التحبير شرح التحرير في أصول الفقه

 (بَاب الْمُطلق والمقيد)

(6/2709)


فارغة

(6/2710)


(قَوْله: {بَاب} )

{الْمُطلق: مَا تنَاول وَاحِدًا غير معِين بِاعْتِبَار حَقِيقَة شَامِلَة لجنسه} . وَقَالَ الْآمِدِيّ، والجوزي، وَابْن حمدَان: نكرَة فِي إِثْبَات.
لما كَانَ معنى الْمُطلق والمقيد قَرِيبا من معنى الْعَام وَالْخَاص ذكر عقبهما، بل جعله الْبَيْضَاوِيّ تذنيبا دَاخِلا فِي بَاب الْعَام وَالْخَاص، أَي: ذنابة، وتتمة لَهُ.
وَالْمُطلق مَأْخُوذ من مَادَّة تَدور على معنى الانفكاك من الْقَيْد فَلذَلِك قُلْنَا هُوَ مَا تنَاول وَاحِدًا غير معِين بِاعْتِبَار حَقِيقَة شَامِلَة لجنسه.

(6/2711)


فَخرج بقولنَا: (مَا تنَاول وَاحِدًا) أَلْفَاظ الْأَعْدَاد المتناولة لأكْثر من وَاحِد.
وَخرج (بِغَيْر معِين) المعارف كزيد وَنَحْوه، وبباقي الْحَد الْمُشْتَرك وَالْوَاجِب الْمُخَير فَإِن كلا مِنْهُمَا يتَنَاوَل وَاحِدًا لَا بِعَيْنِه لَا بِاعْتِبَار حقائق مُخْتَلفَة وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِير رَقَبَة} [المجادلة: 3] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي " فَكل وَاحِد من لفظ الرَّقَبَة وَالْوَلِيّ قد يتَنَاوَل وَاحِدًا غير معِين من جنس الرّقاب والأولياء.
وَفِيه حُدُود كَثِيرَة قل أَن يسلم مِنْهَا حد، وَقَالَ الْآمِدِيّ وَمن تبعه وَأَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح "، {و} ابْن حمدَان {فِي " الْمقنع "} : هُوَ {نكرَة فِي إِثْبَات} ، وَكَذَلِكَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، فَقَالَ: {هُوَ مَا دلّ على شَائِع فِي جنسه} .
فَقَوله: شَائِع، أَي: لَا يكون مُتَعَيّنا بِحَيْثُ يمْنَع صَدَقَة على كثيرين.
وَقَوله: فِي جنسه، أَي: لَهُ أَفْرَاد تماثله فَيدْخل فِيهِ الدَّال على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هُوَ، وَالدَّال على وَاحِد غير معِين، وَهُوَ النكرَة.

(6/2712)


قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَزعم الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب دلَالَته على الْوحدَة الشائعة توهماه النكرَة.
وَمن ثمَّ قَالَا: الْأَمر بِمُطلق الْمَاهِيّة أَمر بجزئي وَلَيْسَ بِشَيْء. انْتهى.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ " شَارِحه ": وَقَول المُصَنّف: (توهماه النكرَة) مَمْنُوع، بل تحققاه، وَمَا صنعاه خير مِمَّا صنعه المُصَنّف؛ فَإِن مَفْهُوم الْمَاهِيّة بِلَا قيد، ومفهومها مَعَ قيد الْوحدَة لَا يخفى تغايرهما على أحد، وَلَكِن لم يفرق الأصوليون بَينهمَا لعدم الْفرق بَينهمَا فِي تَعْلِيق التَّكْلِيف، فَإِن التَّكْلِيف لَا يتَعَلَّق إِلَّا بالموجود فِي الْخَارِج، وَالْمُطلق الْمَوْجُود فِي الْخَارِج وَاحِد غير معِين فِي الْخَارِج؛ لِأَن الْمُطلق لَا يُوجد إِلَّا فِي ضمن الْآحَاد، ووجوده فِي ضمنه هُوَ صَيْرُورَته عينه بانضمام مشخصاته إِلَيْهِ فَيكون الْمُطلق الْمَوْجُود وَاحِدًا غير معِين وَذَلِكَ هُوَ مَفْهُوم النكرَة، والأصولي إِنَّمَا يتَكَلَّم فِيمَا وضع بِهِ التَّكْلِيف، وَأما الاعتبارات الْعَقْلِيَّة كَمَا فعله المُصَنّف فَلَا تَكْلِيف بهَا؛ إِذْ لَا وجود لَهَا فِي الْخَارِج؛ لِأَن الْمُكَلف بِهِ يجب إِيقَاعه والإتيان بِمَا

(6/2713)


لَا يقبل الْوُجُود الْخَارِج لَا يُمكن فَلَا يُكَلف بِهِ. انْتهى كَلَام الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ".
وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": الْمُطلق الدَّال على الْمَاهِيّة بِلَا قيد، أَي: من غير اعْتِبَار عَارض من عوارضها، كَقَوْلِنَا: الرجل خير من الْمَرْأَة.
وَقَوله: (بِلَا قيد) مخرج الْمعرفَة النكرَة؛ لِأَن الأولى تدل عَلَيْهَا مَعَ وحدة مُعينَة كزيد، وَالثَّانيَِة مَعَ وَحده غير مُعينَة كَرجل وَهَذَا صَرِيح مِنْهُ فِي الْفرق بَين الْمُطلق والنكرة.
قَوْله: {والمقيد مَا تنَاول معينا} كزيد، وَعَمْرو، {أَو مَوْصُوفا بزائد} ، أَي: بِوَصْف زَائِد {على حَقِيقَة جنسه} ، نَحْو: {شَهْرَيْن مُتَتَابعين} [المجادلة: 4] و {رَقَبَة مُؤمنَة} [النِّسَاء: 92] ، وَهَذَا الرجل.
{وتتفاوت مراتبه} فِي تَقْيِيده بِاعْتِبَار قلَّة الْقُيُود وَكَثْرَتهَا، فَمَا كثرت فِيهِ قيود، كَقَوْلِه تَعَالَى: {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن مسلمات مؤمنات} الْآيَة [التَّحْرِيم: 5] ، أَعلَى رُتْبَة مِمَّا قيوده أقل.
قَوْله: {وَقد يَجْتَمِعَانِ فِي لفظ وَاحِد بالجهتين} .
أَي: يجْتَمع الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد فِي لفظ وَاحِد اعْتِبَارا بالجهتين فَيكون مُقَيّدا من وَجه، مُطلقًا من آخر، ك {رَقَبَة مُؤمنَة} قيدت الرَّقَبَة من حَيْثُ الدّين فَيتَعَيَّن المؤمنة لِلْكَفَّارَةِ، وأطلقت من حَيْثُ مَا سواهُ من الْأَوْصَاف، كالصحة والطول وَالْبَيَاض، وأضدادها، وَنَحْوهَا، فالآية مُطلقَة فِي كل

