التحبير شرح التحرير في أصول الفقه

 (بَاب الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم)

(6/2865)


فارغة

(6/2866)


(قَوْله: {بَاب الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم} )

اعْلَم أَن الْمَعْنى الْمُسْتَفَاد من اللَّفْظ إِن اسْتُفِيدَ من حَيْثُ النُّطْق بِهِ سمي منطوقا، أَو من حَيْثُ السُّكُوت اللَّازِم للفظ سمي مفهوما.
قَوْله: {الدّلَالَة مَنْطُوق، وَمَفْهُوم} ، تقدم معنى الدّلَالَة وَأَنَّهَا مصدر دلّ، وَهِي كَون الشَّيْء يلْزم من فهمه فهم شَيْء آخر.
وَمَا يفهم قد يكون من بَاب النُّطْق، وَقد يكون من بَاب غير النُّطْق، فالمنطوق هُوَ: مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ فِي مَحل النُّطْق.
وَهُوَ نَوْعَانِ: صَرِيح إِن وضع اللَّفْظ لَهُ، فَيدل عَلَيْهِ بالمطابقة أَو التضمن حَقِيقَة ومجازا على مَا تقدم من أَن التضمن لَفْظِي، وَتقدم الْخلاف فِيهِ.

(6/2867)


وَغير صَرِيح، وَهُوَ مَا يلْزم عَنهُ، أَي: مَا دلّ عَلَيْهِ فِي غير مَا وضع لَهُ، وَإِنَّمَا يدل من حَيْثُ إِنَّه لَازم لَهُ، فَهُوَ دَال عَلَيْهِ بالالتزام، وَهُوَ ثَلَاثَة أَقسَام: اقْتِضَاء، وَإِشَارَة، وإيماء؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يكون مَقْصُودا للمتكلم، وَلَكِن يتَوَقَّف على مَا يُصَحِّحهُ، أَو لَا يتَوَقَّف، أَو يكون غير مَقْصُود للمتكلم.
فَالْأول وَهُوَ مَا توقفت دلَالَته على مُقَدّر آخر، وجهات التَّوَقُّف ثَلَاث: مَا يتَوَقَّف فِيهِ صدق اللَّفْظ، وَمَا يتَوَقَّف فِيهِ صِحَة الحكم عقلا وَمَا يتَوَقَّف فِيهِ صِحَة الحكم شرعا.
الأول: مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ: " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان "، فَإِن ذَات الْخَطَأ وَالنِّسْيَان لم يرتفعا فيتضمن مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الصدْق من لفظ الْإِثْم، والمؤاخذة، وَنَحْو ذَلِك.
وَالثَّانِي: مثل قَوْله تَعَالَى: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] (واسأل العير) أَي: أهل الْقرْيَة وَأهل العير؛ إِذْ لَو لم يقدر ذَلِك لم يَصح ذَلِك

(6/2868)


عقلا؛ إِذْ الْقرْيَة، وَالْعير لَا يسألان.
وَمثله: {أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر فانفلق} [الشُّعَرَاء: 63] أَي: فَضرب فانفلق، وَمثله: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] أَي: فَأفْطر فَعدَّة من أَيَّام أخر.
وَالثَّالِث: كَقَوْل الْقَائِل: اعْتِقْ عَبدك عني على كَذَا، أَو مجَّانا، فَإِنَّهُ فِي الأول بيع ضمني، وَفِي الثَّانِي هبة ضمنية؛ لاستدعائه سبق الْملك لتوقف الْعتْق عَلَيْهِ فدلالة اللَّفْظ دلَالَة اقْتِضَاء.
وَأما الثَّانِي - وَهُوَ مَا يكون غير مَقْصُود للمتكلم - فَهُوَ كَمَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " النِّسَاء ناقصات عقل وَدين "، قيل: وَمَا نُقْصَان دينهن؟ قَالَ: " تمكث إِحْدَاهُنَّ شطر عمرها لَا تصلي " لم

(6/2869)


يقْصد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان أَكثر الْحيض وَأَقل الطُّهْر، لكنه لزم من اقْتِضَاء الْمُبَالغَة ذكر ذَلِك.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} [الْأَحْقَاف: 15] مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وفصاله فِي عَاميْنِ} [لُقْمَان: 14] يلْزم أَن أقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} [الْبَقَرَة: 187] يلْزم مِنْهُ جَوَاز الإصباح جنبا.
وَقد حُكيَ هَذَا الاستنباط عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ من أَئِمَّة التَّابِعين.
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {فالئن باشروهن} إِلَى قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم} كل ذَلِك يُسمى دلَالَة إِشَارَة.
قَوْله: {وَإِن لم يتَوَقَّف واقترن بِحكم لَو لم يكن لتعليله كَانَ بَعيدا} فيفهم مِنْهُ التَّعْلِيل، وَيدل عَلَيْهِ، وَإِن لم يُصَرح بِهِ؛ {وَيُسمى تَنْبِيها وإيماء} ،

(6/2870)


وَسَيَأْتِي فِي بَاب الْقيَاس فِي الثَّانِي من مسالك الْعلَّة بأقسام مفصلة.
تَنْبِيه: جعل دلَالَة الِاقْتِضَاء، وَالْإِشَارَة من أَقسَام الْمَنْطُوق، وَكَذَلِكَ دلَالَة التَّنْبِيه والإيماء، وَهِي طَريقَة ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح وَجَمَاعَة، وَنحن تابعناهم على ذَلِك، وَهُوَ خلاف مَا صرح بِهِ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى "، وَجرى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره من كَونهَا أقساما للمفهوم.
وقوى هَذَا بَعضهم، وَتعقب على ابْن الْحَاجِب مَا صنع مَعَ قَوْلنَا: أَن الْمَنْطُوق مَا دلّ فِي مَحل النُّطْق، وَالْمَفْهُوم فِي غير مَحل النُّطْق فَأَيْنَ دلَالَة مَحل النُّطْق فِي هَذَا؟
وَقد وَقع بَين القونوي والأصفهاني بحث فِي ذَلِك وكتبا فِيهِ رسالتين، وانتصر الْأَصْفَهَانِي لِابْنِ الْحَاجِب.

(6/2871)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الظَّاهِر؛ لِأَن للفظ دلَالَة عَلَيْهَا من حَيْثُ هُوَ مَنْطُوق بِخِلَاف الْمَفْهُوم فَإِنَّهُ إِنَّمَا يدل من [حَيْثُ] هُوَ قَضِيَّة عقلية خَارِجَة عَن اللَّفْظ.
قَالَ بعض شُيُوخنَا: وَيُمكن أَن يَجْعَل ذَلِك وَاسِطَة بَين الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم؛ وَلِهَذَا اعْترف بهَا من يُنكر الْمَفْهُوم.
قَوْله: {وَسمي فِي " الْعدة " الْإِضْمَار} إِلَى آخِره.
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وسمى فِي " الْعدة " الْإِضْمَار مَفْهُوم الْخطاب وفحواه، ولحنه، وَسَماهُ فِي " التَّمْهِيد " لحن الْخطاب، قَالَ: وَمعنى الْخطاب الْقيَاس، وسمى الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة " {مَا فهم مِنْهُ التَّعْلِيل إِيمَاء، وَإِشَارَة، وفحوى الْخطاب، ولحنه} .
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": فهم التَّعْلِيل من إِضَافَة الحكم إِلَى الْوَصْف الْمُنَاسب ك {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] يفهم مِنْهُ كَون السّرقَة عِلّة فَلَيْسَ بمنطوق، وَلَكِن يسْبق إِلَى الْفَهم من فحوى الْكَلَام، وَكَذَا قَوْله: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (13) وَإِن الْفجار لفي جحيم} [الانفطار: 13، 14] أَي: لبرهم، وفجورهم، وَهَذَا قد يُسمى إِيمَاء، وَإِشَارَة، وفحوى الْكَلَام ولحنه.

(6/2872)


وَهَذَا كُله مُجَرّد اصْطِلَاح.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: النَّص الصَّرِيح، زَاد القَاضِي، وَابْن الْبَنَّا: وَإِن احْتمل غَيره} .
{و} قَالَ {الْمجد} بن تَيْمِية: {مَا أَفَادَ الحكم يَقِينا أَو ظَاهرا، وَنقل عَن أَحْمد وَالشَّافِعِيّ.
وَقيل: يَقِينا} .
{و} قَالَ {الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة ": {مَا أَفَادَ الحكم بِنَفسِهِ بِلَا احْتِمَال أَو احْتِمَال لَا دَلِيل عَلَيْهِ} .
وَيُطلق على الظَّاهِر، وَلَا مَانع مِنْهُ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَة الظُّهُور، فالنص لُغَة: الْكَشْف والظهور وَمِنْه: نصت الظبية رَأسهَا، أَي: رفعته وأظهرته، وَمِنْه

(6/2873)


منصة الْعَرُوس، وَقَالَهُ المطرزي.
قَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي: حد النَّص فِي الشَّرْع مَا عري لَفظه عَن الشّركَة وَمَعْنَاهُ عَن الشَّك.
وَقَالَ آخَرُونَ: النَّص هُوَ الْخطاب الْوَاقِع على غير وَاحِد.
قَالَ الْقَرَافِيّ: للنَّص ثَلَاثَة اصْطِلَاحَات:
أَحدهَا: مَا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل.
الثَّانِي: مَا احتمله احْتِمَالا مرجوحا كَالظَّاهِرِ، وَهُوَ الْغَالِب فِي إِطْلَاق الْفُقَهَاء.
الثَّالِث: مَا دلّ على معنى كَيفَ [مَا] كَانَ. انْتهى.
وَزَاد ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره رَابِعا، وَهُوَ: دلَالَة الْكتاب وَالسّنة مُطلقًا، وَهُوَ اصْطِلَاح كثير من متأخري الخلافيين، وَعَلِيهِ مَشى الْبَيْضَاوِيّ فِي الْقيَاس.

(6/2874)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: كَمَا يُطلق النَّص فِي مُقَابلَة الظَّاهِر يُطلق أَيْضا فِي مُقَابلَة الاستنباط، فَيُقَال مثلا: دلّ عَلَيْهِ النَّص وَالْقِيَاس، فَهُوَ أَعم من أَن لَا يكون مَعَه احْتِمَال آخر، أَو مَعَه.
وَهَذَا كَمَا سَيَأْتِي أَن الْعلَّة إِمَّا منصوصة، أَو مستنبطة، وَفِي أَن شَرط الْفَرْع أَن لَا يكون مَنْصُوصا، وَنَحْو ذَلِك، وَمن هَذَا قَوْلهم: نَص الشَّافِعِي [على] كَذَا فِي مُقَابلَة قَول مَرْجُوح أَو نَحوه يعنون أَعم من النَّص، وَالظَّاهِر. انْتهى.
قَوْله: {الثَّانِيَة: قَالَ} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ} فِي كتاب " الْإِيضَاح ": {الْمَقْطُوع بِهِ اللَّفْظ الدَّال دلَالَة لَا تحْتَمل التَّأْوِيل} .
قَوْله: {وَمَفْهُوم} . هَذَا مَعْطُوف على قَوْلنَا فِي أول الْبَاب: الدّلَالَة مَنْطُوق، أَي: الدّلَالَة مَنْطُوق، وَمَفْهُوم.
وَهُوَ {مَا دلّ عَلَيْهِ} اللَّفْظ {لَا فِي مَحل النُّطْق} ، وَإِن كَانَ فِي الأَصْل لكل مَا فهم من نطق، أَو غَيره؛ لِأَنَّهُ اسْم مفعول فهم يفهم، لَكِن

(6/2875)


اصْطَلحُوا على اخْتِصَاصه بِهَذَا، أَو هُوَ الْمَفْهُوم الْمُجَرّد الَّذِي لَا يسْتَند إِلَى النُّطْق، لَكِن فهم من غير تَصْرِيح بالتعبير عَنهُ، بل لَهُ استناد إِلَى طَرِيق عَقْلِي.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي اسْتَفَادَ الحكم من الْمَفْهُوم مُطلقًا، هَل هُوَ بِدلَالَة الْعقل من جِهَة التَّخْصِيص بِالذكر، أم مُسْتَفَاد من اللَّفْظ؟ على قَوْلَيْنِ.
قطع أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان " بِالثَّانِي فَإِن اللَّفْظ لَا يشْعر بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا دلَالَته بِالْوَضْعِ، لَا شكّ أَن الْعَرَب لم تضع اللَّفْظ ليدل على شَيْء مسكوت عَنهُ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يشْعر بِهِ بطرِيق الْحَقِيقَة، أَو بطرِيق الْمجَاز، وَلَيْسَ الْمَفْهُوم وَاحِدًا مِنْهُمَا.
وَلَا خلاف أَن دلَالَته لَيست وضعية، إِنَّمَا هِيَ إشارات ذهنية من بَاب التَّنْبِيه بِشَيْء على شَيْء.
إِذا علم ذَلِك فالمفهوم نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: مَفْهُوم الْمُوَافقَة.
وَالثَّانِي: مَفْهُوم الْمُخَالفَة.
فمفهوم الْمُوَافقَة أَن يكون الْمَسْكُوت مُوَافقا لمنطوق فِي الحكم،

(6/2876)


{وَيُسمى فحوى الْخطاب، ولحن الْخطاب} .
فلحن الْخطاب مَا لَاحَ فِي أثْنَاء اللَّفْظ، قَالَ الْآمِدِيّ: أَي معنى الْخطاب. {زَاد} القَاضِي {فِي " الْعدة " و} أَبُو الْخطاب فِي {" التَّمْهِيد ": وَمَفْهُوم الْخطاب، وَسَماهُ الْمُوفق فحواه، وسمى جمَاعَة} - مِنْهُم: التَّاج السُّبْكِيّ، والبيضاوي - {لحن الْخطاب} .
{وَالْأولَى فحواه} ، وَيَأْتِي قَرِيبا، مِثَال فحوى الْخطاب مَا يفهم مِنْهُ بطرِيق الْقطع، كدلالة تَحْرِيم التأفيف على تَحْرِيم الضَّرْب، فَهُوَ أولى مِنْهُ بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ أَشد مِنْهُ.
وَمِثَال لحن الْخطاب أَي: معنى الْخطاب مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى: {ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل} [مُحَمَّد: 30] أَي: فِي مَعْنَاهُ، كتحريم

(6/2877)


إحراق مَال الْيَتِيم الدَّال عَلَيْهِ نظرا فِي الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما} [النِّسَاء: 10] فالإحراق مسَاوٍ لأكل مَالهم بِوَاسِطَة الْإِتْلَاف فِي الصُّورَتَيْنِ.
فَسَماهُ بَعضهم كَمَا تقدم لحن الْخطاب، وَالَّذِي قبله فحوى الْخطاب.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: أما تَسْمِيَة الأولوي بفحوى الْخطاب، والمساوي بلحن الْخطاب فَعَلَيهِ قوم من أَصْحَابنَا، وَبَعْضهمْ يُسَمِّي الأولوي بالاسمين مَعًا.
وَحكى الْمَاوَرْدِيّ فِي الْفرق بَينهمَا وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: مَا سبق.
وَالثَّانِي: أَن الفحوى مَا نبه عَلَيْهِ اللَّفْظ، واللحن مَا يكون محالا على غير المُرَاد فِي الأَصْل والوضع، وَالْمَفْهُوم مَا يكون المُرَاد بِهِ الْمظهر والمسقط. انْتهى.
إِذا عرفت ذَلِك فتحريم الضَّرْب من قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] من بَاب التَّنْبِيه بالأدنى، وَهُوَ التأفيف على الْأَعْلَى وَهُوَ الضَّرْب، وتأدية مَا دون القنطار من قَوْله تَعَالَى: {يؤده إِلَيْك} [آل عمرَان:

(6/2878)


75 -] فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك} من بَاب التَّنْبِيه بالأعلى وَهُوَ تأدية القنطار على الْأَدْنَى، وَهُوَ تأدية مَا دونه. هَكَذَا قَالَ جمَاعَة، مِنْهُم الْآمِدِيّ فِي " الْمُنْتَهى ".
وَقَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": حَقِيقَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة لَا تنفك عَن التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ، {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره (7) وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7، 8] ، {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك} فَإِن التأفيف والذرة وَالدِّينَار تدل على أَن الحكم فِي الْأَعْلَى بِالطَّرِيقِ الأولى.
وَفِي " الْمُنْتَهى " هُوَ التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، وبالأعلى على الْأَدْنَى، وَحذف الثَّانِي فِي " الْمُخْتَصر "، وَاقْتصر على الْقسم الأول؛ لِأَنَّهُ يُوجد معنى الْأَدْنَى على وَجه يَشْمَل معنى الْأَعْلَى كالمناسبة، مثلا يُقَال: التأفيف

(6/2879)


أدنى مُنَاسبَة بِالتَّحْرِيمِ من الضَّرْب، والذرة أدنى مُنَاسبَة بالجزاء من الدِّينَار وَالدِّرْهَم، وَالْقِنْطَار، وَإِن كَانَ أَعلَى من الدِّينَار لكنه أدنى مُنَاسبَة للتأدية من الدِّينَار، فيكتفي بالأدنى على الْأَعْلَى؛ لاندراج الْكل تَحْتَهُ، وَإِذا كَانَ الْمَذْكُور أدنى مُنَاسبَة كَانَ الْمَسْكُوت عَنهُ أَشد مُنَاسبَة بالحكم، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن لَا تعد الْمُسَاوَاة من مَفْهُوم الْمُوَافقَة كالاستدلال بِحرْمَة أكل مَال الْيَتِيم على حُرْمَة إحراق مَاله؛ إِذْ لَا مزية فِي اسْتِحْقَاق الْإِثْم لأَحَدهمَا على الآخر، وَقد عدده الْغَزالِيّ مِنْهُ.
قَوْله: {وَشَرطه فهم الْمَعْنى فِي مَحل النُّطْق، وَأَنه أولى، أَو مسَاوٍ، وَقيل: لَا يكون مُسَاوِيا وَهُوَ لَفْظِي} .
نَص الْغَزالِيّ وَغَيره أَنه مُجَرّد ذكر الْأَدْنَى لَا يحصل مِنْهُ التَّنْبِيه على الْأَعْلَى مَا لم يعلم الْمَقْصُود من الْكَلَام، وَمَا سيق لَهُ فلولا معرفتنا بِأَن الْآيَة إِنَّمَا سيقت لتعظيم الْوَالِدين لما فهمنا حُرْمَة الضَّرْب من قَوْله: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِذْ قد يَأْمر السُّلْطَان بقتل إِنْسَان وَيَقُول لَهُ: لَا تقل لَهُ أُفٍّ، وَلَكِن اضْرِب عُنُقه. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " والطوفي وَغَيرهمَا.

