التحبير شرح التحرير في أصول الفقه

 (بَاب النّسخ)

(6/2969)


فارغة

(6/2970)


(قَوْله: {بَاب النّسخ} )

{لُغَة: الرّفْع والإزالة، نسخت الشَّمْس الظل، وَالنَّقْل، نسخت الْكتاب} . الِاسْتِدْلَال بِالْكتاب وَالسّنة مُتَوَقف على معرفَة بَقَاء الحكم أَو ارتفاعه، وَهُوَ بَيَان النّسخ وَأَحْكَامه.
والنسخ لَهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي الشَّرْع. فالنسخ فِي اللُّغَة يُطلق على الرّفْع، والإزالة: كنسخت الشَّمْس الظل، أَي: رفعته وأزالته، وَنسخت الرّيح الْأَثر كَذَلِك.
وَيُطلق - أَيْضا - على النَّقْل، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: النَّقْل مَعَ عدم بَقَاء الأول كالمناسخات فِي الْمَوَارِيث، فَإِنَّهَا تنْتَقل من قوم إِلَى قوم مَعَ بَقَاء الْمَوَارِيث فِي نَفسهَا، وَمِنْه قَول بعض المبتدعة بالتناسخ فِي الْأَرْوَاح، يَزْعمُونَ أَن الْأَرْوَاح تنْتَقل من هيكل إِلَى هيكل.

(6/2971)


وَالنَّوْع الثَّانِي: النَّقْل مَعَ بَقَاء الأول فَيكون المُرَاد مماثلته، كنسخ الْكتاب، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] .
قَوْله: {فأصحابنا وَالْأَكْثَر: حَقِيقَة فِي الأول مجَاز فِي الثَّانِي، والقفال عَكسه، والباقلاني وَالْغَزالِيّ وَجمع: مُشْتَرك، وَابْن الْمُنِير متواطئ} .
قد علمت أَن اللُّغَة وَردت بالإزالة وَالرَّفْع وبالنقل، فَذهب أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر أَنه حَقِيقَة فِي الأول، أَي: فِي الرّفْع والإزالة، مجَاز فِي الثَّانِي وَهُوَ النَّقْل، قَالَ الْهِنْدِيّ: وَهُوَ قَول الْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الْمُخْتَار.

(6/2972)


وَذهب الْقفال الشَّاشِي إِلَى عَكسه، وَهُوَ: أَنه حَقِيقَة فِي النَّقْل، مجَاز فِي الرّفْع والإزالة، لاستلزامة الْإِزَالَة.
وَقَالَ الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهمَا: مُشْتَرك بَين الْإِزَالَة وَالنَّقْل.
وَقيل: الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا وَهُوَ الرّفْع، فَيكون متواطئا، وَبِه قَالَ ابْن الْمُنِير فِي " شرح الْبُرْهَان ".
وَلَكِن لَا يَتَأَتَّى ذَلِك فِي نَحْو: نسخت الْكتاب؛ إِذْ لَا رفع فِيهِ.
قَالَ الطوفي فِي شَرحه فِي نصْرَة كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي أَنه حَقِيقَة فِي الرّفْع مجَاز فِي الْإِزَالَة: وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك؛ لِأَن التَّعَارُض فِي الْأَقْوَال الثَّلَاثَة قد وَقع بَين الِاشْتِرَاك على القَوْل الأول، وَبَين الْمجَاز على الْقَوْلَيْنِ الآخرين، فالمجاز أولى من الِاشْتِرَاك فَيبقى الْأَمر دائرا بَين الْقَوْلَيْنِ الآخرين، وَهُوَ أَن النّسخ حَقِيقَة فِي الرّفْع، مجَاز فِي النَّقْل، أَو بِالْعَكْسِ.
وَالْأول أظهر، وَوَجهه: أَن الرّفْع أخص من النَّقْل فَيكون أولى بِحَقِيقَة النّسخ، أما أَن الرّفْع أخص من النَّقْل فَلِأَن الرّفْع يسْتَلْزم النَّقْل، وَالنَّقْل لَا يسْتَلْزم الرّفْع، فَيكون أخص فَيكون أولى بِحَقِيقَة اللَّفْظ؛ لِأَن الْأَخَص أبين، وأدل، وأوضح، فَيكون بِالْحَقِيقَةِ أولى.

(6/2973)


ثمَّ ردد القَوْل فِي ذَلِك، وَذكر طَريقَة أُخْرَى فِي التقوية.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ثمَّ قيل: الْخلف لَفْظِي، وَقيل: معنوي.
تظهر فَائِدَته فِي جَوَاز النّسخ بِلَا بدل، وَفِيه نظر؛ لِأَن الْمدَار على الْحَقَائِق الْعُرْفِيَّة لَا اللُّغَوِيَّة، وَأَيْضًا فَهُوَ يبْنى على أَن الاصطلاحي نقل من اللُّغَوِيَّة كَمَا نقلت الصَّلَاة إِلَى الشَّرْعِيَّة، وَإِلَيْهِ ذهب بعض الْمُتَكَلِّمين، لَكِن الْأَظْهر أَنه كنقل الدَّابَّة، فَنقل من الْأَعَمّ إِلَى الْأَخَص. انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا} ، أَي: معنى النّسخ فِي الشَّرْع، وَاخْتلف فِيهِ: هَل هُوَ رفع، أَو بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم؟ على قَوْلَيْنِ:
ذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى أَنه رفع الحكم، فَهُوَ: {رفع حكم شَرْعِي بِدَلِيل شَرْعِي متراخ} . ذكر مَعْنَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره.
قَالَ ابْن مُفْلِح: بقول الشَّارِع أَو فعله، يخرج الْمُبَاح بِحكم الأَصْل عِنْد الْقَائِل بِهِ فَإِن ذَلِك بِحكم عَقْلِي، لَا شَرْعِي، فَإِذا أخرج فَرد من تِلْكَ الْأَفْرَاد فَلَا يُسمى نسخا، وَالرَّفْع لعدم الْفَهم، وَبِنَحْوِ: صل إِلَى آخر الشَّهْر.
وَالْمرَاد بالحكم مَا تعلق بالمكلف بعد وجوده أَهلا، فالتكليف الْمَشْرُوط بِالْعقلِ عدم عِنْد عَدمه فَلَا يرد: الحكم قديم لَا يرْتَفع وَلَا ينْتَقض عَكسه

(6/2974)


بتخصيص مُتَأَخّر؛ لِأَنَّهُ بَيَان، لَا رفع عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم خلافًا لبَعْضهِم، وَهَذَا معنى حد أبي الْخطاب.
{وَزَاد: رفع مثل الحكم} ، لِئَلَّا يرد البداء، وَهُوَ ظُهُور مَا لم يكن؛ لِأَنَّهُ رفع نفس الحكم.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا.
وأبطله الْآمِدِيّ بِأَن إِزَالَة الْمثل قبل وجوده، وَبعد عَدمه محَال، وَكَذَا مَعَه؛ لِأَنَّهَا إعدام. قَالَ: وَفِيه نظر، لَكِن يلْزم منع نسخ أَمر مُقَيّد بِمرَّة قبل فعله.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَزَاد ابْن الْحَاجِب: مُتَأَخّر، ليخرج مَا لَو قَالَ: صل عِنْد كل زَوَال إِلَى آخر الشَّهْر، وَنَحْوه المخصصات الْمُتَّصِلَة كلهَا فَإِنَّهَا إِخْرَاج بِدَلِيل شَرْعِي مُقَارن، لَا مُتَأَخّر.
قَالَ: وَإِنَّمَا لم أذكر هَذَا الْقَيْد فِي التَّعْرِيف؛ لِأَن الرّفْع يَسْتَدْعِي ثُبُوت حكم، وَالْحكم لم يثبت بِأول الْكَلَام؛ إِذْ الْكَلَام بِآخِرهِ، فَكيف يرفع؟

(6/2975)


وَأَيْضًا: يسْتَغْنى عَن قيد الْمُتَأَخر بقولنَا: بخطاب شَرْعِي فَإِنَّهُ إِذا لم يتَأَخَّر فَكيف يكون رَافعا.
وَأَيْضًا فالمخصصات الْمُتَّصِلَة مُتَأَخِّرَة لفظا فَلَا يُخرجهَا قَوْله: (مُتَأَخّر) ؛ وَلِهَذَا أبدل بَعضهم (مُتَأَخّر) بمتراخ ليخرج المخصصات الْمُتَّصِلَة، وَالْكل لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَمَا قَرَّرْنَاهُ.
وَمِمَّا يخرج بقولنَا بخطاب شَرْعِي من سَقَطت رِجْلَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَال فِيهِ: رفع بِدَلِيل شَرْعِي، بل بِالْعقلِ، وَمَا وَقع للرازي فِي " الْمَحْصُول " من جعل ذَلِك نسخا فضعيف. انْتهى.
تَنْبِيه: قَوْلنَا: {بِدَلِيل شَرْعِي} أولى من قَول من قَالَ: بخطاب شَرْعِي لدُخُول الْفِعْل فِي الأول، لَا الثَّانِي؛ إِذْ لَا يُقَال: للْفِعْل خطاب.
وَعبر الْبَيْضَاوِيّ: بطرِيق شَرْعِي.
وَهُوَ حسن، فقد جعل الْأَئِمَّة من النّسخ بِالْفِعْلِ، نسخ الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار بِأَكْلِهِ من الشَّاة، وَلم يتَوَضَّأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.

(6/2976)


{و} قَالَ {ابْن حمدَان} فِي " مقنعه ": {منع اسْتِمْرَار حكم خطاب شَرْعِي بخطاب شَرْعِي متراخ عَنهُ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُرَاد الْآمِدِيّ بحده، وَكَذَا فِي " الرَّوْضَة ": رفع حكم ثَابت بخطاب متراخ عَنهُ.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": وَمعنى الرّفْع إِزَالَة الشَّيْء على وَجه لولاه لبقي ثَابتا، على مِثَال رفع حكم الْإِجَارَة بِالْفَسْخِ، فَإِن ذَلِك يُفَارق زَوَال حكمهَا بِانْقِضَاء مدَّتهَا.
قَالَ: وَقَيَّدنَا الْحَد بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدّم؛ لِأَن ابْتِدَاء الْعِبَادَات فِي الشَّرْع مزيل لحكم الْعقل من بَرَاءَة الذِّمَّة، وَلَيْسَ بنسخ، وقيدناه بِالْخِطَابِ الثَّانِي؛ لِأَن زَوَال الحكم بِالْمَوْتِ وَالْجُنُون لَيْسَ بنسخ، وَقَوْلنَا: مَعَ تراخيه عَنهُ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُتَّصِلا بِهِ كَانَ بَيَانا وإتماما لِمَعْنى الْكَلَام وتقديرا لَهُ بِمدَّة وَشرط. انْتهى.
{و} قَالَ: {القَاضِي: إِخْرَاج مَا لم يرد بِاللَّفْظِ الْعَام فِي الْأَزْمَان مَعَ تراخيه عَنهُ} .

(6/2977)


وَغلط من قَالَ: مَا أُرِيد بِاللَّفْظِ لإفضائه إِلَى البداء، وَهُوَ خلاف مَا قَالَه هُوَ، وَقَالَهُ كثير من الْأَصْحَاب وَغَيرهم.
{و} وَقَالَ {الباقلاني، وَابْن عقيل، وَالْغَزالِيّ: خطاب دَال على ارْتِفَاع حكم ثَابت بخطاب مُتَقَدم على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ} .
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لفظ دَال على ظُهُور انْتِفَاء شَرط دوَام الحكم الأول.
فَيرد عَلَيْهِ أَن اللَّفْظ دَلِيل النّسخ لَا نَفسه، وَنقض طرده بقول الْعدْل: نسخ حكم كَذَا وَعَكسه بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ثمَّ حَاصله: اللَّفْظ الدَّال على النّسخ؛ لِأَنَّهُ فسر شَرط دوَام الحكم بِانْتِفَاء النّسخ، فانتفاء شَرط دَوَامه حُصُوله، وَأورد الثَّلَاثَة السَّابِقَة على حد الباقلاني وَمن مَعَه، وَأَن قَوْلهم على وَجه إِلَى آخِره، زِيَادَة.
وَأجَاب الْآمِدِيّ عَن الأول بِمَنْع أَن النّسخ ارْتِفَاع الحكم لَا نفس الرّفْع وَهُوَ الْفِعْل صفة الرافع، وَهُوَ الْخطاب الدَّال على الِارْتفَاع ومستلزم لَهُ وَهُوَ الانفعال صفة الْمَرْفُوع الْمَفْعُول على نَحْو فسخ العقد وانفساخه.

(6/2978)


وَأَن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يدل على الِارْتفَاع، بل على الْخطاب الدَّال عَلَيْهِ وَالزِّيَادَة لَا تخل بِصِحَّة الْحَد، وفيهَا فَائِدَة. انْتهى.
{و} قَالَ {القَاضِي} أَبُو يعلى، {والأستاذ} أَبُو إِسْحَاق، {وَأَبُو الْمَعَالِي} ، وَأكْثر الْفُقَهَاء: {بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم الشَّرْعِيّ مَعَ التَّأَخُّر عَن زَمَنه} .
وَتقدم حد أبي الْمَعَالِي، وَهَذَا هُوَ القَوْل الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة، الْمُقَابل لما قُلْنَاهُ أَولا، وَهُوَ أَنه بَيَان.
وَمَعْنَاهُ: أَن النَّاسِخ يبين أَن الأول انْتهى التَّكْلِيف بِهِ، وأنكروا كَونه رفعا بِنَاء على أَن الحكم رَاجع إِلَى كَلَام الله تَعَالَى، وَهُوَ قديم، وَالْقَدِيم لَا يرْتَفع، لَكِن جَوَابه أَن الْمَرْفُوع هُوَ تعلق الحكم، والتعلق حَادث كَمَا سبق، فقد اتّفق الْقَوْلَانِ على أَن الحكم الأول انْعَدم تعلقه لَا ذَاته، وعَلى أَن الْخطاب الثَّانِي هُوَ الَّذِي حقق زَوَال الأول، وَإِنَّمَا اخْتلفَا فِي أَن الرافع هُوَ الثَّانِي، لَو لم يَجِيء لبقي الأول، أَو يُقَال: إِن الأول لَهُ غَايَة لَا نعلمها فَلَمَّا جَاءَ الدَّلِيل بَين انتهاءها حَتَّى لَو لم يَجِيء كَانَ الحكم للْأولِ وَإِن لم نعلمهُ.
لَكِن سبق أَنه لَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة فَرجع القَوْل

(6/2979)


الثَّانِي إِلَى الأول وينحل الْفرق بَينهمَا إِلَى أَنه زَالَ بِهِ، أَو زَالَ عِنْده لَا بِهِ، لَكِن لما لم نعلم الزَّوَال إِلَّا بِهِ اسْتَوَى الْقَوْلَانِ.
وَنَظِير هَذَا الْخلاف عِنْد الْمُتَكَلِّمين فِي أَن زَوَال الْأَعْرَاض بِالذَّاتِ أَو بالضد، فَإِن من قَالَ ببقائها قَالَ: إِنَّمَا يَنْعَدِم الضِّدّ الْمُتَقَدّم بطريان الطَّارِئ، ولولاه لبقي، وَمن لم يقل ببقائها قَالَ: إِنَّه يَنْعَدِم بِنَفسِهِ وَيحدث الضِّدّ الطَّارِئ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْثِير فِي إعدام الضِّدّ الأول.
وَنَظِيره فِي الفقهيات: الزائل الْعَائِد كَالَّذي لم يزل، أَو كَالَّذي لم يعد، فَالَّذِي يَقُول بِالْأولِ يَجْعَل الْعود بَيَانا لاستمرار حكم الأول، وَالْقَائِل بِالثَّانِي يَقُول ارْتَفع الحكم الأول بالزوال فَلَا يرجع حكمه بِالْعودِ.
وَقد ظهر بِهَذَا التقرر أَن النزاع لَيْسَ لفظيا من كل وَجه، بل معنوي، لَكِن يعود الْقَوْلَانِ إِلَى مقصد وَاحِد بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي سبق.
قَالَ: وَمِمَّا يشبه ذَلِك تعبيرهم عَن الْحَدث بنواقض الْوضُوء، كَمَا قَالَه جمع وَإِن فر مِنْهُ الْأَكْثَر لعدم الرّفْع فِيهِ، لَكِن الأول أَيْضا صَحِيح لما سبق، وَنَحْوه

(6/2980)


الْفَسْخ للعقود: هَل هُوَ من حِين الْفَسْخ، أَو من الأَصْل؟ فَمن قَالَ من حِينه جعله كالنسخ هُنَا؛ لِأَن المُرَاد انْتِهَاء الْمدَّة لَا الرّفْع من الأَصْل؛ لِأَن الْوَاقِع لَا يرْتَفع، فَمن أفسد هَذِه الْعبارَة لهَذِهِ الشُّبْهَة أُجِيب بذلك. انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح عَن القَوْل الثَّانِي: وَحكي عَن الْفُقَهَاء أَن حد النّسخ: النَّص الدَّال على انْتِهَاء أمد الحكم الشَّرْعِيّ مَعَ التَّأَخُّر عَن زمن وُرُوده.
فَيرد الْإِيرَاد الأول وَالثَّالِث على هَذَا الْحَد فَإِن فروا من الرّفْع لقدم الحكم وتعلقه عقلا فانتهاء أمد الْوُجُوب يُنَافِي بَقَاء الْوُجُوب على الْمُكَلف، وَهُوَ معنى الرّفْع، وَإِن فروا؛ لِأَنَّهُ لَا يرْتَفع تعلق بمستقبل لزم منع النّسخ قبل الْفِعْل، وَإِن فروا لِأَنَّهُ يُنَافِي أمد تعلق الحكم بالمستقبل المظنون دَوَامه فَلَا بُد من زَوَال التَّعَلُّق فصح إِطْلَاق الرّفْع علبه. انْتهى.
{و} قَالَت {الْمُعْتَزلَة: خطاب دَال على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ الْمُتَقَدّم زائل على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا} .
فَيرد عَلَيْهِ مَا ورد على حد الْغَزالِيّ، وَأوردهُ الْأَمر الْمُقَيد بِمرَّة ينْسَخ قبل فعله وهم يمنعونه.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": حَدهمْ يُصَرح بِأَن النَّاسِخ يزِيل مَا

(6/2981)


ثَبت بِالْخِطَابِ الأول، وَكلهمْ يَقُول: مَا أزاله لم يثبت بِالْأولِ، وَلَو ثَبت بِهِ لم يجز زَوَاله للبداء على الله، وَهَذَا مناقضة. انْتهى.
قَوْله: {والمنسوخ الحكم الْمُرْتَفع بالناسخ} .
لنا نَاسخ وَنسخ وتقدما، ومنسوخ وَهُوَ الحكم الْمُرْتَفع بناسخه كالمرتفع من وجوب تَقْدِيم الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقد تقدم ذَلِك فِي ضمن الْحُدُود الْمُتَقَدّمَة، بل هَذَا الْكَلَام هُنَا تكْرَار منا.
قَوْله: {أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر لَا يكون النَّاسِخ أَضْعَف} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: تَنْبِيه: يشْتَرط فِي النَّاسِخ عِنْد الْأَكْثَر أَن يكون أقوى من الْمَنْسُوخ أَو مُسَاوِيا، وَلذَلِك ذكره أَبُو الْخطاب عَن أَصْحَابنَا. انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: يعْتَبر فِي النَّاسِخ أَن لَا يكون أَضْعَف من الْمَنْسُوخ،

(6/2982)


وَفِي " التَّمْهِيد " اشْتَرَطَهُ أَصْحَابنَا لنسخ قُرْآن بآحاد، كَذَا قَالَ. انْتهى.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: لَا نسخ مَعَ إِمْكَان الْجمع} ؛ لأَنا إِنَّمَا نحكم بِأَن الأول مَنْسُوخ إِذا تعذر علينا الْجمع بَينهمَا، فَإِذا لم يتَعَذَّر وجمعنا بَينهمَا بمقبول فَلَا نسخ.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة " وَغَيره: لَا يتَحَقَّق النّسخ إِلَّا مَعَ التَّعَارُض، فَأَما مَعَ إِمْكَان الْجمع فَلَا، وَقَول من قَالَ: نسخ صَوْم عَاشُورَاء برمضان، أَو نسخت الزَّكَاة كل صَدَقَة سواهَا، فَلَيْسَ يَصح إِذا حمل على ظَاهره؛ لِأَن الْجمع بَينهمَا لَا مُنَافَاة فِيهِ، وَإِنَّمَا وَافق نسخ عَاشُورَاء صَوْم فرض رَمَضَان، وَنسخ سَائِر الصَّدقَات فرض الزَّكَاة فَحصل النّسخ مَعَه، لَا بِهِ، وَهُوَ قَول القَاضِي وَغَيره. انْتهى.
قَوْله: {الثَّانِيَة: أَصْحَابنَا والأشعرية: النَّاسِخ حَقِيقَة هُوَ الله تَعَالَى، والمعتزلة: هُوَ طَرِيق مَعْرفَته من نَص أَو غَيره، وَهُوَ لَفْظِي} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: النَّاسِخ يُطلق على الله تَعَالَى، يُقَال: نسخ فَهُوَ نَاسخ، قَالَ الله تَعَالَى: {مَا ننسخ من آيَة} [الْبَقَرَة: 106] ، وَيُطلق

(6/2983)


على الطَّرِيق الْمعرفَة؛ لارْتِفَاع الحكم من الْآيَة وَخبر الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَفعله وَتَقْرِيره، وَالْإِجْمَاع على الحكم، كَقَوْلِنَا: وجوب صَوْم رَمَضَان نسخ صَوْم عَاشُورَاء وعَلى من يعْتَقد نسخ الحكم كَقَوْلِهِم: فلَان ينْسَخ الْقُرْآن بِالسنةِ، أَي: يعْتَقد ذَلِك فَهُوَ نَاسخ.
والاتفاق على أَن إِطْلَاقه على الآخرين مجَاز، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْأَوَّلين فَعِنْدَ الْمُعْتَزلَة حَقِيقَة فِي الطَّرِيق، لَا فِيهِ تَعَالَى، وَعند الْجُمْهُور حَقِيقَة فِي الله تَعَالَى، مجَاز فِي الطَّرِيق، والنزاع لَفْظِي. انْتهى.
قَوْله: {أهل الشَّرَائِع على جَوَازه عقلا، ووقوعه شرعا، وَخَالف أَكثر الْيَهُود فِي الْجَوَاز، وَأَبُو مُسلم فِي الْوُقُوع، وَسَماهُ تَخْصِيصًا} .

(6/2984)


أهل الشَّرَائِع من النَّصَارَى وَالْمُسْلِمين وَغَيرهمَا على جَوَاز النّسخ عقلا، ووقوعه فِي الشَّرْع، وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إِلَّا الْيَهُود فِي الْجُمْلَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: اتّفقت الشَّرَائِع على جَوَاز النّسخ عقلا، سوى الشمعثية من الْيَهُود، فَإِنَّهُم قَالُوا بامتناعه عقلا، وسمعا، وَكَذَا على جَوَازه سمعا سوى الْفرْقَة الْمَذْكُورَة، والعنانية مِنْهُم؛ لتجويزهم عقلا، لَا سمعا، وَوَافَقَهُمْ أَبُو مُسلم الْأَصْفَهَانِي.
وجوزته طَائِفَة من الْيَهُود عقلا، وَشرعا، لكِنهمْ لَا يُؤمنُونَ بنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. انْتهى.
قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": أنكر طَائِفَة من الْيَهُود - وهم العنانية أَتبَاع عنان - وُقُوعه عقلا، لَا شرعا، وَأنْكرت الشمعثية مِنْهُم - أَتبَاع شمعثا - الْأَمريْنِ.

(6/2985)


وَحكى ابْن الزَّاغُونِيّ عَنْهُم عَكسه.
وَقَالَ بَعضهم: يجوز نسخ عبَادَة بأثقل مِنْهَا عُقُوبَة، وَقَالَ أَكْثَرهم: يجوز شرعا لَا عقلا، وَأَن مُحَمَّدًا وَعِيسَى لم يأتيا بمعجزة، وَقَالَت العيسوية - أَتبَاع غير النَّبِي -: إنَّهُمَا أَتَيَا بالمعجزة وبعثا إِلَى الْعَرَب والأمييين. انْتهى.
وتابع بعض غلاة الرافضة الْيَهُود فِي عدم الْجَوَاز، وَنَقله أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وسليم الرَّازِيّ، وَالْفَخْر الرَّازِيّ عَن أبي مُسلم الْأَصْفَهَانِي المعتزلي إِلَّا أَنه صرح بِأَن الْمَنْع إِنَّمَا هُوَ فِي الْقُرْآن خَاصَّة، لَا على الْإِطْلَاق.