(6/2714)


رَقَبَة مُؤمنَة، وَفِي كل كَفَّارَة مجزية، ومقيدة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُطلق الرّقاب وَمُطلق الْكَفَّارَات.
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد يكونَانِ تَارَة فِي الْأَمر، كأعتق رَقَبَة، وَأعْتق رَقَبَة مُؤمنَة، وَتارَة فِي الْخَبَر ك " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدين " و " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد وشاهدي عدل ".
الثَّانِيَة: الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد من عوارض الْأَلْفَاظ بِاعْتِبَار مَعَانِيهَا اصْطِلَاحا، وَإِن أطلق على الْمعَانِي عرفا فَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح.
قَالَ الطوفي: وهما فِي الْأَلْفَاظ مستعاران مِنْهُمَا فِي الْأَشْخَاص، يُقَال: رجل أَو حَيَوَان مُطلق إِذا خلا عَن قيد، أَو عقال، ومقيد إِذا كَانَ فِي رجله قيد أَو عقال أَو شكال، وَنَحْوه من مَوَانِع الْحَيَوَان من الْحَرَكَة الطبيعية الاختيارية.

(6/2715)


فَإِذا قُلْنَا: أعتق رَقَبَة فَهَذِهِ الرَّقَبَة شائعة فِي جِنْسهَا شيوع الْحَيَوَان الْمُطلق بحركته الاختيارية بَين جنسه، وَإِذا قُلْنَا: اعْتِقْ رَقَبَة مُؤمنَة كَانَت هَذِه الصّفة لَهَا كالقيد الْمُمَيز للحيوان الْمُقَيد من بَين أَفْرَاد جنسه، ومانعة لَهَا من الشُّيُوع كالقيد الْمَانِع للحيوان من الشُّيُوع بالحركة فِي جنسه، وهما أَمْرَانِ نسبيان بِاعْتِبَار الطَّرفَيْنِ فمطلق لَا مُطلق بعده كمعلوم، ومقيد لَا مُقَيّد بعده كزيد، وَبَينهمَا وسائط تكون من الْمُقَيد بِاعْتِبَار مَا قبل، وَمن الْمُطلق بِاعْتِبَار مَا بعد كجسم وحيوان وإنسان.
قَالَ الْهِنْدِيّ: فالمطلق الْحَقِيقِيّ مَا دلّ على الْمَاهِيّة فَقَط والإضافي مُخْتَلف.
وَالْحَاصِل: أَن الشَّيْء قد يكون مُطلقًا بِاعْتِبَار، ومقيدا بِاعْتِبَار، كرقبة مُؤمنَة، مُطلق بِاعْتِبَار سَائِر الرّقاب المؤمنة، ومقيد بِاعْتِبَار مُطلق الرَّقَبَة، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون فِي الاعتباري لَا الْحَقِيقِيّ.
قَوْله: {وهما كالعام وَالْخَاص} ، فَمَا ذكر من تَخْصِيص الْعُمُوم من مُتَّفق عَلَيْهِ ومختلف فِيهِ، ومختار، ومزيف جَار فِي تَقْيِيد الْمُطلق فَيجوز تَقْيِيد الْكتاب بِالْكتاب وبالسنة، وَالسّنة بِالسنةِ وبالكتاب، وتقييدهما بِالْقِيَاسِ، والمفهومين، وَفعل النَّبِي وَتَقْرِيره، وَمذهب الصَّحَابِيّ، وَنَحْوهَا على الْأَصَح فِي الْجَمِيع.

(6/2716)


الثَّالِثَة: يتَفَرَّع على قَول التَّاج السُّبْكِيّ وَمن تَابعه على أَن الْمُطلق الدَّال على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ لَا مَعَ وحدة شائعة أَن الْأَمر الْمُطلق أَمر بالماهية، وَلَكِن لما لم يحصل إِلَّا فِي جزئي اقْتضى ذَلِك أَنه مَطْلُوب من حَيْثُ مَا يحصل بِهِ الِامْتِثَال؛ لِأَن الجزئي مَطْلُوب ابْتِدَاء.
وَأما على طَريقَة الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب فَالْأَمْر بالمطلق أَمر بجزئي من جزئيات الْمَاهِيّة لَا بالكلي الْمُشْتَرك، فالمطلوب من ضرب - مثلا - فعل جزئي من جزئيات الضَّرْب من حَيْثُ مطابقته للماهية الْكُلية الْمُشْتَركَة؛ لِأَن الْمَاهِيّة الْكُلية يَسْتَحِيل وجودهَا فِي الْأَعْيَان.
وَضعف ذَلِك يُوضح الْفرق بَين الْمَاهِيّة بِشَرْط شَيْء وبشرط لَا شَيْء وَلَا بِشَرْط، وَحِينَئِذٍ فالمطلوب الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ لَا بِقَيْد الْجُزْئِيَّة وَلَا بِقَيْد الْكُلية، واستحالة وجودهَا فِي الْخَارِج إِنَّمَا هُوَ من حَيْثُ تجردها لَا فِي ضمن جزئي، وَذَلِكَ كَاف فِي الْقُدْرَة على تَحْصِيلهَا.
قَوْله: {لَكِن إِن ورد مُطلق ومقيد} . لَا يُقَال: كَانَ يَنْبَغِي إِذا كَانَ الْمُطلق والمقيد كالعام وَالْخَاص أَن لَا يفردا بِالذكر؛ لأَنا نقُول تحصل الْمُخَالفَة

(6/2717)


بَينهمَا من وجوده، وَهِي أَن لنا هُنَا من يرى وَيَقُول بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد، وَلَا قَائِل هُنَا بِحمْل الْخَاص على الْعَام.
وَأَيْضًا فالحمل هُنَاكَ للعام على غير الْمخْرج بالتخصيص، وَهنا بِالْعَكْسِ الْحمل هُنَا للمطلق على نفس الْمُقَيد.
وَأَيْضًا فَمن أَقسَام وُرُود الْمُطلق والمقيد مَا يكون فِيهِ تَخْصِيص، وَمَا يكون حملا لَا تَخْصِيصًا.
وَأَيْضًا فالحمل هُنَا بطرِيق الْقيَاس على رَأْي، وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام الْآتِي بَيَانهَا، فاحتيج إِلَى الْإِفْرَاد بِالذكر.
إِذا علم ذَلِك فَإِذا ورد مُطلق ومقيد فَنَقُول إِذا ورد مُطلق فَقَط، أَو مُقَيّد فَقَط فَحكمه وَاضح، أَو مُطلق فِي مَوضِع، ومقيد فِي آخر فقصر الْمُقَيد على قَيده يطرقه الْخلاف الَّذِي فِي المفاهيم.
وَأما تَقْيِيد الْمُطلق بِقَيْد الْمُقَيد فَهُوَ المُرَاد هُنَا، لَكِن قَالَ بعض الْعلمَاء أَن يكون الْقَيْد مَعْمُولا بِهِ، نَحْو: {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر} [النِّسَاء: 43] الْآيَة وَالْمَرَض وَالسّفر شَرط فِي إِبَاحَة التَّيَمُّم.
فَأَما إِذا لم يكن مَعْمُولا بِهِ فَلَا يحْتَمل عَلَيْهِ الْمُطلق قطعا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ} [النِّسَاء: 101] فَلَيْسَ الْخَوْف شرطا فِي الْقصر.

