التحبير شرح التحرير في أصول الفقه (بَاب الْبَيَان)
(6/2795)
فارغة
(6/2796)
(قَوْله: بَاب الْبَيَان)
تقدم أَن للمجمل تعريفات وتقسيمات فَخذ ضدها فِي الْمُبين،
فَإِن قلت: الْمُجْمل مَا تردد بَين محتملين فَأكْثر على
السوَاء فَقل: الْمُبين مَا نَص على معنى معِين من غير
إِبْهَام.
وَإِن قلت: الْمُجْمل مَا لَا يفهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق
معنى معِين، فَقل: الْمُبين مَا فهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق
معنى معِين من نَص، أَو ظُهُور بِالْوَضْعِ، أَو بعد
الْبَيَان، وَكَذَا سَائِر التعريفات الصَّحِيحَة.
قَوْله: {وَيكون فِي مُفْرد، ومركب، وَقَول، وَفعل سبق
إِجْمَال أم لَا} .
كَمَا أَن الْمُجْمل منقسم إِلَى مُفْرد ومركب، كَذَلِك
الْمُبين يَنْقَسِم إِلَى مُفْرد ومركب.
قَالَ الْآمِدِيّ فِي " مُنْتَهى السول ": والمبين نقيض
الْمُجْمل، وَيكون فِي
(6/2797)
مُفْرد ومركب، وَفِي فعل سبق إِجْمَال، أَو
لم يسْبق. انْتهى.
قَوْله: {سبق إِجْمَال أم لَا} ، يَعْنِي: أَن الْفِعْل يكون
بَيَانا ابْتِدَاء من غير أَن يسْبقهُ إِجْمَال، وَيكون
بَيَانا بعد الْإِجْمَال.
فَإِن الْبَيَان من حَيْثُ هُوَ يكون تَارَة ابْتِدَاء وَيكون
تَارَة بعد الْإِجْمَال، وَقد وَقع هَذَا، وَهَذَا وَهُوَ
وَاضح.
قَالَ الْعَضُد: وَقد يكون فِيمَا لَا يسْبق فِيهِ إِجْمَال
كمن يَقُول ابْتِدَاء: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} الْآيَة
[الْبَقَرَة: 282] .
قَوْله: {وَالْبَيَان يُطلق على التَّبْيِين، وَهُوَ
الْمَدْلُول} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الْبَيَان الْمُتَعَلّق بالتعريف
والإعلام بِمَا لَيْسَ بمعرف، وَلَا مَعْلُوم؛ لِأَنَّهُ مصدر
(بيّن) ، يُقَال: بَين تبيينا وبيانا، كَمَا يُقَال: كلم
تكليما وكلاما، وَهُوَ عبارَة عَن الدّلَالَة. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَاعْلَم أَن الْبَيَان يُطلق تَارَة على
فعل الْمُبين، وَهُوَ التَّبْيِين كالسلام بِمَعْنى
التَّسْلِيم، وَالْكَلَام بِمَعْنى التكليم، فَهُوَ اسْم مصدر
لَا مصدر؛ لعدم جَرَيَانه على الْفِعْل. انْتهى.
إِذا علم ذَلِك فَلهُ ثَلَاثَة إطلاقات:
(6/2798)
أَحدهَا: يُطلق على التَّبْيِين، وَهُوَ
فعل الْمُبين الَّذِي هُوَ التَّعْرِيف والإعلام.
الثَّانِي: يُطلق على مَا حصل بِهِ التَّبْيِين، وَهُوَ
الدَّلِيل.
الثَّالِث: يُطلق على مُتَعَلق التَّبْيِين وَمحله، وَهُوَ
الْمَدْلُول، وَهُوَ الْمُبين - بِفَتْح الْيَاء -.
{فبالنظر إِلَى} الْإِطْلَاق {الأول قَالَ} أَبُو الْخطاب {فِي
" التَّمْهِيد ": إِظْهَار الْمَعْلُوم للمخاطب} مُنْفَصِل
عَمَّا يشكل، {وإيضاحه} لَهُ.
{وَمَعْنَاهُ فِي وَاضح} ابْن عقيل {وَلم يقل للمخاطب} .
{و} قَالَ {أَبُو بكر} عبد الْعَزِيز، وَأَبُو الْفرج
الْمَقْدِسِي، {وَابْن عقيل - أَيْضا - والصيرفي: إِخْرَاج
الْمَعْنى من حيّز الْإِشْكَال إِلَى حيّز التجلي} ، وَهُوَ
للصيرفي، وَتَبعهُ عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَأَبُو
الطّيب،
(6/2799)
والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، إِلَّا أَنهم
زادوا: والوضوح تَأْكِيدًا وتقريرا.
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: هَذَا الْحَد قَاصِر؛ لِأَنَّهُ
لَا يدْخل فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مُشكلا، ثمَّ أظهر، وَأما
مَا بَينه من القَوْل كَقَوْلِه تَعَالَى: {هَذَا حَلَال
وَهَذَا حرَام} [النَّحْل: 116] فَهُوَ لم يكن مُشكلا.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: رُبمَا ورد من الله تَعَالَى
بَيَان لما لم يخْطر ببال أحد.
وَأَيْضًا فَفِي التَّعْبِير بالحيز وَهُوَ حَقِيقَة فِي
الْأَجْسَام يجوز إِطْلَاقه فِي الْمعَانِي وَنَحْوه التجلي.
وَأجِيب عَن الأول بِأَن السَّامع لما يرد من الْمُبين
بِمَنْزِلَة من أشكل عَلَيْهِ الحكم فِي ذَلِك إِذا لم يكن
عِنْده علم من ذَلِك [كَذَا] أجَاب بِهِ القَاضِي عبد
الْوَهَّاب، لَكِن فِي تَسْمِيَته عدم الْعلم إشْكَالًا تجوز،
على أَن هَذَا فرع عَن تَسْمِيَة إِيرَاد مَا كَانَ وَاضحا من
الِابْتِدَاء بَيَانا، وَقد لَا يختاره
(6/2800)
الصَّيْرَفِي، ويخص الْبَيَان بِمَا سبق
إِشْكَال فبينه.
وَاعْتَرضهُ ابْن السَّمْعَانِيّ بِأَن لفظ الْبَيَان أظهر من
لفظ إِخْرَاج الشَّيْء إِلَى آخِره، وَقد يمْنَع ذَلِك.
وَعَن الثَّانِي بِأَن الْمجَاز بِالْقَرِينَةِ يدْخل فِي
التعاريف، كَمَا صرح بِهِ الْغَزالِيّ وَغَيره على مَا تقدم
فِي الْحُدُود.
{و} بِالنّظرِ {إِلَى} الْإِطْلَاق {الثَّانِي قَالَ
التَّمِيمِي، وَأكْثر الأشعرية} ، والمعتزلة: {هُوَ الدَّلِيل}
؛ لصِحَّة إِطْلَاقه عَلَيْهِ لُغَة وَعرفا مَعَ عدم مَا سبق،
وَالْأَصْل الْحَقِيقَة.
لَكِن زَاد التَّمِيمِي على ذَلِك: الْمظهر للْحكم.
ورده القَاضِي أَبُو يعلى بالمجمل.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": لَهُ أَن يَقُول
الْمُجْمل لَيْسَ دَلِيلا.
(6/2801)
{و} بِالنّظرِ {إِلَى الثَّالِث قَالَ}
أَبُو عبد الله {الْبَصْرِيّ وَغَيره} : بِأَنَّهُ {الْعلم}
الْحَاصِل {عَن الدَّلِيل} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مفرعان على
الإطلاقين الْأَخيرينِ، بل الْأَقْوَال الثَّلَاثَة مفرعة على
الإطلاقات الثَّلَاثَة، وَحده الشَّافِعِي إِلَى آخِره.
{قَالَ الشَّافِعِي} فِي " الرسَالَة ": {اسْم جَامع لأمور
متفقة الْأُصُول متشعبة الْفُرُوع} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَيْسَ مُرَاده تَفْسِيره بِمَا فهمه
ابْن دَاوُد، وَقَالَ: إِن الْبَيَان أبين من التَّفْسِير،
وَإِنَّمَا مُرَاده أَنه أَنْوَاع مُخْتَلفَة الْمَرَاتِب
بَعْضهَا أجلى من بعض، فَمِنْهُ مَا لَا يحْتَاج لتدبر،
وَمِنْه مَا لَا يحْتَاج لَهُ، وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن من الْبَيَان لسحرا " فَبين أَن
بعض الْبَيَان أظهر من بعض.
وَيدل عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى خاطبنا بِالنَّصِّ،
وَالظَّاهِر وبالمنطوق، وَالْمَفْهُوم، والعموم، والمجمل،
والمبين، وَغير ذَلِك؛ وَلذَلِك عِنْد
(6/2802)
الشَّافِعِي لكل من الْأَنْوَاع بَاب،
فَقَالَ: بَاب الْبَيَان الأول، بَاب الْبَيَان الثَّانِي،
وَهَكَذَا.
ورد ابْن عقيل - أَيْضا - على ابْن دَاوُد لما اعْترض عَلَيْهِ
بذلك، وَقَالَ: الشَّافِعِي أَبُو هَذَا الْعلم وَأول من هذبه.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: جُمْهُور الْفُقَهَاء قَالُوا:
الْبَيَان إِظْهَار المُرَاد بالْكلَام الَّذِي لَا يفهم
مِنْهُ المُرَاد إِلَّا بِهِ.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهُوَ أحسن من جَمِيع الْحُدُود.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْعجب أَنه أورد على الصَّيْرَفِي
الْمُبين ابْتِدَاء، وَلَا شكّ فِي وُرُوده هُنَا، بل أولى؛
لِأَنَّهُ صرح بتقدم كَلَام لم يفهم المُرَاد مِنْهُ.
وَأَيْضًا الْبَيَان قد يرد على فعل وَلَا يُسمى مثل ذَلِك
كلَاما.
قَوْله: {وَيجب لمن أُرِيد فهمه اتِّفَاقًا} .
(6/2803)
لنا من الْمُجْمل قسم يسْتَمر بِلَا بَيَان
إِلَى آخر الدَّهْر، وَذَلِكَ عِنْد عدم الْحَاجة إِلَى
بَيَانه بِأَن لَا يكون من دَلَائِل الْأَحْكَام الْمُكَلف
بهَا.
فَأَما إِن كَانَ من دَلَائِل الْأَحْكَام الْمُكَلف بهَا
وَأُرِيد بِالْخِطَابِ وإفهام الْمُخَاطب بِهِ، ليعْمَل بِهِ
وَجب أَن يبين لَهُ ذَلِك على حسب مَا يُرَاد بذلك الْخطاب؛
لِأَن الْفَهم شَرط التَّكْلِيف.
فَأَما من لَا يُرَاد إفهامه ذَلِك فَلَا يجب الْبَيَان لَهُ
بالِاتِّفَاقِ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم: إِنَّه لَا يجب الْبَيَان فِي الْخطاب
إِذا كَانَ خَبرا لَا يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف، وَإِنَّمَا يجب
فِي التكاليف الَّتِي يحْتَاج إِلَى مَعْرفَتهَا.
قَوْله: {وَيحصل بقول} . يحصل الْبَيَان بالْقَوْل بِلَا نزاع
بَين الْعلمَاء وَهُوَ إِمَّا من الله، أَو من رَسُوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَالْأول كَقَوْلِه تَعَالَى: {صفراء فَاقِع لَوْنهَا تسر
الناظرين} [الْبَقَرَة: 69] فَإِنَّهُ مُبين لقَوْله تَعَالَى:
{إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67] إِذا
قُلْنَا المُرَاد بالبقرة بقرة مُعينَة، وَهُوَ الْمَشْهُور.
وَالثَّانِي كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَغَيره عَن ابْن عمر مَرْفُوعا:
" فِيمَا سقت السَّمَاء، أَو كَانَ عثريا الْعشْر، وَمَا سقِِي
بالنضح نصف
(6/2804)
الْعشْر "، وروى مُسلم نَحوه عَن جَابر،
وَهُوَ مُبين لقَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده}
[الْأَنْعَام: 141] .
