التحبير شرح التحرير في أصول الفقه (بَاب الِاجْتِهَاد)
(8/3863)
فارغة
(8/3864)
(قَوْله: {بَاب الِاجْتِهَاد} )
{لُغَة: استفراغ الوسع لتَحْصِيل أَمر شاق} .
قد نجز بِحَمْد الله تَعَالَى الْكَلَام على أَنْوَاع
الِاسْتِدْلَال، وَهَذَا حِين الشُّرُوع فِي بَيَان أَحْكَام
الْمُسْتَدلّ، وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من بَيَان الِاجْتِهَاد،
والمجتهد، والتقليد، والمقلد، ومسائل ذَلِك.
فَنَقُول: الِاجْتِهَاد افتعال من الْجهد بِالضَّمِّ
وَالْفَتْح وَهُوَ: الطَّاقَة، سمي بذلك لاستفراغ الْقُوَّة
والطاقة فِي تَحْصِيل الْمَطْلُوب، فَهُوَ بذل الوسع مِمَّا
فِيهِ كلفة، وَلِهَذَا لَا يُقَال اجْتهد فِي حمل خردلة
وَنَحْوهَا من الْأَشْيَاء الْخَفِيفَة، [وَيُقَال اجْتهد] فِي
حمل الرَّحَى وَنَحْوهَا من الْأَشْيَاء الشاق حملهَا.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: استفراغ الْفَقِيه وَسعه لدرك حكم
شَرْعِي} .
(8/3865)
معنى استفراغ الوسع: بذل الوسع بِحَيْثُ
تحس النَّفس بِالْعَجزِ عَن زِيَادَة، وَهُوَ جنس، وَكَون
ذَلِك من الْفَقِيه قيد مخرج للمقلد، وَالْمرَاد ذُو الْفِقْه،
وَقد سبق أول الْكتاب حَده وَتَفْسِيره.
وَقَوْلنَا: (لدرك حكم شَرْعِي) وَبَعْضهمْ قَالَ: لتَحْصِيل
ظن، احْتِرَاز من الْقطع، فَإِنَّهُ لَا اجْتِهَاد فِي
القطعيات.
وَقَوْلنَا: (حكم شَرْعِي) قيد مخرج للحسيات، والعقليات،
وَنَحْو ذَلِك، لذا قيد ابْن الْحَاجِب وَغَيره الحكم بالشرعي
وَلم يُقَيِّدهُ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة بذلك،
للاستغناء عَنهُ بِذكر الْفَقِيه؛ لِأَنَّهُ لَا يتَكَلَّم
إِلَّا فِي الحكم الشَّرْعِيّ.
وَأورد على ذَلِك: " اجْتِهَاد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ لَا يُسمى فِي الْعرف فَقِيها
وَلعدم الْإِذْن فِيهِ.
إِلَّا أَن يُقَال: المُرَاد بِالْحَدِّ اجْتِهَاد الْفَقِيه
لَا مُطلق الِاجْتِهَاد " قَالَه الْبرمَاوِيّ.
(8/3866)
قَالَ فِي " الرَّوْضَة "، و "
الْمُسْتَصْفى ": بذل المجهود فِي الْعلم بِأَحْكَام الشَّرْع.
وَمَعْنَاهُ للطوفي، فَإِنَّهُ قَالَ: " بذل الْجهد فِي تعرف
الحكم الشَّرْعِيّ، ثمَّ قَالَ: والتام مِنْهُ: مَا انْتهى
إِلَى حَال الْعَجز عَن مزِيد طلب ".
وَقَالَ الْآمِدِيّ: " هُوَ: استفراغ الوسع فِي طلب الظَّن
بِشَيْء من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، على وَجه يحس من
النَّفس الْعَجز عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ ".
وَقَالَ الْقَرَافِيّ: " هُوَ: استفراغ الوسع فِي الْمَطْلُوب
لُغَة، واستفراغ الوسع فِي النّظر فِيمَا يلْحقهُ فِيهِ لوم
شَرْعِي اصْطِلَاحا ".
ومعانيها مُتَقَارِبَة إِن لم تكن مُتَسَاوِيَة.
قَوْله: {وَشرط الْمُجْتَهد وَهُوَ الْفَقِيه، الْعلم بأصول
الْفِقْه،
(8/3867)
وَمَا يستمد مِنْهُ، والأدلة السمعية
مفصلة، وَاخْتِلَاف مراتبها، فَمن الْكتاب وَالسّنة مَا
يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ بِحَيْثُ يُمكنهُ استحضاره للاحتجاج
بِهِ لَا حفظه، وَأوجب فِي " الْوَاضِح " معرفَة جَمِيع أصُول
الْفِقْه وأدلة الْأَحْكَام، وَأوجب جمع وَنقل عَن
الشَّافِعِي: حفظ جَمِيع الْقُرْآن، وَمَال إِلَيْهِ الشَّيْخ،
وَمَعْرِفَة صِحَة الحَدِيث وَضَعفه، وَلَو تقليدا: كنقله من
كتاب صَحِيح، والناسخ والمنسوخ مِنْهُمَا، وَمن النَّحْو
واللغة مَا يَكْفِيهِ فِيمَا يتَعَلَّق بهما من نَص وَظَاهر،
ومجمل، ومبين، وَحَقِيقَة، ومجاز، وَأمر، وَنهي، وعام، وخاص،
ومستثنى ومستثنى مِنْهُ، وَمُطلق، ومقيد، وَدَلِيل الْخطاب،
وَنَحْوه، وَالْمجْمَع عَلَيْهِ والمختلف فِيهِ، وَلم يذكرهُ
فِي " التَّمْهِيد "، وَفِي " الْمقنع "، وَغَيره: و " أَسبَاب
النُّزُول "، وَفِي " التَّمْهِيد " و " الْوَاضِح " و "
الْمقنع "، وَغَيرهَا، وَمَعْرِفَة الله بصفاته الْوَاجِبَة
لَهُ، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَيمْتَنع، لَا تفاريع الْفِقْه،
وَعلم الْكَلَام، وَلَا معرفَة أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر}
.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (الْمُفْتِي الْعَالم بأصول الْفِقْه
وَمَا يستمد مِنْهُ، والأدلة السمعية مفصلة، وَاخْتِلَاف
مراتبها - كَمَا سبق - أَي: غَالِبا ذكره جمَاعَة من
أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
(8/3868)
وَفِي " الْوَاضِح ": يجب معرفَة جَمِيع
أصُول الْفِقْه وأدلة الْأَحْكَام.
قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيرهم: يجب أَن يحفظ من الْقُرْآن مَا
يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ.
وَذكره فِي " الْوَاضِح " عَن الْمُحَقِّقين، وَأَن كثيرا من
الْعلمَاء أوجب حفظ جَمِيعه.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَيعرف الْمجمع عَلَيْهِ والمختلف فِيهِ،
وَلم يذكرهُ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره.
وَاعْتبر بعض أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: معرفَة
أَكثر الْفِقْه، وَالْأَشْهر: لَا؛ لِأَنَّهُ نتيجته،
والمستفتي إِن كَانَ مُجْتَهدا أَو محصلا لعلم مُعْتَبر
للِاجْتِهَاد، فقد سبق، أَو عاميا، والمستفتى فِيهِ:
الْمسَائِل الاجتهادية) انْتهى.
اشْترط فِي الْفَقِيه الْمُجْتَهد: أَن يكون بَالغا؛ لِأَن
الصَّغِير لَيْسَ بكامل آلَة الْعلم حَتَّى يَتَّصِف
بِمَعْرِِفَة الْفِقْه على وَجههَا، قَالَه فِي " جمع
الْجَوَامِع " وشراحه، والبرماوي، وَغَيرهم.
(8/3869)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي "
المسودة ": " فصل: قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: الصَّبِي
يتَصَوَّر مِنْهُ الِاجْتِهَاد وَيصِح، وَعند الْمُعْتَزلَة:
يجب عَلَيْهِ إِذا ميز الْإِتْيَان بالمعارف الْعَقْلِيَّة،
حَتَّى إِذا مَضَت مُدَّة يُمكن فِيهَا الِاسْتِدْلَال وَلم
يَأْتِ بالمعارف مَاتَ كَافِرًا " انْتهى.
وَأَن يكون عَاقِلا؛ لِأَن من لَا عقل لَهُ لَا يدْرك علما،
لَا فقها وَلَا غَيره.
وَأَن يكون فَقِيه النَّفس، أَي: لَهُ قدرَة على اسْتِخْرَاج
أَحْكَام الْفِقْه من أدلتها كَمَا يعلم ذَلِك من حد الْفِقْه
- الْمُتَقَدّم أول الْكتاب -، فتضمن ذَلِك أَن يكون عِنْده
سجية وَقُوَّة يقتدر بهَا على التَّصَرُّف بِالْجمعِ،
والتفريق، وَالتَّرْتِيب، والتصحيح، والإفساد؛ فَإِن ذَلِك
ملاك صناعَة الْفِقْه.
قَالَ الْغَزالِيّ: إِذا لم يتَكَلَّم الْفَقِيه فِي مَسْأَلَة
لم يسْمعهَا ككلامه فِي مَسْأَلَة سَمعهَا فَلَيْسَ بفقيه.
وَأَن يكون عَارِفًا بأصول الْفِقْه وَهِي: الْأَدِلَّة
الَّتِي يسْتَخْرج مِنْهَا أَحْكَام الْفِقْه، - وَقد سبق أَن
أَدِلَّة الْفِقْه الْكتاب، وَالسّنة، وَمَا تفرع عَنْهُمَا -
وَلَيْسَ المُرَاد أَن يعرف سَائِر آيَات الْقُرْآن
وَأَحَادِيث السّنة، وَإِنَّمَا المُرَاد معرفَة مَا يتَعَلَّق
بِالْأَحْكَامِ مِنْهُمَا، وَقد ذكر أَن الْآيَات خَمْسمِائَة،
وَكَأَنَّهُم أَرَادوا
(8/3870)
مَا هُوَ مَقْصُود بِهِ الْأَحْكَام
بِدلَالَة الْمُطَابقَة، أما بِدلَالَة الِالْتِزَام: فغالب
الْقُرْآن، بل كُله لَا يَخْلُو شَيْء مِنْهُ عَن حكم يستنبط
مِنْهُ.
قَالُوا: لَا يشْتَرط حفظهَا، بل يشْتَرط أَن يكون عَارِفًا
بمواضعها حَتَّى يطْلب مِنْهَا الْآيَة الَّتِي يحْتَاج
إِلَيْهَا عِنْد حُدُوث الْوَاقِعَة، وَبِذَلِك قَالَ جمَاعَة
من الْعلمَاء.
وَنقل عَن الإِمَام الشَّافِعِي: أَنه يجب حفظ جَمِيع
الْقُرْآن، وَمَال إِلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
قَالَ الطوفي: " وَالصَّحِيح أَن هَذَا التَّقْدِير غير
مُعْتَبر، وَأَن مِقْدَار أَدِلَّة الْأَحْكَام غير منحصرة،
فَإِن أَحْكَام الشَّرْع كَمَا تستنبط من الْأَوَامِر
والنواهي؛ تستنبط من الْقَصَص والمواعظ وَنَحْوهَا، وَقل أَن
يُوجد فِي الْقُرْآن آيَة إِلَّا ويستنبط مِنْهَا شَيْء من
الْأَحْكَام، وَكَأن من حصرها فِي خَمْسمِائَة كالغزالي
وَغَيره إِنَّمَا نظرُوا إِلَى مَا قصد مِنْهُ بَيَان
الْأَحْكَام دون مَا استفيدت مِنْهُ، وَلم يقْصد بِهِ
بَيَانهَا " انْتهى.
وَقد قيل: إِن آيَات الْأَحْكَام مائَة آيَة، حَكَاهُ ابْن
السُّيُوطِيّ فِي شرح منظومته " جمع الْجَوَامِع ".
(8/3871)
وَحكى الْبَغَوِيّ عِنْد قَوْله تَعَالَى:
{يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء} [الْبَقَرَة: 269] " عَن
الضَّحَّاك أَنه قَالَ: فِي الْقُرْآن مائَة آيَة وتسع آيَات
ناسخة ومنسوخة، وَألف آيَة حَلَال وَحرَام، لَا يسع
الْمُؤمنِينَ تركهن حَتَّى يتعلموهن " انْتهى.
وَأوجب ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": معرفَة جَمِيع أصُول
الْفِقْه وأدلة الْأَحْكَام.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ: من حصل أصُول الْفِقْه
وفروعه فمجتهد، وعَلى الأول لَا بُد أَن يعرف أَحَادِيث
الْأَحْكَام، أَي: يعرف موَاضعهَا، وَإِن لم يكن حَافِظًا
لمتونها كَمَا قُلْنَا فِي الْقُرْآن.
فَإِذا اجْتمعت فِيهِ الشُّرُوط، اشْترط فِيهِ أَن يعرف مواقع
الْإِجْمَاع حَتَّى لَا يُفْتِي بِخِلَافِهِ، فَيكون قد خرق
الْإِجْمَاع.
وَلم يذكر ذَلِك أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ".
(8/3872)
وَيَنْبَغِي أَيْضا: أَن يعرف كَلَام
الصَّحَابَة، وفتاويهم ليعتمد الْأَقْوَى مِنْهَا لَا سِيمَا
إِن قُلْنَا: إِن قَوْلهم حجَّة.
وَأَن يعرف النَّاسِخ والمنسوخ فِيمَا يسْتَدلّ بِهِ على
تِلْكَ الْوَاقِعَة الَّتِي يُفْتِي بهَا من آيَة أَو حَدِيث
حتىلا يسْتَدلّ بِهِ إِن كَانَ مَنْسُوخا، وَلَا يشْتَرط أَن
يعرف جَمِيع النَّاسِخ والمنسوخ فِي سَائِر الْمَوَاضِع، كَمَا
سبق نَظِيره فِي الْإِجْمَاع.
وَقد صنف فِي نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه: أَبُو جَعْفَر النّحاس،
وَأَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ، ومكي صَاحب الْإِعْرَاب، وَمن
الْمُتَقَدِّمين: هبة الله [بن سَلامَة] ،
(8/3873)
وَمن أَصْحَابنَا: ابْن الزَّاغُونِيّ،
وَابْن الْجَوْزِيّ.
وَفِي نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه: الإِمَام الشَّافِعِي، وَابْن
قُتَيْبَة، وَابْن شاهين، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَغَيرهم.
(8/3874)
وَأَن يعرف أَسبَاب النُّزُول، قَالَه ابْن
حمدَان، وَغَيره من أَصْحَابنَا.
وَغَيرهم: فِي الْآيَات، وَأَسْبَاب قَوْله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأَحَادِيث؛ ليعرف المُرَاد من
ذَلِك، وَمَا يتَعَلَّق بهما من تَخْصِيص أَو تَعْمِيم.
وَأَن يعرف - أَيْضا - شُرُوط الْمُتَوَاتر والآحاد؛ ليقدم مَا
يجب تَقْدِيمه عِنْد التَّعَارُض.
وَأَن يعرف الصَّحِيح من الحَدِيث والضعيف سندا ومتنا؛
لِيطْرَح الضَّعِيف حَيْثُ لَا يكون فِي فَضَائِل الْأَعْمَال،
ويطرح الْمَوْضُوع مُطلقًا.
وَأَن يعرف حَال الروَاة فِي الْقُوَّة والضعف؛ ليعلم مَا
ينجبر من الضعْف بطرِيق آخر، وَمَا لَا ينجبر.
لَكِن يَكْفِي التعويل فِي هَذِه الْأُمُور كلهَا فِي هَذِه
الْأَزْمِنَة على كَلَام أَئِمَّة الحَدِيث كأحمد،
وَالْبُخَارِيّ، وَمُسلم، وَأبي دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ،
وَنَحْوهم؛ لأَنهم أهل الْمعرفَة بذلك، فَجَاز الْأَخْذ
بقَوْلهمْ، كَمَا نَأْخُذ بقول المقومين فِي الْقيم.
وَيكون عَارِفًا بلغَة الْعَرَب؛ لِأَن الْكتاب وَالسّنة
عربيان، وَيعرف الْعَرَبيَّة، وَهِي تَشْمَل: اللُّغَة،
والنحو، والتصريف، وَيعرف علم البلاغة، وَهُوَ الْمعَانِي،
وَالْبَيَان، والبديع؛ لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي علم
الْعَرَبيَّة، إِلَّا أَنِّي أردْت التَّصْرِيح بذلك لِئَلَّا
يظنّ خُرُوجه عَنْهَا، وَإِنَّمَا اعْتبر ذَلِك لِأَن الْكتاب
وَالسّنة فِي الذرْوَة الْعليا من الإعجاز، فَلَا بُد من
معرفَة طرق الإعجاز
(8/3875)
وأساليبه ومواقعه، ليتَمَكَّن من
الاستنباط، فَيَكْفِي معرفَة أوضاع الْعَرَب، بِحَيْثُ يُمَيّز
الْعِبَادَة الصَّحِيحَة من الْفَاسِدَة، والراجحة من
المرجوحة، فَإِنَّهُ يجب حمل كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام
رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا هُوَ
الرَّاجِح، وَإِن جَازَ غَيره فِي كَلَام الْعَرَب.
قَالَ الطوفي: " وَيشْتَرط أَن يعرف من النَّحْو واللغة مَا
يَكْفِيهِ فِي معرفَة مَا يتَعَلَّق بِالْكتاب وَالسّنة من
نَص، وَظَاهر، ومجمل، وَحَقِيقَة ومجاز، وعام وخاص، وَمُطلق
ومقيد، وَدَلِيل الْخطاب، وَنَحْوه: كفحوى الْخطاب، ولحنه،
وَمَفْهُومه، لِأَن بعض الْأَحْكَام يتَعَلَّق بذلك ويتوقف
عَلَيْهِ توقفا ضَرُورِيًّا: كَقَوْلِه: {والجروح قصاص}
[الْمَائِدَة: 45] ، يخْتَلف الحكم بِرَفْع الجروح ونصبها
وَنَحْو ذَلِك ".