(6/2718)


وإهمال الْأُصُولِيِّينَ هَذَا الشَّرْط؛ إِنَّمَا هُوَ لوضوحه.
إِذا علم ذَلِك فللمطلق والمقيد أَحْوَال.
الْحَالة الأولى: {أَن يخْتَلف حكمهَا، فَلَا حمل اتِّفَاقًا} مُطلقًا، أَي: سَوَاء {اتّفق السَّبَب أَو اخْتلف} .
مِثَال الأول: التَّتَابُع فِي صِيَام كَفَّارَة الْيَمين فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود، وَإِطْلَاق الطَّعَام فِيهَا.
وَمِثَال الثَّانِي: الْأَمر بالتتابع فِي كَفَّارَة الْيَمين، وَإِطْلَاق الطَّعَام فِي كَفَّارَة الظِّهَار؛ وَلِهَذَا عَن أَحْمد رِوَايَة: لَا يحرم وَطْء من ظَاهر مِنْهَا قبل تكفيره بِالْإِطْعَامِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بكر، وَأَبُو إِسْحَاق من أَصْحَابنَا،

(6/2719)


وَأَبُو ثَوْر، وَاحْتج بهَا القَاضِي وَأَصْحَابه هُنَا، وَمذهب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة يحرم، وقاسوه على الْعتْق وَالصَّوْم.
وَاحْتج القَاضِي فِي تَعْلِيقه لهَذَا بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد، وللذي قبله بعكسه، وَادّعى بعض متأخري أَصْحَابنَا اتِّفَاق الحكم هُنَا؛ لِأَنَّهَا أَنْوَاع الْوَاجِب لَا فرق إِلَّا الْأَسْمَاء.
قَوْله: {وَإِن لم يخْتَلف فَإِن اتَّحد سببهما وَكَانَا مثبتين} ، إِذا لم يخْتَلف الحكم فَتَارَة يتحد سببهما، وَتارَة لَا يتحد، فَإِن اتَّحد فَتَارَة يكونَانِ مثبتين وَتارَة يكونَانِ نهيين، وَتارَة يكون أَحدهمَا أمرا وَالْآخر نهيا.
فَإِن لم يخْتَلف الحكم واتحد السَّبَب وَكَانَا مثبتين، أَو فِي معنى الْمُثبت كالأمر، كَقَوْلِه فِي الظِّهَار: أعتق رَقَبَة ثمَّ قَالَ: أعتق رَقَبَة مُؤمنَة ف {يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد} هُنَا {عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .

(6/2720)


وَذكره الْمجد إِجْمَاعًا، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا أعرف فِيهِ خلافًا.
قَالَ القَاضِي الباقلاني، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب، وَابْن فورك، وألكيا، وَغَيرهم: اتِّفَاقًا.
وَحكى ابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ فِيهِ خلافًا عَن الْحَنَفِيَّة.
وَحكى الطرطوشي خلافًا أَيْضا عَن الْمَالِكِيَّة.
وَقيل للْقَاضِي أبي يعلى فِي تَعْلِيقه فِي خبر ابْن عمر: أَمر لمحرم بِقطع الْخُف، وَأطلق فِي خبر ابْن عَبَّاس فَيحمل عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا يحمل

(6/2721)


إِذا لم يُمكن تَأْوِيله، وتأولنا التَّقْيِيد على الْجَوَاز.
وعَلى أَن الْمَرْوذِيّ قَالَ: احتججت على أبي عبد الله بِخَبَر ابْن عمر هَذَا وَقلت: فِيهِ زِيَادَة، فَقَالَ: هَذَا حَدِيث وَذَاكَ حَدِيث، فَظَاهر هَذَا أَنه لم يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد.
وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار ": لَا يحمل، نَص عَلَيْهِ فِي رِوَايَة الْمَرْوذِيّ، وَإِن سلمنَا - على رِوَايَة - فَإِذا لم يُمكن التَّأْوِيل.
وَقيل: لَهُ فِي التَّحَالُف لاخْتِلَاف المتابعين المُرَاد والسلعة قَائِمَة لقَوْله والسلعة قَائِمَة، فَقَالَ: لَا يحمل على وَجه لنا.
وللمالكية خلاف فِي حمله.
وَاسْتدلَّ للْأولِ بِأَنَّهُ عمل بِالصَّرِيحِ وَالْيَقِين مَعَ الْجمع بَينهمَا.
فَإِن قيل: الْأَمر بالأيمان للنَّدْب لأجل الْمُطلق، رد بِمَا سبق.
قَوْله: {ثمَّ إِن كَانَ الْمُقَيد آحادا وَالْمُطلق تواترا انبنى على الزِّيَادَة هَل هِيَ نسخ، وعَلى نسخ التَّوَاتُر بالآحاد، وَالْمَنْع للحنفية.

(6/2722)


وَالأَصَح أَن الْمُقَيد بَيَان للمطلق.
وَقيل: نسخ إِن تَأَخّر الْمُقَيد.
وَقيل: عَن وَقت الْعَمَل بالمطلق} .
قيدنَا الْمَسْأَلَة بِهَذَا الْقَيْد وَهُوَ مَا إِذا كَانَ الْمُقَيد آحادا وَالْمُطلق تواترا انبنى على الزِّيَادَة، هَل هِيَ نسخ أم لَا؟
وَالصَّحِيح أَن الزِّيَادَة لَيست بنسخ على مَا تقدم بَيَانه فِيمَا إِذا ورد عَام وخاص سَوَاء كَانَا مقترنين أَو لَا، وانبنى أَيْضا على نسخ التَّوَاتُر بالآحاد.
وَالصَّحِيح على أَنه لَا ينْسَخ بِهِ على مَا يَأْتِي فِي الْمَتْن وَالشَّرْح، فَإِذا كَانَت الزِّيَادَة لَيست نسخا وَإِن الْآحَاد لَا ينْسَخ التَّوَاتُر على الصَّحِيح فيهمَا، فَالصَّحِيح أَن الْمُقَيد بَيَان للمطلق، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد فِي الْمَذْهَب وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا وَالْعُلَمَاء كتخصيص الْعَام.
وكما لَا يكون تَأْخِير الْمُطلق نسخا للمقيد مَعَ رَفعه لتقييده فَكَذَا عَكسه.
قَالُوا: فَيكون المُرَاد بالمطلق الْمُقَيد، فَيكون مجَازًا.
رد: بلزومه فِي تَقْيِيد الرَّقَبَة بالسلامة، وَفِيمَا إِذا تقدم الْمُقَيد فَإِنَّهُ بَيَان لَهُ