(6/2880)


وَالصَّحِيح أَن مَفْهُوم الْمُوَافقَة قِسْمَانِ: قسم يكون أولى بالحكم، وَهُوَ الْأَكْثَر، وَقسم يكون مُسَاوِيا، وَقد تقدم مثالهما.
وَهَذَا عَلَيْهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: الْغَزالِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَهُوَ ظَاهر استدلالات الْأَئِمَّة.
وَقيل: لَا يكون مَفْهُوم الْمُوَافقَة مُسَاوِيا للمنطوق، وَهُوَ مُقْتَضى نقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الشَّافِعِي، وَعَزاهُ الْهِنْدِيّ للْأَكْثَر، وَبِه قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغَيره من الشَّافِعِيَّة وَإِن كَانَ مثل الأولى فِي الِاحْتِجَاج بِهِ قَالُوا: وَالْخلاف فِي التَّسْمِيَة فَقَط، وَأما الِاحْتِجَاج فيحتج بالمساوي كاحتجاجهم بِالْأولَى، وَلذَلِك قُلْنَا وَهُوَ لَفْظِي، أَي: الْخلاف فِي اللَّفْظ لَا فِي الْمَعْنى.
قَوْله: {وَهُوَ حجَّة عِنْد الْعلمَاء} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ حجَّة، ذكره بَعضهم إِجْمَاعًا لتبادر فهم

(6/2881)


الْعُقَلَاء، وَاخْتلف النَّقْل عَن دَاوُد.
قَوْله: {ودلالته لفظية} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي دلَالَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة هَل هِيَ لفظية، أَو قِيَاس؟ على قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن دلَالَته لفظية، وَهُوَ الصَّحِيح، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَقَالَهُ من أَصْحَابه القَاضِي أَبُو يعلى، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن عقيل، وَحَكَاهُ عَن أَصْحَابنَا، وَاخْتَارَهُ أَيْضا الْحَنَفِيَّة، والمالكية،

(6/2882)


وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين، والظاهرية، وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي تبعا لأصليهما، وَنَقله سليم فِي " التَّقْرِيب " عَن الْمُتَكَلِّمين بأسرهم من الأشعرية والمعتزلة، وَسَماهُ الْحَنَفِيَّة دلَالَة النَّص.
وَاسْتدلَّ لهَذَا الْمَذْهَب بِأَنَّهُ يفهم لُغَة قبل شرع الْقيَاس ولاندراج أَصله فِي فَرعه، نَحْو: لَا تعطه ذره.
وَاحْتج ابْن عقيل وَغَيره بِأَنَّهُ لَا يحسن الِاسْتِفْهَام، ويشترك فِي فهمه اللّغَوِيّ وَغَيره بِلَا قرينَة.
ثمَّ لَهُم على هَذَا القَوْل مذهبان:
أَحدهمَا: أَنَّهَا لفظية فهمت من السِّيَاق والقرائن، وَهُوَ قَول الْغَزالِيّ والآمدي، وَقَوله فِي " جمع الْجَوَامِع " عَنْهُمَا فهمت من السِّيَاق والقرائن،

(6/2883)


وَهِي مجازية من إِطْلَاق الْأَخَص على الْأَعَمّ، هُوَ مِمَّا تصرف فِيهِ من نَفسه، وَإِلَّا فَلَيْسَ هَذَا من كَلَام الْغَزالِيّ والآمدي، وَإِنَّمَا كَلَامهمَا أَنَّهَا فهمت من السِّيَاق والقرائن لَا غَيره.
وَقد رَأَيْت كَلَام الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " فَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْمجَاز أَلْبَتَّة، وَلِهَذَا قَالَ الكوراني: وَلَيْسَ فِي كَلَام الْغَزالِيّ ذكر الْمجَاز لَا صَرِيحًا، وَلَا كِنَايَة، قَالَ: وَمَا زَعمه المُصَنّف - يَعْنِي ابْن السُّبْكِيّ - من أَن الدّلَالَة الْمَذْكُورَة مجازية غير مُسْتَقِيم؛ لِأَن الْمجَاز اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ لعلاقة بَين الْمَعْنيين، أَو الْكَلِمَة المستعملة فِي غير مَا وضع لَهُ، لعلاقة مَعَ قرينَة دَالَّة على عدم جَوَاز إِرَادَة مَا وضع لَهُ وَلَا شكّ أَن قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} مُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، غَايَته أَنه علم مِنْهُ حُرْمَة الضَّرْب بقرائن الْأَحْوَال، وَسِيَاق الْكَلَام، وَاللَّفْظ لَا يصير بذلك مجَازًا، فَكَأَنَّهُ لم يفرق بَين الْقَرِينَة المفيدة للدلالة والقرينة الْمَانِعَة من إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَالثَّانيَِة هِيَ اللَّازِمَة للمجاز دون الأولى. انْتهى.
وَقد أَجَاد ثمَّ قَالَ: وَالْعجب أَن شرَّاح كَلَامه لم ينتبهوا لهَذَا مَعَ ظُهُوره. انْتهى.

(6/2884)


وَظَاهر كَلَام ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه " أَنه جعل قَوْله: (وَهِي مجازية) إِلَى آخِره من كَلَام الْغَزالِيّ، والآمدي، وَلَيْسَ كَذَلِك لما ذكرنَا.
وَأما الْمحلي فِي " شَرحه " فتردد فِي ذَلِك هَل هُوَ من كَلَامهمَا أَو من كَلَام المُصَنّف؟ وَلَو عاود كَلَام الْغَزالِيّ، والآمدي؛ لعلم أَن هَذَا الْكَلَام لَيْسَ من كَلَامهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ من تَصَرُّفَات المُصَنّف.
الْمَذْهَب الثَّانِي: أَن اللَّفْظ لَهَا عرفا، فَهِيَ لفظية حَقِيقَة.
نقل اللَّفْظ فِي الْعرف من وَضعه الْأَصْلِيّ لثُبُوت الحكم فِي الْمَذْكُور خَاصَّة إِلَى ثُبُوت الحكم فِي الْمَذْكُور، والمسكوت مَعًا. قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ.
ثمَّ قَالَ: قَالَ الشَّارِح - وَهُوَ الزَّرْكَشِيّ -: وَهَذَا الَّذِي أَخّرهُ المُصَنّف وَضَعفه هُوَ الَّذِي ذكره المُصَنّف فِي الْعُمُوم حَيْثُ قَالَ: وَقد يعم اللَّفْظ عرفا كالفحوى.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: قلت لَعَلَّه مثل بِهِ هُنَاكَ لهَذَا الْقسم على رَأْي مَرْجُوح. انْتهى.

(6/2885)


لَكِن قَالَ الكوراني عَن هَذَا القَوْل: يَعْنِي ذهبت طَائِفَة إِلَى أَن اللَّفْظ صَار حَقِيقَة عرفية فِي الْمَعْنى الالتزامي الَّذِي هُوَ الضَّرْب فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} صَار اللَّفْظ حَقِيقَة فِي المجازاة فِي الْأَكْثَر.
ثمَّ قَالَ: وَهَذَا القَوْل بَاطِل؛ لِأَن الْمُفْردَات كلهَا مستعملة فِي مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّة بِلَا ريب مَعَ إِجْمَاع السّلف على أَن فِي الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة إِلْحَاقًا لفرع بِأَصْل، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَن ذَلِك بِالشَّرْعِ أَو باللغة، وَعند الْحَنَفِيَّة، يُسمى دلَالَة النَّص وهم مجمعون على أَن هَذِه الدّلَالَة تفهم لُغَة، وَلَا حَاجَة إِلَى مُلَاحظَة الشَّرْع فِي ذَلِك. انْتهى.
{وَعند الشَّافِعِي وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن أبي مُوسَى، والجوزي، وَأبي الْخطاب، والحلواني، وَالْفَخْر} إِسْمَاعِيل، والطوفي من

(6/2886)


أَصْحَابنَا {قِيَاس جلي} ؛ لِأَنَّهُ لم يلفظ بِهِ، وَإِنَّمَا حكم بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرك فَهُوَ من بَاب الْقيَاس قيس الْمَسْكُوت على الْمَذْكُور قِيَاسا جليا؛ فَإِنَّهُ إِلْحَاق فرع بِأَصْل لَعَلَّه مستنبطة فَيكون قِيَاسا شَرْعِيًّا لصدق حَده عَلَيْهِ كَمَا سَمَّاهُ الشَّافِعِي بذلك فَإِنَّهُ يشْتَرط فِي الْقيَاس الْجَلِيّ كَون الحكم فِي الْمَقِيس أولى من الْمَقِيس عَلَيْهِ.
ورد: بِأَن الْمَعْنى شَرط لدلَالَة الملفوظ عَلَيْهِ لُغَة بِخِلَاف الْقيَاس.
وَقَالَ الْمجد بن تَيْمِية: إِن قصد التَّنْبِيه فَلَيْسَ قِيَاسا؛ لِأَنَّهُ المُرَاد، وَإِن قصد الْأَدْنَى فَقِيَاس.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الِاحْتِجَاج فِي مثل صُورَة الفحوى الْمَذْكُورَة على الْمَسْكُوت بِحكم الْمَذْكُور هَل هُوَ بطرِيق الْمَفْهُوم، أَو بطرِيق آخر؟
وَإِذا قُلْنَا بطرِيق آخر فَمَا هُوَ؟ وَحَاصِل مَا فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال، مَعَ الأول تصير أَرْبَعَة:
الأول مِنْهَا: بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ الْمَشْهُور.
وَالثَّانِي: إِنَّه من بَاب الْقيَاس.

(6/2887)


وَالثَّالِث: إِن اللَّفْظ الدَّال على الْأَخَص نقل عرفا إِلَى الْأَعَمّ، فَنقل: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِلَى معنى وَلَا تؤذهما.
وَالرَّابِع: إِنَّه أطلق على الْأَعَمّ إطلاقا مجازيا من بَاب إِطْلَاق الْأَخَص على الْأَعَمّ، وَلم يبلغ فِي الاشتهار أَن يصير حَقِيقَة عرفية، وَإِنَّمَا دلّ على إِرَادَة الْمجَاز فِيهِ السِّيَاق والقرائن.
وَقَالَ بِهِ كثير من الْمُحَقِّقين كالغزالي فِي مَوضِع، وَإِن كَانَ فِي مَوضِع أطلق أَن النَّص دلّ عَلَيْهِ بالفحوى، فَإِنَّهُ جرى هُنَا على الْمَشْهُور، وحقق هُنَاكَ، قَالَ: وَالْحق أَن لَهُ جِهَتَيْنِ: جِهَة هُوَ بهَا قِيَاس حَقِيقَة، وجهة هُوَ بهَا مُسْتَند إِلَى اللَّفْظ، وَلَا امْتنَاع أَن يكون للشَّيْء اعتباران، فَلذَلِك أجمع على القَوْل بِهِ مثبتو الْقيَاس ومنكروه كل نظر إِلَى جِهَة.
فَائِدَة: اخْتلف هَل لهَذَا الْخلاف - أَعنِي هَل هُوَ لَفْظِي أَو قِيَاس - فَائِدَة، أَو الْخلاف لَفْظِي؟ قيل: الْخلاف لَفْظِي، وَالصَّحِيح خِلَافه، بل من فَوَائده أَنه إِذا قُلْنَا دلَالَته لفظية يجوز النّسخ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْهَا: أَنه يقدم عَلَيْهِ الْخَبَر إِن كَانَ قِيَاسا، وَإِلَّا فَلَا، قَالَه فِي " المنخول ". وَقَالَ الْأُسْتَاذ: وَهُوَ قِيَاس، وَلَا يقدم عَلَيْهِ الْخَبَر، وَهُوَ أقوى.

(6/2888)


قَوْله: {وَهُوَ قَطْعِيّ كرهن مصحف عِنْد ذمِّي، وظني كشفعة ذمِّي، وَنفي الْفَخر الْقطعِي} .
مِثَال الْقطعِي: مَا احْتج بِهِ الإِمَام أَحْمد فِي رهن الْمُصحف عِنْد الذِّمِّيّ بنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن السّفر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو مَخَافَة أَن تناله أَيْديهم فَهَذَا قَاطع، وَكَذَلِكَ الْأَمْثِلَة الْمُتَقَدّمَة فَإِنَّهَا قَطْعِيَّة.
والقطعي كَون التَّعْلِيل بِالْمَعْنَى، وَكَونه أَشد مُنَاسبَة للفرع قطعيين.
وَمِثَال الظني: مَا احْتج بِهِ الإِمَام أَحْمد فِي أَنه لَا شُفْعَة لذِمِّيّ على مُسلم، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " وَإِذا لقيتموهم فِي طَرِيق فاضطروهم إِلَى أضيقه " فَهَذَا مظنون.

(6/2889)


وَكَذَا شَهَادَة الْكَافِر، وَإِيجَاب الْكَفَّارَة فِي قتل الْعمد، وَيَمِين الْغمُوس على مَا يَأْتِي بعد هَذَا.
وَزعم أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ الْفَخر إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا فِي جدله أَنه لَيْسَ فِيهِ قَطْعِيّ؛ لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة غير مَا عللوه بِهِ.
وَالْأَكْثَر على خِلَافه.
قَوْله: {وَإِذا ردَّتْ شَهَادَة فَاسق فكافر أولى، فظني وَقيل: فَاسد} .
تقدم حد الْقطعِي، وَأما الظني فَهُوَ مَا إِذا كَانَ التَّعْلِيل فيهمَا ظنيا، وَكَونه أَشد مُنَاسبَة للفرع ظنيا، فَإِن كَانَا قطعيين فقطعي وَإِن كَانَ أَحدهمَا ظنيا فظني.
مِثَال الظني قَوْلهم: إِذا ردَّتْ شَهَادَة الْفَاسِق فالكافر أولى برد شَهَادَته؛ إِذْ الْكفْر فسق وَزِيَادَة، فَهُوَ ظَنِّي على الصَّحِيح، اخْتَارَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، و " شَرحه "، وَابْن الْحَاجِب

(6/2890)


وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ وَاقع فِي مَحل الِاجْتِهَاد، إِذْ يجوز أَن يكون الْكَافِر عدلا فِي دينه فيتحرى الصدْق، وَالْأَمَانَة، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِن الْكَافِر الْعدْل فِي دينه يَلِي مَال وَلَده على الصَّحِيح من الْوَجْهَيْنِ، بِخِلَاف الْمُسلم الْفَاسِق، فَإِن مُسْتَند قبُول شَهَادَته الْعَدَالَة، وَهِي مفقودة، فَهُوَ فِي مَظَنَّة الْكَذِب؛ إِذْ لَا وازع لَهُ عَنهُ، فَهَذَا ظَنِّي غير قَاطع.
وَقيل: فَاسد، ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "؛ لِأَن التَّعْلِيل بِكَوْن الْكَافِر أولى بِالرَّدِّ مَرْدُود لما تقدم.
قَوْله: {وَكَذَا إِيجَاب كَفَّارَة فِي قتل عمد، وَيَمِين غموس} ، يَعْنِي: أَن ذَلِك ظَنِّي، واختصاص قتل الْعمد بِسُقُوط الْكَفَّارَة دون الْخَطَأ إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لمسقط مُنَاسِب وَهُوَ عظم الذَّنب، فَهُوَ أعظم من أَن يكفر، كاليمين الْغمُوس، وَهِي الْيَمين الكاذبة؛ لِأَنَّهَا أعظم من أَن تكفر، وَلذَلِك سميت غموسا؛ لِأَنَّهَا تغمس صَاحبهَا فِي النَّار، بِخِلَاف بَقِيَّة الْأَيْمَان، فَإِن الْحَالِف لم يتَعَمَّد الْكَذِب فِيهَا حَتَّى يحصل لَهُ ذَلِك، فَهَذَا أَيْضا ظَنِّي غير قَاطع.