(6/2986)


وَنقل الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب أَنه يُخَالف فِي الْوُقُوع، لَا فِي الْجَوَاز، ثمَّ الْمَانِع من جَوَازه مِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ يسْتَلْزم البداء، وَهُوَ محَال، وَإِن جوزه الرافضة، وَمِنْهُم من سَمَّاهُ تَخْصِيصًا، وَقيل غير ذَلِك، وَالْكل بَاطِل، وَالْحق الَّذِي لَا محيد عَنهُ وَلَا شكّ فِيهِ جَوَازه عقلا وَشرعا.
وَأما الْوُقُوع فواقع لَا محَالة وَورد فِي الْكتاب وَالسّنة قطعا، وَأَيْضًا الْقطع بِعَدَمِ اسْتِحَالَة تَكْلِيف فِي وَقت، وَرَفعه.
وَإِن قيل: أَفعَال الله تَابِعَة لمصَالح الْعباد كالمعتزلة، فالمصلحة قد تخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات، وَفِي التَّوْرَاة أَنه أَمر آدم بتزويج بَنَاته من بنيه، وَقد حرم ذَلِك، وَاسْتدلَّ بِتَحْرِيم السبت وَكَانَ مُبَاحا، وبجواز الْخِتَان مُطلقًا ثمَّ وَجب فِي ثامن الْولادَة عِنْدهم، وبجواز جمع الْأُخْتَيْنِ، ثمَّ حرم.
رد: رفع مُبَاح الأَصْل لَيْسَ بنسخ إِجْمَاعًا.
قَالُوا: لَو صَحَّ بَطل قَول مُوسَى الْمُتَوَاتر أَن شَرِيعَته مُؤَبّدَة.

(6/2987)


رد: مَوْضُوع للْقطع عَادَة بِأَنَّهُ لَو صَحَّ عارضوا بِهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلما أسلم علماؤهم كَابْن سَلام، وَكَعب، ووهب، وَغَيرهم، ثمَّ المُرَاد نَحْو التَّوْحِيد، أَو مُؤَبّدَة مَا لم تنسخ.
قَالُوا: إِن نسخ لحكمة ظَهرت بعد أَن لم تكن فَهُوَ البداء، وَلَا يجوز البداء على الله وَهُوَ تجدّد الْعلم، إِلَّا عِنْد الرافضة - عَلَيْهِم لعائن الله تَعَالَى تترا -، وَهُوَ كفر بِإِجْمَاع أَئِمَّة الْمُسلمين المعتبرين لَا يشك فِيهِ مُسلم.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: من قَالَ: إِن الله تَعَالَى لم يكن عَالما حَتَّى خلق لنَفسِهِ علما فَعلم بِهِ فَهُوَ كَافِر.
وَقَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ: البداء هُوَ أَن يُرِيد الشَّيْء دَائِما ثمَّ ينْتَقل من الدَّوَام لأمر حَادث، لَا بِعلم سَابق.
قَالَ: أَو يكون سَببه دَالا على فَسَاد الْمُوجب لصِحَّة الْأَمر الأول بِأَن يَأْمُرهُ لمصْلحَة لم تحصل فيبدو لَهُ مَا يُوجب رُجُوعه عَنهُ. انْتهى.

(6/2988)


وَمن كذب الرافضة فِي ذَلِك حكايتهم ذَلِك عَن مُوسَى بن جَعْفَر، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَذكره ابْن عقيل عَن الْمُخْتَار وَغَيره، وَأَن بَعضهم جوزه فِيمَا لم يطلعنا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فعبث.
رد: إِن سلم اعْتِبَار الْمصلحَة فَهُوَ لحكمة علمهَا قَدِيما تكون عِنْد نسخه لاخْتِلَاف الْأَوْقَات وَالْأَحْوَال فَلم يظْهر مَا لم يكن.
قَالُوا: إِن قيد الأول بِوَقْت فَلَا نسخ لانتهائه بانتهاء وقته، وَإِن دلّ على التَّأْبِيد فَلَا نسخ لِاجْتِمَاع الْأَخْبَار بالتأبيد ونفيه، وَهُوَ تنَاقض؛ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تعذر الْإِخْبَار بالتأييد لاحْتِمَال النّسخ، وَإِلَى أَنه لَا يوثق بتأبيد حكم، وَإِلَى نسخ شريعتكم.
رد: مُطلق فَيدل على تعلق الْوُجُوب، لَا على الْبَقَاء ونفيه، ثمَّ لَو دلّ

(6/2989)


على التَّأْبِيد فَالْأَمْر بِشَيْء فِي الْمُسْتَقْبل أبدا لَا يسْتَلْزم دَوَامه بل إِن الْفِعْل فِيهِ مُتَعَلق الْوُجُوب، فزوال التَّعَلُّق بِهِ بنسخ لَيْسَ مناقضة كالموت، إِنَّمَا التَّنَاقُض فِي خَبره بِبَقَاء الْوُجُوب أبدا، ثمَّ ينسخه وَنسخ شريعتنا محَال للتواتر بِأَن مُحَمَّدًا خَاتم النَّبِيين.
قَالُوا: لَو جَازَ لَكَانَ قبل الْفِعْل، وَلَا رفع لما لم يُوجد، وَلَا بعده لعدمه، وَلَا مَعَه، وَإِلَّا ارْتَفع حَال وجوده.
رد: المُرَاد زَوَال التَّكْلِيف الثَّابِت بعد أَن لم يكن: كزواله بِالْمَوْتِ؛ لارْتِفَاع الْفِعْل.
قَالُوا: إِن علم دَوَامه أبدا فَلَا نسخ، أَو إِلَى مُدَّة مُعينَة فارتفاع الحكم بِوُجُود غَايَته، لَيْسَ بنسخ.
رد: يُعلمهُ مستمرا إِلَى وَقت ارتفاعه بالنسخ، وَعلمه بارتفاعه [بِهِ] يُحَقّق النّسخ.
ورد مَذْهَب أبي مُسلم الْأَصْفَهَانِي بِالْإِجْمَاع أَن شريعتنا ناسخة لما خالفها، وَنسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَتَقْدِيم الصَّدَقَة لمناجاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَصَوْم عَاشُورَاء، وَغَيره.

(6/2990)


قَالَ السُّبْكِيّ: وقفت على تَفْسِير أبي مُسلم، وَلَيْسَ هُوَ الجاحظ كَمَا توهمه بَعضهم، قَالَ: وَأَنا أَقُول الْإِنْصَاف أَن الْخلاف بَين أبي مُسلم، وَالْجَمَاعَة لَفْظِي، وَذَلِكَ [أَن] أَبَا مُسلم يَجْعَل مَا كَانَ مغيا فِي علم الله كَمَا هُوَ مغيا فِي اللَّفْظ، وَيُسمى الْجَمِيع تَخْصِيصًا، وَلَا فرق عِنْده بَين أَن يَقُول: {أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] وَبَين أَن يَقُول: صُومُوا، مُطلقًا، وَعلمه مُحِيط بِأَنَّهُ سينزل: لَا تَصُومُوا وَقت اللَّيْل.
وَالْجَمَاعَة يجْعَلُونَ الأول تَخْصِيصًا، وَالثَّانِي نسخا، وَلَو أنكر أَبُو مُسلم النّسخ لزم إِنْكَار شَرِيعَة الْمُصْطَفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِنَّمَا يَقُول: كَانَت شَرِيعَة السَّابِقين مغياة إِلَى مبعث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِهَذَا يَتَّضِح لَك الْخلاف الَّذِي حَكَاهُ بَعضهم فِي أَن هَذِه الشَّرِيعَة مخصصة للشرائع السَّابِقَة أَو ناسخة، فَهِيَ منتهية إِلَى مبعث نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطعا، وَمَا تجدّد من شرعنا مُوَافق لبَعض شرائعهم فَلَيْسَ لكَونهَا بَاقِيَة؛ بل كل مَشْرُوع مفتتح التشريع، وَمَا ادَّعَاهُ ابْن الْحَاجِب من الْإِجْمَاع أَن شريعتنا ناسخة فَصَحِيح، وَلَا يُنَافِيهِ حِكَايَة بَعضهم الْخلاف فِي كَونه تَخْصِيصًا، أَو نسخا لما قَرَّرْنَاهُ فَالْخِلَاف لَفْظِي. انْتهى.
تَنْبِيه: أَبُو مُسلم هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن بَحر الْأَصْفَهَانِي، قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهُوَ رجل مَعْرُوف بِالْعلمِ، وَإِن كَانَ قد انتسب إِلَى الْمُعْتَزلَة،

(6/2991)


ويعد مِنْهُم، وَله كتاب كَبِير فِي التَّفْسِير، وَله كتب كَثِيرَة، فَلَا أَدْرِي كَيفَ وَقع هَذَا الْخلاف مِنْهُ. انْتهى.
وَلَيْسَ بالجاحظ، وَقَالَ أَبُو الْخطاب: أَبُو مُسلم عمر بن يحيى الْأَصْفَهَانِي. انْتهى.
وَقَالُوا: اسْم الجاحظ عمر بن بَحر، وَلَعَلَّه تصحف عمر بِمُحَمد.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": أَبُو مُسلم يحيى بن عمر بن يحيى الْأَصْفَهَانِي.

(6/2992)


(قَوْله: فصل)

{أَكثر أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: بَيَان الْغَايَة المجهولة ك {حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} [النِّسَاء: 15] لَيْسَ بنسخ، وَابْن عقيل وَغَيره: بلَى، فالناسخ: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} [النُّور: 2] الْآيَة، وللقاضي الْقَوْلَانِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: بَيَان الْغَايَة المجهولة ك {حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} اخْتلف كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم هَل هُوَ نسخ أم لَا؟ وَالْأَظْهَر النَّفْي.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": بَيَان الْغَايَة المجهولة مثل الَّتِي فِي قَوْله: {الْبيُوت حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} نسخ عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَقَالَ القَاضِي: النَّاسِخ {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} الْآيَة؛ لِأَن هَذِه الْغَايَة مَشْرُوطَة فِي حكم مُطلق؛ لِأَن غَايَة كل حكم إِلَى موت الْمُكَلف أَو إِلَى النّسخ.

(6/2993)


وَكَذَلِكَ ذكر فِي مَسْأَلَة نسخ الأخف بالأثقل: أَن حد الزَّانِي فِي أول الْإِسْلَام كَانَ الْحَبْس ثمَّ نسخ، وَجعل حد الْبكر الْجلد والتغريب وَالثَّيِّب الْجلد وَالرَّجم، وَكَذَا قَالَ القَاضِي أَيْضا لما احْتج الْيَهُود بِمَا حكوه عَن مُوسَى أَنه قَالَ: شريعتي مُؤَبّدَة مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَأجَاب بالتكذيب وبجواب آخر وَهُوَ: أَنه لَو ثَبت لَكَانَ مَعْنَاهُ: إِلَّا أَن يَدْعُو صَادِق إِلَى تَركهَا، وَهُوَ من ظَهرت المعجزة على يَده وَثبتت نبوته بِمثل مَا ثبتَتْ نبوة مُوسَى بِهِ، وَالْخَبَر يجوز تَخْصِيصه كَمَا يجوز تَخْصِيص الْأَمر وَالنَّهْي.
قلت: وعَلى هَذَا يَسْتَقِيم أَن شريعتنا ناسخة، وَهَذَا قَول أبي الْحُسَيْن وَغَيره، ثمَّ ذكر القَاضِي فِي مَسْأَلَة نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ أَن الْحَبْس فِي الْآيَة لم ينْسَخ؛ لِأَن النّسخ أَن يرد لفظ عَام يتَوَهَّم دَوَامه، ثمَّ يرد مَا يرفع بعضه، وَالْآيَة لم ترد بِالْحَبْسِ على التَّأْبِيد، وَإِنَّمَا وَردت بِهِ إِلَى غَايَة هُوَ أَن يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا فَأثْبت الْغَايَة فَوَجَبَ الْحَد بعد الْغَايَة بالْخبر. انْتهى.
فَائِدَة: للنسخ شُرُوط:
- مِنْهَا: كَون الْمَنْسُوخ حكما شَرْعِيًّا، لَا عقليا، وَأَن يكون مُنْفَصِلا مُتَأَخِّرًا عَن الْمَنْسُوخ.
- وَأَن يكون النّسخ بخطاب شَرْعِي.

(6/2994)


- وَأَن لَا يكون الْمَنْسُوخ مُقَيّدا بِوَقْت يَنْتَهِي بانتهائه على خلاف تقدم قَرِيبا.
- وَمِنْهَا: أَن يكون النَّاسِخ أقوى من الْمَنْسُوخ، أَو مثله، لَا أَضْعَف مِنْهُ على خلاف تقدم.
- وَمِنْهَا: أَن يكون الْمَنْسُوخ، مِمَّا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا، وَأَن لَا يكون فَلَا يدْخل النّسخ أصل التَّوْحِيد بِحَال؛ لِأَن الله تَعَالَى بأسمائه، وَصِفَاته لم يزل، وَلَا يزَال.
- وَمِنْهَا: مَا علم بِالدَّلِيلِ أَنه متأبد كشريعة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
- وَمِنْهَا: أَن لَا يكون مِمَّا هُوَ على صفة وَاحِدَة لَا يتَغَيَّر كمعرفة الله تَعَالَى بِمَا يجب لَهُ ويستحيل عَلَيْهِ وَيجوز لَهُ، وَلِهَذَا يمْتَنع نسخ الْأَخْبَار كَمَا سَيَأْتِي؛ إِذْ لَا يتَصَوَّر وُقُوعهَا على خلاف مَا وَقعت عَلَيْهِ، أما الْمُعَلق بِلَفْظ (أبدا) وَنَحْوه فَيَأْتِي بَيَانه.
- وَمِنْهَا: أَن يكون بَين النَّاسِخ والمنسوخ تعَارض، وَقد يُقَال: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الشَّرْط؛ لِأَن هَذَا من ضَرُورَة تصور النّسخ؛ لِأَنَّهُ إِذا أمكن الْجمع فَلَا تعَارض كَمَا تقدم، وَلِهَذَا لَا يُقَال: نسخ صَوْم يَوْم عَاشُورَاء وجوب صَوْم رَمَضَان، وَوَافَقَ رفع فرض غير الزَّكَاة فرض الزَّكَاة.

(6/2995)


فالنسخ رَافع عِنْد ذَلِك، لَا بِهِ، وَقد تقدم ذَلِك محررا فِي كَلَام الْمجد، وَغَيره فِي الْفَائِدَة.
فَائِدَة أُخْرَى:
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: التَّخْصِيص والنسخ يَشْتَرِكَانِ فِي كَون كل مِنْهُمَا يُوجب اخْتِصَاص بعض متناول اللَّفْظ، ويفترقان من أوجه:
مِنْهَا: أَن النَّاسِخ يشْتَرط تراخيه، والتخصيص يجوز اقترانه.
وَمِنْهَا: أَن النّسخ يدْخل فِي الْأَمر بمأمور بِخِلَاف التَّخْصِيص.
وَمِنْهَا: أَن النّسخ لَا يكون إِلَّا بِدَلِيل خطابي أَو مُقْتَضَاهُ، والتخصيص يجوز بأدلة الْعقل وقرائنه.
وَمِنْهَا: أَن النّسخ لَا يدْخل الْأَخْبَار، والتخصيص بِخِلَافِهِ.
وَمِنْهَا: أَن النّسخ لَا يبْقى مَعَه دلَالَة اللَّفْظ على مَا تَحْتَهُ والتخصيص يبْقى مَعَه ذَلِك.
وَمِنْهَا: أَن النّسخ فِي الْمَقْطُوع لَا يجوز إِلَّا بِمثلِهِ كَمَا تقدم، والتخصيص جَائِز فِيهِ بِخَبَر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس. انْتهى.

(6/2996)


(قَوْله {فصل} )

{يجوز النّسخ قبل الْفِعْل بعد دُخُول الْوَقْت إِجْمَاعًا} .
ذكره القَاضِي، وَابْن عقيل، وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، وَابْن برهَان فِي " الْوَجِيز "، والآمدي اتِّفَاقًا.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": لَا أعلم فِيهِ خلافًا.
قَالَ: وَلَا فرق عقلا بَين أَن يَعْصِي أَو يُطِيع، وَجزم بَعضهم بِالْمَنْعِ لعصيانه. انْتهى.
قَوْله: {وَقبل وَقت الْفِعْل} ، أَي: يجوز النّسخ قبل دُخُول وَقت الْفِعْل {عِنْد أَصْحَابنَا، والأشعرية، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة} ، وَذكره الْآمِدِيّ

(6/2997)


قَول أَكثر الْفُقَهَاء، وَذكره القَاضِي ظَاهر كَلَام أَحْمد إِذا شَاءَ الله نسخ من كِتَابه مَا أحب.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِيه نظر، {وَمنعه أَكثر الْحَنَفِيَّة والمعتزلة} ، والصيرفي، وَابْن برهَان، {وللتميمي} من أَصْحَابنَا {قَولَانِ} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَنقل غير ابْن السَّمْعَانِيّ الْمَنْع عَن أَكثر الْحَنَابِلَة.
اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - بِمَا تَوَاتر فِي ذَلِك، فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيرهمَا من نسخ فرض خمسين صَلَاة فِي السَّمَاء لَيْلَة الْإِسْرَاء بِخمْس قبل تمكنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْفِعْل.
وَفِي البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعثه فِي بعث، وَقَالَ: " إِن وجدْتُم فلَانا وَفُلَانًا فأحرقوهما بالنَّار "، ثمَّ قَالَ حِين أردنَا الْخُرُوج: " إِن النَّار لَا يعذب بهَا إِلَّا الله، فَإِن وجدتموهما فاقتلوهما ".

(6/2998)


وَأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَسْر قدور من لحم حمر إنسية، فَقَالَ رجل: أَو نغسلهَا؟ فَقَالَ: " اغسلوا " مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَلأَحْمَد أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث أَبَا بكر يبلغ بَرَاءَة، فَسَار ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ لعَلي: " الحقة، وَبَلغهَا أَنْت ".
وَأَيْضًا كَمَا يجوز رَفعه بِالْمَوْتِ وَغَيره؛ وَلِأَن كل نسخ قبل الْفِعْل لاستحالته بعده لتَحْصِيل الْحَاصِل، وَمَعَهُ لِامْتِنَاع الْفِعْل ونفيه.
وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَن إِبْرَاهِيم أَمر بِذبح الْوَلَد بِإِجْمَاع عُلَمَاء النَّقْل بِدَلِيل: {افْعَل مَا تُؤمر} [الصافات: 102] ولإقدامه عَلَيْهِ، وَنسخ قبل وقته، وَإِلَّا لعصي بِتَأْخِيرِهِ.
رد: لم ينْسَخ؛ لِأَن الْأَمر قَائِم لم ينْتَه، وَلم يتَّصل بمحله للْفِدَاء لَا النّسخ.
وَجَوَابه: منع بَقَاء الْأَمر بذَبْحه، بل نسخ بِالْفِدَاءِ.
وَسلم الْآمِدِيّ أَنه نسخ لَكِن بعد تمكنه، وَإِنَّمَا يكون قبله، لَو اقْتضى الْأَمر الْفَوْر، وتضيق وَقت الْإِمْكَان.
ورد: لَو كَانَ موسعا قَضَت الْعَادة بِتَأْخِيرِهِ رَجَاء نسخه، أَو مَوته لعظم الْأَمر، وَلم يمْنَع رفع تعلق الْوُجُوب بالمستقبل لبَقَاء الْأَمر على الْمُكَلف لعدم فعله، وَبَقَاء الْأَمر هُوَ الْمَانِع عِنْدهم.

(6/2999)


قَالُوا: لم يُؤمر، وَلِهَذَا قَالَ: {افْعَل مَا تُؤمر} [الصافات: 102] أَو أَمر بمقدمات الذّبْح بقوله:: {صدقت الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] .
رد: مَنَام النَّبِي وَحي، وَأَرَادَ ب أرى رَأَيْت، وَلِهَذَا أقدم.
وَقيل: {افْعَل مَا تُؤمر} أَي: مَا أمرت، أَو وقتا بعد وَقت، وَلَو أَمر بمقدماته لم يقل: {أذبحك} [الصافات: 102] وَلم يحْتَج إِلَى فدَاء، وَصدق الرُّؤْيَا باعتقاد جَازَ، وَبِكُل فعل أمكنه، وَهُوَ جَوَاب قَوْلهم: ذبحه والتحم مَعَ أَنه كَانَ يشْتَهر؛ لِأَنَّهُ معْجزَة.
قَالُوا: صفح عُنُقه بنحاس مَنعه مِنْهُ.
رد: فَيكون تكليفا بِمَا لَا يُطَاق، ونسخا قبل الْفِعْل وَكَانَ يشْتَهر.
قَالُوا: إِن أَمر بِالْفِعْلِ وَقت نسخه توارد النَّفْي وَالْإِثْبَات، وَإِلَّا فَلَا نسخ لعدم [رفع] شَيْء.
رد: يبطل بصم رَمَضَان ونسخه فِيهِ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورا ذَلِك الْوَقْت، بل قبله، وَانْقطع بالناسخ عِنْد وقته كالموت.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: دَلِيل الْمَسْأَلَة أَن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أمره الله تَعَالَى بِذبح وَلَده، ثمَّ نسخ ذَلِك عَنهُ قبل الْفِعْل بِدَلِيل أمره بِالذبْحِ قَوْله: {يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر} جَوَابا لقَوْله: {يَا بني إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك} ، وَلقَوْله: {إِن هَذَا لَهو الْبلَاء الْمُبين} [الصافات: 106] وَذَلِكَ الذّبْح؛ لِأَن مقدماته لَا تُوصَف بِمثل ذَلِك، وَلقَوْله: {وفديناه} [الصافات: 107] فَلَو لم يكن أَمر بذَبْحه لما احْتَاجَ للْفِدَاء، وَأما كَونه نسخ فَلِأَنَّهُ لَو لم ينْسَخ لوجد

(6/3000)


الذّبْح لضَرُورَة الِامْتِثَال، لَكِن لم يذبح، فَدلَّ على النّسخ، وَشَاهده {وفديناه بِذبح عَظِيم} وَهَذَا كُله جلي. انْتهى.
فَائِدَة: عبرنا عَن الْمَسْأَلَة بِمَا عبر بِهِ الْأَكْثَر بقولنَا: (قبل وَقت الْفِعْل) ، لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهِي قَاصِرَة عَن الْغَرَض، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: نسخ الشَّيْء قبل مضى مِقْدَار مَا يَسعهُ من وقته؛ ليدْخل فِيهِ مَا إِذا حضر وَقت الْعَمَل، وَلَكِن لم يمض مِقْدَار مَا يَسعهُ، فَإِن هَذِه الصُّورَة فِي مَحل النزاع.
وَيُجَاب بِأَن المُرَاد بِمَا قبل الْوَقْت مَا قبل خُرُوجه، لَا قبل دُخُول وقته فَقَط، وَحِينَئِذٍ فَيشْمَل الْأَمريْنِ، وَيكون المُرَاد بِالْوَقْتِ مَا يُمكن فِيهِ الْفِعْل حسا وَشرعا، لَا الْوَقْت الْمُقدر حَتَّى تكون الْمَسْأَلَة خَاصَّة بِالْوَقْتِ فَقَط.
وَعبر الْبَيْضَاوِيّ بقوله: يجوز نسخ الْوُجُوب قبل الْعَمَل.
فَيرد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا فرق بَين الْوَاجِب وَغَيره، ويشمل مَا قبل دُخُول وَقت الْعَمَل، وَمَا بعده قبل مُضِيّ زمن يَسعهُ، وَفِي مَعْنَاهُ إِذا لم يكن لَهُ وَقت، وَلَكِن أَمر بِهِ على الْفَوْر، ثمَّ نسخ قبل التَّمَكُّن، وإجراء الْخلاف فِي هَذِه الثَّلَاث صُورَة وَاضح ويشمل مَا بعد خُرُوج الْوَقْت، وَلَيْسَ ذَلِك من مَحل الْخلاف.