(6/2723)


عِنْدهم، وَبِأَن الْمجَاز أولى من النّسخ.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة ذكرهَا على هَذِه الصّفة، وقيدها بذلك ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " تبعا للمجد فِي " مسودته "، وَتَبعهُ أَيْضا بعض الْمُتَأَخِّرين.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: حمل الْمُطلق على الْمُقَيد لَا الْمُقَيد على الْمُطلق خلافًا لأبي حنيفَة ولبعضهم، ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْحملِ، هَل حمله بَيَان للمطلق، أَو نسخ لحكم الْمُطلق ويجدد لَهُ حكم التَّقْيِيد؟
وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه بَيَان، تقدم الْمُطلق على الْمُقَيد، أَو تَأَخّر، وَذهب قوم إِلَى أَنه إِن تَأَخّر الْمُقَيد كَانَ نسخا، وَإِن تقدم كَانَ بَيَانا. انْتهى.
وَالَّذِي رَأَيْته للشَّافِعِيَّة أَن الْمُقَيد إِن تَأَخّر عَن وَقت الْعَمَل بالمطلق فَهُوَ نَاسخ، وَإِن تقدم عَلَيْهِ أَو تَأَخّر عَنهُ لَا عَن وَقت الْعَمَل فَهُوَ مَحل الْخلاف الْمَذْكُور.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه مَذْهَب ثَالِث أَنه لَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد لَا بَيَانا، وَلَا نسخا. قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَقيل: يحمل الْمُقَيد على الْمُطلق عكس الصَّحِيح الْمُقدم فَيبقى الْمُطلق على إِطْلَاقه، وَيكون الْمُقَيد ذكر فَرد من أَفْرَاد الْمَاهِيّة، كَمَا أَن ذكر فَرد من أَفْرَاد الْعَام لَا يخصصه.

(6/2724)


قُلْنَا: الْفرق بَينهمَا أَن مَفْهُوم الْمُقَيد حجَّة بِخِلَاف مَفْهُوم اللقب الَّذِي ذكر فَرد من الْعَام مِنْهُ.
فتلخص من الْمَسْأَلَة أَن الْمُطلق هَل يحمل على الْمُقَيد؟
فَإِذا قُلْنَا يحمل، فَهَل هُوَ بَيَان، أَو نسخ؟ إِن تَأَخّر الْمُقَيد عَن الْمُطلق مُطلقًا، أَو عَن وَقت الْعَمَل بالمطلق، أَو لَا يحمل مُطلقًا، أَو يحمل الْمُقَيد على الْمُطلق - عكس الأول -؟
فِيهِ أَقْوَال تقدّمت.
قَوْله: {وَإِن كَانَا نهيين} ، يَعْنِي إِذا اتَّحد السَّبَب وَكَانَا نهيين، أَو نفيين، نَحْو: لَا تعْتق مكَاتبا، لَا تعْتق مكَاتبا كَافِرًا، أَو لَا تكفر بِعِتْق، لَا تكفر بِعِتْق كَافِر، وَلَا نِكَاح إِلَّا بولِي، لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد، {فالمقيد دلّ بِالْمَفْهُومِ.
قَالَ أَبُو الْخطاب: فَمن لَا يرَاهُ حجَّة.
قَالَ الْمجد: أَو لَا يخص الْعُمُوم بِعَمَل بِمُقْتَضى الْإِطْلَاق وَإِلَّا بالمقيد} .
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: فالقائل إِن الْمَفْهُوم حجَّة يُقيد قَوْله: لَا تعْتق مكَاتبا، بِمَفْهُوم قَوْله: لَا تعْتق مكَاتبا كَافِرًا، فَيجوز إِعْتَاق الْمكَاتب الْمُسلم، وَبِهَذَا

(6/2725)


صرح الْفَخر الرَّازِيّ فِي " الْمُنْتَخب "، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام " الْمَحْصُول "، وَمن لَا يَقُول بِالْمَفْهُومِ يعْمل بِالْإِطْلَاقِ، وَيمْنَع إِعْتَاق الْمكَاتب مُطلقًا، وَبِهَذَا قَالَ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب. انْتهى.
فَهَذَا مُوَافق لما قَالَه أَبُو الْخطاب، وَاخْتَارَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": يعْمل بالمطلق؛ لِأَنَّهُ لَا يخص الشَّيْء بِذكر بعض مَا دخل تَحْتَهُ.
{و} ذكر {الْآمِدِيّ} : يعْمل {بالمقيد بِلَا خلاف} ، قَالَ فِي " الإحكام ": لَا خلاف فِي الْعَمَل بمدلولهما، وَالْجمع بَينهمَا؛ إِذا لَا تعذر فِيهِ.
هَذَا لَفظه، وَمَعْنَاهُ: أَنه يلْزم من نفي الْمُطلق نفي الْمُقَيد فَيمكن الْعَمَل بهما فَلَا يعْتق - فِي مثالنا رَقَبَة مُؤمنَة، وَلَا كَافِرَة بِنَاء على أَن ذكر بعض أَفْرَاد الْعُمُوم لَا يكون مُخَصّصا. وَصرح بِهِ أَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد ".
وَحِينَئِذٍ فَلَا فرق بَين هَذَا القَوْل وَبَين قَول من قَالَ يعْمل بالمطلق كَمَا هُوَ قَول القَاضِي.
وَأما قَول أبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: إِن ذكر بعض أَفْرَاد الْعُمُوم لَا يكون

(6/2726)


مُخَصّصا فَفِيهِ نظر؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ ذَلِك الْفَرد لَهُ مَفْهُوم مُعْتَبر فَهِيَ مَسْأَلَة تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْمَفْهُومِ، وَالْمذهب عندنَا تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْمَفْهُومِ، كَمَا تقدم ذَلِك محررا.
قَوْله: {وَقيل: هما من الْعَام وَالْخَاص} ، ذكر غير وَاحِد من الْأُصُولِيِّينَ أَنه إِذا اتَّحد الحكم وَالسَّبَب وَكَانَا نهيين أَو نفيين من صور الْمُطلق والمقيد، وَمن جملَة من ذكره ابْن مُفْلِح وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم وتابعناهم.
وَذهب جمَاعَة من الْعلمَاء - مِنْهُم: الْقَرَافِيّ، وَابْن دَقِيق الْعِيد وَغَيرهمَا - أَنه من صور الْعَام وَالْخَاص؛ لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي، والنكرة فِي سِيَاق النَّفْي أَو النَّهْي عَامَّة، وَهَذَا الْأَظْهر، وتسميتهما مُطلقًا ومقيدا مجَاز.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة " بعد كَلَام أبي الْخطاب وَالْقَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": قلت: وَإِن كَانَا إباحتين فهما فِي معنى النهيين، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَا كراهتين، فَإِن كَانَا ندبين فَفِيهِ نظر، وَإِن كَانَا خبرين عَن حكم شَرْعِي فَينْظر فِي ذَلِك الحكم. انْتهى.

