابيا.
وَالْأول هُوَ ظَاهر كَلَام ابْن الْحَاجِب حَيْثُ قَالَ الْجُمْهُور إِن مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَيْسَ بمخصص؛ وَلَو كَانَ الرَّاوِي، وَكَذَا قَالَ الْقَرَافِيّ إِن مَذْهَب غير الصَّحَابِيّ لَيْسَ مُخَصّصا قطعا، وَكَأَنَّهُ بنى ذَلِك على أَن قَول الصَّحَابِيّ

(6/2681)


إِذا لم يقل أحد إِنَّه حجَّة، فَكيف يخص بِهِ؟ وَلَكِن قد ذكر الْخلاف فِي ذَلِك، لَكِن الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ الرَّاوِي صحابيا أقوى مِمَّا إِذا كَانَ غير صَحَابِيّ.
قَوْله: {وبقضايا الْأَعْيَان} ، أَعنِي يخص الْعَام بقضايا الْأَعْيَان، هَذِه الْمَسْأَلَة أَخَذتهَا من كَلَام ابْن مُفْلِح خَاصَّة فَإِنَّهُ قَالَ: يخص الْعُمُوم بقضايا الْأَعْيَان ثمَّ قَالَ: وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي الْمجد إِلَى آخِره - وَابْن مُفْلِح أَخذهَا من كَلَام الْمجد فِي " المسودة ".
وَمعنى ذَلِك أَن يرد مَعنا حكم عَام، ثمَّ ترد مَعنا قَضِيَّة عين مُخَالفَة لذَلِك الْعَام فَهَل يخص الْعَام ذَلِك.
مِثَاله: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن لبس الْحَرِير للرِّجَال، ثمَّ أذن فِي لبسه لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَالزُّبَيْر بن الْعَوام؛ لقمل كَانَ بهما وإذنه لَهما فِي

(6/2682)


ذَلِك قَضِيَّة عين فَهَل ذَلِك مُخَصص للْعُمُوم أم لَا؟
قَوْله: {وبالقياس} ، أَي: يخص الْعَام بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحدهمَا: أَن يكون قَطْعِيا، فَإِن كَانَ الْقيَاس قَطْعِيا خص بِهِ الْعَام قطعا، قَالَه الأبياري فِي " شرح الْبُرْهَان "، وَغَيره فَقَالَ: الْقيَاس الْقطعِي يجوز التَّخْصِيص بِهِ بِلَا خلاف، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا كَانَ حكم الأَصْل الَّذِي يسْتَند إِلَيْهِ الْفَرْع مَقْطُوعًا بِهِ، وعلته منصوصة، أَو مجمعا عَلَيْهَا، وَهِي مَوْجُودَة فِي الْفَرْع قطعا، وَلَا فَارق قطعا، فَهَذَا النَّوْع من الْقيَاس لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْخلاف. انْتهى.
قلت: ظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء إِجْرَاء الْخلاف فِيهِ.

(6/2683)


وَالثَّانِي: أَن يكون ظنيا، وَهُوَ مَحل الْخلاف، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، والأشعري، وَأكْثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو هَاشم وَأَبُو الْحُسَيْن {جَوَاز التَّخْصِيص بِهِ} ، نَقله الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وتبعهما ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " على ذَلِك.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: تَنْبِيه فِي مَأْخَذ الْمَسْأَلَة من كَلَام الإِمَام أَحْمد، فَإِن الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب حكياه عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، أَعنِي التَّخْصِيص، قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة الْحسن بن ثَوَاب: حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(6/2684)


لَا ترده الْأَمْثِلَة، وَظَاهره أَن الْقيَاس لَا يرد الظَّاهِر.
قَالَ ابْن عقيل: هَذَا من كَلَام لَا يمْنَع؛ لِأَن التَّخْصِيص لَيْسَ برد، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان، وتمسكوا للتخصيص بِرِوَايَة بكر بن مُحَمَّد: إِذا قذف زَوجته بعد الثَّلَاث وَله مِنْهَا ولد يُرِيد نَفْيه: يُلَاعن. فَقيل لَهُ: أَلَيْسَ يَقُول الله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} [النُّور: 6] ، وَهَذِه لَيست زَوْجَة، فاحتج بِأَن الرجل يُطلق ثَلَاثًا، وَهُوَ مَرِيض فترثه؛ لِأَنَّهُ فر من الْمِيرَاث، وَهَذَا فار من الْوَلَد.
قَالَ القَاضِي: فقد عَارض الظَّاهِر بِضَرْب من الْقيَاس.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيص للْعُمُوم، وَإِنَّمَا عَارض الظَّاهِر الْمَفْهُوم؛ لِأَن تَخْصِيص الحكم بالأزواج يَنْفِيه عَمَّن سواهن.
وَنقل الْمَيْمُونِيّ فِي الرجل يُزَوّج ابْنَته وَهِي كَبِيرَة أحب إِلَيّ أَن يستأمرها فَإِن زَوجهَا من غير أَن يستأمرها جَازَ النِّكَاح، وَهَذَا للْأَب خَاصَّة.