(6/2891)


وَقيل: فَاسد، ذكره ابْن مُفْلِح، وَعند الإِمَام الشَّافِعِي تجب الْكَفَّارَة فِي قتل الْعمد، وَالْيَمِين الْغمُوس، وَقَالَهُ أَصْحَابه.
وَقَالُوا: إِن الْكَفَّارَة شرعت للرجز لَا للجبر، وزجر الْمُتَعَمد أَحَق من الْمُخطئ.
قَوْله: {وَإِذا جَازَ السّلم مُؤَجّلا فحال أولى لبعده من الْغرَر وَهُوَ الْمَانِع فَاسد} .
مَفْهُوم الْمُوَافقَة إِمَّا قَاطع كآية التأفيف، وَنَحْوهَا، أَو ظَنِّي، ثمَّ الظني إِمَّا صَحِيح وَاقع فِي مَحل الِاجْتِهَاد كرد الشَّهَادَة، وَوُجُوب الْكَفَّارَة كَمَا ذكر، أَو فَاسد، كَقَوْلِه: إِذا جَازَ السّلم مُؤَجّلا فَهُوَ حَال أجوز لبعده من الْغرَر؛ إِذْ الْمُؤَجل على غرر، هَل يحصل أَو لَا يحصل؟ وَالْحَال مُتَحَقق الْحُصُول فِي الْحَال فَهُوَ أولى بِالصِّحَّةِ، لَكِن هَذَا مَرْدُود بِأَن الْغرَر فِي الْعُقُود مَانع من الصِّحَّة لَا مُقْتَض لَهَا.

(6/2892)


وَالْحكم إِنَّمَا يثبت لوُجُود مقتضيه ومصححه، لَا لانْتِفَاء مانعه؛ إِذْ قد سبق أَن الْمَانِع يلْزم من وجوده الْعَدَم، وَلَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم، والمقتضى لصِحَّة السّلم هُوَ الارتفاق بالأجل على مَا قرر فِي كتب الْفُرُوع: كالأجل فِي الْكِتَابَة، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْحَال، وَالْغرر مَانع لَهُ، لكنه احْتمل فِي الْمُؤَجل رخصَة وتحقيقا للمقتضي وَهُوَ الارتفاق. وَالله أعلم.
وَعند الشَّافِعِي وَأَصْحَابه يَصح؛ لِأَن بيع مَا فِي الذِّمَّة لَهُ فَوَائِد، جوز السّلم لأَجلهَا، وَتلك مَوْجُودَة فِي الْحَال، كَمَا فِي الْمُؤَجل مَعَ كَونه أقل خطرا وغررا.
قَوْله: {وَإِن خَالف فمفهوم مُخَالفَة وَيُسمى دَلِيل الْخطاب} .
قد تقدم أَن الْمَفْهُوم نَوْعَانِ: مَفْهُوم مُوَافقَة تقدّمت أَحْكَامه، وَمَفْهُوم مُخَالفَة، وَهُوَ أَن الْمَسْكُوت مُخَالف فِي الحكم، وَيُسمى هَذَا النَّوْع دَلِيل الْخطاب، وَإِنَّمَا سمى بذلك؛ لِأَن دلَالَته من جنس دلالات الْخطاب، أَو لِأَن الْخطاب دَال عَلَيْهِ، أَو لمُخَالفَته منظوم الْخطاب.
وَمِنْهُم من يُسَمِّيه لحن الْخطاب.

(6/2893)


وَقَوله: {وَشَرطه أَن لَا تظهر أَوْلَوِيَّة وَلَا مُسَاوَاة} ، أَي: يشْتَرط فِي الْعَمَل بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة وَهُوَ إِثْبَات خلاف الْمَذْكُور للمسكوت شُرُوط بَعْضهَا رَاجع للمسكوت، وَبَعضهَا للمذكور.
فَمن الأول مَا بَدَأَ بِهِ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا، وتابعناهم أَن لَا تظهر فِيهِ أَوْلَوِيَّة بالحكم من الْمَذْكُور، وَلَا مُسَاوَاة، فَإِن كَانَ كَذَلِك كَانَ حِينَئِذٍ مَفْهُوم الْمُوَافقَة - كَمَا سبق - لَا مَفْهُوم الْمُخَالفَة.
{و} من الثَّانِي أَن {لَا} يكون {خرج مخرج الْغَالِب} ، أَي: لَا يكون ذكر لكَونه الْغَالِب عَادَة، فَأَما إِن جرى على الْغَالِب فَإِنَّهُ لَا يعْتَبر مَفْهُومه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم} [النِّسَاء: 23] فتقييد تَحْرِيم الربيبة بِكَوْنِهَا فِي حجره لكَونه الْغَالِب، فَلَا يدل على حل الربيبة الَّتِي لَيست فِي حجره عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء، مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.

(6/2894)


وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا} [الْمَائِدَة: 95] ، {فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا} [الْبَقَرَة: 229] ، وَقَوله: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا " وَنَحْوه.
قَالَ الْآمِدِيّ: وَلَا خرج مخرج الْغَالِب اتِّفَاقًا.
وَقَالَ دَاوُد: إِنَّه شَرط فِي تَحْرِيم الربيبة، وَمِمَّنْ قَالَ بذلك أَيْضا عَليّ بن أبي طَالب، نَقله عَنهُ ألكيا الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه.
{وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لَهُ مَفْهُوم} تَرْجِيحا لما اسْتَقر بِهِ اللَّفْظ على أكثريته الْعُرْفِيَّة. وَقَالَ: الْمَفْهُوم من مقتضيات اللَّفْظ فَلَا يسْقطهُ مُوَافقَة الْغَالِب.
وَقد قَالَ مَالك بِاعْتِبَارِهِ فَلم يحرم الربيبة الْكَبِيرَة وَقت التَّزَوُّج بأمها فِي قَوْله لَهُ؛ لِأَنَّهَا لَيست فِي حجره، وَقَالَ بِهِ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِيمَا أخرجه ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره.
وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام: الْقَاعِدَة تَقْتَضِي الْعَكْس، وَهُوَ أَن الْوَصْف إِذا خرج مخرج الْغَالِب يكون لَهُ مَفْهُوم بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن غَالِبا؛ وَذَلِكَ لِأَن

(6/2895)


الْوَصْف الْغَالِب على الْحَقِيقَة تدل الْعَادة على ثُبُوته لَهَا عِنْد ذكر اسْمه، فَذكره لَهُ إِنَّمَا هُوَ ليدل على سلب الحكم عَمَّا عداهُ؛ لانحصار غَرَضه فِيهِ، ذكره السُّيُوطِيّ فِي شرح منظومته " جمع الْجَوَامِع "، فَليُرَاجع ويكمل.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": يظْهر أَنه من مسالك التَّأْوِيل فيخف على المتأول مَا يبديه من الدَّلِيل العاضد.
قَوْله: {فعلى الأول لَا يعم} ، وَهُوَ القَوْل بِأَن من شَرطه أَن لَا يكون خرج مخرج الْغَالِب فَإِنَّهُ لَا يعم، وَلِهَذَا احْتج الْعلمَاء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم لداود على اخْتِصَاص تَحْرِيم الربيبة بِالْحجرِ لِلْآيَةِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ لَا حجَّة فِيهَا؛ لخروجها على الْغَالِب.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي ": تجوز خطْبَة مُسلم على ذمِّي، فَقيل لَهُ النَّهْي على الْغَالِب، فَقَالَ: هُوَ خَاص بِالْمُسلمِ وإلحاق غَيره بِهِ إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَ مثله.

(6/2896)


وَاحْتج أَبُو الْخطاب فِي الِانْتِصَار [على نشر الْحُرْمَة] بِلَبن الْميتَة بقوله: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} [النِّسَاء: 23] فَقيل لَهُ الْآيَة حجتنا؛ لاقتضائها تعلق التَّحْرِيم بِفِعْلِهَا للإرضاع، فَقَالَ: علقه؛ لِأَنَّهُ الْغَالِب كالربيبة، وَلِهَذَا لَو حلب مِنْهَا ثمَّ سقِِي نشر.
وَأجَاب أَبُو الْفَتْح ابْن الْمَنِيّ من أَصْحَابنَا من احْتج لصِحَّة نِكَاح بِلَا إِذن بِالْمَفْهُومِ بِأَن الْمَفْهُوم لَيْسَ بِحجَّة على أصلنَا، ثمَّ هَذَا خرج مخرج الْغَالِب فَيعم، وَيصير كَقَوْلِه: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم} [النِّسَاء: 23] لما خرج مخرج الْغَالِب عَم. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَوْله: {وَلَا خرج جَوَابا لسؤال} ، فَإِن خرج جَوَابا لسؤال فَلَا مَفْهُوم لَهُ. ذكره الْمجد فِي " شرح الْهِدَايَة " فِي صَلَاة التَّطَوُّع اتِّفَاقًا.
مثل أَن يسْأَل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَل فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة؟ فَلَا يلْزم من جَوَاب السُّؤَال عَن إِحْدَى الصفتين أَن يكون الحكم على الضِّدّ فِي الْأُخْرَى؛ لظُهُور فَائِدَة فِي الذّكر غير الحكم بالضد.

(6/2897)


وَذكر القَاضِي فِي ذَلِك احْتِمَالَيْنِ أَحدهمَا كَالْأولِ، وَالِاحْتِمَال الثَّانِي أَنه من بَاب وُرُود الْعَام على سُؤال أَو حَادِثَة صارفا لَهُ عَن عُمُومه.
قَوْله: {زَاد الشَّيْخ أَو حَاجَة إِلَى بَيَان} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: إِن تقدم مَا يَقْتَضِي التَّخْصِيص من سُؤال أَو حَاجَة إِلَى بَيَان، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله قد أعْطى كل ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث " فَلَا مَفْهُوم لَهُ.
وَاحْتج بِهِ القَاضِي وَغَيره من الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة على الْوَصِيَّة للْقَاتِل، وَهِي دلَالَة ضَعِيفَة، هَذَا كَلَامه. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ حسن.
تَنْبِيه: هُنَا سُؤال، وَهُوَ أَنه: لم جعلُوا هُنَا السُّؤَال والحادثة قرينَة صارفة عَن القَوْل بضد الحكم فِي الْمَسْكُوت، وَلم يجْعَلُوا ذَلِك فِي وُرُود الْعَام على سُؤال أَو حَادِثَة صارفا لَهُ عَن عُمُومه على الْأَرْجَح، بل لم يجروا هُنَا مَا أجروه هُنَاكَ من الْخلاف فِي أَن الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ، أَو بِخُصُوص السَّبَب،

(6/2898)


وَإِن كَانَ حكى عَن القَاضِي أبي يعلى فِيهِ احْتِمَالَيْنِ.
وَقد يُجَاب بِأَن الْمَفْهُوم لما ضعف عَن الْمَنْطُوق فِي الدّلَالَة انْدفع بذلك، وَنَحْوه، وَقُوَّة اللَّفْظ فِي الْعَام بِخِلَاف ذَلِك حَتَّى إِن الْحَنَفِيَّة ادعوا أَن دلَالَة الْعَام على كل فَرد من أَفْرَاده قَطْعِيَّة، كَمَا تقدم فَلم ينْدَفع بذلك على الطَّرِيقَة الراجحة.
قَوْله: {وَلَا مخرج التفخيم} ، أَي: لم يخرج مخرج التفخيم والتأكيد كَحَدِيث: " لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد على ميت " الحَدِيث، فقيد الْإِيمَان للتفخيم فِي الْأَمر، وَأَن هَذَا لَا يَلِيق بِمن كَانَ مُؤمنا.
قَوْله: {وَلَا لزِيَادَة امتنان} ، من الشُّرُوط أَن لَا يقْصد بِذكرِهِ زِيَادَة امتنان على الْمَسْكُوت، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لتأكلوا مِنْهُ لَحْمًا طريا} [النَّحْل: 14] فَلَا يدل على منع القديد.

(6/2899)


قَوْله: {وَلَا لحادثة} ، أَي: وَلَا خرج لبَيَان حكم حَادِثَة اقْتَضَت بَيَان الحكم فِي الْمَذْكُور، كَمَا رُوِيَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بِشَاة لميمونة، فَقَالَ: " دباغها طهورها "، وكما لَو قيل بِحَضْرَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لزيد: غنم سَائِمَة، فَقَالَ: فِي السَّائِمَة الزَّكَاة؛ إِذْ الْقَصْد الحكم على تِلْكَ الْحَادِثَة لَا النَّفْي عَمَّا عَداهَا.
وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة} [آل عمرَان: 130] فَإِنَّهُ ورد على مَا كَانُوا يتعاطونه فِي الْآجَال أَنه إِذا حل الدّين يَقُول للمديون: إِمَّا أَن تُعْطِي، وَإِمَّا أَن تزيد فِي الدّين فيتضاعف بذلك مضاعفة كَثِيرَة.
قَوْله: {وَلَا لتقدير جهل الْمُخَاطب} بِأَن علم وجوب زَكَاة المعلوفة، ويجهل حكم السَّائِمَة فيذكر حكمهَا.

(6/2900)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِنْه أَن لَا يكون سكت عَنهُ لكَون الْمُخَاطب غير جَاهِل بِهِ. وَيُمكن جعل هَذَا من شُرُوط الْمَذْكُور على معنى أَن يكون ذكره لأجل جَهَالَة الْمُخَاطب إِيَّاه بِخِلَاف الْمَسْكُوت فَإِنَّهُ يُعلمهُ، كَمَا لَو قيل: صَلَاة السّنة فروضها كَذَا وَكَذَا، فَلَا يُقَال: مَفْهُومه أَن الْفَرْض لَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن ذَلِك مَعْلُوم، وَرُبمَا قدر أَن الْمُتَكَلّم جَاهِل بِحكم الْمَسْكُوت، وَذَلِكَ فِي غير الشَّارِع فَيكون الْمُتَكَلّم غير الشَّارِع إِنَّمَا ترك حكم الْمَسْكُوت جهلا فَظهر للتخصيص بِالذكر سَبَب آخر.
وَرُبمَا يدعى أَن ذَلِك من شُرُوط الْمَذْكُور على معنى أَنه خص بِالذكر لجهل حكم غَيره.
قَوْله: {وَلَا لرفع خوف وَنَحْوه} .
من الشُّرُوط أَن لَا يكون الْمَسْكُوت ترك ذكر حكمه لخوف على الْمُخَاطب أمرا مَا، فَإِن الظَّاهِر أَن هَذَا فَائِدَة التَّخْصِيص للمذكور بِالذكر أَو يكون الْمُتَكَلّم يخَاف من التَّصْرِيح بِحكم الْمَسْكُوت أمرا من ذَلِك، وَهَذَا فِي الْمُتَكَلّم إِذا كَانَ غير الشَّارِع.
وَكَلَام ابْن الْحَاجِب وَغَيره يَقْتَضِي أَن هَذَا من شُرُوط الْمَذْكُور، لَكِن على معنى أَن الْمَذْكُور صرح [بِهِ] لدفع الْخَوْف، كَقَوْلِك لمن يخَاف من

(6/2901)


ترك الصَّلَاة الموسعة: تَركهَا فِي أول الْوَقْت جَائِز، لَيْسَ مَفْهُومه عدم الْجَوَاز فِي بَاقِي الْوَقْت، وَهَكَذَا إِلَى أَن يتضيق.
قَوْله: {وَلَا علق حكمه على صفة غير مَقْصُوده، ذكره القَاضِي، وَغَيره} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَإِن كَانَت الصّفة غير مَقْصُوده، فَلَا مَفْهُوم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء} [الْبَقَرَة: 236] الْآيَة، أَرَادَ نفي الْحَرج عَمَّن طلق وَلم يمس وَإِيجَاب الْمُتْعَة تبعا، ذكره القَاضِي وَغَيره من الْمُتَكَلِّمين.
فَوَائِد:
إِحْدَاهَا: من الشُّرُوط أَيْضا أَن لَا يكون عهدا، فَإِن كَانَ فَهُوَ بِمَنْزِلَة الِاسْم اللقب الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي التَّعْرِيف، فَلَا يدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ.
وَمِمَّا يذكر من شُرُوط الْعَمَل بِالْمَفْهُومِ أَن لَا يعود على الأَصْل الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوق فِيهِ بالإبطال، كَحَدِيث: " لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك " لَا يُقَال:

(6/2902)