(6/2727)


قَوْله: {وَإِن كَانَ أَحدهمَا أمرا، وَالْآخر نهيا فالمطلق مُقَيّد بضد الصّفة} فأحدهما فِي معنى النَّفْي، وَالْآخر فِي معنى الْإِثْبَات، مثل: إِن ظَاهَرت فَأعتق رَقَبَة، وَيَقُول: لَا تملك رَقَبَة كَافِرَة، فَلَا بُد من التَّقْيِيد بِنَفْي الْكفْر لِاسْتِحَالَة إِعْتَاق الرَّقَبَة الْكَافِرَة، فالحمل فِي ذَلِك ضَرُورِيّ، لَا من حَيْثُ إِن الْمُطلق حمل على الْمُقَيد، وَلذَلِك قَالَ ابْن الْحَاجِب: إِنَّه وَاضح.
قَوْله: {وَإِن اخْتلف سببهما كالرقبة فِي الظِّهَار، وَالْقَتْل} فَأطلق الرَّقَبَة فِي الظِّهَار وقيدها بِالْإِيمَان فِي الْقَتْل.
الْكَلَام أَيْضا فِيمَا إِذا اخْتلف الحكم فَإِنَّهُ قِسْمَانِ:
قسم يتحد السَّبَب، وَتَحْته أَنْوَاع:
أَحدهمَا: أَن يَكُونَا منفيين.
الثَّانِي: أَن يَكُونَا نهيين.
الثَّالِث: أَن يكون أَحدهمَا نهيا وَالْآخر نفيا، وَتقدم الْكَلَام على ذَلِك كُله.
وَالْقسم الثَّانِي: أَن يتحد الحكم وَيخْتَلف السَّبَب وَهِي مَسْأَلَتنَا، كإعتاق الرَّقَبَة فِي الْقَتْل وَفِي الظِّهَار وَالْيَمِين.

(6/2728)


أما فِي الظِّهَار فَإِنَّهَا وَردت فِيهِ مُطلقَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون لما قَالُوا فَتَحْرِير رَقَبَة من قبل أَن يتماسا} [المجادلة: 3] ، وَقَالَ فِي الْيَمين: {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} - إِلَى قَوْله - {أَو تَحْرِير رَقَبَة} [الْمَائِدَة: 89] .
وَأما فِي الْقَتْل فَإِنَّهَا وَردت فِيهِ مُقَيّدَة بِالْإِيمَان فِي قَوْله: {وَمن قتل مُؤمنا خطئا فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة إِلَى أَهله} [النِّسَاء: 92] .
وَمِنْه: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَقَوله: {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} [الطَّلَاق: 2] ، فَالصَّحِيح {حمل} الْمُطلق على الْمُقَيد {قِيَاسا بِجَامِع بَينهمَا عِنْد أَحْمد و} أَكثر {أَصْحَابه، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابه، والمالكية، وَغَيرهم} .
قَالَ: اخْتَارَهُ أَكثر أَصْحَابنَا كتخصيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: فَجَائِز عِنْد أَصْحَابنَا، وَبِه يَقُول الْمَالِكِيَّة،

(6/2729)


وَالشَّافِعِيَّة، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، والرازي، والباقلاني، وَنسبه للمحققين.
قَالَ عبد الْوَهَّاب: إِنَّه الْأَصَح عِنْدهم.
{وَعنهُ لَا} يحمل عَلَيْهِ {كالحنفية وَغَيرهم} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: اخْتَارَهُ ابْن شاقلا وَابْن عقيل فِي فنونه قَالَ: لجَوَاز قصد الْبَارِي للتفرقة بِمَعْنى بَاطِن، أَو ابتلاء.
وَمنع الْمجد دلَالَة هَذِه الرِّوَايَة، ثمَّ قَالَ: نعم، يتَخَرَّج لنا رِوَايَة من عدم تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه.

(6/2730)


{وَتوقف أَبُو الْمَعَالِي} .
قَوْله: {وَلَا يحمل عَلَيْهِ لُغَة عِنْد أَحْمد، وَابْن شاقلا، وَابْن عقيل، والحلواني، وَالْمجد، والآمدي، وَالْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَحكي عَن الشَّافِعِي} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهُوَ أرجح قولي الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن نصر: وَهُوَ قَول الْمَالِكِيَّة، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، والجويني، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَنَقله عبد الْوَهَّاب عَن أَكثر الْمَالِكِيَّة.
{وَعَن أَحْمد: يحمل، اخْتَارَهُ القَاضِي} ، وَقَالَ: أَكثر كَلَام أَحْمد يدل عَلَيْهِ.

(6/2731)


وَرُوِيَ عَن مَالك، {و} قَالَه {بعض الشَّافِعِيَّة} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَبِه قَالَت الْمَالِكِيَّة.
وَنقل عَن الشَّافِعِي وَبَعض أَصْحَابه، قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هَذَا ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب عَن جُمْهُور أَصْحَابه.
فتلخص فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال: يحمل مُطلقًا، لَا يحمل مُطلقًا، يحمل بِقِيَاس لَا بلغَة.
تَنْبِيه:
منشأ الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أُمُور:
أَحدهَا: أَن الْمُطلق هَل هُوَ ظَاهر فِيمَا يَشْمَلهُ، أَو نَص فِيهِ؟ فَإِن قُلْنَا نَص، فَلَا يحمل على الْمُقَيد بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يكون نسخا، والنسخ بِالْقِيَاسِ مُمْتَنع.