(6/2685)


قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: كَأَنَّهُ خص قَوْله: " لَا تنْكح الْبكر حَتَّى تستأذن ". انْتهى.
وَعند ابْن سُرَيج، والطوفي من أَصْحَابنَا يخص الْقيَاس الْجَلِيّ دون غَيره.
وَقَالَهُ جمَاعَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي، مِنْهُم: ابْن مَرْوَان.
وَاخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْجَلِيّ والخفي، فَقيل: الْجَلِيّ قِيَاس الْعلَّة، والخفي قِيَاس الشّبَه، وَسَيَأْتِي بيانهما فِي الْقيَاس.
وَقيل: الْجَلِيّ مَا تتبادر علته إِلَى الْفَهم عِنْد سَماع الحكم، كتعظيم الْأَبَوَيْنِ عِنْد سَماع قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] .
وَقيل: الْجَلِيّ مَا ينْقض قَضَاء القَاضِي بِخِلَافِهِ، والخفي خِلَافه. نقل عَن الْإِصْطَخْرِي.

(6/2686)


وَقيل غير ذَلِك، وَيَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي الْقيَاس.
وَقَالَ ابْن أبان: يخص بِالْقِيَاسِ إِن كَانَ الْعَام مُخَصّصا فَقَالَ: إِن خص الْعَام بِغَيْر الْقيَاس جَازَ تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَنَقله ابْن برهَان فِي " وجيزه " عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة.
قَالَ الطوفي: وَحكي عَن أبي حنيفَة، وَعند الْحَنَفِيَّة يخص بِالْقِيَاسِ إِن كَانَ الْعَام مُخَصّصا بمجمع عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ خص بِدَلِيل مجمع عَلَيْهِ جَازَ.
وَأخرج الأبياري فِي " شرح الْبُرْهَان " وَغَيره من مَحل الْخلاف كَمَا تقدم لَفظه كَامِلا.

(6/2687)


وَعند الْكَرْخِي يجوز التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ إِن كَانَ الْعَام مُخَصّصا بمنفصل وَإِلَّا فَلَا.
وَعند الْآمِدِيّ إِن ثبتَتْ الْعلَّة بِنَصّ أَو إِجْمَاع جَازَ التَّخْصِيص بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
زَاد ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": أَو كَانَ الأَصْل مُخَصّصا خصص الْعَام بِهِ وَإِلَّا فَالْمُعْتَبر الْقَرَائِن فِي الوقائع فَإِن ظهر تَرْجِيح خَاص، وَإِلَّا فَالْخَبَر.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لكنه آيل إِلَى اتِّبَاع أرجح الظنين، فَإِن تَسَاويا فالوقف.
وَهَذَا رَأْي الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: إِن تَفَاوتا، أَي: الْعَام وَالْقِيَاس فِي إِفَادَة. الظَّن رجحنا الْأَقْوَى، وَإِلَّا توقفنا.
واعترف الإِمَام فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة بِأَنَّهُ حق.
وَكَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِي إِنَّه حق وَاضح.
وَكَذَا الْهِنْدِيّ فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة، وَاسْتَحْسنهُ الْقَرَافِيّ.