(6/3001)


قَوْله: {وَلَا نسخ قبل علم الْمُكَلف بِهِ، وَجوزهُ الْآمِدِيّ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا يجوز النّسخ قبل علم الْمُكَلف بالمأمور؛ بِهِ لعدم الْفَائِدَة باعتقاد الْوُجُوب والعزم على الْفِعْل، وَجوزهُ الْآمِدِيّ؛ لعدم مُرَاعَاة الحِكَم فِي أَفعاله تَعَالَى. انْتهى.
قَوْله: {وَيجوز فِي السَّمَاء وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُنَاكَ} ، ذكره ابْن عقيل، وَالْمجد، وَكثير من الْعلمَاء، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد بلغ بعض الْمُكَلّفين، وَهُوَ سيد الْبشر، فَإِنَّهُ قد اعْتقد وُجُوبه وَعلمه، وَعَلِيهِ يدل كَلَام السَّمْعَانِيّ حِين قَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد علمه واعتقد وُجُوبه فَلم يَقع النّسخ لَهُ إِلَّا بعد علمه واعتقاده. انْتهى. فَسَماهُ نسخا.
وَقد اسْتدلَّ ابْن مُفْلِح على جَوَاز النّسخ قبل وَقت الْفِعْل بنسخ الْخمسين صَلَاة بِخمْس كَمَا تقدم، وَلم يحك فِيهِ خلافًا، وَصرح بِهِ الْكرْمَانِي،

(6/3002)


وَابْن حجر فَقَالَ: قَالَ ابْن بطال وَغَيره: أَلا ترى أَنه - عز وَجل - نسخ الْخمسين قبل أَن تصلى، وَتعقبه ابْن الْمُنِير فَقَالَ: هَذَا ذكره طوائف من الْأُصُولِيِّينَ، والشراح، وَهُوَ مُشكل على من أثبت النّسخ قبل الْفِعْل كالأشاعرة أَو مَنعه كالمعتزلة لكَوْنهم اتَّفقُوا جَمِيعًا على أَن النّسخ لَا يتَصَوَّر قبل الْبَلَاغ، وَحَدِيث الْإِسْرَاء وَقع النّسخ فِيهِ قبل الْبَلَاغ فَهُوَ مُشكل عَلَيْهِم جَمِيعًا.
قَالَ: وَهَذِه نُكْتَة مبتكرة، قَالَ ابْن حجر: قلت: إِن أَرَادَ قبل الْبَلَاغ على وَاحِد فَمَمْنُوع، وَإِن أَرَادَ قبل الْبَلَاغ على الْأمة فَمُسلم، لَكِن قد يُقَال: لَيْسَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم نسخا، لَكِن هُوَ نسخ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّهُ مُكَلّف بذلك قطعا، ثمَّ نسخ بعد أَن بلغه، وَقبل أَن يفعل فَالْمَسْأَلَة صَحِيحَة التَّصَوُّر فِي حَقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: إِذا بلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّمَاء قبل النُّزُول إِلَى الأَرْض كفرض خمسين صَلَاة لَيْلَة الْإِسْرَاء لم يتَعَلَّق بِهِ حكم، وَلذَلِك كَانَ رَفعه بِخمْس صلوَات لَيْسَ بنسخ على مَا هُوَ الظَّاهِر.

(6/3003)


وَحكى الأول احْتِمَالا، وَحكى الْمجد مَا قَالَه الْبرمَاوِيّ عَن الْمُعْتَزلَة، فَإِنَّهُ قَالَ: يجوز النّسخ فِي السَّمَاء إِذا كَانَ هُنَاكَ مُكَلّف مثل الْإِسْرَاء بنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يكون ذَلِك بداء، ذكره ابْن عقيل خلافًا للمعتزلة.
وَمن منع كَون الْإِسْرَاء يقظة فِي جحدهم لوُقُوع ذَلِك، ومنعهم مِنْهُ عقلا. انْتهى.

(6/3004)


(قَوْله: {فصل} )

{ينْسَخ الْإِنْشَاء، وَالأَصَح لَو بِلَفْظ الْقَضَاء أَو الْخَبَر أَو قيد بالتأبيد أَو الحتم} .
لَا شكّ فِي جَوَاز نسخ الْإِنْشَاء إِذا كَانَ بِلَفْظ الْإِنْشَاء، وَقد تقدم لَهُ صور، وَهَذَا إِجْمَاع فِي الْجُمْلَة، أما إِذا كَانَ الْإِنْشَاء بِلَفْظ الْخَبَر، أَي: تكون صُورَة اللَّفْظ خَبرا، وَمَعْنَاهُ إنْشَاء وَذَلِكَ فِي صور:
إِحْدَاهَا: أَن يكون بِلَفْظ الْقَضَاء، كَقَوْلِك: قضى بِكَذَا، أَو كَذَا، قَالَ الله تَعَالَى: {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} [الْإِسْرَاء: 23] ، أَي: أَمر، وَهَذَا يجوز نسخه عِنْد الْجُمْهُور.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز نسخه؛ لِأَن الْقَضَاء إِنَّمَا يسْتَعْمل فِيمَا لَا يتَغَيَّر كالآية الْمُتَقَدّمَة.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ": وَهَذَا القَوْل غَرِيب لَا يعرف فِي كتب الْأُصُول، إِنَّمَا أَخذه المُصَنّف من كتب التَّفْسِير. انْتهى.

(6/3005)


الصُّورَة الثَّانِيَة: أَن يكون بِصِيغَة الْخَبَر، سَوَاء كَانَ بِمَعْنى الْأَمر أَو النَّهْي، نَحْو: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233] ، {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [الْبَقَرَة: 228] ، {لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا} [الْبَقَرَة: 233] ، فَقَالَ الْجُمْهُور: يجوز نسخه بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ، فَإِن مَعْنَاهُ الْإِنْشَاء.
وَقَالَ أَبُو بكر الدقاق: يمْتَنع نسخه بِاعْتِبَار لَفظه.
وَنقل أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب عَنهُ فِيهِ خلافًا، وَلَا وَجه لَهُ إِلَّا أَن يُقَال: لكَونه على صُورَة الْخَبَر.
الصُّورَة الثَّالِثَة: إِذا قيد الحكم بِلَفْظ التَّأْبِيد، وَنَحْوه بجملة فعلية مثل: صُومُوا يَوْم عَاشُورَاء أبدا، أَو حتما، أَو غَيره مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَا دَائِما، أَو مستمرا، فَيجوز بعد ذَلِك نسخه عِنْد الْجُمْهُور.
وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين، وَقَالَ بِهِ من الْحَنَفِيَّة أَبُو بكر الْجَصَّاص، وَأَبُو مَنْصُور الماتريدي، وَأَبُو زيد الدبوسي، والبزدويان الأخوان.

(6/3006)


قَالُوا: لمناقضته الأبدية، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى البداء.
وَجَوَابه: أَن ذَلِك إِنَّمَا يقْصد بِهِ الْمُبَالغَة، لَا الدَّوَام، كَمَا يَقُول: لَازم غريمك أبدا، وَإِنَّمَا يُرِيد لَازمه إِلَى وَقت الْقَضَاء، فَيكون المُرَاد هُنَا لَا تخل بِهِ إِلَى أَن يتقضى وقته، وكما يجوز تَخْصِيص عُمُوم مُؤَكد بِكُل وَيمْنَع التَّأْبِيد عرفا، وبالإلزام بتخصيص عُمُوم مُؤَكد، وَالْجَوَاب وَاحِد.
قَالُوا: إِذا كَانَ الحكم لَو أطلق الْخطاب مستمرا إِلَى النّسخ فَمَا الْفَائِدَة فِي التَّقْيِيد بالتأبيد؟
قُلْنَا: فَائِدَته التَّنْصِيص، والتأكيد، وَأَيْضًا فَلفظ الْأَبَد إِنَّمَا مَدْلُوله الزَّمَان المتطاول.
الصُّورَة الرَّابِعَة: أَن يُقيد بالتأبيد بجملة اسمية كَالصَّوْمِ وَاجِب مُسْتَمر أبدا، إِذا قَالَه على مَسْأَلَة الْإِنْشَاء فالجمهور على جَوَاز نسخه؛ لِأَن الْخَبَر عَن الحكم كالإنشاء فِي جَوَاز النّسخ بِهِ، لَكِن هَل يجوز مَا قيد بِهِ بالتأبيد، أَو يمْتَنع؟
الْجُمْهُور - كَمَا قُلْنَا - على الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة بِمَنْزِلَة الْفِعْل، كَذَا أبدا، وَوَقع فِي ابْن الْحَاجِب عبارَة تحْتَمل الْمَنْع فِي ذَلِك وتحتمل أَن يُرَاد بهَا غَيره.
فَقَالَ: الْجُمْهُور جَوَاز نسخ مثل: صُومُوا أبدا بِخِلَاف الصَّوْم مُسْتَمر

(6/3007)


أبدا. هَذَا لَفظه، ففهم بعض شراحه شَيْئا، وَقد اخْتلف الْأَصْفَهَانِي، والعضد فِي حل لَفظه، وَالصَّوَاب مَا قَالَه القَاضِي عضد الدّين وَوَافَقَهُ ابْن السُّبْكِيّ وَغَيره ثمَّ قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخَبَر إِذا كَانَ بِمَعْنى الْإِنْشَاء جَازَ أَن ينْسَخ كَمَا سبق، فمسألتا ابْن الْحَاجِب مستويتان. انْتهى.
قَوْله: {وَيجوز نسخ إِيقَاع الْخَبَر مُطلقًا، ونسخه بنقيضه خلافًا للمعتزلة} .

(6/3008)


قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر ": نسخ الْخَبَر لَهُ صُورَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: نسخ إِيقَاع الْخَبَر بِأَن يُكَلف الشَّارِع أحدا بِأَن يخبر بِشَيْء من عَقْلِي أَو عادي أَو شَرْعِي، كوجود الْبَارِي، وإحراق النَّار، وإيمان زيد، ثمَّ ينسخه فَهَذَا جَائِز اتِّفَاقًا، وَهل يجوز نسخه بنقيضه؟ أَي: بِأَن يكون الْإِخْبَار بنقيضه، الْمُخْتَار جَوَازه خلافًا للمعتزلة، ومبناه أصلهم فِي حكم الْعقل؛ لِأَن أَحدهمَا كذب فالتكليف بِهِ قَبِيح، وَقد علمت فَسَاده.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الثَّالِث: أَن يُرَاد مَعَ نسخه التَّكْلِيف بالإخبار بضد الأول، إِلَّا أَن الْمخبر بِهِ مِمَّا لَا يتَغَيَّر كالإخبار بِكَوْن السَّمَاء فَوق الأَرْض ينْسَخ بالإخبار بِأَن السَّمَاء تَحت الأَرْض، وَذَلِكَ جَائِز، وَخَالفهُ الْمُعْتَزلَة فِيهِ - كَمَا قَالَ الْآمِدِيّ - محتجين بِأَن أَحدهمَا كذب، والتكليف بِهِ قَبِيح فَلَا يجوز عقلا، وَهُوَ بِنَاء على قاعدتهم الْبَاطِلَة فِي التحسين والتقبيح العقليين.

(6/3009)


فَإِن قيل: الْكَذِب نقص وقبحه بِاتِّفَاق فَلم لَا يمْتَنع ذَلِك؟
وَالْجَوَاب: أَن الْقبْح فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لفَاعِله، لَا بِاعْتِبَار التَّكْلِيف بِهِ، بل إِذا كلف بِهِ صَار جَائِزا فَلَا يكون قبيحا؛ إِذْ لَا حسن، وَلَا قبح إِلَّا بِالشَّرْعِ لَا سِيمَا إِذا تعلق بِهِ غَرَض شَرْعِي فَإِنَّهُ من حَيْثُ ذَلِك يكون حسنا. انْتهى.
وَقد اسْتشْهد لذَلِك بمسائل.
قَوْله: {لَا نسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر} . إِذا كَانَ ذَلِك الحكم فَمَا لَا يتَغَيَّر، فَلَا يجوز فِيهِ النّسخ بِالْإِجْمَاع، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي، وَابْن برهَان، وَذَلِكَ كصفات الله تَعَالَى، وأخبار مَا كَانَ وَمَا يكون، وأخبار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وأخبار الْأُمَم السالفة، وَالْأَخْبَار عَن السَّاعَة وأمارتها وَنَحْوه.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَنسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر محَال إِجْمَاعًا.
قَوْله: {وَلَا خبر يتَغَيَّر كَإِيمَانِ زيد، وكفره} . إِذا كَانَ ذَلِك الحكم مِمَّا يتَغَيَّر كَإِيمَانِ زيد - مثلا - وكفره فَلَا يجوز نسخه أَيْضا على الْأَصَح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.

(6/3010)


قَالَ ابْن مُفْلِح: مَنعه جُمْهُور الْفُقَهَاء والأصوليين، فَمن أَصْحَابنَا ابْن الْأَنْبَارِي، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق، وَجزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة ".
وَمن الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم كالصيرفي، وَأبي إِسْحَاق الْمروزِي، والباقلاني، والجبائي، وَابْنه أبي هَاشم، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَابْن الْحَاجِب، قَالَ الْأَصْفَهَانِي: هُوَ الْحق.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَأَبُو عبد الله، وَأَبُو الْحُسَيْن البصريان، وَعبد الْجَبَّار، وَنسبه ابْن برهَان للمعظم: يجوز نسخ ذَلِك.

(6/3011)


وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
يخرج عَلَيْهِ نسخ المحاسبة بِمَا فِي النُّفُوس فِي قَوْله: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم} [الْبَقَرَة: 284] كَقَوْل جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَهُوَ فِي " صَحِيح مُسلم " عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عمر.
قَالَ الْخطابِيّ: النّسخ يجْرِي فِيمَا أخبر الله أَنه يَفْعَله؛ لِأَنَّهُ يجوز تَعْلِيقه على شَرط بِخِلَاف إخْبَاره عَمَّا لَا يَفْعَله؛ إِذْ لَا يجوز دُخُول الشَّرْط فِيهِ. قَالَ: وعَلى هَذَا تَأَول ابْن عمر النّسخ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} [الْبَقَرَة: 284] فَإِنَّهُ نسخهَا بعد ذَلِك بِرَفْع حَدِيث النَّفس. انْتهى.
وَالْقَوْل الثَّالِث: التَّفْصِيل بَين الْخَبَر عَن الْمَاضِي فَيمْتَنع نسخه؛ لِأَنَّهُ يكون تَكْذِيبًا، دون الْمُسْتَقْبل؛ لجريانه مجْرى الْأَمر وَالنَّهْي، فَيجوز أَن يرفع بِهِ، وَهَذَا القَوْل بِاخْتِيَار ابْن عقيل، والخطابي، وَابْن الْقطَّان،

(6/3012)


وسليم الرَّازِيّ، والبيضاوي فِي " مُخْتَصره ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَ ابْن عقيل إِن تعلق بمستقبل جَازَ فِيهِ نوع احْتِمَال كعفو فِي وَعِيد، وَصفه وَشرط.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي مَوضِع آخر: وَنسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر محَال إِجْمَاعًا كَمَا تقدم، وَإِلَّا جَازَ، أَي: وَإِن تغير جَازَ عِنْد عبد الْجَبَّار وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَأبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة، والآمدي؛ لتكرر مَدْلُوله كَمَا فِي الْأَمر وكالخبر بِمَعْنى الْأَمر.
وَمنعه ابْن الباقلاني، والجبائية، وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَمنعه بَعضهم فِي الْخَبَر الْمَاضِي. انْتهى.
تَنْبِيه: هَذَا التَّفْصِيل مَبْنِيّ على أَن الْكَذِب لَا يكون فِي الْمُسْتَقْبل، بل فِي الْمَاضِي، وَهُوَ قَول مَشْهُور تقدم ذكر، وَذكره مُقَابِله فِي أَحْكَام الْخَبَر فِي أَوَائِل أَحْكَام الحَدِيث، وَأَن مَنْصُوص أَحْمد أَنه يكون فِي الْمُسْتَقْبل

(6/3013)


كالماضي على مَا سبق تحريره.
وَفِي نسخ الْخَبَر قَول رَابِع بالتفصيل بَين أَن يكون الْخَبَر الأول مُعَلّقا بِشَرْط أَو اسْتثِْنَاء فَيجوز نسخه، وَإِلَّا فَلَا، قَالَه ابْن مقلة فِي كتاب " الْبُرْهَان "، قَالَ: كَمَا وعد قوم يُونُس بِالْعَذَابِ إِن لم يتوبوا، فَلَمَّا تَابُوا كشف عَنْهُم.
وَقَول خَامِس، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ: يجوز مُطلقًا إِذا كَانَ مِمَّا يتَكَرَّر، وَالْخَبَر عَام فيتبين بالناسخ إِخْرَاج مَا لم يتَنَاوَلهُ اللَّفْظ.
قَوْله: {وَإِن كَانَ الْخَبَر عَن حكم جَازَ قطعا} .
مَحل الْخلاف الْمُتَقَدّم فِي غير الْخَبَر عَن الحكم، نَحْو: هَذَا الْفِعْل جَائِز، أَو حرَام، فَهَذَا يجوز نسخه بِلَا خلاف؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة إنْشَاء، قَالَه الْبرمَاوِيّ وَغَيره.

(6/3014)


قَوْله: {وَلَو قيدنَا الْخَبَر بالتأبيد لم يجز، خلافًا للآمدي، وَمَال إِلَيْهِ فِي " التَّمْهِيد "} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: فَلَو قيدنَا الْخَبَر بالتأبيد لم يجز خلافًا للآمدي.
وَفِي " التَّمْهِيد ": إِفَادَة الدَّوَام فيهمَا لَا يمْنَع من دَلِيل أَن المُرَاد بِهِ غير ظَاهره كالعموم، ثمَّ مُطلق الْخَبَر كالمقيد بالتأبيد فَالْأَمْر مثله ثمَّ مُطلق الْأَمر ينْسَخ فَكَذَا مقيده، وَإِن كَانَ الْخَبَر المُرَاد بِهِ إِذا كَانَ بِمَعْنى الْإِنْشَاء فَهُوَ الصُّورَة الرَّابِعَة الَّتِي تقدّمت، وَإِن كَانَ المُرَاد بتقييده الْخَبَر وَهُوَ على مَا بِهِ فَهِيَ مَسْأَلَة أُخْرَى، وتابعت فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح.
قَوْله: {وَجَوَاز تأبيد التَّكْلِيف بِلَا غَايَة مَبْنِيّ على وجوب الْجَزَاء، وَجوزهُ ابْن عقيل وَغَيره، وَأَنه قَول الْفُقَهَاء والأشعرية، وَخَالف بعض أَصْحَابنَا والمعتزلة} .

(6/3015)


قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَتَبعهُ من بعده: يجوز أَن يرد الْأَمر وَالنَّهْي دَائِما إِلَى غير غَايَة فَيَقُول: صلوا مَا بَقِيتُمْ أبدا، وصوموا رَمَضَان مَا حييتُمْ أَيْضا، فَيَقْتَضِي الدَّوَام مَعَ بَقَاء التَّكْلِيف، وَبِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء والأشاعرة من الْأُصُولِيِّينَ، وَحَكَاهُ ابْن عقيل فِي أَوَاخِر كِتَابه.
قَالَ الْمجد: ومنعت الْمُعْتَزلَة مِنْهُ، وَقَالُوا: مَتى ورد اللَّفْظ بذلك لم يقتض الدَّوَام، وَإِنَّمَا هُوَ حث على التَّمَسُّك بِالْفِعْلِ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وحرف الْمَسْأَلَة أَنهم لَا يمْنَعُونَ الدَّوَام مُطلقًا، وَيَقُولُونَ: لَا بُد من دَار ثَوَاب غير دَار التَّكْلِيف وجوبا على الله فَيكون قَوْله: أبدا مجَازًا، وَمُوجب قَوْلهم: أَن الْمَلَائِكَة غير مكلفين، وَقد اسْتدلَّ ابْن عقيل باستعباد الْمَلَائِكَة وإبليس. انْتهى.

(6/3016)


(قَوْله: {فصل} )

{الْأَكْثَر على جَوَاز النّسخ بِلَا بدل، وَمنعه جمع، وَجمع فِي الْعِبَادَة} .
الَّذِي ذهب إِلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء أَنه يجوز النّسخ بِلَا بدل، وَمنعه قوم وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن جُمْهُور الْمُعْتَزلَة، وَنَقله الباقلاني عَن الْمُعْتَزلَة، وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَن بعض أهل الظَّاهِر، وَمنعه بعض الْعلمَاء فِي الْعِبَادَة بِنَاء على أَن النّسخ يجمع معنى الرّفْع وَالنَّقْل، نَقله ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
اسْتدلَّ الْجُمْهُور بِمَا اعْتمد عَلَيْهِ فِي إِثْبَات النّسخ؛ وَلِأَنَّهُ نسخ تَقْدِيم الصَّدَقَة أما الْمُنَاجَاة، وَتَحْرِيم ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي.

(6/3017)


وَفِي البُخَارِيّ أَنه كَانَ إِذا دخل وَقت الْفطر فَنَامَ قبل أَن يفْطر حرم الطَّعَام وَالشرَاب، وإتيان النِّسَاء إِلَى اللَّيْلَة الْآتِيَة، ثمَّ نسخ.
وَاحْتج الْآمِدِيّ على عَادَته أَنه لَو فرض وُقُوعه لم يلْزم مِنْهُ محَال.
ورده بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَنَّهُ مُجَرّد دَعْوَى، وَأَن إِمْكَان هَذَا ذهني بِمَعْنى عدم الْعلم بالامتناع، لَيْسَ إِمْكَانه خارجيا بِمَعْنى الْعلم بِهِ خَارِجا فَإِنَّهُ يكون للْعلم بِوُجُودِهِ، أَو نَظِيره أَو أولى مِنْهُ كَمَا يذكر فِي الْقُرْآن، قَالُوا: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} [الْبَقَرَة: 106] .
رد: الْخلاف فِي الحكم لَا فِي اللَّفْظ، ثمَّ لَيْسَ عَاما فِي كل حكم، ثمَّ مَخْصُوص بِمَا سبق، ثمَّ يكون نسخه بِغَيْر بدل خيرا لمصْلحَة علمهَا، ثمَّ إِنَّمَا تدل الْآيَة أَنه لم يَقع لَا أَنه لَا يجوز.
وَأَيْضًا الْمصلحَة قد تكون فِيمَا نسخ، ثمَّ تصير الْمصلحَة فِي عَدمه، هَذَا عِنْد من يعْتَبر الْمصَالح، وَأما من لَا يَعْتَبِرهَا فَلَا إِشْكَال فِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء.

(6/3018)


قَالَ الباقلاني: كَمَا يجوز أَن الله تَعَالَى يرفع التكاليف كلهَا يجوز أَن يرفع بَعْضهَا بِلَا بدل من بَاب أولى.
قَوْله: {فعلى الأول وَقع عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف الشَّافِعِي وَأول} .
وَالدَّلِيل على الْوُقُوع مَا تقدم من الْآيَات، وَنفى الشَّافِعِي إِيقَاع ذَلِك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَيْسَ المُرَاد أَن الشَّافِعِي نفى أَن لَا ينْسَخ حكم إِلَّا وَيثبت حكم آخر متجدد، بل على معنى آخر نذكرهُ بعد حِكَايَة النَّص فَقَالَ فِي الرسَالَة فِي ابْتِدَاء النَّاسِخ والمنسوخ: وَلَيْسَ ينْسَخ فرض أبدا إِلَّا أثبت مَكَانَهُ فرض كَمَا نسخت قبْلَة بَيت الْمُقَدّس فَأثْبت مَكَانهَا الْكَعْبَة. انْتهى.
قَالَ الصَّيْرَفِي فِي " شَرحه ": مُرَاده أَن ينْقل من حظر إِلَى إِبَاحَة، أَو من إِبَاحَة إِلَى حظر، أَو تَخْيِير على حسب أَحْوَال الْفُرُوض. قَالَ: كنسخ الْمُنَاجَاة فَإِنَّهُ تَعَالَى لما فرض تَقْدِيم الصَّدَقَة أَزَال ذَلِك بردهمْ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِن شَاءُوا تقربُوا إِلَى الله تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ، وَإِن شَاءُوا ناجوه من غَيره صَدَقَة.
قَالَ: فَهَذَا معنى قَول الشَّافِعِي فرض فتفهمه. انْتهى.