(6/2732)


الثَّانِي: أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَتَخْصِيص عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم كَمَا تقدم، والنسخ لَا يجوز بِالْقِيَاسِ وَيجوز التَّخْصِيص.
الثَّالِث: عدم حجية الْمَفْهُوم عِنْد الْحَنَفِيَّة، فَلَا يحمل / الْمُطلق عَلَيْهِ كَذَلِك. وَعِنْدنَا حجَّة فِي الْجُمْلَة.
قَوْله: وَإِن ورد مقيدان متنافيان وَمُطلق، وَاخْتلف السَّبَب، كتتابع صَوْم الظِّهَار، وتفريق صَوْم الْمُتْعَة، وَقَضَاء رَمَضَان مُطلق.
إِذا ورد مَعنا مقيدان متنافيان، وَمُطلق فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يخْتَلف السَّبَب أَو يتَّفق، فَإِن اخْتلف السَّبَب لَكِن جنس الْجَمِيع وَاحِد كتتابع صَوْم الظِّهَار فَإِنَّهُ قد ورد النَّص بتتابعه لقَوْله تَعَالَى: {فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين} [المجادلة: 4] وتفريق صَوْم الْمُتْعَة فَإِن النَّص قد ورد بتفريقه لقَوْله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم} [الْبَقَرَة: 196]

(6/2733)


وَورد قَضَاء رَمَضَان مُطلق لم يرد بِهِ تتَابع، وَلَا تَفْرِيق، قَالَ الله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] فَأطلق الْقَضَاء.
وَمثله بَعضهم بالصيام فِي كَفَّارَة الْيَمين فَإِن فِي تتابعه خلافًا فعلى القَوْل بِعَدَمِ التَّتَابُع هُوَ دائر بَين قيدين: التَّتَابُع فِي صَوْم الظِّهَار، والتفريق فِي صَوْم التَّمَتُّع فِي الْحَج، وَلَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر.
وَمثله بَعضهم أَيْضا بتردد إِطْلَاق الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّم بَين الْوضُوء الْمُقَيد بالمرافق، وَقطع السّرقَة الْمُقَيد بالكوع بِالْإِجْمَاع.
وَلَكِن الْأَشْبَه بِهِ أرجح فِي الْحمل وَهُوَ الْوضُوء؛ لِأَن التَّيَمُّم بدله، وهما طهارتان، وَلَا يحمل على أَحدهمَا لُغَة، أَي: فِي اللُّغَة.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": إِذا كَانَ مَعنا نصان مقيدان فِي جنس وَاحِد وَالسَّبَب مُخْتَلف، وَهُنَاكَ نَص ثَالِث مُطلق من الْجِنْس فَلَا خلاف أَنه لَا يلْحق بِوَاحِد مِنْهُمَا لُغَة، وَذكر الْمِثَال الْمُتَقَدّم.
وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح: فَلَا يحمل لُغَة بِلَا خلاف؛ إِذْ لَا مدْخل للغة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة.
وَقَالَهُ الْمجد فِي " المسودة ".
قَوْله: بل {قِيَاسا بِجَامِع} فِي الْأَصَح، إِذا لم يحمل لُغَة فَهَل يحمل قِيَاسا بِجَامِع؟

(6/2734)


فِيهِ الْخلاف الَّذِي فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقِيَاسًا بِجَامِع مُعْتَبر الْخلاف، يَعْنِي بِهِ الْخلاف الَّذِي فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد على مَا سبق.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَأما إِلْحَاقه بِأَحَدِهِمَا قِيَاسا إِذا وجدت عِلّة تَقْتَضِي الْإِلْحَاق فَإِنَّهُ على الْخلاف الْمَذْكُور فِي الَّتِي قبلهَا. انْتهى.
وَقَالَ الطوفي وَغَيره تبعا للموفق فِي " الرَّوْضَة ": حمل الْمُطلق على أشبههما بِهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَحكى} بَعضهم {عَن أبي الْخطاب قِيَاس قَضَاء رَمَضَان على كَفَّارَة الْيَمين فِي التَّتَابُع أولى مِنْهُ [على الْمُتْعَة فِي عَدمه] } .
قَوْله: {وَإِن اتَّحد السَّبَب، وتساويا سقطا مَحل تُرَاب ...

(6/2735)


فِي غسل نَجَاسَة كلب} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِن كَانَ السَّبَب وَاحِدًا، فَإِن كَانَ حمله على أَحدهمَا أرجح من الآخر بِأَن كَانَ الْقيَاس فِيهِ أظهر قيد بِهِ؛ لِأَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ الأجلى أولى، فَإِن تساوى عمل بالمطلق ويلغى القيدان كالبينتين إِذا تَعَارَضَتَا فَإِن الْأَرْجَح فيهمَا التساقط، وَكَانَ كمن لَا بَيِّنَة هُنَاكَ.
وَقَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَأما إِذا أطلقت الصُّورَة الْوَاحِدَة، ثمَّ قيدت تِلْكَ الصُّورَة بِعَينهَا بقيدين متنافيين، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليغسله سبع مَرَّات " وَورد فِي رِوَايَة: " إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ "، وَفِي رِوَايَة: " أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ "، وَفِي أُخْرَى: " السَّابِعَة بِالتُّرَابِ ". رَوَاهَا أَبُو دَاوُد، وَهِي معنى: " وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ "، قيل: إِنَّمَا سميت ثامنة لأجل اسْتِعْمَال التُّرَاب مَعهَا.
فَلَمَّا كَانَ القيدان متنافيين تساقطا، ورجعنا إِلَى الْإِطْلَاق فِي إِحْدَاهُنَّ فَفِي أَي غسلة جعل جَازَ، إِذا أَتَى عَلَيْهِ من المَاء مَا يُزِيلهُ ليحصل الْمَقْصُود

(6/2736)


مِنْهُ، لَكِن اخْتلف فِي الْأَوْلَوِيَّة على أَقْوَال عندنَا:
أَحدهَا: أَن إِحْدَى الغسلات لَيْسَ بِأولى من غَيرهَا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْمُوفق فِي " الْمقنع "، وَجَمَاعَة كَثِيرَة، وَهُوَ مُوَافق لما قُلْنَا أَولا، وَهُوَ التساقط وَالرُّجُوع إِلَى الْإِطْلَاق.
وَعنهُ: الأولى أَن يكون التُّرَاب فِي الأولى، وَهَذَا قطع بِهِ فِي " الْمُغنِي "، و " الشَّرْح "، و " الْكَافِي "، و " النّظم "، و " الْحَاوِي الصَّغِير "، وَغَيرهم، وَاخْتَارَهُ جمَاعَة كَثِيرَة، وَهُوَ الْمَذْهَب على المصطلح.