(6/2688)


وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: إِنَّه مَذْهَب جيد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن جعل هَذَا مذهبا فِي الْمذَاهب فِي الْمَسْأَلَة لَا يَسْتَقِيم فَإِنَّهُ أَمر كلي لَا تعلق لَهُ بِخُصُوص الْمَسْأَلَة، وَلَا أحد يُنَازع فِيمَا قَرَّرَهُ من أرجح الظنين وَلَا فِي الْوَقْف عِنْد الاسْتوَاء، فَتَأَمّله.
وَمنعه ابْن حَامِد، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَجمع مُطلقًا، مِنْهُم: أَبُو عَليّ الجبائي، وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين، وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
وَأطلق القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " رِوَايَتَيْنِ، وَأطلق أَبُو إِسْحَاق ابْن شاقلا من أَصْحَابنَا وَجْهَيْن، ثمَّ حكى عَنهُ القَاضِي الْمَنْع، وجوازه إِن كَانَ الْمَقِيس عَلَيْهِ مخرجا من الْعُمُوم، كَقَوْل بعض الْعلمَاء.
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: وفيهَا قَول إِن كَانَ الْمَقِيس عَلَيْهِ مخرجا من عَام جَازَ التَّخْصِيص، وَإِلَّا فَلَا. انْتهى.
وَقوم فِي الْقُرْآن، أَي: منع قوم التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ فِي الْقُرْآن

(6/2689)


خَاصَّة، وعزي إِلَى الْحَنَفِيَّة؛ لِأَن التَّخْصِيص عِنْدهم نسخ وَلَا ينْسَخ الْقُرْآن بِالْقِيَاسِ وَلَو كَانَ جليا.
ووقف القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي.
اسْتدلَّ للْأولِ بِأَن الْقيَاس خَاص لَا يحْتَمل التَّخْصِيص وَفِيه جمع بَينهمَا فَقدم.
وَادّعى بَعضهم إِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
وَاسْتدلَّ للْمَنْع: لَو قدم التَّخْصِيص بِهِ لقدم الأضعف لما سبق فِي تَقْدِيم خبر الْوَاحِد على الْقيَاس.
رد بِمَا سبق فَإِن ذَلِك عِنْد إبِْطَال أَحدهمَا، والتخصيص إِعْمَال لَهما.
وألزم بَعضهم الْخصم تَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ وَالْمَفْهُوم لَهما.
قَالُوا: وَأجِيب بِمَا سبق فِي الْمَفْهُوم، وباستصحاب الْحَال.

(6/2690)


رد: بِأَنَّهُ دَلِيل عِنْد عدم دَلِيل شَرْعِي.
وَاقْتصر فِي " التَّمْهِيد " على أَنه لَيْسَ دَلِيلا.
وَاحْتج الْحَنَفِيَّة بِمَا سبق فِي خبر الْوَاحِد.
وَاسْتدلَّ للْوَقْف بتعارض الْأَدِلَّة.
رد بِمَا سبق على أَنه خلاف الْإِجْمَاع.
وَاسْتدلَّ الْآمِدِيّ أَن الْعلَّة كَذَلِك كنص خَاص، وللمخالف الْمَنْع.
وَاسْتدلَّ: المستنبطة مرجوحة، أَو مُسَاوِيَة فَلَا تَخْصِيص، أَو راجحة وَوُقُوع وَاحِد من اثْنَيْنِ أقرب من وَاحِد معِين.
رد بلزومه فِي كل تَخْصِيص، وبأنها راجحة، أَو مُسَاوِيَة، وَالْجمع أولى.
قَوْله: {وَكَذَا صرف ظَاهر غير عَام إِلَى احْتِمَال مَرْجُوح بِقِيَاس} .
وَمعنى هَذَا الْكَلَام أَن يكون معنى اللَّفْظ مُحْتملا لشيئين وَهُوَ ظَاهر فِي أَحدهمَا مَرْجُوح فِي الآخر، لَكِن هُوَ مُوَافق للْقِيَاس فَهَل يصرف عَن الظَّاهِر إِلَى الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح لأجل مُوَافقَة الْقيَاس؟ فِيهِ الْخلاف.