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي "
الْوَاضِح "، وَابْن حمدَان فِي " الْمقنع " وَغَيرهم: يشْتَرط
فِيهِ معرفَة الله تَعَالَى بصفاته الْوَاجِبَة، وَمَا يجوز
عَلَيْهِ وَيمْتَنع.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": " وَيشْتَرط فِيهِ
أَن يعرف من أَحْوَال الْمُخَاطب، مِمَّا يقف مَعَه إِلَى
حُصُول مَدْلُول خطابه: كمعرفته بِأَن الله تَعَالَى حَكِيم،
عَالم، غَنِي، قَادر، وَأَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصُوم عَن الْخَطَأ فِيمَا شَرعه،
وَأَن إِجْمَاع الْأمة مَعْصُوم.
(8/3876)
وَلَا يَصح مَعْرفَته بذلك من حَال الباريء
سُبْحَانَهُ إِلَّا بعد مَعْرفَته بِذَاتِهِ وَصِفَاته.
وَلَا يَصح مَعْرفَته بعصمة النَّبِي إِلَّا بعد مَعْرفَته
بِكَوْنِهِ نَبيا.
وَلَا يَصح مَعْرفَته بعصمة الْأمة حَتَّى يعلم أَنه
يَسْتَحِيل اجْتِمَاعهم على خطأ) انْتهى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " فصل فِي صفة
الْمُفْتِي:
وَهُوَ الَّذِي يعرف بالأدلة الْعَقْلِيَّة النظرية حدث
الْعَالم، وَأَن لَهُ صانعا، وَأَنه وَاحِد، وَأَنه على صِفَات
وَاجِبَة لَهُ، وَأَنه منزه عَن صِفَات الْمُحدثين، وَأَنه
يجوز عَلَيْهِ إرْسَال الرُّسُل، وَأَنه قد أرسل رسلًا
بِأَحْكَام شرعها، وَأَن صدقهم بِمَا جَاءُوا بِهِ ثَبت بِمَا
أظهره على أَيْديهم من المعجزات " انْتهى.
قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": والمجتهد من عرف الله
بصفاته الْوَاجِبَة وَمَا يجوز عَلَيْهِ أَو يمْتَنع، وَصدق
رَسُوله فِيمَا جَاءَ بِهِ من الشَّرْع إِجْمَالا. انْتهى.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: وَيشْتَرط فِيهِ أَن يكون عَالما بِوُجُود
الرب تَعَالَى، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَمَا لَا يجوز عَلَيْهِ
من الصِّفَات، مُصدقا بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -، وَبِمَا جَاءَ بِهِ من الشَّرْع الْمَنْقُول، كل
بدليله من جِهَة الْجُمْلَة لَا من جِهَة التَّفْصِيل.
(8/3877)
وَقَالَ الْغَزالِيّ: لَيْسَ معرفَة
الْكَلَام بالأدلة المحررة فِيهِ، على عَادَة الْمُتَكَلِّمين
شرطا فِي الِاجْتِهَاد، بل هُوَ من ضَرُورَة منصب
الِاجْتِهَاد، إِذْ لَا يبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد فِي الْعلم،
إِلَّا وَقد قرع سَمعه أَدِلَّة الْكَلَام فيعرفها حَتَّى لَو
تصور مقلد مَحْض فِي تَقْلِيد الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأصول الْإِيمَان، لجَاز لَهُ
الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع.
قَالَ: وَالْقدر الْوَاجِب من ذَلِك: اعْتِقَاد جازم إِذْ بِهِ
يصير مُسلما، وَالْإِسْلَام شَرط الْمُفْتِي لَا محَالة.
قَالَ الطوفي: " قلت: الْمُشْتَرط فِي الِاجْتِهَاد
بِالْجُمْلَةِ معرفَة كل مَا يتَوَقَّف حُصُول ظن الحكم
الشَّرْعِيّ عَلَيْهِ، سَوَاء انحصر ذَلِك فِي جَمِيع مَا
ذكرُوا، أَو خرج عَنهُ شَيْء لم يذكر فمعرفته مُعْتَبرَة "
انْتهى.
قَوْله: {لَا تفاريع الْفِقْه وَعلم الْكَلَام، وَلَا معرفَة
أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر} .
هَذِه أُمُور أُخْرَى رُبمَا يتَوَهَّم أَنَّهَا شُرُوط فِي
الْمُجْتَهد، وَلكنهَا لَيست بِشُرُوط لَهُ.
مِنْهَا: معرفَة تفاريع الْفِقْه لَا يشْتَرط؛ لِأَن
الْمُجْتَهد هُوَ الَّذِي يولدها ويتصرف فِيهَا، لَو كَانَ
ذَلِك شرطا فِيهَا للَزِمَ الدّور، لِأَنَّهَا نتيجة
الِاجْتِهَاد، فَلَا يكون الِاجْتِهَاد نتيجتها.
وَالْخلاف فِي ذَلِك مَنْقُول عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق
الإِسْفِرَايِينِيّ شَرط فِي الْمُجْتَهد معرفَة الْفِقْه.
(8/3878)
قيل: وَلَعَلَّه أَرَادَ ممارسته.
وَإِلَيْهِ ميل الْغَزالِيّ فَقَالَ: " إِنَّمَا يحصل
الِاجْتِهَاد فِي زَمَاننَا بممارسة الْفِقْه فَهُوَ طَرِيق
تَحْصِيل [الدربة] فِي هَذَا الزَّمَان، وَلم يكن الطَّرِيق
فِي زمن الصَّحَابَة ذَلِك " انْتهى.
وَتقدم كَلَام أبي مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي ذَلِك.
وَمِنْهَا: معرفَة علم الْكَلَام، أَي: علم أصُول الدّين،
قَالَه الأصوليون، لَكِن الرَّافِعِيّ قَالَ: إِن الْأَصْحَاب
عدوا من شُرُوط الِاجْتِهَاد معرفَة أصُول العقائد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَالْجمع بَين الْكَلَامَيْنِ مَا
أَشَارَ إِلَيْهِ الْغَزالِيّ حَيْثُ قَالَ: وَعِنْدِي أَنه
يَكْفِي اعْتِقَاد جازم، وَلَا يشْتَرط مَعْرفَتهَا على طَرِيق
الْمُتَكَلِّمين ومادتهم الَّتِي يجرونها " انْتهى.
(8/3879)
وَقد تقدم: كَلَامه.
قَالَ ابْن مُفْلِح كَمَا تقدم: " وَاعْتبر بعض أَصْحَابنَا
وَبَعض الشَّافِعِيَّة معرفَة أَكثر الْفِقْه، وَالْأَشْهر:
لَا؛ لِأَنَّهُ نتيجته " انْتهى.
وَقدم فِي " آدَاب الْمُفْتِي " من شَرطه أَن يحفظ أَكثر
الْفِقْه.
وَمِنْهَا: لَا يشْتَرط فِي الْمُجْتَهد أَن يكون ذكرا وَلَا
حرا وَلَا عدلا، بل يجوز أَن يكون امْرَأَة، ورقيقا، وفاسقا،
لَكِن لَا يستفتى الْفَاسِق وَلَا يعْمل بقوله بِخِلَاف
الْمَرْأَة وَالرَّقِيق، فالعدالة شَرط فِي الْمُفْتِي لَا فِي
الْمُجْتَهد؛ لِأَن الْمُفْتِي أخص فشروطه أغْلظ، أما مَسْتُور
الْعَدَالَة فَتجوز فتواه فِي أحد الْقَوْلَيْنِ.
وَقيل: اشْترط فِي الْمُجْتَهد الْعَدَالَة حَتَّى إِذا
أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى حكم لَا يَأْخُذ بِهِ من علم صدقه
بقرائن، وَيَأْتِي ذَلِك فِي التَّقْلِيد محررا.
قَوْله: {والمجتهد فِي مَذْهَب إِمَامه الْعَارِف بمداركه،
الْقَادِر على تَقْرِير قَوَاعِده، وَالْجمع وَالْفرق، وَفِي
آدَاب الْمُفْتِي لَهُ أَربع صِفَات} .
(8/3880)
أَي: مَا سبق من الشُّرُوط فِي
الِاجْتِهَاد إِنَّمَا ذَلِك فِي الْمُجْتَهد الْمُطلق الَّذِي
يُفْتِي فِي جمع أَبْوَاب الشَّرْع.
أما مُجْتَهد الْمَذْهَب، وَهُوَ: من ينتحل مَذْهَب إِمَام من
الْأَئِمَّة فَلَا يعْتَبر فِيهِ مَا تقدم بل يعْتَبر فِيهِ
بعض ذَلِك.
قَالَ فِي " الْمقنع ": فَأَما الْمُجْتَهد فِي مَذْهَب
إِمَامه: فنظره فِي بعض نُصُوص إِمَامه وتقريرها،
وَالتَّصَرُّف فِيهَا كاجتهاد إِمَامه فِي نُصُوص الْكتاب
وَالسّنة.
وَقَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": أَحْوَال الْمُجْتَهد فِي
مَذْهَب إِمَامه أَو غَيره أَرْبَعَة:
الْحَالة الأولى: أَن يكون غير مقلد لإمامه فِي الحكم
وَالدَّلِيل، لَكِن سلك طَرِيقه فِي الِاجْتِهَاد
وَالْفَتْوَى، ودعا إِلَى [مذْهبه] ، وَقَرَأَ كثيرا مِنْهُ
على أَهله، فَوَجَدَهُ صَوَابا، وَأولى من غَيره، وَأَشد
مُوَافقَة فِيهِ وَفِي طَرِيقه.
وَقد ادّعى هَذَا منا القَاضِي أَبُو عَليّ ابْن أبي مُوسَى
الْهَاشِمِي فِي " شرح الْإِرْشَاد " الَّذِي لَهُ،
وَالْقَاضِي أَبُو يعلى وَغَيرهمَا.
وَمن الشَّافِعِيَّة خلق كثير.
وَاخْتلف الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة فِي أبي يُوسُف،
والمزني، وَابْن سُرَيج، هَل
(8/3881)
كَانُوا مجتهدين مستقلين، أَو فِي مَذْهَب
الْإِمَامَيْنِ؟
وفتوى الْمُجْتَهد الْمَذْكُور كفتوى الْمُجْتَهد الْمُطلق فِي
الْعَمَل بهَا والاعتداد بهَا فِي الْإِجْمَاع وَالْخلاف.
الْحَالة الثَّانِيَة: أَن يكون مُجْتَهدا فِي مَذْهَب
إِمَامه، مُسْتقِلّا فِي تَقْرِيره بِالدَّلِيلِ، لَكِن لَا
يتَعَدَّى أُصُوله وقواعده، مَعَ إتقانه للفقه وأصوله، وأدلة
مسَائِل الْفِقْه، عَارِفًا بِالْقِيَاسِ وَنَحْوه، تَامّ
الرياضة، قَادِرًا على التَّخْرِيج والاستنباط وإلحاق
الْفُرُوع بالأصول وَالْقَوَاعِد الَّتِي لإمامه.
وَقيل: وَلَيْسَ من شَرطه معرفَة هَذَا علم الحَدِيث، واللغة،
والعربية، لكَونه يتَّخذ بنصوص إِمَامه أصولا يستنبط مِنْهَا
الْأَحْكَام كنصوص الشَّارِع، وَقد يرى حكما ذكره إِمَامه
بِدَلِيل فيكتفي بذلك من غير بحث عَن معَارض أَو غَيره، وَهُوَ
بعيد.
وَهَذَا شَأْن أهل الْأَوْجه والطرق فِي الْمذَاهب، وَهُوَ
حَال أَكثر عُلَمَاء الطوائف الْآن، فَمن عمل بِفُتْيَا هَذَا
فقد قلد إِمَامه دونه؛ لِأَن معوله على صِحَة إِضَافَة مَا
يَقُول إِلَى إِمَامه، لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إِلَى
الشَّارِع بِلَا وَاسِطَة إِمَامه، وَالظَّاهِر مَعْرفَته
بِمَا يتَعَلَّق بذلك من حَدِيث، ولغة، وَنَحْوه.
وَقيل: إِن فرض الْكِفَايَة لَا يتَأَدَّى بِهِ؛ لِأَن
تَقْلِيده نقص وخلل فِي الْمَقْصُود.
وَقيل: يتَأَدَّى بِهِ فِي الْفَتْوَى لَا فِي إحْيَاء
الْعُلُوم الَّتِي يستمد مِنْهَا الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ قد
قَامَ فِي فتواه مقَام إِمَام مُطلق، وَقد يُوجد مِنْهُ
اسْتِقْلَال بِالِاجْتِهَادِ،
(8/3882)
وَالْفَتْوَى فِي مَسْأَلَة خَاصَّة، أَو
بَاب خَاص، وَأطَال فِي ذَلِك.
الْحَالة الثَّالِثَة: أَن لَا يبلغ بِهِ رُتْبَة أَئِمَّة
الْمذَاهب أَصْحَاب الْوُجُوه والطرق، غير أَنه فَقِيه
النَّفس، حَافظ لمَذْهَب إِمَامه، عَارِف بأدلته، قَائِم
بتقريره، ونصرته، يصور وَيُحَرر، ويمهد ويقرر، ويزيف ويرجح،
لكنه قصر عَن دَرَجَة أُولَئِكَ إِمَّا لكَونه لم يبلغ فِي حفظ
الْمَذْهَب مبلغهم، وَإِمَّا لكَونه غير متبحر فِي أصُول
الْفِقْه وَنَحْوه، غير أَنه لَا يَخْلُو مثله فِي ضمن مَا
يحفظه من الْفِقْه ويعرفه من أدلته عَن أَطْرَاف من قَوَاعِد
أصُول الْفِقْه وَنَحْوه، وَإِمَّا لكَونه مقصرا فِي غير ذَلِك
من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ أدوات الِاجْتِهَاد الْحَاصِل
لأَصْحَاب الْوُجُوه والطرق.
وَهَذِه صفة كثير من الْمُتَأَخِّرين الَّذين رتبوا الْمذَاهب
وحررورها، وصنفوا فِيهَا تصانيف بهَا يشْتَغل النَّاس غَالِبا،
وَلم يلْحقُوا من يخرج الْوُجُوه ويمهد الطّرق فِي الْمذَاهب،
وَأما فِي فتاويهم فقد كَانُوا يتبسطون فِيهَا كبسط أُولَئِكَ
أَو نَحوه، ويقيسون غير الْمَنْقُول والمسطور على الْمَنْقُول
والمسطور فِي الْمَذْهَب، غير مقتصرين فِي ذَلِك على الْقيَاس
الْجَلِيّ، وَقِيَاس لَا فَارق، نَحْو: قِيَاس الْمَرْأَة على
الرجل فِي رُجُوع البَائِع إِلَى عين مَاله عِنْد تعذر الثّمن،
وَلَا تبلغ فتاويهم فَتَاوَى أَصْحَاب الْوُجُوه، وَرُبمَا
تطرق بَعضهم إِلَى تَخْرِيج قَول، واستنباط وَجه وإجمال،
وفتاويهم مَقْبُولَة أَيْضا.
الْحَالة الرَّابِعَة: أَن يقوم بِحِفْظ الْمَذْهَب وَنَقله
وفهمه، فَهَذَا يعْتَمد نَقله وفتواه بِهِ فِيمَا يحكيه من
مسطورات مذْهبه من منصوصات إِمَامه، أَو تفريعات أَصْحَابه
الْمُجْتَهدين فِي مَذْهَبهم وتخريجاتهم.
(8/3883)
وَأما مَا يجده مَنْقُولًا فِي مذْهبه
فَإِن وجد فِي الْمَنْقُول مَا هَذَا فِي مَعْنَاهُ بِحَيْثُ
يدْرك من غير فضل فكر وَتَأمل أَنه لَا فَارق بَينهمَا، كَمَا
فِي الْأمة بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَبْد الْمَنْصُوص عَلَيْهِ
فِي إِعْتَاق الشَّرِيك، جَازَ لَهُ إِلْحَاقه بِهِ
وَالْفَتْوَى بِهِ، وَكَذَا مَا يعلم اندراجه تَحت ضَابِط
ومنقول [ممهد] من الْمَذْهَب، وَمن لم يكن كَذَلِك فَعَلَيهِ
الْإِمْسَاك عَن الْفتيا بِهِ.
وَمثل هَذَا يَقع نَادرا فِي حق مثل الْفَقِيه الْمَذْكُور،
إِذْ يبعد أَن تقع وَاقعَة لم ينص على حكمهَا فِي الْمَذْهَب،
وَلَا هِيَ فِي معنى بعض الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِيهِ، من غير
فرق وَلَا مندرجة تَحت شَيْء من ضوابط الْمَذْهَب المحررة
فِيهِ.
ثمَّ إِن هَذَا الْفَقِيه لَا يكون إِلَّا فَقِيه النَّفس؛
لِأَن تصور الْمسَائِل على وَجههَا، وَنقل أَحْكَامهَا بعده
لَا يقوم بِهِ إِلَّا فَقِيه النَّفس، وَيَكْفِي استحضار أَكثر
الْمَذْهَب مَعَ قدرته على مطالعة بَقِيَّته قَرِيبا. انْتهى
كَلَامه فِي " آدَاب الْمُفْتِي ".
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " هُوَ أَن يعرف قَوَاعِد ذَلِك
الْمَذْهَب وأصوله، ونصوص صَاحب الْمَذْهَب، بِحَيْثُ لَا يشذ
عَنهُ شَيْء من ذَلِك، فَإِذا سُئِلَ عَن حَادِثَة، فَإِن عرف
نصا لصَاحب الْمَذْهَب فِيهَا أجَاب بِهِ، وَإِلَّا اجْتهد
فِيهَا على مذْهبه، وخرجها على أُصُوله.