(6/2737)


وَعنهُ: إِن غسلهَا ثمانيا، فَفِي الثَّامِنَة، جزم بِهِ ابْن تَمِيم، وَاخْتَارَهُ أَيْضا جمَاعَة.
وَعنهُ: الْأَخِيرَة أولى.
وَلَعَلَّ من اخْتَار غير الْإِطْلَاق بِدَلِيل غير ذَلِك فيترجح عِنْده التَّعْيِين على الْإِطْلَاق للدليل الْخَارِج، وَالله أعلم.
وَقَوْلنَا: وَإِن اتَّحد السَّبَب وتساويا، احْتِرَاز مِمَّا إِذا كَانَ أَحدهمَا أرجح قِيَاسا، فَإِنَّهُ يعْمل بِهِ، وَقد تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي كَلَام الْبرمَاوِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: مَا ذكر فِي مَسْأَلَة اتِّحَاد السَّبَب إِذا لم يكن أولى بِأحد القيدين من طرحهما.
وَالْعَمَل بالمطلق، هُوَ مَا أجَاب بِهِ الْقَرَافِيّ لبَعض الْحَنَفِيَّة فِي قَوْله إِن الشَّافِعِيَّة خالفوا قاعدتهم فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي حَدِيث الولوغ فَإِنَّهُ قد جَاءَ: " إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ " وَهُوَ مُطلق، وَجَاء فِي رِوَايَة: " أولَاهُنَّ "، فِي رِوَايَة: " أخراهن " فهما قيدان متنافيان فَلم يحملوا وجوزوا التَّرْتِيب فِي كل من السَّبع، فَقَالَ لَهُ الْقَرَافِيّ: ذَلِك إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يكون قيدا وَاحِدًا، أما فِي القيدين فَيعْمل بالمطلق.

(6/2738)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمَا ذكره، هُوَ مَا جرى عَلَيْهِ أَصْحَابنَا فِي الْفِقْه من عدم تعْيين شَيْء من السَّبع، وَقَالُوا: التتريب فِي الأولى أولى، لَا وَاجِب.
لَكِن نَص الشَّافِعِي فِي " الْأُم " على تعْيين الأولى، أَو الْأَخِيرَة، وَكَذَا نَص فِي " مُخْتَصر الْبُوَيْطِيّ " أَنه يعْمل بالقيدين على معنى أَن الْوَاجِب أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، وَأَحَدهمَا قدر مُشْتَرك، وَفَائِدَته دفع الْخَمْسَة المتوسطة بَين الأولى والأخيرة.
وَبحث السُّبْكِيّ أَنه يجب فِي كليهمَا؛ لوُرُود الحَدِيث فيهمَا وَلَا تنَافِي فِي الْجمع بَينهمَا.
ورد: فنص الشَّافِعِي مُخَالف لما قَالَه أَصْحَابه.
لَكِن ورد عَنهُ نَص بموافقتهم.
قَوْله: تَنْبِيه:
يحمل {الأَصْل فِي الْأَصَح} كالوصف، حمل الْمُطلق على الْمُقَيد بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَصْف مُتَّفق عَلَيْهِ كوصف الرَّقَبَة فِي الْقَتْل وَنَحْوه بِالْإِيمَان، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأَصْل أَي الْمَحْذُوف بِالْكُلِّيَّةِ كالإطعام فَإِنَّهُ مَذْكُور فِي كَفَّارَة الظِّهَار دون كَفَّارَة الْقَتْل.

(6/2739)


قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": فَظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي الأَصْل كَمَا حمل عَلَيْهِ فِي الْوَصْف؛ لأَنهم حكوا فِي كَفَّارَة الْقَتْل فِي وجوب الْإِطْعَام رِوَايَتَيْنِ: الْوُجُوب إِلْحَاقًا بكفارة الظِّهَار، كَمَا حكوا رِوَايَتَيْنِ فِي اشْتِرَاط وصف الْإِيمَان فِي كَفَّارَة الظِّهَار، والاشتراط إِلْحَاقًا بكفارة الْقَتْل، فَدلَّ هَذَا من كَلَامهم لَا فرق فِي الْحمل بَين الأَصْل وَالْوَصْف.
وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا فرق فِي الْحمل بَين الأَصْل وَالْوَصْف ابْن خيران من الشَّافِعِيَّة، وَلَكِن قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر ": المُرَاد بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد إِنَّمَا هُوَ الْمُطلق بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَصْف دون الأَصْل.
قلت: الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب أَنه لَا يجب الْإِطْعَام فِي كَفَّارَة الْقَتْل، وَفِي هَذَا تَنْبِيه أَنه لَا يحمل الأَصْل، بل الْحمل مَخْصُوص بِالْوَصْفِ، لَكِن فِي الْمَذْهَب رِوَايَة عَن أَحْمد أَنه يجب الْإِطْعَام، وَاخْتَارَهُ كثير من الْأَصْحَاب، كصاحب " الْمُحَرر " وَغَيره، فعلى هَذَا يحمل كالوصف.
وَأما مَسْأَلَة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة الْوَاجِبَة فِي الظِّهَار، [و] كَفَّارَة الْوَطْء فِي رَمَضَان فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب اشْتِرَاط الْإِيمَان فِي الْكل، وَعَلِيهِ مُعظم الْأَصْحَاب، وَقطع بِهِ كثير مِنْهُم.

(6/2740)


وَلنَا رِوَايَة ضَعِيفَة إِجْزَاء الرَّقَبَة الْكَافِرَة فِي الظِّهَار، وَالْوَطْء فِي رَمَضَان، وَالْيَمِين، اخْتَارَهَا أَبُو بكر من أَصْحَابنَا، وَهَذِه هِيَ الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة وَهِي مَا إِذا اتَّحد الحكم وَاخْتلف السَّبَب فَقِيَاس صَاحب الْقَوَاعِد الْمَسْأَلَة الأولى على هَذِه فِيهِ نظر، بل الحكم مُخْتَلف فيهمَا على الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: يشْتَرط فِيمَا إِذا اخْتلف السَّبَب واتحد الحكم أَن يُقيد الْمُقَيد صفة، نَحْو تَقْيِيد الرَّقَبَة بِالْإِيمَان، لَا ذاتا كالإطعام فِي كَفَّارَة الْقَتْل فَلَا يحمل على الظِّهَار فِي وُجُوبه عِنْد تعذر صَوْم الشَّهْرَيْنِ على أصح قولي الشَّافِعِي، وكحمل التَّيَمُّم فِي الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة على الْوضُوء فِي ذَلِك، بل يقْتَصر على الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَكَذَا حمل إِطْلَاق الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّم على قيد الْمرَافِق فِي الْوضُوء؛ لِأَن ذَلِك صفة فِي الْيَدَيْنِ، لَا أصل مُسْتَقل كَمَا فِي الرَّأْس وَالرّجلَيْنِ. انْتهى.
وَمِنْهُم من منع من ذَلِك؛ لِأَنَّهُ فِي ذَات الساعدين زِيَادَة على الكوعين.
ذكر هَذَا الشَّرْط كثير من الشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْمَازرِيّ عَن الْأَبْهَرِيّ من الْمَالِكِيَّة وَنقل كَلَام ابْن خيران.