(6/2691)


وَهَذِه الْمَسْأَلَة لم أرها إِلَّا فِي " أصُول ابْن مُفْلِح "، وَقد ذكر الأصوليون التَّأْوِيل والمؤول، وَقَالُوا: هُوَ حمل ظَاهر على مُحْتَمل مَرْجُوح بِدَلِيل، وَالدَّلِيل أَعم من قِيَاس وَغَيره، فَتدخل هَذِه الْمَسْأَلَة فِيهَا.
قَوْله: {هَذِه الْمَسْأَلَة وَنَحْوهَا ظنية} ؛ لِأَن أدلتها ظنية لَا قَطْعِيَّة فَيكون من بَاب الظنون.
وَعند القَاضِي أبي بكر ابْن الباقلاني قَطْعِيَّة للْقطع بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ الرَّاجِح.
قَوْله: {فَائِدَة: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة "} ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما فرغ من الْأَحْزَاب وَأمره جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِالْمَسِيرِ إِلَى بني قُرَيْظَة، فَفعل الْفَرِيقَيْنِ يرجع إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ وَعَدَمه.
هَذِه الْمَسْأَلَة أَخَذتهَا من " مُصَنف ابْن قَاضِي الْجَبَل " فِي الْأُصُول فَإِنَّهُ قَالَ:
تَنْبِيه: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الصَّحِيح ": " لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " ثمَّ ذكر لَهُ أَن طَائِفَة صلت فِي الطَّرِيق فِي الْوَقْت، وَطَائِفَة صلت فِي بني قُرَيْظَة بعد الْوَقْت، فَلم يعب وَاحِدَة مِنْهُمَا.

(6/2692)


فَمن أخر الصَّلَاة حَتَّى وصل إِلَى بني قُرَيْظَة أَخذ بِعُمُوم قَوْله: " لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة "، وَمن صلى فِي الْوَقْت قبل أَن يصل أَخذ، بِأَن المُرَاد بقوله ذَلِك للتَّأْكِيد فِي سرعَة الْمسير إِلَيْهِ، لَا فِي تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا.
{فَقَالَ ابْن حزم} : التَّمَسُّك {بِالْعُمُومِ} هُنَا أرجح، وَأَن الْمُؤخر للصَّلَاة حَتَّى وصل بني قُرَيْظَة هُوَ الْمُصِيب فِي فعله.
{وَخَالفهُ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين بِأَن المُرَاد من ذَلِك التأهب وَسُرْعَة الْمسير، لَا تَأْخِير الصَّلَاة، وَإِن من صلى فِي الْوَقْت كَانَ هُوَ الْمُصِيب، وكلا الطَّائِفَتَيْنِ مُجْتَهد؛ فَلذَلِك لم تعنف وَاحِدَة مِنْهُمَا.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الرَّاجِح من الْفِعْلَيْنِ كَمَا تقدم.

(6/2693)


(قَوْله: {فصل} )

{أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر: الْعَادة: الفعلية لَا تخص الْعُمُوم وَلَا تقيد الْمُطلق} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الْعَادة لَا تخص، وَلَا تقيد الْمُطلق، نَحْو: " حرمت الرِّبَا فِي الطَّعَام " وعادتهم الْبر عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة وَالْجُمْهُور خلافًا للحنفية، والمالكية.
وَلِهَذَا لَا نقض بنادر عِنْد الْمَالِكِيَّة قصرا للغائط على الْمُعْتَاد.
وَذكره القَاضِي القَاضِي فِي مَوَاضِع، فَقَالَ: فِي النَّقْض المُرَاد بِهِ النّوم

(6/2694)


الْمُعْتَاد وَهُوَ المضطجع؛ لِأَنَّهُ الْمَعْقُول من قَوْلك: نَام فلَان.
وَقَالَهُ أَيْضا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَقَالَ: إِن كتب القَاضِي الَّتِي فِي الْفِقْه على هَذَا، وَأَنه ذكر فِي الْوَصِيَّة لأقاربه، وَبَعض مسَائِل الْإِيمَان أَن {الْعَام يخص بعادة الْمُتَكَلّم وَغَيره فِي الْفِعْل} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه الأول: الْعُمُوم لُغَة وَعرفا، وَالْأَصْل عدم مُخَصص.
قَالُوا: المُرَاد ظَاهره عرفا فيخصص بِهِ كالدابة.
رد بِمَا سبق فَلم يتخصص الِاسْم، فَلَو تخصص كالدابة اخْتصَّ، فَهُوَ تَخْصِيص بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَة بعرف قولي، وَالْأول بعرف فعلي.
وَمِنْه مَسْأَلَة من حلف لَا يَأْكُل رَأْسا وبيضا - قَالَه بعض أَصْحَابنَا قَالَ -: وَكَذَا لَحْمًا، هَل يَحْنَث بِمحرم غير مُعْتَاد؟ على وَجْهَيْن. كَذَا قَالَ، وَالْمَعْرُوف حنثه.
وَفِي الْفِقْه مثل هَذِه مسَائِل مُخْتَلفَة، فيوجه القَوْل بِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة فِي عرف الشَّارِع، وَكَلَام الكلف يعْمل فِيهِ بعرفه، أَو عرف خَاص أَو عَام.
وَلِهَذَا قيل للْقَاضِي فِي تَعْلِيقه فِي الطَّلَاق قبل النِّكَاح لَيْسَ مُطلقًا بِدَلِيل مَا لَو علق عتق عَبده بِطَلَاقِهَا فعلقه لم يعْتق، فَقَالَ: لفظ الْحَالِف يحمل على