(6/3019)


فَظهر أَن المُرَاد الشَّافِعِي بِالْبَدَلِ أَعم من حكم آخر ضد الْمَنْسُوخ كالقبلة أَو الرَّد لما كَانُوا عَلَيْهِ قبل شرع الْمَنْسُوخ كالمناجاة، فالمدار على ثُبُوت حكم شَرْعِي فِي الْمَنْسُوخ فِي الْجُمْلَة حَتَّى لَا يتْركُوا هملا إِلَى أَمر آخر وَلَو أَنه إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل ذَلِك، فَلم يُغَادر الرب - تَعَالَى - عباده هملا، فالصور أَربع:
إِحْدَاهَا: الْجَوَاز بِلَا بدل، وَلَا يُخَالف فِيهِ إِلَّا بعض الْمُعْتَزلَة، والظاهرية.
وَالثَّانيَِة: الْوُقُوع بِلَا بدل أصلا، وَيصير ذَلِك بِلَا حكم أصلا، بل يبْقى كالأفعال قبل وُرُود الشَّرْع، وَهَذَا مَعَ جَوَازه، لم يقل بِهِ أحد، وَلَا حفظ فِيهِ شَيْء من الشَّرْع يكون مِثَالا لَهُ.
وَالثَّالِثَة: وُقُوعه بِبَدَل، إِمَّا بإحداث أَمر كالكعبة، أَو إِبَاحَة مَا كَانَ وَاجِبا كالمناجاة، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِي بقوله السَّابِق فَلَا يفهم مِمَّا أَرَادَ من الْبَدَل إِلَّا ذَلِك، وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام القَاضِي أبي بكر أَيْضا، وَهُوَ الْحق كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
وَالرَّابِعَة: وُقُوعه بِبَدَل متجدد أصل كالكعبة بعد بَيت الْمُقَدّس، يكون شرطا لَا بُد مِنْهُ، وَهِي مَسْأَلَة الْوُقُوع الَّتِي فِيهَا الْخلاف، وَالْجُمْهُور على عدم اشْتِرَاط مثل ذَلِك، وَلَيْسَ ذَلِك مَحل كَلَام الشَّافِعِي.

(6/3020)


وَمِمَّنْ أَشَارَ إِلَى مَا قَرَّرْنَاهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيص " " مُخْتَصر التَّقْرِيب ". انْتهى كَلَام الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {وَيجوز بأثقل عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف قوم مُطلقًا، وَقوم شرعا، وَقوم عقلا، وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل} .
قد تقرر أَن النّسخ جَائِز، وواقع بِبَدَل، وَبِغير بدل، فَإِذا كَانَ بِبَدَل فالبدل إِمَّا مسَاوٍ أَو أخف، أَو أثقل، والأولان جائزان بِاتِّفَاق.
مِثَال الْمسَاوِي: نسخ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس بِالْكَعْبَةِ.
وَمِثَال الأخف: وجوب مصابرة الْعشْرين من الْمُسلمين مِائَتَيْنِ من الْكفَّار وَالْمِائَة ألفا كَمَا فِي الْآيَة نسخ بقوله تَعَالَى: {الئن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ} [الْأَنْفَال: 66] فَأوجب مصابرة الضعْف، وَهُوَ

(6/3021)


أخف من الأول، وَمثله نسخ الْعدة بالحول فِي الْوَفَاة بالعدة بأَرْبعَة أشهر وَعشر.
وَأما النّسخ بالأثقل فَهُوَ مَحل الْخلاف، وَالْجُمْهُور على الْجَوَاز وَدَلِيل وُقُوعه: أَن الْكَفّ عَن الْكفَّار كَانَ وَاجِبا بقوله تَعَالَى: {ودع أذاهم} [الْأَحْزَاب: 48] فنسخ بِإِيجَاب الْقِتَال وَهُوَ أثقل، أَي: أَكثر مشقة، وَكَذَا نسخ وجوب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء بِصَوْم رَمَضَان، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة: إِنَّه كَانَ وَاجِبا، وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد والأثرم صَاحبه.

(6/3022)


وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه لم يكن وَاجِبا، وَإِنَّمَا كَانَ متأكد الِاسْتِحْبَاب، وَبِه قَالَ كثير من أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
لَكِن يظْهر لي فِي ذَلِك إِشْكَال وَهُوَ أَنه قد تقدم أَن عَاشُورَاء مَا نسخ برمضان، وَإِنَّمَا وَافق نسخ عَاشُورَاء وجوب صِيَام رَمَضَان فَمَا نسخ بأثقل وَلَا بأخف وَإِنَّمَا نسخ عَاشُورَاء وَأوجب الله صِيَام رَمَضَان من غير أَن ينْسَخ بِهِ.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة، وَابْن دَاوُد وَغَيره من الظَّاهِرِيَّة وَذكره ابْن برهَان عَن الْمُعْتَزلَة: لَا يجوز النّسخ بأثقل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: الْجُمْهُور جَوَاز النّسخ بأثقل خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة وَابْن دَاوُد، وَغَيره.

(6/3023)


وَأما الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: قَالَ بعض أهل الظَّاهِر بِمَنْعه، ثمَّ مِنْهُم من أجَاز ذَلِك عقلا، وَمنع مِنْهُ سمعا، وَهُوَ رَأْي أبي بكر بن دَاوُد الظَّاهِرِيّ، وَمِنْهُم من مَنعه عقلا، وَمِنْهُم من قَالَ بِجَوَاز ذَلِك وَلم يَقع.
وَالْمَقْصُود أَن فِي الْمَسْأَلَة أقوالا: الْجَوَاز مُطلقًا، وَعَدَمه مُطلقًا، وجوازه عقلا لَا سمعا، وَمنعه عقلا لَا شرعا - وَقُلْنَا اخْتَارَهُ ابْن عقيل - وجوازه مُطلقًا وَإِن لم يَقع.
وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب - وَهُوَ الصَّحِيح - بِمَا سبق، وَبِأَنَّهُ لَا يمْتَنع لذاته وَلَا لتَضَمّنه مفْسدَة ولوقوعه، كنسخ تَخْيِير الصَّحِيح بَين صَوْم رَمَضَان والفدية بصومه وعاشوراء برمضان.
إِن قيل: إِنَّه كَانَ وَاجِبا كَمَا تقدم، وَالْحَبْس فِي الْبيُوت بِالْحَدِّ، والصفح عَن الْكفَّار بقتل مُقَاتلَتهمْ، ثمَّ بقتالهم كَافَّة كَمَا تقدم.
قَالُوا: أبعد من الْمصلحَة وأشق.
رد: لَازم فِي ابْتِدَاء التَّكْلِيف، وَإِن اعْتبرت الْمصلحَة فقد تكون فِي الأثقل كَمَرَض وَغَيره.
قَالُوا: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} قَالَ ابْن عَبَّاس: بأيسر على النَّاس.

(6/3024)


وَقَالَ غَيره: {أَو مثلهَا} أَي: فِي الثَّوَاب، وَالْحكمَة فِي تبديلها الِاخْتِيَار.
وَجَوَابه مَا سبق فِي الَّتِي قبلهَا، فَإِن ثَبت عَن ابْن عَبَّاس فَمَعْنَاه غَالِبا كَمَا سبق وَهُوَ خير بِاعْتِبَار الثَّوَاب، وَقَالَهُ القَاضِي.
قَالُوا: تَشْدِيد فَلَا يَلِيق برأفة الله تَعَالَى: {الئن خفف الله عَنْكُم} [الْأَنْفَال: 66] ، {يُرِيد الله بكم الْيُسْر} [الْبَقَرَة: 185] ، {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم} [النِّسَاء: 28] .
قُلْنَا: منقوض بتسليطه الْمَرَض، والفقر، وأنواع الآلام، والمؤذيات.
فَإِن قيل: لمصَالح علمهَا.
قُلْنَا: قد أجبتم عَنَّا.
{فَائِدَة: تتَعَلَّق بهَا} .
وَجه كَونهَا تتَعَلَّق بِالْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا لِأَن فِيهَا الْخَيْرِيَّة لقَوْله: {نأت بِخَير مِنْهَا} فَدلَّ أَن فِيهِ مَا هُوَ خير من الْمَنْسُوخ، أَو مثله، وَهِي: هَل يتفاضل الْقُرْآن وثوابه، أم لَا؟
فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء:
أَحدهمَا: أَنه يتفاضل، وثواب بعضه أَكثر من بعض، وَقد وَردت النُّصُوص الصَّرِيحَة الصَّحِيحَة بذلك. وَهَذَا عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم:

(6/3025)


الإِمَام إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، والقرطبي، وَابْن عقيل، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والحليمي، وَالْبَيْهَقِيّ، وَابْن الْعَرَبِيّ، وَابْن الْحصار، والقرطبي وَالنَّوَوِيّ، وَغَيرهم، وَالْقَاضِي من أَصْحَابنَا أَيْضا.
وَقَالَ هُوَ أَيْضا وَجَمَاعَة من الْعلمَاء: لَا يجوز أَن يتفاضل ثَوَابه؛ لِأَنَّهُ جَمِيعه صفة لله تَعَالَى.

(6/3026)


قَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن دَاوُد الْحَنْبَلِيّ القادري فِي أَدِلَّة أوراده: فِي تَفْضِيل بعض الْآيَات والسور على بعض خلاف، رجح إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَابْن الْعَرَبِيّ، وَابْن الْحصار من الْمَالِكِيَّة، والقرطبي التَّفْضِيل؛ لِأَن مَا تضمنه قَوْله تَعَالَى: {وإلهكم إِلَه وَاحِد} [الْبَقَرَة: 163] ، وَآيَة الْكُرْسِيّ، وَسورَة الْإِخْلَاص، وَنَحْوهَا من الدلالات على وحدانيته وَصِفَاته لَيْسَ مَوْجُودا - مثلا - فِي سُورَة تبت، وَمَا كَانَ مثلهَا، فالتفضيل إِنَّمَا هُوَ بالمعاني العجيبة، وَكَثْرَتهَا، لَا من حَيْثُ الصّفة، وَهَذَا هُوَ الْحق، قَالَه الْقُرْطُبِيّ.
قَالَ ابْن الْحصار: عجبي مِمَّن يذكر الْخلاف مَعَ هَذِه النُّصُوص.

(6/3027)


قَالَ بَعضهم: إِطْلَاق أعظم وَأفضل فِي بعض السُّور بِمَعْنى فَاضل وعظيم، وَهُوَ رَاجع إِلَى عظم أجر قَارِئ ذَلِك، وجزيل ثَوَابه. قَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمُخْتَار جَوَاز قَول هَذِه الْآيَة أَو هَذِه السُّورَة أعظم وَأفضل بِمَعْنى أَن الثَّوَاب الْمُتَعَلّق بهَا أكبر، وَأعظم. انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا، وَغَيره: لَا يُقَال ذَلِك، وَذَلِكَ لِأَن جَمِيع الْقُرْآن صفة من صِفَات الله تَعَالَى، وَهِي لَا تَتَفَاوَت.
قَوْله: {تَنْبِيه: لم تنسخ إِبَاحَة إِلَى إِيجَاب، وَلَا إِلَى كَرَاهَة} ، رَأَيْت ذَلِك فِي بعض كتب أَصْحَابنَا) .

(6/3028)


(قَوْله: {فصل} )

الْأَرْبَعَة وَغَيرهم يجوز نسخ التِّلَاوَة دون الحكم وَعَكسه، خلافًا لبَعض الْمُعْتَزلَة، ونسخهما مَعًا} . يَعْنِي: نسخ التِّلَاوَة وَالْحكم خلافًا للمعتزلة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلم تخَالف الْمُعْتَزلَة فِي نسخهما مَعًا لما حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَنْهُم. انْتهى.
نسخ جَمِيع الْقُرْآن مُمْتَنع بِالْإِجْمَاع؛ لِأَنَّهُ معْجزَة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المستمرة على التَّأْبِيد {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد (42) } [فصلت: 42] فِي بعض التفاسير: لَا يَأْتِي مَا يُبطلهُ.

(6/3029)


ثمَّ فِي كَيْفيَّة وُقُوع النّسخ فِي بعضه ثَلَاثَة أَنْوَاع:
- مَا نسخ تِلَاوَته وَحكمه بَاقٍ.
- وَمَا نسخ حكمه فَقَط وتلاوته بَاقِيَة.
- وَمَا جمع فِيهِ نسخ التِّلَاوَة الحكم.
مِثَال الأول: مَا رَوَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَابْن ماجة عَن عمر أَنه قَالَ: " إيَّاكُمْ أَن تهلكوا عَن آيَة الرَّجْم، أَو يَقُول قَائِل: لَا نجد حَدَّيْنِ فِي كتاب الله، فَلَقَد رجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَن يَقُول النَّاس زَاد عمر فِي كتاب الله لأثبتها: (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة) فَإنَّا قد قرأناها ".
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن عمر أَنه قَالَ: " كَانَ فِيمَا أنزل آيَة الرَّجْم فقرأناها وعقلناها ورجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ورجمنا بعده ".
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " فِي قَوْله: (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة) : علقه على الشَّيْخَيْنِ لإحصانهما غَالِبا، فَالْمُرَاد بالشيخ وَالشَّيْخَة المحصنان، حدهما الرَّجْم بِالْإِجْمَاع، وَقد تَابع عمر جمع من الصَّحَابَة على ذَلِك كَأبي ذَر،

(6/3030)


فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَصَححهُ.
وَفِي رِوَايَة أَحْمد، وَابْن حبَان: أَنَّهَا كَانَت فِي سُورَة الْأَحْزَاب.
وروى زيد بن ثَابت فِي " مُعْجم الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير "، وَأبي فِيمَا رَوَاهُ ابْن حبَان قَالَ: كَانَت توازي سُورَة الْبَقَرَة، فَكَانَ فِي (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة) إِلَى آخِره (إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة) وَالْمرَاد بِمَا قضيا من اللَّذَّة.
فَهَذَا الحكم فِيهِ بَاقٍ، وَاللَّفْظ مُرْتَفع، لرجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ماعزا، والغامدية، واليهوديين.
وَمِثَال الثَّانِي: مَا نسخ حكمه وَبَقِي لَفظه عكس الَّذِي قبله: آيَة الْمُنَاجَاة وَالصَّدَََقَة بَين يَديهَا، وَلم يعْمل بِهَذِهِ الْآيَة إِلَّا عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ -

(6/3031)


فَفِي التِّرْمِذِيّ عَنهُ: أَنَّهَا لما نزلت قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا ترى؟ دِينَارا. قَالَ: لَا يطيقُونَهُ. قَالَ: نصف دِينَار. قَالَ: لَا يطيقُونَهُ. قَالَ: مَا ترى؟ قَالَ: شعيرَة. قَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّك لَزَهِيد. قَالَ عَليّ: حَتَّى خفف الله عَن هَذِه الْأمة بترك الصَّدَقَة.
وَمعنى قَوْله: (شعيره) من ذهب.
وروى الْبَزَّار عَن عبد الرَّزَّاق عَن مُجَاهِد، قَالَ: قَالَ عَليّ: مَا عمل بهَا أحد غَيْرِي حَتَّى نسخت، وَأَحْسبهُ قَالَ: وَمَا كَانَت إِلَّا سَاعَة من نَهَار.
وَفِي " مُعْجم الطَّبَرَانِيّ ": أرى الَّذِي قدم بَين يَدي الْمُنَاجَاة سعد، وَقَالَ: قدمت شعيرَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّك لَزَهِيد.
وَمِثَال آخر لهَذَا الْقسم: الِاعْتِدَاد فِي الْوَفَاة بالحول نسخ بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} [الْبَقَرَة: 234] على مَا ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور الْمُفَسّرين.
وَمِثَال الثَّالِث: وَهُوَ مَا نسخ لَفظه، وَحكمه: مَا رَوَاهُ مُسلم عَن عَائِشَة: كَانَ مِمَّا أنزل عشر رَضعَات مَعْلُومَات فنسخن بِخمْس مَعْلُومَات،

(6/3032)


فَلم يبْق لهَذَا اللَّفْظ حكم الْقُرْآن لَا فِي الِاسْتِدْلَال، وَلَا فِي غَيره؛ فَلذَلِك كَانَ الصَّحِيح عندنَا جَوَاز مس الْمُحدث مَا نسخ لَفظه أَعم من أَن ينْسَخ حكمه أَولا.
وَوجه ابْن عقيل: الْمَنْع لبَقَاء حرمته كبيت الْمُقَدّس نسخ كَونه قبْلَة وحرمته بَاقِيَة، وَالْجَوَاز لعدم حُرْمَة كتبه فِي الْمُصحف.
وَجه الْجَوَاز فِي الْكل أَن التِّلَاوَة حكم وَمَا تعلق بهَا من الْأَحْكَام حكم آخر فَجَاز نسخهما، وَنسخ أَحدهمَا كغيرهما، وَقد وَقع ذَلِك كَمَا تقدم فِي الْمُنَاجَاة.
وَقَالَ الْمَانِع من ذَلِك: التِّلَاوَة مَعَ حكمهَا متلازمان كَالْعلمِ مَعَ العالمية وَالْحَرَكَة مَعَ المتحركية، والمنطوق مَعَ الْمَفْهُوم.
رد ذَلِك: بِأَن الْعلم هُوَ العالمية، وَالْحَرَكَة هِيَ المتحركية، وَمنع أَن الْمَنْطُوق لَا يَنْفَكّ عَن الْمَفْهُوم.

(6/3033)


سلمنَا الْمُغَايرَة وَأَن الْمَنْطُوق لَا يَنْفَكّ فالتلاوة أَمارَة الحكم ابْتِدَاء لَا دواما فَلَا يلْزم من نَفيهَا نَفْيه، وَبِالْعَكْسِ.
قَالُوا: بَقَاء التِّلَاوَة توهم بَقَاء الحكم فَيُؤَدِّي إِلَى التجهيل، أَو إبِْطَال فَائِدَة الْقُرْآن.
رد ذَلِك بِأَنَّهُ مَبْنِيّ على التحسين الْعقلِيّ، ثمَّ لَا جهل مَعَ الدَّلِيل للمجتهد، وَفرض الْمُقَلّد التَّقْلِيد، والفائدة الإعجاز، وَصِحَّة الصَّلَاة بِهِ.
فَوَائِد:
إِحْدَاهَا: هَذِه الْأَقْسَام الْمُتَقَدّمَة فِيهَا خلاف سوى مَا تقدم.
فَمنع بعض الْأُصُولِيِّينَ نسخ الحكم دون التِّلَاوَة؛ لِأَن الْقَصْد من التِّلَاوَة حكمهَا فَإِذا انْتَفَى الحكم فَلَا فَائِدَة فِي بَقَائِهَا، حَكَاهُ جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة، وَبَعض أَصْحَابنَا، وَمنع بَعضهم نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم، وَبِه صرح شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ، وَمنع بَعضهم الْقسمَيْنِ؛ لِأَن أَحدهمَا فِيهِ بَقَاء الدَّلِيل بِلَا مَدْلُول، وَالْآخر بَقَاء الْمَدْلُول بِلَا دَلِيل.

(6/3034)


وَالصَّحِيح الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ متغايران فَيجوز رفع أَحدهمَا وَبَقَاء الآخر.
الثَّانِيَة: قسم كثير من الْعلمَاء النّسخ فِي الْقُرْآن سِتَّة أَقسَام:
أَحدهَا: مَا نسخ حكمه وَبَقِي رسمه، وَحكم النَّاسِخ ورسمه باقيان، كنسخ آيَة الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِآيَة الْمَوَارِيث، وَنسخ عدَّة الْوَفَاة حولا بأَرْبعَة أشهر وَعشر.
الثَّانِي: مَا نسخ حكمه ورسمه، وهما فِي النَّاسِخ ثابتان كنسخ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس باستقبال الْكَعْبَة، وَصِيَام عَاشُورَاء برمضان على رَأْي، وَقيل: إِنَّمَا كَانَ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس بِالسنةِ فنسخ بِالْقُرْآنِ.
الثَّالِث: مَا نسخ حكمه وَبَقِي رسمه، وَرفع رسم النَّاسِخ وَبَقِي حكمه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فأمسكوهن فِي الْبيُوت} [النِّسَاء: 15] الْآيَة ب (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة) إِلَى آخِره.

(6/3035)


فَإِن قيل: رجم الْمُحصن إِنَّمَا أَخذ من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت فِي مُسلم مَرْفُوعا: " خُذُوا عني، خُذُوا عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا: الْبكر بالبكر جلد مائَة، وتغريب عَام، وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة وَالرَّجم ".
قيل: النّسخ بالشيخ وَالشَّيْخَة، والْحَدِيث مُقَرر أَنه لم ينْسَخ.
وَضعف بِأَن التأسيس أرجح من التَّأْكِيد، وَبِأَن الحَدِيث إِنَّمَا ورد مُبينًا للسبيل فِي {أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} فَهُوَ إِمَّا مُسْتَقل، أَو مُبين للسبيل لَا مُتَعَلق بِآيَة الرَّجْم.
الرَّابِع: مَا نسخ حكمه ورسمه وَبَقِي حكم النَّاسِخ لَا رسمه، كَحَدِيث عَائِشَة فِي الْعشْر رَضعَات، فَإِن الْخمس حكمهَا بَاقٍ دون لَفظهَا، وَأما قَول عَائِشَة: (فَتوفي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهن مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآن) فمؤول كَمَا قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: بِأَن مرادها يُتْلَى حكمه، أَو أَن من لم يبلغهُ نسخ تِلَاوَته يتلوه، وَهُوَ مَعْذُور.
وَإِنَّمَا أول بذلك لإِجْمَاع الصَّحَابَة على تَركهَا من الْمُصحف حِين جمعُوا الْقُرْآن، وَأجْمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ بعدهمْ.
الْخَامِس: مَا نسخ رسمه وَبَقِي حكمه، وَلَكِن لَا يعلم ناسخه، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث أنس: أَنه كَانَ فِي الْقُرْآن: " لَو أَن لِابْنِ آدم وَاديا

(6/3036)


من ذهب لابتغى أَن يكون لَهُ ثَان، وَلَا يمْلَأ فَاه إِلَّا التُّرَاب وَيَتُوب الله على من تَابَ ". رَوَاهُ أَحْمد، وَقَالَ: كَانَ هَذَا قُرْآنًا فنسخ خطه.
قَالَ ابْن عبد الْبر فِي " التَّمْهِيد ": قيل: إِنَّه من سُورَة ص، لَكِن ورد فِي رِوَايَة: لَا نَدْرِي أَشَيْء نزل، أَو شَيْء كَانَ يَقُوله.
ويمثل لَهُ - أَيْضا - بِمَا فِي البُخَارِيّ فِي السّبْعين الَّذين قتلوا ببئر مَعُونَة وَنزل فيهم: " بلغُوا قَومنَا بِأَنا قد لَقينَا رَبنَا فَرضِي عَنَّا وأرضانا ". قَالَ أنس: فقرأنا فيهم قُرْآنًا. وَذكره ثمَّ رفع بعده.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمثل هَذَا كثير؛ وَلِهَذَا قيل فِي سُورَة الْأَعْرَاف: إِنَّهَا كَانَت نَحْو الْبَقَرَة، وَكَذَا سُورَة الْأَحْزَاب، كَمَا تقدم.
وَلَكِن مثل بَعضهم بذلك مَا نسخ لَفظه وَبَقِي حكمه.
السَّادِس: نَاسخ صَار مَنْسُوخا، وَلَيْسَ بَينهمَا لفظ متلو، كَالْإِرْثِ

(6/3037)


بِالْحلف والنصرة نسخ بالتوارث بِالْإِسْلَامِ وَالْهجْرَة، ثمَّ نسخ التَّوَارُث بذلك.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهَذَا يدْخل فِي النّسخ من وَجه، قَالَ: وَعِنْدِي أَن الْقسمَيْنِ الْأَخيرينِ فِي إدخالهما فِي النّسخ تكلّف.
الثَّالِثَة: تَمْثِيل مَا نسخ تِلَاوَته وَبَقِي حكمه بالشيخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا، اسْتشْكل من حَيْثُ يلْزم من ذَلِك أَن يثبت قُرْآن بالآحاد، وَأَن ذَلِك الْقُرْآن نسخ حَتَّى لَو أنكرهُ شخص كفر، وَمن أنكر مثل هَذَا لَا يكفر، وَإِذا لم تثبت قرآنيته لم يثبت نسخ قُرْآن.
بل يجْرِي هَذَا الِاعْتِرَاض فِي مِثَال مَا نسخ حكمه وَبَقِي تِلَاوَته، ونسخهما مَعًا؛ وَذَلِكَ لِأَن نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد لَا يجوز كَمَا يَأْتِي.
وَأجَاب الْهِنْدِيّ: عَن أصل السُّؤَال بِأَن التَّوَاتُر إِنَّمَا هُوَ شَرط فِي الْقُرْآن الْمُثبت بَين الدفتين، أما الْمَنْسُوخ فَلَا، سلمنَا لَكِن الشَّيْء قد يثبت ضمنا بِمَا لَا يثبت بِهِ أَصله كالنسب بِشَهَادَة القوابل على الْولادَة، وَقبُول الْوَاحِد فِي [أَن] أحد المتواترين بعد الآخر وَنَحْو ذَلِك.