قَالَ ابْن أبي الدَّم: وَهَذَا - أَيْضا - يَنْقَطِع فِي
زَمَاننَا بِهَذِهِ الْمرتبَة دون مرتبَة الِاجْتِهَاد
الْمُطلق، ومرتبة ثَالِثَة دون الثَّانِيَة وَهِي مرتبَة
مُجْتَهد الْفتيا، أَي:
(8/3884)
الَّذِي يسوغ لَهُ الْفتيا على مَذْهَب
إِمَامه الَّذِي هُوَ مقلده، فَلَا يشْتَرط فِيهِ مَا يشْتَرط
فِي مُجْتَهد الْمَذْهَب، بل يعْتَبر أَن يكون متبحرا فِي
الْمَذْهَب مُتَمَكنًا من تَرْجِيح قَول على قَول، وَهَذَا
أدنى الْمَرَاتِب، وَلم يبْق بعده إِلَّا الْعَاميّ، وَمن فِي
مَعْنَاهُ " انْتهى.
(8/3885)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر الِاجْتِهَاد يتَجَزَّأ،
وَثَالِثهَا: فِي بَاب لَا مَسْأَلَة، وَرَابِعهَا: فِي
الْفَرَائِض} .
هَل يجوز أَن يحصل للْإنْسَان منصب الِاجْتِهَاد فِي بعض
الْمسَائِل دون بعض أم لَا؟
الْأَكْثَر مِنْهُم أَصْحَابنَا: على الْجَوَاز، إِذْ لَو لم
يتَجَزَّأ لزم أَن يكون عَالما بِجَمِيعِ الجزئيات وَهُوَ
محَال، إِذْ جَمِيعهَا لَا يُحِيط بهَا بشر.
وَقد سُئِلَ كل من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم عَن
مسَائِل فَأجَاب بِأَنَّهُ لَا يدْرِي،
(8/3886)
كَمَا ذكرنَا ذَلِك فِي أول هَذَا الشَّرْح
فِي تَعْرِيف الْفِقْه.
وَأجِيب عَن قَول الْأَئِمَّة ذَلِك: بِأَن الْعلم بِجَمِيعِ
المآخذ لَا يُوجد الْعلم بِجَمِيعِ الْأَحْكَام، بل قد يجهل
الْبَعْض بتعارض الْأَدِلَّة فِيهِ، وبالعجز عَن الْمُبَالغَة
فِي الْحَال، إِمَّا لمَانع مَعَ تشويش الْفِكر أَو نَحْو
ذَلِك.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي: "
جُمْهُور الْعلمَاء الْمُسلمين على أَن الْقُدْرَة على
الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال، مِمَّا يَنْقَسِم ويتبعض، فقد
يكون الرجل قَادِرًا على الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال فِي
مَسْأَلَة، أَو نوع من الْعلم دون الآخر، وَهَذَا حَال أَكثر
عُلَمَاء الْمُسلمين، لَكِن يتفاوتون فِي الْقُوَّة
وَالْكَثْرَة، فالأئمة المشهورون أقدر على الِاجْتِهَاد
وَالِاسْتِدْلَال فِي أَكثر مسَائِل الشَّرْع من غَيرهم.
وَأما أَن يَدعِي أَن وَاحِدًا مِنْهُم قَادر على أَن يعرف حكم
الله فِي كل مَسْأَلَة من الدّين بدليلها، فَمن ادّعى هَذَا
فقد ادّعى مَا لَا علم لَهُ بِهِ، بل ادّعى مَا يعرف أَنه
بَاطِل " انْتهى.
(8/3887)
وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَا يتَجَزَّأ
الِاجْتِهَاد، وَقَالَ: كل مَا يفْرض أَن يكون قد جَهله، يجوز
تعلقه بِمَا يفْرض أَنه مُجْتَهد فِيهِ.
وَأجِيب: بِأَن الْفَرْض أَن مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي تِلْكَ
الْمَسْأَلَة كُله مَوْجُود فِي ظَنّه.
قَالَ الطوفي وَغَيره: وَمنعه قوم لجَوَاز تعلق بعض مداركها
بِمَا يجهله.
قَالَ: وَأَصله الْخلاف فِي تجزيء الِاجْتِهَاد.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: يجوز التجزؤ فِي بَاب لَا
مَسْأَلَة، فَيجوز أَن يكون للْعَالم منصب الِاجْتِهَاد فِي
بَاب دون بَاب، فالناظر فِي مَسْأَلَة المشركة يَكْفِيهِ
معرفَة أصُول الْفَرَائِض، وَلَا يضرّهُ أَن لَا يعرف
الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي تَحْرِيم الْمُسكر مثلا.
وفيهَا قَول رَابِع: يجوز التجزؤ فِي الْفَرَائِض لَا فِي
غَيرهَا.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": " فَإِن كَانَ
عَالما بالمواريث وأحكامها دون بَقِيَّة الْفِقْه جَازَ لَهُ
أَن يجْتَهد فِيهَا، ويفتي غَيره بهَا دون بَقِيَّة
الْأَحْكَام؛ لِأَن الْمَوَارِيث لَا تنبني على غَيرهَا، وَلَا
تستنبط من سواهَا إِلَّا فِي النَّادِر، والنادر لَا يقْدَح
الْخَطَأ فِيهِ فِي الِاجْتِهَاد " انْتهى، وَاقْتصر عَلَيْهِ.
(8/3888)
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " آدَاب
الْمُفْتِي ": " الْمُجْتَهد فِي نوع من الْعلم من عرف
الْقيَاس وشروطه، فَلهُ أَن يُفْتِي فِي مسَائِل مِنْهُ قياسية
لَا تتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ، وَمن عرف الْفَرَائِض، فَلهُ أَن
يُفْتِي فِيهَا وَإِن جهل بِأَحَادِيث النِّكَاح.
وَقيل: يجوز ذَلِك فِي الْفَرَائِض دون غَيرهَا.
وَقيل: بِالْمَنْعِ فيهمَا، وَهُوَ بعيد " انْتهى.
فَذكر قولا مَخْصُوصًا بالفرائض كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَامه فِي
" التَّمْهِيد " الْمُتَقَدّم.
قَوْله: {يجوز اجْتِهَاده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - فِي أَمر الدُّنْيَا، وَوَقع إِجْمَاعًا قَالَه ابْن
مُفْلِح} .
وَذَلِكَ " لقصته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ
الْأَنْصَار لما رَآهُمْ يُلَقِّحُونَ نَخْلهمْ وَقَوله لَهُم:
لَو تَرَكْتُمُوهُ، فَتَرَكُوهُ، فطلع شيصا، فَقَالَ لَهُم عَن
ذَلِك، فأخبروه بِمَا قَالَ لَهُم قبل ذَلِك، فَقَالَ: أَنْتُم
أعلم بدنياكم مَعَ أَنِّي لم أجد حِكَايَة الْإِجْمَاع إِلَّا
لِابْنِ مُفْلِح، وَهُوَ الثِّقَة الْأمين وَلَكِن لَيْسَ
بمعصوم.
(8/3889)
قَوْله: {وَيجوز فِي أَمر الشَّرْع عقلا
عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَيجوز شرعا وَوَقع عِنْد
أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة،
وَمنعه أَكثر الأشعرية، وَأَبُو حَفْص، وَابْن حَامِد،
وَقَالَ: هُوَ قَول أهل الْحق، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد،
وَجوزهُ الشَّافِعِي فِي " رسَالَته " من غير قطع، وَأَبُو
الْمَعَالِي وَغَيره، وَجوزهُ القَاضِي - أَيْضا - للحرب،
وَقيل: بِالْوَقْفِ} .
الْكَلَام على ذَلِك فِي أَمريْن:
أَحدهمَا: هَل يجوز ذَلِك أم لَا؟ وَإِذا قُلْنَا
بِالْجَوَازِ، فَهَل يجوز شرعا وعقلا أم شرعا فَقَط؟
وَالثَّانِي: هَل وَقع ذَلِك أم لَا؟
أما الأول: وَهُوَ الْجَوَاز وَعَدَمه فَقيل أَقْوَال:
أَصَحهَا، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: الْجَوَاز، وَعَلِيهِ
أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ،
(8/3890)
وَأكْثر أصحابهما، وَالْقَاضِي أَبُو
يُوسُف، وَعبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن، وَهُوَ
مُقْتَضى كَلَام الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه كالبيضاوي.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: " إِنَّه الْمُخْتَار ".
وَعَزاهُ الواحدي إِلَى سَائِر الْأَنْبِيَاء، قَالَ: وَلَا
حجَّة للمانع فِي قَوْله: {إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ}
[الْأَنْعَام: 50] ، فَإِن الْقيَاس على الْمَنْصُوص
بِالْوَحْي: اتِّبَاع الْوَحْي.
(8/3891)
وَمنعه أَكثر الْمُعْتَزلَة.
[قَالَ] ابْن مُفْلِح، كَأبي عَليّ الجبائي وَابْنه أبي هَاشم،
وَأكْثر الأشعرية.
وَاخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو حَفْص العكبري، وَابْن
حَامِد، وَقَالَ: هُوَ قَول أهل الْحق.
وَذكر القَاضِي ظَاهر كَلَام أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله
{وَمَا ينْطق عَن الْهوى} [النَّجْم: 3] .
وَذكر الشَّافِعِي أول " رسَالَته " فِيهِ خلافًا.
(8/3892)
وَجوزهُ فِيهَا القَاضِي أَبُو يعلى
أَيْضا: فِي أَمر الْحَرْب فَقَط.
وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " قولا: يجوز فِيمَا يتَعَلَّق
بالحروب دون غَيرهَا كالجبائي.
وَتوقف بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم.
وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن أَكثر الْمُحَقِّقين
انْتهى.
وشذ قوم فَقَالُوا: يمْتَنع عقلا، وَحَكَاهُ الباقلاني وَأَبُو
الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص " عَنْهُم.
وَأما الثَّانِي: وَهُوَ الْوُقُوع، وَهُوَ قَوْلنَا فِي
الْمَتْن {وَوَقع} .
فِيهِ - أَيْضا - مَذَاهِب:
أَحدهَا: أَنه وَقع، وَهُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ من
أَصْحَابنَا ابْن بطة،
(8/3893)
وَذكر عَن أَحْمد نَحوه.
وَالْقَاضِي وَقَالَ: أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد.
وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق
فِي " الرَّوْضَة "، وَابْن حمدَان، والطوفي، والآمدي، وَابْن
الْحَاجِب، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه فِي
الِاسْتِدْلَال بالوقائع وَغَيرهم،
(8/3894)
وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر
الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لم يَقع.
وَالْقَوْل الثَّالِث: الْوَقْف، لتعارض الْأَدِلَّة، حَكَاهُ
ابْن الْعِرَاقِيّ، وَغَيره.
اسْتدلَّ للْجُوَاز والوقوع، وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَنَّهُ لَا
يلْزم مِنْهُ محَال، وَلأَجل مشاركته لأمته، فَظَاهر قَوْله
تَعَالَى: {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} [الْحَشْر 2] ،
فَيكون مَأْمُورا بِالْقِيَاسِ، وَأَيْضًا: فَالْعَمَل
بِالِاجْتِهَادِ أشق على النَّفس؛ لأجل بذل الوسع فَيكون أَكثر
ثَوابًا، فَلَا يكون ذَلِك حَاصِلا لبَعض الْأمة وَلَا يحصل
لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَظَاهر قَوْله تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} [آل عمرَان:
159] ، وَطَرِيق الْمُشَاورَة الِاجْتِهَاد.
(8/3895)
وَفِي " صَحِيح مُسلم ": " أَنه اسْتَشَارَ
فِي أسرى بدر، فَأَشَارَ أَبُو بكر بِالْفِدَاءِ، فأعجبه،
وَعمر بِالْقَتْلِ، فجَاء عمر من الْغَد وهما يَبْكِيَانِ،
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبْكِي للَّذي
عرض عَليّ أَصْحَابك من أَخذهم الْفِدَاء "، فَأنْزل الله
تَعَالَى: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن
فِي الأَرْض} [الْأَنْفَال: 67] ، وَأَيْضًا: {عَفا الله عَنْك
لم أَذِنت لَهُم} [التَّوْبَة: 43] .
قَالَ فِي " الْفُنُون ": هُوَ من أعظم دَلِيل لرسالته إِذْ
لَو كَانَ من عِنْده ستر
(8/3896)
على نَفسه أَو صَوبه لمصْلحَة يدعيها،
فَصَارَ رُتْبَة لهَذَا الْمَعْنى [كسلبه الْخط] .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا
اسْتَدْبَرت لما سقت الْهَدْي "، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِيمَا
لم يُوح إِلَيْهِ فِيهِ بِشَيْء.
وَاسْتدلَّ: {بِمَا أَرَاك الله} [النِّسَاء: 105] ، أَي:
بِمَا جعل الله لَك رَأيا، لِأَن [الإراءة] لَيست الْإِعْلَام،
وَإِلَّا لذكر الْمَفْعُول الثَّالِث لذكر الثَّانِي.
رد: مَا مَصْدَرِيَّة فَلَا ضمير، وَيجوز حذف المفعولين، وَلَو
كَانَت مَوْصُولَة حذف الثَّالِث للثَّانِي.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: بقول الْعَبَّاس: " إِلَّا الْإِذْخر "،
فَقَالَ: " إِلَّا الْإِذْخر ".
(8/3897)
وَلما سَأَلَهُ الْأَقْرَع بن حَابِس عَن
الْحَج ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد؟ قَالَ: لِلْأَبَد، وَلَو
قلت لِعَامِنَا لَوَجَبَتْ ".
(8/3898)
وَلما قتل النَّضر بن الْحَارِث جَاءَت
أُخْته وَقَالَت:
(مُحَمَّد ولأنت نجل كَرِيمَة ... من قَومهَا والفحل فَحل
معرق)
(8/3899)
(مَا كَانَ ضرك لَو مننت وَرُبمَا ... من
الْفَتى وَهُوَ المغيظ المحنق)
" فَقَالَ: لَو سَمِعت شعرهَا قبل قَتله لما قتلته ".
وَلَو قَتله بِالنَّصِّ لما قَالَ ذَلِك.
وَقَالَ لَهُ سعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة لما أَرَادَ صلح
الْأَحْزَاب على شطر نخل الْمَدِينَة وَقد كتب بعض الْكتاب
بذلك: " إِن كَانَ بِوَحْي: فسمعا وَطَاعَة، وَإِن كَانَ
بِاجْتِهَاد فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الرَّأْي ".
وَكَذَلِكَ الْحباب بن الْمُنْذر لما أَرَادَ النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن ينزل ببدر دون
المَاء قَالَ لَهُ: " إِن كَانَ هَذَا بِوَحْي فَنعم، وَإِن
كَانَ الرَّأْي والمكيدة فَأنْزل بِالنَّاسِ
(8/3900)
على المَاء لتحول بَينه وَبَين الْعَدو،
فَقَالَ لَهُم: لَيْسَ بِوَحْي إِنَّمَا هُوَ رَأْي واجتهاد
رَأَيْته "، وَرجع إِلَى قَوْلهم، فَدلَّ على أَنه متعبد
بِالِاجْتِهَادِ.
وَاسْتدلَّ: اجْتِهَاده أثوب للْمَشَقَّة.
رد: عَدمه لعلو دَرَجَته.
قَالُوا: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} [النَّجْم: 3] .
أُجِيب: رد على مُنكر بِالْقُرْآنِ، ثمَّ تعبده
بِالِاجْتِهَادِ بِوَحْي، فنطقه عَن وَحي.
قَالُوا: لَو اجْتهد لجَاز مُخَالفَته فِيهِ لجَوَاز مُخَالفَة
الْمُجْتَهد، لكنه يكفر إِجْمَاعًا.
رد: كفره لتكذيبه.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد " و " الْوَاضِح " وَغَيرهمَا:
وكالإجماع عَن اجْتِهَاد.
(8/3901)
قَالُوا: لَو جَازَ لم يتَأَخَّر فِي
جَوَاب، وَلما انْتظر الْوَحْي فِي بعض الوقائع: كقصة بَنَات
سعد بن الرّبيع فِي تَرِكَة سعد حَتَّى نزلت: {يُوصِيكُم الله
فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] .
رد: لجَوَاز مَجِيء وَحي، أَو استفراغ وَسعه فِيهِ، أَو تعذره.
قَالُوا: قَادر على الْعلم بِالْوَحْي فَلم يجز الظَّن.
رد: الْقُدْرَة بعد الْوَحْي كحكمه بِالشَّهَادَةِ.
قَالُوا: فِيهِ تُهْمَة وتنفير فيخل بمقصود الْبعْثَة.
رد: بالنسخ، ثمَّ بنفيه لصدقه بالمعجزة القاطعة.
وَاحْتج أَبُو حَفْص بِمَا رَوَاهُ عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يسألني الله عَن سنة أحدثتها
فِيكُم لم يَأْمُرنِي بهَا "، وَاحْتج أَبُو الْقَاسِم بن مندة
فِي ذمّ من فعل
(8/3902)
عبَادَة بِلَا شرع.
رد: سبق جَوَابه إِن صَحَّ.
وَللشَّافِعِيّ عَن عبيد بن عُمَيْر مُرْسلا: " إِنِّي وَالله
لَا يمسك عَليّ النَّاس بِشَيْء، إِلَّا أَنِّي لَا أحل إِلَّا
مَا أحل الله فِي كِتَابه، وَلَا أحرم إِلَّا مَا حرم الله فِي
كِتَابه ".
(8/3903)
قَوْله: {فعلى الْجَوَاز لَا يقر على خطأ
إِجْمَاعًا، وَمنع القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَبَعض
الشَّافِعِيَّة من الْخَطَأ} .