(6/2695)


الْمُسْتَعْمل الْمَعْهُود وَهُوَ الْإِيقَاع والوقوع، وَلَفظ الشَّارِع يحمل على الْعُمُوم فيهمَا، وَلَو حرم الله تَعَالَى أكل الرؤوس عَم، وَعِنْدهم لَا يَحْنَث إِلَّا بِأَكْل رُؤُوس الْأَنْعَام، وَأَن تِلْكَ الْمسَائِل من الْعرف القولي؛ وَلِهَذَا لَا يَحْنَث فِي مَذْهَب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة بِرَأْس كل مَأْكُول وبيضه.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَمثل الْمَسْأَلَة قصر الحكم على الْمُعْتَاد زَمَنه عَلَيْهِ السَّلَام، وَمِنْه قصر أَحْمد نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام على الْبَوْل فِي المَاء الدَّائِم على غير المصانع المحدثة، وَله نَظَائِر، كَذَا قَالَ.
وَفِيه نظر للْعلم بِأَنَّهُ لم يرد كل مَاء فَلم يُخَالف الْأَصْحَاب أَحْمد فِي هَذَا.
وَقَالَ أَيْضا لما قيل لَهُ الْيَمين بِالطَّلَاق حدثت بعد الشَّارِع فَلم يَتَنَاوَلهَا كَلَامه، فَقَالَ: يَتَنَاوَلهَا.
هَذَا بحث ابْن مُفْلِح، وَنَقله عَن الْمذَاهب، وَالْأَصْحَاب.

(6/2696)


وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَا يخص الْعُمُوم بالعادات عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين خلافًا للحنفية والمالكية، وَذكر النَّقْل.
ثمَّ قَالَ: تَنْبِيه: قَالَت الْمَالِكِيَّة العوائد القولية تُؤثر فِي الْأَلْفَاظ تَخْصِيصًا، ومجازا وَغَيره بِخِلَاف العوائد الفعلية. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": اخْتلف النَّقْل فِي أَن الْعَادة تخصص، أم لَا، فَنقل الرَّازِيّ أَنَّهَا تخصص، وَعكس الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب، وَلم يتوارد النقلان على مَحل وَاحِد، فَكَلَام الرَّازِيّ فِيمَا إِذا ورد من الشَّارِع لفظ عَام، وَوجدنَا الْعَادة [جَارِيَة بِإِخْرَاج بعض أَفْرَاده كالنهي عَن بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ مُتَفَاضلا إِذا جرت الْعَادة] بِبيع بعض الْأَطْعِمَة مُتَفَاضلا فَتكون الْعَادة مخصصة للْعُمُوم ودالة على جَوَاز التَّفَاضُل فِي بيع ذَلِك الطَّعَام إِن كَانَت الْعَادة مَوْجُودَة فِي عصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأقرهم عَلَيْهَا، وَكَذَا إِذا دلّ على جَوَاز ذَلِك النَّوْع بِجِنْسِهِ مَعَ التَّفَاضُل الْإِجْمَاع.

(6/2697)