(6/3038)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَجَوَاب آخر، وَهُوَ: أَن الصَّدْر الأول يجوز أَن يَقع فِيهِ التَّوَاتُر ثمَّ يَنْقَطِع فِيهِ التَّوَاتُر فَيصير آحادا، فَمَا رُوِيَ لنا بالآحاد إِنَّمَا هُوَ حِكَايَة عَمَّا كَانَ مَوْجُودا بِشُرُوطِهِ فَتَأَمّله. انْتهى.
الرَّابِعَة: وَقع إِشْكَال فِي قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -: لَوْلَا أَن يَقُول النَّاس: زَاد عمر فِي كتاب الله لكتبتها كَمَا هُوَ ظَاهر اللَّفْظ فَهُوَ قُرْآن متلو، وَلَكِن لَو كَانَ متلوا لوَجَبَ على عمر الْمُبَادرَة لكتابتها؛ لِأَن مقَال النَّاس لَا يصلح مَانِعا من فعل الْوَاجِب.
قَالَ السُّبْكِيّ: وَلَعَلَّ الله أَن ييسر علينا حل هَذَا الْإِشْكَال، فَإِن عمر - رَضِي الله عَنهُ - إِنَّمَا نطق بِالصَّوَابِ، ولكنانتهم فهمنا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن تَأْوِيله بِأَن مُرَاده لكتبتها منبها على أَنَّهَا نسخت تلاوتها ليَكُون فِي كتَابَتهَا فِي محلهَا أَمن من نسيانها بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِن قد تكْتب من غير بَيِّنَة فَيَقُول النَّاس: زَاد عمر، فَتركت كتَابَتهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ من دفع أعظم المفسدتين بأخفهما. انْتهى.
قلت: وَيُمكن أَن يُقَال: إِن هَذَا مِمَّا نسخ رسمه وَبَقِي حكمه، وَلَكِن عمر - رَضِي الله عَنهُ - لشدَّة حرصه على إِظْهَار الْأَحْكَام هم بِأَن يَكْتُبهَا خوفًا

(6/3039)


من أَن ينسى حكمهَا لكَونهَا غير مَكْتُوبَة وَنسخ رسمها فيضلوا بترك فَرِيضَة لَا سِيمَا وَالزِّنَا مِمَّا يتواهن النَّاس ويتساهلون فِيهِ وَالله أعلم، وَلذَلِك وَالله أعلم بدلت الْيَهُود ذَلِك مَعَ كَونه فِي التَّوْرَاة، وَلِلنَّاسِ ميل إِلَى رَحْمَة الزَّانِي، وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} [النُّور: 2] .
قَوْله: {وَنسخ} ، أَي: وَيجوز نسخ {قُرْآن وَسنة متواترة بمثلهما وآحاد بِمثلِهِ وبمتواتر} .
يجوز نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ، وَقد وَقع ذَلِك فنسخ الِاعْتِدَاد بالحول فِي الْوَفَاة بأَرْبعَة أشهر وَعشر، كَمَا سبق.
وَأما نسخ متواتر السّنة بمتواترها فَجَائِز عقلا وَشرعا، وَلَكِن وقوعهما مُتَعَذر فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، وَقد تقدّمت الْأَحَادِيث، وَأَنَّهَا قَليلَة جدا، بل كلهَا آحَاد إِمَّا فِي أَولهَا وَإِمَّا فِي آخرهَا وَإِمَّا من أول إسنادها إِلَى آخِره.

(6/3040)


وَأما نسخ آحَاد السّنة بِمِثْلِهَا فَكَمَا فِي " صَحِيح مُسلم " عَن بُرَيْدَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِزِيَادَة: " تذكركم الْآخِرَة "، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
وَوجه الشَّاهِد فِي الحَدِيث أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كنت نَهَيْتُكُمْ " فَصرحَ بِأَن النَّهْي من السّنة، وَله أَمْثِلَة كَثِيرَة كنسخ الْمُتْعَة وَنسخ الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار، وَغَيره.
وَلابْن الْجَوْزِيّ كتاب لطيف جمع فِيهِ أحد وَعشْرين موضعا وَتعقب فِي بَعْضهَا، وَتعقب كثيرا مِنْهَا.
وَأما نسخ الْآحَاد من السّنة بالمتواترة فَجَائِز، وَلَكِن لم يَقع.
قَوْله: {ومتواترة بآحاد عقلا اتِّفَاقًا} ، ذكره الْآمِدِيّ، وَذكر الْبَاجِيّ الْمَالِكِي فِيهِ خلافًا، وَلَا يجوز شرعا عِنْد الجماهير.

(6/3041)


وَحَكَاهُ ابْن برهَان وَأَبُو الْمَعَالِي إِجْمَاعًا؛ لجَوَاز قَول الشَّارِع: تعبدتكم بالنسخ بِخَبَر الْوَاحِد.
وَقَالَ دَاوُد والظاهرية والطوفي من أَصْحَابنَا: يجوز، وَهُوَ ظَاهر كَلَام القَاضِي وَابْن عقيل.
قَالَ الطوفي: وَأَجَازَهُ بعض الظَّاهِرِيَّة مُطلقًا، وَلَعَلَّه أولى؛ إِذْ الظَّن قدر مُشْتَرك بَين الْكل، وَهُوَ كَاف فِي الْعَمَل، وَالِاسْتِدْلَال الشَّرْعِيّ، وَقَول عمر: (لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي أحفظت أم نسيت) يُفِيد أَنه إِنَّمَا رده لشُبْهَة، وَلَو أَفَادَ خَبَرهَا الظَّن لعمل بِهِ.
وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل الْبَاجِيّ وَلَكِن فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَ: لَا يجوز بعده إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يبْعَث الْآحَاد بالناسخ إِلَى أَطْرَاف الْبِلَاد.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيّ الْمَالِكِي.

(6/3042)


قَوْله: {وَلَا ينْسَخ قُرْآن بِخَبَر آحَاد} . قدمه ابْن مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب، وَعَزاهُ للْأَكْثَر، {وجوزوه القَاضِي، وَقَالَ: نَص عَلَيْهِ، قَالَ: وَيجب الْعَمَل بِهِ.
وَقَالَ ابْن عقيل: إِنَّه مَذْهَب أَحْمد} ، وَاسْتشْهدَ لذَلِك بِقصَّة قبَاء فِي الاستدارة فِي الصَّلَاة وَخبر الْخمر لقَوْل أبي طَلْحَة لما سمع مُجَرّد الْخَبَر: " اهريقوها " وَلم ينْظرُوا غَيره. قَالَ: فاحتج بِقصَّة قبَاء، وَأَن الصَّحَابَة

(6/3043)


أخذت بالْخبر وَإِن كَانَ فِيهِ نسخ. وَكَذَا قَالَ ابْن عقيل، وَأَنه مَذْهَب أَحْمد، وَقَالَ: وَهِي تشبه مذْهبه فِي إِثْبَات الصِّفَات بهَا، وَهُوَ أَكثر من النّسخ، وَقَررهُ فِي " فنونه " وَقَالَ فِيهِ: وَفِي الْقيَاس نظر، كَأَن الشَّارِع قَالَ: اقْطَعُوا بِحكم كَلَامي مَا لم يضاده خبر وَاحِد أَو قِيَاس هَذَا هُوَ التَّحْقِيق، وبناه على أَن الْعَمَل بهما قَطْعِيّ.
وَقدمه فِي جمع الْجَوَامِع وشراحه، وَاخْتَارَهُ القَاضِي الباقلاني وَغَيره أَيْضا، وَجعلُوا القَوْل بِالْمَنْعِ سَاقِطا، وَإِن عزاهُ بَعضهم للْأَكْثَر وَأَنَّهُمْ فرقوا بَينه وَبَين التَّخْصِيص بِأَنَّهُ رفع، والتخصيص بَيَان وَجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، الْأَكْثَر على عدم الْوُقُوع خلافًا لجمع من الظَّاهِرِيَّة.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: وَالْمَشْهُور جَوَازه عقلا، وَحكى الْآمِدِيّ وَغَيره الِاتِّفَاق عَلَيْهِ، لَكِن نقل الباقلاني وَغَيره الْخلاف فِيهِ، وَالْمَشْهُور عدم وُقُوعه، حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي إِجْمَاعًا، لَكِن خَالف فِيهِ بعض الظَّاهِرِيَّة. انْتهى.

(6/3044)


وَفصل القَاضِي الباقلاني وَالْغَزالِيّ بَين زَمَانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيجوز، وَبعده لَا يجوز، نقل القَاضِي الباقلاني الْإِجْمَاع على الْمَنْع فِيمَا بعده. انْتهى.
احْتج الْمَانِع من الْجَوَاز بِمَا سبق من منع التَّخْصِيص بِهِ.
وَأَيْضًا قَاطع فَلَا يرفع بِالظَّنِّ.
رد: خبر الْوَاحِد دلَالَته قَطْعِيَّة فيرفع دلَالَة ظنية، فَإِن قيل: فَيكون مُخَصّصا.
رد: يكون نسخا إِذا ورد بعد الْعَمَل بقرآن أَو متواتر عَاميْنِ.
وَاحْتج ابْن عقيل: أَن رد الصَّحَابَة بعض قِرَاءَة ابْن مَسْعُود تَنْبِيه لرد رِوَايَته فِي نسخه.
احْتج المجوز بِقصَّة قبَاء السَّابِقَة فِي خبر الْوَاحِد، وَيحْتَمل أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ وعدهم، أَو أخْبرهُم بنسخه إِذا جَاءَهُم رَسُوله، أَو أعلن النَّاس بِهِ وَهُوَ بِقرب مَسْجده.
وَأَيْضًا سبق أَنه كَانَ يبْعَث الْآحَاد لتبليغ الْأَحْكَام.
رد: إِن كَانَ مِنْهَا نَاسخ لمتواتر فمعلوم بالقرائن.

(6/3045)


وَأَيْضًا: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما} [الْأَنْعَام: 145] نسخ بنهيه عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع.
رد: لَيْسَ فِيهَا إِبَاحَة الْجَمِيع وبالتخصيص، وَبِأَن (لَا أجد) للْحَال، وَتَحْرِيم مُبَاح الأَصْل لَيْسَ بنسخ.

(6/3046)


(قَوْله: {فصل} )

{الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر} مِنْهُم عَامَّة الْفُقَهَاء، والمتكلمين {تنسخ سنة بقرآن، وَعَن أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا لَا} مِثَاله: مَا كَانَ من تَحْرِيم مُبَاشرَة الصَّائِم أَهله لَيْلًا نسخ بقوله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} [الْبَقَرَة: 187] كَمَا تقدم هُوَ وَغَيره.
اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع لذاته وَلَا لغيره؛ إِذْ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَتَحْرِيم الْمُبَاشرَة ليَالِي رَمَضَان، وَجَوَاز تَأْخِير صَلَاة الْخَوْف ثبتَتْ بِالسنةِ وَنسخت بِالْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاع.
احْتج الْمُخَالف بِأَن السّنة مبينَة للْكتاب فَكيف يبطل مبينه؟
وَلِأَن النَّاسِخ يضاد الْمَنْسُوخ وَالْقُرْآن لَا يضاد السّنة، وَمنع الْوُقُوع الْمَذْكُور.

(6/3047)


وَأجِيب: بِأَن بعض السّنة مُبين لَهُ وَبَعضهَا مَنْسُوخ بِهِ.
قلت: حكى الْحَازِمِي قَوْلَيْنِ للْعُلَمَاء فِي أَن التَّوَجُّه للقدس هَل كَانَ بِالْقُرْآنِ أَو بِالسنةِ؟
قَالَ الْبرمَاوِيّ: بل القَوْل بِأَنَّهُ كَانَ بِالْقُرْآنِ هُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي، وَعَلِيهِ يدل قَوْله: {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا} [الْبَقَرَة: 143] الْآيَة.
فَإِن الضَّمِير فِي (جعلنَا) لله تَعَالَى، فَالظَّاهِر أَن الْجعل كَانَ بِالْقُرْآنِ، لَكِن فِيهِ نظر؛ فَإِن مَا فِي السّنة هُوَ من جعل الله تَعَالَى وَحكمه.
قَوْله: {وَيجوز عقلا نسخ قُرْآن بِخَبَر متواتر، قَالَه القَاضِي وَغَيره، وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد: لَا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: يجوز عقلا نسخ قُرْآن بِخَبَر متواتر، قَالَه القَاضِي، وَقَالَ: ظَاهر كَلَام أَحْمد مَنعه، وَاخْتلفت الشَّافِعِيَّة.

(6/3048)


قَالَ ابْن الباقلاني: مِنْهُم من مَنعه تبعا للقدرية فِي الْأَصْلَح. انْتهى.
وَمِمَّنْ قَالَ بِنَفْي الْجَوَاز الْعقلِيّ الْحَارِث المحاسبي، وَعبد الله بن سعيد، والقلانسي، وَغَيرهم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ويروى - أَيْضا - عَن أَحْمد، وَهُوَ مَا ذكره القَاضِي ظَاهر كَلَام أَحْمد.
وَمِمَّنْ قَالَ بِالْجَوَازِ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ.
وَقيل: الْمُمْتَنع الْوُقُوع فَقَط، وَهُوَ الْمَفْهُوم من كَلَام الشَّافِعِي.

(6/3049)


قَوْله: {وَلَا يجوز شرعا عِنْد أَحْمد فِي الْأَشْهر عَنهُ، وَابْن أبي مُوسَى، وَالْقَاضِي، والموفق، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابه} ، والظاهرية، وَغَيرهم.
{وَعنهُ: بلَى، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْأَكْثَر} من الْفُقَهَاء والمتكلمين، مِنْهُم الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الْمَالِكِيَّة، وَغَيرهم، وَهُوَ الَّذِي نَصره ابْن الْحَاجِب، وَحَكَاهُ عَن الْجُمْهُور.
{وَقَالَ ابْن عقيل، وَابْن حمدَان، وَحَكَاهُ} فِي " الْمُغنِي " {عَن الْأَصْحَاب} فِي حد الزِّنَا، {وَقع

(6/3050)


وَقيل: لم يَقع، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب} .
اسْتدلَّ للْجُوَاز بِمَا سبق بِأَنَّهُ لَا يلْزم عَنهُ محَال.
وَأَيْضًا: {لتبين للنَّاس} [النَّحْل: 44] ، وللقطع بِأَن الْقَاطِع يرفع الْقَاطِع، وَلَا أثر للفصل ككلام النَّبِي المسموع مِنْهُ، والمتواتر.
وَاسْتدلَّ بِأَن: " لَا وَصِيَّة لوَارث " نسخ الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين ورجم الْمُحصن نسخ الْجلد.
أُجِيب: آحَاد، وبنسخ الْوَصِيَّة بِآيَة الْمِيرَاث، أَو بقوله بعْدهَا: {تِلْكَ حُدُود الله} [النِّسَاء: 13] إِلَى قَوْله: {وَمن يعْص} الْآيَة [النِّسَاء: 14] ، وَالْجَلد لم ينْسَخ، أَو دلّ عدم فعله على نَاسخ.
قَالُوا: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} .
أُجِيب: لَا عُمُوم، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل أَن مَا يَأْتِي هُوَ النَّاسِخ، وَلَا أَنه من جنس الْمَنْسُوخ، وَالْمرَاد حكم أَنْفَع للمكلف والجميع من الله.
رد: الْأَوَّلَانِ خلاف الظَّاهِر.
قَالَ ابْن عقيل: والمماثلة تَقْتَضِي إِطْلَاقهَا من كل وَجه. وَقَالَهُ القَاضِي وَغَيره مَعَ قَول بَعضهم قد تتفاوتان شدَّة كالحركتين والسوادين.
قَالَ الْجَوْهَرِي: مثل: كلمة تَسْوِيَة.

(6/3051)


قَالُوا: {قل مَا يكون لي أَن أبدله} [يُونُس: 15] .
أُجِيب: أَي الْوَحْي، ثمَّ السّنة بِوَحْي، وَبِه يُجَاب عَن قَوْلهم الْقُرْآن أصل، ثمَّ الحكم الْمَنْسُوخ لَيْسَ أصلا.
قَالُوا: الْقُرْآن أقوى لإعجازه ويثاب بعد حفظه على تِلَاوَته بِخِلَاف السّنة.
قَالَ القَاضِي: بِلَا خلاف، فَلَا مماثلة، وَكَذَا ذكر ابْن عقيل وَغَيره: يُثَاب على تِلَاوَته دونهَا، وَاقْتصر بَعضهم على أَنَّهَا دونه.
رد: الْخلاف فِي الحكم، جزم بِهِ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي، وَغَيرهمَا، وَقَالَهُ فِي " التَّمْهِيد ".
لِأَن اللَّفْظ لَا يُمكن رَفعه إِلَّا أَن يَشَاء الله، قَالَ: وَيحْتَمل أَن يجوز بِأَن يَقُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تقرؤوا هَذِه الْآيَة "، وَجزم القَاضِي بِهَذَا، وَأَن الْخلاف فِي الْجَمِيع، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل.
وَفِي " التَّمْهِيد ": بعض آيَة لَا إعجاز فِيهَا، وَيجوز نسخ آيَة فِيهَا إعجاز

(6/3052)


بِآيَة لَا إعجاز فِيهَا، وَمن سلم اعْتبر الْمُمَاثلَة.
قَالُوا: عَن جَابر مَرْفُوعا: " كَلَامي لَا ينْسَخ كَلَام الله، وَكَلَام الله ينْسَخ كَلَامي، وَكَلَام الله ينْسَخ بعضه بَعْضًا " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
رد: ذَلِك بِأَنَّهُ مَوْضُوع [فِيهِ] جبرون بن وَاقد.

(6/3053)


(قَوْله: {فصل} )

{يعلم النّسخ بتأخره يَقِينا، وَفِي " الْمقنع " وَغَيره: أَو ظنا} .
إِذا تقرر أَن حكم النّسخ لَا يتَعَلَّق بالمكلف حَتَّى يعرفهُ، فَلَا بُد من بَيَان الطَّرِيق إِلَى مَعْرفَته، وَذَلِكَ بِأَن يعلم، أَو يظنّ أَنه مُتَأَخّر عَن دَلِيل الحكم الْمُقَرّر الَّذِي هُوَ ضِدّه، وَذَلِكَ الطَّرِيق من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن يعرف بِالْإِجْمَاع على أَن هَذَا نَاسخ لهَذَا، كالنسخ بِوُجُوب الزَّكَاة سَائِر الْحُقُوق الْمَالِيَّة.
وَمثله مَا ذكره الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: أَن زر بن حبيس قَالَ لِحُذَيْفَة:

(6/3054)


أَي سَاعَة تسحرت مَعَ رَسُول الله؟ قَالَ: هُوَ النَّهَار إِلَّا أَن الشَّمْس لم تطلع، وَأجْمع الْمُسلمُونَ على أَن طُلُوع الْفجْر يحرم الطَّعَام وَالشرَاب، مَعَ بَيَان ذَلِك من قَوْله تَعَالَى: {وكلوا وَاشْرَبُوا} الْآيَة [الْبَقَرَة: 187] .
قَالَ الْعلمَاء فِي مثل هَذَا: إِن الْإِجْمَاع مُبين للمتأخر، وَأَنه نَاسخ؛ لَا أَن الْإِجْمَاع هُوَ النَّاسِخ.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن يَقُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَذَا نَاسخ لذَلِك، أَو هَذَا بعده، أَو مَا فِي معنى ذَلِك كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها ".
الْوَجْه الثَّالِث: أَن ينص الشَّارِع على خلاف مَا كَانَ مقررا بِدَلِيل بِحَيْثُ لَا يُمكن الْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ على تَأَخّر أَحدهمَا فَيكون نَاسِخا للمتقدم وَهُوَ كثير، وَهُوَ قريب من الثَّانِي.
الْوَجْه الرَّابِع: فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد، {وَاخْتَارَهُ

(6/3055)


القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَبَعض الشَّافِعِيَّة} .
وَقد جعل الْعلمَاء من ذَلِك نسخ الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار بِأَكْلِهِ من الشَّاة وَلم يتَوَضَّأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ ظَاهر مَا قدمه ابْن قَاضِي الْجَبَل.
وَحكى القَاضِي عَن التَّمِيمِي منع نسخ القَوْل بِالْفِعْلِ، وَكَذَا منع ابْن عقيل نسخ القَوْل بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَن دلَالَته دونه، وَاخْتَارَهُ أَيْضا الْمجد فِي " المسودة ".
الْوَجْه الْخَامِس: أَن يَقُول الرَّاوِي، رخص لنا فِي كَذَا ثمَّ نهينَا عَنهُ، كَقَوْلِه: رخص لنا فِي الْمُتْعَة، ثمَّ نهينَا عَنْهَا.
أَو يَقُول الرَّاوِي: هَذَا مُتَأَخّر الْوُرُود عَن الأول، فَيكون نَاسِخا لَهُ، وَذَلِكَ كَقَوْل جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ترك الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار.

(6/3056)


وَقَول عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقيامِ للجنازة ثمَّ قعد.
وَفِي معنى ذَلِك كثير.
فَإِن قيل: قَول الرَّاوِي هَذَا ينْسَخ بِهِ الْقُرْآن أَو غَيره من السّنة المتواترة على تَقْدِير وجودهَا مَعَ أَنه خبر آحَاد، والآحاد لَا ينْسَخ بِهِ الْمُتَوَاتر.
قيل: هَذَا حِكَايَة للنسخ لَا نسخ، والحكاية بالآحاد يجب الْعلم بهَا كَسَائِر أَخْبَار الْآحَاد.
وَأَيْضًا: فاستفادة النّسخ من قَوْله إِنَّمَا هُوَ بطرِيق التضمن والضمني يغْتَفر فِيهِ مَا لَا يغْتَفر فِيمَا إِذا كَانَ أصلا كَمَا فِي مسَائِل كَثِيرَة أصولية وفقهية، كثبوت الشُّفْعَة فِي الشّجر تبعا للعقار، وَنَحْوه.
قَوْله: {وَلَا يقبل قَوْله: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة حَتَّى يبين النَّاسِخ. أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد كالحنفية وَالشَّافِعِيَّة، وَعنهُ: بلَى،

(6/3057)


كالكرخي، وَأبي الْخطاب، وَقَالَ الْمجد إِن كَانَ هُنَاكَ نَص يُخَالِفهَا قبل قَوْله} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَإِن قَالَ صَحَابِيّ: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة لم يقبل حَتَّى يخبر بِمَاذَا نسخت.
قَالَ القَاضِي: أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد كَقَوْل الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة، قَالُوا فِي ذَلِك؛ لِأَنَّهُ قد يكون عَن اجْتِهَاد فَلَا يقبل.
وَذكر ابْن عقيل رِوَايَة أَنه يقبل كَقَوْل بَعضهم؛ لعلمه فَلَا احْتِمَال؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُول غَالِبا إِلَّا عَن نقل.
وَقَالَ الْمجد ابْن تَيْمِية فِي " المسودة ": إِن كَانَ هُنَاكَ نَص يُخَالِفهَا عملا بِالظَّاهِرِ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَذكر الْبَاجِيّ فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال:

(6/3058)


عدم الْقبُول حَتَّى يبين النَّاسِخ، وَاخْتَارَهُ، وَهُوَ قَول الباقلاني، والسمناني.
وَالثَّانِي: إِن ذكر النَّاسِخ لم يَقع بِهِ نسخ.
وَالثَّالِث: يَقع النّسخ بِكُل حَال.
قَوْله: {كَقَوْلِه: نزلت هَذِه بعد هَذِه، ذكره القَاضِي وَغَيره، وَمنعه الْآمِدِيّ، وَتردد بَعضهم، وَقيل: إِن ذكر النَّاسِخ لم يَقع بِهِ نسخ، وَإِلَّا وَقع} . هَذَا الْقيَاس فِي قَوْلنَا كَقَوْلِه لَيْسَ مِثَال لما تقدم، وَإِنَّمَا هُوَ أصل قيس عَلَيْهِ القَوْل الَّذِي قبله، وَالله أعلم.
إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ: نزلت هَذِه الْآيَة بعد هَذِه قبل قَوْله، ذكره القَاضِي وَغَيره، وَهُوَ ظَاهر قَول من سبق، وَجزم بِهِ الشَّافِعِيَّة، وَقطع بِهِ الْبرمَاوِيّ وَغَيره، وَجزم الْآمِدِيّ بِالْمَنْعِ لتَضَمّنه نسخ متواتر بآحاد.

(6/3059)


وَذكره بَعضهم ترددا للْعلم بنسخ أَحدهمَا، وَخبر الْوَاحِد معِين للناسخ.
وَذكر الْبَاجِيّ الْمَالِكِي قولا إِن ذكر النَّاسِخ لم يَقع بِهِ نسخ، وَإِلَّا وَقع.
قَوْله: {وَهَذَا الْخَبَر مَنْسُوخ كالآية} ، وَهَذَا الصَّحِيح قدمه ابْن مُفْلِح، وَغَيره، وَجزم أَبُو الْخطاب بِأَنَّهُ يقبل، كالرواية الثَّانِيَة الَّتِي ذكرهَا ابْن عقيل فِي قَوْله هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة.
{وَقَالَ القَاضِي} : خبر الْوَاحِد إِذا أخبر بِهِ صَحَابِيّ، وَقَالَ: مَنْسُوخ، {يقبل عِنْد من جوز رِوَايَة الْخَبَر بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا} .
قَوْله: {وَكَانَ كَذَا وَنسخ يقبل فِي قِيَاس الْمَذْهَب، قَالَه الْمجد، وَالْحَنَفِيَّة} ، وَهَذَا أولى بِالصِّحَّةِ من الَّذِي قبله.
{وَقَالَ ابْن برهَان: لَا يقبل عندنَا، وَجزم بِهِ الْآمِدِيّ} .
قَوْله: {وَلَا يثبت بقبليته فِي الْمُصحف} ؛ لِأَن الْعبْرَة بالنزول لَا بالترتيب

(6/3060)


فِي الْوَضع؛ لِأَن النُّزُول بِحَسب الحكم وَالتَّرْتِيب للتلاوة.
قيل: لَيْسَ فِي الْقُرْآن آيَة مَنْسُوخَة متلوة قبل الناسخة إِلَّا آيتي الْعدة.
قلت: وَآيَة فِي الْأَحْزَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك} الْآيَة [الْأَحْزَاب: 50] ، ناسخة لقَوْله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} [الْأَحْزَاب: 52] فَهِيَ مَنْسُوخَة، وَهِي بعد الْآيَة الناسخة.
وَهَذَا الَّذِي قدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، وعاكسه ابْن حمدَان فِي " رعايته ".
قَوْله: {وَلَا بصغر صَحَابِيّ، أَو تَأَخّر إِسْلَامه، خلافًا للموفق والرازي فِيهِ} ؛ لِأَن صغر الصَّحَابِيّ لَا يُؤثر فِي ذَلِك، وَكَذَلِكَ تَأَخّر إِسْلَامه؛ لِأَن تَأَخّر رَاوِي أحد الدَّلِيلَيْنِ لَا يدل على أَن مَا رَوَاهُ نَاسخ للْآخر لجَوَاز أَن تحمله قبل الْإِسْلَام.
قَوْله: {وَلَا بموافقة الأَصْل} ، إِذا ورد نصان - فِي حكم - متضادان

(6/3061)


وَلم يُمكن الْجمع بَينهمَا، لَكِن أحد النصين مُوَافق للبراءة الْأَصْلِيَّة، وَالْآخر مُخَالف، فَزعم بَعضهم أَن ذَلِك الَّذِي خَالف الأَصْل وَلم يُوَافق نَاسخ للَّذي وَافق؛ لِأَن الْمُخَالف اسْتَفَادَ من الشَّرْع وَهُوَ المضاد للبراءة الْأَصْلِيَّة؛ لِأَن الِانْتِقَال من الْبَرَاءَة لاشتغال الذِّمَّة يَقِين، وَالْعود إِلَى الْإِبَاحَة ثَانِيًا شكّ فَقدم ذَلِك الَّذِي لم يُوَافق الأَصْل.
قيل: لَكِن هَذَا بِنَاء على أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قلت: وَفِيه نظر، فَإنَّا وَلَو قُلْنَا بِأَن الأَصْل التَّحْرِيم وَكَانَ أحد النصين تَحْرِيمًا، وَالْآخر إِبَاحَة صدق أَن التَّحْرِيم مُوَافق للْأَصْل إِلَّا أَن تفرض الْمَسْأَلَة فِي خُصُوص الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، وَلَا يَجْعَل ذَلِك مِثَالا فَقَط.
قَوْله: {وَلَا بعقل وَقِيَاس} ؛ لِأَنَّهُ لَا يكون نَاسِخا إِلَّا بتأخره عَن زمَان الْمَنْسُوخ، وَلَا يدْخل الْعقل، وَلَا الْقيَاس فِي معرفَة الْمُتَقَدّم من الْمُتَأَخر، بل إِنَّمَا يعرف بِالنَّقْلِ الْمُجَرّد، لَا غير أَو المشوب باستدلال عَقْلِي كالإجماع على أَن هَذَا الحكم مَنْسُوخ.

(6/3062)


(قَوْله: {فصل} )

{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ وَلَا ينْسَخ بِهِ} .
لما انْتهى من الْكَلَام فِي نسخ الْقُرْآن وَالسّنة شرعنا فِي نسخ الْإِجْمَاع والنسخ بِهِ.
فَأَما الْإِجْمَاع فَإِنَّهُ لَا ينْسَخ، وَذَلِكَ وَاضح الْمَنْع؛ لِأَن الْإِجْمَاع لَا يكون فِي حَيَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى ينسخه، وَإِذا وَقع بعد وَفَاته فَلَا يُمكن أَن يَأْتِي بعده نَاسخ.
وَأما النّسخ بِالْإِجْمَاع [لشَيْء] مِمَّا سبق من كتاب أَو سنة فَيَقَع صُورَة لَكِن فِي الْحَقِيقَة حَيْثُ وجد إِجْمَاع على خلاف نَص فَيكون قد تضمن نَاسِخا لَا أَنه هُوَ النَّاسِخ؛ وَلِأَن الْإِجْمَاع مَعْصُوم من مُخَالفَة دَلِيل شَرْعِي لَا معَارض لَهُ وَلَا مزيل عَن دلَالَته فَتعين إِذا وَجَدْنَاهُ خَالف شَيْئا أَن ذَلِك إِمَّا غير

(6/3063)


صَحِيح إِن أمكن ذَلِك أَو أَنه مؤول أَو نسخ بناسخ؛ لِأَن إِجْمَاعهم حق فالإجماع دَلِيل على النّسخ لَا رَافع للْحكم.
كَمَا قَرَّرَهُ القَاضِي أَبُو يعلى، والصيرفي، والأستاذ أَبُو مَنْصُور، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ؛ لِأَنَّهُ إِن نسخ بِنَصّ أَو إِجْمَاع قاطعين فَالْأول خطأ. وَهُوَ بَاطِل، وَإِلَّا فالقاطع يقدم.
قَالُوا: أَجمعُوا على قَوْلَيْنِ فَهِيَ اجتهادية إِجْمَاعًا، فَلَو اتَّفقُوا على أَحدهمَا كَانَ نسخا لحكم الْإِجْمَاع.
رد: بِمَنْع انْعِقَاد إِجْمَاع ثَان، ثمَّ شَرط الْإِجْمَاع الأول عدم إِجْمَاع ثَان فَانْتفى لانْتِفَاء شَرطه.
ثمَّ قَالَ: الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ عَن نَص فَهُوَ النَّاسِخ، وَإِن كَانَ عَن قِيَاس فالمنسوخ إِن كَانَ قَطْعِيا فالإجماع خطأ لانعقاده بِخِلَافِهِ، وَإِن كَانَ ظنيا زَالَ شَرط الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ رجحانه على معارضه الَّذِي هُوَ سَنَد الْإِجْمَاع، وَإِلَّا يكون الْإِجْمَاع خطأ، وَمَعَ زَوَاله لَا ثُبُوت لَهُ فَلَا نسخ.

(6/3064)


قَالُوا: مَا سبق فِي أقل الْجمع من قَول ابْن عَبَّاس لعُثْمَان ورده عَلَيْهِ.
أُجِيب: حجب الْأُم عَن الثُّلُث إِنَّمَا يكون نسخا لَو ثَبت الْمَفْهُوم وَأَن الْأَخَوَيْنِ ليسَا بإخوة قطعا، فَيجب تَقْدِير نَص دلّ على حجبها عَن الثُّلُث، وَإِلَّا كَانَ الْإِجْمَاع خطأ، فالنص النَّاسِخ. انْتهى.
قَوْله: {وَلَا نسخ بِالْقِيَاسِ، وَجوزهُ بِهِ جمع إِن نَص على علته، وَجمع بِقِيَاس جلي، وَقوم فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَطَائِفَة مَا خص ينْسَخ وَنقض} .

(6/3065)


لما فرغت من النّسخ الْمُتَعَلّق بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع شرعت فِي الْمُتَعَلّق بِالْقِيَاسِ، وَفِيه مَسْأَلَتَانِ: النّسخ بِهِ، والنسخ لَهُ.
أما النّسخ بِهِ - وَهِي مَسْأَلَتنَا - فَالصَّحِيح أَنه لَا ينْسَخ بِالْقِيَاسِ، وَعَلِيهِ أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَاخْتَارَهُ ابْن الباقلاني، وَنَقله عَن الْفُقَهَاء والأصوليين.
قَالَ: لِأَن الْقيَاس يسْتَعْمل مَعَ عدم النَّص فَلَا ينْسَخ النَّص؛ وَلِأَنَّهُ دَلِيل مُحْتَمل، والنسخ إِنَّمَا يكون بِغَيْر مُحْتَمل.
وَأَيْضًا: فَشرط صِحَة الْقيَاس أَن لَا يُخَالف الْأُصُول، فَإِن خَالف فسد.
قَالَ: بل، وَلَا ينْسَخ قِيَاسا آخر؛ لِأَن الْعَارِض إِن كَانَ بَين أُصَلِّي القياسين فَهُوَ نسخ نَص بِنَصّ، وَإِن كَانَ بَين العلتين فَهُوَ من بَاب الْمُعَارضَة فِي الأَصْل وَالْفرع، لَا من بَاب الْقيَاس.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه هَذَا القَوْل أَن الْمَنْسُوخ إِن كَانَ قَطْعِيا لم ينْسَخ بمظنون، وَإِن كَانَ ظنيا فَالْعَمَل بِهِ مُقَيّد برجحانه على معارضه وَتبين

(6/3066)


بِالْقِيَاسِ زَوَال [شَرط] الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ رجحانه فَلَا ثُبُوت لَهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن كَانَت علته منصوصة جَازَ النّسخ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الْبَاجِيّ: هَذَا هُوَ الْحق.
وَالْقَوْل الثَّالِث: قَالَ الْآمِدِيّ: إِن كَانَت منصوصة جَازَ، وَإِلَّا فَإِن كَانَ الْقيَاس قَطْعِيا كقياس الْأمة على العَبْد فِي السَّرَايَة فَهُوَ مقدم، لَكِن لَا من بَاب النّسخ، أَو كَانَ ظنيا بِأَن كَانَت علته مستنبطة فَلَا.
وَسَبقه إِلَى هَذَا التَّفْصِيل صَاحب المصادر.
وَالْقَوْل الرَّابِع: ينْسَخ بالجلي، لَا بالخفي، حَكَاهُ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور عَن الْأنمَاطِي، وَحَكَاهُ صَاحب المصادر عَن ابْن سُرَيج، وَحَكَاهُ ابْن

(6/3067)


برهَان عَن أَصْحَابه، وَكَذَا حَكَاهُ الْبَاجِيّ عَنهُ، لَكِن قَالَ: إِنَّه رَجَعَ إِلَى القَوْل بِالْمَنْعِ مُطلقًا؛ لِأَن الْجَلِيّ عِنْده من بَاب الفحوى وَهُوَ جَار مجْرى النَّص فَلَيْسَ نسخا بِقِيَاس.
القَوْل الْخَامِس: إِن كَانَ فِي حَيَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَازَ.
قَالَ الْهِنْدِيّ: على الْأَصَح، بل هُوَ مَحل الْخلاف، وَإِن كَانَ بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يجوز قطعا.
القَوْل السَّادِس: إِن كل مَا خص الْعُمُوم نسخ. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعَن طَائِفَة مَا جَازَ التَّخْصِيص بِهِ جَازَ النّسخ، وَنقض بِالْعقلِ والحس. انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَمثله ابْن عقيل بِأَن ينص على إِبَاحَة التَّفَاضُل فِي الْأرز بالأرز فَإِنَّهُ لَا ينْسَخ بالمستنبطة من نَهْيه عَن بيع الْأَعْيَان السِّتَّة، أَو عَن بعض الطَّعَام مثلا بِمثل.
القَوْل السَّابِع: الْجَوَاز مُطلقًا حَتَّى ينْسَخ بِهِ الْقُرْآن، وَالسّنة المتواترة، كَمَا فِي التَّخْصِيص، وَلَكِن الْفرق ظَاهر؛ لِأَن التَّخْصِيص بَيَان، والنسخ رفع.

(6/3068)


وَجرى التَّاج السُّبْكِيّ على القَوْل الضَّعِيف.
وَهَذَا القَوْل هُوَ المنطوي فِي قَوْلنَا (أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر) فَهَذَا القَوْل ضِدّه.
القَوْل الثَّامِن: إِن الْقيَاس ينْسَخ بِهِ الْآحَاد فَقَط، لَا الْمُتَوَاتر. وَهُوَ فَاسد أَيْضا؛ لِأَن الْمعَارض الْمَانِع من الْقيَاس لَا فرق فِيهِ بَين الْمُتَوَاتر والآحاد.
القَوْل التَّاسِع: حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْن بن الْقطَّان وَغَيره عَن الْأنمَاطِي إِن الْقيَاس الْمُسْتَخْرج من الْقُرْآن ينْسَخ بِهِ الْقُرْآن، والمستخرج من السّنة تنسخ بِهِ السّنة.
فَهَذِهِ تِسْعَة آراء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَّا أَن يكون القَوْل السَّادِس هُوَ السَّابِع.
قَوْله: {أما الْقيَاس فَلَا ينْسَخ، ذكره القَاضِي، وَحكي عَن الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَابْن برهَان،

(6/3069)


إِلَّا أَن يثبت فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنصه على الْعلَّة أَو تنبيهه فَيجوز.
والموفق: مَا يثبت بِقِيَاس نَص على علته ينْسَخ وينسخ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَقيل: يجوز، والآمدي وَجمع بِقِيَاس أمارته أقوى، وَقوم: يكون تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: أما الْقيَاس فَلَا ينْسَخ، ذكره القَاضِي، وَذكره الْآمِدِيّ عَن أَصْحَابنَا لبَقَائه بِبَقَاء أَصله.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: مَنعه بعض أَصْحَابنَا، وَعبد الْجَبَّار فِي قَول محتجين بِأَن الْقيَاس إِذا كَانَ مستنبطا من أصل، فَالْقِيَاس بَاقٍ بِبَقَاء أَصله، فَلَا يتَصَوَّر رفع حكمه مَعَ بَقَاء أَصله، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَمِنْهُم من جوز ذَلِك فِي الْقيَاس الْمَوْجُود زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دون مَا بعده، وَهُوَ

(6/3070)


اخْتِيَار أبي الْخطاب، وَابْن عقيل، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَابْن برهَان، وَابْن الْخَطِيب، قَالَ أَبُو الْخطاب: مَا ثَبت قِيَاسا فإمَّا فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنصه على الْعلَّة أَو تنبيهه عَلَيْهَا فَيجوز نسخه بنصه أَيْضا.
مِثَاله: أَن ينص على تَحْرِيم الرِّبَا فِي الْبر، وينص على أَن عِلّة تَحْرِيمه الْكَيْل، ثمَّ ينص بعد ذَلِك على إِبَاحَته فِي الْأرز، وَيمْنَع من قِيَاسه على الْبر، فَيكون ذَلِك نسخا، وَإِمَّا قِيَاس مُسْتَفَاد بعد وَفَاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَا يَصح نسخه؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَتَجَدَّد بعد وَفَاته نَص من كتاب أَو سنة. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: يجوز عِنْد الْجُمْهُور فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَا فِيمَا بعده، فَينْسَخ، إِمَّا بِنَصّ، أَو قِيَاس آخر لَا بِإِجْمَاع لعدم انْعِقَاده.
وَهَذَا القَوْل غير قَول أبي الْخطاب.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: وَأَيْضًا يجوز نسخه بِقِيَاس أمارته أقوى من أَمارَة الأول.

(6/3071)


وَقَالَ الْآمِدِيّ وَقَالَ: إِلَّا أَن من ذهب إِلَيْهِ بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ بَان ناسخه نتبين أَنه كَانَ مَنْسُوخا، قَالَ: وَسَوَاء قُلْنَا كل مُجْتَهد مُصِيب، أَو لَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَكَذَا لم يفرق أَصْحَابنَا، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: من لم يقل بِهِ لَا يَقُول بتعبده بِالْقِيَاسِ الأول فرفعه لَا يعلم، وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": مَا ثَبت بِالْقِيَاسِ إِن نَص على علته فكالنص ينْسَخ وينسخ بِهِ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ ابْن عقيل - لما قَالَ: كَقَوْل أبي الْخطاب -: وَإِن قوما قَالُوا: يكون تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ بالطعم فِي الْبر. انْتهى.
وَهِي القَوْل الَّذِي حكيناه، وَقَالَ عبد الْجَبَّار أَيْضا يجوز نسخه.
قَوْله: {وَلَو نسخ حكم الأَصْل تبعه حكم الْفَرْع عِنْد أَصْحَابنَا

(6/3072)


وَالشَّافِعِيَّة، وَخَالف القَاضِي وَالْحَنَفِيَّة، وَاخْتَارَ الْمجد إِن نَص على الْعلَّة يتبعهُ الْفَرْع إِلَّا أَن يُعلل فِي نسخه بعلة فَيثبت النّسخ} .
إِذا ورد النّسخ على الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ ارْتَفع الْقيَاس عَلَيْهِ بالتبعية عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة، وَخَالف فِي ذَلِك القَاضِي وَالْحَنَفِيَّة.
قَالَ القَاضِي فِي إِثْبَات الْقيَاس عقلا: لَا يمْتَنع عندنَا بَقَاء حكم الْفَرْع مَعَ نسخ حكم الأَصْل.
وَمثله أَصْحَابنَا - وَذكره ابْن عقيل عَن الْمُخَالف أَيْضا - بِبَقَاء حكم النَّبِيذ الْمَطْبُوخ فِي الْوضُوء بعد نسخ النيء، وَصَوْم رَمَضَان بنية من النَّهَار بعد نسخ عَاشُورَاء عِنْدهم.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَعِنْدِي إِن كَانَت الْعلَّة مَنْصُوصا عَلَيْهَا لم

(6/3073)


يتبعهُ الْفُرُوع إِلَّا أَن يُعلل فِي نسخه بعلة فَيثبت النّسخ حَيْثُ وجدت. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الْمَنْسُوخ عِنْدهم تَجْوِيز شربه فتبعته الطّهُورِيَّة فَإِنَّهَا نفس الْمَسْأَلَة وَقَالَ: جَازَ الْوضُوء بهما، ثمَّ حرم الأَصْل فَالْمَعْنى النَّاسِخ اخْتصَّ بِهِ. قَالَ: وَالصَّحِيح فِي الثَّانِيَة أَن ذَلِك لَا يُوجب نسخ ذَلِك الحكم، والمنسوخ وجوب صَوْم عَاشُورَاء فَسقط إجزاؤه بنية من النَّهَار لعدم الْمحل، فَأَما كَون الْوَاجِب يُجزئ بنية من النَّهَار فَلم يتَعَرَّض لنسخه.
وَقَالَ أَيْضا: التَّحْقِيق أَن هَذَا من بَاب نسخ الأَصْل نَفسه لَا حكمه، فَالْمَسْأَلَة ذَات صُورَتَيْنِ: نسخ حكم الأَصْل، وَهنا يظْهر أَن تتبعه الْفُرُوع المتشعبة الأَصْل، وَأما نسخ نفس الأَصْل الَّذِي هُوَ حكم، هَل هُوَ نسخ لصفاته؟ انْتهى.
وَضعف أَيْضا فِي " الِانْتِصَار ". منع أَصْحَابنَا من نسخ عَاشُورَاء وَبَقَاء حكمه فِي رَمَضَان فَإِنَّهُ إِذا ثَبت جَوَاز النِّيَّة نَهَارا فِي صَوْم وَاجِب لَا يَزُول بِنَقْل الْوَاجِب من مَحل إِلَى مَحل، وزمن إِلَى زمن.
وَفرق ابْن عقيل وَغَيره بِأَن رَمَضَان وجد سَبَب إِيجَابه قبل شُرُوعه فِيهِ فالنية فِيهِ كَحكم وَضعهَا فِي كل وَاجِب. وَإِن قُلْنَا بقول أَصْحَابنَا ومحققي

(6/3074)


الشَّافِعِيَّة إِن عَاشُورَاء كَانَ نفلا فَوَاضِح.
قَالَ: وَيُشبه نسخ نفس الأَصْل قرعَة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهَا لَا تجوز فِي شرعنا؛ لِأَن المذنب لَو عَرفْنَاهُ لم نتلفه، فَهَل نسخ الْقرعَة فِي هَذَا الأَصْل نسخ لجنس الْقرعَة؟ قد احْتج أَصْحَابنَا بهَا على الْقرعَة وقرعة زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام، كَانُوا أجانب، وَكَانَ لَهُم فِي شرعهم ولَايَة حضَانَة المحررة، فارتفاع الحكم فِي غير الأَصْل لارْتِفَاع الأَصْل لَا يكون رفعا لَهُ فِي مثل ذَلِك الأَصْل إِذا وجد.
قَالَ: وَمثله نَهْيه لِمعَاذ عَن الْجمع بَين الائتمام وإمامة قومه إِذا كَانَ للتطويل عَلَيْهِم، هَل هُوَ نسخ لما دلّ الْجمع عَلَيْهِ من ائتمام مفترض بمتنفل؟

(6/3075)


وَذكر فِي " التَّمْهِيد " فِي آخر مَسْأَلَة الْقيَاس مَا سبق عَن الْأَصْحَاب احْتِمَالا، ثمَّ سلم. وَاخْتَارَ بعض أَصْحَابنَا إِن نَص على الْعلَّة لم يتبعهُ الْفَرْع إِلَّا أَن يُعلل فِي نسخه بعلة فيتبعها النّسخ.
وَجه الأول: خُرُوج الْعلَّة عَن اعْتِبَارهَا فَلَا فرع وَإِلَّا وجد الْمَعْلُول بِلَا عِلّة.
فَإِن قيل: أَمارَة فَلم يحْتَج إِلَيْهَا دواما.
رد: باعثة.
قَالُوا: الْفَرْع تَابع للدلالة، لَا للْحكم.
رد: زَالَ الحكم بِزَوَال حكمته.
وَفِي " التَّمْهِيد " أَيْضا: لَا يُسمى نسخا كزوال حكمه بِزَوَال علته.
وَمَعْنَاهُ فِي " الْعدة ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِذا ورد النّسخ على الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ ارْتَفع الْقيَاس مَعَه بالتبعية، والمخالف فِيهِ الْحَنَفِيَّة جوزوا صَوْم رَمَضَان بنية من النَّهَار بِالْقِيَاسِ على مَا كَانَ فِي صَوْم يَوْم عَاشُورَاء من الِاكْتِفَاء نِيَّة من النَّهَار حِين

(6/3076)


كَانَ وَاجِبا على معتقدهم ذَلِك مَعَ زَوَال فرضيته بالنسخ، وأبقوا الْفَرْع على حَاله، لَكِن لَيْسَ هَذَا نسخا للْقِيَاس، بل رفض لنَصّ فَلَا يكون إِلَّا بِنَصّ؛ لِأَن النَّص لَا ينْسَخ بِقِيَاس.
قَالَ: وَمَا أحسن تَعْبِير ابْن الْحَاجِب عَن هَذِه الْمَسْأَلَة بقوله: الْمُخْتَار أَن نسخ حكم أصل الْقيَاس لَا يبْقى حكم الْفَرْع، فَعبر بقوله: لَا يبْقى وَلم يعبر بالنسخ كَمَا وَقع فِي كَلَام بَعضهم، وَلَيْسَ بجيد؛ لِأَن الحكم إِذا زَالَ بِزَوَال علته لَا يُقَال إِنَّه مَنْسُوخ. انْتهى.