هَذِه إِشَارَة إِلَى من يَقُول بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجوز أَن يتعبد بِالِاجْتِهَادِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ أَكْثَرهم إِذا اجْتهد يكون دَائِما
مصيبا، وَلَيْسَ كَغَيْرِهِ فِي أَنه تَارَة يُصِيب فِي نفس
الْأَمر، وَتارَة يخطيء، بل اجْتِهَاده لَا يخطيء أبدا لعصمته،
ولمنصب النُّبُوَّة عَن الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد.
قَالَ القَاضِي فِي " الْعدة ": مَعْصُوم فِي اجْتِهَاده
كالأمة فَلَيْسَ طَرِيقه غَالب الظَّن.
وَفِي " التَّمْهِيد ": حكمه مَعْصُوم بعصمته، فَإِن صدر عَن
ظن كالإجماع.
وَقَالَ قوم: يجوز أَن يخطيء وَلَكِن لَا يقر عَلَيْهِ.
وَإِلَيْهِ يُشِير ابْن الْحَاجِب: لَا يقر على خطأ انْتهى.
لَكِن الَّذِي قدمْنَاهُ: أَنه يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ وَلَا
يقر عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، والآمدي، وَنَقله "
عَن أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي،
(8/3904)
والحنابلة، وَأَصْحَاب الحَدِيث ".
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": " قَالَ أَصْحَابنَا، وَأكْثر
الشَّافِعِيَّة، وَأهل الحَدِيث: يجوز ذَلِك لَكِن لَا يقر
عَلَيْهِ ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ الْمَنْع من الْخَطَأ، اخْتَارَهُ
الرَّازِيّ، والتاج السُّبْكِيّ، والبرماوي وَعَزاهُ إِلَى
الْأَكْثَر - كَمَا تقدم -، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو
الْخطاب.
قَوْله: {كَانَ نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- يتَصَرَّف بالفتيا، والتبليغ، وَالْقَضَاء، وَالْإِقَامَة} .
(8/3905)
وَزعم الْقَرَافِيّ أَن مَحل الْخلاف
السَّابِق فِي الْفَتَاوَى، وَأَن الْقَضَاء يجوز الِاجْتِهَاد
فِيهِ بِلَا نزاع.
مِثَاله فِي الْقَضَاء مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث
[أم] سَلمَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أَتَاهُ رجلَانِ يختصمان فِي مَوَارِيث وَأَشْيَاء قد درست
فَقَالَ: " إِنِّي إِنَّمَا أَقْْضِي بَيْنكُم برأيي فِيمَا لم
ينزل عَليّ فِيهِ ".
وَله أَيْضا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ منصب
النُّبُوَّة الَّذِي أوتيه حَتَّى نزلت {اقْرَأ باسم رَبك
الَّذِي خلق} [العلق: 1] ، ومنصب الرسَالَة الَّذِي أوتيه
بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر (1) قُم فَأَنْذر} [المدثر
1، 2] ، وَمَعَ التَّصَرُّفَات السَّابِقَة منصب الْإِمَامَة
الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ الرِّئَاسَة التَّامَّة،
وَالرِّعَايَة الْعَامَّة الشاملة الْخَاصَّة والعامة، بتدبير
مصَالح الْخَلَائق وضبطها بدرء الْمَفَاسِد وجلب الْمصَالح،
إِلَى غير ذَلِك، وَهَذَا أَعم من منصب الْحَاكِم؛ لِأَن
الْحَاكِم من حَيْثُ هُوَ حَاكم لَيْسَ لَهُ إِلَّا فصل
الْخُصُومَات، وإنشاء الْإِلْزَام بِمَا يحكم بِهِ، وأعم من
منصب الْفَتْوَى فَإِنَّهَا مُجَرّد الْإِخْبَار عَن حكم الله
تَعَالَى، وَأما الرسَالَة والنبوة من حَيْثُ هما، فَلَا
يستلزمان ذَلِك؛ لِأَن النُّبُوَّة وَحي بِخَاصَّة الموحى
إِلَيْهِ، والرسالة تَبْلِيغ من الله تَعَالَى، فَهِيَ مناصب
جمعهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، آثارها
مُخْتَلفَة، فإقامة الْحُدُود، وترتيب الجيوش وَغير ذَلِك، من
منصب الإِمَام، وَلَيْسَ لأحد
(8/3906)
بعده إِلَّا لمن يكون إِمَامًا، وَالْحكم،
والإلزام، وَفسخ الْعُقُود، وَنَحْو ذَلِك من منصب الْقَضَاء،
وتبليغه الْأَحْكَام، وَغَيرهَا من منصب الرسَالَة، والإخبار
بِأَن ذَلِك حكم الله تَعَالَى من منصب الْفَتْوَى الَّتِي من
جملَة الرسَالَة، وَمَا بَينه وَبَين ربه من أَنْوَاع
الْعِبَادَات لَا سِيمَا الْخَاصَّة بِهِ من منصب النُّبُوَّة،
فَإِذا تصرف وَعلم من أَي المناصب هُوَ فَأمره وَاضح، وَإِن
شكّ طلب التَّرْجِيح من دَلِيل خَارج.
وَقد وَقع خلاف بَين الْأمة فِي أُمُور لما ذَكرْنَاهُ من
التَّرَدُّد.
مِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من
أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ ".
(8/3907)
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: هَذَا تصرف مِنْهُ
بِالْإِمَامَةِ، فَلَا يجوز لأحد أَن يحيى بِدُونِ إِذن
الإِمَام.
وَقَالَ أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالشَّافِعِيّ: بالفتوى
لِأَنَّهُ الْأَغْلَب من تَصَرُّفَاته، فَلَا يتَوَقَّف
الْإِحْيَاء على إِذن الإِمَام.
وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لهِنْد بنت عتبَة امْرَأَة أبي سُفْيَان بن حَرْب: " خذي من
مَاله مَا يَكْفِيك وَيَكْفِي ولدك بِالْمَعْرُوفِ ".
قَالَ الشَّافِعِي: هُوَ تصرف بالفتوى، فَمن ظفر بِجِنْس حَقه
أَو بِغَيْر جنسه عِنْد التَّعَذُّر جَازَ أَن يَسْتَوْفِي
مِنْهُ حَقه، وَهَذَا أحد الْقَوْلَيْنِ للموفق فَإِنَّهُ
تَارَة قطع بِأَنَّهُ فَتْوَى، وَتارَة قطع بِأَنَّهُ حكم.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ من أَصْحَابنَا: " وَالصَّوَاب أَنه
فَتْوَى ".
(8/3908)
وَقَالَ مَالك: هُوَ تصرف بِالْقضَاءِ.
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: هُوَ حكم لَا فَتْوَى، وَقَالَهُ
الْمُوفق تَارَة كَمَا تقدم.
وَجعل بَعضهم هَذَا أصلا للْقَضَاء على الْغَائِب.
وَضعف بِأَن أَبَا سُفْيَان كَانَ حَاضرا فِي الْبَلَد غير
مُمْتَنع من الْحُضُور.
واستنبط بَعضهم من كَونه قَضَاء: أَنه يجوز أَن يسمع لأحد
الْخَصْمَيْنِ دون الآخر.
وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه ".
(8/3909)
قيل: تصرف بِالْإِمَامَةِ فَلَا يخْتَص
الْقَاتِل بسلب الْمَقْتُول إِلَّا بِإِذن الإِمَام، وَهُوَ
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد.
وَقَالَ الشَّافِعِي: تصرف بالفتوى، وَهَذَا الصَّحِيح من
الْمَذْهَب فَلَا يشْتَرط فِي اسْتِحْقَاق السَّلب إِذن
الإِمَام.
(8/3910)
(قَوْله: {فصل} )
{يجوز الِاجْتِهَاد لمن عاصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - عقلا عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف أَبُو الْخطاب
وَغَيره، وَيجوز شرعا، وَوَقع، ذكره فِي: " الْعدة "، و "
الْوَاضِح "، والطوفي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَمنعه فِي "
الْمُجَرّد "، وَأَبُو الْفرج وَقوم: مَعَ الْقُدْرَة، وَقوم:
مُطلقًا، وَابْن حَامِد وَجمع: لمن بِحَضْرَتِهِ، وَقيل: أَو
قَرِيبا مِنْهُ، وَتوقف عبد الْجَبَّار فِيمَن حضر، وَبَعْضهمْ
مُطلقًا، وَجوزهُ فِي " الرَّوْضَة ": للْغَائِب، وللحاضر
بِإِذْنِهِ كالحنفية، وَجوزهُ فِي " التَّمْهِيد ": للْغَائِب
أَو بِإِذْنِهِ، أَو يسمع حكمه فيقره لحاضر، أَو يُمكنهُ
سُؤَاله قبل ضيق وَقت الْحَادِثَة، وَقيل: للولاة} .
هَذَا حكم اجْتِهَاد غَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - فِي زَمَنه، فَاخْتَلَفُوا هَل يجوز ذَلِك عقلا أم لَا؟
(8/3911)
فالجمهور على الْجَوَاز نَقله الْآمِدِيّ
عَنْهُم؛ لِأَن ذَلِك لَيْسَ محالا، وَلَا مستلزما للمحال
فَجَاز.
وَخَالف قوم فَقَالُوا: لَا يجوز عقلا، وَاخْتَارَهُ أَبُو
الْخطاب، قَالَه وَنَقله ابْن مُفْلِح فِي كِتَابه " الْأُصُول
".
لَكِن رَأَيْت أَبَا الْخطاب قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": "
مَسْأَلَة: وَلَا فرق بَين النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَأمته فِي أَنه كَانَ يجوز لَهُ أَن يجْتَهد
وَيحكم بِالْقِيَاسِ من جِهَة الْعقل.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز ذَلِك عقلا.
ثمَّ قَالَ: لنا أَنه إِذا جَازَ أَن يتعبد غَيره بِالنَّصِّ
تَارَة، وبالاجتهاد أُخْرَى، جَازَ أَن يتعبد هُوَ بذلك،
وَلَيْسَ فِي الْعقل مَا يحيله فِي حَقه ويصححه فِي حَقنا،
وَلِهَذَا أوجب عَلَيْهِ وعلينا الْعَمَل على اجتهادنا فِي
مضار الدُّنْيَا ومنافعها "، وَطول على ذَلِك، فَظَاهره أَنه
نصر الْجَوَاز عقلا، خلافًا لما نَقله ابْن مُفْلِح فَليعلم.
إِذا علم ذَلِك فَالْكَلَام فِي الْجَوَاز شرعا والوقوع.
وَأما الْجَوَاز فَفِيهِ مَذَاهِب:
أَحدهَا: الْجَوَاز مُطلقًا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم:
القَاضِي فِي " الْعدة "،
(8/3912)
وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "،
وَغَيرهمَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والرازي، وَأَتْبَاعه،
وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم.
وَالْمذهب الثَّانِي: الْمَنْع مُطلقًا، وَإِن كَانَ النَّص
لَا يضاد الِاجْتِهَاد، إِنَّمَا المضاد لَهُ القَوْل
بِخِلَافِهِ من غير أَن يتَأَوَّل بِدَلِيل.
وَالثَّالِث: إِن ورد الْإِذْن بذلك جَازَ وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " يجوز للْغَائِب، وَيجوز للحاضر
بِإِذْنِهِ " كالحنفية.
(8/3913)
وَالرَّابِع: [وَجوزهُ فِي " التَّمْهِيد "
للْغَائِب، وَجوزهُ] إِن ورد إِذن صَرِيح، أَو يسمع حكمه فيقره
لحاضر، أَو يُمكنهُ سُؤَاله قبل ضيق وَقت الْحَادِثَة،
وَحَكَاهُ عَن الْحَنَفِيَّة.
وَالْخَامِس: يجوز للغائبين، وَتقدم كَلَام " التَّمْهِيد "، و
" الرَّوْضَة " فِيهِ لتعذر سُؤَاله دون الْحَاضِرين لإمكانه
فَهُوَ قدرَة على النَّص، وَالْغَائِب لَو أخر الْحَادِثَة
إِلَى لِقَائِه لفاتت الْمصلحَة.
وَقد حكى الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: الْإِجْمَاع على
الْجَوَاز للْغَائِب.
وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول ": إِنَّه جَائِز بِلَا شكّ.
وَجعله الْبَيْضَاوِيّ مَحل وفَاق، لَكِن الْمَشْهُور إِجْرَاء
الْخلاف فِيهِ.
(8/3914)
السَّادِس: إِن كَانَ الْغَائِب قَاضِيا:
كعلي ومعاذ حِين بعثهما إِلَى الْيمن جَازَ لَهُ بِخِلَاف
الْحَاضِر وَالْغَائِب إِذا لم يكن قَاضِيا، حَكَاهُ
الْغَزالِيّ والآمدي.
قلت: أما بعث عَليّ وَأبي مُوسَى ومعاذ قُضَاة وحكاما
فَالَّذِي نقطع
(8/3915)
بِهِ جَوَاز الِاجْتِهَاد، وَقد قَالَ
معَاذ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
وَيَأْتِي فِي الدَّلِيل على الْمَسْأَلَة.
وَأما الثَّانِي: وَهُوَ الْوُقُوع فَفِيهِ - أَيْضا -
مَذَاهِب:
أَحدهَا: وَهُوَ الْأَصَح أَنه وَقع، وَسَيَأْتِي الْحَوَادِث
بذلك.
وَالثَّانِي: أَنه لم يَقع، إِذْ لَو وَقع لاشتهر.
وَالثَّالِث: أَنه لم يَقع بَين الْحُضُور.
وَالرَّابِع: الْوَقْف، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيّ وَنسبه
للْأَكْثَر.
(8/3916)
وَالْخَامِس: الْوَقْف فِي حق الْحَاضِر،
وَأما الْغَائِب فَالظَّاهِر وَقع تعبدهم بِهِ وَلَا قطع.
اسْتدلَّ للْجُوَاز والوقوع: " بِأَن أَبَا قَتَادَة قَالَ
للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَة
حنين إِنَّه قتل قَتِيلا، فَقَالَ رجل: صدق، وسلبه عِنْدِي
فأرضه فِي حَقه، فَقَالَ أَبُو بكر: لَا هَا الله إِذا لَا
يعمد إِلَى أَسد من أَسد الله يُقَاتل عَن الله وَرَسُوله
فيعطيك سلبه، فَقَالَ: صدق " مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَالْمَعْرُوف لُغَة: لَا هَا الله ذَا، أَي: يَمِيني، وَقيل:
زَائِدَة.
وَأَبُو بكر إِنَّمَا قَالَ ذَلِك اجْتِهَادًا، وَإِلَّا
لأسنده إِلَى النَّص، لِأَنَّهُ أدعى إِلَى الانقياد، وَأقرهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ذَلِك، وَإِذا
ثَبت هَذَا فِي الْحَاضِر فالغائب أولى.
لَكِن قَالَ بَعضهم: هَذَا خبر آحَاد وَالْمَسْأَلَة علمية.
فَقَالَ الْهِنْدِيّ: " وَإِن كَانَت أَخْبَار آحَاد لَكِن
تلقتها الْأمة بِالْقبُولِ، فَجَاز أَن يُقَال: إِنَّهَا تفِيد
الْقطع ".
وَنزل بَنو قُرَيْظَة على حكم ابْن معَاذ، فَأرْسل - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ فجَاء فَقَالَ: " نزل
(8/3917)
هَؤُلَاءِ على حكمك، قَالَ: فَإِنِّي أحكم
بقتل مقاتلهم وَسبي ذَرَارِيهمْ، فَقَالَ: قضيت بِحكم الله "
مُتَّفق عَلَيْهِ.
وجاءه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلَانِ فَقَالَ
لعَمْرو بن الْعَاصِ: " اقْضِ بَينهمَا، فَقَالَ: وَأَنت هُنَا
يَا رَسُول الله؟ قَالَ: [نعم] ".
(8/3918)
(قَوْله: {فصل} )
{ [من جهل وجود الرب، أَو علم وجوده، وَفعل فعلا أَو قَالَ
قولا لَا يصدر إِلَّا من كَافِر إِجْمَاعًا فكافر.
وَلَا يكفر مُبْتَدع غَيره فِي رِوَايَة اخْتَارَهَا القَاضِي،
وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق، والأشعري
وَأَصْحَابه كمقلد فِي الْأَصَح عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه
وَغَيرهم.
وَلَا يفسق، قَالَه ابْن عقيل وَغَيره.
وَعنهُ: يكفر.
وَالْأَشْهر عَن أَحْمد وَأَصْحَابه يكفر الداعية، وَلَا يكفر
من لم يكفر من كفرناه على الْأَصَح.
زَاد الْمجد: وَلَا يفسق] } .
[يكفر بِكُل فعل أجمع الْمُسلمُونَ أَنه لَا يصدر إِلَّا من
كَافِر وَإِن كَانَ مُصَرحًا بِالْإِسْلَامِ، مَعَ فعله ذَلِك
الْفِعْل] .
(8/3919)
فَأَما من جحد الْعلم بهَا فالأشبه لَا
يكفر، وَيكفر فِي نَحْو الْإِسْرَاء وَالنُّزُول وَنَحْوه من
الصِّفَات.
وَقَالَ فِي إِنْكَار الْمُعْتَزلَة اسْتِخْرَاج قلبه لَيْلَة
الْإِسْرَاء وإعادته: فِي كفرهم بِهِ وَجْهَان بِنَاء على
أَصله فِي الْقَدَرِيَّة الَّذين يُنكرُونَ علم الله وَأَنه
صفة لَهُ، وعَلى من قَالَ: لَا أكفر من لَا يكفر الْجَهْمِية.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي شُرُوط من تقبل شَهَادَته: (وَمن قلد
فِي خلق الْقُرْآن، وَنفي الرُّؤْيَة وَنَحْوهمَا: فسق
اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، قَالَه فِي " الْوَاضِح ".
(8/3920)
وَعنهُ: يكفر كمجتهد.
وَعنهُ: فِيهِ لَا، اخْتَارَهُ الشَّيْخ فِي رسَالَته إِلَى
صَاحب " التَّلْخِيص "، كَقَوْل أَحْمد للمعتصم يَا أَمِير
الْمُؤمنِينَ.