مَفْهُومه صِحَة بيع الْغَائِب إِذا كَانَ عِنْده؛ إِذْ لَو صَحَّ فِيهِ لصَحَّ فِي الْمَذْكُور وَهُوَ الْغَائِب الَّذِي لَيْسَ عِنْده؛ لِأَن الْمَعْنى فِي الْأَمريْنِ وَاحِد، وَلم يفرق أحد بَينهمَا، وَقد ذكرت شُرُوط أُخْرَى غير مَا ذكر لَا حَاجَة إِلَى ذكرهَا.
الثَّانِيَة: مَا تقدم من الشُّرُوط يَقْتَضِي تَخْصِيص الْمَذْكُور بِالذكر، لَا نفي الحكم عَن غَيره، وَلَكِن وَرَاء هَذَا من بعد الشُّرُوط بحث آخر، وَهُوَ أَن المقترن من المفاهيم بِمَا يمْنَع القَوْل بِهِ لوُجُود فَائِدَة تَقْتَضِي التَّخْصِيص فِي الْمَذْكُور بِالذكر، هَل يدل اقترانه بذلك على الْغَايَة وَجعله كَالْعدمِ فَيصير المعروض لقيد المفاهيم إِذا كَانَ فِيهِ لفظ عُمُوم شَامِلًا للمذكور والمسكوت حَتَّى لَا يجوز قِيَاس الْمَسْكُوت بالمذكور لعِلَّة جَامِعَة؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوص فَلَا حَاجَة لإثباته بِالْقِيَاسِ، أَو لَا يدل، بل غَايَته الحكم على الْمَذْكُور، وَأما غير الْمَذْكُور فمسكوت عَن حكمه فَيجوز حِينَئِذٍ قِيَاسه.
مِثَاله فِي الصّفة مثلا لَو قيل: هَل فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة؟ فَيَقُول الْمَسْئُول: فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة، فَغير السَّائِمَة مسكوت عَن حِكْمَة فَيجوز

(6/2903)


قِيَاسه على السَّائِمَة بِخِلَاف مَا لَو ألغى لفظ السَّائِمَة، وَصَارَ التَّقْدِير فِي الْغنم زَكَاة، فَلَا حَاجَة حِينَئِذٍ لقياس المعلوفة بالسائمة؛ لِأَن لفظ الْغنم شَامِل لَهما، فِي ذَلِك خلاف.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْمُخْتَار الثَّانِي حَتَّى إِن بَعضهم حكى فِيهِ الْإِجْمَاع، وَهُوَ ظَاهر مَا أوردهُ ابْن الْحَاجِب فِي أثْنَاء مَسْأَلَة مَفْهُوم الصّفة.
الثَّالِثَة: الضَّابِط لهَذِهِ الشُّرُوط، وَمَا فِي مَعْنَاهَا أَن لَا يظْهر لتخصيص الْمَنْطُوق فَائِدَة غير نفي الحكم عَن الْمَسْكُوت عَنهُ، وعَلى ذَلِك اقْتصر الْبَيْضَاوِيّ.
قَوْله: {وَهُوَ أَقسَام} - أَعنِي مَفْهُوم الْمُخَالفَة -:
{أَحدهَا} : مَفْهُوم {الصّفة} ، إِنَّمَا بَدَأَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رَأس المفاهيم. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لَو عبر معبر عَن جَمِيع المفاهيم بِالصّفةِ كَانَ ذَلِك متجها؛

(6/2904)


لِأَن الْمَعْدُود والمحدود موصوفان بعددها وَحدهَا، وَكَذَا سَائِر المفاهيم. انْتهى.
وَمرَاده أَن معنى الوصفية يدعى رُجُوع الْكل إِلَيْهِ بِاعْتِبَار، وَإِن كَانَ الْمَقْصُود هُنَا نوعا من ذَلِك خَاصّا بِاعْتِبَار الْآتِي بَيَانه.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره {وَهُوَ أَن يقْتَرن بعام صفة خَاصَّة} كَقَوْلِه فِي الْغنم: فِي سائمتها الزَّكَاة.
وَقَالَ الطوفي وَغَيره: هِيَ تعقيب ذكر الِاسْم الْعَام بِصفة خَاصَّة فِي معرض الِاسْتِدْلَال نَحْو: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة.
فَمثل كل مِنْهُمَا بمثال، وَلذَلِك قَالَ كثير من الْعلمَاء: هُوَ تَعْلِيق الحكم بِإِحْدَى صِفَتي الذَّات، فَشَمَلَ المثالين، وهما: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة، وَفِي سَائِمَة الْغنم، وَهَذَا لفظ الحَدِيث، وَمثل بهما فِي " الرَّوْضَة "، وَبَين الصيغتين فرق فِي الْمَعْنى فَمُقْتَضى الْعبارَة الأولى عدم الْوُجُوب فِي الْغنم المعلوفة الَّتِي لَوْلَا الْقَيْد بالسوم لشملها لفظ الْغنم، وَمُقْتَضى الْعبارَة الثَّانِيَة عدم الْوُجُوب فِي سَائِمَة غير الْغنم كالبقر - مثلا - الَّتِي لَوْلَا تَقْيِيد السَّائِمَة بإضافتها إِلَى الْغنم لشملها لفظ السَّائِمَة، كَذَا قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي منع الْمَوَانِع، وَقَالَ: هُوَ التَّحْقِيق.

(6/2905)


قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَالْحق عِنْدِي أَنه لَا فرق بَينهمَا، فَإِن قُلْنَا: سَائِمَة الْغنم من إِضَافَة الصّفة إِلَى موصوفها فَهِيَ فِي الْمَعْنى كالأولى وَالْغنم مَوْصُوفَة، والسائمة صفة على كل حَال، وَقد علم أَنه لَيْسَ المُرَاد بِالصّفةِ هُنَا النَّعْت، وَلِهَذَا مثلُوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مطل الْغَنِيّ ظلم " وَالتَّقْيِيد فِيهِ بِالْإِضَافَة، لكنه فِي معنى الصّفة، فَإِن المُرَاد بِهِ المطل الْكَائِن من الْغَنِيّ، لَا من الْفَقِير.
وَقدره الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: مطل الشَّخْص الْغَنِيّ.
ورده أَيْضا الْبرمَاوِيّ بِنَحْوِ ذَلِك وَغَيره، وَهُوَ ظَاهر مَا مثل بِهِ أَصْحَابنَا، فَإِنَّهُ مثلوه تَارَة بالعبارة الأولى، وَتارَة بِالثَّانِيَةِ، وظاهرهم أَن الحكم فيهمَا وَاحِد، وَمثله فِي " الرَّوْضَة " بهما، وَهَذَا الصَّحِيح.
وَمن الْأَمْثِلَة أَيْضا: " من بَاعَ نخلا مؤبرا فثمرتها للْبَائِع ".
وَمثله تَعْلِيق نَفَقَة الْبَائِن على الْحمل.
قَوْله: {وَهُوَ حجَّة عِنْد الثَّلَاثَة، وَالْأَكْثَر} .
فِي كَون مَفْهُوم الصّفة حجَّة مَعْمُولا بِهِ مَذَاهِب، أَصَحهَا أَنه حجَّة

(6/2906)


مَعْمُول بِهِ، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأبي عُبَيْدَة معمر بن مثنى.
وَنَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن السَّمْعَانِيّ عَن أبي عبيد، وَالْفُقَهَاء، والمتكلمين، وَحَكَاهُ ابْن الْحَاجِب عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَحَكَاهُ سليم الرَّازِيّ عَن الْمُزنِيّ، والاصطخري، وَأبي إِسْحَاق الْمروزِي، وَابْن خيران، وَأبي ثَوْر، وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ، وَذكره فِي " الرَّوْضَة " عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين، وَنَقله ابْن مُفْلِح عَن أَكثر أَصْحَاب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وَحَكَاهُ الباقلاني عَن الْأَشْعَرِيّ، وَجرى عَلَيْهِ أَكثر أَصْحَابه.

(6/2907)


قَوْله: {لُغَة، وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْفرج، وَحَكَاهُ إِجْمَاع أهل اللُّغَة عقلا، وَفِي المعالم عرفا، وَقيل: شرعا} .
هَذِه الْأَقْوَال مَبْنِيَّة على أَنه حجَّة مَعْمُول بِهِ، فَإِذا قُلْنَا إِن الْمَفْهُوم حجَّة على معنى نفي الحكم الْمَذْكُور فِي الْمَنْطُوق عَن الْمَسْكُوت، سَوَاء مَفْهُوم [الصّفة] وَغَيرهَا فَهُوَ من حَيْثُ دلَالَة اللُّغَة، وَوضع اللِّسَان.
وَهُوَ قَول أَكثر الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَكثر الشَّافِعِيَّة.
وَقيل: من حَيْثُ دلَالَة الْعقل، حَكَاهُ الْبرمَاوِيّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي، وَحَكَاهُ إِجْمَاع أهل اللُّغَة، وَيُوَافِقهُ مَا تقدم فِي بَاب الْعُمُوم أَن عُمُوم الْمَفْهُوم عِنْد بَعضهم بِالْعقلِ.

(6/2908)


بل نسبه أَبُو الْفرج إِلَى الْأَصْحَاب، فَإِنَّهُ قَالَ: عندنَا يثبت بِالْعقلِ.
وَقَالَ الرَّازِيّ فِي " المعالم ": إِن ذَلِك من قبيل الْعرف الْعَام؛ لِأَن أهل الْعرف يقصدون مثل ذَلِك.
وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا هُوَ من قبيل الشَّرْع متصرف فِيهِ زَائِد على وضع اللُّغَة، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، حَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر.
قَوْله: {وَيحسن الِاسْتِفْهَام، جزم بِهِ فِي " الْوَاضِح "، وَقيل: لَا} . ذكر الْأَصْحَاب فِي ذَلِك: هَل يحسن الِاسْتِفْهَام أم لَا؟ منعا كَالصَّرِيحِ وتسليما لرفع الِاحْتِمَال، وَجزم بِهِ فِي " الْوَاضِح "؛ لِأَن معنى الْخطاب مقدم عَلَيْهِ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، وَيحسن الِاسْتِفْهَام فِيهِ، نَحْو: لَا تشرب الْخمر؛ لِأَنَّهُ يُوقع الْعَدَاوَة، فَيَقُول: فَهَل أشْرب النَّبِيذ؟ وَلَا يُنكر أحد استفهامه هَذَا.

(6/2909)


وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": يحْتَمل أَن لَا يحسن؛ وَلِهَذَا يحسن الْإِنْكَار عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ تَخْرِيج حسن إِنْكَاره على الْخلاف. انْتهى.
قَوْله: {ثمَّ مَفْهُومه عِنْد الْمُعظم لَا زَكَاة فِي معلوفة الْغنم، فالغنم والسوم عِلّة، وَظَاهر كَلَام أَحْمد، وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَأَبُو حَامِد، والرازي: لَا زَكَاة فِي معلوفة كل حَيَوَان، فالسوم عِلّة} .
اخْتلفُوا فِي المثالين السَّابِقين فِي مَفْهُوم الصّفة: هَل الْمَنْفِيّ فيهمَا غير سَائِمَة الْغنم، أَو غير مُطلق السوائم؟
فعلى قَوْله: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة، إِنَّمَا يدل على نفي الزَّكَاة عَن معلوفة الْغنم، وعَلى قَوْله: فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة، يدل على نفي الزَّكَاة عَن كل معلوفة من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: اخْتلفُوا، هَل دلّ على النَّفْي عَمَّا عداهُ مُطلقًا سَوَاء كَانَ من جنس المنعوت فِيهِ، أَو لم يكن، أَو تخْتَص دلَالَته بِمَا كَانَ من جنسه؟

(6/2910)


فَفِي نَحْو: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة، هَل الزَّكَاة منفية عَن المعلوفة مُطلقًا، سَوَاء كَانَت من الْإِبِل أَو الْبَقر أَو الْغنم أَو معلوفة الْغنم فَقَط؟ على قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الرَّازِيّ وَغَيره، وَصحح أَبُو حَامِد الثَّانِي.
وَوَجهه: أَن الْمَفْهُوم نقيض الْمَنْطُوق، والمنطوق سَائِمَة الْغنم دون غَيرهَا. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": ثمَّ مَفْهُومه عِنْد الْجَمِيع لَا زَكَاة فِي معلوفة الْغنم لتَعلق الحكم بالسوم، وَالْغنم، فهما الْعلَّة.
وَلنَا وَجه اخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَذكره القَاضِي.
ظَاهر كَلَام أَحْمد لَا زَكَاة فِي معلوفة كل حَيَوَان، وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة بِنَاء على أَن السّوم عِلّة، فعلى هَذَا قَالَ القَاضِي: يلْزم لَا زَكَاة فِي غير سَائِمَة الْغنم من حَيَوَان، أَو غَيره، وَقد لَا يلْزم. انْتهى. وتابعناه على ذَلِك.
قَوْله: {وَهُوَ فِي الْبَحْث عَمَّا يُعَارضهُ كالعام، ذكره فِي " التَّمْهِيد "

(6/2911)


وَغَيره، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يعْتَبر} عِنْد من قَالَ بِهِ، قَالَ ذَلِك ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
قَوْله: {وَمِنْهَا الْعلَّة، والظرف، وَالْحَال} ، ذكره ابْن قَاضِي الْجَبَل وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ.
من مَفْهُوم الصّفة الْعلَّة والظرف وَالْحَال.
فمفهوم الْعلَّة: تَعْلِيق الحكم بعلة، كحرمت الْخمر لشدتها، وَالسكر لحلاوته، فَيدل على أَن غير الشَّديد، وَغير الحلو لَا يحرم.
وَهُوَ أخص من مَفْهُوم الصّفة؛ لِأَن الْوَصْف قد يكون تتميما لِلْعِلَّةِ كالسوم، فَإِنَّهُ تتميم للمعنى الَّذِي هُوَ عِلّة، فَالْخِلَاف فِيهِ هُوَ الْخلاف فِي مَفْهُوم الصّفة كَمَا قَالَه الباقلاني وَالْغَزالِيّ وَغَيرهمَا، بل هُوَ يلْحق بِدلَالَة الْإِشَارَة.
وَمِنْهَا مَفْهُوم: الظّرْف، أما الزَّمَان فنحو: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} [الْبَقَرَة: 197] ، {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} [الْجُمُعَة: 9] ، وَهُوَ حجَّة عِنْد الشَّافِعِي وَغَيره.

(6/2912)


وَأما الْمَكَان فنحو: {فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام} [الْبَقَرَة: 198] ، وَهُوَ حجَّة أَيْضا نَقله أَبُو الْمَعَالِي وَالْغَزالِيّ.
وَمِنْهَا: مَفْهُوم الْحَال: كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} [الْبَقَرَة: 187] ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ فِي " القواطع "، وَإِن لم يذكرهُ أَكثر الْمُتَأَخِّرين، وَقَالَ: إِنَّه كالصفة، وَهُوَ ظَاهر؛ لِأَن الْحَال صفة فِي الْمَعْنى قيد بهَا.
وَالْمذهب الثَّانِي فِي أصل الْمَسْأَلَة: أَنه لَيْسَ بِحجَّة، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَابْن سُرَيج، والقفال، وَأَبُو بكر الْفَارِسِي،

(6/2913)


وَجَمَاعَة من الْمَالِكِيَّة، وَابْن دَاوُد، وَابْن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، والشاشي، وَكثير من الْمُعْتَزلَة، والآمدي، وَأَبُو الْحسن التَّمِيمِي من أَصْحَابنَا.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار " فِي مَسْأَلَة الْوَلِيّ: هُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَذكره فِي " التَّمْهِيد " عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين.
وَاخْتلف النَّقْل عَن الْأَشْعَرِيّ.
وَقَالَ أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ: إِنَّه حجَّة فِي ثَلَاث صور:
إِحْدَاهَا: أَن يكون الْخطاب ورد للْبَيَان كالسائمة فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة " فَإِنَّهُ ورد بَيَانا لآيَة الزَّكَاة.

(6/2914)


الثَّانِيَة: أَن يكون ورد للتعليم، أَي: الِابْتِدَاء بِمَا لم يسْبق حكمه لَا مُجملا، وَلَا مُبينًا كَحَدِيث: " إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ تحَالفا - فَإِن فِي رِوَايَة - إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ والسلعة قَائِمَة تحَالفا "، مَفْهُومه: أَن السّلْعَة إِذا لم تكن قَائِمَة لَا تحالف، وَهُوَ من مَفْهُوم الْحَال الَّذِي تقدم، والْحَدِيث بِهَذِهِ الزِّيَادَة رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
الثَّالِثَة: أَن يكون مَا عدا الصّفة دَاخِلا تحتهَا كَالْحكمِ بالشاهدين؛ لِأَن الْمَفْهُوم، وَهُوَ الشَّاهِد الْوَاحِد دَاخل تَحت لفظ الشَّاهِدين، وَمثله حَدِيث الْقلَّتَيْنِ، فَإِن الْقلَّة الْوَاحِدَة دَاخِلَة تَحت الْقلَّتَيْنِ، أَي: فَلَو لم يكن الحكم فِي الْوَاحِد مُخَالفا لما كَانَ لذكر الِاثْنَيْنِ فَائِدَة، وَالله أعلم.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - لَو لم يدل عَلَيْهِ لُغَة لما فهمه أَهلهَا، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لي الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته " حَدِيث حسن، رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة. أَي: مطل الْغَنِيّ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " مطل الْغَنِيّ ظلم " وَفِيهِمَا: " لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلئ شعرًا ".

(6/2915)


قَالَ أَبُو عبيد: فِي الأول يدل على أَن لي من لَيْسَ بواجد لَا يحل عُقُوبَته، وَفِي الثَّانِي مثله، وَقيل لَهُ: فِي الثَّالِث المُرَاد الهجاء، وهجاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: لَو كَانَ كَذَلِك لم يكن لذكر الامتلاء معنى؛ لِأَن قَلِيله كَذَلِك.
فألزم أَبُو عبيد من تَقْدِير الصّفة الْمَفْهُوم، قدر الامتلاء صفة للهجاء وَهُوَ وَالشَّافِعِيّ من أَئِمَّة اللُّغَة.
وَذكره الْآمِدِيّ قَول جمَاعَة من أهل الْعَرَبيَّة.
فَالظَّاهِر أَنهم فَهموا ذَلِك لُغَة فثبتت اللُّغَة بِهِ، وَاحْتِمَال الْبناء على الِاجْتِهَاد مَرْجُوح، وَإِنَّمَا ذكره فِي كتب اللُّغَة لَا الْأَحْكَام وَهِي نقل، وَقد حَكَاهُ القَاضِي أَبُو يعلى عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء، وثعلب، وَأَن أَبَا عبيد حكى عَن الْعَرَب القَوْل بِهِ.

(6/2916)


عورض بِمذهب الْأَخْفَش قَالَ: قَول الْقَائِل مَا جَاءَنِي غير زيد لَا يدل على مَجِيء زيد.
رد بِمَنْع ثُبُوته. ثمَّ هُوَ نحوي، ثمَّ من ذَكَرْنَاهُمْ أَكثر، وَبَعْضهمْ أفضل، ثمَّ الْمُثبت أولى.
وَأَيْضًا لَو لم يدل كَانَ تَخْصِيص مَحل النُّطْق بِالذكر بِلَا فَائِدَة، وَهُوَ مُمْتَنع من آحَاد البلغاء فالشارع أولى.
وَاعْترض بِأَن هَذَا إِثْبَات للوضع بِمَا فِيهِ من الْفَائِدَة، والفائدة مرتبَة عَلَيْهِ.
رد: يعرف بالاستقراء إِذا لم يكن للفظ فَائِدَة غير وَاحِدَة تعيّنت إرادتها بِهِ، وَبِأَن دلَالَة الْإِيمَاء ثبتَتْ بالاستبعاد كَمَا سبق فِي الصَّرِيح، فَهَذَا أولى.
وَاعْترض بِمَفْهُوم اللقب.
رد: بِأَنَّهُ حجَّة، ثمَّ فَائِدَته حُصُول الْكَلَام بِهِ؛ لِأَنَّهُ يخْتل بِعَدَمِهِ بِخِلَاف الصّفة، أَو لم يحضرهُ الْمَسْكُوت، أَو قِيَاس فِي اللُّغَة.
وَاعْترض: فَائِدَته تَقْوِيَة دلَالَة مَا جعل الْوَصْف وَصفا لَهُ حَتَّى لَا يتَوَهَّم تَخْصِيصه.
رد: بِأَن هَذَا إِذا كَانَ الِاسْم الْمُقَيد بِالصّفةِ عَاما، وَلَا قَائِل بِهِ، ثمَّ

(6/2917)


الْفَرْض لَا شَيْء يَقْتَضِي تَخْصِيصه سوى الْمُخَالفَة، كَذَا أجَاب بَعضهم والآمدي: إِنَّمَا اعْترض بِأَن فَائِدَته معرفَة حكم الْمَنْطُوق والمسكوت بنصين مُخْتَلفين؛ لِأَنَّهُ أدل للْخلاف فِي الْعُمُوم، وَإِمْكَان تَخْصِيص مَحل الصّفة وَغَيره بِاجْتِهَاد وَلَيْسَ مُرَاد التَّخْصِيص.
وَجَوَابه: أَن الْعُمُوم لُغَة الْعَرَب، وَالْخلاف فِيهِ حَادث فَمثل هَذَا لَا يقْصد، ثمَّ الْعَرَب لَا تقصد قطع التَّوَهُّم، وَلِهَذَا يتَكَلَّم بِالْحَقِيقَةِ مَعَ توهم غَيرهَا.
وَاعْترض: فَائِدَته ثَوَاب الِاجْتِهَاد بِالْقِيَاسِ، فَإِن تَخْصِيصه يشْعر بِأَنَّهُ عِلّة.
رد: إِن سَاوَى الْفَرْع الأَصْل خرج، وَإِلَّا فَهُوَ مِمَّا لَا فَائِدَة لَهُ سوى الْمُخَالفَة، وَفِيه نظر؛ لِأَنَّهُ لَا يخرج إِلَّا مَعَ ثُبُوته لُغَة وَالْقِيَاس يُثبتهُ عقلا.
وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد ": الْكَلَام فِي اللُّغَة، وَقَالَ أَيْضا: الظَّاهِر مَا ذكرنَا.

(6/2918)


وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة ": النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث لتبيين الْأَحْكَام وَالِاجْتِهَاد ثَبت ضَرُورَة.
وَأَيْضًا التَّرْتِيب يدل على الْعلية، وانتفاؤها يدل على انْتِفَاء معلولها.
وَاسْتدلَّ: لَو لم يدل لزم مُشَاركَة الْمَسْكُوت للمنطوق لعدم وَاسِطَة بَينهمَا، وَلَا مُشَاركَة اتِّفَاقًا.
ورد بِالْمَنْعِ فَلَا يدل على حصر وَلَا اشْتِرَاك، وَبِأَنَّهُ يجْرِي فِي اللقب، وَأما لفظ السَّائِمَة فَلَا يتَنَاوَل المعلوفة اتِّفَاقًا.
وَاسْتدلَّ: لَو لم يدل لم تنفر الشَّافِعِيَّة من قَول: الْفُقَهَاء الْحَنَفِيَّة فضلاء.
رد: النفرة لتركهم على الِاحْتِمَال كتقديم الْحَنَفِيَّة عَلَيْهِم، أَو لتوهم ذَلِك من يرى الْمَفْهُوم.
وَاسْتدلَّ بِمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قَامَ يُصَلِّي على عبد الله بن أبي، فَقَالَ لَهُ عمر، فَقَالَ: " خيرني الله وسأزيد على السّبْعين ".

(6/2919)


وَفِي البُخَارِيّ: " خيرت فاخترت، لَو أعلم أَنِّي [إِن] زِدْت على السّبْعين يغْفر لَهُ لزدت عَلَيْهَا " ففهم أَن مَا زَاد بِخِلَافِهِ.
رد بِالْمَنْعِ؛ لِأَن الْآيَة مُبَالغَة فِي أَن السّبْعين وَمَا فَوْقهَا سَوَاء، وَقَالَ: (لأزيدن) استمالة للإحياء، أَو فهم لبَقَاء وُقُوع الْمَغْفِرَة بِالزِّيَادَةِ على أَصله فِي الْجَوَاز قبل الْآيَة.
وَيُجَاب بِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر.
قَالَ ابْن عقيل: لم يقْصد، بل بعد هَذَا فِي سُورَة الْمُنَافِقين.
وَفِيه نظر.
وَاسْتدلَّ بقول يعلى بن أُميَّة لعمر: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا إِن الْكَافرين كَانُوا لكم عدوا مُبينًا} [النِّسَاء: 101] فقد أَمن النَّاس، فَقَالَ: عجب مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " صدقه تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته "

(6/2920)


رَوَاهُ مُسلم، ففهما عدم الْقصر لعدم الخو، وَأقر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
رد: لَا يتَعَيَّن من الْمَفْهُوم لجَوَاز استصحابهما وجوب الْإِتْمَام فَعجب لمُخَالفَة الأَصْل.
أُجِيب: لم يدل الْقُرْآن على أَنه الأَصْل، وَعند الْمُخَالف الأَصْل الْقصر، وَقد قَالَ عمر: " صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ تَمام غير قصر على لِسَان مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَدِيث حسن، رَوَاهُ أَحْمد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن عَائِشَة: " فرضت رَكْعَتَيْنِ، فأقرت صَلَاة السّفر وأتمت صَلَاة الْحَضَر "، وَفِي مُسلم عَن ابْن عَبَّاس: " فرضت فِي الْحَضَر أَرْبعا، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ " ثمَّ هُوَ خلاف الظَّاهِر.
وَاسْتدلَّ: دلَالَته على الْمَسْكُوت فِيهِ فَائِدَة، فَهُوَ أولى تكثيرا للفائدة وَهِي تدل على الْوَضع على مَا سبق فِي الْمُجْمل فِي اللَّفْظ لِمَعْنى تَارَة، ولمعنيين أُخْرَى.

(6/2921)


ورد بِأَنَّهُ دور لتوقف دلَالَته على الْمَسْكُوت على الْوَضع، وَهُوَ على تَكْثِير الْفَائِدَة، وَهِي على دلَالَته على الْمَسْكُوت.
أُجِيب: يلْزم فِي كل مَوضِع، فَيُقَال: دلَالَة اللَّفْظ تتَوَقَّف على الْوَضع، وَهُوَ على الْفَائِدَة لوضع اللَّفْظ لَهَا، وَهِي [على] الدّلَالَة لعدم الْفَائِدَة بِعَدَمِ اللَّفْظ، وَبِأَن دلَالَة اللَّفْظ على الْمَسْكُوت تتَوَقَّف على تعقل تَكْثِير الْفَائِدَة، لَا على حُصُولهَا وتعقلها لَا يتَوَقَّف بل حُصُولهَا.
وَاسْتدلَّ: لَو لم يكن مُخَالفا لم تكن السَّبع فِيمَا رَوَاهُ مُسلم " طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب يغسلهُ سبعا " مطهرة لتطهيره بِمَا دونهَا.
رد: لَا يلْزم الْجَوَاز عدم الطَّهَارَة فِيمَا دونهَا بِدَلِيل.
وَجَوَابه: خلاف الظَّاهِر، وَالْأَصْل عَدمه، وَمثله: " خمس رَضعَات يحرمن " رَوَاهُ مُسلم.
وَاحْتج ابْن عقيل وَغَيره: بِأَنَّهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَإِن بَعضهم لم ير

(6/2922)


الْغسْل بِدُونِ إِنْزَال لقَوْله: " المَاء من المَاء " وَخَالفهُم غَيرهم بِأَنَّهُ مَنْسُوخ.
وَجه القَوْل الثَّانِي - وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمن وَافقه -: لَو ثَبت بِدَلِيل وَهُوَ عَقْلِي أَو نقلي إِلَى آخِره.
رد: تثبت اللُّغَة بالآحاد، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن الْجُمْهُور، وَذكره ابْن عقيل عَن جمَاعَة من الْعلمَاء؛ لِأَن التَّوَاتُر فِي الْبَعْض تحكم لَا قَائِل بِهِ، وَفِي الْجَمِيع مُتَعَذر، فيتعطل أَكثر الْكتاب، وَالسّنة، واللغة، وَهُوَ فَوق مَحْذُور قبُول خبر الْوَاحِد، وَذكر الْآمِدِيّ: لم يزل الْعلمَاء عَلَيْهِ، وَذكره أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي من أَصْحَابنَا إِجْمَاع أهل اللُّغَة فَإِن عندنَا تثبت بِالْعقلِ، وَذكر الْآمِدِيّ منعا، وَذكر القَاضِي فِي مَسْأَلَة

(6/2923)


الْعُمُوم عَن السمناني لَا تثبت بالآحاد.
وَفِي " التَّمْهِيد ": ثَبت ذَلِك باستقرار كَلَامهم، وَمَعْرِفَة مُرَادهم، وفهمته الصَّحَابَة، وهم أهل اللِّسَان.
قَالُوا: لَو ثَبت لثبت فِي الْخَبَر لتقييد كل مِنْهُمَا بِصفة، نَحْو: " فِي الْغنم السَّائِمَة " أَو زيد الطَّوِيل فِي الدَّار.
رد بالتزامه، وَقَالَهُ فِي " الْعدة " و " التَّمْهِيد ".
وَذكر ابْن عقيل: أَن الْمَذْهَب القَوْل بِهِ فِي الْخَبَر، وَفِي الْأَسْمَاء، وَالْحكم كالاستثناء والتخصيص، ثمَّ فرق هُوَ وَغَيره بَين الْأَمر، وَالْخَبَر بِأَنَّهُ قد لَا يعلم غَيره، ويقصد بِالْأَمر الْبَيَان والتمييز، وَبِأَن هَذَا قِيَاس لُغَة.

(6/2924)


وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ بِهِ.
وَفرق بعض أَصْحَابنَا بَين أَسمَاء الْأَعْلَام والأجناس، وَفرق فِي " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ لَا يخبر عَنهُ لِئَلَّا ينضر.
وَفرق بَعضهم بِأَن الْخَبَر لَا يلْزم عدم حُصُوله للمسكوت؛ لِأَن لَهُ خارجيا بِخِلَاف الحكم، فَإِنَّهُ إِذا لم يدل على الْمُخَالفَة لم يحصل للمسكوت؛ لِأَنَّهُ [لَا] خارجي لَهُ.
قَالَ: لَو دلّ امْتنع، أد زَكَاة السَّائِمَة والمعلوفة لعدم الْفَائِدَة، وللتناقض، كَمَا يمْتَنع لَا تقل أُفٍّ واضربهما.
رد: الْفَائِدَة عدم تَخْصِيص المعلوفة بِاجْتِهَاد، والتناقض فِي الْقَاطِع.
قَالُوا: لَو دلّ لما ثَبت خِلَافه للتعارض، وَالْأَصْل عَدمه، وَقد ثَبت فِي نَحْو: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة} [آل عمرَان: 130] وَاعْتمد عَلَيْهِ الْآمِدِيّ.

(6/2925)


وعَلى على بَيَان دَلِيل، وَالْأَصْل عَدمه.
رد: هُوَ دَلِيل عَارضه قَاطع وَالْأَصْل مُخَالف لدَلِيل.
قَالُوا: لَو كَانَ دَلِيلا لم يبطل بِبُطْلَان الْمَنْطُوق.
رد: ذكر القَاضِي وَجْهَيْن، قَالَ: وبطلانه أشبه.
جزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة " فِي نسخ الْمَنْطُوق؛ لِأَنَّهُ فَرعه وَعَدَمه كالخطابين، وَاخْتَارَهُ ابْن فورك.
قَوْله: {فَائِدَة الصّفة الْمُجَرَّدَة كفي السَّائِمَة الزَّكَاة، وَالثَّيِّب أَحَق بِنَفسِهَا، كَالْأولِ عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَالْأول أقوى دلَالَة. وَقيل: سَوَاء، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ مُنَاسبَة الصّفة للْحكم وَإِلَّا فَلَا. وَحكي عَن القَاضِي} .
الصّفة الْعَارِضَة الْمُجَرَّدَة، كَقَوْلِه: السَّائِمَة فِيهَا الزَّكَاة، كالصفة المقترنة بِالْعَام.

(6/2926)


قَالَ ابْن مُفْلِح: عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَذكر الْآمِدِيّ، وَغَيره؛ ذَلِك لِأَن غَايَته أَن الْمَوْصُوف فِيهَا مَحْذُوف.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: جُمْهُور أَصْحَاب الشَّافِعِي عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة "، وَتَبعهُ الطوفي: تَخْصِيص وصف غير قار بالحكم نَحْو: الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا، حجَّة، وَهُوَ قَول أَكثر الشَّافِعِيَّة كَذَلِك، خلافًا للتميمي وَأكْثر الْفُقَهَاء والمتكلمين لاحْتِمَال الْغَفْلَة عَن غير الْوَصْف الْمَذْكُور بِخِلَاف مَا إِذا ذكر مَعَه الْعَام.
لَكِن الأول أقوى دلَالَة فِي الْمَفْهُوم؛ لِأَن الأول - وَهُوَ الْمُقَيد بِالْعَام - كالنص بِخِلَاف هَذَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: مَعَ أَن ظَاهر كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم التَّسْوِيَة، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ مُنَاسبَة الصّفة للْحكم، وَإِلَّا فَلَيْسَ

(6/2927)


بِحجَّة، وَذكره بعض أَصْحَابنَا ظَاهر اخْتِيَار القَاضِي فِي مَوضِع. انْتهى.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": يفصل بَين أَن يكون الْوَصْف مناسبا فَيكون حجَّة، نَحْو: " فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة " فَإِن خفَّة الْمُؤْنَة مُنَاسبَة للمواساة بِالزَّكَاةِ، وَبَين مَا لَا مُنَاسبَة فِيهِ فَلَا يجوز: الْإِنْسَان الْأَبْيَض ذُو إِرَادَة.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهُوَ خلاف مَذْهَب الشَّافِعِي، فَإِن الْعلَّة لَيْسَ من شَرطهَا الانعكاس، لَكِن أَبُو الْمَعَالِي أورد هَذَا على نَفسه.
وَأجَاب بِأَن قَضِيَّة اللِّسَان هِيَ الدَّالَّة عِنْد إِحَالَة الْوَصْف على مَا عداهُ بِخِلَافِهِ، وَقَالَ: إِن هَذَا وضع اللِّسَان وَمُقْتَضَاهُ بِخِلَاف الْعِلَل المستنبطة. انْتهى.
وَهَذَا القَوْل يَنْبَغِي أَن يكون فِي أصل الْمَسْأَلَة، لَا هُنَا، وَلَكِن تابعنا ابْن مُفْلِح عَلَيْهِ.

(6/2928)


قَوْله: {الثَّانِي التَّقْسِيم، ك " الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا وَالْبكْر تستأذن " كَالْأولِ، ذكره الْمُوفق وَغَيره} ، وَتَابعه من بعده.
وَذَلِكَ لِأَن تقسيمه إِلَى قسمَيْنِ، وَتَخْصِيص كل وَاحِد بِحكم يدل على انْتِفَاء ذَلِك الحكم عَن الْقسم الأول الآخر، إِذْ لَو عَمهمَا لم يكن للتقسيم فَائِدَة، فَهُوَ من جملَة مَفْهُوم الصّفة.
قَوْله: {الثَّالِث: الشَّرْط} . أَي: الثَّالِث من أَقسَام مَفْهُوم الْمُخَالفَة الشَّرْط، وَالْمرَاد بِهِ مَا علق من الحكم على شَيْء بأداة الشَّرْط، ك (إِن) و (إِذا) وَنَحْوهمَا، وَهُوَ الْمُسَمّى بِالشّرطِ اللّغَوِيّ، لَا الشَّرْط الَّذِي هُوَ قسيم السَّبَب وَالْمَانِع الْمُتَقَدّم ذكره.
مِثَال الشَّرْط اللّغَوِيّ قَوْله: (وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن

(6/2929)


حَملهنَّ} [الطَّلَاق: 6] . دلّ منطوقه على وجوب النَّفَقَة على أولات الْحمل، فَهَل دلّ بِالْمَفْهُومِ بِالْعدمِ على الْعَدَم حَتَّى يسْتَدلّ بِهِ على منع وجوب النَّفَقَة للمعتدة غير الْحَامِل، أَو لَا.
ذهب الْأَكْثَر إِلَى دلَالَته عَلَيْهِ، وكل من قَالَ بِمَفْهُوم الصّفة يَقُول بِهِ؛ لِأَنَّهُ أقوى.
وَأما المنكرون لمَفْهُوم الصّفة فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بِهِ، مِنْهُم: ابْن سُرَيج، وَابْن الصّباغ، والكرخي، وَغَيره من الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن أَكثر الْعلمَاء وَبَالغ فِي الرَّد على منكره، وَنَقله ابْن الْقشيرِي عَن مُعظم أهل الْعرَاق، وَنَقله السُّهيْلي عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة.

(6/2930)


وَمِمَّنْ مَنعه كمفهوم الصّفة أَكثر الْمُعْتَزلَة، وَقَالُوا: لَا يَنْتَفِي بِعَدَمِهِ، بل هُوَ بَاقٍ على الأَصْل الَّذِي كَانَ قبل التَّعْلِيق، وَرجحه الْمُحَقِّقُونَ من الْحَنَفِيَّة الْجِرْجَانِيّ، وَغَيره، وَنقل عَن أبي حنيفَة، وَنَقله التلمساني عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والآمدي.
فتلخص أَنه لَا خلاف فِي انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الشَّرْط، لَكِن هَل الدَّال على الانتفاء صِيغَة الشَّرْط، أَو الْبَقَاء على الأَصْل؟ فَمن جعل الشَّرْط حجَّة قَالَ بِالْأولِ، وَمن أنكرهُ قَالَ بِالثَّانِي.
حجَّة الْقَائِل بِهِ مَا سبق من الْأَدِلَّة فِي مَفْهُوم الصّفة؛ وَلِأَنَّهُ يلْزم من عدم الشَّرْط عدم الْمَشْرُوط.
فَإِن قيل: يحْتَمل أَنه سَبَب لمسبب فَلَا تلازم.

(6/2931)


رد: خلاف الظَّاهِر، ثمَّ إِن قيل: باتحاد السَّبَب فَأولى بِالنَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ مُوجب للمسبب، وَإِن قيل: بتعدده فَالْأَصْل عَدمه.
وَقَوله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} [النُّور: 33] أَي: تعففا شَرط إِرَادَته فِي الْإِكْرَاه، لَا فِي تَحْرِيمه؛ لِاسْتِحَالَة الْإِكْرَاه إِلَّا عِنْد إِرَادَته، وَإِلَّا فَهِيَ تبغي طبعا.
وَقيل: النَّهْي لسَبَب، قَالَ جَابر كَانَ عبد الله بن أبي يَقُول لجارية لَهُ: اذهبي فابغينا شَيْئا، فَنزلت الْآيَة.
وَقيل: عَارض ظَاهر الْآيَة إِجْمَاع قَاطع.
وَبني صَاحب " الْمَحْصُول " الْخلاف على أصل وَهُوَ أَن عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة الشَّرْط مَانع من الحكم، وَعند الْحَنَفِيَّة من انْعِقَاد السَّبَب فالتعليق سَبَب.
وَعِنْدهم عِنْد وجود الشَّرْط، فَعدم الحكم مُضَاف إِلَى انْتِفَاء شَرطه مَعَ وجوب سَببه، وَعِنْدهم إِلَى عدم سَببه.

(6/2932)


وَقَالُوا: شَرط الْخِيَار فِي البيع خلاف الْقيَاس؛ لعدم إِمْكَان تَعْلِيق البيع؛ لِأَنَّهُ إِيجَاب، وَالْغَرَض التَّدَارُك فَجعل دَاخِلا على الحكم لمنع اللُّزُوم.
وَقَالُوا: لَو علق طَلاقهَا بقيامها، ثمَّ قَالَ: إِن طَلقتهَا فَعَبْدي حر ثمَّ قَامَت، فَالْقِيَاس يعْتق؛ لِأَنَّهُ طَلقهَا، لَكِن تَرَكْنَاهُ؛ لِأَن الْأَيْمَان تحمل على الْعرف، وَالْعَادَة إِنَّمَا يعْقد يَمِينه على مَا يُمكنهُ الِامْتِنَاع مِنْهُ.
وبنوا على هَذَا صِحَة تَعْلِيق الطَّلَاق بِالْملكِ، وَامْتِنَاع تَعْجِيل كَفَّارَة الْيَمين، وَأَن طول الْحرَّة، لَا يمْنَع من نِكَاح الْأمة.
وَبني صَاحب " الْمَحْصُول " الْخلاف فِي الصّفة؛ على هَذَا لمنعها من عمل اللَّفْظ الْمُطلق فَهِيَ كالشرط، وَعند الْحَنَفِيَّة غايتها عِلّة، وَلَا أثر لَهَا فِي النَّفْي.
قَوْله: {فَائِدَة: يسْتَعْمل الشَّرْط للتَّعْلِيل ك} قَوْله لوَلَده: {أَطْعمنِي إِن كنت ابْني} ، أَي: لِأَنَّك ابْني، وَإِذا كنت ابْني، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} [الْبَقَرَة: 172] .

(6/2933)


قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لفظ الشَّرْط أَصله التَّعْلِيق، ويستعمله الْعَرَب كثيرا للتَّعْلِيل، لَا للتعليق، فَهُوَ تَنْبِيه على السَّبَب الْبَاعِث على الْمَأْمُور بِهِ، لَا لتعليق الْمَأْمُور بِهِ، فالمقصود التَّنْبِيه على الصّفة الباعثة، لَا التَّعْلِيق. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِنَّمَا يعْتَبر مَفْهُوم الشَّرْط وَغَيره حَيْثُ لم يظْهر للتخصيص فَائِدَة، كَمَا قدمْنَاهُ، وَمثله: (واشكروا نعْمَة الله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ) ، وَقَول الْقَائِل لِابْنِهِ: أطعني إِن كنت ابْني، فَإِن المُرَاد التَّنْبِيه على السَّبَب الْبَاعِث للْحكم، لَا تَقْيِيد الحكم بِهِ. انْتهى.
قَوْله: {الرَّابِع: الْغَايَة، ك {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} [الْبَقَرَة: 230] وَهُوَ أقوى من الشَّرْط} ، أَي: الرَّابِع من مَفْهُوم الْمُخَالفَة مَفْهُوم الْغَايَة، وَهُوَ مد الحكم بأداة الْغَايَة ك (إِلَى) و (حَتَّى) و (اللَّام) .
فمثال الْغَايَة قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] ، {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] ، (فَلَا تحل لَهُ [من بعد] حَتَّى

(6/2934)


تنْكح زوجا غَيره} [الْبَقَرَة: 230] ، وَحَدِيث: " لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول ".
وَهُوَ حجَّة عِنْد الْجُمْهُور، وَقد نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَغَيره من الْأَئِمَّة.
وَقد اعْترف بِهِ من أنكر مَفْهُوم الشَّرْط كَابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّار، وَأبي الْحُسَيْن، وَإِلَيْهِ ذهب مُعظم نفاة الْمَفْهُوم كَمَا قَالَه الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، قَالَ: كُنَّا نصرنَا إبِْطَال حكم الْغَايَة وَالأَصَح عندنَا القَوْل بِهِ.
وَلِهَذَا أَجمعُوا على تَسْمِيَتهَا حُرُوف الْغَايَة، وَغَايَة الشَّيْء نهايته فَلَو ثَبت الحكم بعْدهَا لم يفد تَسْمِيَتهَا غَايَة.

(6/2935)


وَذهب أَكثر الْحَنَفِيَّة وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء، والمتكلمين، والتميمي من أَصْحَابنَا - ذكره عَنهُ ابْن شهَاب - والآمدي إِلَى الْمَنْع.
قَالَ الْحَنَفِيَّة: هُوَ من قبيل الْإِشَارَة، وَهِي مَا اسْتُفِيدَ من اللَّفْظ غير مَقْصُود بِهِ، كَمَا سبق لَا الْمَفْهُوم.
قَالَ ابْن عقيل، وَالْمجد: لَيْسَ لَهَا مَفْهُوم مُوَافقَة.
قَالَ الباقلاني: وَاقع الِاتِّفَاق على تَقْدِير ضد الحكم بعْدهَا فَفِي: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} يقدر: فاقربوهن، وَفِي {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} يقدر: فَتحل، وَنَحْو ذَلِك، وَلَا شكّ أَن الْمُضمر كالملفوظ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أضمر لسبقه إِلَى فهم الْعَارِف بِاللِّسَانِ فَكَأَنَّهُ نَص أهل اللُّغَة على أَنه مَنْطُوق.
وَهَذَا من الباقلاني يدل على أَن انْتِفَاء الحكم فِيمَا بعد الْغَايَة من جِهَة الْمَنْطُوق لَا الْمَفْهُوم على خلاف مَا نَقله ابْن الْحَاجِب عَنهُ.

(6/2936)


وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْعَبدَرِي، وَابْن الْحَاج، وَصَاحب " البديع " من الْحَنَفِيَّة: ذهب طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة إِلَى عدم اعْتِبَار مَفْهُوم الْغَايَة.
اسْتدلَّ الْقَائِل بِهِ بِمَا سبق فِي مَفْهُوم الصّفة [و] اسْتدلَّ بِأَن معنى: صُومُوا إِلَى أَن تغيب الشَّمْس: صُومُوا صوما آخِره غيبوبة الشَّمْس، فَلَو وَجب صَوْم بعْدهَا كَانَت وسطا، لَا آخرا.
ورده الْآمِدِيّ بِأَن هَذَا مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا الْخلاف هَل نفي الحكم بعد الْغَايَة لَازم من التَّقْيِيد بهَا، وَهِي غَايَة للصَّوْم الْمَأْمُور بِهِ أَو لَا.
وَإِنَّمَا تصير وسطا لَو اسْتندَ الصَّوْم بعْدهَا إِلَى الْخطاب قبلهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك.
وَجَوَابه: أَن هَذَا ظَاهر التَّقْيِيد مَا لم يُعَارضهُ دَلِيل، وَلِهَذَا يتَبَادَر إِلَى الْفَهم، وَلَا يحسن الِاسْتِفْهَام فِيمَا بعْدهَا.
وَسلم الْآمِدِيّ أَنه لَا يحسن، لَكِن لعدم دلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهِ، وَفِيه نظر لاحْتِمَاله عِنْده.

(6/2937)


وَقَالَ ابْن عقيل: لَا يحسن التَّصْرِيح بِأَن مَا بعْدهَا كَمَا قبلهَا، وَهُوَ خلاف مَا فِي " التَّمْهِيد " فِيهِ، وَفِي الشَّرْط وَنقض بهما فِي الصّفة.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا مَانع مِنْهُ إِجْمَاعًا.
فَائِدَة: إِذا تصور فِي الْغَايَة تطاول: هَل يتَعَلَّق الحكم بأولها، أَو يتَوَقَّف الحكم على تَمامهَا؟ الْأَكْثَر على الأول.
تظهر فَائِدَته فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} [الْبَقَرَة: 196] فَيجب دم التَّمَتُّع إِذا فرغ من الْعمرَة وَأحرم بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يُسمى حِينَئِذٍ مُتَمَتِّعا فيكتفي بأولها، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَرِوَايَة عَن أَحْمد، وَقَالَ مَالك: مَا لم يقف بِعَرَفَة لَا يجب دم التَّمَتُّع،

(6/2938)


وَعَن أَحْمد رِوَايَة: يلْزم الدَّم بِالْوُقُوفِ.
وَقَالَ عَطاء: مَا لم يرم جَمْرَة الْعقبَة.
منشأ ذَلِك أَنه لَا يَكْتَفِي بِأول الْغَايَة، وَالصَّحِيح عندنَا وجوب الدَّم بِطُلُوع فجر يَوْم النَّحْر.
قَوْله: {الْخَامِس: الْعدَد لغير مُبَالغَة كثمانين جلدَة، قَالَ بِهِ أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمَالك، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَحكي عَن الشَّافِعِي.
ونفاه ابْن شاقلا، وَالْقَاضِي، وَالْحَنَفِيَّة، والأشعرية،

(6/2939)


وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَجعله أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو الطّيب وَجمع من قسم الصِّفَات} .
أَي: الْخَامِس من أَنْوَاع مَفْهُوم الْمُخَالفَة مَفْهُوم الْعدَد، أَي: تَعْلِيق الحكم بِعَدَد مَخْصُوص، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} [النُّور: 4] وَهُوَ كالصفة.
قَالَ بِهِ الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمَالك، وَدَاوُد، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَمِنْهُم: الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، وَابْن الصّباغ فِي " الْعدة "، وسليم، قَالَ: وَهُوَ دليلنا فِي نِصَاب الزَّكَاة وَالتَّحْرِيم بِخمْس رَضعَات.

(6/2940)


وَنَقله أَبُو حَامِد، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْمَاوَرْدِيّ عَن نَص الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن الرّفْعَة: القَوْل بِمَفْهُوم الْعدَد هُوَ الْعُمْدَة عندنَا فِي [عدم] تنقيص الْحِجَارَة فِي الِاسْتِنْجَاء من الثَّلَاثَة.
ونفاه الْحَنَفِيَّة، والمعتزلة، والأشعرية، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو يعلى فِي جُزْء صنفه فِي الْمَفْهُوم.
وَذكره أَبُو الْخطاب عَن أبي إِسْحَاق من أَصْحَابنَا فِي مَسْأَلَة الزِّيَادَة على النَّص: هَل هِيَ نسخ أم لَا؟ اسْتدلَّ الْقَائِل بِهِ بِمَا سبق فِي الصّفة من قَوْله: " لأزيدن على السّبْعين " وَلِئَلَّا يعرى عَن فَائِدَة.

(6/2941)


فَائِدَة: مَحل الْخلاف فِي ذَلِك فِي عدد لم يقْصد بِهِ التكثير كالألف وَالسبْعين، وَنَحْوهمَا مِمَّا يسْتَعْمل فِي لُغَة الْعَرَب للْمُبَالَغَة.
قَالَ ابْن فورك وَغَيره: فَإِن قَوْلهم الْعدَد نُصُوص إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَا قرينَة تدل على إِرَادَة الْمُبَالغَة، نَحْو: جئْتُك ألف مرّة فَلم أجدك. قَالَ: وَبِذَلِك يعلم ضعف الِاحْتِجَاج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما نزل: {إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} [التَّوْبَة: 80] : " لأزيدن على السّبْعين "، فَعمل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَفْهُومِ فِيهِ، وَذَلِكَ من أشهر حجج المعتبرين لمَفْهُوم الْعدَد.
بل وَيُجَاب عَنهُ بِأَمْر آخر وَهُوَ: أَنه لَعَلَّه قَالَه رَجَاء لحُصُول الْمَغْفِرَة بِنَاء على بَقَاء حكم الأَصْل، وَهُوَ الرَّجَاء الَّذِي كَانَ ثَابتا قبل نزُول الْآيَة، لَا لِأَنَّهُ فهمه من التَّقْيِيد.
وَجَوَاب الباقلاني، وَأبي الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، وَمن تَبِعَهُمْ بالطعن فِي الحَدِيث غير سديد؛ فَإِنَّهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " بِلَفْظ " سأزيد ".

(6/2942)


قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ: وَمَا رَوَاهُ أَبُو عبيد: " لأزيدن على السّبْعين " لَا يَصح؛ فَإِنَّهُ يمْتَنع غفران ذَنْب الْكَافِر، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيّ: " لَو علمت أَنه يغْفر لَهُ إِذا زِدْت على السّبْعين لزدت ". انْتهى.
وَهَذِه الزِّيَادَة فِي البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز بِلَفْظ: " لَو أعلم أَنِّي إِن زِدْت على سبعين يغْفر لَهُ لزدت عَلَيْهَا "، وَهِي فِي البُخَارِيّ أَيْضا فِي تَفْسِير سُورَة بَرَاءَة.
قَالَ ابْن فورك: وَلَيْسَ بمستنكر استغفاره - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -؛ لِأَنَّهَا لَا تستحيل عقلا، والإجابة مُمكنَة.
وتلطف ابْن الْمُنِير فَقَالَ: لَعَلَّ الْقَصْد بالاستغفار التَّخْفِيف كَمَا فِي

(6/2943)


الدُّعَاء بِهِ لأبي طَالب وَقَوله: " لأزيدن على السّبْعين " أَي: أفعل ذَلِك؛ لأثاب على الاسْتِغْفَار، فَإِنَّهُ عبَادَة. قلت: وَهُوَ عَجِيب، فَإِنَّهُ خلاف مُقْتَضى سِيَاق الْآيَة، وَقد تقدم مَا فِي الْآيَة من الْبَحْث فِي مَفْهُوم الصّفة فليعاود.
قَوْله: {وَجعله أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو الطّيب وَجمع من قسم الصِّفَات} ؛ لِأَن قدر الشَّيْء صفته.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتِيَار أبي الْمَعَالِي أَنه من قسم الصِّفَات، وَكَذَا قَالَ أَبُو الطّيب وَغَيره؛ لِأَن قدر الشَّيْء صفته.
قَوْله: {وَنفى السُّبْكِيّ مَفْهُوم الْمَعْدُود} ، فَقَالَ: التَّحْقِيق عِنْدِي أَن الْخلاف فِي مَفْهُوم الْعدَد إِنَّمَا هُوَ عِنْد ذكر نفس الْعدَد، وَأما الْمَعْدُود

(6/2944)


فَلَا يكون مَفْهُومه حجَّة، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ " فَلَا يكون فِيهِ تَحْرِيم ميتَة ثَالِثَة.
قَالَ بَعضهم كَذَا فِي " شرح الْبَيْضَاوِيّ " للسبكي، وَصَوَابه: عدم حل ميتَة ثَالِثَة، وَهُوَ الصَّوَاب.
قَوْله: {السَّادِس اللقب، وَهُوَ تَخْصِيص اسْم بِحكم، حجَّة عِنْد أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمَالك، وَدَاوُد، والصيرفي، والدقاق، وَابْن فورك، وَابْن خويزمنداد، وَابْن الْقصار.

(6/2945)


ونفاه القَاضِي} فِي الْجُزْء الَّذِي صنفه فِي الْمَفْهُوم، {وَابْن عقيل} فِي تَقْسِيم الْأَدِلَّة، {وَأكْثر الْعلمَاء، و} كَذَلِك {الْمُوفق، وَقَالَ: وَلَو كَانَ مشتقا كالطعام.
وَقَيده بعض أَصْحَابنَا بِغَيْر الْمُشْتَقّ} .
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَيصير فِي الْمُشْتَقّ اللَّازِم كالطعام، هَل هُوَ من الصّفة أَو اللقب؟ وَجْهَان.
وَقَالَ الْمجد بن تَيْمِية، وَغَيره من أَصْحَابنَا وَقَالَ: أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو الطّيب فِي مَوضِع أَنه حجَّة بعد سَابِقَة مَا يعمه كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ترابها طهُور " بعد قَوْله: " جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا "، كَمَا لَو قيل: يَا رَسُول الله، أَفِي بَهِيمَة الْأَنْعَام زَكَاة؟ فَقَالَ: فِي الْإِبِل زَكَاة. أَو: هَل نبيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ؟ فَقَالَ: لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ تَقْوِيَة للخاص بِالْعَام كالصفة بالموصوف.
قَالَ: وَأكْثر مَا جَاءَ عَن أَحْمد فِي مَفْهُوم اللقب لَا يخرج عَن هَذَا،

(6/2946)


وَجعله الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: [حجَّة] فِي اسْم الْجِنْس، لَا اسْم عين؛ لِأَن خطاب الشَّارِع إِنَّمَا يَجِيء عَاما، لَا شخصا. انْتهى.
وَجه القَوْل الأول: لَو تعلق الحكم بِالْعَام لم يعلق بالخاص؛ لِأَنَّهُ أخص وأعم؛ وَلِأَنَّهُ يُمَيّز مُسَمَّاهُ كالصفة.
فَإِن قيل: الصّفة يجوز جعلهَا عِلّة.
قيل: وَكَذَا الِاسْم، فالتراب عِلّة.
وَاحْتج ابْن عقيل: لَو قَالَ لمن يخاصمه: مَا أُمِّي بزانية، فهم نِسْبَة الزِّنَا إِلَى أمه، وحد عِنْد مَالك وَأحمد.
رد: هَذِه للقرينة.
الْقَائِل بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة - مَا سبق من الْفرق بَينه وَبَين الصّفة - اسْتدلَّ: يلْزم كفر من قَالَ: مُحَمَّد رَسُول الله، وَزيد مَوْجُود، ظَاهرا.
رد: لَا يكفر؛ لِأَنَّهُ لم ينتبه للدلالة، أَو لم يردهَا.

(6/2947)


وَاسْتدلَّ: يلْزم إبِْطَال الْقيَاس لظُهُور الأَصْل فِي مُخَالفَة الْفَرْع لَهُ ظَاهرا.
رد: سبق فِي تَخْصِيص الْعَام بِالْمَفْهُومِ يقدم الْقيَاس، أَو يتعارضان، وَسبق فِي الصّفة أَن مَعَ الْمُسَاوَاة لَا مَفْهُوم.
وَأجَاب فِي " الْعدة ": يبطل بِالصّفةِ تمنع الْقيَاس كَذَا هُنَا.
وَأجَاب أَيْضا هُوَ، وَصَاحب " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ يدل لُغَة ويمنعه شرعا، وَبِأَنَّهُ حجَّة مَا لم يسْقط الْقيَاس.
وَاسْتدلَّ: لَو دلّ لم يحسن الْخَبَر عَن أكل زيد إِلَّا بعد علمه بنفيه عَن غَيره.
رد: للقرينة.
وَاسْتدلَّ: لَا يدل على نَفْيه عَن عَمْرو.
أجَاب فِي " التَّمْهِيد " بِمَنْعه إِن أخبر عَنْهُمَا، نَحْو: دعوتهما فَأكل زيد، ثمَّ هَذَا فِي الْخَبَر بِخِلَاف التَّكْلِيف.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره " تبعا لغيره قَالَ: الْمَانِع من مَفْهُوم الْمُخَالفَة لَو

(6/2948)


دلّ الْمَفْهُوم على نفي مَا عدا الْمَنْطُوق لدل: زيد عَالم، وَمُحَمّد رَسُول الله على نفي الْعلم، والرسالة عَن غَيرهمَا.
قُلْنَا: مَفْهُوم اللقب، وَفِي كَونه حجَّة خلاف وَإِن سلم فلدلالة الْعقل والحس على عدم اخْتِصَاصه. انْتهى.
قَوْله: {وَنفى قوم الْمَفْهُوم فِي الْخَبَر، والسبكي فِي غير الشَّرْع} .
إِذا كَانَ الْمَفْهُوم فِي الْأَمر وَالنَّهْي عمل بِهِ، وَإِن كَانَ فِي الْخَبَر، كَقَوْلِه: زيد الطَّوِيل فِي الدَّار، فَسلم القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " أَنه لَا يدل على الْقصر بِنَفْي، وَلَا إِثْبَات، وَقد قَالَ قبل هَذَا: إِن تَعْلِيق هَذَا الْوُجُوب والإخبار بِالْأَلْقَابِ يَقْتَضِي النَّفْي.
وَأخذ هَذَا القَوْل أَيْضا من كَلَام الْحَاجِب بالاستدلال.
وَقَالَ السُّبْكِيّ: لَا يعْمل بهَا فِي كَلَام الْآدَمِيّين، وَلَيْسَت بِحجَّة فِي كَلَامهم كالأوقاف والأقارير وَغَيرهمَا؛ لغَلَبَة ذهولهم، وَإِنَّمَا هِيَ حجَّة فِي خطاب الشَّرْع خَاصَّة؛ لعلمه ببواطن الْأُمُور وظواهرها.

(6/2949)


قَالَ: فَلَو وقف على الْفُقَرَاء، لَا نقُول: إِن الْأَغْنِيَاء خارجون بِالْمَفْهُومِ، بل عدم استحقاقهم بِالْأَصْلِ.
قَوْله: {إِذا خص نوع بِالذكر بمدح، أَو ذمّ، أَو غَيره، مِمَّا لَا يصلح للمسكوت فَلهُ مَفْهُوم} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} [المطففين: 15] فالحجاب عَذَاب، فَلَا يحجب من لَا يعذب، وَلَو حجب الْجَمِيع لم يكن عذَابا.
قَالَ الإِمَام مَالك: لما حجب أعداءه تجلى لأوليائه حَتَّى رَأَوْهُ.
وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: لما حجب هَؤُلَاءِ فِي السخط كَانَ فِي هَذَا دَلِيل على أَن أولياءه يرونه فِي الرضى.
وَقَالَ أَيْضا: فِي الْآيَة دلَالَة على أَن أولياءه يرونه يَوْم الْقِيَامَة بأبصار وُجُوههم.
وبهذه الْآيَة اسْتدلَّ الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْأَئِمَّة على الرُّؤْيَة للْمُؤْمِنين.
قَالَ الزّجاج: لَوْلَا ذَلِك لم يكن فِيهَا فَائِدَة، وَلَا خست ...

(6/2950)


مَنْزِلَتهمْ بحجبهم.
قَوْله: {وَإِذا اقْتضى الْحَال، أَو اللَّفْظ عُمُوم الحكم، لَو عَم فتخصيص بعض بِالذكر لَهُ مَفْهُوم، ذكره الشَّيْخ وَغَيره} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وفضلناهم على كثير} ، وَقَوله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ} - إِلَى قَوْله: - {وَكثير من النَّاس} [الْحَج: 18] .
قَوْله: {وَفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ دَلِيل كدليل الْخطاب عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، وَمنعه ابْن عقيل وَغَيره} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: فعله عَلَيْهِ السَّلَام لَهُ دَلِيل، ذكره أَصْحَابنَا، مِنْهُم: القَاضِي، وَأَخذه من قَول أَحْمد: لَا يصلى على ميت بعد شهر لحَدِيث أم سعد، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَرُوَاته ثِقَات.

(6/2951)


عَن سعيد بن الْمسيب: (أَن أم سعد مَاتَت وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَائِب، فَلَمَّا قدم صلى عَلَيْهَا وَقد مضى لذَلِك شهر) .
وَضعف هَذِه الدّلَالَة بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَأكْثر كَلَام ابْن عقيل مثله، وَجوز أَن الْمُسْتَند اسْتِصْحَاب الْحَال، وَقَالَ: لَيْسَ للْفِعْل صِيغَة تخص، وَلَا تعم فضلا على أَن نجْعَل لَهَا دَلِيل خطاب.
وَذكر بَعضهم مَفْهُوم قرَان الْعَطف، وسبقت الْمَسْأَلَة فِي الْعُمُوم.
قَوْله: فَائِدَة: كل دلَالَة الْمَفْهُوم بالالتزام، أخذت ذَلِك من كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل، بِمَعْنى أَن النَّفْي فِي الْمَسْكُوت لَازم للثبوت فِي الْمَنْطُوق مُلَازمَة ظنية، لَا قَطْعِيَّة. انْتهى.
قَوْله { (إِنَّمَا) بِالْكَسْرِ تفِيد الْحصْر نطقا عِنْد أبي الْخطاب، وَابْن

(6/2952)


الْمَنِيّ، والموفق، وَالْفَخْر، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة.
وَعند القَاضِي، وَابْن عقيل، والحلواني، وَالْأَكْثَر فهما، وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، والآمدي، والطوفي، وَغَيرهم: لَا تفيده، بل تؤكد الْإِثْبَات} .
أَكثر الْعلمَاء قَالُوا: إِن (إِنَّمَا) تفِيد الْحصْر، وَهُوَ إِثْبَات الحكم فِي الْمَذْكُور ونفيه عَمَّا عداهُ، فَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَابْن الْمَنِيّ، وَالشَّيْخ الْمُوفق، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد، وَغَيرهم من أَصْحَابنَا،

(6/2953)


والجرجاني وَغَيره من الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو حَامِد الْمروزِي وَغَيره من الشَّافِعِيَّة: إِنَّهَا تفيده نطقا.
وَعند القَاضِي أبي يعلى، وَابْن عقيل، والحلواني، وَأكْثر الْعلمَاء: تفيده بِالْمَفْهُومِ، مِنْهُم جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين.
وَأطلق الإفادة الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وألكيا، والرازي وَأَتْبَاعه.
وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، والآمدي، والطوفي من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: لَا تفيده، بل تؤكد الْإِثْبَات فَلَا تفِيد الْحصْر، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَيَّان، وَقَالَ: كَمَا لَا يفهم ذَلِك من أخواتها المكفوفة ب (مَا) مثل:

(6/2954)


ليتما، ولعلما، وَإِذا فهم من (إِنَّمَا) حصر فَإِنَّمَا هُوَ من السِّيَاق، لَا أَنَّهَا تدل عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ، وَبَالغ فِي إِنْكَار ذَلِك، وَنَقله عَن الْبَصرِيين.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه نظر، فَإِن إِمَام اللُّغَة نقل عَن أهل اللُّغَة أَنَّهَا تفيده، نَحْو: إِنَّمَا الْمَرْء بأصغريه، بِمَعْنى: قلبه وَلسَانه، أَي: كَمَا لَهُ بِهَذَيْنِ العضوين، لَا بهيئته ومنظره، ثمَّ قَالَ: نعم، لَهُم طرق فِي إفادتها، أقواها: نقل أهل اللُّغَة، واستقراء استعمالات الْعَرَب إِيَّاهَا فِي ذَلِك، وأضعفها طَريقَة الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: أَن (إِن) للإثبات و (مَا للنَّفْي، وَلَا يَجْتَمِعَانِ فَيجْعَل الْإِثْبَات للمذكور، وَالنَّفْي للمسكوت. ورد: بِمن كل من الْأَمريْنِ؛ لِأَن (إِن) لتوكيد النِّسْبَة نفيا كَانَ أَو إِثْبَاتًا، نَحْو: إِن زيدا قَامَ، وَإِن زيدا لم يقم.
و (مَا) كَافَّة لَا نَافِيَة على الْمُرَجح، وَبِتَقْدِير التَّسْلِيم فَلَا يلْزم اسْتِمْرَار الْمَعْنى فِي حَالَة الْإِفْرَاد [أَو] حَالَة التَّرْكِيب.
وَقَالَ السكاكي: لَيْسَ الْحصْر فِي (إِنَّمَا) لكَون (مَا) للنَّفْي كَمَا يفهمهُ من لَا وقُوف لَهُ على النَّحْو؛ لِأَنَّهَا لَو كَانَت للنَّفْي لَكَانَ لَهَا الصَّدْر. ثمَّ حكى عَن الربعِي أَن التَّأْكِيد إِثْبَات الْمسند للمسند إِلَيْهِ، و (مَا) مُؤَكدَة فَنَاسَبَ معنى الْحصْر، ورضيه.

(6/2955)


دَلِيل الْقَائِل بالحصر: تبادر الْفَهم بِلَا دَلِيل.
عورض: هَذَا لَو انحصر دَلِيل الْحصْر فِي (إِنَّمَا) .
وَجَوَابه: الأَصْل عدم غَيره، وَالْفَرْض فِيهِ، وَاحْتج ابْن عَبَّاس على إِبَاحَة رَبًّا الْفضل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة " وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وشاع فِي الصَّحَابَة، وَلم يُنكر، وَعدل إِلَى دَلِيل.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيهِ نظر؛ إِن ابْن عَبَّاس رَوَاهُ عَن أُسَامَة بِلَفْظ: " لَيْسَ الرِّبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَة " كَمَا فِي مُسلم، فَيحْتَمل أَنه مُسْتَند ابْن عَبَّاس.
وَقد يُجَاب بِأَنَّهُم قد رووا أَنه اسْتدلَّ بذلك وَأَنَّهُمْ لما وافقوه كَانَ كالإجماع، وَإِن كَانَ قد رَوَاهُ مرّة أُخْرَى بِصِيغَة (إِلَّا) وغايته أَن الصيغتين سَوَاء فاستدل بِهَذِهِ تَارَة، وبهذه أُخْرَى. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضا: " لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة ". ثمَّ قَالَ: وَاسْتدلَّ بِأَن (إِن) للإثبات و (مَا) للنَّفْي.
رد: تحكم؛ لِأَن (مَا) لَهَا أَقسَام، ثمَّ يلْزم نفي طلب الْمجد فِي قَول امْرِئ الْقَيْس:

(6/2956)


(ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... )

وَهُوَ يُنَاقض مَا قبله وَمَا بعده.
ثمَّ (مَا) هُنَا زَائِدَة عِنْد النُّحَاة، تكف (إِن) عَن الْعَمَل، وَأَن كلا مِنْهُمَا لَهُ صدر الْكَلَام فَلَا يجمع بَينهمَا ك (لَام) الِابْتِدَاء مَعَ إِن، لَكِن تدخل لَام الِابْتِدَاء على خَبَرهَا، وَتدْخل عَلَيْهِ (مَا) إِن كَانَ جملَة و (إِن) لتأكيد مضمونها.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " و " الرَّوْضَة " وَغَيرهمَا: (إِنَّمَا) كأداة الِاسْتِثْنَاء، رد: عين الدَّعْوَى.
الْقَائِل بِعَدَمِهِ: إِنَّمَا زيد قَائِم بِمَعْنى إِن زيدا قَائِما و (مَا) زَائِدَة فَهِيَ كَالْعدمِ؛ وَلِأَنَّهَا ترد للحصر وَغَيره فَيلْزم مِنْهُ الْمجَاز أَو الِاشْتِرَاك، وهما خلاف الأَصْل.
رد: بِمَا سبق وَيُخَالف الأَصْل لدَلِيل.