(6/3077)


(قَوْله: {فصل} )

{الْأَرْبَعَة، والمعظم ينْسَخ بالفحوى، وَقيل: لَا} .
قد سبق فِي بَاب الْمَفْهُوم أَن مَفْهُوم الْمُوَافقَة، هُوَ مَا يكون الْمَسْكُوت عَنهُ مُوَافقا للمذكور فِي حكمه، وَسبق فِي طَرِيق دلَالَته أَقْوَال:
أَحدهَا: بطرِيق الْمَفْهُوم وَهُوَ المُرَاد هُنَا فِي نسخه والنسخ بِهِ لَا على قَول أَنه بِالْقِيَاسِ؛ لِأَن ذَلِك دَاخل فِي قَاعِدَة النّسخ للْقِيَاس بِهِ، وَلَا على أَن دلَالَته مجازية بِقَرِينَة، وَلَا على أَنه نقل اللَّفْظ لَهَا عرفا.
إِذا علم ذَلِك فالنسخ إِمَّا أَن يتَوَجَّه على الفحوى، أَو على أَصله، وكل مِنْهُمَا إِمَّا مَعَ التَّعَرُّض لبَقَاء الآخر، أَو مَعَ عدم التَّعَرُّض لذَلِك، وَإِمَّا أَن ينسخا مَعًا، وَإِمَّا أَن يكون النّسخ بالفحوى، فَهَذِهِ سِتّ مسَائِل.

(6/3078)


وكلامنا هُنَا هُوَ نسخ الفحوى من غير تعرض لبَقَاء الأَصْل، أَو رَفعه، والنسخ بِهِ، فَقَالَ ابْن مُفْلِح: الفحوى ينْسَخ وينسخ بِهِ، ذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا، وَفِي " التَّمْهِيد " الْمَنْع عَن بعض الشَّافِعِيَّة، وَذكره فِي " الْعدة " عَن الشَّافِعِيَّة، قَالَ فِيمَا حَكَاهُ الإِسْفِرَايِينِيّ: وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا. لنا: أَنه كالنص وَإِن قيل: قِيَاس، فقطعي. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ عَن الْمَسْأَلَة الأولى: من الْعلمَاء من منع ذَلِك.
وَقَالَ عَن الثَّانِيَة: وَهُوَ النّسخ بِهِ. انتقد على الإِمَام، والآمدي ادعاؤهما الِاتِّفَاق على الْجَوَاز، فقد حكى الْخلاف أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع " بِنَاء على [أَن] الفحوى قِيَاس، وَالْقِيَاس لَا ينْسَخ النَّص.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قلت: فَإِن كَانَت حكايته الِاتِّفَاق بِنَاء على أَنه لَيْسَ

(6/3079)


من بَاب الْقيَاس فَلَا انتقاد عَلَيْهِمَا بِالْمَنْعِ تَفْرِيعا على أَنه قِيَاس، وَقد نَص الباقلاني على الْمَنْع أَيْضا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق. انْتهى.
قَوْله: {وَيجوز نسخ أصل الفحوى كالتأفيف دونه كالضرب عِنْد القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر، وَغَيرهم، وَمنعه الْمُوفق، والطوفي، والأثر} .
يجوز نسخ أصل الفحوى كالتأفيف، كَمَا لَو قَالَ: رفعت عَنْك تَحْرِيم التأفيف دون بَقِيَّة أَنْوَاع الْإِيذَاء؛ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من إِبَاحَته الْخَفِيف إِبَاحَة الشَّديد. وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي أبي يعلى، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل الْبَغْدَادِيّ، وَحكى عَن الْحَنَفِيَّة، وَغَيرهم.

(6/3080)


وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَتَبعهُ الطوفي بِالْمَنْعِ، وَذكره الْآمِدِيّ قَول الْأَكْثَر وَذَلِكَ لِأَن الْفَرْع يتبع الأَصْل، فَإِذا ارْتَفع الأَصْل فَكيف يبْقى الْفَرْع؟
قَوْله: {وَيجوز عَكسه، فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَمنعه الْمجد، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم} .
عَكسه هُوَ نسخ الفحوى وَهُوَ - مثلا - الضَّرْب دون أَصله وَهُوَ التأفيف كَمَا لَو قَالَ: رفعت تَحْرِيم كل إِيذَاء غير التأفيف، فَيجوز فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَعَلِيهِ أَكثر الْمُتَكَلِّمين، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَلِأَن الفحوى وَأَصله مدلولان متغايران فَجَاز نسخ كل مِنْهُمَا.
وَمنع الْمجد، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن

(6/3081)


الْحَاجِب، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ مَنْقُول عَن أَكثر الْفُقَهَاء، وَحكي عَن الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم، وَاخْتلف كَلَام عبد الْجَبَّار المعتزلي.
قيل: وَلَعَلَّ مأخذه أَن دلَالَته لفظية، أَو قياسية.
وَمنع بَعضهم هُنَا، وَإِن لم يمْنَع فِي الَّتِي قبلهَا؛ لِأَن تَحْرِيم التأفيف يسْتَلْزم تَحْرِيم الضَّرْب لِأَنَّهُ مَعْلُوم مِنْهُ وجوازه لَا يسْتَلْزم جَوَازه؛ لِأَنَّهُ أَكثر أَذَى.
قَالُوا: دلالتان فَجَاز رفع كل مِنْهُمَا.
رد: بِمَنْعه مَعَ الاستلزام لِامْتِنَاع بَقَاء ملزوم بِدُونِ لَازمه.
قَالُوا: الفحوى تَابع لأصله فيرتفع بِهِ.
رد: لدلَالَة الْمَنْطُوق على حكمه، لَا لحكمه، ودلالته بَاقِيَة.
قَوْله: {وَقيل: نسخ أَحدهمَا يسْتَلْزم الآخر.
وَقيل: هُنَا} . قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: نسخ الأَصْل يسْتَلْزم نسخ الفحوى وَعَكسه؛ لِأَن نفي اللَّازِم يسْتَلْزم نفي الْمَلْزُوم. انْتهى.

(6/3082)


قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِلَّا أَنه لم يسْتَدلّ إِلَّا لإحدى الْمَسْأَلَتَيْنِ دون الْأُخْرَى، وَهِي أَن نسخ الأَصْل يلْزم مِنْهُ رفع الفحوى، لَكِن دليلها أَن الفحوى تَابع وَالْأَصْل متبوع، فَإِذا رفع الْمَتْبُوع ارْتَفع التَّابِع.
وَهَذَا الَّذِي رَجحه فيهمَا هُوَ الْمُخْتَار عِنْد الْأَكْثَر.
لذَلِك قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَالْأَكْثَر أَن نسخ أَحدهمَا يسْتَلْزم الآخر.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِي الْحَقِيقَة المسألتان مفرعتان على الْجَوَاز فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الأولتين؛ لأَنا إِذا قُلْنَا بِالْجَوَازِ عِنْد التَّقْيِيد بِبَقَاء الآخر فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يعْمل بالاستلزام لعدم مَا يَقْتَضِي خِلَافه، على أَن الرَّازِيّ قد جزم بِأَن نسخ الأَصْل يسْتَلْزم، وَأما استلزام نسخ الفحوى نسخ الأَصْل فنقله عَن اخْتِيَار أبي الْحُسَيْن، وَسكت عَلَيْهِ، فَيحْتَمل أَنه مُوَافقَة، وَلِهَذَا جرى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ، وَيحْتَمل أَنه ذكره على وَجه التَّضْعِيف فَيكون من الْقَائِلين بالتفصيل.

(6/3083)


وَأما الْآمِدِيّ فَقَالَ: وَالْمُخْتَار أَن تَحْرِيم الضَّرْب فِي مَحل السُّكُوت إِن جَعَلْنَاهُ من بَاب الْقيَاس فنسخ الأَصْل يُوجب نسخ الْفَرْع؛ لِاسْتِحَالَة بَقَاء الْفَرْع بِدُونِ الأَصْل، وَإِن جَعَلْنَاهُ بِدلَالَة اللَّفْظ فَلَا شكّ أَن إِحْدَى الدلالتين المختلفتين [بِاللَّفْظِ وَالْأُخْرَى بالفحوى، وهما مُخْتَلِفَتَانِ فَلَا يلْزم من رفع إِحْدَى الدلالتين المختلفتين] رفع الْأُخْرَى فَيكون قولا بِعَدَمِ الاستلزام فِي المحلين.
ثمَّ قَالَ: فَإِن قيل: الفحوى تَابع فَكيف يبْقى مَعَ ارْتِفَاع الْمَتْبُوع؟
قيل: التّبعِيَّة إِنَّمَا هِيَ فِي الدّلَالَة فِي الحكم، والنسخ إِنَّمَا [هُوَ] وَارِد على الحكم فقد يرْتَفع الحكم وَالدّلَالَة بَاقِيَة. انْتهى.
قَالَ الْمحلي فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": وَقيل: نسخ الفحوى لَا يسْتَلْزم نظرا إِلَى أَنه تَابع بِخِلَاف نسخ الأَصْل، وَقيل: نسخ الأَصْل لَا يسْتَلْزم نظرا إِلَى أَنه ملزوم بِخِلَاف نسخه الفحوى.
قَالَ ابْن برهَان: نسخ الفحوى يسْتَلْزم نسخ أَصله وَلَا عكس.
قَالَ فِي " الْأَوْسَط ": وَالْمذهب.

(6/3084)


ثمَّ قَالَ الْمحلي: وَاعْلَم أَن استلزام كل مِنْهُمَا للْآخر يُنَافِي مَا صَححهُ فِي " جمع الْجَوَامِع " من جَوَاز نسخ كل مِنْهُمَا دون الآخر، فَإِن الِامْتِنَاع مَبْنِيّ على الاستلزام، وَالْجَوَاز مَبْنِيّ على عَدمه، وَقد اقْتصر ابْن الْحَاجِب على الْجَوَاز مَعَ مُقَابِله، والبيضاوي على الاستلزام، وَجمع المُصَنّف بَينهمَا، كَأَنَّهُ مَأْخُوذ من قَول الْآمِدِيّ: وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز نسخ الأَصْل دون الفحوى والفحوى دون الأَصْل غير أَن الْأَكْثَر على أَن نسخ الأَصْل يُفِيد نسخ الفحوى. إِلَى آخِره الْمُشْتَمل على الْعَكْس أَيْضا فَكَأَنَّهُ سرى إِلَى ذهن المُصَنّف من غير تَأمل أَن الْخلاف الثَّانِي مُفَرع على الْجَوَاز من الأول، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ بل هُوَ بَيَان لمأخذ الأول الْمُفِيد أَن الْأَكْثَر على الِامْتِنَاع فيتأمل. انْتهى.
قَوْله: {وَلَو ثَبت حكم مَفْهُوم الْمُخَالفَة جَازَ نسخه، وَإِلَّا فَلَا، وَيبْطل بنسخ أَصله عِنْد القَاضِي، والموفق، والطوفي، وَغَيرهم،

(6/3085)


وَقيل: لَا، وَلَا ينْسَخ بِهِ فِي الْأَصَح} .
مَفْهُوم الْمُخَالفَة هَل ينْسَخ أَو ينْسَخ بِهِ؟
أما نسخه وَهِي الْمَسْأَلَة الأولى فَيجوز نسخ حكم الْمَسْكُوت الَّذِي هُوَ مُخَالف للمذكور مَعَ نسخ الأَصْل ودونه، قَالَه كثير من الْعلمَاء.
وَقد قَالَت الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - أَن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المَاء من المَاء " عَنْهُم مَنْسُوخ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا التقى الختانان فقد وَجب الْغسْل " مَعَ أَن الأَصْل بَاقٍ وَهُوَ وجوب الْغسْل بالإنزال.
وَقَوْلنَا: وَيبْطل بنسخ أَصله هِيَ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة، وَهَذَا الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي، وَجزم بِهِ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَكَذَلِكَ الطوفي؛ لِأَن فَرعه وَعَدَمه كالخطابين، وَاخْتَارَهُ ابْن فورك.

(6/3086)


وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه لَا يبطل، وَهُوَ وَجه لِأَصْحَابِنَا، ذكره القَاضِي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَأما نسخ الأَصْل بِدُونِ مَفْهُومه الَّذِي هُوَ مُخَالف لَهُ حكما. فَذكر الصفي الْهِنْدِيّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، قَالَ: وأظهرهما أَنه لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يدل على ضد الحكم فاعتبار ذَلِك بِاعْتِبَار الْقَيْد الْمَذْكُور، فَإِذا بَطل تَأْثِير ذَلِك الْقَيْد بَطل مَا يبْنى عَلَيْهِ. انْتهى.
وعَلى هَذَا فنسخ الأَصْل نسخ للمفهوم مِنْهُ، وَالْمعْنَى أَنه يرْتَفع الحكم الشَّرْعِيّ الَّذِي حكم بِهِ على الْمَسْكُوت بضد حكم الْمَذْكُور.
وَأما النّسخ بِهِ - وَهِي الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة - فَالصَّحِيح أَنه لَا ينْسَخ بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة، وَقطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَصرح بِهِ السَّمْعَانِيّ لِضعْفِهَا عَن مقاومة النَّص.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: الصَّحِيح الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُ فِي معنى الْمَنْطُوق.

(6/3087)


(قَوْله: {فصل} )

{لَا حكم للناسخ مَعَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام اتِّفَاقًا} .
الحكم قبل نزُول النّسخ وَقبل تبليغه للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يثبت لَهُ حكمه فِي الْجُمْلَة، وَتَحْته ثَلَاث صور:
إِحْدَاهَا: أَن يبلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّمَاء قبل نزُول الأَرْض، وَقد تقدم حكم ذَلِك محررا.
الثَّانِيَة: أَن يوحيه الله تَعَالَى إِلَى جِبْرِيل، وَلم ينزل بِهِ إِلَى الأَرْض بعد.
الثَّالِثَة: أَن يكون ذَلِك بعد النُّزُول من السَّمَاء، وَقبل أَن يبلغهُ جِبْرِيل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَهَاتَانِ الصورتان لَا يتَعَلَّق بهما حكم اتِّفَاقًا.
قَوْله: {فَإِذا بلغه لم يثبت حكمه فِي حق من لم يبلغهُ عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد} ؛ لِأَنَّهُ أَخذ بِقصَّة أهل قبَاء،

(6/3088)


والقبلة وَإِن جَازَ تَركهَا لعذر.
{وَقيل: يثبت فِي الذِّمَّة، اخْتَارَهُ أَبُو الطّيب، وَابْن برهَان.
وَالْخلاف معنوي فِي الْأَصَح، وخرجه أَبُو الْخطاب من عزل الْوَكِيل قبل علمه، وَلَيْسَ بدور خلافًا للطوفي} .
إِذا بلغ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام الحكم إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَبت حكمه فِي حَقه، وَحقّ كل من بلغه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاه بطرِيق من الطّرق، وَكَذَا من لم يبلغهُ مَعَ التَّمَكُّن من علمه، وَأما من لم يبلغهُ وَلَا تمكن من علمه فَلَا يتَعَلَّق بِهِ حكمه على الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء لَا بِمَعْنى وجوب الِامْتِثَال، وَلَا بِمَعْنى ثُبُوته فِي الذِّمَّة، وَجرى عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
وَقيل: يثبت فِي الذِّمَّة، اخْتَارَهُ جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة كالنائم وَقت الصَّلَاة.
لَكِن عزى الأول ابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط " للحنفية، وَحكى الثُّبُوت

(6/3089)


عَن الشَّافِعِيَّة وَنَصره قيل وَهُوَ الْمَوْجُود لأَصْحَاب الشَّافِعِي الْمُتَقَدِّمين، وَاخْتَارَهُ أَبُو الطّيب أَيْضا. قَالَه ابْن مُفْلِح.
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: لَا شكّ أَنه لَا يثبت فِي حكمه التأثيم، وَهل يثبت فِي حكمه الْقَضَاء؟ أَو هُوَ من الْأَحْكَام الوضعية؟
هَذَا فِيهِ تردد؛ لِأَنَّهُ مُمكن بِخِلَاف الأول؛ لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق. انْتهى.
وَذكر الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " أَن الْخلاف لَفْظِي، وَذكر فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب " أَن الْقَائِلين بِثُبُوتِهِ يَقُولُونَ: لَو قدر أَن من لم يبلغهُ النَّاسِخ أقدم على الحكم الأول كَانَ زللا، وَخطأ لَا يُؤَاخذ بِهِ ويعذر لجهله. انْتهى.
فَهَذَا دَلِيل على أَن الْخلاف غير لَفْظِي، وَهُوَ الَّذِي صححناه بِدَلِيل مَا يذكر فِي دَلِيل الْمَسْأَلَة.
وَخرج أَبُو الْخطاب لُزُومه على انعزال الْوَكِيل قبل علمه بِالْعَزْلِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَيْسَ بتخريج دوري.

(6/3090)


وَقَالَ الطوفي: وَهُوَ تَخْرِيج دوري؛ لِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة أصولية وَمَسْأَلَة عزل الْوَكِيل فروعية فَهِيَ فرع على مَسْأَلَة النّسخ؛ لِأَن الْعَادة تَخْرِيج الْفُرُوع على الْأُصُول فَلَو خرجنَا هَذَا الأَصْل الْمَذْكُور فِي النّسخ على الْفَرْع الْمَذْكُور فِي الْوكَالَة لزم الدّور؛ لتوقف الأَصْل على الْفَرْع المتوقف عَلَيْهِ فَيصير من بَاب توقف الشَّيْء على نَفسه بِوَاسِطَة.
وَفرق الْأَصْحَاب بَين الْوكَالَة والنسخ بِأَن أوَامِر الله - تَعَالَى - ونواهيه مقرونة بالثواب وَالْعِقَاب فَاعْتبر فِيهَا الْعلم بالمأمور بِهِ والمنهي عَنهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك الْإِذْن فِي التَّصَرُّف، وَالرُّجُوع فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِهِ ثَوَاب وَلَا عِقَاب، وَلَيْسَ الحكم مُخْتَصًّا بالناسخ بل يَشْمَل الحكم الْمُبْتَدَأ.
وَفِيه أَيْضا الْخلاف ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ": هَذِه الْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة، وَذهب بَعضهم إِلَى إلحاقها بالمجتهدات حَتَّى نقلوا فِيهَا قَوْلَيْنِ من الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَكِيل إِذا عزل وَلم يبلغهُ الْعَزْل، فَقيل: يَنْعَزِل فِي الْحَال، وَقيل: لَا، كالنسخ، وَمِنْهُم من عكس فَخرج مَسْأَلَة النّسخ على قولي الْوكَالَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ القَاضِي الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ".

(6/3091)


وَفرق بَعضهم بَين النّسخ وَالْوكَالَة - أَيْضا - أَن الِاعْتِدَاد بِالْعبَادَة حق الله تَعَالَى، وَالله تَعَالَى قد شَرط الْعلم فِي الْأَحْكَام بِدَلِيل أَنه لَا يَقع مِنْهُ التَّكْلِيف بالمستحيل، والعقود حق الْمُوكل، وَلم يشْتَرط الْعلم.
اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَنَّهُ لَو ثَبت لزم وجوب الشَّيْء وتحريمه فِي وَقت وَاحِد؛ لِأَنَّهُ لَو نسخ وَاجِب بِمحرم أَثم بترك الْوَاجِب اتِّفَاقًا.
وَأَيْضًا يَأْثَم بِعَمَلِهِ بِالثَّانِي اتِّفَاقًا.
قَالُوا: إِسْقَاط حق لَا يعْتَبر فِيهِ رضى من سقط عَنهُ فَكَذَا علمه كَطَلَاق وإبراء.
رد: إِنَّمَا هُوَ تَكْلِيف تضمن رفع حكم خطاب، ثمَّ يلْزم قبل تَبْلِيغ جِبْرِيل.
قَالُوا: كَمَا يثبت حكم إِبَاحَة الْآدَمِيّ قبل الْعلم فِيمَن حلف لَا خرجت إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِبَاحَة مَاله.
رد: بِالْمَنْعِ.
قَالُوا: رفع الحكم بالناسخ.
رد: بِشَرْط الْعلم.
قَالُوا: النَّاسِخ حكم فَلم يتَوَقَّف ثُبُوته على علم الْمُكَلف كَبَقِيَّة الْأَحْكَام.
رد: إِن أُرِيد بِثُبُوتِهِ تعلقه بالمكلف توقف لاعْتِبَار التَّمَكُّن من الِامْتِثَال.

(6/3092)


(قَوْله: {فصل} )

{زِيَادَة عبَادَة مُسْتَقلَّة من غير الْجِنْس لَيست نسخا إِجْمَاعًا} كزيادة وجوب الزَّكَاة على وجوب الصَّلَاة، وَكَذَا الصَّوْم وَالْحج وَغَيرهَا، {وَكَذَا من الْجِنْس عِنْد الْأَرْبَعَة والمعظم} كزيادة صَلَاة على الصَّلَوَات الْخمس.
اعْلَم أَنه إِذا زيد شَيْء على مَا تقرر بِنَصّ الشَّرْع إِمَّا أَن يكون عبَادَة مُسْتَقلَّة وَإِمَّا أَن يكون غير مُسْتَقلَّة، فَإِن كَانَ الْعِبَادَة مُسْتَقلَّة فَلهُ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: أَن تكون من غير جنس الْمَزِيد كَمَا تقدم مِثَاله.
وَالثَّانِي: أَن يكون من جنس مَا سبق كزيادة صَلَاة على الْخمس فالأئمة الْأَرْبَعَة وَالْجُمْهُور أَنه لَيْسَ بنسخ، وَقَالَ بعض أهل الْعرَاق: يكون نسخا بِزِيَادَة صَلَاة سادسة، نسخ لتغير الْوسط.
رد ذَلِك: بِزِيَادَة عبَادَة، قَالَ ذَلِك جمع فبينوا أَن سَبَب قَوْلهم: إِنَّه

(6/3093)


نسخ كَونه تغير الْوسط، لَكِن الْمُدعى عَام وَهُوَ مُطلق الزِّيَادَة من الْجِنْس سَوَاء فِي الصَّلَاة، أَو غَيرهَا فِيمَا لَهُ وسط، وَمَا لَا وسط لَهُ وَالدَّلِيل خَاص وَهُوَ زِيَادَة صَلَاة سادسة على خمس حَتَّى أَن الْوسط يتَغَيَّر بذلك، فَإِن كَانَ مَحل خلافهم فِي الْأَعَمّ فدليلهم هَذَا سَاقِط؛ لِأَن كَون الشَّيْء لَهُ وسط أَو آخر ويتغير ذَلِك بِالزِّيَادَةِ، فَهُوَ لَيْسَ بشرعي؛ لِأَن الْوسط وَالْآخر أَمر اعتباري عَقْلِي لَا يرد النّسخ عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ مَحل خلافهم هَذِه الصُّورَة الْخَاصَّة فَلَا يَنْبَغِي تغبيرهم بِمُطلق الزِّيَادَة واعتلالهم بتغيير الْوسط بِغَيْر كَونه متوسطا بَين متساويين فَهُوَ أَمر حَقِيقِيّ عَقْلِي لَا شَرْعِي حَتَّى تكون إِزَالَته نسخا، وَأَيْضًا فَلَا يخْتَص بِصَلَاة سادسة، بل يجْرِي فِي كل مزِيد، وَإِن أَرَادوا أَن الْوُسْطَى مَأْمُور بالمحافظة عَلَيْهَا فبزوالها يَزُول ذَلِك، فَإِن كَانَ الْمُسَمّى بالوسطى صَلَاة مُعينَة من عصر، أَو غَيرهَا وَأَن ذَلِك كَالْعلمِ عَلَيْهَا فَالْأَمْر بالمحافظة عَلَيْهَا، وَلَو زيد على الْخمس أَو نقص مِنْهَا، وَإِن كَانَ الْوُسْطَى الْمَأْمُور بالمحافظة عَلَيْهَا مرَادا بهَا المتوسطة كَيفَ كَانَت فَالَّذِي يظْهر حِينَئِذٍ أَن الْأَمر يخْتَلف بِمَا يُزَاد، فَإِن زيد وَاحِدَة فَهِيَ ترفع الْوسط بِالْكُلِّيَّةِ، وَيتَّجه مَا ذَكرُوهُ؛ لِأَن الْوسط حِينَئِذٍ وَإِن كَانَ أمرا حَقِيقِيًّا إِلَّا أَن الشَّرْع ورد عَلَيْهِ وَقَررهُ فَتكون الزِّيَادَة نسخا لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيّ، وَإِن زيد ثِنْتَانِ أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يرفع الْوسط فَلَا نسخ، وَيكون الْأَمر بالمحافظة على تِلْكَ الصَّلَاة لذاتها

(6/3094)


ولكونها وسطا أَمر اتفاقي، وَإِن كَانَ الْأَمر بالمحافظة عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ من حَيْثُ كَونهَا وسطا لَيْسَ بشرعي فَهُوَ لم يزل بِالزِّيَادَةِ الثَّانِيَة.
قَوْله: {وَزِيَادَة جُزْء مشترط، أَو شَرط، أَو زِيَادَة ترفع مَفْهُوم الْمُخَالفَة لَيست نسخا عِنْد أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَعند الْحَنَفِيَّة نسخ.
وَفِي معالم الرَّازِيّ فِي الثَّالِث، الْكَرْخِي إِن غيرت حكم الْمَزِيد عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبل كتغريب على [الْحَد] وَزِيَادَة عدد جلد فنسخ، وَإِلَّا فَلَا.
عبد الْجَبَّار إِن غيرته حَتَّى صَار وجوده كَعَدَمِهِ شرعا كركعة فِي الْفجْر وَزِيَادَة عدد جلد وتخيير فِي ثَالِث بعد اثْنَيْنِ فنسخ، وَإِلَّا فَلَا.
الْغَزالِيّ إِن غيرته حَتَّى ارْتَفع التَّعَدُّد بَينهمَا كركعة فِي الْفجْر فنسخ، وَإِلَّا فَلَا.

(6/3095)


الْآمِدِيّ وَجمع إِن رفعت حكما شَرْعِيًّا بعد ثُبُوته بِدَلِيل شَرْعِي فنسخ، وَإِلَّا فَلَا وَمَعْنَاهُ لِأَصْحَابِنَا} .
إِذا زيد فِي الْمَاهِيّة الشَّرْعِيَّة جُزْء مشترط، أَو شَرط أَو زِيَادَة لم يكن ذَلِك نسخا على الْمُرَجح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والجبائية، كنسخ سنة من الصَّلَاة كستر الرَّأْس وَنَحْوه.
فَائِدَة: توصلت الْحَنَفِيَّة بقَوْلهمْ: إِن الزِّيَادَة على الْمَنْصُوص نسخ لمسائل كَثِيرَة كرد أَحَادِيث وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة، وَأَحَادِيث الشَّاهِد وَالْيَمِين، وَاشْتِرَاط الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة، وَالنِّيَّة فِي

(6/3096)


الْوضُوء، وَغير ذَلِك، وخالفوا أصولهم فِي اشتراطهم فِي ذَوي الْقُرْبَى الْحَاجة، وَهُوَ زِيَادَة على الْقُرْآن، وَمُخَالفَة للمعنى الْمَقْصُود فِيهِ، وَفِي أَن القهقهة تنقض الْوضُوء مستندين لأخبار ضَعِيفَة، وَهِي زِيَادَة على نواقض الْوضُوء الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن.
وَالْمذهب الثَّانِي: أَنه يكون نسخا مُطلقًا، وَبِه قَالَت الْحَنَفِيَّة مَعَ اعتبارهم الْفقر فِي ذَوي الْقُرْبَى قِيَاسا، وَقَالَهُ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي وَادّعى أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي.
الْمَذْهَب الثَّالِث: وَبِه قَالَ الرَّازِيّ فِي المعالم: يكون نسخا فِي الزِّيَادَة، وَهُوَ بالثالث، لَا فِي الْجُزْء الْمُشْتَرط، وَلَا فِي الشَّرْط، وَالثَّالِث هُوَ الزِّيَادَة الَّتِي ترفع مَفْهُوم الْمُخَالفَة أَنَّهَا إِن أفادت خلاف مَا اسْتُفِيدَ من مَفْهُوم الْمُخَالفَة كَانَت نسخا كإيجاب الزَّكَاة فِي معلوفة الْغنم فَإِنَّهُ يُفِيد خلاف مَفْهُوم (فِي السَّائِمَة الزَّكَاة) وَإِلَّا فَلَا.

(6/3097)


الْمَذْهَب الرَّابِع: وَبِه قَالَ الْكَرْخِي، وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ إِن كَانَت الزِّيَادَة مُغيرَة لحكم الْمَزِيد عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبل، كزيادة التَّغْرِيب، وَزِيَادَة عشْرين جلدَة على الْقَاذِف مثلا كَانَ نسخا، وَإِلَّا فَلَا، وَسَوَاء كَانَت الزِّيَادَة لَا تنفك عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ كَمَا لَو أوجب علينا ستر الْفَخْذ، فَإِنَّهُ يجب ستر بعض الرّكْبَة؛ لِأَنَّهَا مُقَدّمَة الْوَاجِب لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، أَو كَانَت الزِّيَادَة عِنْد تعذر الْمَزِيد عَلَيْهِ كإيجاب قطع رجل السَّاق بعد قطع يَده.
الْمَذْهَب الْخَامِس: وَبِه قَالَ عبد الْجَبَّار، إِن غيرت الزِّيَادَة الْمَزِيد عَلَيْهِ تغييرا شَرْعِيًّا بِحَيْثُ صَار الْمَزِيد عَلَيْهِ لَو فعل بعد الزِّيَادَة كَمَا كَانَ يفعل قبلهَا كَانَ وجوده كَعَدَمِهِ، وَوَجَب استئنافه كزيادة رَكْعَة على رَكْعَتي الْفجْر كَانَ ذَلِك نسخا، أَو كَانَ قد خير بَين فعلين فزيد فعل ثَالِث فَإِنَّهُ يكون نسخا، وَإِلَّا فَلَا، كزيادة التَّغْرِيب على الْجلد، وَزِيَادَة عشْرين جلدَة على حد الْقَاذِف، وَزِيَادَة شَرط مُنْفَصِل فِي شَرَائِط الصَّلَاة كاشتراط الْوضُوء.
كَذَا نَقله الْآمِدِيّ عَنهُ خلافًا لما فِي " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب " فِي نَقله.

(6/3098)


الْمَذْهَب السَّادِس: وَبِه قَالَ الْغَزالِيّ، إِن كَانَ الزِّيَادَة مُتَّصِلَة بالمزيد عَلَيْهِ اتِّصَال اتِّحَاد رَافع للتعدد والانفصال كزيادة رَكْعَتَيْنِ فنسخ، وَإِلَّا فَلَا، كزيادة عشْرين جلدَة.
الْمَذْهَب السَّابِع: وَبِه قَالَ أَبُو الْحُسَيْن، والآمدي إِن رفعت الزِّيَادَة حكما شَرْعِيًّا بعد ثُبُوته بِدَلِيل شَرْعِي فنسخ، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ الباقلاني فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ": إِن تَضَمَّنت الزِّيَادَة رفعا فَهِيَ نسخ، وَإِلَّا فَلَا. وَذكر فِي " التَّقْرِيب " نَحوه، وحذا حذوه أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، فَقَالَ فِي " الْمُعْتَمد ": مَا حَاصله: إِن كَانَ الزَّائِد رَافعا لحكم شَرْعِي كَانَ نسخا سَوَاء أثبت بالمنطوق، أم بِالْمَفْهُومِ بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ ثَابتا بِدَلِيل عَقْلِي كالبراءة الْأَصْلِيَّة.
وَاسْتَحْسنهُ الإِمَام الرَّازِيّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَهُوَ قَضِيَّة اخْتِيَار إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَيْضا.

(6/3099)


وَحَاصِله: أَن المزاد إِن كَانَ حكما شَرْعِيًّا كَانَ نسخا، وَإِلَّا فَلَا.
قيل: وَلَا حَاصِل لذَلِك للاتفاق على أَن رفع الحكم الشَّرْعِيّ نسخ، وَرفع غَيره لَيْسَ بنسخ فينحل ذَلِك إِلَّا أَن الزِّيَادَة إِن كَانَ نسخا فَهِيَ نسخ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنَّمَا مَحل النزاع أَن ذَلِك هَل هُوَ رفع حَتَّى يكون نسخا، أَو لَا؟ انْتهى.
قَوْله: {وَمَعْنَاهُ لِأَصْحَابِنَا} . يَعْنِي: معنى مَا قَالَه الْآمِدِيّ وَغَيره.
قَالَ ابْن مُفْلِح - بعد قَول الْآمِدِيّ -: وَمَعْنَاهُ لبَعض أَصْحَابنَا وَكَلَام البَاقِينَ نَحوه.
وَقَوْلنَا: {وتتفرع عَلَيْهِ مسَائِل} ، يَعْنِي تتفرع على قَول هَؤُلَاءِ مسَائِل:
مِنْهَا: قَوْله: فِي السَّائِمَة زَكَاة، ثمَّ قَوْله: فِي المعلوفة زَكَاة، نسخ للمفهوم إِن علم أَنه مُرَاد وَإِلَّا فَلَا.
وَمثله: اجلدوا مائَة. قَالَ فِي " الْعدة " و " الرَّوْضَة ": اسْتِقْرَار بِتَأْخِير الْبَيَان نسخ. وَفِي " التَّمْهِيد "، و " الْوَاضِح ": نسخ

(6/3100)


لمنع الزِّيَادَة وَالْمَفْهُوم ينْسَخ بِخَبَر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس.
وَفِي " الْعدة ": رُبمَا قَالَ الْقَائِل تَخْصِيص لرفعه بِقِيَاس وَخبر وَاحِد، قَالَ: وَالصَّحِيح نسخ كالخطاب.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: تراخي الْبَيَان لَا يُوجب أَنه مُرَاد فِي ظَاهر الْمَذْهَب لجوازه، وَإِلَّا وَجب.
وَمِنْهَا: لَو زيد رَكْعَة فِي الْفجْر فَلَيْسَ بنسخ عِنْد أَصْحَابنَا وَأبي الْحُسَيْن وَغَيرهم لعدم رفع حكم شَرْعِي، بل ضم إِلَيْهِ حكم.
وَعند الْآمِدِيّ نسخ لرفع وجوب التَّشَهُّد عقب الرَّكْعَتَيْنِ.
رد: التَّشَهُّد آخر الصَّلَاة لِلْخُرُوجِ مِنْهَا فَلَا نسخ، ثمَّ يلْزم زِيَادَة التَّغْرِيب على الْحَد.
وَقيل: نسخ لتَحْرِيم الزِّيَادَة.
رد: لم تحرم بِالْأَمر بالركعتين، بل لدَلِيل.
وَقيل: نسخ لرفع الصِّحَّة والإجزاء.

(6/3101)


رد: لم يثبتا بِالْخِطَابِ، بل بالاستصحاب، زَاد بعض أَصْحَابنَا: وَالْمَفْهُوم.
وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة " بِأَن النّسخ رفع جَمِيع مُوجب الْخطاب لَا رفع بعضه وَبِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون نسخا إِذا اسْتَقر، وَثَبت.
وَمن الْمُحْتَمل أَن دَلِيل الزِّيَادَة كَانَ مُقَارنًا، كَذَا قَالَ.
وَمِنْهَا: زِيَادَة التَّغْرِيب على الْجلد لَيست نسخا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ لما سبق خلافًا لبَعْضهِم.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: قصد بِالزِّيَادَةِ تعبد الْمُكَلف بهَا لَا رفع اسْتِقْلَال مَا كَانَ قبلهَا، بل حصل ضَرُورَة وتبعا، والمنسوخ مَقْصُود بِالرَّفْع، وَلَا يلْزم من قَصدهَا قصد لازمها، وَهُوَ رفع الِاسْتِقْلَال لتصور الْمَلْزُوم غافل عَن لَازمه، وَالله أعلم.
مِنْهَا: لَو وَجب غسل الرجل عينا، ثمَّ خير بَينه وَبَين الْمسْح، فَذكر

(6/3102)


الْآمِدِيّ أَنه نسخ؛ لِأَن التَّخْيِير رفع الْوُجُوب، وَلَعَلَّ المُرَاد: عينه مَعَ الْخُف، وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [الْبَقَرَة: 282] ، ثمَّ حكمه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِشَاهِد وَيَمِين لَيْسَ بنسخ؛ لِأَنَّهُ لم يرفع شَيْئا، وَلَو ثَبت مَفْهُومه وَمَفْهُوم {فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل} [الْبَقَرَة: 282] الْآيَة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ منع الحكم بِغَيْرِهِ، بل حصر الاستشهاد.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: إِن كَانَ الْمَفْهُوم حجَّة فرفعه نسخ، وَلَا يجوز بِخَبَر الْوَاحِد، كَذَا قَالَ.
وَمِنْهَا: لَو زيد فِي الْوضُوء اشْتِرَاط غسل عُضْو، أَو شَرط فِي الصَّلَاة، فَلَا نسخ كَمَا سبق.
وَمِنْهَا: فَرضِيَّة الْفَاتِحَة، وَاشْتِرَاط الطَّهَارَة للطَّواف لَيْسَ بنسخ خلافًا للحنفية فِي جَمِيع ذَلِك وَغَيره. انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح وَغَيره.
فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: اتَّفقُوا على أَن نسخ سنة من سنَن الصَّلَاة كنسخ ستر الرَّأْس لَا يكون نسخا لتِلْك الْعِبَادَة وَنسخ الْحَبْس فِي

(6/3103)


الْبيُوت لَا ينْسَخ استشهاد الْأَرْبَعَة. انْتهى.
وَظَاهر كَلَام الْغَزالِيّ جَرَيَان الْخلاف فِيهِ، وأوله بَعضهم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، للْخلاف وَجه فَإِن الْعِبَادَة مركبة من الْفُرُوض وَالسّنَن، وَلِهَذَا يُقَال: فروضها كَذَا، وسننها كَذَا، وَإِذا كَانَت السّنَن أَجزَاء مِنْهَا بِهَذَا الِاعْتِبَار فَلَا يبعد أَن يجْرِي فِيهَا خلاف نقص الرُّكْن فَيكون دَاخِلا فِي قَوْله: (زِيَاد جُزْء أَو نقص جُزْء) . انْتهى.

(6/3104)


(قَوْله: {فصل} )

{أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم نسخ جُزْء عبَادَة أَو شَرطهَا نسخ لَهُ فَقَط، وَالْغَزالِيّ وَغَيره} نسخ {للْكُلّ، وَعبد الْجَبَّار ينْسَخ الْجُزْء، وَالْمجد الْخلاف فِي شَرط مُتَّصِل كالتوجه، والمنفصل كَالْوضُوءِ لَيْسَ نسخا لَهَا إِجْمَاعًا، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ فيهمَا} .
وتعدد مَا تقدم فِي زِيَادَة جُزْء، أَو شَرط، وَالْكَلَام هُنَا فِي نقص جُزْء، أَو شَرط، فنقص جُزْء لِلْعِبَادَةِ، أَو شَرط من شُرُوطهَا نسخ لذَلِك فَقَط، لَا لأصل تِلْكَ الْعِبَادَة على الصَّحِيح، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، نَقله ابْن مُفْلِح وَغَيره، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، نَقله أَيْضا عَنْهُم، وَكَذَلِكَ ابْن السَّمْعَانِيّ.

(6/3105)


وَهُوَ مَذْهَب الْكَرْخِي، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.
وَعَن بعض الْمُتَكَلِّمين وَالْغَزالِيّ، وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن الْحَنَفِيَّة: تنسخ قَالَ عبد الْجَبَّار: تنسخ بنسخ جزئها، لَا إِن كَانَ شرطا.
وَوَافَقَهُ الْغَزالِيّ أَيْضا فِي الْجُزْء وَتردد فِي الشَّرْط.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَالتَّحْقِيق أَنه نسخ لعدم الْإِجْزَاء بالاقتصار عَلَيْهَا دونهَا وَهُوَ مُسْتَفَاد من الشَّرْع، وَكَذَلِكَ فِي الشَّرْط الْخَارِج إِذا نسخ، فَهُوَ نسخ لنفي الْإِجْزَاء بِدُونِهِ، وَإِن نسخا لوُجُوبهَا. انْتهى.
وَقَالَ الْمجد: مَحل الْخلاف فِي شَرط مُتَّصِل كالتوجه، ومنفصل كوضوء لَيْسَ نسخا لَهَا إِجْمَاعًا.

(6/3106)


وَذكر الْآمِدِيّ الْخلاف فيهمَا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام غَيره، وَوَافَقَ الْهِنْدِيّ الْمجد، فَقَالَ: الْخلاف فِي الشَّرْط الْمُتَّصِل كاستقبال الْقبْلَة فِي الصَّلَاة لَا الْمُنْفَصِل كالطهارة.
وَقَالَ: فإيراد الإِمَام وَغَيره يشْعر بِأَنَّهُ لَا خلاف، وَكَلَام غَيره يَقْتَضِي إِثْبَات الْخلاف فِي الْكل. انْتهى.
وَصرح ابْن السَّمْعَانِيّ بِأَنَّهُ فِي جَانب الشَّرْط لَيْسَ نسخا، وَأما فِي الْجُزْء كإسقاط رُكُوع فَيَنْبَغِي أَن يكون على مَا ذكرنَا فِيمَا إِذا زيدت رَكْعَة على رَكْعَتَيْنِ.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَن وُجُوبهَا بَاقٍ، وَلَا يفْتَقر إِلَى دَلِيل ثَان إِجْمَاعًا، وَلم يَتَجَدَّد وجوب، وكنسخ سنتها اتِّفَاقًا.

(6/3107)


(قَوْله: {فصل} )

{يَسْتَحِيل تَحْرِيم معرفَة الله تَعَالَى إِلَّا على تَكْلِيف الْمحَال} ، وَذَلِكَ لتوقفه على مَعْرفَته وَهُوَ دور، {وَمَا حسن، أَو قبح لذاته كمعرفته وَالْكفْر وَنَحْوه يجوز نسخ وُجُوبه وتحريمه عِنْد من نفى الْحسن والقبح ورعاية الْحِكْمَة فِي أَفعاله، وَمن أثْبته مَنعه، ذكره الْآمِدِيّ وَغَيره.
وَقَالُوا: يجوز نسخ جَمِيع التكاليف، وَمنعه الْغَزالِيّ، وَابْن حمدَان، وَلم يقعا إِجْمَاعًا.
وَقَالَ الْمجد: يجوز نسخهَا كلهَا سوى معرفَة الله تَعَالَى على أصل أَصْحَابنَا وَأهل الحَدِيث خلافًا للقدرية} .

(6/3108)


أما تَحْرِيم معرفَة الله تَعَالَى فمستحيل عِنْد الْعلمَاء إِلَّا على القَوْل بتكليف الْمحَال، وَذَلِكَ لتوقفه على مَعْرفَته، وَهُوَ دور.
وَقد تقدم من شَرط الْمَنْسُوخ أَن يكون مَا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا، وَأَن لَا يكون اعتقادا، فَلَا يدْخل النّسخ التَّوْحِيد بِحَال؛ لِأَن الله تَعَالَى بأسمائه وَصِفَاته لم يزل وَلَا يزَال.
وَكَذَلِكَ مَا علم أَنه متأبد وَنَحْو ذَلِك تقدم.
وَأما مَا قبح وَحسن لذاته كمعرفة الله تَعَالَى، وَتَحْرِيم الْكفْر، وَالظُّلم، وَالْكذب، والقبائح الْعَقْلِيَّة، وشكر الْمُنعم، فَهَل يجوز نسخ وُجُوبه وتحريمه أم لَا؟
فَمن نفى الْحسن والقبح، ورعاية الْحِكْمَة فِي أَفعاله يجوز نسخ ذَلِك وَمن أثبت ذَلِك منع النّسخ، ذكره الْآمِدِيّ وَغَيره؛ لِأَن الْمُقْتَضى لِلْحسنِ والقبح حِينَئِذٍ صِفَات وَأَحْكَام لَا تَتَغَيَّر بِتَغَيُّر الشَّرَائِع فَامْتنعَ النّسخ لِاسْتِحَالَة الْأَمر بالقبيح، وَالنَّهْي عَن الْحسن.
وَأما من نفى ذَلِك - وَهُوَ الصَّحِيح - فَإِنَّهُ يجوز نسخ هَذِه الْأُمُور لقَوْل الله تَعَالَى: {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت} [الرَّعْد: 39] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} [إِبْرَاهِيم: 27] .

(6/3109)


وَاخْتلف أَيْضا فِي جَوَاز نسخ جَمِيع التكاليف، فَقَالَ الْآمِدِيّ، وَغَيره: يجوز، وَهُوَ الَّذِي نَصره ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَاخْتَارَهُ أَصْحَاب الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: ذهب أَصْحَابنَا إِلَى أَن كل حكم شَرْعِي يقبل النّسخ.
وَقيل للْقَاضِي أبي يعلى: لَو جَازَ النّسخ لجَاز فِي اعْتِقَاد التَّوْحِيد! فَقَالَ: التَّوْحِيد مصلحَة لجَمِيع الْمُكَلّفين فِي جَمِيع الْأَوْقَات، وَلِهَذَا لَا يجوز الْجمع بَين إِيجَابه وَالنَّهْي عَن مثله فِي الْمُسْتَقْبل بِخِلَاف الْفِعْل الشَّرْعِيّ، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَيجوز نسخ جَمِيع التكاليف سوى معرفَة الله تَعَالَى على أصل أَصْحَابنَا، وَسَائِر أهل الحَدِيث خلافًا للقدرية فِي قَوْلهم: [الْعِبَادَات] مصَالح، فَلَا يجوز رَفعهَا.
وَقَالَهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ".

(6/3110)


ورد الْقَرَافِيّ كَلَام أبي إِسْحَاق، ورد على الْقَرَافِيّ ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَالَ ابْن عقيل: وَإِن قُلْنَا بالمصالح فَلَا يمْتَنع لعلمه أَن التكاليف تفسدهم وكجنون بَعضهم وَمَوته وكنسخه مِنْهَا بِحَسب الْأَصْلَح.
قَالَ الْآمِدِيّ: وَبعد تَكْلِيف العَبْد بهَا اخْتلفُوا فِي جَوَاز نسخ جَمِيع التكاليف.
وَاسْتدلَّ لجَوَاز النّسخ بِأَن جَمِيع التكاليف أَحْكَام فَكَمَا جَازَ نسخ بَعْضهَا جَازَ نسخ جَمِيعهَا.
وَخَالف الْغَزالِيّ، وَابْن حمدَان - من أَصْحَابنَا - والمعتزلة فمنعوا نسخ جَمِيع التكاليف لتوقف الْعلم بذلك الْمَقْصُود مِنْهُ بِتَقْدِير وُقُوعه على معرفَة النّسخ والناسخ، وَهِي من التكاليف فَلَا يَتَأَتَّى نسخهَا.
قُلْنَا: لَا نسلم ذَلِك؛ لِأَن بحصولها يَنْتَهِي التَّكْلِيف بهَا فَيصدق أَنه لم ينتف تَكْلِيف، وَهُوَ الْقَصْد بنسخ جَمِيع التكاليف.

(6/3111)


قَالَ الْمحلي: فَلَا نزاع فِي الْمَعْنى. انْتهى.
وَاتَّفَقُوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على عدم الْوُقُوع، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْجَوَاز الْعقلِيّ.

(6/3112)