(6/2741)


قَوْله: {وَمحله} ، أَي: الْحمل {إِذا لم يسْتَلْزم تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، فَإِن استلزمه حمل على إِطْلَاقه، قَالَه بعض أَصْحَابنَا} الْمُحَقِّقين {كَمَسْأَلَة قطع الْخُف} .
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": مَحل حمل الْمُطلق على الْمُقَيد إِذا لم يسْتَلْزم تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، فَإِن استلزمه حمل على إِطْلَاقه، قَالَه طَائِفَة من محققي أَصْحَابنَا، مِثَال ذَلِك: لما أطلق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبس الْخُفَّيْنِ بِعَرَفَات، وَكَانَ مَعَه الْخلق الْعَظِيم من أهل مَكَّة، والبوادي، واليمن مِمَّن لم يشْهد خطبَته بِالْمَدِينَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُقيد بِمَا قَالَه فِي الْمَدِينَة وَهُوَ قطع الْخُفَّيْنِ.
وَنَظِير هَذَا فِي حمل اللَّفْظ على إِطْلَاقه قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن سَأَلته عَن دم الْحيض: " حتيه ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ " لم يشْتَرط عددا مَعَ أَنه وَقت حَاجَة، فَلَو كَانَ الْعدَد شرطا لبينه، وَلم يحلهَا على ولوغ الْكَلْب فَإِنَّهَا رُبمَا لم تسمعه، وَلَعَلَّه لم يشرع الْأَمر بِغسْل ولوغه. انْتهى.
قَوْله: {وَقَالَ بعض محققيهم وَغَيرهم الْمُطلق من الْأَسْمَاء يتَنَاوَل الْكَامِل من المسميات فِي إِثْبَات، لَا نفي} كَالْمَاءِ، والرقبة، وَعقد النِّكَاح

(6/2742)


الْخَالِي عَن وَطْء يدْخل فِي قَوْله: {وَلَا تنْكِحُوا} [الْبَقَرَة: 221] لَا {حَتَّى تنْكح} [الْبَقَرَة: 230] .
وَلَو حلف لَا يتَزَوَّج حنث بِمُجَرَّد العقد عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة.
وَلَو حلف ليتزوجن يبر بِمُجَرَّدِهِ عِنْد أَحْمد وَمَالك، {وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا: الْوَاجِبَات الْمُطلقَة تَقْتَضِي السَّلامَة من الْعَيْب فِي عرف الشَّارِع} بِدَلِيل الْإِطْعَام فِي الْكَفَّارَة، وَالزَّكَاة.
{وَصرح القَاضِي، وَابْن عقيل وَغَيرهمَا} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا {أَن إِطْلَاق الرَّقَبَة فِي الْكَفَّارَة يَقْتَضِي الصِّحَّة} بِدَلِيل الْمَبِيع وَغَيره، وَسبق خِلَافه من كَلَام الْآمِدِيّ وَغَيره، وَكَذَا لِابْنِ عقيل فِي الزِّيَادَة على النَّص.
وَحكي عَن دَاوُد أَنه جوز عتق كل رَقَبَة لإِطْلَاق اللَّفْظ، وَسلمهُ

(6/2743)


الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " وَغَيره، وَقَيده قِيَاسا على الْإِطْعَام، وَاخْتَارَ فِي (ليتزوجن) يبر بِالْعقدِ كالنفي؛ لِأَن الْمُسَمّى وَاحِد فَمَا تنَاوله النَّفْي تنَاوله الْإِثْبَات.
أما الْمُعَامَلَة كَالْبيع فإطلاق الدِّرْهَم مُخْتَصّ بعرفها.
قَوْله: خَاتِمَة: الْمُطلق ظَاهر الدّلَالَة على الْمَاهِيّة كالعام، لَكِن على سَبِيل الْبَدَل، وَعند الْحَنَفِيَّة قَطْعِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُطلق قَطْعِيّ الدّلَالَة على الْمَاهِيّة عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَظَاهر فِيهَا عِنْد الشَّافِعِيَّة كالعام، وَهُوَ يُشبههُ لاسترساله على كل فَرد إِلَّا على سَبِيل الْبَدَل، وَلِهَذَا قيل عَام عُمُوم بدل. انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد ذكر الْمُقَيد وَالْمُطلق: وَقد عرف مِمَّا سبق دلَالَة الْمُطلق وَأَنه كالعام فِي تنَاوله، وأطلقوا عَلَيْهِ الْعُمُوم لكنه على الْبَدَل، وَسبق فِي (إِن أكلت) هَل يعم الزَّمَان، وَالْمَكَان؟
وَقيل للْقَاضِي وَقد احْتج على الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد بقوله: {وَأَن احكم بَينهم} [الْمَائِدَة: 49] لَا يدل على الْمَكَان فَقَالَ: هُوَ أَمر بالحكم فِي عُمُوم الْأَمْكِنَة والأزمنة، إِلَّا مَا خصّه الدَّلِيل.

(6/2744)


وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": الْمُطلق مُشْتَمل على جَمِيع صِفَات الشَّيْء وأحواله.
وَأجَاب الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " لمن احْتج بِآيَة الْقصاص وَالسَّرِقَة وَالزِّنَا فِي الملتجئ إِلَى الْحرم: الْأَمر بذلك مُطلق فِي الْأَمْكِنَة والأزمنة يتَنَاوَل مَكَانا ضَرُورَة إِقَامَته فَيمكن فِي غير الْحرم [ثمَّ] لَو عَم خص.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَالْمَعْرُوف فِي كَلَامه وَكَلَام غَيره هُوَ الثَّانِي، وَسبق كَلَام بعض أَصْحَابنَا فِي (إِن أكلت) ، وَفِيه أَن الْمُطلق تنَاول أَفْرَاده على الْبَدَل لُزُوما عقليا، وأوصاف الرَّقَبَة لم يدل عَلَيْهَا لَفظهَا بِنَفْي وَلَا إِثْبَات، فإيجاب الْإِيمَان إِيجَاب لما لم يُوجِبهُ اللَّفْظ وَلم ينفه.
فَلَو قَالَ: أعْط هَذَا لفقير، ثمَّ قَالَ: لَا تعطه كَافِرًا، فَلَا تنَافِي، وَلَو قَالَ: أعْطه أَي فَقير كَانَ، ثمَّ قَالَ: لَا تعطه كَافِرًا تنافيا لقصده ثُبُوت الحكم لكل فَرد، وَالْمُطلق قَصده ثُبُوته للمعنى الْعَام فَإِذا شَرط فِيهِ شرطا لم يتنافيا.

(6/2745)


وَقَالَ أَيْضا: التَّقْيِيد زِيَادَة حكم والتخصيص نقص فَلَو كَانَ بعد الْمُطلق جَازَ بِخَبَر الْوَاحِد، وَحمله لجهل التَّارِيخ على التَّأَخُّر أولى، وَالله أعلم.
انْتهى الْجُزْء الثَّانِي، ويتلوه الْجُزْء الثَّالِث، وأوله بَاب الْمُجْمل، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.

(6/2746)


الْجُزْء الثَّالِث من كتاب التحبير شرح التَّحْرِير فِي أصُول الْفِقْه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم اللَّهُمَّ صل على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم.