التحبير شرح التحرير في أصول الفقه

(بَاب الْإِجْمَاع)

(6/2747)


فارغة

(6/2748)


(قَوْله: {بَاب} )

{الْمُجْمل لُغَة الْمَجْمُوع} ، أَو الْمُبْهم، {أَو المحصل} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: الْمُجْمل لُغَة الْمَجْمُوع من أجملت الْحساب.
وَقيل: أَو الْمُبْهم.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هُوَ لُغَة من الْجمل، وَمِنْه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْيَهُود: " جملوها "، أَي: خلطوها، وَمِنْه الْعلم الإجمالي لاختلاط الْمَعْلُوم بِالْمَجْهُولِ، وَهنا سمي مُجملا؛ لاختلاط المُرَاد بِغَيْرِهِ، أَو أجملت الْحساب جمعته، وأجملت حصلت.

(6/2749)


وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُجْمل أَصله من الْجمل وَهُوَ الْجمع، وَمن مَعَانِيه اللُّغَوِيَّة أَيْضا الْإِبْهَام، من أجمل الْأَمر، أَي: أبهمه، وَمِنْه التَّحْصِيل، من أجمل الشَّيْء حصله.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: مَا تردد بَين محتملين فَأكْثر على السوَاء} .
قَالَه الطوفي فِي " مُخْتَصره "، لَكِن قَالَ: اللَّفْظ المتردد إِلَى آخِره فَيرد عَلَيْهِ الْأَفْعَال، نَحْو الْقيام من الرَّكْعَة الثَّانِيَة قبل التَّشَهُّد؛ لتردده بَين الْجَوَاز والسهو فَلذَلِك حذفتها ليدْخل الْإِجْمَال الْفعْلِيّ فَإِن الْمُجْمل يتَنَاوَل القَوْل وَالْفِعْل والمشترك والمواطئ.
وَاحْترز بقوله: (بَين محتملين) عَمَّا لَهُ محمل وَاحِد كالنص.
وَقَوله: على السوَاء، احْتِرَاز عَن الظَّاهِر، وَعَن الْحَقِيقَة الَّتِي لَهَا مجَاز.
{وَقيل: مَا لم تتضح دلَالَته} ، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، والتاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع ".

(6/2750)


أَي: مَا لَهُ دلَالَة غير وَاضِحَة لِئَلَّا يرد عَلَيْهِ المهمل؛ لِأَنَّهُ يصدق عَلَيْهِ أَنه لم تتضح دلَالَته؛ إِذْ لَا دلَالَة فِيهِ، وَلَا اتضاح.
وَهُوَ يتَنَاوَل القَوْل وَالْفِعْل والمشترك والمتواطئ.
وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَضعف تَفْسِيره بِاللَّفْظِ الَّذِي لَا يفهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق شَيْء؛ لِأَنَّهُ يدْخل فِيهِ المهمل، والمستحيل، أَي: لِأَنَّهُ لَا يفهم من المهمل شَيْء، وَأما المستحيل فَلَيْسَ بِشَيْء.
وانتقد عَلَيْهِ بِأَن قَوْله: (عِنْد الْإِطْلَاق) يَقْتَضِي أَنه يفهم شَيْء عِنْد التَّقْيِيد فَلَا يدْخل المهمل، وَلَا المستحيل؛ لِأَنَّهُمَا لَا يفهم مِنْهُمَا شَيْء لَا عِنْد الْإِطْلَاق وَلَا عِنْد التَّقْيِيد.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَلَا ينعكس، أَي: التَّعْرِيف لجَوَاز فهم أحد المحامل مِنْهُ على الْجُمْلَة، وَهُوَ أحد هذَيْن فيفهم انْتِفَاء غَيرهمَا.
وَلِأَن ذَلِك قد يكون فِي الْفِعْل كَمَا تقدم.
{و} قَالَ أَبُو الْخطاب {فِي " التَّمْهِيد ": مَا أَفَادَ جملَة من الْأَشْيَاء} .

(6/2751)


قد يعْتَرض عَلَيْهِ بِأَن الْأَشْيَاء قد يكون بَعْضهَا أظهر من بعض وَهِي جملَة.
{و} قَالَ القَاضِي {فِي " الْعدة ": مَا لَا يفهم مَعْنَاهُ من لَفظه} .
قد يرد عَلَيْهِ المهمل، وَقد يُجَاب بِأَن المهمل مَا [لَيْسَ] لَهُ معنى.
{و} قَالَ الْمُوفق {فِي " الرَّوْضَة ": مَا لَا يفهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق معنى} .
وَمرَاده معنى معينا، وَإِلَّا بَطل بالمشترك فَإِنَّهُ يفهم معنى غير معِين، والمشترك من جملَة الْمُجْمل.
{وَقَالَ} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ} فِي " الْإِيضَاح ": {مَا لَا يفهم مِنْهُ مُرَاد الْمُتَكَلّم} ، فَهُوَ حسن ومعانيها مُتَقَارِبَة.
قَوْله: {وَحكمه التَّوَقُّف على الْبَيَان} الْخَارِجِي، فَلَا يجوز الْعَمَل بِأحد محتملاته إِلَّا بِدَلِيل خَارج من لَفظه لعدم دلَالَة لَفظه على المُرَاد وَامْتِنَاع التَّكْلِيف بِمَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ.

(6/2752)


قَوْله: {وَيكون فِي الْكتاب وَالسّنة فِي الْأَصَح} ، الْمُخَالف فِي ذَلِك دَاوُد الظَّاهِرِيّ. قَالَ بَعضهم: لَا نعلم أحدا قَالَ بِهِ غَيره، فالحجة عَلَيْهِ من الْكتاب وَالسّنة لَا يُحْصى وَلَا يعد، وإنكاره مُكَابَرَة.
قَالَ دَاوُد: الْإِجْمَال بِدُونِ الْبَيَان لَا يُفِيد، وَمَعَهُ تَطْوِيل، وَلَا يَقع فِي كَلَام البلغاء فضلا عَن الله، وَسيد الْأَنْبِيَاء.
وَالْجَوَاب: أَن الْكَلَام إِذا ورد مُجملا، ثمَّ بَين وَفصل أوقع عِنْد النَّفس من ذكره مُبينًا ابْتِدَاء.
وَأجَاب فِي " الْمَحْصُول " عَن هَذَا السؤل بِأَن الله يفعل مَا يَشَاء، وَلَا يخفى أَنه لَيْسَ بِجَوَاب؛ لِأَن قَوْله: مَعَ الْبَيَان تَطْوِيل بِلَا فَائِدَة يكون مُسلما عِنْد الْمُجيب، وَلَا يرضى بِهِ عَاقل فضلا عَن مُحَقّق فَاضل، قَالَه الكوراني.
قَوْله: {وَفِي مُفْرد} يكون الْمُجْمل تَارَة فِي الْمُفْرد، وَتارَة فِي الْمركب، فالمفرد كالقرء المتردد بَين الطُّهْر وَالْحيض، وَالْعين المترددة بَين الباصرة وَالْجَارِيَة والنقد والربئية وَعين الْمِيزَان وَغَيرهَا، حَتَّى عد ذَلِك إِلَى قريب

(6/2753)


الثَّلَاثِينَ، أَو أَزِيد، وَالْمُخْتَار، وَنَحْوهَا؛ إِذْ أَصله مختير، فَإِن فتحت الْيَاء كَانَ اسْم مفعول، وَإِن كسرتها كَانَ اسْم فَاعل.
وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ الْيَاء حرف عِلّة متحرك وَمَا قبله مَفْتُوح فيقلب ألفا فَلَمَّا قلب ألفا حصل الْإِجْمَال؛ لاحْتِمَال أَن يكون اسْم فَاعل، وَذَلِكَ حكم مُخْتَار وَنَحْوه فقسه على ذَلِك.
قَالَ العسكري: ويتميز بِحرف الْجَرّ تَقول: هَذَا مُخْتَار لكذا فِي الْفَاعِل ومختار من كَذَا فِي الْمَفْعُول، وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين الْقُرْء أَن الْإِجْمَال طَرَأَ على هَذَا بِاعْتِبَار الإعلال وَالْعَمَل التصريفي، والقرء مُجمل من حَيْثُ وَضعه مَعَ أَن كلا مِنْهُمَا إجماله من حَيْثُ هُوَ مُفْرد.
وَحَاصِله: أَن الْمُجْمل أَعم من الْمُشْتَرك؛ لِأَن الْمُجْمل يَشْمَل مَا احْتمل مَعْنيين سَوَاء وَاللَّفْظ فيهمَا حَقِيقَة أَو مجَازًا، أَو أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَاز مسَاوٍ للْحَقِيقَة، فَلذَلِك يدْخل فِيهِ مَا كَانَ صَالحا لمتماثلين بِوَجْه من الْوُجُوه كالنور لِلْعَقْلِ، وللشمس والجسم للسماء وَالْأَرْض، وَالرجل لزيد وَعَمْرو، قَالَه الْغَزالِيّ، وَفِيه نظر.
وَأما الْمركب فكثير، فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَو يعفوا الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} [الْبَقَرَة: 237] هَل هُوَ الزَّوْج أَو الْوَلِيّ؟ فَيحْتَمل أَن يكون الْوَلِيّ؛

(6/2754)


لِأَنَّهُ الَّذِي يعْقد نِكَاح الْمَرْأَة؛ لِأَنَّهَا لَا تزوج نَفسهَا، وَيحْتَمل أَن يكون الزَّوْج؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ دوَام العقد والعصمة، فَوَقع الِاخْتِلَاف فِي بَيَانه، فَالَّذِي قَالَه الإِمَام أَحْمد، وَأَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد إِنَّه الزَّوْج.
وَقَالَهُ كثير من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى أَنه الْأَب، وَهُوَ قَول مَالك، وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَقَالَهُ جمع من التَّابِعين، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، لَكِن قَالَ أَبُو حَفْص: رَجَعَ الإِمَام أَحْمد عَن هَذِه الرِّوَايَة.

(6/2755)


وَقَالَ بَعضهم: أَن لَا إِجْمَال فِيهِ لقِيَام الدَّلِيل على أَن المُرَاد بِهِ الزَّوْج.
وَالظَّاهِر أَنه مُجمل لَكِن بَين.
قَوْله: {وَفِي مرجع الضَّمِير} فِي نَحْو: ضرب زيد عمرا وأكرمني، يحْتَمل أَن يعود الضَّمِير الَّذِي فِي أكرمني إِلَى زيد، وَإِلَى عَمْرو وَهُوَ الْأَقْرَب.
وَفِي قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " لَا يمنعن جَار جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره " يحْتَمل عوده على الغارز، أَي: لَا يمنعهُ جَاره أَن يفعل ذَلِك فِي جِدَار نَفسه، وعَلى هَذَا فَلَا دلَالَة فِيهِ على القَوْل إِنَّه إِذا طلب جَاره مِنْهُ أَن يضع خَشَبَة على جِدَار الْمَطْلُوب مِنْهُ وَجب عَلَيْهِ التَّمْكِين.
وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " مُخْتَصر الْبُوَيْطِيّ "، وَقواهُ النَّوَوِيّ.

(6/2756)


وَيحْتَمل أَن يعود على الْجَار الآخر فَيكون فِيهِ دلَالَة على ذَلِك.
وَرجح بَعضهم الأول؛ لموافقته لقواعد الْعَرَبيَّة فِي عود الضَّمِير إِلَى أقرب مَذْكُور، وَالَّذِي عَلَيْهِ إمامنا، وأصحابنا أَن الضَّمِير إِنَّمَا يعود إِلَى الْجَار لَا إِلَى الغارز، وَهُوَ الظَّاهِر، ورجوعه إِلَى الغارز ضَعِيف.
وَفِي الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك لقَوْل أبي هُرَيْرَة: (مَا لي أَرَاكُم عَنْهَا معرضين؛ وَالله لأرمين بهَا بَين أظْهركُم) وَلَو كَانَ ذَلِك عَائِدًا إِلَى الغارز لما قَالَ ذَلِك.
قَوْله: {وَفِي مرجع الصّفة كزيد طَبِيب ماهر} ، يحْتَمل أَن يعود ماهر إِلَى طَبِيب، يَعْنِي طَبِيبا ماهرا فِي طبه، وَيحْتَمل أَن يعود ماهر إِلَى زيد، أَي: زيد ماهر، فَيحْتَمل أَن يعود إِلَى ذَات زيد، وَيحْتَمل أَن يعود إِلَى وَصفه الْمَذْكُور، وَهُوَ طَبِيب.
وَلَا شكّ أَن الْمَعْنى متفاوت باعتبارهما وَإِن كَانَ بَينهمَا فرق، فَإِن أعدنا (ماهرا) إِلَى طَبِيب فَيكون ماهرا فِي طبه، وَإِن أعدنا إِلَى زيد فَتكون مهارته فِي

(6/2757)


غير الطِّبّ وَهُوَ الْمُجْمل بِاعْتِبَار التَّرْكِيب، صرح بِهِ الْبرمَاوِيّ، وَغَيره.
وَأما الكوراني فَقَالَ: وَكَذَا زيد طَبِيب ماهر؛ إِذْ المستكن فِي ماهر مُمكن عوده إِلَى زيد وَإِلَى طَبِيب.
فعلى مَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِي يعود إِلَى طَبِيب؛ فتنحصر مهارة زيد فِي الطِّبّ. انْتهى.
وَهَذَا الْمِثَال لَيْسَ من كَلَام الله، وَلَا من سنة رَسُول الله، وَهُوَ من كَلَام الْعَرَب.
قَوْله: {وَفِي تعدد الْمجَاز عِنْد تعذر الْحَقِيقَة} ، إِذا كَانَت المجازات متكافئة وَمَعَ مَانع من حمله على الْحَقِيقَة.
قَوْله: {وعام خص بِمَجْهُول} ، مِثَال الْعَام الْمَخْصُوص بِمَجْهُول: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا بَعضهم، وَقد تقدم ذَلِك فِيمَا إِذا خص الْعَام بِمَجْهُول، هَل يكون حجَّة، وَإِذا خص بِمَجْهُول صَار الْبَاقِي مُحْتملا فَكَانَ مُجملا.

(6/2758)


{ومستثنى وَصفَة مجهولين} .
مِثَال الْمُسْتَثْنى الْمَجْهُول، نَحْو: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 1] .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَوْله: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} فَإِنَّهُ قد اسْتثْنى من الْمَعْلُوم مَا لم يعلم فَصَارَ الْبَاقِي مُحْتملا فَكَانَ مُجملا. انْتهى.
وَمِثَال الصّفة المجهولة، نَحْو: {محصنين} مُوجب الْإِجْمَال فِي {وَأحل لكم} إِلَى قَوْله: {أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} [النِّسَاء: 24] والإحصان غير مُبين؛ لِأَنَّهُ صفة مَجْهُول.
قَوْله: {وَالْوَاو، وَمن} ، الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى: {والراسخون [فِي الْعلم] يَقُولُونَ آمنا بِهِ} [آل عمرَان: 7] يحْتَمل أَن تكون عاطفة، وَيكون الراسخون فِي الْعلم يعلمُونَ تَأْوِيله، وَيحْتَمل أَن تكون مستأنفة فَتكون للاستئناف، وَيكون الْوَقْف على (إِلَّا الله) ، وَقد تقدم الْكَلَام على ذَلِك مُسْتَوفى فِي أَوَاخِر الْكَلَام على الْكتاب الْعَزِيز.

(6/2759)


وَأما (من) فلهَا معَان، وَتَأْتِي فِي بعض الْأَمَاكِن مُحْتَملَة لمعان فَتكون مجملة، فَإِنَّهَا تصلح للتَّبْعِيض، وَابْتِدَاء الْغَايَة، وَالْجِنْس وَنَحْوهَا.
والمجمل حصره فِي الْأَمْثِلَة عسر، وَلَكِن الفطن يعلم ذَلِك بالتتبع مَعَ الِاحْتِمَالَات، وَالله أعلم.
تَنْبِيه: حَيْثُ كَانَ الْمُجْمل فِي مُشْتَرك أَو فِي حَقِيقَة ومجاز، أَو فِي مجازين فإجماله حَيْثُ لم يحمل على معنييه، أَو مَعَانِيه، فَأَما إِذا حمل على ذَلِك فَلَا إِجْمَال على مَا تقدم فِي أثْنَاء الْعَام.
قَوْله: {لَا إِجْمَال فِي إِضَافَة التَّحْرِيم إِلَى الْعين، ك {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} [الْمَائِدَة: 3] و {أُمَّهَاتكُم} [النِّسَاء: 23] ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء أَكثر أَصْحَابنَا وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم.

(6/2760)


وَخَالف فِي ذَلِك القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي من أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، الْكَرْخِي وَغَيره، وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ.
وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - أَن تَحْرِيم الْعين غير مُرَاد؛ لِأَن التَّحْرِيم إِنَّمَا يتَعَيَّن بِفعل الْمُكَلف، فَإِذا أضيف إِلَى عين من الْأَعْيَان يقدر الْفِعْل الْمَقْصُود مِنْهُ، فَفِي المأكولات يقدر الْأكل، وَفِي المشروبات الشّرْب، وَفِي الملبوسات اللّبْس، وَفِي الموطوءات الْوَطْء، فَإِذا أطلق أحد هَذِه الْأَلْفَاظ سبق الْمَعْنى المُرَاد إِلَى الْفَهم من غير توقف فَتلك الدّلَالَة متضحة لَا إِجْمَال فِيهَا.
وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب الثَّانِي أَن إِسْنَاد التَّحْرِيم إِلَى الْعين لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ فَلَا بُد من تَقْدِيره، وَهُوَ مُحْتَمل لأمور لَا حَاجَة إِلَى جَمِيعهَا، وَلَا مُرَجّح لبعضها فَكَانَ مُجملا.

(6/2761)


قُلْنَا: الْمُرَجح مَوْجُود، وَهُوَ الْعرف فَإِنَّهُ قَاض بِأَن المُرَاد فِي الأول تَحْرِيم الْأكل وَنَحْوه، وَفِي الثَّانِي تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع بِوَطْء وَنَحْوه.
وَلِأَن الصَّحَابَة احْتَجُّوا بظواهر هَذِه الْأُمُور وَلم يرجِعوا إِلَى غَيرهَا، فَلَو لم تكن من الْمُبين لم يحتجوا بهَا.
قَوْله: {وَهُوَ عَام عِنْد القَاضِي، وَابْن عقيل، والحلواني، وَالْفَخْر، وَغَيرهم} .
تقدم ذكر ذَلِك فِي دلَالَة الِاقْتِضَاء، والإضمار، فنحو: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَنَحْوه من الْأَمْثِلَة، إِن دلّ دَلِيل على تَقْدِير شَيْء من المحتملات بِعَيْنِه فَذَاك سَوَاء كَانَ الْمُقدر عَاما فِي أُمُور كَثِيرَة، أَو خَاصّا مُقَدّر.
وَإِن لم يدل دَلِيل على تعْيين شَيْء لَا عَام، وَلَا خَاص مَعَ احْتِمَال أُمُور مُتعَدِّدَة لم يتَرَجَّح بَعْضهَا، فَهَل تقدر المحتملات كلهَا، وَهُوَ المُرَاد بِالْعُمُومِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، أَو لَا؟
ذكر ذَلِك الْبرمَاوِيّ فِي دلَالَة الْإِضْمَار.

(6/2762)


قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر أَبُو الطّيب الْعُمُوم عَن قوم من الْحَنَفِيَّة.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: لَا إِجْمَال فِي {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} ؛ لِأَن الْعرف دلّ على التَّعْمِيم فَيتَنَاوَل العقد وَالْوَطْء.
وَقَالَ فِي الْعَام: الْعرف دلّ على أَن المُرَاد تَحْرِيم الاستمتاعات الْمَقْصُودَة من النِّسَاء من الْوَطْء ومقدماته.
وَقيل: الْعُمُوم من بَاب الِاقْتِضَاء؛ لِاسْتِحَالَة تَحْرِيم الْأَعْيَان فيضمر مَا يَصح بِهِ الْكَلَام، وَيجْرِي فِيهِ الْخلاف فِي عُمُوم الْمُقْتَضى.
وَقد يتَرَجَّح هَذَا بقَوْلهمْ: الْإِضْمَار خير من النَّقْل. انْتهى.
وَهَذَا مُرَاد ابْن مُفْلِح بقوله: إِنَّه عَام عِنْد جمَاعَة، وَهُوَ الَّذِي قدمه وقدمناه، {و} أَيْضا {عِنْد أبي الْخطاب، والموفق، والمالكية} وَجَمَاعَة من الْمُعْتَزلَة {ينْصَرف إِطْلَاقه فِي كل عين إِلَى الْمَقْصُود اللَّائِق بهَا} ؛ لِأَنَّهُ متبادر لُغَة أَو عرفا، نقل هذَيْن الْقَوْلَيْنِ ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله وَلم أرهما على هَذِه الصّفة لغيره وتابعته على ذَلِك.

(6/2763)


{وَعند أَكثر الْمُتَكَلِّمين لَا عُمُوم لَهُ} ، لَا أعلم الْآن من أَيْن نقلت هَذَا عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين، فيتتبع.
قَوْله: {وَقَالَ التَّمِيمِي، وَالشَّافِعِيَّة: وصف الْعين بِالْحلِّ وَالْحُرْمَة مجَاز} ، فَدلَّ على أَن الْمُقدم أَنه تُوصَف الْعين بهما حَقِيقَة، وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، وَمذهب الْحَنَفِيَّة، وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَنْهُم فِي كَلَامه على الرُّخْصَة، وَنَقله أَيْضا عَن الْمُعْتَزلَة وَقَالَ: ويعزى للحنفية.
وَنَصره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَقَالَ: رد قَول من منع ذَلِك، بل تُوصَف الْعين بِالْحلِّ، والحظر حَقِيقَة فَهِيَ محظورة علينا، ومباحة كوصفها بِطَهَارَة، ونجاسة، وَطيب، وخبث، فالعموم فِي لفظ التَّحْرِيم.

(6/2764)


وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " قَوَاعِده ": قَالَ أَئِمَّتنَا فِي طوائف أهل السّنة: إِن الْحل وَالْحُرْمَة، وَالطَّهَارَة، والنجاسة، وَسَائِر الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة لَيست من صِفَات الْأَعْيَان، فَإِذا قُلْنَا: هَذَا حَلَال، أَو حرَام، أَو طَاهِر، أَو نجس فَلَيْسَ ذَلِك رَاجعا إِلَى نفس الذَّات، وَلَا إِلَى صفة نفسية قَائِمَة بهَا، بل هُوَ من صِفَات التَّعَلُّق، وَصفَة التَّعَلُّق لَا تعود إِلَى وصف فِي الذَّات، فَلَيْسَ معنى قَوْلنَا الْخمر، حرَام ذَاتهَا وَلَا تجرع الشَّارِب، إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا التَّحْرِيم رَاجع إِلَى قَول الشَّارِع فِي النَّهْي عَن شربهَا، وذاتها لم تَتَغَيَّر.
وَهَذَا كمن علم زيدا قَاعِدا بَين يَدَيْهِ، فَإِن علمه وَإِن تعلق بزيد لم يُغير من صِفَات زيد وَلَا أحدث لزيد صفة ذَات.
وَذهب من ينتمي إِلَى أبي حنيفَة من عُلَمَاء الْكَلَام إِلَى أَن الْأَحْكَام

(6/2765)


الشَّرْعِيَّة صِفَات للمحال وَرَأَوا أَن التَّحْرِيم وَالْوُجُوب راجعان إِلَى ذَات الْفِعْل الْمحرم وَالْوَاجِب، انْتهى. ذكره الْبرمَاوِيّ وَأطَال فِيهِ.
فَائِدَة: إِذا لم يَتَّضِح أحد المجازات بِقَرِينَة، وَلَا بِشَهَادَة عرف. قدر الْجَمِيع؛ لِأَنَّهُ الْأَقْرَب إِلَى الْحَقِيقَة كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لعن الله الْيَهُود حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها وباعوها فَأَكَلُوا ثمنهَا " فَلَو لم يعم جَمِيع التَّصَرُّفَات لما اتجه اللَّعْن فِي البيع.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي رده على الْقَائِل بِالْإِجْمَاع فِي إِضَافَة التَّحْرِيم إِلَى الْأَعْيَان، ثمَّ نمْنَع الْحَاجة إِلَى الْإِضْمَار مَعَ تبادر الْفَهم، ثمَّ يضمر الْجَمِيع؛ لِأَن الْإِضْمَار وَاقع إِجْمَاعًا بِخِلَاف الْإِجْمَال، وَأكْثر وقوعا مِنْهُ، ولإضماره فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لعن الله الْيَهُود، حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها، وباعوها "، وَإِلَّا لما لعنهم بِبَيْعِهَا. انْتهى.

(6/2766)


قَوْله: {وَلَا فِي قَوْله: {وامسحوا برءوسكم} [الْمَائِدَة: 6] أَعنِي أَنه لَا إِجْمَال فِي ذَلِك، وَخَالف بعض الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ عَنهُ: إِنَّه مُجمل؛ لتردده بَين مسح الْكل وَالْبَعْض، وَإِن السّنة بيّنت الْبَعْض، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن الْحَنَفِيَّة.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: خلافًا للحنفية، أَو لبَعْضهِم.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: ذهب بعض الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه مُجمل.
وَحَكَاهُ فِي " الْمُعْتَمد " عَن أبي عبد الله الْبَصْرِيّ.
وَالصَّحِيح أَنه لَا إِجْمَال فِيهَا، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم؛ لِأَن الْبَاء للإلصاق وَمَعَ الظُّهُور لَا إِجْمَال.

(6/2767)


قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: والقائلون بِعَدَمِ الْإِجْمَال فريقان، الْجُمْهُور مِنْهُم قَالُوا: إِنَّه بِوَضْع حكم اللُّغَة ظَاهر فِي مسح جَمِيع الرَّأْس؛ لِأَن الْبَاء حَقِيقَة فِي الإلصاق، وَقد ألصقت الْمسْح بِالرَّأْسِ وَهُوَ اسْم لكله، لَا لبعضه؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَال بعض الرَّأْس رَأس، فَيكون ذَلِك مقتضيا مسح جَمِيعه، وَهُوَ قَول أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَمَالك، والباقلاني، وَابْن جني، كآية التَّيَمُّم {فامسحوا بوجوهكم} [الْمَائِدَة: 6] .
وَمِنْهُم من زعم أَن عرف الِاسْتِعْمَال الطَّارِئ على الْوَضع يَقْتَضِي إلصاق الْمسْح بِبَعْض الرَّأْس، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَعبد الْجَبَّار، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.
وَالْمَشْهُور أَن القَوْل بالتبعيض مَذْهَب بعض الشَّافِعِيَّة، فَأَما مَذْهَب الشَّافِعِي وَعبد الْجَبَّار وَأبي الْحُسَيْن فَهُوَ الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْكل وَالْبَعْض، وَهُوَ مُطلق مسح الرَّأْس مَعَ قطع النّظر عَن الْكل وَالْبَعْض، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا إِجْمَال.

(6/2768)


قَوْله: {وَلَا فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: رفع عَن أمتِي الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان "} عِنْد الْجُمْهُور، وَخَالف بعض الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو الْحُسَيْن وَأَبُو عبد الله البصريان، ويحكى عَن الْقَدَرِيَّة، قَالُوا: لتردده بَين نفي الصُّورَة وَالْحكم.
وَأَيْضًا: إِذا لم يكن نفي الْمَذْكُور مرَادا فَلَا بُد من إِضْمَار لمتعلق الرّفْع وَهُوَ مُتَعَدد، فَحصل الْإِجْمَال.
أُجِيب عَن الأول بِأَن نفي الصُّورَة لَا يُمكن أَن يكون مرَادا لما فِيهِ من نِسْبَة كَلَامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْكَذِب وَالْخلف فَتعين أَن المُرَاد نفي الحكم.
وَعَن الثَّانِي - وَهُوَ احْتِمَال الْمُضْمرَات - بِأَنَّهُ قد دلّ الدَّلِيل على المُرَاد إِمَّا بِالْعرْفِ، أَو غَيره كَمَا سبق فِي {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} ، فَيُقَال: هُنَا دلّ الْعرف بِأَن الْمَرْفُوع الْمُؤَاخَذَة، وَالْعِقَاب، وَالْحكم الْمَرْفُوع هُوَ الْإِثْم خَاصَّة دون الضَّمَان، وَالْقَضَاء.

(6/2769)


وَقيل بِرَفْع جَمِيع أَحْكَام الْخَطَأ، وَهُوَ ظَاهر قَول أبي الْخطاب، والطوفي وَغَيرهمَا.
فعلى هَذَا حَيْثُ لزم الْقَضَاء وَالضَّمان بعض من ذكر، كَانَ لدَلِيل خَارج، كقضاء الصَّلَاة، وَقتل الْمُكْره.
قَوْله: وَلَا فِي آيَة السّرقَة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] يَعْنِي: لَا إِجْمَال فِيهَا.
هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء؛ لِأَن الْيَد حَقِيقَة إِلَى الْمنْكب لصِحَّة إِطْلَاق بعض الْيَد لما دونه، وَالْقطع حَقِيقَة فِي إبانة الْمفصل، وَلَا إِجْمَال فِي شَيْء مِنْهَا فإطلاقها إِلَى الْكُوع مجَاز قَامَ الدَّلِيل على إِرَادَته فِي الْآيَة، وَهُوَ فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْإِجْمَاع.
وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة: مُجمل فِي الْقطع، وَفِي الْيَد؛ لِأَن الْيَد تطلق على مَا هُوَ إِلَى الْكُوع وعَلى مَا هُوَ إِلَى الْمنْكب، وعَلى مَا هُوَ إِلَى الْمرَافِق فَيكون مُشْتَركا، وَهُوَ من الْمُجْمل.

(6/2770)


وَالْقطع يُطلق على الْإِبَانَة، وَيُطلق على الْجرْح فَيكون مُجملا.
وَالْجَوَاب على ذَلِك: أَن الْمَسْأَلَة لغوية، وَالْيَد حَقِيقَة إِلَى الْمنْكب، وَالْقطع حَقِيقَة فِي الْإِبَانَة، ظَاهر فيهمَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلِهَذَا لما نزلت آيَة التَّيَمُّم تيممت الصَّحَابَة مَعَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى المناكب.
وَأَيْضًا لَو كَانَ مُشْتَركا فِي الْكُوع، والمرفق والمنكب لزم الْإِجْمَال، وَالْمجَاز أولى مِنْهُ على مَا سبق.
وَاسْتدلَّ للثَّانِي: بِأَنَّهُ يحْتَمل الِاشْتِرَاك والتواطؤ، وَحَقِيقَة أَحدهمَا، وَوُقُوع وَاحِد من اثْنَيْنِ أقرب من معِين.
رد ذَلِك بِأَنَّهُ إِثْبَات لُغَة بالترجيح، وبنفي الْمُجْمل، وَفِيه نظر؛ لاخْتِصَاص هَذَا الدَّلِيل بِلَفْظ أطلق على معَان اخْتلف فِي ظُهُوره فِي بَعْضهَا.
قَالُوا: الْيَد للثلاث وَالْقطع للإبانة وَالْجرْح، وَالْأَصْل عدم مُرَجّح.

(6/2771)


رد بظهوره بِمَا سبق.
وَسلم الْآمِدِيّ أَن قطع السَّارِق خلاف الظَّاهِر، وَأَنه أولى من الْإِجْمَال.
وَفِي " التَّمْهِيد ": قَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ يجب حمله على أول مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم وَهُوَ الْكَفّ؛ لِأَن من أَمر بِفعل يَقع على أَشْيَاء - وَالْعقل يحظره - وَجب فعل أقلهَا، وَسبق خِلَافه فِي عُمُوم جمع مُنكر.
قَوْله: {وَلَا فِي {وَأحل الله البيع} [الْبَقَرَة: 275] يَعْنِي: أَن قَوْله: {وَأحل الله البيع} لَيْسَ بمجمل، وَخَالف فِي ذَلِك الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وللقاضي أبي يعلى الْقَوْلَانِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ومنشأ الْخلاف أَن (أل) الَّتِي فِي البيع هَل هِيَ للشمول أَو عهدية أَو للْجِنْس من غير استغراق، أَو مُحْتَملَة. انْتهى.

(6/2772)


فَمن قَالَ: إِنَّه مُجمل، قَالَ لتردد الرِّبَا بَين مُسَمَّاهُ اللّغَوِيّ والشرعي؛ لِأَن الرِّبَا فِي اللُّغَة الزِّيَادَة كَيفَ كَانَت، وَحَيْثُ كَانَت، وَفِي الشَّرْع هُوَ زِيَادَة مَخْصُوصَة فَيتَوَقَّف فِيهِ حَتَّى يعلم أَي الزيادتين أَرَادَ.
وَهَذَا التَّعْلِيل وَاضح فِي قَوْله: {وَأحل الله البيع} وَهُوَ الَّذِي ذكره فِي " الرَّوْضَة ".
وَبَيَانه أَن الْبياعَات فِي الشَّرْع مِنْهَا حَلَال كالعقود المستجمعة للشروط وَمِنْهَا حرَام، كَبيع الْغرَر، والتلقي وَنَحْوهمَا، فَمن قَالَ إِنَّه مُجمل قَالَ لتردده بَين هَذِه الْبياعَات الْجَائِزَة، والمحرمة، ثمَّ ورد الْبَيَان من الشَّرْع بالمحرم، والجائز.
وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّه عَام فِي الْبيُوع الْجَائِز وَغَيرهَا، ثمَّ خصص الْمحرم فِيهَا بأدلة، وَبَقِي مَا عداهُ ثَابتا بِالْعُمُومِ الأول.
وَهُوَ قريب من الَّذِي قبله؛ لِأَن تَخْصِيص الْعُمُوم نوع من الْبَيَان.
وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأحل الله البيع} إِن قُلْنَا هُوَ مُجمل، ثمَّ بَين كَانَ حجَّة بِلَا خلاف.
وَإِن قُلْنَا هُوَ عَام خص كَانَ فِي بَقَائِهِ حجَّة الْخلاف السَّابِق فِي أَن الْعَام بعد التَّخْصِيص حجَّة أم لَا؟

(6/2773)


قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وعَلى كل حَال فكونه من بَاب الْعَام الْمَخْصُوص أولى، وَأكْثر، وَأشهر. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: للشَّافِعِيّ فِي الْآيَة أَرْبَعَة أَقْوَال.
أَحدهَا: أَنَّهَا عَامَّة خصصها الْكتاب.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّة خصصتها السّنة.
وَالثَّالِث: أَنَّهَا مجملة بَينهَا الْكتاب.
وَالرَّابِع: مجملة بينتها السّنة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وعزي إِلَى الشَّافِعِي هَل البيع مُجمل، أَو لَا؟
قَالَه ابْن برهَان، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَقَالَ: كل بيع فِيهِ زِيَادَة فمجمل، وَإِلَّا فعام.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَاخْتلف أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا الزَّكَاة} [الْبَقَرَة: 43] على قَوْلَيْنِ، أَحدهمَا: عَام خصصته السّنة. وَالثَّانِي: مُجمل بَينته السّنة.

(6/2774)


وَهنا سُؤال، وَهُوَ أَن اللَّفْظ فِي كل من الْآيَتَيْنِ مُفْرد معرف، فَإِن عَم من حَيْثُ اللَّفْظ فليعم فِي الْآيَتَيْنِ أَو الْمَعْنى فليعم فيهمَا أَيْضا، وَإِن لم يعم لَا من حَيْثُ اللَّفْظ، وَلَا الْمَعْنى فهما مستويان، مَعَ أَن الصَّحِيح فِي آيَة البيع الْعُمُوم، وَفِي آيَة الزَّكَاة الْإِجْمَال.
وَجَوَابه: أَن فِي ذَلِك سرا وَهُوَ أَن حل البيع على وفْق الأَصْل من حَيْثُ إِن الأَصْل فِي الْمَنَافِع الْحل، والمضار الْحُرْمَة بأدلة شَرْعِيَّة فمهما حرم البيع فَهُوَ خلاف الأَصْل.
وَأما الزَّكَاة فَهِيَ خلاف الأَصْل؛ لتضمنها أَخذ مَال الْغَيْر بِغَيْر إِرَادَته فوجوبها على خلاف الأَصْل، وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب مشعرة بِهَذَا الْمَعْنى، فَلذَلِك اعتنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبَيَان المبيعات الْفَاسِدَة كالنهي عَن بيع حَبل الحبلة، والمنابذة، وَالْمُلَامَسَة، وَغير ذَلِك بِخِلَاف الزَّكَاة فَإِنَّهُ لم

(6/2775)


يعتن فِيهَا بِبَيَان مَا لَا زَكَاة فِيهِ، فَمن ادّعى وُجُوبهَا فِي مُخْتَلف فِيهِ كالرقيق، وَالْخَيْل فقد ادّعى حكما على خلاف الدَّلِيل.
وَأما تردد الشَّافِعِي فِي آيَة البيع هَل الْمُخَصّص أَو الْمُبين لَهَا الْكتاب أَو السّنة دون الزَّكَاة فَلِأَنَّهُ عقب على البيع بقوله تَعَالَى: {وَحرم الرِّبَا} والربا من أَنْوَاع البيع اللُّغَوِيَّة، وَلم يعقب آيَة الزَّكَاة بِشَيْء، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَلَا فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " وَنَحْوه} " لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب "، " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل "، وَالْمرَاد هُنَا من هَذِه الْأَحَادِيث وَنَحْوهَا مِمَّا فِيهِ نفي ذَوَات وَاقعَة تتَوَقَّف الصِّحَّة فِيهَا على إِضْمَار شَيْء.
فالجمهور على أَنَّهَا لَيست مجملة بِنَاء على القَوْل بِثُبُوت الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة؛ فَإِنَّهُ إِذا اخْتَلَّ مِنْهَا شَرط، أَو ركن صَحَّ نَفْيه حَقِيقَة؛ لِأَن الشَّرْعِيّ الَّذِي هُوَ تَامّ الْأَركان متوافر الشُّرُوط، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للمسيء فِي صلَاته: " ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل ".

(6/2776)


وَإِذا كَانَت الْحَقِيقَة هِيَ المُرَاد نَفيهَا فَلَا يحْتَاج نَفيهَا إِلَى إِضْمَار شَيْء فَلَا إِجْمَال.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه عدم الْإِجْمَال أَنه من عرف الشَّارِع فِيهِ نفي الصِّحَّة، أَي: لَا عمل شَرْعِي، وَإِن لم يثبت فَعرف اللُّغَة، نَحْو: لَا علم إِلَّا مَا نفع، وَلَا بلد إِلَّا بسُلْطَان، وَلَا حكم إِلَّا لله، وَلَو قدر حذفهَا لَا بُد من إِضْمَار، فنفي الصِّحَّة أولى؛ لِأَنَّهُ يصير كَالْعدمِ فَهُوَ أقرب إِلَى نفي الْحَقِيقَة المتعذرة، وَلَيْسَ هَذَا إِثْبَاتًا للغة بالترجيح، بل إِثْبَاتًا لأولوية أحد المجازات، كالصحة والكمال، والإجزاء بعرف اسْتِعْمَاله. انْتهى.
وَعند بعض الشَّافِعِيَّة، والحنابلة، وَابْن الباقلاني،

(6/2777)


وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ أَنه مُجمل، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة، أَو بَعضهم.
قَالَ الطوفي: الْقَائِل بِأَنَّهُ مُجمل؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدّد بَين اللّغَوِيّ والشرعي، وَقيل: لِأَن حمله على نفي الصُّورَة بَاطِل فَتعين حمله على نفي الحكم، وَالْأَحْكَام مُتَسَاوِيَة. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ عَن قَول الباقلاني بِنَاء على مذْهبه فِي نفي الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة، وَأَن الشَّرْعِيّ للأعم من الصَّحِيح وَالْفَاسِد: نعم، الْقَائِلُونَ بالإجمال اخْتلفُوا فِي سَببه على أَقْوَال:
أَحدهَا: إِنَّه لم يرد بنفيه نفي وُقُوعه، وَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ أمرا آخر غير مَذْكُور وَهُوَ مُحْتَمل.
الثَّانِي: أَن ذَلِك مُحْتَمل نفي الْوُجُود وَنفي الحكم.
الثَّالِث: أَنه يحْتَمل نفي الصِّحَّة وَنفي الْكَمَال، وَبِه قَالَ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ". انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ هَؤُلَاءِ الْعرف مُخْتَلف فِي الصِّحَّة والكمال.
رد بِالْمَنْعِ، بل اخْتلف الْعلمَاء، ثمَّ نفي الصِّحَّة أولى لما سبق.

(6/2778)


وَقيل بالإجمال لاقْتِضَائه نفي الْعَمَل حسا وَهُوَ ضَعِيف.
قَوْله: {وَيَقْتَضِي نفي الصِّحَّة عِنْد أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم} ، وَغَيرهم. يَعْنِي: إِذا قُلْنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ بمجمل، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرهم أَنه يَقْتَضِي نفي الصِّحَّة، {وعمومه مَبْنِيّ على دلَالَة الْإِضْمَار} على مَا تقدم من دلَالَة الِاقْتِضَاء والإضمار.
وَالصَّحِيح أَنه عَام على مَا تقدم بَيَانه هُنَاكَ.
{وَقيل: عَام فِي نفي الْوُجُود، وَالْحكم خص الْوُجُود بِالْعقلِ} ، وَهُوَ لأرباب القَوْل بِأَنَّهُ مُجمل كَمَا ذكره الْبرمَاوِيّ.
وَظَاهر كَلَام ابْن مُفْلِح أَنه مَبْنِيّ على القَوْل الأول.
{وَقيل: عَام فِي نفي الصِّحَّة والكمال، وَهُوَ فِي كَلَام القَاضِي، وَابْن

(6/2779)


عقيل} بِنَاء على عُمُوم الْمُضمر، وَهَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة مَبْنِيَّة على القَوْل بِأَن ذَلِك لَيْسَ بمجمل.
فَإِذا قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ بمجمل فَمَا يَقْتَضِي فِيهِ هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". وَظَاهر كَلَام الْبرمَاوِيّ، بل صَرِيحه أَن الْقَوْلَيْنِ الْأَخيرينِ مبنيان على القَوْل بِأَنَّهُ مُجمل.
قَوْله: {وَمثله: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " عِنْد الْأَصْحَاب} .
وَمثله الطوفي ب لَا عمل إِلَّا بنية، يحمل على نفي الصِّحَّة؛ لِأَنَّهُ أولى المجازات لكَونه أقرب إِلَى نفي الْحَقِيقَة لانْتِفَاء فَائِدَة الْفِعْل وجدواه.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": إِن نَفْيه يدل على عَدمه، وَعدم إجزائه.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " من هَذَا الْبَاب؛ لِأَن الْأَعْمَال مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، وَاخْتلفُوا هَل هُوَ الصِّحَّة فَيكون التَّقْدِير: إِنَّمَا الْأَعْمَال صَحِيحَة، أَو الْكَمَال، فَيكون تَقْدِيره: إِنَّمَا الْأَعْمَال كَامِلَة.

(6/2780)


قَالَ: وَالْأَظْهَر إِضْمَار الصِّحَّة لما سبق. انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَمثله: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " لَيْسَ بمجمل؛ لِأَن المُرَاد بِهِ من نوى خيرا فَلهُ خير فَلَا تَقْدِير، وَلَو قدر صِحَة الْأَعْمَال أَو كمالها لقدم إِضْمَار الصِّحَّة لكَونه أقرب إِلَى الْحَقِيقَة، وَالله أعلم. انْتهى.
قَوْله: وَتقدم نفي الْقبُول والإجزاء فِي أَوَاخِر خطاب الْوَضع، وَكثير من الْعلمَاء يذكرهما هُنَا فَلذَلِك نبهت عَلَيْهِ لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه لم يذكر.
قَوْله: {اللَّفْظ لِمَعْنى تَارَة، ولمعنيين أُخْرَى، وَلَا ظُهُور، مُجمل فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجمع.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: ظَاهر فِي الْمَعْنيين، وَحَكَاهُ عَن الْأَكْثَر.
وَقيل: المعنيان غير الأول، فَإِن كَانَ أَحدهمَا عمل بِهِ، ووقف الآخر} .

(6/2781)


إِذا ورد من الشَّارِع لفظ لَهُ استعمالان، أحد الاستعمالين يرد لِمَعْنى وَاحِد، وَالثَّانِي يرد لمعنيين، وَلَا ظُهُور فِي ذَلِك فَفِيهِ مذهبان، أَو ثَلَاثَة:
أَحدهَا - وَهُوَ الْمُخْتَار وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب، قَالَه ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجَمَاعَة -: أَنه مُجمل؛ لتردده بَين الْمَعْنى، والمعنيين، وَمحله إِذا لم تقم قرينَة على المُرَاد.
وَالثَّانِي - وَهُوَ قَول الْآمِدِيّ وَذكره قَول الْأَكْثَر -: أَنه يحمل على مَا يُفِيد مَعْنيين كَمَا لَو دَار بَين مَا يُفِيد، وَمَا لَا يُفِيد؛ وَلِأَنَّهُ أَكثر فَائِدَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح بِأَنَّهُ إِثْبَات لُغَة بالترجيح، ثمَّ الْحَقَائِق لِمَعْنى وَاحِد أَكثر.
وَالْقَوْل الثَّالِث: ينظر إِن كَانَ الْمَعْنى أحد الْمَعْنيين عمل بِهِ جزما لوُجُوده فِي الاستعمالين، وَيُوقف الآخر للتردد فِيهِ، وَهَذَا اخْتِيَار التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع "، قَالَ الْمحلي: هَذَا مَا ظهر لَهُ، وَالظَّاهِر أَنه مُرَادهم أَيْضا.

(6/2782)


ثمَّ قَالَ: مِثَال الأول حَدِيث رَوَاهُ مُسلم: " لَا يَنْكِح الْمحرم وَلَا ينُكِح " بِنَاء على أَن النِّكَاح مُشْتَرك بَين العقد وَالْوَطْء، فَإِنَّهُ إِن حمل على الْوَطْء اسْتُفِيدَ مِنْهُ معنى وَاحِد، وَهُوَ أَن الْمحرم لَا يطَأ وَلَا يُوطأ، أَي: لَا يُمكن غَيره من وَطئه، وَإِن حمل على العقد اسْتُفِيدَ مِنْهُ مَعْنيانِ بَينهمَا قدر مُشْتَرك، وَهُوَ أَن الْمحرم لَا يعْقد لنَفسِهِ، وَلَا يعْقد لغيره.
وَمِثَال الثَّانِي حَدِيث فِي مُسلم أَيْضا: " الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا "، أَي: بِأَن تعقد لنَفسهَا أَو تَأذن لوَلِيّهَا فيعقد لَهَا وَلَا يجبرها.
وَقد قَالَ بِصِحَّة عقدهَا لنَفسهَا أَبُو حنيفَة، وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، لَكِن إِذا كَانَت فِي مَكَان لَا ولي فِيهِ، وَلَا حَاكم، وَنَقله يُونُس

(6/2783)


ابْن عبد الْأَعْلَى عَن الشَّافِعِي.
قَوْله: {وَمَا لَهُ محمل لُغَة} ، وَشرعا {ك " الطّواف بِالْبَيِّنَاتِ صَلَاة "} فأصحابنا وَالْأَكْثَر الشَّرْعِيّ، وَالْغَزالِيّ مُجمل.
مَاله محمل فِي اللُّغَة، وَيُمكن حمله على حكم شَرْعِي كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة " يحْتَمل أَنه كَالصَّلَاةِ فِي الْأَحْكَام، وَيحْتَمل أَنه صَلَاة لُغَة؛ للدُّعَاء فِيهِ.
وَكَقَوْلِه: " الِاثْنَان جمَاعَة " لَا إِجْمَال فِيهِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم

(6/2784)


أَصْحَابنَا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث لتعريف الْأَحْكَام، لَا اللُّغَة، وَفَائِدَة التأسيس أولى.
وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الطّواف حَقِيقَة الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة فَكَانَ مجَازًا.
وَالْمرَاد أَن حكمه حكم الصَّلَاة فِي الطَّهَارَة، وَالنِّيَّة، وَستر الْعَوْرَة وَغَيره، وَيدل على ذَلِك قَوْله فِي بَقِيَّة الحَدِيث: " إِلَّا أَن الله أحل فِيهِ الْكَلَام "، فَدلَّ على أَن المُرَاد كَونه صَلَاة فِي الحكم، إِلَّا مَا اسْتثْنِي فِي الحكم.
وَقَالَ الْغَزالِيّ: مُجمل؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدّد بَين الْمجَاز الشَّرْعِيّ والحقيقة اللُّغَوِيَّة وَالْأَصْل عدم النَّقْل.
ورد بِمَا سبق.
قَالَ الْمحلي تبعا لجمع الْجَوَامِع: فَإِن تعذر الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ للفظ حَقِيقَة - وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي - فَيرد إِلَيْهِ بتجوز مُحَافظَة على الشَّرْعِيّ مَا أمكن أَو هُوَ مُجمل؛ لتردده بَين الْمجَاز الشَّرْعِيّ والمسمى اللّغَوِيّ، أَو يحمل على اللّغَوِيّ تَقْدِيمًا للْحَقِيقَة على الْمجَاز أَقْوَال، اخْتَار مِنْهَا التَّاج فِي " شرح

(6/2785)


الْمُخْتَصر " كَغَيْرِهِ الأول، وَذكر الحَدِيث، وَقَالَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره.
قَوْله: {وَمَاله حَقِيقَة لُغَة وَشرعا كَالصَّلَاةِ فَأَبُو الْخطاب، والموفق، والطوفي} ، وَالْأَكْثَر، {للشرعي} ، وَأَبُو حنيفَة للغوي، والحلواني وَجمع: مُجمل، وَبَعض الشَّافِعِيَّة لَهما، وَالْغَزالِيّ،

(6/2786)


4 - والآمدي فِي إِثْبَات وَلَو أمرا للشرعي وَفِي نفي، وَنهي الْغَزالِيّ مُجمل، والآمدي اللّغَوِيّ.
{وبناه القَاضِي تَارَة على إِثْبَات الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة كَابْن عقيل، وَتارَة مُجمل} قبل الْبَيَان، مُفَسّر بعده.
مَاله حَقِيقَة لُغَة وَشرعا كخطاب الشَّرْع بِلَفْظ يجب حمله على عرف الشَّرْع كَالصَّلَاةِ، وَالْوُضُوء، وَالزَّكَاة، وَالصَّوْم، وَالْحج، وَغَيرهَا، فَهُوَ للشرعي على الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو الْخطاب، والموفق، وَالشَّارِح وَابْن المنجا، والطوفي، وَغَيرهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَالْحَنَفِيَّة؛ وَذَلِكَ لِأَن خطاب الشَّرْع بِلَفْظ يجب حمله على عرف الشَّرْع؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوث لبَيَان الشرعيات؛ وَلِأَنَّهُ كالناسخ الْمُتَأَخر فَيجب حمله عَلَيْهِ، وَلذَلِك ضعفوا حمل حَدِيث " من أكل لحم الْجَزُور فَليَتَوَضَّأ " على التَّنْظِيف بِغسْل الْيَد، وَرجح النَّوَوِيّ التوضأ مِنْهُ؛

(6/2787)


لضعف الْجَواب عَن الحَدِيث الصَّحِيح بذلك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا أرجح الْمذَاهب فِي الْمَسْأَلَة.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: للغوي فَيحمل على اللّغَوِيّ، لَا على الشَّرْعِيّ، وَلَا هُوَ مُجمل إِلَّا أَن يدل على إِرَادَة الشَّرْعِيّ، قَالَ: لِأَن الشَّرْعِيّ مجَاز وَالْكَلَام لحقيقته حَتَّى يدل دَلِيل على الْمجَاز.
وَأجِيب بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْع حَقِيقَة، وَإِلَى اللُّغَة مجَاز فَذَاك دَلِيل عَلَيْهِ، لَا لَهُ.
وَظَاهر كَلَام أَحْمد، قَالَ بعض أَصْحَابنَا: بل نَصه أَنه مُجمل، وَقَالَهُ الْحلْوانِي.
وَحكى [عَن] ابْن عقيل لما فِي الَّتِي قبلهَا، وللشافعية وَجْهَان، وَاخْتلف كَلَام القَاضِي، فَتَارَة بناه على الْحَقِيقَة

(6/2788)


الشَّرْعِيَّة: كَابْن عقيل، وَتارَة قَالَ إِنَّه مُجمل وَلَو أثبت الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة، ونفاها فِي " جَامعه " الْكَبِير وَجعل للشرعي.
وَقَالَهُ ابْن عقيل فِي تَقْسِيم الْأَدِلَّة من " الْوَاضِح "، وَفِي " الْوَاضِح " أَيْضا فِي آخر الْعُمُوم مُجمل قبل الْبَيَان، مُفَسّر بعده.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: لَهما، أَي: يعم الْمَعْنيين الشَّرْعِيّ واللغوي فَهُوَ عَام.
قَالَ ابْن مُفْلِح: فَإِن قيل: يعم الْمَعْنيين قيل ظَاهر فِي الشَّرْعِيّ، ثمَّ لم يقل بِهِ أحد، قَالَه فِي " التَّمْهِيد ".
وَقَالَ فِي " الْوَاضِح " عَن بعض الشَّافِعِيَّة إِنَّه عَام، وأبطله بِأَنَّهُ لم يرد بِهِ. انْتهى.
وَقَالَ الْغَزالِيّ والآمدي: هُوَ فِي الْإِثْبَات، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كالأمر

(6/2789)


[على] الشَّرْعِيّ كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي إِذا صَائِم " أَي: الصَّوْم الشَّرْعِيّ حَتَّى يسْتَدلّ بِهِ على جَوَاز النِّيَّة فِي النَّفْل بِالنَّهَارِ، وَأما فِي النَّفْي وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ النَّهْي فاختلفا، فَقَالَ الْغَزالِيّ: هُوَ مُجمل كالنهي عَن صِيَام يَوْم النَّحْر؛ إِذْ لَو حمل على اللّغَوِيّ لَكَانَ حملا لكَلَام الْمُتَكَلّم على غير عرفه.
قَالَ ابْن مُفْلِح: رد قَوْله، بِأَنَّهُ لَيْسَ معنى الشَّرْعِيّ الصَّحِيح، وَإِلَّا لزم فِي قَوْله للحائض: " دعِي الصَّلَاة " الْإِجْمَال. انْتهى.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يحمل على اللّغَوِيّ للاستحالة الْمُتَقَدّمَة للُزُوم صِحَّته كَبيع الْحر وَالْخمر، وَالْأَصْل اللُّغَة.

(6/2790)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: ويضعف مَذْهَبهمَا الِاتِّفَاق على حمل نَحْو قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دعِي الصَّلَاة أَيَّام أَقْرَائِك " على الْمَعْنى الشَّرْعِيّ بِاتِّفَاق مَعَ أَنه فِي معنى النَّهْي.
قَوْله: {وعَلى الأول} ، أَي: على الْمَذْهَب الأول، وَهُوَ أَنه للشرعي، {لَو تعذر الشَّرْعِيّ} حمل على {الْعرفِيّ، فَإِن تعذر} الْعرفِيّ، حمل على {اللّغَوِيّ، فَإِن تعذر} اللّغَوِيّ، {فَهُوَ 5 مجَاز} .
أما إِذا تعذر الشَّرْعِيّ فَإِنَّهُ يحمل على الْعرفِيّ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم وَلِهَذَا اعْتبر الشَّارِع الْعَادَات فِي مَوَاضِع كَثِيرَة.
فَإِذا تعذر الْعرفِيّ أَيْضا حمل على اللّغَوِيّ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من دعِي إِلَى وَلِيمَة فليجب، فَإِن كَانَ مُفطرا فَليَأْكُل، وَإِن كَانَ صَائِما فَليصل " حمله ابْن حبَان فِي " صَحِيحه " على معنى (فَليدع) .
قلت: وَحمله أَصْحَابنَا، صَاحب " الْمُغنِي " و " الشَّرْح " وَغَيرهمَا على ذَلِك، لَكِن روى أَبُو دَاوُد: " فَإِن كَانَ صَائِما فليَدْعُ "

(6/2791)


فَتكون هَذِه الرِّوَايَة مبينَة للرواية الْأُخْرَى " فَليصل " وَيكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرَاده اللُّغَة.
فَإِن تعذر حمله على اللُّغَة فَهُوَ مجَاز.
إِذا تعذر حمله على إِحْدَى الْحَقَائِق الثَّلَاث فَهُوَ مجَاز كَمَا تقدم؛ لِأَن الْكَلَام إِمَّا حَقِيقَة، وَإِمَّا مجَاز، وَقد تعذر حمله على الْحَقِيقَة فَمَا بَقِي إِلَّا الْمجَاز فَيحمل عَلَيْهِ. وَالله أعلم.
فَائِدَة:
قَالَ ابْن مُفْلِح: {الْأَقْوَال السَّابِقَة فِي مجَاز مَشْهُور وَحَقِيقَة لغوية} ، وَسبق مَعْنَاهُ فِي كَلَام القَاضِي، وَإِن لم يكن مَشْهُورا عمل بِالْحَقِيقَةِ، وَفِي " اللامع " لأبي عبد الله بن حَاتِم تلميذ ابْن الباقلاني: اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا فَمنهمْ من قَالَ: لَا يصرف إِلَى وَاحِد مِنْهُمَا إِلَّا بِدَلِيل. انْتهى.

(6/2792)


وَذَلِكَ لِأَن الْمُجْمل أَعم من الْمُشْتَرك؛ لِأَن الْمُجْمل يشْتَمل على احْتِمَال مَعْنيين سَوَاء، وَاللَّفْظ فيهمَا حَقِيقَة أَو مجَاز، أَو أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَاز مسَاوٍ للْحَقِيقَة، كَمَا تقدم ذَلِك فِي مَسْأَلَة اخْتِلَاف أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف.

(6/2793)


فارغة

(6/2794)