(6/2957)


قَوْله: {وَقد ترد لتحقيق الْمَنْصُوص لَا لنفي غَيره، نَحْو: إِنَّمَا الْكَرِيم يُوسُف} بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: {وَالأَصَح أَن الْمَفْتُوحَة كالمكسورة} ، ذكره الزَّمَخْشَرِيّ وَغَيره، وَادّعى إفادتها للحصر فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوحى إِلَيّ أَنما إِلَهكُم إِلَه وَاحِد} [الْأَنْبِيَاء: 108] وَقَالَ: إِن الْقصر فِي (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَة الأولى فِي الْآيَة قصر الحكم على الشَّيْء، وَفِي (إِنَّمَا) الثَّانِيَة الْمَفْتُوحَة قصر الشَّيْء على الحكم.
يُرِيد بذلك قصر الصّفة على الْمَوْصُوف، وَعَكسه.
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة على أَن الْمَفْتُوحَة فرع الْمَكْسُورَة على أصح الْمذَاهب، وَقد عد سِيبَوَيْهٍ الْمَكْسُورَة والمفتوحة وَاحِدًا.
وَقد رد أَبُو حَيَّان على الزَّمَخْشَرِيّ ذَلِك، رد: كَلَام أبي حَيَّان.

(6/2958)


وَقيل: الْمَكْسُورَة فرع الْمَفْتُوحَة.
وَقيل: كل مِنْهُمَا أصل بِرَأْسِهِ، حكاهن ابْن الخباز، وَهُوَ مِمَّا يُقَوي كَلَام الزَّمَخْشَرِيّ.
قَوْله: {" تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم "، والعالم زيد، وصديقي زيد، وَلَا قرينَة عهد تفِيد الْحصْر نطقا، عِنْد القَاضِي، والموفق، وَالْمجد، والمحققين، وَقيل: فهما.

(6/2959)


وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، والباقلاني والآمدي: لَا تفيده} .
من صِيغ الْحصْر الْمُعْتَبر مَفْهُومه حصر الْمُبْتَدَأ فِي الْخَبَر، وَله صيغتان:
إِحْدَاهمَا: نَحْو: صديقي زيد، قَالَه الْمُحَقِّقُونَ مستدلين بِأَن صديقي عَام فَإِذا أخبر عَنهُ بخاص وَهُوَ زيد كَانَ حصرا لذَلِك الْعَام، وَهُوَ الأصدقاء كلهم فِي الْخَبَر، وَهُوَ زيد؛ إِذْ لَو نفى من أَفْرَاد الْعُمُوم مَا لم يدْخل فِي الْخَبَر لزم أَن يكون الْمُبْتَدَأ أَعم من الْخَبَر، وَذَلِكَ لَا يجوز.
قَالَ الْغَزالِيّ: لَا لُغَة وَلَا عقلا، فَلَا نقُول: الْحَيَوَان إِنْسَان، وَلَا الزَّوْج عشرَة، بل أَن يكون الْمُبْتَدَأ أخص أَو مُسَاوِيا. انْتهى.
وَقد حكى ابْن الْحَاجِب فِي أَمَالِيهِ فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: هَذَا.
وَالثَّانِي: مثله، إِلَّا أَن أَيهمَا قَدمته فَهُوَ الْمُبْتَدَأ، لَكِن تَقْدِيم (صديقي) يُفِيد الْحصْر، وَتَقْدِيم زيد لَا يفِيدهُ.
وَالثَّالِث: اسْتِوَاء التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير فَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن تُرِيدُ بصديقي خَاصّا، أَو عَاما، إِن أردْت عَاما فَلَا حصر سَوَاء قدمت، أَو أخرت.
وَإِن أدرت خَاصّا أَفَادَ الْحصْر سَوَاء قدمت أَو أخرت.

(6/2960)


إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح أَنه يُفِيد ذَلِك نطقا عِنْد القَاضِي، والموفق، وَالْمجد، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَغَيرهم.
وَعند الْغَزالِيّ، وَبَعض الْفُقَهَاء إِنَّمَا يفِيدهُ من الْمَفْهُوم.
والصيغة الثَّانِيَة: قَوْلنَا: الْعَالم زيد، وَزيد الْعَالم، إِذا جعلت اللَّام للْحَقِيقَة، أَو للاستغراق لَا للْعهد.
وَالْحكم فيهمَا كالصيغ الَّتِي قبلهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله: تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم؛ لِأَنَّهُ مُضَاف إِلَى ضمير عَائِد إِلَى الصَّلَاة، وفيهَا اللَّام.
وَبِه احْتج أَصْحَابنَا، وَأَصْحَاب الشَّافِعِي على تعْيين لَفْظِي التَّكْبِير، وَالتَّسْلِيم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم ".
وَمنعه الْحَنَفِيَّة لمنعهم المفاهيم.
ورد: بِأَن التَّعْيِين مُسْتَفَاد من الْحصْر الْمَدْلُول عَلَيْهِ بالمبتدأ وَالْخَبَر، فَإِن التَّحْرِيم منحصر فِي التَّكْبِير: كانحصار زيد فِي صداقتك إِذا قلت: صديقي زيد.

(6/2961)


وَأما إِذا كَانَ الْخَبَر نكرَة، نَحْو: زيد قَائِم، فَالْأَصَحّ أَنَّهَا لَا تفِيد الْحصْر، كَمَا فِي الحَدِيث: " الصّيام جنَّة "، فَإِنَّهُ لَا يمْنَع أَن غَيره أَيْضا جنَّة، وَلِهَذَا جَاءَ: " فليتق النَّار وَلَو بشق تَمْرَة ".
وَقيل: يفِيدهُ.
فَقيل: نطقا.
وَقيل: فهما، كَمَا فِي الَّتِي قبلهَا.
قَوْله: {وَمثله حصر بِنَفْي وَنَحْوه، واستثناء تَامّ، ومفرغ، وَفصل الْمُبْتَدَأ من الْخَبَر بضمير الْفَصْل، وَتَقْدِيم الْمَعْمُول} .
فَحصل الْحصْر بِالنَّفْيِ وَنَحْوه، وبالاستثناء التَّام، والمفرغ، وَسَوَاء كَانَ النَّفْي ب (مَا) أَو (لَا) أَو (لَيْسَ) أَو (لم) أَو (إِن) أَو (أما) ، وَهُوَ فِي معنى النَّفْي، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَهَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الْفَاسِقُونَ} [الْأَحْقَاف: 35] ، و {يَأْبَى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} [التَّوْبَة: 32] ، وَلذَا قُلْنَا فِي الْمَتْن بِنَفْي وَنَحْوه، وَسَوَاء كَانَت أَدَاة الِاسْتِثْنَاء (إِلَّا) أَو غَيرهَا نَحْو: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَمَا لي سوى الله،

(6/2962)


(رضيت بك اللَّهُمَّ رَبًّا فَلَنْ أرى ... أدين إِلَهًا غَيْرك الله وَاحِدًا)

وَمَا قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَمَا رَأَيْت إِلَّا زيدا، وَنَحْوه، وَهُوَ وَاضح.
وَقد اعْترف أَكثر منكري الْمَفْهُوم كالباقلاني، وَالْغَزالِيّ بِاعْتِبَار الْمَفْهُوم هُنَا، وأصر الْحَنَفِيَّة على نفيهم.
وَالصَّحِيح أَن الدّلَالَة هُنَا بالمنطوق بِدَلِيل مَا لَو قَالَ: مَاله عَليّ إِلَّا دِينَار كَانَ ذَلِك إِقْرَارا بالدينار، وَلَو كَانَ بِالْمَفْهُومِ لم يُؤَاخذ بِهِ لعدم اعْتِبَار الْمَفْهُوم فِي الأقارير، وَبِذَلِك صرح ابْن الْقطَّان فِي نَحْو: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، و " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل " فَقَالَ: إِن النَّفْي وَالْإِثْبَات كِلَاهُمَا بالمنطوق، وَلَيْسَ أَحدهمَا بِالْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّك لَو قلت: لَا تعط زيدا شَيْئا إِلَّا إِن دخل الدَّار، كَانَ الْعَطاء وَالْمَنْع مَنْصُوصا عَلَيْهِمَا.
وَمن جزم بِأَنَّهُ مَنْطُوق أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " الملخص ".

(6/2963)


وَرجحه الْقَرَافِيّ فِي " الْقَوَاعِد ".
وَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَفْهُوم تبعا للمشهور فِي كتب الْأُصُول.
وَمن الْحصْر أَيْضا: الْحصْر بضمير الْفَصْل، نَحْو: زيد هُوَ الْعَالم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} [الْكَوْثَر: 3] ، {فَالله هُوَ الْوَلِيّ} [الشورى: 9] ذكره البيانيون.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: صَار إِلَيْهِ بعض الْعلمَاء لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} [الصافات: 173] فَإِنَّهُ لم يسق إِلَّا للإعلام بِأَنَّهُم الغالبون دون غَيرهم، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار} [غَافِر: 43] ، و {إِن الله هُوَ الغفور الرَّحِيم} [الشورى: 5] .
وَالثَّانِي: أَنه لم يوضع للإفادة، وَلَا فَائِدَة فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين} [الزخرف: 76] سوى الْحصْر.
ويفيد الِاخْتِصَاص الْحصْر أَيْضا وَهُوَ تَقْدِيم الْمَعْمُول.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} [الْفَاتِحَة: 5]

(6/2964)


أَي: نخصك بِالْعبَادَة والاستعانة، وَهَذَا معنى الْحصْر، وَسَوَاء فِي الْمَفْعُول وَالْحَال، والظرف وَالْخَبَر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُبْتَدَأ، نَحْو: تميمي أَنا، وَبِه صرح صَاحب " الْمثل السائر "، وَأنْكرهُ عَلَيْهِ صَاحب " الْفلك "، وَقَالَ: لم يقل بِهِ أحد.
وإنكاره عَجِيب فَكَلَام البيانيين طافح بِهِ، وَبِه احْتج أَصْحَابنَا، وَأَصْحَاب الشَّافِعِي على تعْيين لَفْظِي التَّكْبِير وَالتَّسْلِيم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم " كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَهُوَ يُفِيد الِاخْتِصَاص} ، قَالَه البيانيون، وَخَالفهُم فِي ذَلِك ابْن الْحَاجِب وَأَبُو حَيَّان.

(6/2965)


فَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " شرح الْمفصل ": إِن توهم النَّاس لذَلِك وهم، وتمسكهم بِنَحْوِ: {بل الله فاعبد} [الزمر: 66] ضَعِيف لوُرُود {فاعبد الله} ، فَيلْزم أَن الْمُؤخر يُفِيد عدم الْحصْر - إِفَادَة نَفْيه - لكَونه نقيضه.
وَأجِيب: لَا يسْتَلْزم حصرا، وَلَا عَدمه، وَلَا يلْزم من عدم إِفَادَة الْحصْر إِفَادَة نَفْيه، لَا سِيمَا ومخلصا فِي قَوْله تَعَالَى: {فاعبد الله مخلصا} مغن عَن إِفَادَة الْحصْر.
وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي أول تَفْسِيره فِي رد دَعْوَى الِاخْتِصَاص: إِن سِيبَوَيْهٍ قَالَ: إِن التَّقْدِيم للاهتمام والعناية، فَهُوَ فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير كَمَا فِي (ضرب زيد عمرا) ، و (ضرب عمرا زيد) فَكَمَا أَن هَذَا لَا يدل على الِاخْتِصَاص فَكَذَلِك مثالنا.
وَأجِيب: بِأَن تَشْبِيه سِيبَوَيْهٍ إِنَّمَا هُوَ أصل الْإِسْنَاد، وَأَن التَّقْدِيم يشْعر بالاهتمام والاعتناء وَلَا يلْزم من ذَلِك نفي الِاخْتِصَاص.

(6/2966)


وَقَالَ صَاحب " الْفلك الدائر ": الْحق أَنه لَا يدل على الِاخْتِصَاص إِلَّا بالقرائن وَالْأَكْثَر فِي الْقُرْآن التَّصْرِيح بِهِ مَعَ عدم الِاخْتِصَاص، نَحْو: {إِن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى} [طه: 118] وَلم يكن ذَلِك خَاصّا بِهِ، فَإِن حَوَّاء كَذَلِك.
قَوْله: {وَهُوَ الْحصْر} ، كَون الِاخْتِصَاص هُوَ الْحصْر هُوَ رَأْي جُمْهُور الْعلمَاء، وَخَالف السُّبْكِيّ فِي ذَلِك، فَقَالَ: لَيْسَ معنى الِاخْتِصَاص الْحصْر خلافًا لما يفهم كثير من النَّاس؛ لِأَن الْفُضَلَاء كالزمخشري لم يعبروا فِي نَحْو ذَلِك إِلَّا با [لَا] ختصاص، وَالْفرق بَينه وَبَين الْحصْر أَن الِاخْتِصَاص افتعال من الْخُصُوص، وَالْخَاص مركب من عُمُوم، وَمعنى يفصله، فالضرب - مثلا - عَام، فَإِذا قلت: ضربت، خصصته بِإِشَارَة لَك، فَإِذا قلت: زيدا، خصصت ضربك بِوُقُوعِهِ على زيد، فالمتكلم إِمَّا أَن يكون مَقْصُوده الثَّلَاثَة، أَو بَعْضهَا، فتقديمه أَحدهَا باختصاصه لَهَا من مُطلق الضَّرْب لدلَالَة الِابْتِدَاء بالشَّيْء على الاهتمام، وَيبقى ذكر الْبَاقِي بالتبعية فِي قَصده، وَلَيْسَ فِيهِ حِينَئِذٍ مَا فِي الْحصْر من نفي غَيره، وَإِنَّمَا جَاءَ الْحصْر فِي {إياك نعْبد} وَنَحْوه للْعلم بِهِ من خَارج لَا من نفس اللَّفْظ بِدَلِيل أَن بَقِيَّة الْآيَات لَا يطرد فِيهَا ذَلِك، أَلا ترى أَن قَوْله تَعَالَى: (أفغير دين الله

(6/2967)


يَبْغُونَ} [آل عمرَان: 83] لَيْسَ المُرَاد إِنْكَار كَونهم لَا يَبْغُونَ إِلَّا غير دين الله، بل كَونهم يَبْغُونَ غير دين الله مُطلقًا. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد يحْتَج للتغاير بقوله تَعَالَى: {وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء} [الْبَقَرَة: 105] فَإِن رَحْمَة الله لَا تَنْحَصِر.
فَائِدَة: الْمَفْهُوم أَقسَام - كَمَا تقدم -، وَهِي مرتبَة بِاعْتِبَار الْقُوَّة والضعف، وَتظهر فَائِدَته فِي التراجيح، فأقواها مَا كَانَ من الْحصْر بِالنَّفْيِ، وَنَحْوه، وَالِاسْتِثْنَاء إِن قُلْنَا: إِنَّه بِالْمَفْهُومِ، وَسبق الْخلاف فِيهِ، ويليه كل مَا قيل: إِنَّه من قبيل الْمَنْطُوق، وَإِن كَانَ القَوْل بذلك ضَعِيفا؛ إِذْ لَوْلَا قوته لما جعل منطوقا على قَول، وَذَلِكَ كالغاية والحصر بإنما فهما سَوَاء، وبعدهما حصر الْمُبْتَدَأ فِي الْخَبَر، ثمَّ مَفْهُوم الشَّرْط، ثمَّ الصّفة، وَتقدم التَّنْبِيه على ذَلِك.
وَالصّفة لَهَا مَرَاتِب: أَعْلَاهَا الْمُنَاسبَة، ثمَّ غير الْمُنَاسبَة سوى الْعدَد، فَدخلت الْعلَّة، والظرف، وَالْحَال فهم فِي مرتبَة وَاحِدَة، لَكِن يَنْبَغِي تَقْدِيم الْعلَّة، ثمَّ الْعدَد، ثمَّ مَفْهُوم تَقْدِيم الْمَعْمُول.

(6/2968)