وَكَلَام الْآمِدِيّ فِيمَا إِذا ورد النَّهْي عَن بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ وَجَرت الْعَادة بِأَن لَا يُبَاع من الطَّعَام إِلَّا الْقَمْح، فَهَل يخْتَص النَّهْي بِهِ، أَو يَشْمَل كلما صدق عَلَيْهِ اسْم الطَّعَام.
قَالَ أَبُو حنيفَة: يخْتَص بِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا، فَلَا يخْتَص الحكم بالمعتاد وَلَا بِمَا وَرَاء الْمُعْتَاد، بل تطرح كل الْعَادة وَيُؤْخَذ بِالْعُمُومِ.
فَكَلَام الرَّازِيّ فِي إِخْرَاج الْمُعْتَاد من غير الْمُعْتَاد، وَكَلَام الْآمِدِيّ فِي إِدْخَال غير الْمُعْتَاد مَعَ الْمُعْتَاد فِي حكمه، وَحمل ابْن دَقِيق الْعِيد كَلَام الْآمِدِيّ على الْعَادة الفعلية كَمَا مثلناه.
أما القولية فَكَمَا يعْتَاد أهل الْعرف تَخْصِيص اللَّفْظ بِبَعْض موارده اعْتِبَارا بسبق الذِّهْن بِسَبَبِهِ إِلَى ذَلِك الْخَاص، فَإِذا أطلق الْعَام قوي تَنْزِيله على الْخَاص الْمُعْتَاد؛ لِأَن الظَّاهِر إِنَّمَا يدل بِاللَّفْظِ على مَا شاع اسْتِعْمَاله فِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن. انْتهى.
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح الْمِنْهَاج " لما ذكر الْبَيْضَاوِيّ الْمَسْأَلَة: لَا إِشْكَال أَن الْعَادة القولية تخصص الْعُمُوم، نَص عَلَيْهِ الْغَزالِيّ، وَصَاحب " الْمُعْتَمد "،

(6/2698)


والآمدي، وَمن تبعه، كَمَا إِذا كَانَ عَادَتهم إِطْلَاق الطَّعَام على المقتات خَاصَّة، ثمَّ ورد النَّهْي عَن بيع الطَّعَام بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا فَإِن النَّهْي يكون خَاصّا بالمقتات؛ لِأَن الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة مُقَدّمَة على اللُّغَوِيَّة.
وَأما الْعَادة الفعلية فَهِيَ مسئلة الْكتاب الْمُخْتَلف فِيهَا. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِمَّنْ نَص على أَن الْعَادة القولية تخصص: الْغَزالِيّ، وألكيا، وَصَاحب " الْمُعْتَمد "، والآمدي، وَمن تبعه، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب، والقرطبي، وَفِي " شرح العنوان " لِابْنِ دَقِيق الْعِيد: أَن الصَّوَاب التَّفْصِيل بَين الْعَادة الراجعة إِلَى الْفِعْل، والراجعة إِلَى القَوْل، فيخصص بِالثَّانِيَةِ الْعُمُوم لسبق الذِّهْن عِنْد الْإِطْلَاق إِلَيْهِ دون الأول.
أَي: إِذا تقدّمت أَو تَأَخَّرت وَلَكِن لم يقررها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يجْتَمع كَلَامه.
وَقَالَ الْقَرَافِيّ: شَذَّ الْآمِدِيّ بحكاية الْخلاف فِي الْعَادة الفعلية،

(6/2699)


قَالَ: وَوَقع للمازري خلاف فِي ذَلِك عَن الْمَالِكِيَّة، وَلَعَلَّه مِمَّن الْتبس عَلَيْهِ الفعلية والقولية. قَالَ: وأظن أَنِّي سَمِعت الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام يَحْكِي الْإِجْمَاع أَن الفعلية لَا تخصص.
وَقَالَ العالمي من الْحَنَفِيَّة: الْعَادة الفعلية لَا تكون مخصصة إِلَّا أَن تجمع الْأمة على استحسانها.
وَقد ذكر الْبرمَاوِيّ أَن الْعَادة ثَلَاث حالات، وَبَينهَا وَبَين مَحل الْخلاف.
قَوْله: {وَلَا يخص الْعَام بمقصوده عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ،

(6/2700)


وَخَالف عبد الْوَهَّاب وَالْمجد وحفيده، وَقَالَ ابْن مُفْلِح: الْعَام لَا يخص بمقصوده عِنْد الْجُمْهُور لما سبق خلافًا لعبد الْوَهَّاب وَغَيره من الْمَالِكِيَّة، وَغَيرهم.
{وَقَالَ صَاحب " الْمُحَرر ": الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم من لمس النِّسَاء مَا يقْصد مِنْهُنَّ غَالِبا من الشَّهْوَة، ثمَّ لَو عَمت خصت بِهِ، وَخَصه حفيده} أَيْضا {بِالْمَقْصُودِ، وَكَذَا قَالَه فِي آيَة الْمَوَارِيث} .
وَقَوله: {وَأحل الله البيع} [الْبَقَرَة: 275] قَصده الْفرق بَينه وَبَين الرِّبَا، و " فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر " قَصده مَا يجب فِيهِ الْعشْر وَنصفه، وَكَذَا قَالَه بعض أَصْحَابنَا فَلَا يحْتَج بِعُمُوم ذَلِك. انْتهى.
وَلم أرها فِي غَيره.
قَوْله: {وَإِذا وَافق خَاص عَاما لم يخصصه عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.
وَخَالف أَبُو ثَوْر} ، وَمَعْنَاهُ: أَن يَأْتِي مَعنا لفظ عَام، وَيَأْتِي لفظ

(6/2701)


خَاص هُوَ بعض ذَلِك الْعَام وداخل فِيهِ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر "، فَهَذَا عَام، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شَاة مَيْمُونَة: " دباغها طهورها " خَاص، وَهُوَ بعض أَفْرَاد الْعَام الْمُتَقَدّم فَلَا يخصص الْخَاص الْعَام لموافقته لَهُ خلافًا لأبي ثَوْر، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَجها لبَعض أَصْحَابنَا، قَالَ: وَوهم بَعضهم فِي النَّقْل عَن أبي ثَوْر.
وَقيل: بلَى، كَانَ يَقُول بِمَفْهُوم اللقب. انْتهى.
اسْتدلَّ للْأولِ بِأَنَّهُ لَا تعَارض بَينهمَا فَيعْمل بهما.
قَالُوا: الْمَفْهُوم يخص الْعُمُوم.
رد: لَا مَفْهُوم فِيهِ، ثمَّ لَو سلم أَنه مَفْهُوم فَهُوَ مَفْهُوم لقب، وَلَيْسَ

(6/2702)


بِحجَّة ثمَّ دلَالَة الْعُمُوم أقوى، وَلَو سلم فَهُوَ وَارِد على سَببه فَلَا يكون حجَّة اتِّفَاقًا.
وَمن أمثلتها قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى} [النَّحْل: 90] ، وَالْإِحْسَان بلام التَّعْرِيف، عَام فِي جَمِيع أَنْوَاع الْإِنْسَان فيندرج فِيهِ إيتَاء ذِي الْقُرْبَى، فَذكره بعده لَيْسَ تَخْصِيصًا للْأولِ بإيتاء ذِي الْقُرْبَى بل اهتماما بِهَذَا النَّوْع، فَإِن عَادَة الْعَرَب أَنَّهَا إِذا اهتمت بِبَعْض أَنْوَاع الْعَام خصصته بِالذكر إبعادا لَهُ عَن الْمجَاز، والتخصيص بذلك النَّوْع.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَلَائِكَته [وَرُسُله] وَجِبْرِيل وميكال} [الْبَقَرَة: 98] ، وَلَيْسَ من هَذَا الْبَاب، قَوْله تَعَالَى: {فَاكِهَة ونخل ورمان} [الرَّحْمَن: 68] ؛ لِأَن فَاكِهَة مُطلق.
فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَقع فِي الْمَذْهَب الاستدلالات على خلاف هَذِه الْقَاعِدَة، مِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ " عَام فِيمَا

(6/2703)


يمس بِهِ، خصوه بِالْيَدِ عِنْد قوم، وباطن الْكَفّ عِنْد آخَرين لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا أفْضى أحدكُم بِيَدِهِ إِلَى ذكره فَليَتَوَضَّأ " وَالْيَد بعض مَا يمس بِهِ.
وَمِنْهَا نَهْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع مَا لم يقبض، وَنهى عَن بيع الطَّعَام قبل قَبضه، وَالطَّعَام بعض ذَلِك الْعُمُوم.
فَقَالَ مَالك وَجَمَاعَة: إِلَّا الطَّعَام قبل قَبضه.
وَقَالَت طَائِفَة: مُطلق ومقيد، وَهُوَ بَاطِل، بل هَذَا تَخْصِيص الْعَام بِذكر بعض أَنْوَاعه، وَهُوَ بَاطِل. انْتهى.
قَوْله: {وَرُجُوع الضَّمِير إِلَى بعض الْعَام لَا يخصصه عِنْد أَكثر

(6/2704)


أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة} . وَعنهُ: بلَى، كأكثر الْحَنَفِيَّة، وَالْقَاضِي.
{وَفِي " الْوَاضِح " هُوَ الْمَذْهَب.
ووقف أَبُو الْمَعَالِي، والرازي} .
اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا عَاد الضَّمِير إِلَى بعض الْعَام، هَل يخصص الْعَام أَو لَا يخصصه، أَو يُوقف؟ على ثَلَاثَة أَقْوَال.
مِثَال ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} ثمَّ قَالَ: {وبعولتهن أَحَق بردهن} [الْبَقَرَة: 228] فَإِن المطلقات يعم البوائن والرجعيات، وَالضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى: {وبعولتهن} عَائِد إِلَى الرجعيات فَقَط؛ لِأَن الْبَائِن لَا يملك الزَّوْج ردهَا. وَلَو ورد بعد الْعَام حكم لَا يَأْتِي إِلَّا فِي بعض أَفْرَاده كَانَ حكمه حكم الضَّمِير، وَصرح بِهِ الرَّازِيّ وَغَيره.
وَمثله بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن} ثمَّ قَالَ: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} [الطَّلَاق: 1] يَعْنِي: الرَّغْبَة فِي مراجعتهن، والمراجعة لَا تَأتي فِي الْبَائِن.

(6/2705)


إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَعبد الْجَبَّار، وَغَيره من الْمُعْتَزلَة أَن الضَّمِير إِذا رَجَعَ إِلَى بعض الْعَام لَا يخصص الْعَام؛ لِأَن الْمظهر عَام، وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ، فَلَا يلْزم من تَخْصِيص الْمُضمر تَخْصِيصه.
قَالُوا: يلْزم، وَإِلَّا لم يطابقه.
رد: لَا يلْزم، كرجوعه مظْهرا.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة: يخصصه الضَّمِير، وَاخْتَارَهُ القَاضِي فِي الْكِفَايَة، وَهُوَ قَول أَكثر الْحَنَفِيَّة. وَذكر الرِّوَايَة هُوَ، وَأَبُو الْخطاب عَن أَحْمد، كَقَوْلِه فِي رِوَايَة أبي طَالب: يَأْخُذُونَ بِأول الْآيَة وَيدعونَ آخرهَا.
وَقَوله فِي آيَة النَّجْوَى: هُوَ علمه لقَوْله فِي أَولهَا ... ... ...

(6/2706)


وَآخِرهَا. وَذكره فِي " الْوَاضِح " الْمَذْهَب، وَخطأ من خَالفه؛ لِأَنَّهُ أقرب من آيَة أُخْرَى.
وَقَالَ القَاضِي أَيْضا: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِدَلِيل وعضده لبَيَان الْآيَة.
وللحنفية الْقَوْلَانِ.
وَتوقف أَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": وَقَالَ الإِمَام، وَأَبُو الْحُسَيْن تَخْصِيص، وَقيل: بِالْوَقْفِ.
هَذَا لَفظه، فَخَالف نقل الْمُخْتَصر نقل ابْن مُفْلِح عَنْهُمَا، وَنقل ابْن الْعِرَاقِيّ أَن الرَّازِيّ اخْتَار فِي " الْمَحْصُول " الْوَقْف، ثمَّ رَأَيْت الْإِسْنَوِيّ قَالَ: الْوَقْف مُخْتَار صَاحب " الْمَحْصُول ".

(6/2707)


وَنَقله الْآمِدِيّ عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَأبي الْحُسَيْن، وَنقل ابْن الْحَاجِب عَنْهُمَا التَّخْصِيص، وَالْمَشْهُور عَن أبي الْمَعَالِي وَأبي الْحُسَيْن الْوَقْف، وَكَذَلِكَ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " وَكَذَلِكَ صَاحب " الْحَاصِل ".
وَلما قَالَت الْحَنَفِيَّة إِنَّه من المخصصات قَالُوا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ إِلَّا كَيْلا بكيل " أَي: إِلَّا كَيْلا مِنْهُ بكيل مِنْهُ، فَالضَّمِير مَحْذُوف وَهُوَ عَائِد على الْبر الَّذِي يُمكن كَيْله، لَا جَمِيع الْبر فَيجوز بيع حفْنَة بر بحفنة مِنْهُ؛ لِأَن ذَلِك لَا يُكَال فَيكون الْعَام وَهُوَ الْبر مُخَصّصا بِمَا يُكَال.

(6/2708)