واستفدنا من هَذَا الْمِثَال أَن السّنة تبين مُجمل الْكتاب
وَهُوَ كثير، كَمَا فِي الصَّلَاة، وَالصَّوْم، وَالزَّكَاة،
وَالْحج، وَالْبيع، والربا.
وغالب الْأَحْكَام الَّذِي جَاءَ تفصيلها فِي السّنة.
قَوْله: {وَفعل} . يحصل الْبَيَان بِالْفِعْلِ على الصَّحِيح،
وَعَلِيهِ مُعظم الْعلمَاء. وَالْمرَاد فعل النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَخَالف فِيهِ شرذمة قَليلَة، مِنْهُم: الْكَرْخِي،
وَجَمَاعَة.
دَلِيل الْجُمْهُور - كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره -
أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين الصَّلَاة،
وَالْحج بِالْفِعْلِ، وَقَالَ: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "،
وَقَالَ: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " روى الأول
مُسلم من حَدِيث جَابر، وروى الثَّانِي البُخَارِيّ من حَدِيث
مَالك بن الْحُوَيْرِث.
(6/2805)
لَا يُقَال إِن الَّذِي وَقع بِهِ
الْبَيَان قَول، وَهُوَ قَوْله: " صلوا " و " خُذُوا "؛ لأَنا
نقُول: إِنَّمَا دلّ القَوْل على أَن فعله بَيَان، لَا أَن نفس
القَوْل وَقع بَيَانا.
وَأَيْضًا فالفعل مشَاهد، والمشاهدة أدل فَهُوَ أولى من
القَوْل بِالْبَيَانِ.
وَفِي الحَدِيث: " لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة " رَوَاهُ أَحْمد
بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَابْن حبَان،
وَالطَّبَرَانِيّ وَزَاد فِيهِ: " فَإِن الله تَعَالَى أخبر
مُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ السَّلَام عَمَّا صنع قومه من بعده
فَلم يلق الألواح، فَلَمَّا عاين ذَلِك ألْقى الألواح ".
وَأما شُبْهَة الْخصم بِأَن الْفِعْل يطول فَيتَأَخَّر
الْبَيَان بِهِ مَعَ إِمْكَان تَعْجِيله فمردود؛ لِأَنَّهُ قد
يطول بالْقَوْل وَيزِيد على زمَان الْفِعْل.
وَأَيْضًا فَهُوَ أقوى من القَوْل فِي الْبَيَان كَمَا سبق.
قَوْله: {وَلَو بِإِشَارَة، أَو كِتَابَة} .
قَالَ صَاحب " الْوَاضِح " من الْحَنَفِيَّة: لَا أعلم خلافًا
فِي أَن الْبَيَان يَقع بِالْإِشَارَةِ، وَالْكِتَابَة.
انْتهى.
(6/2806)
مِثَال الْإِشَارَة قَوْله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا
" وَأَشَارَ بأصابعه الْعشْرَة، وَقبض الْإِبْهَام فِي
الثَّالِثَة، يَعْنِي تِسْعَة وَعشْرين.
وَمِثَال الْكِتَابَة الَّتِي كتبت وَبَين فِيهَا الزكوات،
والديات، وَأرْسلت مَعَ عماله.
قَوْله: {وَهُوَ أقوى من القولي} . أَي: الْبَيَان بِالْفِعْلِ
أقوى من الْبَيَان بالْقَوْل؛ لِأَن الْمُشَاهدَة أدل على
الْمَقْصُود من القَوْل وأسرع إِلَى الْفَهم وَأثبت فِي
الذِّهْن، وَعون على التَّصَوُّر، وَقد تقدم قَرِيبا الحَدِيث
الَّذِي فِيهِ: " لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة "، وَقد عرف -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل ابْن آدم، وأجله،
وأمله بالخط المربع كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي فِي
البُخَارِيّ، وَقد تقدم تَنْبِيه للصَّلَاة وَالْحج
وَغَيرهمَا، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَإِقْرَار على فعل} . يحصل الْبَيَان بِإِقْرَارِهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعل بعض أمته؛
لِأَنَّهُ دَلِيل مُسْتَقل فصح أَن يكون بَيَانا لغيره،
كَغَيْرِهِ من الْأَدِلَّة الْمُبين بهَا.
(6/2807)
قَوْله: {وكل مُقَيّد من الشَّرْع بَيَان}
، ذكره الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَذَلِكَ من وُجُوه:
مِنْهَا: التّرْك، مثل أَن يتْرك فعلا قد أَمر بِهِ، أَو قد
سبق مِنْهُ فعله فَيكون تَركه لَهُ مُبينًا لعدم وُجُوبه،
وَذَلِكَ كَمَا أَنه قيل لَهُ: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم}
[الْبَقَرَة: 282] ثمَّ إِنَّه كَانَ يُبَايع وَلَا يشْهد،
بِدَلِيل الْفرس الَّذِي اشْتَرَاهُ من الْأَعرَابِي، ثمَّ
أنكر البيع، فَعلم أَن الْإِشْهَاد فِي البيع غير وَاجِب.
وَصلى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّرَاوِيح
فِي رَمَضَان، ثمَّ تَركهَا خشيَة أَن تفرض عَلَيْهِم، فَدلَّ
على عدم الْوُجُوب؛ إِذْ يمْتَنع ترك الْوَاجِب.
وَمِنْهَا: السُّكُوت بعد السُّؤَال عَن حكم الْوَاقِعَة
فَيعلم أَنه لَا حكم للشَّرْع فِيهَا، كَمَا رُوِيَ أَن
زَوْجَة سعد بن الرّبيع جَاءَت بابنتيها
(6/2808)
[إِلَى] النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، هَاتَانِ
ابنتا سعد قتل أَبوهُمَا مَعَك يَوْم أحد، وَقد أَخذ عَمهمَا
مَالهمَا، وَلَا ينكحان إِلَّا بِمَال، فَقَالَ: " اذهبي
حَتَّى يقْضِي الله فِيك "، فَذَهَبت، ثمَّ نزلت آيَة
الْمِيرَاث: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11]
، فَبعث خلف الْمَرْأَة وابنتيها وعمهما فَقضى فيهم بِحكم
الْآيَة، فَدلَّ ذَلِك على أَن قبل نزُول الْآيَة لم يكن فِي
الْمَسْأَلَة حكم، وَإِلَّا لما جَازَ تَأْخِيره عَن وَقت
الْحَاجة إِلَيْهِ - كَمَا يَأْتِي -.
وَمِنْهَا: أَن يسْتَدلّ الشَّارِع اسْتِدْلَالا عقليا فَتبين
بِهِ الْعلَّة، أَو مَأْخَذ الحكم، أَو فَائِدَة مَا؛ إِذْ
الْكَلَام فِي بَيَان الْمُجْمل ومحتملاته بِالْفَرْضِ
مُتَسَاوِيَة فأدنى مُرَجّح يصلح بَيَانا، مُحَافظَة على
الْمُبَادلَة إِلَى الِامْتِثَال، وَعدم الإهمال للدليل،
قَالَه الطوفي فِي " شَرحه "، وَتَابعه الْعَسْقَلَانِي
(6/2809)
فِي " شَرحه "، وَزَاد الْأَخير.
قَوْله: {الْفِعْل وَالْقَوْل بعد الْمُجْمل إِن صلحا واتفقا،
وَعرف أسبقهما فَهُوَ الْبَيَان، وَالثَّانِي تَأْكِيد} .
الْفِعْل، وَالْقَوْل إِذا أَتَيَا بعد الْمُجْمل، واتفقا فِي
غَرَض الْبَيَان بِلَا تناف، فَإِذا علم الأول فَهُوَ
الْمُبين، قولا كَانَ، أَو فعلا بِلَا نزاع؛ لِأَنَّهُ قد حصل
الْبَيَان بِالْأولِ، وَالثَّانِي حصل بِهِ التَّأْكِيد.
قَوْله: {وَإِن جهل، فأحدهما} ، أَي الْمُبين، وَالْآخر
تَأْكِيد.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: الْمُبين الْمَرْجُوح.
وَقَالَ ابْن عقيل: الْمُبين القَوْل.
وَقيل: الْمُبين الْفِعْل.
إِذا لم يعلم السَّابِق من القَوْل وَالْفِعْل فأحدهما هُوَ
الْمُبين فَلَا يقْضى على
(6/2810)
وَاحِد بِعَيْنِه بِأَنَّهُ الْمُبين، بل
يقْضى بِحُصُول الْبَيَان بِوَاحِد مِنْهُمَا لم نطلع عَلَيْهِ
وَهُوَ الأول فِي نفس الْأَمر، والتأكيد بِالثَّانِي.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يتَعَيَّن للتقديم غير الْأَرْجَح حَتَّى
يكون هُوَ الْمُبين؛ لِأَن الْمَرْجُوح لَا يكون تَأْكِيدًا
للراجح لعدم الْفَائِدَة.
وَأَجَابُوا عَن ذَلِك بِأَن الْمُؤَكّد المستقل لَا يلْزم
فِيهِ ذَلِك كَالْجمَلِ الَّتِي يذكر بَعْضهَا بعد بعض
للتَّأْكِيد، وَأَن التَّأْكِيد يحصل بِالثَّانِيَةِ وَإِن
كَانَت أَضْعَف بانضمامها إِلَى الأولى، وَإِنَّمَا يلْزم كَون
الْمُؤَكّد أقوى فِي الْمُفْردَات نَحْو: جَاءَنِي الْقَوْم
كلهم.
وَقَالَ ابْن عقيل: يقدم القَوْل.
وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة أَيْضا لدلالته بِنَفسِهِ
وعمومها لنا، وَبَيَانه عَمَّا فِي النَّفس.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة - أَيْضا -: الْمُبين الْفِعْل؛
لِأَنَّهُ أقوى من القَوْل
(6/2811)
على مَا تقدم، وَيَأْتِي بعد ذَلِك مَا
يردهُ.
قَوْله: {وَإِن لم يتَّفقَا كَمَا لَو طَاف النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد آيَة الْحَج قَارنا طوافين،
وَأمر الْقَارِن بِطواف وَاحِد، فَقَوله بَيَان، وَفعله ندب
أَو وَاجِب مُخْتَصّ بِهِ} .
{وَعند} أبي الْحُسَيْن {الْبَصْرِيّ الْمُتَقَدّم مِنْهُمَا
بَيَان} .
الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَن الْمُبين هُوَ
القَوْل سَوَاء كَانَ قبل الْفِعْل أَو بعده، وَيحمل الْفِعْل
حِينَئِذٍ على النّدب، أَو على الْوُجُوب الْمُخْتَص بِهِ
(6/2812)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
وَذَلِكَ لِأَن القَوْل يدل على الْبَيَان بِنَفسِهِ بِخِلَاف
الْفِعْل؛ فَإِنَّهُ لَا يدل إِلَّا بِوَاسِطَة انضمام القَوْل
إِلَيْهِ، وَالدَّال بِنَفسِهِ أقوى من الدَّال بِغَيْرِهِ،
لَا يُقَال: قد سبق أَن الْفِعْل أقوى فِي الْبَيَان؛ لأَنا
نقُول: التَّحْقِيق أَن القَوْل أقوى فِي الدّلَالَة على
الحكم، وَالْفِعْل أدل على الْكَيْفِيَّة، فَفعل الصَّلَاة أدل
من وصفهَا بالْقَوْل؛ لِأَن فِيهِ الْمُشَاهدَة.
وَأما استفادة وُجُوبهَا، أَو ندبها، أَو غَيرهمَا، فَالْقَوْل
أقوى وأوضح لصراحته.
وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فَقَالَ:
الْمُتَقَدّم هُوَ الْبَيَان قولا كَانَ أَو فعلا.
وَيلْزمهُ - كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب، وَتَبعهُ ابْن
مُفْلِح وَغَيره - نسخ الْفِعْل الْمُتَقَدّم كوجوب الطوافين
وَرفع أَحدهمَا بالْقَوْل إِذا وَقع الْفِعْل مُتَقَدما مَعَ
إِمْكَان الْجمع بَينهمَا؛ لأَنا إِذا حملنَا الْفِعْل على
الْبَيَان أَو الخصوصية جَمعنَا بَين القَوْل وَالْفِعْل
بِخِلَاف النّسخ؛ فَإِنَّهُ إبِْطَال للمنسوخ.
(6/2813)
(قَوْله: فصل)
{أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر يجوز كَون الْبَيَان أَضْعَف
دلَالَة، وَاعْتبر الْكَرْخِي الْمُسَاوَاة، والآمدي، وَابْن
الْحَاجِب كَونه أقوى} .
إِذا كَانَ الْمُجْمل مَعْلُوما، فَهَل يجوز أَن يكون
الْبَيَان أَضْعَف دلَالَة مِنْهُ، أَو لَا بُد من
التَّسَاوِي، أَو لَا بُد أَن الْبَيَان أقوى؟ على ثَلَاثَة
أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه يجوز أَن يكون الْبَيَان أَضْعَف دلَالَة من
الْمُبين، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَصْحَابنَا،
وَالْأَكْثَر.
قَالَ أَبُو الْخطاب: قَالَه الْأَكْثَر، وَنَقله الباقلاني
عَن الْجُمْهُور أَيْضا، وَاخْتَارَهُ هُوَ، والرازي، وَأَبُو
الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.
(6/2814)
قَالَ ابْن مُفْلِح: لنا تَبْيِين السّنة
لمجمل الْقُرْآن. انْتهى.
قلت: وَقد تقدم مِثَال ذَلِك، وَهُوَ كثير جدا، تقدم
التَّنْبِيه عَلَيْهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي - اخْتَارَهُ الْكَرْخِي -: أَنه لَا بُد
من الْمُسَاوَاة فَلَا يبين الأضعف عِنْده.
قَالَ الْهِنْدِيّ: وَلَا يتَوَهَّم فِي حق أحد أَنه ذهب إِلَى
اشْتِرَاط أَنه كالمبين فِي قُوَّة الدّلَالَة، فَإِنَّهُ لَو
كَانَ كَذَلِك لما كَانَ بَيَانا لَهُ، بل كَانَ هُوَ مُحْتَاج
إِلَى بَيَان آخر، نَقله الْبرمَاوِيّ عَنهُ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا بُد وَأَن يكون الْبَيَان أقوى
دلَالَة من الْمُبين، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان
فِي " مقنعه "، وَابْن الْحَاجِب، وَهُوَ الَّذِي قواه شراحه.
قَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": الْحق أَن
الْبَيَان يجوز أَن يكون مظنونا، والمبين مَعْلُوما.
(6/2815)
لنا: أَن الْبَيَان كالتخصيص فَكَمَا يجوز
تَخْصِيص الْقطعِي بالظني كَخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس،
فَكَذَلِك يجوز بَيَان الْمَعْلُوم، أَي مَا كَانَ مَتنه
قَطْعِيا بالمظنون؛ لِأَن الْبَيَان يتَوَقَّف على وضوح
الدّلَالَة [لَا] على قَطْعِيَّة الْمَتْن.
هَذَا ظَاهر كَلَامه فِي " الْمَحْصُول ".
وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام: أَن الْمُبين إِن كَانَ
عَاما، أَو مُطلقًا اشْترط أَن يكون بَيَانه أقوى؛ لِأَنَّهُ
يرفع الْعُمُوم الظَّاهِر، وَالْإِطْلَاق، وَشرط الرافع أَن
يكون أقوى.
وَأما الْمُجْمل فَلَا يشْتَرط أَن يكون بَيَانه أقوى، بل يحصل
بِأَدْنَى دلَالَة؛ لِأَن الْمُجْمل لما كَانَ مُحْتملا
لمعنيين على السوَاء، فَإِذا انْضَمَّ إِلَى أحد
الِاحْتِمَالَيْنِ أدنى مُرَجّح كَفاهُ. انْتهى.
وَنصر الْعَضُد اخْتِيَار ابْن الْحَاجِب، ثمَّ قَالَ: هَذَا
كُله فِي الظَّاهِر، وَأما الْمُجْمل فَيَكْفِي فِي بَيَانه
أدنى دلَالَة، وَلَو مرجوحا؛ إِذْ لَا تعَارض. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَسبق تَخْصِيص الْعَام، وَتَقْيِيد
الْمُطلق، وَيعْتَبر كَون الْمُخَصّص، والمقيد أقوى عِنْد
الْقَائِل بِهِ، وَإِلَّا لزمَه تَقْدِيم الأضعف أَو التحكم،
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ وَغَيره هَذَا التَّفْصِيل وَأَحْسبهُ
اتِّفَاقًا. انْتهى.
(6/2816)
قَوْله: {وَلَا تعْتَبر مُسَاوَاة
الْبَيَان للمبين فِي الحكم، قَالَه فِي " التَّمْهِيد "
وَغَيره خلافًا لقوم} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا تعْتَبر مُسَاوَاة الْبَيَان للمبين
فِي الحكم، قَالَه فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره لتَضَمّنه صفته
وَالزَّائِد بِدَلِيل خلافًا لقوم.
فَهَذِهِ الْمَسْأَلَة غير الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا؛ لِأَن
الأولى فِي ضعف الدّلَالَة وقوتها، وَهَذِه فِي مُسَاوَاة
الْبَيَان للمبين فِي الحكم وَعَدَمه.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " لما ذكر الْمَسْأَلَة الَّتِي
قبل هَذِه وَذكر الْخلاف الَّذِي فِيهَا، وَاعْلَم أَن هَذِه
لَيست مَسْأَلَة الْمُخْتَصر؛ لِأَن الْكَلَام فِي تَبْيِين
الْأَقْوَى بالأضعف من جِهَة الدّلَالَة، وَمَسْأَلَة
الْمُخْتَصر - أَي: مُخْتَصره - و " الرَّوْضَة " ممثلة بتبيين
الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد، وَذَلِكَ أَضْعَف فِي الرُّتْبَة
لَا فِي الدّلَالَة، وَلَا يلْزم من ضعف الرُّتْبَة ضعف
الدّلَالَة لجَوَاز أَن يكون
(6/2817)
الأضعف رُتْبَة أقوى دلَالَة، كتخصيص
عُمُوم الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد؛ لِأَنَّهُ أخص فَيكون
أدل.
فحاصل هَذَا أَن الضعْف إِن كَانَ فِي الدّلَالَة لم يجز
تَبْيِين الْقوي بالضعيف لما سبق، وَإِن كَانَ فِي الرُّتْبَة
جَازَ إِذا كَانَ أقوى دلَالَة. انْتهى.
وَهَذَا الْبَحْث الَّذِي ذكره إِنَّمَا هُوَ فِي قُوَّة
الرُّتْبَة وضعفها، وَالْأولَى، فِي قُوَّة الدّلَالَة وضعفها،
وَقُوَّة الرُّتْبَة وضعفها قد يكون ضعفها مَوْجُودا لَكِن
دلالتها قَوِيَّة، هَذَا مُرَاده قد بَينه، لَكِن مَسْأَلَة
صَاحب " التَّمْهِيد " إِنَّمَا هِيَ فِي الحكم فَليعلم ذَلِك.
قَوْله: {لَا يُؤَخر الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِلَّا على
تَكْلِيف الْمحَال} ، فَمن أجَاز تَكْلِيف الْمحَال أجَاز
تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، وَمن مَنعه مَنعه.
وَصورته: أَن يَقُول: صلوا غَدا، ثمَّ لَا يبين لَهُم فِي غَد
كَيفَ يصلونَ، أَو آتوا الزَّكَاة عِنْد رَأس الْحول، ثمَّ لَا
يبين لَهُم عِنْد رَأس الْحول كم يؤدون، وَلَا لمن يؤدون،
وَنَحْو ذَلِك.
(6/2818)
لِأَنَّهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق،
والتفريع على امْتِنَاعه، هَذَا هُوَ الرَّاجِح عِنْد
الْعلمَاء خلافًا للمعتزلة؛ لِأَن الْعلَّة فِي عدم وُقُوع
التَّأْخِير عَن وَقت الْعَمَل أَن الْإِتْيَان بالشَّيْء مَعَ
عدم الْعلم بِهِ مُمْتَنع، فالتكليف بذلك تَكْلِيف بِمَا لَا
يُطَاق، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِن منعنَا
التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق فَلَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان
عَن وَقت الْحَاجة، وَإِلَّا جَازَ، وَلَكِن لم يَقع. انْتهى.
{قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {ولمصلحة هُوَ الْبَيَان
الْوَاجِب، أَو الْمُسْتَحبّ كتأخيره} للأعرابي {الْمُسِيء فِي
صلَاته إِلَى ثَالِث مرّة} ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب لخوف
فَوَات الْوَاجِب الْمُؤَقت فِي وقته.
تَنْبِيه: ترددوا فِي المُرَاد بِوَقْت الْحَاجة، هَل هُوَ
وَقت الْفِعْل أَو وَقت تضييقه بِحَيْثُ لَا يُمكن معاودته
للْفِعْل كالظهر مثلا، هَل يجب بَيَانهَا بِمُجَرَّد دُخُول
الْوَقْت، أَو لَا يجب إِلَّا إِذا ضَاقَ وَقتهَا.
(6/2819)
صرح أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فِي "
الْمُعْتَمد "، وَغَيره بِالثَّانِي، والباقلاني بِالْأولِ
وَاسْتشْكل تَعْلِيلهم الْمَنْع فِي أصل الْمَسْأَلَة
بِأَنَّهُ من التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق.
وَيُمكن جَوَابه بِأَنَّهُ لما دخل الْوَقْت تعلق الطّلب بِهِ،
فَكيف يطْلب مِنْهُ مَا لَا علم لَهُ بِهِ.
قَوْله: {وَيجوز تَأْخِيره عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ،
والأشعري، وَأكْثر أَصْحَابهم، وَبَعض الْحَنَفِيَّة،
والمالكية} ، فَمن أَصْحَابنَا ابْن حَامِد، وَالْقَاضِي،
وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، والحلواني، ِ
(6/2820)
والموفق، وَابْن حمدَان، والطوفي،
وَغَيرهم.
وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن جُمْهُور الْفُقَهَاء، وَذكره الْمجد
عَن أَكثر أَصْحَابنَا فَهُوَ جَائِز، وواقع مُطلقًا، سَوَاء
كَانَ الْمُبين ظَاهرا يعْمل بِهِ كتأخير بَيَان التَّخْصِيص،
وَبَيَان التَّقْيِيد، وَبَيَان النّسخ أَو لَا؟ كبيان
الْمُجْمل.
{وَعنهُ لَا} يجوز تَأْخِيره. {اخْتَارَهُ أَبُو بكر} عبد
الْعَزِيز غُلَام الْخلال، {والتميمي} من أَصْحَابنَا،
وَدَاوُد وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة، نَقله ابْن
مُفْلِح.
وَنقل عَن أبي إِسْحَاق، وَأبي ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ...
(6/2821)
حَامِد المروزيين، والصيرفي، والدقاق،
وَهُوَ قَول كثير من الْحَنَفِيَّة، فَلَا يَقع مُجملا إِلَّا
وَالْبَيَان مَعَه، وَكَذَا غير الْمُجْمل.
وَنقل الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق أَن الْأَشْعَرِيّ نزل
بالصيرفي ضيفا فناظره فَلم يزل بِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى
مَذْهَب الشَّافِعِي، {وَأَجَازَهُ} ، أَي: التَّأْخِير {أَكثر
الْحَنَفِيَّة فِي الْمُجْمل} ، فَيجوز تَأْخِير بَيَان
الْمُجْمل دون غَيره، وَنقل عَن الصَّيْرَفِي.
قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ: هُوَ عِنْدِي مَذْهَب
أَصْحَابنَا؛ لأَنهم
(6/2822)
يجْعَلُونَ الزِّيَادَة على النَّص نسخا
إِذا تراخت عَنهُ فَلَا يجيزونها إِلَّا بِمثل مَا يجوز بِهِ
النّسخ، وَلَو جَازَ عِنْدهم تَأْخِير الْبَيَان فِي مثله لما
كَانَت الزِّيَادَة نسخا، بل بَيَانا. انْتهى.
{و} أجَازه {أَبُو زيد} الدبوسي {إِن لم يكن تبديلا وَلَا
تغييرا} ، حَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَنهُ، فَقَالَ: قَالَ
أَبُو زيد: إِن بَيَان الْمُجْمل إِن لم يكن تبديلا، وَلَا
تغييرا جَازَ مُقَارنًا وطارئا، وَإِلَّا فَيجوز مُقَارنًا لَا
طارئا، ثمَّ ذكر أَن الِاسْتِثْنَاء من بَيَان التَّغْيِير.
{و} أجَازه {قوم فِي الْخَبَر} ، لَا الْأَمر وَالنَّهْي،
حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق.
{و} أجَازه {بعض الْمُعْتَزلَة} فِي الْأَمر وَالنَّهْي، لَا
الْخَبَر كالوعد والوعيد عكس الَّذِي قبله، حَكَاهُ
الْمَاوَرْدِيّ عَن الْكَرْخِي، وَبَعض الْمُعْتَزلَة.
وَمنع السَّمْعَانِيّ ذَلِك عَن الْكَرْخِي.
{و} أجَازه {الجبائي وَابْنه، وَعبد الْجَبَّار فِي النّسخ}
دون غَيره، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْن عَنْهُم فِي "
الْمُعْتَمد "، وَظَاهره أَن النّسخ دَاخل فِي مَحل الْخلاف،
لَكِن قَالَ بَعضهم: إِنَّه يجوز تَأْخِير النّسخ اتِّفَاقًا،
وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الباقلاني،
(6/2823)
وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَصرح بِهِ ابْن
برهَان، وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهمَا.
{و} أجَازه {أَبُو الْحُسَيْن فِيمَا لَيْسَ لَهُ ظَاهر
كالمشترك} دون مَاله ظَاهر كالعام وَالْمُطلق والمنسوخ
فَإِنَّهُ يجوز تَأْخِير بَيَانه التفصيلي دون الإجمالي، فَإِن
الإجمالي يشْتَرط وجوده عِنْد الْخطاب؛ حَتَّى يكون مَانِعا من
الْوُقُوع فِي الْخَطَأ فَيُقَال: هَذَا الْعَام مُرَاد بِهِ
خَاص، وَهَذَا الْمُطلق مُرَاد بِهِ مُقَيّد، وَهَذِه النكرَة
مُرَاد بهَا معِين، أَو هَذَا الحكم سينسخ.
أما الْبَيَان التفصيلي فَلَيْسَ ذكره مَعَ الْخطاب شرطا، نقل
هَذَا الْمَذْهَب الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه عَن أبي الْحُسَيْن.
{و} أجَاز {بَعضهم فِي الْعُمُوم} ، يَعْنِي: جوز بعض
الْعلمَاء تَأْخِير بَيَان الْعُمُوم دون غَيره، فَإِنَّهُ قبل
الْبَيَان مَفْهُوم بِخِلَاف الْمُجْمل؛ لِأَنَّهُ قبل
الْبَيَان غير مَفْهُوم، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ وَجها
للشَّافِعِيَّة، وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن عبد الْجَبَّار.
(6/2824)
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ
الصَّحِيح - بقوله تَعَالَى: {فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى} [الْأَنْفَال: 41] ثمَّ بَين - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَن
السَّلب للْقَاتِل، وَلأَحْمَد وَأبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن
أَنه لم يخمسه وَلما أعْطى بني الْمطلب مَعَ بني هَاشم من سهم
ذِي الْقُرْبَى، وَمنع بني نَوْفَل وَبني عبد شمس، سُئِلَ
فَقَالَ: " بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب شَيْء وَاحِد ".
رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَلأَحْمَد وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
بِإِسْنَاد صَحِيح: " إِنَّهُم لم يُفَارِقُونِي فِي
جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام ".
وَلم ينْقل بَيَان إِجْمَال مُقَارن، وَلَو كَانَ نقل،
وَالْأَصْل عَدمه، وَكَذَا الْحجَّة من إِطْلَاق الْأَمر
بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاة، وَالْحج، وَالْجهَاد، ثمَّ بَين
(6/2825)
ذَلِك، وَكَذَا بيع، وَنِكَاح، وميراث،
وسرقة، وكل عُمُوم قُرْآن وَسنة.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث عَائِشَة أَن جبرئيل قَالَ
للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اقْرَأ،
قَالَ: مَا أَنا بقارئ، وَكرر ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: {اقْرَأ
باسم رَبك} [العلق: 1] .
وَاعْترض: هَذِه الْأَوَامِر ظَاهرهَا مَتْرُوك، لتأخير
الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب وَهُوَ وَقت الْحَاجة، إِن كَانَ
للفور، أَو للتراخي؛ فالفعل جَائِز فِي الْوَقْت الثَّانِي
فَيمْتَنع تَأْخِيره عَنهُ.
رد: الْأَمر قبل بَيَان الْمَأْمُور بِهِ لَا يجب بِهِ شَيْء،
وَهُوَ كثير عرفا كَقَوْل السَّيِّد: افْعَل فَقَط.
وَاحْتج فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره بِقصَّة ابْن الزبعري
وسبقت.
وَاعْترض - أَيْضا - بِأَنَّهُ خبر وَاحِد، وَالْمَسْأَلَة
علمية.
وَجَوَابه الْمَنْع مَعَ أَنه متلقى بِالْقبُولِ، - وَأَيْضًا
- لَو امْتنع لَكَانَ لعدم الْبَيَان، وَلَيْسَ بمانع بِدَلِيل
النّسخ.
(6/2826)
فَإِن قيل: يعْتَبر الْإِشْعَار بالناسخ.
رد بِالْمَنْعِ وَبِأَنَّهُ خلاف الْوَاقِع.
وَاسْتدلَّ بقوله: {أَن تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67]
وَالْمرَاد مُعينَة بِدَلِيل تَعْيِينهَا بسؤالهم الْمُتَأَخر
عَن الْأَمر بذبحها، وبدليل أَنهم لم يؤمروا بمتجدد.
وبدليل مُطَالبَة الْمَأْمُور بهَا لما ذبح.
رد: بِمَنْع التَّعْيِين فَلم يتَأَخَّر بَيَان لتأخيره عَن
وَقت الْحَاجة لفورية الْأَمر.
وبدليل - بقرة - والنكرة غير مُعينَة ظَاهرا.
وبدليل قَول الْمُفَسّرين: لَو ذَبَحُوا أَي بقرة أَجْزَأت،
وَرُوِيَ نَحوه عَن ابْن عَبَّاس.
وبدليل من طلب الْبَيَان لَا يعنف، وعنفه بقوله: {وَمَا
كَادُوا يَفْعَلُونَ} [الْبَقَرَة: 71] .
وَاسْتدلَّ: لَو امْتنع لَكَانَ لذاته أَو لغيره، بضرورة أَو
نظر، وهما منتفيان.
رد: لَو جَازَ إِلَى آخِره.
وَاسْتدلَّ لَو امْتنع مَعَ زمن قصير وَبعد جمل معطوفه وبكلام
طَوِيل.
(6/2827)
رد: لِأَنَّهُ لَيْسَ معرضًا عَن كَلَامه
الأول فَهُوَ كجملة وَإِنَّمَا يجوز بِكَلَام طَوِيل
للْمصْلحَة.
وَاحْتج ابْن عقيل بِأَن الْمَسْأَلَة أولى من تَجْوِيز خطاب
الْمَعْدُوم.
الْقَائِل بِمَنْع تَأْخِير الظَّاهِر: لَو جَازَ لَكَانَ
إِلَى مُدَّة مُعينَة، وَهُوَ تحكم لَا قَائِل بِهِ، أَو إِلَى
الْأَبَد فَيلْزم التجهيل لعمل الْمُكَلف أبدا بعام أُرِيد
بِهِ الْخَاص.
رد إِلَى مُدَّة مُعينَة عِنْد الله، وَهُوَ وَقت وجوب
الْعَمَل على الْمُكَلف وَقت الْحَاجة، وَقَبله لَا عمل لَهُ،
بل هُوَ مُجَرّد اعْتِقَاد فَلَا يمْتَنع بِدَلِيل النّسخ.
قَالُوا: لَو جَازَ لَكَانَ الشَّارِع مفهما بخطابه لاستلزامه
الإفهام، وَظَاهره يُوقع فِي الْجَهْل لِأَنَّهُ غير مُرَاد،
وباطنه لَا طَرِيق إِلَيْهِ.
رد: يجْرِي الدَّلِيل فِي النّسخ لظُهُوره فِي الدَّوَام
وَبِأَنَّهُ أُرِيد إفهام الظَّاهِر مَعَ تَجْوِيز التَّخْصِيص
عِنْد الْحَاجة فَلَا يلْزم شَيْء.
وَاعْترض: التَّخْصِيص يُوجب شكا فِي كل شخص هَل هُوَ مُرَاد
من الْعَام بِخِلَاف النّسخ.
رد: يُوجِبهُ على الْبَدَل، وَفِي النّسخ يُوجِبهُ فِي
الْجَمِيع لاحْتِمَال الْمَوْت قبل وَقت الْعِبَادَة
الْمُسْتَقْبلَة فَهُوَ أولى.
(6/2828)
الْقَائِل بِمَنْع تَأْخِير بَيَان
الْمُجْمل؛ لِأَنَّهُ يخل بِفعل الْعِبَادَة فِي وَقتهَا
للْجَهْل بصفتها بِخِلَاف النّسخ.
رد: وَقتهَا وَقت بَيَانهَا.
قَالُوا: لَو جَازَ لجَاز الْخطاب بالمهمل ثمَّ يُبينهُ؛
لِأَنَّهُ لَا يفهم مِنْهُمَا شَيْء.
رد: الْمُجْمل مُخَاطب بِأحد مَعَانِيه، فيطيع ويعصي بالعزم
والمهمل لَا يُفِيد شَيْئا.
ولأصحابنا منع وَتَسْلِيم فِي جَوَاز خطاب فَارسي بعربية لعدم
الْفَائِدَة أَو لعلمه أَنه أَرَادَ مِنْهُ شَيْئا سيبينه؛
وَلِهَذَا خاطبهم عَلَيْهِ السَّلَام بِالْقُرْآنِ.
قَوْله: {فعلى الْمَنْع، قَالَ أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر:
يجوز تَأْخِير إسماع الْمُخَصّص الْمَوْجُود وَمنعه الجبائي،
وَأَبُو الْهُذيْل، ووافقا على الْمُخَصّص الْعقلِيّ} . يجوز
على الْمَنْع من جَوَاز التَّأْخِير تَأْخِير إسماع الْمُخَصّص
الْمَوْجُود عندنَا، وَعند عَامَّة الْعلمَاء.
(6/2829)
وَمنعه أَبُو الْهُذيْل، والجبائي، ووافقا
على الْمُخَصّص الْعقلِيّ.
اسْتدلَّ للصحيح بِأَنَّهُ مُحْتَمل سَمَاعه بِخِلَاف
الْمَعْدُوم، وَسمعت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا {يُوصِيكُم
الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] وَلم تسمع الْمُخَصّص،
وَسمع الصَّحَابَة الْأَمر بقتل الْكفَّار إِلَى الْجِزْيَة،
وَلم يَأْخُذ عمر الْجِزْيَة من الْمَجُوس حَتَّى شهد عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذهَا مِنْهُم. رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وروى مَالك فِي " الْمُوَطَّأ "، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ عَن
جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عمر ذكرهم، فَقَالَ: مَا
أَدْرِي كَيفَ أصنع فِي أَمرهم، فَشهد عبد الرَّحْمَن أَنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " سنوا بهم سنة
أهل الْكتاب " مُنْقَطع.
(6/2830)
وَمنع أَبُو الْهُذيْل، والجبائي فِي
التَّخْصِيص بِالسَّمْعِ دون الْعقل.
قَوْله: {وَعَلِيهِ أَيْضا، أَي: على الْمَنْع، قَالَ
القَاضِي، وَالْأَكْثَر: يجوز تَأْخِير النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَبْلِيغ الحكم إِلَى وَقت
الْحَاجة.
وَمنعه عبد الْجَبَّار فِي الْقُرْآن، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن
عقيل مُطلقًا} .
يجوز على الْمَنْع تَأْخِير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَبْلِيغ الحكم إِلَى وَقت الْحَاجة
عِنْد القَاضِي أبي يعلى، والمالكية، والمعتزلة، وَأبي
الْمَعَالِي، وَذكره الْآمِدِيّ قَول الْمُحَقِّقين؛ لِأَن
وجوب مَعْرفَته إِنَّمَا هُوَ للْعَمَل فَلَا حَاجَة لَهُ قبل
وَقت الْعَمَل.
(6/2831)
وَلِأَنَّهُ لَا يلْزم مِنْهُ محَال،
وَالْأَصْل الْجَوَاز عقلا، وَالْأَمر بالتبليغ بعد تَسْلِيم
أَنه للْوُجُوب والفور المُرَاد بِهِ الْقُرْآن؛ لِأَنَّهُ
الْمَفْهُوم من لفظ الْمنزل.
وَحكى صَاحب المصادر عَن عبد الْجَبَّار أَن الْمنزل إِن كَانَ
قُرْآنًا فَيجب تبليغه فِي الْحَال لقصد انتشاره، وإبلاغه، أَو
غير قُرْآن لم يجب.
وَمنعه أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل مُطلقًا؛ لِأَنَّهُ يخل أَن
لَا يعْتَقد الْمُكَلف شَيْئا، وَهُوَ إهمال بِخِلَاف تَأْخِير
الْبَيَان، وَلِهَذَا يجوز تَأْخِير النّسخ لَا تَبْلِيغ
الْمَنْسُوخ؛ وَلِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيهَا
الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} [الْمَائِدَة: 67] .
قَوْله: {وعَلى الْجَوَاز قَالَ أَصْحَابنَا والمحققون: يجوز
التدريج فِي الْبَيَان، وَقيل: فِي الْمُجْمل وَقيل: إِن توقع
بَيَانا، وَقيل: لَا} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز التدريج بِالْبَيَانِ بِأَن يبين
تَخْصِيصًا بعد تَخْصِيص على أَقْوَال:
(6/2832)
أَحدهَا - وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا،
والمحققين مِنْهُم: القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني -: يجوز
ذَلِك فِي الثَّانِي، وَالثَّالِث وَمَا بعدهمَا كَالْأولِ،
فَيُقَال - مثلا -: اقْتُلُوا الْمُشْركين، ثمَّ يُقَال: سلخ
الْأَشْهر، ثمَّ يُقَال: الْحَرْبِيين، ثمَّ يُقَال: إِذا
كَانُوا رجَالًا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يجوز ذَلِك فِي الْمُجْمل، وَأما فِي
الْعُمُوم فعلى الْخلاف فِي الْبَيَان الأول.
وَالْقَوْل الثَّالِث: يجوز إِذا علم الْمُكَلف أَن فِيهِ
بَيَانا متوقعا.
وَمِنْهُم من يَأْخُذ من هَذَا القَوْل قولا آخر مفصلا فِي أصل
الْمَسْأَلَة فَيَقُول: يمْتَنع تَأْخِير بعض الْبَيَان دون
بعض، وَلَا يمْتَنع تَأْخِير الْكل، ذكره فِي " جمع
الْجَوَامِع " فِي أصل الْمَسْأَلَة.
وَالْقَوْل الرَّابِع: لَا يجوز مُطلقًا فَيمْتَنع فِي
الثَّانِي، وَمَا بعده؛ لِأَن قَضِيَّة الْبَيَان أَن يكمله
أَو لَا.
(6/2833)
وَاسْتدلَّ للْأولِ بِوُقُوعِهِ وَالْأَصْل
عدم مَانع.
قَالُوا: تَخْصِيص بعض بِذكرِهِ يُوهم نفي غَيره، وَوُجُوب
اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ تجهيل للمكلف.
رد: بِذكر الْعَام بِلَا مُخَصص.
(6/2834)
(قَوْله: {فصل} )
{أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، والمالكية، والصيرفي، والسرخسي:
يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَالْعَمَل بِهِ فِي الْحَال} .
وَهَذَا قَول أَكثر أَصْحَابنَا، مِنْهُم: أَبُو بكر،
وَالْقَاضِي، وَابْن عقيل، والموفق، وَابْن حمدَان، والطوفي،
والمالكية، والصيرفي، والسرخسي، وَأَبُو الْمَعَالِي،
وَغَيرهم.
(6/2835)
وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ: يجب اعْتِقَاد
الْعُمُوم، وَالْعَمَل بِهِ قبل الْبَحْث عَن مُخَصص {إِن
سَمعه من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على
طَرِيق تَعْلِيم الحكم} ، وَإِلَّا فَلَا يمْنَع بَيَان
تَأْخِير التَّخْصِيص مِنْهُ.
رد: يجوز، ثمَّ الرَّاوِي عَنهُ مثله.
{وَقيل:} يجب ذَلِك {مَعَ ضيق الْوَقْت} ، وَإِلَّا فَلَا.
هَذَا قَول مفرق بَين ضيق الْوَقْت، وَعَدَمه فَمَعَ ضيق
الْوَقْت يجب، وَإِلَّا فَلَا. وَله نَظَائِر، مِنْهَا: هَل
للمجتهد أَن يُقَلّد إِذا ضَاقَ الْوَقْت، أم لَا؟ على مَا
يَأْتِي.
{وَعنهُ لَا مُطلقًا} ، أَي: لَا يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم
{حَتَّى يبْحَث} عَن الْمُخَصّص، {اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب،
والحلواني} ، وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا، {وَأكْثر
الشَّافِعِيَّة، وَمَال إِلَيْهِ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين،
وَذكر الْآمِدِيّ
(6/2836)
عَن الصَّيْرَفِي يجب اعْتِقَاد عُمُومه
جزما قبله، وَهُوَ خطأ لاحْتِمَال إِرَادَة خصوصه، قَالَ:
وَلَا نَعْرِف خلافًا فِي امْتنَاع الْعَمَل قبل بَحثه عَن
مُخَصص.
{وَقَالَ الْأُسْتَاذ} أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ
{وَغَيره: مَحل ذَلِك بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -} ، أما فِي حَيَاته فَلَا خلاف فِي وجوب
الْمُبَادرَة إِلَى الْأَخْذ بِهِ وإجراء على عُمُومه؛ لِأَن
أصُول الشَّرِيعَة لم تكن متقررة لجَوَاز أَن يحدث بعد وُرُود
الْعَام مُخَصص، وَبعد النَّص نسخ، فَلَا يُفِيد الْبَحْث عَن
ذَلِك شَيْئا.
وَجه القَوْل الأول: الْمُوجب للاستغراق لفظ الْعُمُوم،
والمخصص معَارض [و] الأَصْل عَدمه.
أجَاب بعض أَصْحَابنَا: لَكِن النَّفْي لَا يحكم بِهِ قبل
الْبَحْث.
وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد " إِنَّمَا يفِيدهُ بِشَرْط تجرده
عَن مُخَصص وَمَا نعلمهُ إِلَّا أَن نبحث فَلَا نجده.
وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا عدم الْمُخَصّص شَرط فِي
الْعُمُوم، أَو هُوَ
(6/2837)
من بَاب الْمعَارض، فِيهِ قَولَانِ كَمَا
فِي تَخْصِيص الْعلَّة، ثمَّ ذكر قَول القَاضِي اللَّفْظ
الدَّال على الْعُمُوم هُوَ الْمُجَرّد عَن قرينَة، فَلَا
يُوجد إِلَّا وَهُوَ دَال عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يدل على
الْخُصُوص بِقَرِينَة، ثمَّ ذكر أَيْضا الْمُوجب للْعُمُوم قصد
الْمُتَكَلّم فَيَكْفِي فِي الْخُصُوص عدم قصد الْعُمُوم، أَو
يُقَال: الْمُوجب للخصوص قصد الْمُتَكَلّم فَيَكْفِي فِي
الْعُمُوم عدم قصد الْخُصُوص.
كَلَام القَاضِي يَقْتَضِي أَن اللَّفْظ لَا يَتَّصِف فِي
نَفسه بِعُمُوم، وَلَا خُصُوص إِلَّا بِقصد الْمُتَكَلّم.
قَالَ: وَهَذَا جيد فَيُفَرق بَين إِرَادَة عدم الصُّورَة
الْمَخْصُوصَة، أَو عدم إرادتها.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَأَيْضًا كَمَا يجب حمله
على عُمُوم الزَّمَان وَإِن جَازَ نسخه فِي بعضه.
أجَاب فِي " التَّمْهِيد ": مَا يخص الْأَعْيَان يرد مَعَه،
وَقَبله، فَيجب الْبَحْث، والنسخ لَا يرد إِلَّا بعد وُرُود
الصِّيغَة فَلَا يجب كَمَا لَا يتَوَقَّف فِيمَن ثبتَتْ
عَدَالَته حَتَّى يرد عَلَيْهِ الْفسق.
(6/2838)
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَفِيهِ نظر بعد
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لتقدم معرفَة
النَّاسِخ والمنسوخ على الْفَتْوَى.
وَقَالَ ابْن عقيل: النّسخ قد يخفى عَن الْبعيد عَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يلْزمه
التَّوَقُّف، وَإِن كَانَ ذَلِك لَا يفوت أصل الْعَمَل عَن
وُرُود النّسخ.
وَاحْتج القَاضِي بأسماء الْحَقَائِق، وَذكر عَن خَصمه منعا
وتسليما.
وَاحْتج ابْن عقيل والموفق فِي " الرَّوْضَة " بهَا، وبالأمر،
وَالنَّهْي.
تَنْبِيه: تابعنا فِي حِكَايَة الْخلاف كثيرا من الْعلمَاء، بل
مَذْهَب أَحْمد وَأَصْحَابه، والمالكية، وَكثير من الْعلمَاء
كَمَا تقدم وجوب اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَالْعَمَل بِهِ قبل
الْبَحْث عَن مُخَصص كَمَا تقدم.
وَحكى الكوراني وَابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره " وَغَيرهمَا
(6/2839)
الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجوز الْعَمَل
بِالْعَام قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص، وَجعلُوا الْخلاف فِي
اعْتِقَاد الْعُمُوم فِي الْعَام بعد وُرُوده، وَقبل وَقت
الْعَمَل بِهِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ بعد حِكَايَة الْخلاف: هَكَذَا أورد
الْخلاف الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه وَسَبقه إِلَى ذَلِك
الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَأَبُو
إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَغَيرهمَا، لَكِن اقْتصر أَبُو
الطّيب، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَابْن السَّمْعَانِيّ فِي
النَّقْل عَن الصَّيْرَفِي على وجوب اعْتِقَاد الْعُمُوم فِي
الْحَال قبل الْبَحْث، وَصرح غَيرهم عَنهُ بِأَنَّهُ قَالَ:
يجب الِاعْتِقَاد وَالْعَمَل.
وَلَك أَن تَقول: إِن دخل وَقت الْعَمَل لزم من وجوب
الِاعْتِقَاد وجوب الْعَمَل فَلذَلِك اكْتفى من اقْتصر على
وجوب الِاعْتِقَاد بذلك.
وَأما الْغَزالِيّ، ثمَّ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب فحكوا
الْخلاف على وَجه آخر، وَهُوَ أَنه يمْتَنع الْعَمَل قبل
الْبَحْث قطعا، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي كَونه يَكْفِي الظَّن -
وَهُوَ قَول الْأَكْثَر - أَولا بُد من الْقطع؟
(6/2840)
قَالَ: وَيحصل ذَلِك بتكرير النّظر، والبحث
عَن اشتهار كَلَام الْأَئِمَّة.
قَالُوا: وَلَيْسَ خلاف الصَّيْرَفِي إِلَّا فِي اعْتِقَاد
عُمُومه قبل دُخُول وَقت الْعَمَل بِهِ، وَإِذا ظهر مُخَصص
تعين الِاعْتِقَاد.
وَمِنْهُم من جمع بَين الطريقتين بِأَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ:
وجوب الْعَمَل وَهُوَ مَحل الْقطع، واعتقاد الْعُمُوم، وَهُوَ
مَحل الْخلاف.
وَفِيه نظر، فَإِن ذَلِك إِن كَانَ قبل دُخُول وَقت الْعَمَل
فقد جعلُوا مَحل خلاف الصَّيْرَفِي فِيهِ، وَإِن كَانَ بعد
دُخُول وَقت الْعَمَل فقد سبق أَنه لَا معنى لاعْتِقَاده
إِلَّا وجوب الْعَمَل بِهِ. انْتهى.
قَوْله: {وَظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ الْأَكْثَر:
يَكْفِي فِي الْبَحْث الظَّن، وَاعْتبر} القَاضِي أَبُو بكر
{الباقلاني، وَمن تبعه الْقطع} .
{و} اعْتبر {قوم اعتقادا جَازِمًا} .
(6/2841)
قَالَ ابْن مُفْلِح: ظَاهر كَلَام
أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْأَكْثَر: يَكْفِي بحث يظنّ مَعَه
انتفاؤه؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيق إِلَى الْقطع؛ فاشتراطه يبطل
الْعَمَل بِالْعُمُومِ.
وَاعْتبر ابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة الْقطع، وَقَالُوا: مَا
كثر الْبَحْث بَين الْعلمَاء فِيهِ يُفِيد الْقطع عَادَة،
وَإِلَّا فبحث الْمُجْتَهد يفِيدهُ؛ لِاسْتِحَالَة أَن لَا
ينصب الله عَلَيْهِ دَلِيلا ويبلغه للمكلف.
رد الأول: بِمَنْع الِاطِّلَاع عَلَيْهِ، ثمَّ لَو اطلع بَعضهم
فنقله غير قَاطع.
ورد الثَّانِي: بِمَنْع نصب دَلِيل وَلُزُوم الِاطِّلَاع
وَنَقله، وَقد يجد مُخَصّصا يرجع بِهِ عَن الْعُمُوم، وَلَو
قطع لم يرجع.
وَحكى الْغَزالِيّ قولا ثَالِثا متوسطا أَن الشَّرْط أَن
يعْتَقد عَدمه اعتقادا جَازِمًا يسكن إِلَيْهِ الْقلب من غير
قطع.
تَنْبِيه: مثار الْخلاف فِي أصل الْمَسْأَلَة التَّعَارُض بَين
الأَصْل وَالظَّاهِر، وَله مثار آخر، وَهُوَ أَن التَّخْصِيص
هَل هُوَ مَانع، أَو عَدمه شَرط؟
فالصيرفي جعله مَانِعا فَالْأَصْل عَدمه، وَابْن سُرَيج ...
...
(6/2842)
جعله شرطا فَلَا بُد من تحَققه.
وَنَظِيره الشَّاهِد عِنْد الْحَاكِم الَّذِي لَا يعرف حَاله
فيبحث عَنهُ حَتَّى يعْمل بِشَهَادَتِهِ إِذا عدل.
وَنَظِيره أَيْضا صِيغَة الْعُمُوم المحتملة للْعهد، هَل يعْمل
بهَا؛ لِأَن الْعَهْد مَانع وَالْأَصْل عَدمه، أَو عدم
الْعَهْد شَرط فَلَا بُد من تحَققه.
قَوْله: {وَكَذَا كل دَلِيل مَعَ معارضه، وَهُوَ ظَاهر كَلَام
أَحْمد، وَقيل: لَا فِي حَقِيقَة ومجاز} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ بعض أَصْحَابنَا: يجب أَن نقُول:
جَمِيع الظَّوَاهِر كالعموم وَكَلَام أَحْمد فِي مُطلق
الظَّاهِر من غير فرق، وَكَذَا جزم بِهِ الْآمِدِيّ، وَغَيره.
وَفِي " التَّمْهِيد ": جَمِيع ذَلِك كمسألتنا، وَإِن سلمنَا
أَسمَاء الْحَقَائِق فَقَط، فَإِن لفظ الْعُمُوم حَقِيقَة
فِيهِ مَا لم نجد مُخَصّصا، وَحَقِيقَة فِيهِ وَفِي الْخُصُوص،
وَأَيْضًا لَا يلْزمه طلب مَا لَا يُعلمهُ كَطَلَب هَل بعث
الله رَسُولا؟
(6/2843)
وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد ": يلْزمه كَمَا
يلْزمه هُنَا طلب الْمُخَصّص فِي بَلَده.
قيل لَهُ: فَلَو ضَاقَ الْوَقْت عَن طلبه؟
قَالَ: الْأَشْبَه يلْزم الْعَمَل بِالْعُمُومِ، وَإِلَّا لما
أسمعهُ الله إِيَّاه قبل تمكنه من الْمعرفَة بالمخصص لِأَنَّهُ
وَقت الْحَاجة إِلَى الْبَيَان.
قَالَ: وَيحْتَمل أَن لَا يعْمل حَتَّى يَطْلُبهُ كمجتهد ضَاقَ
وَقت اجْتِهَاده لَا يُقَلّد غَيره. انْتهى.
وَالْخلاف جَار عِنْد الشَّافِعِيَّة فِي لفظ الْأَمر
وَالنَّهْي.
قَالَه الشَّيْخ أَبُو حَامِد: قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم،
مِنْهُم من نقل الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجب عِنْد سَماع
الْحَقِيقَة طلب الْمجَاز، وَإِن وَجب عِنْد سَماع الْعَام طلب
الْمُخَصّص؛ لِأَن تطرق التَّخْصِيص إِلَى الْعَام أَكثر.
انْتهى.
وَقَالَهُ السُّبْكِيّ وَفرق بَينهمَا بفرق حسن.
(6/2844)
(بَاب)
(6/2845)
فارغة
(6/2846)
(قَوْله: {بَاب} )
{الظَّاهِر لُغَة} خلاف الْبَاطِن، وَهُوَ {الْوَاضِح}
المنكشف، وَمِنْه ظُهُور الْأَمر إِذا اتَّضَح وانكشف، وَيُطلق
على الشَّيْء الشاخص الْمُرْتَفع، كَمَا أَن الظَّاهِر من
الْأَشْخَاص هُوَ الْمُرْتَفع الَّذِي تتبادر إِلَيْهِ
الْأَبْصَار، كَذَلِك فِي الْمعَانِي.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: مَا دلّ دلَالَة ظنية وضعا: كأسد،
وَعرفا: كغائط} . قَالَه الْآمِدِيّ وَغَيره.
فَالظَّاهِر الَّذِي يُفِيد معنى مَعَ احْتِمَال غَيره، لكنه
ضَعِيف؛ فبسبب ضعفه خَفِي فَلذَلِك سمي اللَّفْظ لدلالته على
مُقَابِله وَهُوَ الْقوي ظَاهرا كالأسد؛ فَإِنَّهُ ظَاهر فِي
الْحَيَوَان فِي دلَالَة اللَّفْظ الْوَاحِد ليخرج الْمُجْمل
(6/2847)
مَعَ الْمُبين؛ لِأَنَّهُ وَإِن أَفَادَ
معنى لَا يحْتَمل غَيره، فَإِنَّهُ لَا يُسمى مثله نصا.
قَوْله: {والتأويل لُغَة الرُّجُوع} ، وَهُوَ من آل يؤول، أَي:
رَجَعَ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وابتغاء تَأْوِيله} [آل
عمرَان: 7] أَي: طلب مَا يؤول إِلَيْهِ مَعْنَاهُ، فَهُوَ مصدر
أولت الشَّيْء فسرته من آل إِذا رَجَعَ؛ لِأَنَّهُ رُجُوع من
الظَّاهِر إِلَى ذَلِك الَّذِي آل إِلَيْهِ فِي دلَالَته
اللَّفْظ.
قَالَ الله تَعَالَى: {هَل ينظرُونَ إِلَّا تَأْوِيله}
[الْأَعْرَاف: 53] أَي: مَا يؤول إِلَيْهِ بَعثهمْ ونشورهم.
فَائِدَة: للنَّاس كَلَام فِي الْفرق بَين التَّأْوِيل
وَالتَّفْسِير.
قَالَ الرَّاغِب: أَكثر مَا يسْتَعْمل التَّأْوِيل فِي
الْمعَانِي، وَالتَّفْسِير فِي الْأَلْفَاظ، وَأكْثر
التَّفْسِير فِي مُفْرَدَات الْأَلْفَاظ، والتأويل أَكْثَره
فِي الْجمل.
(6/2848)
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: حمل ظَاهر على
مُحْتَمل مَرْجُوح} .
أَي: تكون للفظ دلالتان راجحة ومرجوحة فَيحمل على المرجوحة،
وَهَذَا يَشْمَل الصَّحِيح وَالْفَاسِد، فَإِن أردْت الصَّحِيح
زِدْت فِي الْحَد {بِدَلِيل يصيره راجحا} على مَدْلُوله
الظَّاهِر فيسمى تَأْوِيلا صَحِيحا.
فَإِن ترك الظَّاهِر لَا لدَلِيل مُحَقّق، بل لشبه تخيل للسامع
أَنَّهَا دَلِيل، وَعند التَّحْقِيق تضمحل يُسمى تَأْوِيلا
فَاسِدا، وَرُبمَا قيل تَأْوِيلا بَعيدا، وَقد يكون
التَّأْوِيل لَا لشَيْء من ذَلِك فَهَذَا لعب لَا يعبأ بِهِ.
إِذا علم ذَلِك فَحمل اللَّفْظ على ظَاهره لَيْسَ تَأْوِيلا،
وَكَذَا حمل الْمُشْتَرك وَنَحْوه من الْمسَاوِي على أحد
محمليه، أَو محامله لدَلِيل لَا يُسمى تَأْوِيلا، وَحمله على
الْمَجْمُوع لَا يُسمى تَأْوِيلا أَيْضا.
وَقَالَ {الْمُوفق} تبعا للغزالي: حد التَّأْوِيل {احْتِمَال
يعضده دَلِيل يصيره أغلب على الظَّن من الظَّاهِر} .
(6/2849)
وَيرد عَلَيْهِ أَن الِاحْتِمَال شَرط
التَّأْوِيل لَا نَفسه، وَلَيْسَ بِجَامِع لخُرُوج تَأْوِيل
مَقْطُوع بِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ: صرف اللَّفْظ عَن
الِاحْتِمَال الرَّاجِح إِلَى الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح
لاعتضاده بِدَلِيل} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت الْحَد غير جَامع؛ لِأَن
التَّأْوِيل قد يكون فِي الْفِعْل.
قَوْله: {فَإِن قرب التَّأْوِيل ترجح بِأَدْنَى مُرَجّح، وَإِن
بعد افْتقر إِلَى أقوى وَإِن تعذر رد} .
التَّأْوِيل على ثَلَاثَة أَقسَام:
قريب: فيترجح الطّرف الْمَرْجُوح بِأَدْنَى دَلِيل لقُرْبه مثل
قَوْله تَعَالَى: {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة}
[الْمَائِدَة: 6] أَي: إِذا عزمتم.
وبعيد: يَعْنِي الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح بعيد من الْإِرَادَة
لعدم قرينَة تدل عَلَيْهِ عقلية، أَو حَالية، أَو مقالية
فَيحْتَاج فِي حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ، وَصَرفه عَن الظَّاهِر
إِلَى دَلِيل قوي.
(6/2850)
ومتعذر: لَا يحْتَملهُ اللَّفْظ فَلَا يكون
مَقْبُولًا، بل يجب رده وَالْحكم بِبُطْلَانِهِ.
قَوْله: {فَمن} التَّأْوِيل {الْبعيد تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة
قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لغيلان بن
سَلمَة وَقد أسلم على عشرَة نسْوَة: " اختر - وَفِي لفظ - أمسك
مِنْهُنَّ أَرْبعا وَفَارق سائرهن " على ابْتِدَاء النِّكَاح،
أَو إمْسَاك الْأَوَائِل} ، فَأَوَّلْته الْحَنَفِيَّة على
ابْتِدَاء نِكَاح أَربع إِن كَانَ عقد عَلَيْهِنَّ مَعًا،
وَإِن كَانَ تزوجهن متفرقات، على إمْسَاك الْأَوَائِل، وَهُوَ
بعيد ومردود.
وَوجه بعده ورده: بِأَن الْفرْقَة لَو وَقعت بِالْإِسْلَامِ لم
يخيره وَقد خَيره، والمتبادر عِنْد السماع من الْإِمْسَاك
الاستدامة وَالسُّؤَال وَقع عَنهُ وَحصر التَّزْوِيج فِيهِنَّ
وَلم يبين لَهُ شُرُوط النِّكَاح مَعَ مَسِيس الْحَاجة
إِلَيْهِ؛ لقرب إِسْلَامه.
وَأَيْضًا لم ينْقل عَنهُ، وَلَا عَن غَيره مِمَّن أسلم على
أَكثر من أَربع أَنه جدد النِّكَاح.
وَأَيْضًا فالابتداء يحْتَاج إِلَى رضى من يبتدئها وَيصير
التَّقْدِير فَارق الْكل وابتدئ بعد ذَلِك من شِئْت فيضيع
قَوْله: " اختر أَرْبعا "؛ لِأَنَّهُ قد لَا يرضين، أَو
بَعضهنَّ.
(6/2851)
وَأَيْضًا الْأَمر للْوُجُوب، وَكَيف يجب
عَلَيْهِ ابتداؤه وَلَيْسَ بِوَاجِب فِي الأَصْل. وَمن ثمَّ
قَالَ أَبُو زيد الدبوسي من الْحَنَفِيَّة: هَذَا الحَدِيث لَا
تَأْوِيل فِيهِ وَلَو صَحَّ عِنْدِي لَقلت بِهِ.
قَوْله: {وَأبْعد مِنْهُ تأويلهم قَوْله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لفيروز الديلمي وَقد أسلم على
أُخْتَيْنِ: " اختر أَيَّتهمَا شِئْت " على أحد الْأَمريْنِ}
إِمَّا الِابْتِدَاء أَو إمْسَاك الأولى. أولت الْحَنَفِيَّة
هَذَا الحَدِيث بالتأويلين الْمَذْكُورين فِي الَّذِي قبله،
وَإِنَّمَا كَانَ أبعد من الَّذِي قبله؛ لِأَن النَّافِي
للتأويل الْمَذْكُور فِي الأول هُوَ الْأَمر الْخَارِج عَن
اللَّفْظ، وَهُوَ شَهَادَة الْحَال، وَهنا قد انْضَمَّ إِلَى
شَهَادَة الْحَال مَانع لفظا وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: " أَيَّتهمَا شِئْت " فَإِن بِتَقْدِير
(6/2852)
نِكَاحهمَا على التَّرْتِيب تعْيين الأولى
للاختيار، وَلَفظ: " أَيَّتهمَا شِئْت " يأباه. انْتهى.
تَنْبِيه: للحنفية تَأْوِيل ثَالِث فيهمَا وَهُوَ أَنه لَعَلَّ
أَن يكون هَذَا كَانَ قبل حصر النِّسَاء فِي أَربع وَقبل
تَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ، وَهُوَ مَرْدُود بِمَا
سبق.
قَوْله: {وتأويلهم: {فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} [المجادلة: 4]
على إطْعَام طَعَام سِتِّينَ} مِسْكينا؛ لِأَن الْمَقْصُود دفع
الْحَاجة، وَدفع حَاجَة سِتِّينَ كحاجة وَاحِد فِي سِتِّينَ
يَوْمًا، فَجعلُوا الْمَعْدُوم وَهُوَ طَعَام، مَذْكُورا
مَفْعُولا بِهِ، وَالْمَذْكُور وَهُوَ قَوْله: سِتِّينَ،
مَعْدُوما لم يَجْعَلُوهُ مَفْعُولا بِهِ، مَعَ ظُهُور قصد
الْعدَد، لفضل الْجَمَاعَة، وبركتهم، وتظافرهم على الدُّعَاء
للمحسن، وَهَذَا لَا يُوجد فِي الْوَاحِد.
وَأَيْضًا حمله على ذَلِك تَعْطِيل للنَّص، ولهذه الْحِكْمَة
شرعت الْجَمَاعَة فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا.
(6/2853)
وَأَيْضًا فَلَا يجوز استنباط معنى من
النَّص يعود عَلَيْهِ بالإبطال.
وانتصر الْمَازرِيّ للحنفية بِوَجْهَيْنِ، وَجه فقهي، وَوجه
نحوي: فالفقهي أَنه لَا يلْزم من قَوْلهم إبِْطَال النَّص
إِلَّا إِذا جوزوا إِعْطَاء الْمِسْكِين السِّتين مدا دفْعَة
وَاحِدَة، أما فِي سِتِّينَ يَوْمًا فَكل يَوْم ذَلِك
الْمُعْطى يصدق عَلَيْهِ أَنه مِسْكين، فَإِذا أطْعم فِي
سِتِّينَ يَوْمًا كَانَ إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا؛ لأَنهم لم
يعينوا الْمُعْطى، إِنَّمَا ذَلِك على سَبِيل الِاتِّفَاق
مثلا، وَأما النَّحْوِيّ فَذكر أَن سِيبَوَيْهٍ يقدر الْمصدر ب
(مَا) ويقدره ب (أَن) فَهُنَا يقدره ب (مَا) أَي: فَمَا يطعم
سِتِّينَ مِسْكينا، وَإِلَيْهِ جنح أَبُو حنيفَة، وَغَيره
يقدره بِأَن.
ورد الأول بِأَن تَعْطِيل النَّص بالاتحاد حَاصِل، سَوَاء
كَانَ فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَو دفْعَة وَاحِدَة، وَقد سبق
حِكْمَة الْجمع.
ورد الثَّانِي بِأَن الَّذِي يقدره سِيبَوَيْهٍ إِنَّمَا هُوَ
فِي الْمصدر الْعَامِل يقدره بالحرف المصدري مَعَ الْفِعْل على
تَفْصِيله الْمَشْهُور فِي الْمَاضِي وَالْحَال والاستقبال.
قَالَ ابْن السُّبْكِيّ: وَقد أرْسلت إِلَى الشَّيْخ جمال
الدّين، وَهُوَ أعلم هَذِه الأقاليم الْآن بِالْعَرَبِيَّةِ،
فَقَالَ: لَا نَعْرِف مَا قَالَه الْمَازرِيّ فِي كَلَام
(6/2854)
سِيبَوَيْهٍ. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحِينَئِذٍ فَمَا قَالَه الْمَازرِيّ
إِنَّمَا هُوَ إِذا كَانَت (مَا) مَوْصُولَة بِمَعْنى
(الَّذِي) حَتَّى يكون معبرا [بِهِ] عَن الأمداد الَّتِي هِيَ
الطَّعَام. انْتهى.
قَوْله: {وَأبْعد مِنْهُ} حَدِيث أبي بكر فِي كتاب فَرِيضَة
الصَّدَقَة فِي البُخَارِيّ وَفِي صَدَقَة الْغنم فِي سائمتها
إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ إِلَى عشْرين وَمِائَة شَاة شَاة،
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن
عمر " فِي الْغنم {فِي أَرْبَعِينَ شَاة شَاة " على} أَن
المُرَاد فِي أَرْبَعِينَ شَاة {قيمَة شَاة} ؛ لِأَن اندفاع
الْحَاجة كَمَا يكون بِالشَّاة يكون بِالْقيمَةِ، وَهُوَ
يُؤَدِّي إِلَى بطلَان الأَصْل؛ لِأَنَّهُ إِذا وَجَبت
الْقيمَة لم تجب الشَّاة فَعَاد هَذَا الاستنباط على النَّص
بالإبطال، وَذَلِكَ غير جَائِز.
قيل: وَفِيه نظر؛ لأَنهم لم يبطلوا إِخْرَاج الشَّاة، بل
قَالُوا بالتخيير بَين
(6/2855)
الشَّاة وَقِيمَة الشَّاة، وَهُوَ استنباط
يعود بالتعميم، كَمَا فِي " وليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار "
يعمم فِي الْخرق وَنَحْوهَا، وَفِي " لَا يقْضِي القَاضِي
وَهُوَ غَضْبَان " يعمم فِي كل مَا يشوش الْفِكر، وَلَا يعود
بالإبطال.
وَأجِيب: بِأَن الشَّارِع لَعَلَّه رَاعى أَن يَأْخُذ
الْفَقِير من جنس مَال الْغَنِيّ فيتشاركان فِي الْجِنْس
فَتبْطل الْقيمَة فَعَاد بِالْبُطْلَانِ من هَذِه الْجِهَة،
وَبَاب الزَّكَاة فِيهِ ضرب من التَّعَبُّد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قلت: وَأَيْضًا فَإِذا كَانَ التَّقْدِير
قيمَة شَاة يكون قَوْلهم بإجزاء الشَّاة لَيْسَ بِالنَّصِّ، بل
بِالْقِيَاسِ فَيتْرك الْمَنْصُوص ظَاهرا، وَيخرج ثمَّ يدْخل
بِالْقِيَاسِ فَهَذَا عَائِد بِإِبْطَال النَّص لَا محَالة.
(6/2856)
وَهُوَ حسن وَوجه كَونه أبعد مِمَّا قبله؛
لِأَنَّهُ يلْزم أَن لَا تجب الشَّاة كَمَا تقدم، وكل فرع
استنبط من أصل يبطل بِبُطْلَانِهِ كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَمِنْه تأويلهم} قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -[فِيمَا] روه أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ،
وَابْن ماجة، وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن عَائِشَة: {" أَيّمَا
امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل "}
، وَفِي رِوَايَة: " بَاطِل، بَاطِل، بَاطِل " {على
الصَّغِيرَة، وَالْأمة، وَالْمُكَاتبَة} .
وَوجه بعده: أَن الصَّغِيرَة لَيست بِامْرَأَة فِي لِسَان
الْعَرَب، وَقد ألزموا بِسُقُوط هَذَا التَّأْوِيل على
مَذْهَبهم؛ فَإِن الصَّغِيرَة لَو زوجت نَفسهَا كَانَ العقد
عِنْدهم صَحِيحا لَكِن يتَوَقَّف على إجَازَة الْوَلِيّ،
قَالَه الْبرمَاوِيّ.
فَلَمَّا ألزموا بذلك فروا إِلَى حمله على الْأمة فألزموا
بِبُطْلَانِهِ بقوله
(6/2857)
عَلَيْهِ السَّلَام: " فلهَا الْمهْر "
وَمهر الْأمة إِنَّمَا هُوَ لسَيِّدهَا، فَفرُّوا من ذَلِك
إِلَى حمله على الْمُكَاتبَة، فَقيل لَهُم: هُوَ أَيْضا
بَاطِل؛ لِأَن حمل صِيغَة الْعُمُوم الصَّرِيحَة، وَهِي أَي
الْمُؤَكّدَة بِمَا مَعهَا فِي قَوْله: " أَيّمَا " على صُورَة
نادرة لَا تخطر بالبال غَالِبا وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
المخاطبين فِي غَايَة الْبعد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: حملوه على الصَّغِيرَة وَالْأمة،
وَالْمُكَاتبَة، وباطل لمصيره إِلَيْهِ غَالِبا لاعتراض
الْوَلِيّ إِن تزوجت بِغَيْر كُفْء؛ لِأَنَّهَا مالكة لبعضها
فَكَانَ كَبيع مَالهَا فالصغيرة لَا تسمى امْرَأَة ونكاحها
مَوْقُوف عِنْدهم، وَمهر الْأمة للسَّيِّد، وَالْمُكَاتبَة
نادرة فأبطلوا ظُهُور قصد التَّعْمِيم لظُهُور (أَي) مُؤَكدَة
ب (مَا) ، وتكرير لفظ الْبطلَان، وَحمله على نَادِر يعد
كاللغز، وَلَيْسَ مثل هَذَا من كَلَام الْعَرَب، وَلَا يجوز.
[و] معنى كَلَام أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ. لَا يَصح
الِاسْتِثْنَاء بِحَيْثُ لَا يبْقى إِلَّا النَّادِر مَعَ
إِمْكَان قصد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
منع اسْتِقْلَال الْمَرْأَة فِيمَا يَلِيق بمحاسن الْعَادَات،
وَهُوَ النِّكَاح. انْتهى.
قَوْله: {و} من تأويلهم: {" لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من
" اللَّيْل "} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ،
وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة عَن ابْن عمر على خلاف
(6/2858)
فِي رَفعه وَوَقفه، وَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَائِشَة، حملوه {على} صَوْم {الْقَضَاء
وَالنّذر} بِنَاء مِنْهُم على مَذْهَبهم فِي صِحَة الْفَرْض
بنية من النَّهَار.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: فجعلوه كاللغز، أَي: فِي حملهمْ الْعَام
على صُورَة نادرة، فَإِن ثَبت مَا ادعوهُ من الحكم بِدَلِيل
كَمَا قَالُوا فليطلب لهَذَا الحَدِيث تَأْوِيل قريب غير هَذَا
مثل نفي الْكَمَال.
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ أقرب من التَّأْوِيل
السَّابِق.
قَالَ الكوراني: فَإِن قيل: إِنَّمَا حملوه على هَذَا
لِأَنَّهُ ثَبت بِالدَّلِيلِ صِحَة الصَّوْم بنية النَّهَار
فَيجب ذَلِك التَّأْوِيل. قُلْنَا: يحمل على نفي الْفَضِيلَة
الَّذِي هُوَ معنى قريب؛ لِأَن [لَا] النافية ترد كثيرا لنفي
الْفَضِيلَة كَمَا ذَكرُوهُ فِي قَوْله: " لَا صَلَاة لمن
يقْرَأ بِأم الْكتاب ". انْتهى.
قَوْله: {و} من تأويلهم حَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن حبَان
من حَدِيث أبي سعيد مَرْفُوعا أَنه قَالَ: {" ذَكَاة الْجَنِين
ذَكَاة أمه "} وَهُوَ يرْوى بِالرَّفْع على
(6/2859)
الْمَحْفُوظ، وَبِه ينتهض اسْتِدْلَال من
اسْتدلَّ على أَنه يحل بِذَكَاة أمه إِذا لم يقدر على ذبحه،
وَهُوَ مَذْهَبنَا، وَمذهب الشَّافِعِي، وَأَصْحَابه،
وَغَيرهم.
وَعند الْحَنَفِيَّة تجب ذَكَاة الْجَنِين مُطلقًا، ويروون
الحَدِيث بِنصب ذَكَاة أمه على تَقْدِير كذكاة أمه، فنصب على
إِسْقَاط الْخَافِض، وعَلى هَذَا يحملون رِوَايَة الرّفْع على
حذف مُضَاف، أَي: مثل ذَكَاة أمه، ويوجهون النصب بتوجيه آخر،
وَهُوَ أَنه مَنْصُوب على الْمَفْعُول الْمُطلق الْمُبين
للنوع، وَالْعَامِل فِيهِ ذَكَاة الأول، وَالْخَبَر مَحْذُوف،
أَي: وَاجِبَة، أَو لَازِمَة، أَو نَحْو ذَلِك.
لَكِن الْجُمْهُور وهموا رِوَايَة النصب، وَقَالُوا:
الْمَحْفُوظ الرّفْع كَمَا قَالَه الْخطابِيّ وَغَيره، إِمَّا
لِأَن ذَكَاة الأول خبر مقدم، وذكاة الثَّانِي هُوَ
الْمُبْتَدَأ، أَي: ذَكَاة أم الْجَنِين ذَكَاة لَهُ، وَإِلَّا
لم يكن للجنين مزية، وَحَقِيقَة الْجَنِين مَا كَانَ فِي
الْبَطن [وذبحه فِي الْبَطن] لَا يُمكن فَعلم أَنه لَيْسَ
المُرَاد أَنه يذكى كذكاة أمه، بل إِن ذَكَاة أمه ذَكَاة لَهُ
[و] كَافِيَة عَن تذكيته.
(6/2860)
وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: "
ذَكَاة الْجَنِين فِي ذَكَاة أمه "، وَفِي رِوَايَة: "
بِذَكَاة " فالنصب إِن ثَبت فَهُوَ على حذف هَذَا الْخَافِض،
لَا على حذف الْكَاف كَمَا زَعَمُوا.
قَالَ ابْن عمرون: تقديرهم حذف الْكَاف لَيْسَ بِشَيْء؛
لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ جَوَاز قَوْلك: زيد عمرا، أَي: كعمرو.
وَأَيْضًا فَحذف حرف الْخَفْض من غير سبق فعل يدل على
التَّوَسُّع فِيهِ، وعَلى تَقْدِير صِحَة النصب فَيجوز أَن
يكون على الظَّرْفِيَّة، أَي: وَقت ذَكَاة أمه فَحذف
الْمُضَاف، وأقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه، وَهَذَا دَلِيل
للْجَمَاعَة؛ لِأَن الثَّانِي إِنَّمَا يكون وقتا للْأولِ،
إِذا أغْنى الْفِعْل الثَّانِي عَن الأول ويرجح هَذَا
التَّقْدِير مُوَافَقَته لرِوَايَة الرّفْع.
قَوْله: وَمِنْه تأويلهم قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي
الْقُرْبَى} [الْأَنْفَال: 41] فِي آيتي الْفَيْء وَالْغنيمَة
على الْفُقَرَاء مِنْهُم دون الْأَغْنِيَاء؛ لِأَن الْمَقْصُود
دفع الْخلَّة، وَلَا خلة مَعَ الْغنى فعطلوا لفظ الْعُمُوم
مَعَ ظُهُور أَن الْقَرَابَة هِيَ سَبَب استحقاقهم وَلَو مَعَ
الْغنى لتعظيمها وتشريفها مَعَ إِضَافَته بلام التَّمْلِيك،
(6/2861)
وَلَا يلْزمنَا نَحن، والمالكية،
وَالشَّافِعِيَّة ذَلِك فِي الْيَتِيم للْخلاف فِيهِ.
فَإِن عللوا بالفقر وَلم تكن قرَابَة عطلوا لفظ ذِي
الْقُرْبَى، وَإِن اعتبروهما مَعًا فَلَا يبعد، وغايته
تَخْصِيص عُمُوم، كَمَا فعله الشَّافِعِي فِي أحد
الْقَوْلَيْنِ فِي تَخْصِيص الْيَتَامَى بذوي الْحَاجة، لَكِن
هُوَ أنزل من صَنِيع الشَّافِعِي فِي الْيَتَامَى من
وَجْهَيْن، أَحدهمَا: أَنه زِيَادَة، وَأَبُو حنيفَة يَرَاهَا
نسخا، والنسخ لَا يكون بِالْقِيَاسِ، واستنباط الْمَعْنى
بِخِلَاف مَا قَالَ الشَّافِعِي فِي الْيَتَامَى فَإِنَّهُ لَا
يرى الزِّيَادَة نسخا.
وَالثَّانِي: أَن لفظ الْيَتِيم مَعَ قرينَة إِعْطَاء المَال
مشْعر بِالْحَاجةِ فاعتباره مَأْخُوذ من نفس الْآيَة، واليتيم
إِذا تجرد عَن الْحَاجة غير صَالح للتَّعْلِيل بِخِلَاف
الْقَرَابَة فَإِنَّهَا مُنَاسبَة للإكرام بِاسْتِحْقَاق خمس
الْخمس.
قَوْله: {وَتَأْويل الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة: " من ملك
ذَا رحم محرم فَهُوَ حر " على عمودي نسبه} . هَذَا الحَدِيث
رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد،
(6/2862)
وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة،
وَالطَّبَرَانِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: لَا نعرفه
مُسْندًا إِلَّا من حَدِيث حَمَّاد عَن قَتَادَة عَن الْحسن،
وَتكلم فِيهِ غير وَاحِد من الْحفاظ.
وَرُوِيَ من قَول عمر وَمن قَول الْحسن، وَقَالَ النَّسَائِيّ:
مُنكر.
فعلى تَقْدِير صِحَّته حمله بعض الشَّافِعِيَّة على الْأُصُول
وَالْفُرُوع؛ لِأَن مَذْهَب الشَّافِعِي اخْتِصَاص الْعتْق
بذلك، لَا مُطلق الرَّحِم، وَنَقله الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن
مُفْلِح عَن الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة.
وَإِنَّمَا كَانَ بَعيدا لصرفه اللَّفْظ الْعَام على بعض
مدلولاته من غير دَلِيل.
(6/2863)
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: لعُمُوم
اللَّفْظ وَظُهُور قَصده للتّنْبِيه على حُرْمَة الْمحرم
وصلته.
قَالَ الكوراني: فَإِن قلت: فَمَا وَجه مَا ذهب إِلَيْهِ
الشَّافِعِي إِذا لم يكن هَذَا التَّأْوِيل صَحِيحا عنْدكُمْ؟
قلت: لما دلّ الدَّلِيل على أَن الرّقّ لَا يَزُول إِلَّا
بِالْعِتْقِ قَاس عتق الْأُصُول وَالْفُرُوع على وجوب
النَّفَقَة؛ إِذْ لَا تجب عِنْده إِلَّا لِلْأُصُولِ
وَالْفُرُوع، أَو بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح الْوَارِد فِي مُسلم:
" لَا يُجزئ ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده عبدا فيشتريه فيعتقه
" أَي: بِنَفس الشِّرَاء وَقد وَافقه الْخصم على هَذَا،
وبالآية الْكَرِيمَة فِي عتق الْوَلَد وَهِي قَوْله تَعَالَى:
{وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون}
[الْأَنْبِيَاء: 26] وَجه الدّلَالَة أَنه تَعَالَى أبطل
إِثْبَات الولدية بِإِثْبَات الْعُبُودِيَّة فَعلم أَنَّهُمَا
لَا يَجْتَمِعَانِ. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ عَن أصل الْحمل: لَكِن لَيْسَ للشَّافِعِيّ
احْتِيَاج إِلَى هَذَا الْحمل لثُبُوت الحكم، إِنَّمَا لَهُ
أَدِلَّة أُخْرَى مَشْهُورَة فِي الْفُرُوع، مَعَ ضعف الحَدِيث
من الأَصْل فَلَيْسَ هَذَا الْحمل بمرضي عِنْد الحذاق.
تَنْبِيه: عِنْد الْعلمَاء أَمَاكِن كَثِيرَة من الْأَحَادِيث
تأولت بتآويل غير مرضية يطول الْكتاب بذكرها.
(6/2864)
|