وَنقل يَعْقُوب الدَّوْرَقِي فِيمَن يَقُول الْقُرْآن
مَخْلُوق: كنت لَا أكفره
(8/3921)
حَتَّى قَرَأت: {أنزلهُ بِعِلْمِهِ}
وَغَيرهَا، فَمن زعم أَنه لَا يدْرِي علم الله مَخْلُوق أَو
لَا؟ كفر.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُصُول " فِي - الْكَفَاءَة - فِي
جهمية، وواقفيه وحرورية، وقدرية، ورافضة: إِن نَاظر ودعا: كفر
وَإِلَّا لم يفسق؛ لِأَن أَحْمد قَالَ: يسمع حَدِيثه، وَيصلى
خلقه، قَالَ: وَعِنْدِي أَن عَامَّة المبتدعة فسقة.
قَالَ: وَالصَّحِيح: لَا كفر؛ لِأَن أَحْمد أجَاز الرِّوَايَة
عَن الحرورية، والخوارج) .
(8/3922)
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَاخْتَارَ شَيخنَا:
لَا يفسق أحد.
وَقَالَهُ القَاضِي فِي " شرح الْخرقِيّ " فِي الْمُقَلّد،
كالفروع، لِأَن التَّفْرِقَة بَينهمَا لَيست عَن أَئِمَّة
الْإِسْلَام وَلَا تصح.
وَقَالَ صَاحب " الْمُحَرر ": الصَّحِيح أَن كل بِدعَة لَا
توجب الْكفْر لَا يفسق الْمُقَلّد فِيهَا لخفتها، مثل من يفضل
عليا على سَائِر الصَّحَابَة، وَيقف عَن تَكْفِير من كفرناه من
المبتدعة.
ثمَّ ذكر قَول الْمَرْوذِيّ لأبي عبد الله: " إِن قوما يكفرون
من لَا يكفر، فَأنكرهُ "، وَقَوله فِي رِوَايَة أبي طَالب: "
من يجتريء أَن يَقُول إِنَّه كَافِر؟ يَعْنِي: من لَا يكفر
وَهُوَ يَقُول: الْقُرْآن لَيْسَ بمخلوق ".
وَقَالَ صَاحب " الْمُحَرر ": " وَالصَّحِيح أَن كل بِدعَة
كفرنا فِيهَا الداعية، فَإنَّا نفسق الْمُقَلّد فِيهَا كمن
يَقُول بِخلق الْقُرْآن، أَو بِأَن ألفاظنا بِهِ مخلوقة، أَو
أَن علم الله مَخْلُوق، أَو أَن أسماءه مخلوقة، أَو أَنه لَا
يرى فِي الْآخِرَة، أَو الصَّحَابَة تدينا، أَو أَن الْإِيمَان
مُجَرّد الِاعْتِقَاد، وَمَا أشبه ذَلِك، فَمن كَانَ عَالما
فِي شَيْء من هَذِه الْبدع يَدْعُو إِلَيْهِ، ويناظر عَلَيْهِ،
فَهُوَ مَحْكُوم بِكُفْرِهِ، نَص أَحْمد على ذَلِك صَرِيحًا
فِي مَوَاضِع.
(8/3923)
قَالَ: وَاخْتلف عَنهُ فِي تَكْفِير
الْقَدَرِيَّة بِنَفْي خلق الْمعاصِي على رِوَايَتَيْنِ، وَله
فِي [الْخَوَارِج] كَلَام يَقْتَضِي فِي تكفيرهم
رِوَايَتَيْنِ) .
قَوْله: {والمصيب فِي العقليات وَاحِد إِجْمَاعًا، ونافي
الْإِسْلَام مخطيء آثم كَافِر مُطلقًا عِنْد أَئِمَّة
الْإِسْلَام، وَحكي أَقْوَال تخَالف الْكتاب وَالسّنة
وَالْإِجْمَاع تنكبنا عَنْهَا} .
اعْلَم أَنه إِذا حصل اخْتِلَاف فَتَارَة يكون فِي العقليات،
وَتارَة يكون فِي غَيرهَا.
فَإِن كَانَ فِي العقليات فالمصيب فِيهَا وَاحِد، كَمَا نقل
الْآمِدِيّ وَغَيره الْإِجْمَاع عَلَيْهِ.
(8/3924)
لَكِن قَالَ الكوراني: الْحق أَن الْأَمر
مُخْتَلف فِي العقليات والشرعيات، وَهُوَ من صَادف الْحق
فِيهَا لتعينه فِي الْوَاقِع: كحدث الْعَالم، وَثُبُوت
الباريء، وَصِفَاته، وَبَعثه الرُّسُل، وَغير ذَلِك، فالأمور
الْعَقْلِيَّة الْمُصِيب وَاحِد قطعا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيل
إِلَى أَن كلا من نقيضين أَو ضدين حق بل أَحدهمَا فَقَط،
وَالْآخر بَاطِل، وَمن لم يُصَادف ذَلِك الْوَاحِد فِي
الْوَاقِع فَهُوَ ضال آثم وَإِن بَالغ فِي النّظر.
وَسَوَاء كَانَ مدرك ذَلِك عقلا مَحْضا: كحدث الْعَالم،
وَوُجُود الصَّانِع، أَو شَرْعِيًّا مُسْتَندا إِلَى ثُبُوت
أَمر عَقْلِي: كعذاب الْقَبْر، والصراط، وَالْمِيزَان.
إِذا علم ذَلِك فالمخطيء لعدم إِصَابَة ذَلِك الْوَاحِد لَا
يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون فِي إِنْكَار الْإِسْلَام كاليهود
وَالنَّصَارَى إِذا قَالَ: أداني اجتهادي إِلَى إِنْكَاره،
فَهَذَا ضال كَافِر عَاص لله وَلِرَسُولِهِ.
وَإِن كَانَ فِي غير ذَلِك من العقائد الدِّينِيَّة
الزَّائِدَة على أصل الْإِسْلَام فَهَذَا عَاص.
وَمن هُنَا انفرقت المبتدعة فرقا مُقَابلَة لطريق السّنة،
وَفِيهِمْ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ -: " تفترق أمتِي على ثَلَاث وَسبعين فرقة، فرقة نَاجِية
وَالْبَاقِي فِي النَّار "، وَقد تقدم قَرِيبا الْخلاف بَين
الْعلمَاء فِي تَكْفِير المبتدعة، وَقد ذكر هُنَا أَقُول تقشعر
مِنْهَا الْجُلُود وتنفر.
(8/3925)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " والمصيب وَاحِد.
وَذكر أَبُو الْمَعَالِي أَن مَذَاهِب أَقوام: أَن المخطيء
مَعْذُور مثاب فِي الْآخِرَة إِذا لم يعاند، وَفِي الدُّنْيَا
كَافِر نقاتله.
قَالَ: وَقد يتمسكون بقوله: {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين
هادوا} الْآيَة.
وَقَالَ الجاحظ، وثمامة: المعارف ضَرُورِيَّة وَمَا أَمر الرب
الْخَالِق بمعرفته، وَلَا بِالنّظرِ، مِمَّا حصلت لَهُ
الْمعرفَة وفَاقا أَمر بِالطَّاعَةِ، فَإِن أطَاع أثيب
وَإِلَّا فَالنَّار، وَأما من مَاتَ جَاهِلا، فَقيل: يصير
تُرَابا، وَقيل: إِلَى الْجنَّة.
(8/3926)
وَعَن عبيد الله بن الْحسن، الإِمَام
الْمَشْهُور، قَالَه بعض أَصْحَابنَا، وَذكر الْآمِدِيّ أَنه
معتزلي معتزلي: المجتهدون من أهل الْقبْلَة مصيبون مَعَ
اخْتلَافهمْ.
(8/3927)
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمرَاده وَالله أعلم
بِمَا كلفوا فَلَا إِثْم، أَو يثابون لاجتهادهم، وَإِلَّا
فَإِن أَرَادَ مُطَابقَة الِاعْتِقَاد للمعتقد فَجمع بَين
النقيضين، وَلَا يُريدهُ عَاقل.
ورده بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم: بمخالفة الْقَاطِع فقصر
لتقليد، أَو عصبية، أَو إهمال، فَلم يعْذر كأصل التَّوْحِيد
وَلَا فرق.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالُوا، وَلم يُقيد بَعضهم كَلَامه
بِأَهْل الْقبْلَة، ففهم عَنهُ مَا لَا يَنْبَغِي.
قلت: - صرح بِهِ الطوفي فِي " مُخْتَصره " عَنْهُمَا، والموفق
فِي " الرَّوْضَة " عَن الجاحظ - فتأوله بعض الْمُعْتَزلَة،
وَكَلَام الجاحظ على الْمسَائِل الكلامية: كالرؤية،
وَالْكَلَام، وأعمال الْعباد، لتعارض الْأَدِلَّة الظنية.
قَالَ الْآمِدِيّ: فَإِن صَحَّ أَنه المُرَاد فَلَا نزاع وَحكى
هُوَ وَجَمَاعَة عَن الجاحظ: لَا يَأْثَم من خَالف الْملَّة ".
(8/3928)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَنقل عَن الجاحظ
والعنبري: أَن المخطيء فِي العقليات لَا يَأْثَم فِي خطئه.
ثمَّ مِنْهُم من أطلق النَّقْل عَنْهُمَا بِمَا يَشْمَل
الْكفَّار وَغَيرهم.
وَمِنْهُم من قَالَ: إنَّهُمَا قَالَا ذَلِك بِشَرْط إِسْلَام
الْمُجْتَهد، وَهَذَا هُوَ اللَّائِق بهما.
وَفِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب " للباقلاني: أَن ذَلِك أشهر
الرِّوَايَتَيْنِ عَن الْعَنْبَري.
وَنقل ابْن قُتَيْبَة عَنهُ أَنه " سُئِلَ عَن أهل الْقدر
وَعَن أهل الْجَبْر فَقَالَ: كل مِنْهُمَا مُصِيب، لِأَن
هَؤُلَاءِ قوم عظموا الله، وَهَؤُلَاء قوم نزهوا الله ".
(8/3929)
وَقَالَ الكيا: إِن الْعَنْبَري كَانَ يذهب
إِلَى أَن الْمُصِيب فِي العقليات وَاحِد، وَلَكِن مَا تعلق
بِتَصْدِيق الرُّسُل، وَإِثْبَات حدث الْعَالم، وَإِثْبَات
الصَّانِع، فالمخطيء فِيهِ غير مَعْذُور، وَأما مَا يتَعَلَّق
بِالْقدرِ والجبر، وَإِثْبَات الْجِهَة ونفيها، فالمخطيء فِيهِ
مَعْذُور وَإِن كَانَ مُبْطلًا فِي اعْتِقَاده بعد
الْمُوَافقَة فِي تَصْدِيق الرُّسُل والتزام الْملَّة ".
قَالَ ابْن مُفْلِح بعد قَول الجاحظ الْمُتَقَدّم: " وَهَذَا
وَقَوله السَّابِق، وَالْقَوْل قبله خلاف الْكتاب وَالسّنة
وَالْإِجْمَاع قبله، وَلَيْسَ تكليفهم نقيض اجتهادهم محَال، بل
مُمكن، غَايَته منَاف لما تعوده ".
قَالَ الجاحظ: الْإِثْم بعد الِاجْتِهَاد قَبِيح لَا سِيمَا
مَعَ كَثْرَة الآراء، واعتوار الشّبَه، وَعدم القواطع الجوازم.
وَيلْزمهُ: رفع الْإِثْم عَن منكري الصَّانِع، والبعث،
والنبوات، وَالْيَهُود، وَالنَّصَارَى، وَعَبدَة الْأَوْثَان،
إِذا اجتهادهم أداهم إِلَى ذَلِك، وَله منع أَنهم استفرغوا
الوسع فِي طلب الْحق، فإثمهم على ترك الْجد لَا على الْخَطَأ.
وَقَوله على كل حَال مُخَالف الْإِجْمَاع، إِلَّا أَن يمْنَع
كَونه حجَّة كالنظام، أَو قَطْعِيَّة فَلَا يلْزمه.
قَالَ الْمُوفق: " وَمَا ذهب إِلَيْهِ الجاحظ بَاطِل يَقِينا،
وَكفر بِاللَّه، ورد عَلَيْهِ وعَلى رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإنَّا نعلم قطعا: أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر الْيَهُود
وَالنَّصَارَى
(8/3930)
بِالْإِسْلَامِ واتباعه، وذمهم على
إصرارهم، وَيُقَاتل جَمِيعهم، وَيقتل الْبَالِغ مِنْهُم، ونعلم
أَن المعاند الْعَارِف مِمَّا يقل " وَأطَال.
(8/3931)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَالْأَكْثَر الْمَسْأَلَة الظنية
الْحق فِيهَا وَاحِد عِنْد الله تَعَالَى، وَعَلِيهِ دَلِيل،
وعَلى الْمُجْتَهد طلبه، فَمن أصَاب فمصيب وَإِلَّا فمخطيء
مثاب، زَاد فِي " التَّمْهِيد ": ويطلبه حَتَّى يظنّ أَنه
وَصله، وثوابه على قَصده واجتهاده لَا على الْخَطَأ، وَقَالَهُ
ابْن عقيل، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَبَعْضهمْ: على قَصده.
وَفِي " الْعدة " وَغَيرهَا: مخطيء عِنْد الله تَعَالَى
وَحكما، وَقَالَ أَيْضا: مُصِيب فِي اجْتِهَاده مخطيء فِي
تَركه للزِّيَادَة، وَعنهُ مُصِيب حكما كَابْن عقيل، وَقَالَ
الشَّيْخ: من لم يحْتَج بِنَصّ فمخطيء عِنْده وَإِلَّا فَلَا،
نَص عَلَيْهِ، وَقيل: لَا دَلِيل عَلَيْهِ كدفين يصاب،
والأستاذ، وَأَبُو الطّيب، وَجمع، وَحكي عَن الشَّافِعِي،
وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد: الدَّلِيل قَطْعِيّ ونقطع بخطأ
مخالفنا، وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، والمزني، وَابْن
شُرَيْح، كل مُجْتَهد مُصِيب، وَالْحق وَاحِد عِنْد الله،
وَهُوَ الْأَشْبَه الَّذِي لَو نَص على الحكم لنَصّ عَلَيْهِ،
وَعَلِيهِ
(8/3932)
دَلِيل، وَلم يُكَلف الْمُجْتَهد
إِصَابَته، وَقَالَ بعض أَصْحَابه وَحكى عَن الشَّافِعِي:
مُصِيب فِي الطّلب مخطيء فِي الْمَطْلُوب، والمعتزلة: كل
مُجْتَهد مُصِيب، فَقيل: كالحنفية، وَقيل: حكم الله تَابع للظن
لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَلم يُكَلف غير اجْتِهَاده، وَحكي عَن
أبي حنيفَة، والأشعري، والباقلاني، وَنقل التصويب والتخطئة عَن
الْأَرْبَعَة والأشعري} .
لخصت ذَلِك من كَلَام ابْن مُفْلِح و " التَّمْهِيد "
وَغَيرهمَا، وَكَلَام ابْن مُفْلِح أوسع وَأكْثر نقلا
فَإِنَّهُ قَالَ: " الْمَسْأَلَة الظنية: الْحق عِنْد الله
وَاحِد، وَعَلِيهِ دَلِيل، وعَلى الْمُجْتَهد طلبه، فَمن أصَاب
فمصيب وَإِلَّا فمخطيء مثاب عِنْد أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه،
وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيّ، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ،
(8/3933)
وَإِسْحَاق، والمحاسبي وَابْن كلاب، وَذكره
أَبُو الْمَعَالِي عَن مُعظم الْفُقَهَاء، وَذكره ابْن برهَان
عَن الْأَشْعَرِيّ.
زَاد فِي " التَّمْهِيد ": يَطْلُبهُ حَتَّى يعلم أَنه وَصله
ظَاهرا، وَمرَاده يظنّ كَمَا ذكره هُوَ غَيره.
قَالَ: ثَوَابه على قَصده واجتهاده لَا على الْخَطَأ،
وَقَالَهُ ابْن عقيل وَغَيره، وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
وَبَعْضهمْ: على قَصده.
وَفِي " الْعدة " وَغَيرهَا: مخطيء عِنْد الله، وَحكما.
(8/3934)
وَفِي " كتاب الرِّوَايَتَيْنِ "
للْقَاضِي: مخطيء عِنْد الله.
وَفِي الحكم رِوَايَتَانِ:
إحدهما: مُصِيب.
وَجزم بِهِ ابْن عقيل عَن حنبلي - يَعْنِي نَفسه - وَأَخذهَا
القَاضِي من قَول أَحْمد: لَا يَقُول لمُخَالفَة: مخطيء.
وَفِي " التَّمْهِيد " يَعْنِي لَا نقطع بخطئه.
وَبَعض أَصْحَابنَا: من لم يحْتَج بِنَصّ فمخطيء وَإِلَّا
فَلَا، قَالَ: وَهُوَ الْمَنْصُوص.
(8/3935)
ثمَّ ذكر القَاضِي اخْتِلَاف أَصْحَابنَا:
فِي أَصْحَاب الْجمل وصفين: هَل كِلَاهُمَا مُصِيب أم وَاحِد
لَا بِعَيْنِه، أم عَليّ؟ على أوجه، وَأَنه يجب الْبناء على
هَذَا الأَصْل، وَأَن نَص أَحْمد الْوَقْف.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لم يرد أَحْمد الْوَقْف الْحكمِي، بل
الْإِمْسَاك خوف الْفِتْنَة؛ وَلِهَذَا بنى قتال الْبُغَاة على
سيرة عَليّ.
وَقَالَ القَاضِي فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة: هُوَ مُصِيب
فِيمَا فعله من الِاجْتِهَاد، مخطيء فِي تكره للزِّيَادَة
عَلَيْهِ.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَبِه ينْحل الْإِشْكَال، وَعند
المريسي، والأصم، وَابْن علية: الدَّلِيل قَطْعِيّ ونقطع بخطأ
مخالفنا.
(8/3936)
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": حَكَاهُ بَعضهم
عَن الشَّافِعِي.
وَاخْتَارَهُ [أَبُو الطّيب] ، والأستاذ أَبُو إِسْحَاق
الإِسْفِرَايِينِيّ.
وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فِي حَاكم حكم فِي مُفلس أَن صَاحب
الْمَتَاع أُسْوَة الْغُرَمَاء " يرد حكمه ".
(8/3937)
وَفِي " الْعدة ": لاعْتِقَاده خلاف
النَّص، لَا أَنه يقطع بِإِصَابَة وَخطأ.
وَفِي " الْخلاف ": ظَاهره: لَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد.
وَقَالَ فِيهَا فِي مَسْأَلَة الظفر: إِن سوغنا الِاجْتِهَاد
فِيهِ لم يَأْخُذهُ بِلَا حكم وَإِلَّا أَخذه: كمغصوب، وَذكر -
أَيْضا - أَنه لَا ينْقض بالآحاد لعدم الْقطع، وَفِي أثْنَاء
الْمَسْأَلَة ذكر نقضه لمُخَالفَة النَّص.
وجزموا فِي الْفُرُوع بنقضه:
مِنْهُم " الرِّعَايَة " - إِلَّا ظَاهر " الْفُصُول "،
واحتمالا فِي " الْكَافِي " فِي - مَسْأَلَة الْمُفلس - بنقضه
بِنَصّ آحَاد خلاف الْأَشْهر هُنَا.
(8/3938)
وَجزم صَاحب " الرِّعَايَة " - فِي أصُول
الْفِقْه -: لَا ينْقض إِلَّا بقاطع مَعَ أَنه ذكر نقضه بتقليد
غَيره.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يقطع فِي بعض الْمسَائِل، وعَلى
هَذَا يَنْبَنِي نقض الحكم، وَخَالف أَحْمد فِي مسَائِل وَتوقف
فِي أُخْرَى.
وَكَذَا قَالَه ابْن حَامِد: " لَا خلاف عَن أبي عبد الله أَن
الْأَخْذ بِالرَّأْيِ مَعَ الْخَبَر مَقْطُوع بخطئه وَيرد
عَلَيْهِ ".
وَمَا قَالَه صَحِيح قَالَه أَحْمد فِي قتل مُؤمن بِكَافِر.
وَقَالَ: إِنَّمَا لَا يرد حكم الْحَاكِم إِذا اعتدلت
الرِّوَايَة وَذكر قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من عمل عملا
لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ مَرْدُود "، فَمن عمل خلاف
السّنة رد عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو الطّيب: أمْنَعهُ من الحكم
بِاجْتِهَادِهِ وَلَا أنقضه.
(8/3939)
وَذكر الْآمِدِيّ عَن الإِسْفِرَايِينِيّ
وَابْن فورك: أَنه ظَنِّي.
وَقَالَ قوم: لَا دَلِيل عَلَيْهِ كدفين يصاب.
وَعند أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه، والمزني: كل مُجْتَهد مُصِيب،
وَالْحق وَاحِد عِنْد الله، وَهُوَ الْأَشْبَه الَّذِي لَو نَص
الله على الحكم لنَصّ عَلَيْهِ وَعَلِيهِ دَلِيل، وَلم يُكَلف
الْمُجْتَهد إِصَابَته بل الِاجْتِهَاد.
(8/3940)
قَالَ بعض أَصْحَابه: فَهُوَ مُصِيب
ابْتِدَاء، أَي: فِي الطّلب، مخطيء انْتِهَاء، أَي: فِي
الْمَطْلُوب، وَحَكَاهُ بَعضهم عَن الشَّافِعِي.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: كل مُجْتَهد مُصِيب.
فَقيل: كالحنفية.
وَقيل: حكم تَابع لظن الْمُجْتَهد لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَلم
يُكَلف عَن اجْتِهَاده، وَحكي عَن أبي حنيفَة، وَقَالَهُ
الباقلاني.
(8/3941)
وَحكى عَن الْأَشْعَرِيّ قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: كَقَوْلِه، وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن مُعظم
الْمُتَكَلِّمين، وَابْن عقيل عَن أَكثر الأشعرية.
وَبنى ابْن الباقلاني على هَذَا قَوْله: لَيْسَ فِي الأقيسة
المظنونة تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير، وَإِنَّمَا المظنون بِحَسب
الاتفاقات.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهِي هفوة عَظِيمَة هائلة.
وَعَن الجبائي: لَا يجْتَهد وَيتَخَيَّر من الْأَقْوَال.
واستنبطه ابْن الباقلاني من كَلَام الشَّافِعِي.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهُوَ خرق للْإِجْمَاع.
وَعَن بَعضهم: لصالح الْأمة الْإِفْتَاء بالتشهي.
وَعَن قوم: إِن أفتى مُجْتَهد أَو غَيره وبذل وَسعه يُرِيد
التَّقَرُّب إِلَى الله فمصيب.
قَالَ: وطرده قوم فِي مسالك الْمَعْقُول.
(8/3942)
وَحَكَاهُ بَعضهم عَن دَاوُد، والظاهرية.
وَذكر الْآمِدِيّ: أَنه نقل التصويب والتخطئة عَن الشَّافِعِي،
وَأبي حنيفَة، وَأحمد، والأشعري.
وخرجه ابْن عقيل من دلَالَته على استفتاء غَيره بِلَا حَاجَة،
بِخِلَاف حكم أَحْمد بِصِحَّة الصَّلَاة خَلفهم للْحَاجة
لصِحَّة صَلَاة عَامي خلف مُجْتَهد فِي الْقبْلَة، وَلَا يجوز
أَن يدله إِلَى غَيرهَا.
وَأَخذه بعض أَصْحَابنَا من قَول أَحْمد لمن سمى - كتاب
الِاخْتِلَاف - سمه كتاب السعَة، وَهُوَ مَأْخَذ بعيد.
فَهَذَا النَّقْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة عَن الْعلمَاء.
اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول وَهُوَ الصَّحِيح: بقوله تَعَالَى:
{ففهمناها سُلَيْمَان} [الْأَنْبِيَاء: 79] فتخصيصه دَلِيل
اتِّحَاد الْحق، وإصابته وَلَا نَص،
(8/3943)
وَإِلَّا لما اخْتلفَا، أَو ذكر فَنقل،
وَلِأَنَّهُ وريث النُّبُوَّة بعده، وَإِنَّمَا يُوصف بالفهم
المشتبه.
وَفِي " صَحِيح الْحَاكِم ": أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ
السَّلَام قَالَ: " أَسأَلك حكما يُوَافق حكمك "، وَلما عزي
إِلَى سُلَيْمَان وَلَا سمي باسم تفيهم.
(8/3944)
قَالَ الْحسن: أثني لصوابه، وَعذر
بِاجْتِهَادِهِ.
وَلمُسلم عَن بُرَيْدَة: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا أَمر أَمِيرا على جَيش أَو
سَرِيَّة قَالَ: إِذا حاصرت أهل حصن، وأرادوك أَن تنزلهم على
حكم الله فَلَا تنزلهم على حكم الله، وَلَكِن أنزلهم على حكمك،
فَإنَّك لَا تَدْرِي تصيب مِنْهُم حكم الله أم لَا؟ ".
(8/3945)
وَاحْتج القَاضِي وَغَيره بالْخبر
السَّابِق " وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر ".
فَقيل لَهُم آحَاد.
فَقَالُوا: قبلته الْأمة، وأجمعت على صِحَّته فَصَارَ كمتواتر،
وَمَعْنَاهُ فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره.
فَدلَّ أَن الْمَسْأَلَة عِنْدهم قَطْعِيَّة، وزعمه بعض
المصوبة.
وَقيل - لِابْنِ عقيل - يحمد على جَهله بكذب الشُّهُود،
وَنَحْوه كإقرار الْخصم تهزؤا.
فَقَالَ: هَذَا لَا يُضَاف إِلَى الْحَاكِم بِهِ، هَذَا خطأ،
وَلِهَذَا من تَوَضَّأ مِمَّا جهل نَجَاسَته، وَأَخْطَأ جِهَة
الْقبْلَة، لَا ينقص ثَوَابه وَأجر عمله.
وَلِهَذَا قَالَ عمر: " يَا صَاحب الْمِيزَاب لَا تعلمهمْ ".
(8/3946)
أَن اللَّفْظ عَام.
وَأَيْضًا: أطلق الصَّحَابَة كثيرا الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد
وشاع وَلم يُنكر.
وَأَيْضًا: لَو كَانَ كل مُجْتَهد مصيبا لاجتمع النقيضان،
للْقطع بالحكم عِنْد ظَنّه، لعلمه [بإصابته] ، ودوام قِطْعَة
مَشْرُوط بِبَقَاء ظَنّه؛ لِأَنَّهُ لَو تغير ظَنّه لزمَه
الرُّجُوع إِلَى الثَّانِي إِجْمَاعًا، فَيلْزم علمه بِشَيْء
وظنه لَهُ مَعًا.
لَا يُقَال: يَنْتَفِي الظَّن بِالْعلمِ، لأَنا نقطع
بِبَقَائِهِ لدوام الْقطع، وَإِلَّا كَانَ يَسْتَحِيل ظن
النقيض مَعَ ذكر الحكم؛ لأجل الْعلم بالحكم وَلَا يَسْتَحِيل
إِجْمَاعًا.
(8/3947)
فَإِن قيل: اجْتِمَاع النقيضين مُشْتَرك
الْإِلْزَام؛ لِأَنَّهُ يجب الْفِعْل أَو يحرم قطعا عِنْد
ظَنّه أَحدهمَا لاتباعه ظَنّه.
رد: الظَّن مُتَعَلق بِالْوُجُوب أَو الْحُرْمَة وَالْعلم
بِتَحْرِيم مُخَالفَته.
فَإِن قيل: متعلقهما مُتحد لزوَال الْعلم بتحريمها بتبدل
الظَّن.
رد: لِأَن الظَّن شَرطه.
فَإِن قيل: لَا يلْزم اجْتِمَاع النقيضين لتَعلق الظَّن
بِكَوْن الدَّلِيل وَالْعلم بِثُبُوت مَدْلُوله وَهُوَ الحكم،
وَزَوَال الْعلم بتبدل الظَّن لَا يُوجب اتحادهما؛ لِأَن
الظَّن شَرطه.
(8/3948)
رد: كَونه دَلِيل حكم، فَإِذا ظَنّه علمه،
وَإِلَّا جَازَ تعبده بِغَيْرِهِ، فَلَا يكون كل مُجْتَهد
مصيبا.
وَأَيْضًا: الأَصْل عدم التصويب وَدَلِيله، وَصوب غير معِين
للْإِجْمَاع، وَلم يحْتَج الْآمِدِيّ بِغَيْرِهِ.
وَاسْتدلَّ: إِذا اخْتلف اجتهادهما، فَإِن كَانَ بدليلين تعين
أرجحهما وَإِلَّا تساقطا.
رد: الدَّلِيل الظني من الْأُمُور الإضافية، يتَرَجَّح
بِالنِّسْبَةِ إِلَى من يرَاهُ.
(8/3949)
وَاسْتدلَّ: بشرع المناظرة إِجْمَاعًا،
وفائدتها إِصَابَة الْحق.
رد: أَو تبين تَرْجِيح دَلِيل على الآخر، أَو تساويهما، أَو
تمرين النَّفس.
وَاسْتدلَّ: الْمُجْتَهد طَالب، ويستحيل طَالب وَلَا مَطْلُوب،
فَلَا بُد من ثُبُوت حكم قبل طلبه، فَمن أخطأه فمخطيء.
رد: مَطْلُوب كل مَا يَظُنّهُ، فَلَيْسَ معينا.
وَأَيْضًا: يلْزم الْمحَال لَو قَالَ مُجْتَهد شَافِعِيّ
لمجتهدة حنفية: أَنْت بَائِن، ثمَّ قَالَ رَاجَعتك، أَو تزوج
امْرَأَة بِغَيْر ولي، ثمَّ تزَوجهَا بعده آخر بولِي.
(8/3950)
رد: مُشْتَرك الْإِلْزَام لوُجُوب اتِّبَاع
ظَنّه فيرفع إِلَى حَاكم فَيتبع حكمه، ذكره القَاضِي، وَابْن
برهَان، والآمدي، وَغَيرهم.
وَفِي انتصار أبي الْخطاب يعْمل بَاطِنا بظنه.
قَالَ الباقلاني: وَمِنْهُم من قَالَ تسلم الْمَرْأَة إِلَى
الزَّوْج الأول فَإِنَّهُ نَكَحَهَا نِكَاحا يعْتَقد صِحَّته
وَهُوَ السَّابِق، فَلَا يبعد أَن يكون هَذَا هُوَ الحكم.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص ": وَالَّذِي
عندنَا أَنه يجْتَهد فيهمَا الْمُجْتَهد وَمَا أدّى إِلَيْهِ
اجْتِهَاده فَهُوَ حكم الله من وقف أَو تَقْدِيم أَو غَيرهمَا.
قَالُوا: {وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} [الْأَنْبِيَاء: 79] ،
وَلَو أَخطَأ أَحدهمَا لم يجز.
رد: بِمَا سبق، وَبِأَنَّهُ غير مَانع ويحمله على الْعَمَل.
(8/3951)
قَالُوا: " بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ
اهْتَدَيْتُمْ "، وَلَا هدى مَعَ خطأ.
رد: بِالْمَنْعِ لفعله مَا يلْزمه.
قَالَ ابْن عقيل: أَو يحمل مُرَاده الْأَخْذ بالرواية
والإمامة، لصلاحيتهم لَهَا، أَو تَقْلِيد من شَاءَ فِي حكم
اتَّفقُوا عَلَيْهِ.
قَالُوا: لَو كَانَ لم يتَّفق الصَّحَابَة على تسويغ الْخلاف،
وتولية الْحُكَّام مَعَ مخالفتهم لَهُم.
رد: لاتفاقهم أَن كل مُجْتَهد يتبع ظَنّه، وَلم يتَعَيَّن
المخطيء فَلَا إِنْكَار.
قَالُوا: لَو كَانَ لزم النقيضان إِن بَقِي الحكم الْمَطْلُوب
على الْمُجْتَهد، وَإِن سقط عَنهُ لزم الْخَطَأ.
رد: يلْزم الْخَطَأ لَا لَو كَانَ فِي الْمَسْأَلَة نَص أَو
إِجْمَاع وَبدل، وسعة، فَلم يجد لزم مُخَالفَته فَهُنَا أولى
لأَمره بالحكم بظنه فَحكم بِمَا أنزل الله) .
قَوْله: {تَنْبِيه: الْجُزْئِيَّة الَّتِي فِيهَا نَص قَاطع
الْمُصِيب فِيهَا وَاحِد وفَاقا، وَقيل: على الْخلاف} .
إِذا كَانَ فِي الْجُزْئِيَّة نَص قَاطع فالمصيب فِيهَا وَاحِد
بالِاتِّفَاقِ، وَإِن دق مَسْلَك ذَلِك الْقَاطِع.
(8/3952)
وَقيل: على الْخلاف فِي الَّتِي قبلهَا
وَهُوَ شَاذ غَرِيب.
قَوْله: {وَلَا يَأْثَم مُجْتَهد فِي حكم شَرْعِي اجتهادي،
ويثاب عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَخَالف الظَّاهِرِيَّة
وَجمع، وَلَا يفسق عِنْدهم، وَقيل: بلَى، وَلَا يَأْثَم من بذل
وَسعه وَلَو خَالف قَاطعا، وَإِلَّا أَثم لتَقْصِيره} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا إِثْم على مُجْتَهد فِي حكم شَرْعِي
اجتهادي، ويثاب عِنْد أهل الْحق مِنْهُم الْأَئِمَّة
الْأَرْبَعَة.
[وَيَأْثَم عِنْد المريسي] ، وَابْن علية، والأصم، والظاهرية،
وَلَا يفسق عِنْدهم، ذكره الْآمِدِيّ، وَغَيره.
(8/3953)
وَذكر ابْن برهَان: يفسق.
وَاسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِإِجْمَاع الصَّحَابَة،
وَالتَّابِعِينَ، فَإِنَّهُم اخْتلفُوا فِي كثير من
الْمسَائِل، وتكرر وشاع من غير نَكِير وَلَا تأثيم، مَعَ
الْقطع بِأَنَّهُ لَو خَالف أحد فِي أحد أَرْكَان الْإِسْلَام
الْخمس أَنْكَرُوا: كمانعي الزَّكَاة، والخوارج.
وَلَا يَأْثَم من بذل وَسعه وَلَو خَالف قَاطعا وَلَا إِثْم
لتَقْصِيره.
أما عدم إثمه إِذا بذل وَسعه؛ فَلِأَنَّهُ مَعْذُور، وَلَا
يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا، وَقد أَتَى بِمَا يقدر
عَلَيْهِ.
وَأما إِذا لم يبْذل وَسعه فَإِنَّهُ يَأْثَم لكَونه قصر فِي
بذل الوسع.
(8/3954)
(قَوْله: {فصل} )
{لَيْسَ لمجتهد أَن يَقُول فِي مَسْأَلَة فِي وَقت وَاحِد
قَوْلَيْنِ متضادين عِنْد الْعلمَاء؛ لِأَن اعتقادهما محَال،
وَفعله الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - فِي سبع عشرَة
مَسْأَلَة، فَقيل: للْعُلَمَاء، وَقيل: مَعْنَاهُمَا
التَّخْيِير أَو الشَّك، وردا، وَقيل: على سَبِيل التجويز
وَالِاحْتِمَال، قَالَ أَبُو حَامِد: فعله دَلِيل علو شَأْنه
ودينا، وَلَا قَول لَهُ فيهمَا فِي الْأَصَح، وَفَائِدَته: حصر
الْحق فيهمَا} .
اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الْمَعْمُول عَلَيْهِ عِنْد
الْعلمَاء: بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونَا فاسدين،
وَعلم ذَلِك، فَالْقَوْل بهما حرَام، فَلَا قَول أصلا، أَو
يكون أَحدهمَا فَاسِدا فَكَذَلِك فَلَا وجود للقولين، أَو
يَكُونَا صَحِيحَيْنِ، فَإِذا القَوْل بهما محَال لاستلزامهما
التضاد الْكُلِّي أَو الجزئي، وَإِن لم يعلم الْفَاسِد
مِنْهُمَا:
(8/3955)
فَلَيْسَ عَالما بِحكم الْمَسْأَلَة فَلَا
قَول لَهُ فيهمَا، فَيلْزمهُ التَّوَقُّف والتخيير على مَا
يَأْتِي، وَهُوَ قَول وَاحِد لَا قَولَانِ.
قَالَ الطوفي: " فَأحْسن مَا يعْتَذر بِهِ عَن الشَّافِعِي:
أَنه تعَارض عِنْده الدليلان فَقَالَ بمقتضاهما على شريطة
التَّرْجِيح " انْتهى.
وَاعْلَم أَن الشَّافِعِي إِذا نَص على قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ
فِي كَلَامه مَا يشْعر بترجيح أحد الْحكمَيْنِ، ثمَّ قَوْله:
فيهمَا قَولَانِ، أَو أَقْوَال، يحْتَمل أَن يُرِيد على سَبِيل
التجويز وَالِاحْتِمَال، وَيحْتَمل أَن يُرِيد فِيهَا مذهبان
لمجتهدين أَو أَكثر، وعَلى كل حَال لَا ينْسب إِلَيْهِ شَيْء
من الْقَوْلَيْنِ أَو الْأَقْوَال، قَالَه الرَّازِيّ
وَأَتْبَاعه.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يجب اعْتِقَاد نِسْبَة أَحدهمَا إِلَيْهِ،
وَإِن كُنَّا لَا نعلمهُ وَلَا ننسب إِلَيْهِ شَيْئا مِنْهَا
لذَلِك.
وَفِي رَأْي ثَالِث نَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الباقلاني
أَنا نتخير فِي الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا.
(8/3956)
قَالَ: وَهَذَا بناه القَاضِي على
اعْتِقَاده أَن مَذْهَب الشَّافِعِي تصويب الْمُجْتَهدين،
لَكِن الصَّحِيح من مذْهبه أَن الْمُصِيب وَاحِد، فَلَا يُمكن
فِيهِ القَوْل بالتخيير، وَأَيْضًا فقد يكون الْقَوْلَانِ
بِتَحْرِيم وَإِبَاحَة، ويستحيل التَّخْيِير بَينهمَا.
وَاعْلَم أَن ذكر الشَّافِعِي قَوْلَيْنِ فِي مَوضِع وَاحِد من
غير تَنْبِيه على مَا يشْعر بقوله بِأَحَدِهِمَا قَلِيل جدا.
قَالَ أَبُو حَامِد: لَيْسَ للشَّافِعِيّ مثل ذَلِك إِلَّا فِي
بضعَة عشر موضعا:
(8/3957)
سِتَّة عشرَة أَو سَبْعَة عشر، وَهُوَ
دَلِيل على علو شَأْنه.
وَفَائِدَة ذكر الْقَوْلَيْنِ من غير تَرْجِيح: التَّنْبِيه
على أَن مَا سواهُمَا لَا يُؤْخَذ بِهِ، وَأَن الْجَواب منحصر
فِيمَا ذكر فيطلب التَّرْجِيح فِيهِ، وَقد وَقع مثل ذَلِك لعمر
بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فِي الشورى حَيْثُ حصر
[الْخلَافَة] فِي سِتَّة، أَي: فَلَا يكون اسْتِحْقَاقهَا
لغَيرهم.
قَوْله: {فَإِن قَالَه فِي وَقْتَيْنِ وَجَهل أسبقهما فمذهبه
أقربهما من الْأَدِلَّة، أَو قَوَاعِده، وَعند الْأَصْحَاب،
وَفِي " الرَّوْضَة " - أَيْضا - كخبرين تَعَارضا، وَمنع
الْآمِدِيّ من الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا، وَإِن علم فَالثَّانِي
مذْهبه، وَهُوَ نَاسخ عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ ابْن حَامِد:
وَالْأول، وَقيل: وَلَو رَجَعَ، قَالَ الْمجد: هُوَ مُقْتَضى
كَلَامهم} .
(8/3958)
نقُول: إِذا نقل عَن الإِمَام أَحْمد فِي
مَسْأَلَة قَولَانِ أَو قَول فَنَنْظُر فَإِن أمكن الْجمع
وَلَو بِحمْل عَام على خَاص أَو مُطلق على مُقَيّد على
الْأَصَح، فالقولان مذْهبه، وَيحمل كل مِنْهُمَا على ذَلِك
الْمحمل، وَإِن تعذر الْحمل فَتَارَة يعلم تَارِيخ
الْقَوْلَيْنِ أَو الْأَقْوَال، وَتارَة يجهل، فَإِن جهل
أسبقهما فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن مذْهبه من
الْقَوْلَيْنِ أَو الْأَقْوَال أقربهما من الْأَدِلَّة، أَو
قَوَاعِد مذْهبه، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " وَغَيره.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: " نجتهد فِي
الْأَشْبَه بأصوله الْأَقْوَى فِي الْحجَّة فنجعله مذْهبه ونشك
فِي الآخر "، وَقَالَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ".
وَقيل: يَجْعَل الحكم فيهمَا مُخْتَلفا؛ لِأَنَّهُ لَا أولية
بِالسَّبقِ، ذكره القَاضِي.
(8/3959)
قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: ويحكى
الْقَوْلَيْنِ عَنهُ، وَأَن أَقْوَال الشَّافِعِي كَذَلِك.
وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَأَنه إِجْمَاع كنقل أَقْوَال
السّلف.
وَقَالَ الْمُوفق - أَيْضا - فِي " الرَّوْضَة ": " إنَّهُمَا
كخبرين عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَعَارضا
".
وَكَذَا جزم الْآمِدِيّ: يمْتَنع الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا
لاحْتِمَال [رُجُوعه] كنصين.
وَإِن علم أسبقهما فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن الثَّانِي
مذْهبه وَهُوَ نَاسخ للْأولِ، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر مِنْهُم:
أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، والموفق فِي " الرَّوْضَة
"، وَالْقَاضِي فِي " الْعدة "، وَذكر كَلَام الْخلال وَصَاحبه
لقَوْله:
(8/3960)
" هَذَا قَول قديم رَجَعَ عَنهُ "، وَقدمه
فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، وَابْن
مُفْلِح فِي " أُصُوله "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَنَصره
وَهُوَ وَصَاحب " الْحَاوِي الْكَبِير "، وَغَيرهم،
وَلِأَنَّهُ الظَّاهِر.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: " إِذا رَأَيْت مَا هُوَ أقوى أخذت
بِهِ وَتركت القَوْل الآخر ".
وَجزم بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره.
(8/3961)
وَالْقَوْل الثَّانِي: يكون الأول مذْهبه -
أَيْضا - كالثاني، كَمَا لَو جهل رُجُوعه عَنهُ، اخْتَارَهُ
ابْن حَامِد، وَغَيره: كمن صلى صَلَاتَيْنِ باجتهادين إِلَى
جِهَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، وَلم يتَبَيَّن أَنه أَخطَأ،
وَلِأَن الِاجْتِهَاد لَا ينْقض بِالِاجْتِهَادِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَفِيه نظر، وَيلْزمهُ لَو صرح
بِالرُّجُوعِ، وَبَعض أَصْحَابنَا خَالف وَقَالَ: وَلَو صرح
بِالرُّجُوعِ ".
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": " قلت: وَقد تدبرت كَلَامهم
فرأيته يَقْتَضِي أَن يُقَال بكونهما مذهبا لَهُ وَإِن صرح
بِالرُّجُوعِ " انْتهى.
(8/3962)
(قَوْله: {فصل} )
{مَذْهَب أَحْمد وَنَحْوه مَا قَالَه أَو جرى مجْرَاه من
تَنْبِيه وَغَيره} .
اعْلَم أَن الإِمَام أَحْمد - رَحمَه الله تَعَالَى - لم يؤلف
كتابا مُسْتقِلّا فِي الْفِقْه كَمَا فعله غَيره من
الْأَئِمَّة، وَإِنَّمَا أَخذ ذَلِك أَصْحَابه من فَتَاوِيهِ،
وأجوبته، وأقواله، وأفعاله، وَبَعض تآليفه، فَإِن أَلْفَاظه
إِمَّا صَرِيحَة فِي الحكم بِمَا لَا يحْتَمل، أَو ظَاهِرَة
فِيهِ مَعَ احْتِمَال غَيره، أَو مُحْتَملَة لشيئين فَأكْثر
على السوَاء، أَو تَنْبِيه كَقَوْلِهِم: أَوْمَأ إِلَيْهِ، أَو
أَشَارَ إِلَيْهِ، وَدلّ كَلَامه عَلَيْهِ، أَو توقف عَلَيْهِ،
وَنَحْو ذَلِك.
إِذا علمت ذَلِك: فمذهب الإِمَام أَحْمد وَنَحْوه من
الْمُجْتَهدين على الْإِطْلَاق كالأئمة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم:
مَا قَالَه بِدَلِيل وَمَات قَائِلا بِهِ، قَالَه فِي "
الرِّعَايَة ".
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " مَذْهَب الْإِنْسَان
مَا قَالَه أَو جرى مجْرَاه من تَنْبِيه أَو غَيره ".
وَقد قسم أَصْحَابه دلَالَة أَلْفَاظه إِلَى أَنْوَاع
كَثِيرَة، وَكَذَا فعله.
فَلهَذَا قُلْنَا: {وَكَذَا فعله وَمَفْهُوم كَلَامه} .
(8/3963)
يَعْنِي أَنه إِذا فعل فعلا قُلْنَا مذْهبه
جَوَاز فعل ذَلِك الْمَفْعُول، وَإِلَّا لما كَانَ فعله،
وَكَذَا لَو كَانَ لكَلَامه مَفْهُوم فَإنَّا نحكم على ذَلِك
الْمَفْهُوم بِمَا يُخَالف الْمَنْطُوق، إِن كَانَ مَفْهُوم
مُخَالفَة، أَو بِمَا يُوَافقهُ إِن كَانَ مَفْهُوم مُوَافقَة.
ولأصحابنا فِي فعله وَمَفْهُوم كَلَامه وَجْهَان فِي كَونه
مذهبا، وَأطلقهُمَا فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " آدَاب
الْمُفْتِي "، و " أصُول ابْن مُفْلِح ":
أَحدهَا: يكون مذهبا لَهُ وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
قَالَ ابْن حَامِد فِي " تَهْذِيب الْأَجْوِبَة ": عَامَّة
أَصْحَابنَا يَقُولُونَ: إِن فعله مَذْهَب لَهُ وَقدمه ورد
غَيره.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": اخْتَار الْخرقِيّ، وَابْن
حَامِد، وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: أَن مَفْهُوم كَلَامه
مذْهبه.
وَاخْتَارَ أَبُو بكر: أَنه لَا يكون مذهبا لَهُ.
(8/3964)
فَإِن جعلنَا الْمَفْهُوم مذهبا لَهُ فنص
فِي مَسْأَلَة على خلاف الْمَفْهُوم [بَطل] .
وَقيل: لَا يبطل.
فَتَصِير الْمَسْأَلَة على رِوَايَتَيْنِ إِن جعلنَا أول قوليه
فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا لَهُ.
قَوْله: {فَإِن علله بعلة فَقَوله مَا وجدت فِيهِ، وَلَو
قُلْنَا بتخصيص الْعلَّة فِي الْأَصَح} .
الصَّحِيح: أَن مذْهبه فِي كل مَسْأَلَة تُوجد فِيهَا تِلْكَ
الْعلَّة الَّتِي علل بهَا تِلْكَ الْمَسْأَلَة الَّتِي نَص
عَلَيْهَا، وَذكر علتها قدمه فِي " الْفُرُوع " و "
الرِّعَايَة ".
وَقَالَ: سَوَاء قُلْنَا بتخصيص الْعلَّة أَو لَا؟
وَقيل: لَا يكون ذَلِك مذْهبه، وَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَة
بعْدهَا مَا يدل على ذَلِك.
وَقطع بِالْأولِ فِي " الرَّوْضَة "، و " مُخْتَصر الطوفي "،
وَغَيرهمَا إِذْ الحكم يتبع الْعلَّة.
(8/3965)
قَوْله: {وَكَذَا الْمَقِيس على كَلَامه
فِي الْأَصَح} .
اخْتلف الْأَصْحَاب فِي الْمَقِيس على كَلَامه هَل هُوَ
مَذْهَب لَهُ أم لَا؟ وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب: أَنه
مَذْهَب لَهُ.
قَالَ فِي " الْفُرُوع ": مذْهبه فِي الْأَشْهر.
وَقدمه فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " الْحَاوِي "، وَغَيرهم.
وَهُوَ مَذْهَب الْأَثْرَم، والخرقي، وَغَيرهمَا، قَالَه ابْن
حَامِد فِي " تَهْذِيب الْأَجْوِبَة ".
وَقيل: لَا يكون مذْهبه.
قَالَ ابْن حَامِد: " قَالَ عَامَّة مَشَايِخنَا مثل الْخلال،
وَأبي بكر عبد الْعَزِيز، وَأبي عَليّ، وَإِبْرَاهِيم،
وَسَائِر من شاهدنا: أَنه لَا يجوز نسبته إِلَيْهِ، وأنكروا
على الْخرقِيّ مَا رسمه فِي كِتَابه من حَيْثُ إِنَّه قَاس على
قَوْله " انْتهى.
وَنَصره الْحلْوانِي، ذكره فِي " المسودة "، وَأطلقهُمَا فِي "
المسودة " وَابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
(8/3966)
قَالَ ابْن حَامِد: " والأجود أَن يفصل،
فَمَا كَانَ من جَوَاب لَهُ فِي أصل يحتوي مسَائِل خرج جَوَابه
على بَعْضهَا، فَإِنَّهُ جَائِز أَن ينْسب إِلَيْهِ بَقِيَّة
مسَائِل ذَلِك الأَصْل من حَيْثُ الْقيَاس ".
وَقيل: إِن جَازَ تَخْصِيص الْعلَّة فَهُوَ مذْهبه وَإِلَّا
فَلَا.
وَقَالَ فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، و " آدَاب الْمُفْتِي
": " وَقلت: إِن نَص الإِمَام على علته، أَو أَوْمَأ إِلَيْهِ
كَانَ مذهبا وَإِلَّا فَلَا، إِلَّا أَن تشهد أَقْوَاله
وأفعاله أَو أَحْوَاله لِلْعِلَّةِ المستنبطة بِالصِّحَّةِ
وَالتَّعْيِين " انْتهى.
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها "،
وَغَيرهمَا: " إِن بَين الْعلَّة فمذهبه فِي كل مَسْأَلَة وجدت
فِيهَا تِلْكَ الْعلَّة كمذهبه فِيمَا نَص عَلَيْهِ، وَإِن لم
يبين الْعلَّة فَلَا، وَإِن أشبهتها إِذْ هُوَ إِثْبَات
مَذْهَب بِالْقِيَاسِ، ولجواز ظُهُور الْفرق لَهُ لَو عرضت
عَلَيْهِ " انْتهى.
قَوْله: {فَلَو أفتى فِي مَسْأَلَتَيْنِ متشابهتين بحكمين
مُخْتَلفين فِي وَقْتَيْنِ: لم يجز نَقله فِي كل مِنْهُمَا
إِلَى الْأُخْرَى على الْأَصَح} .
هَذَا هُوَ الصَّحِيح، أَعنِي: أَنه لَا يجوز النَّقْل
والتخريج من كل وَاحِدَة إِلَى الْأُخْرَى كَقَوْل الشَّارِع.
(8/3967)
ذكره أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "،
وَغَيره، وَاقْتصر عَلَيْهِ الْمجد، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي "
أُصُوله "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَصَاحب " الْحَاوِي
الْكَبِير " وَغَيرهم، وَجزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره،
كَمَا لَو فرق بَينهمَا، أَو منع النَّقْل والتخريج.
قَالَ فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، وآداب الْمُفْتِي ": أَو قرب
الزَّمن بِحَيْثُ يظنّ أَنه ذَاكر حكم الأولى حِين أفتى
بِالثَّانِيَةِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: جَوَاز نقل الحكم وتخريجه من كل
وَاحِدَة مِنْهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، نَقله ابْن حَامِد عَن
بعض الْأَصْحَاب، وَجزم بِهِ فِي " المطلع "، وَقدمه فِي "
الرِّعَايَتَيْنِ ".
(8/3968)
وَاخْتَارَهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " فِي
الْأُصُول، و " شَرحه "، وَقَالَ: " إِذا كَانَ بعد الْجد
والبحث، أَو خَفَاء الْفرق مَعَ ذَلِك، مُمْتَنع عَادَة "،
لَكِن من شُرُوط جَوَاز التَّخْرِيج أَن لَا يُفْضِي إِلَى خرق
الْإِجْمَاع.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": أَو رفع مَا اتّفق عَلَيْهِ
الجم الْغَفِير من الْعلمَاء، أَو عَارضه نَص كتاب أَو سنة.
فعلى الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - يكون الْوَجْه الْمخْرج وَجها
لمن خرجه، وعَلى القَوْل الثَّانِي يكون رِوَايَة مخرجة، ذكره
ابْن حمدَان وَغَيره.
وَقَالَ ابْن حمدَان أَيْضا: " قلت: إِن علم التَّارِيخ، وَلم
يَجْعَل أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا لَهُ جَازَ
نقل حكم الثَّانِيَة إِلَى الأولى فِي الأقيس وَلَا عكس،
إِلَّا أَن يَجْعَل أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا
لَهُ مَعَ معرفَة التَّارِيخ، وَإِن جهل التَّارِيخ جَازَ نقل
حكم أقربهما من كتاب، أَو سنة، أَو إِجْمَاع، أَو أثر، وقواعد
الإِمَام، وَنَحْوه إِلَى الْأُخْرَى فِي الأقيس وَلَا عكس،
إِلَّا أَن يَجْعَل أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا
مَعَ معرفَة التَّارِيخ، وَأولى لجَوَاز كَونهَا الْأَخِيرَة
دون الراجحة " انْتهى.
قَوْله: {وَلَو نَص على حكم مَسْأَلَة ثمَّ قَالَ: لَو قَالَ
قَائِل بِكَذَا، أَو ذهب ذَاهِب إِلَيْهِ، لم يكن مذهبا لَهُ
فِي الْأَصَح} .
إِذا نَص على حكم مَسْأَلَة ثمَّ قَالَ: وَلَو قَالَ قَائِل،
أَو ذهب ذَاهِب إِلَى
(8/3969)
كَذَا يُرِيد حكما يُخَالف مَا نَص
عَلَيْهِ، كَانَ مذهبا: لم يكن ذَلِك مذهبا للْإِمَام أَيْضا،
كَمَا لَو قَالَ: وَقد ذهب قوم إِلَى كَذَا، قَالَه أَبُو
الْخطاب وَمن بعده وَقدمه فِي " الْفُرُوع "، و " الرِّعَايَة
"، و " آدَاب الْمُفْتِي "، وَغَيرهم.
وَيحْتَمل أَن يكون مذهبا لَهُ ذكره فِي " الرِّعَايَة " من
عِنْده.
قلت: وَهُوَ مُتَوَجّه كَقَوْلِه: يحْتَمل وَجْهَيْن.
قَالَ فِي " الْفُرُوع ": وَقد أجَاب الإِمَام أَحْمد فِيمَا
إِذا سَافر بعد دُخُول الْوَقْت هَل يقصر، وَفِي غير مَوضِع
بِمثل هَذَا، وَأثبت القَاضِي وَغَيره رِوَايَتَيْنِ انْتهى.
(8/3970)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: لَا ينْقض حكم فِي مسالة اجتهادية،
إِلَّا مَا سبق فِي أَن الْمُصِيب وَاحِد} .
وَذَلِكَ للتساوي فِي الحكم بِالظَّنِّ، وَإِلَّا نقض بمخالفة
قَاطع فِي مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، إِلَّا مَا سبق
فِي مَسْأَلَة أَن الْمُصِيب وَاحِد، وَذكره الْآمِدِيّ
اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ عمل الصَّحَابَة، وللتسلسل فتفوت مصلحَة
نصب الْحَاكِم.
وَلنَا: خلاف فِيمَن حبس فِي ثمن كلب، أَو خمر ذمِّي أراقه،
هَل يُطلقهُ حَاكم بعده أم لَا؟ أم يتَوَقَّف ويجتهد فِي
الصُّلْح، وَللشَّافِعِيّ كالآخرين.
وَلنَا: خلاف فِي نِكَاح بِلَا ولي، وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا
نَقله ابْن مُفْلِح، وَحَاصِله: أَنه يمْتَنع نقض حكم
الِاجْتِهَاد بِغَيْرِهِ، بِاجْتِهَاد آخر، سَوَاء كَانَ من
الْمُجْتَهد الأول أَو من غَيره، لما يلْزم على نقضه من
التسلسل؛ إِذْ لَو جَازَ النَّقْض لجَاز نقض النَّقْض،
وَهَكَذَا، فَيفوت مصلحَة حكم الْحَاكِم وَهُوَ قطع
الْمُنَازعَة لعدم الوثوق حِينَئِذٍ بالحكم.
(8/3971)
وَهُوَ معنى قَول الْفُقَهَاء فِي
الْفُرُوع: لَا ينْقض الِاجْتِهَاد بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَن
الصَّحَابَة أَجمعُوا على ذَلِك.
فَإِن أَبَا بكر حكم فِي مسَائِل بِاجْتِهَادِهِ، وَخَالفهُ
عمر فَلم ينْقض أَحْكَامه، وَعلي خَالف عمر فِي اجْتِهَاده
فَلم ينْقض أَحْكَامه، وَخَالَفَهُمَا عَليّ فَلم ينْقض
أحكامهما، فَإِن أَبَا بكر سوى بَين النَّاس فِي الْعَطاء،
فَأعْطى العبيد، وَخَالفهُ عمر ففاضل بَين النَّاس،
وَخَالَفَهُمَا عَليّ فسوى بَين النَّاس، وَحرم العبيد، وَلم
ينْقض أحد مِنْهُم مَا فعله من قبله.
قَوْله: {وينقض بمخالفة نَص كتاب أَو سنة، وَلَو آحَاد، خلافًا
لقَوْل القَاضِي، أَو إِجْمَاع قَطْعِيّ لَا ظَنِّي فِي
الْأَصَح، وَلَا قِيَاس وَلَو جليا خلافًا
(8/3972)
لمَالِك، وَالشَّافِعِيّ، وَابْن حمدَان
فِيهِ، زَاد مَالك: وَالْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة، وينقض
مُطلقًا وَقطع فِي " الْمُجَرّد "، و " الْمُغنِي " بِطَلَب
ربه، وَعَن دَاوُد وَأبي ثَوْر: ينْقض مَا بَان خطأ، وَجَوَاز
ابْن الْقَاسِم: نقض مَا بَان غَيره أصوب} .
لَا شكّ أَن الحكم ينْتَقض بمخالفة الْإِجْمَاع الْقطعِي،
وَكَذَلِكَ بمخالفة النَّص من كتاب أَو سنة؛ لِأَنَّهُ قَضَاء
لم يُصَادف شَرطه، فَوَجَبَ نقضه.
وَبَيَان مُخَالفَته للشّرط: أَن شَرط الحكم بِالِاجْتِهَادِ
عدم النَّص بِدَلِيل خبر معَاذ؛ وَلِأَنَّهُ إِذا ترك الْكتاب
وَالسّنة فقد فرط، فَوَجَبَ نقض حكمه.
إِذا علم ذَلِك فَإِنَّهُ ينْقض بمخالفة نَص كتاب الله أَو سنة
وَلَو آحادا، كَقَتل مُسلم بالكافر، فَيلْزمهُ نقضه، نَص
عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد.
وَقيل: لَا ينْقض حكمه إِذا خَالف غير سنة متواترة، وَهُوَ أحد
قولي القَاضِي أبي يعلى.
وَالْإِجْمَاع إجماعان.
إِجْمَاع قَطْعِيّ فينقض بمخالفته قطعا.
(8/3973)
وَإِجْمَاع لَا ينْقض بمخالفته على
الصَّحِيح، قدمه فِي " الْفُرُوع "، و " الرِّعَايَة
الْكُبْرَى "، وَغَيرهمَا.
وَقيل: ينْقض، وَهُوَ ظَاهر كَلَام كثير من الْأَصْحَاب.
وَلَا ينْقض إِذا خَالف قِيَاسا وَلَو جليا على الصَّحِيح من
الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر وَقَطعُوا بِهِ.
وَقيل: ينْقض إِذا خَالف قِيَاسا نصا جليا وفَاقا لمَالِك،
وَالشَّافِعِيّ، وَابْن حمدَان فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، زَاد
مَالك: ينْقض بمخالفة الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة.
وَعَن دَاوُد وَأبي ثَوْر: ينْقض جَمِيع مَا بَان لَهُ
خَطؤُهُ؛ " لِأَن عمر رَضِي
(8/3974)
الله عَنهُ كتب إِلَى أبي مُوسَى لَا يمنعك
قَضَاء قَضيته بالْأَمْس، ثمَّ راجعت نَفسك فِيهِ الْيَوْم،
فهديت لمرشد، أَن تراجع فِيهِ الْحق، فَإِن الرُّجُوع إِلَى
الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل.
وَلِأَنَّهُ خطأ فَوَجَبَ الرُّجُوع عَنهُ.
وَجوز ابْن الْقَاسِم بعض مَا بَان غَيره أصوب، وَهُوَ قريب من
الَّذِي قبله.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " إِذا بَان أَن الحكم خَالف ذَلِك
ارْتَفع حكم الِاجْتِهَاد.
وَبَعْضهمْ يعبر عَن ذَلِك: بنقضه؛ وَهُوَ مجَاز؛ لِأَنَّهُ قد
تبين أَن لَا حكم، بل وَلَا ارْتِفَاع؛ لِأَنَّهُ فرع
الثُّبُوت إِلَّا أَن يُرَاد ارْتِفَاع ظن الحكم ".
تَنْبِيه: حَيْثُ قُلْنَا: ينْقض، فَإِن كَانَ فِي حق الله
تَعَالَى: كَالطَّلَاقِ، وَالْعتاق، وَنَحْوهمَا نقضه؛ لِأَن
لَهُ النّظر فِي حُقُوق الله، وَإِن كَانَ يتَعَلَّق بِحَق
آدَمِيّ فَالصَّحِيح أَنه - أَيْضا - ينْقضه، وَلَا يحْتَاج
فِي نقضه إِلَى صَاحبه وَطَلَبه.
(8/3975)
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْمُجَرّد "،
والموفق فِي " الْمُغنِي "، و " الشَّارِح "، وَابْن رزين: لم
ينْقضه إِلَّا بمطالبة صَاحبه؛ لِأَن الْحَاكِم لَا
يَسْتَوْفِي حَقًا لمن لَا ولَايَة عَلَيْهِ بِغَيْر
مُطَالبَته، فَإِن طلب صَاحبه ذَلِك نقضه.
قَوْله: {وَحكمه بِخِلَاف اجْتِهَاده بَاطِل وَلَو قلد غَيره
عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَفِي " الْإِرْشَاد ": لَا،
وَيَأْثَم، وَيَنْبَغِي هَذَا فِيمَن قضى بِخِلَاف رَأْيه
نَاسِيا وَلَا إِثْم، وَينفذ كَأبي حنيفَة، وَعند أبي يُوسُف:
يرجع عَنهُ وينقضه كالمالكية، وَالشَّافِعِيَّة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَحكمه بِخِلَاف اجْتِهَاده بَاطِل وَلَو
قلد غَيره، وَذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا.
وَفِي " إرشاد ابْن أبي مُوسَى ": لَا، للْخلاف فِي
الْمَدْلُول وَيَأْثَم.
وَيَنْبَغِي هَذَا فِيمَن قضى بِخِلَاف رَأْيه نَاسِيا لَهُ
لَا إِثْم وَينفذ كَقَوْل أبي حنيفَة.
(8/3976)
وَعند أبي يُوسُف: يرجع عَنهُ وينقضه،
كَقَوْل الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة.
وبناه فِي " شرح الْخصاف " على جَوَاز تَقْلِيد غَيره.
نقل أَبُو طَالب إِذا أَخطَأ بِلَا تَأْوِيل فليرده وَيطْلب
صَاحبه فَيَقْضِي بِحَق ".
(8/3977)
قَوْله: {وَإِن حكم مقلد بِخِلَاف إِمَامه
فَإِن صَحَّ حكم الْمُقَلّد انبنى نقضه على منع تَقْلِيد
غَيره، قَالَه الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، وَقَالَ ابْن حمدَان
أَيْضا: مُخَالفَة الْمُفْتِي نَص إِمَامه كمخالفة نَص
الشَّارِع، وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة: عمله بقول الْأَكْثَر
أولى} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَإِن حكم مقلد بِخِلَاف إِمَامه، فَإِن
صَحَّ حكم الْمُقَلّد انبنى نقضه على منع تَقْلِيد غَيره، ذكره
الْآمِدِيّ وَهُوَ وَاضح، وَمَعْنَاهُ لبَعض أَصْحَابنَا ".
وَمرَاده ابْن حمدَان، وَذكر كَلَام ابْن هُبَيْرَة.
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ للمقلد أَن يحكم بِخِلَاف مَذْهَب
إِمَامه، كَمَا أَن الْمُجْتَهد لَيْسَ لَهُ أَن يحكم بِغَيْر
اجْتِهَاده سَوَاء، فَإِن حكم الْمُقَلّد بِخِلَاف قَول
إِمَامه، انبنى على أَنه هَل يجوز لَهُ تَقْلِيد غَيره أم لَا؟
فَإِن منعنَا نقض، وَإِن جَوَّزنَا فَلَا، قَالَه الْآمِدِيّ،
وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح كَمَا تقدم.
لَكِن قَالَ الْغَزالِيّ: إِنَّا إِذا منعنَا من قلد إِمَامًا
أَن يُقَلّد غَيره، وَفعل وَحكم بقوله فَيَنْبَغِي أَن لَا
ينفذ قَضَاؤُهُ؛ وَلِأَنَّهُ فِي ظَنّه أَن إِمَامه أرجح.
انْتهى.
(8/3978)
وَهَذَا مُوَافق لظَاهِر مَا قَالَه ابْن
حمدَان: أَن مُخَالفَة الْمُفْتِي نَص إِمَامه كمخالفة نَص
الشَّارِع.
مَعَ أَن ظَاهره أَنه غير الْمُقَلّد بل هُوَ مفت؛ فَيكون
الْمُقَلّد بطرِيق الأولى.
قَوْله: {وَلَو اجْتهد فَتزَوج بِلَا ولي ثمَّ تغير اجْتِهَاده
حرمت فِي الْأَصَح، وَقَالَهُ القَاضِي، والموفق، وَابْن
حمدَان، والطوفي، والآمدي: إِن لم يكن حكم بِهِ، وَلَا يحرم
على مقلد بِتَغَيُّر اجْتِهَاد إِمَامه، قَالَه أَبُو الْخطاب،
والموفق والطوفي، كَحكم، وَعند الشَّافِعِيَّة، وَابْن حمدَان:
يحرم، وَهُوَ مُتَّجه كالتقليد فِي الْقبْلَة} .
إِذا قُلْنَا بِنَقْض الِاجْتِهَاد فالنظر فِيهِ حِينَئِذٍ فِي
أَمريْن:
أَحدهمَا: فِيمَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ.
وَالثَّانِي: فِيمَا يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ.
أما الأول: فَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ، فَإِذا أَدَّاهُ
اجْتِهَاده إِلَى حكم فِي حق نَفسه، ثمَّ تغير اجْتِهَاده،
كَمَا إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى صِحَة النِّكَاح بِلَا
ولي، ثمَّ تغير اجْتِهَاده، فَرَأى أَنه بَاطِل فَالْأَصَحّ
التَّحْرِيم مُطلقًا، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَحَكَاهُ
الرَّافِعِيّ عَن الْغَزالِيّ، وَلم ينْقل غَيره.
(8/3979)
وَقيل: لَا تحرم مُطلقًا، حَكَاهُ ابْن
مُفْلِح فِي " فروعه ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: إِن حكم بِهِ لم تحرم وَإِلَّا حرمت
وَهُوَ الَّذِي قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، والموفق ابْن
قدامَة، وَابْن حمدَان، والطوفي، والآمدي، وَجزم بِهِ
الْبَيْضَاوِيّ والهندي؛ لِئَلَّا يلْزم نقض الِاجْتِهَاد
بِالِاجْتِهَادِ، وَأَيْضًا: اسْتِدَامَة حلهَا بِخِلَاف
معتقده خلاف الْإِجْمَاع.
وَأما الثَّانِي: وَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ، فَإِذا
أفتى مُجْتَهد عاميا بِاجْتِهَاد، ثمَّ تغير اجْتِهَاده لم
تحرم عَلَيْهِ على الْأَصَح، وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب،
وَالشَّيْخ موفق الدّين، والطوفي، وَظَاهر كَلَام ابْن
مُفْلِح؛ لِأَن عمله بفتواه كَالْحكمِ، وَمَعْنَاهُ أَنه إِذا
اجْتهد وَحكم فِي وَاقعَة، ثمَّ تغير اجْتِهَاده بعد ذَلِك:
فَالْحكم بِالْأولِ بَاقٍ على مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَكَذَا
إِذا أفتاه أَو قَلّدهُ.
(8/3980)
وَعند الشَّافِعِيَّة، وَابْن حمدَان:
تحرم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَهُوَ مُتَّجه كالتقليد فِي الْقبْلَة
".
وَفِي " الرِّعَايَة ": احْتِمَال وَجْهَيْن.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره عَن هَذِه: " فَكَمَا سبق فِيمَا
يتَعَلَّق بِنَفسِهِ.
وَقَالَ الْهِنْدِيّ: إِن اتَّصل حكم قبل بِغَيْر اجْتِهَاده،
فَكَمَا سبق فِي الْمُجْتَهد فِيمَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ.
وَإِن لم يتَّصل بِهِ فَاخْتَلَفُوا، وَالْأولَى القَوْل
بِالتَّحْرِيمِ، وَمِنْهُم من لم يُوجِبهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي
إِلَى نقض الِاجْتِهَاد بِالِاجْتِهَادِ ".
قَوْله: {وَإِن لم يعْمل بفتواه لزم الْمُفْتِي إِعْلَامه،
فَلَو مَاتَ قبله اسْتمرّ فِي الْأَصَح} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " أما إِن لم يعْمل
بفتواه لزم الْمُفْتِي تَعْرِيفه.
فَإِن لم يعْمل وَمَات الْمُفْتِي فاحتمالان.
(8/3981)
فِي " التَّمْهِيد ": الْمَنْع لتردد
بَقَائِهِ عَلَيْهَا لَو كَانَ حَيا.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فعلى هَذَا لَو كَانَ حَيا لم يجز،
وَهُوَ بعيد.
وَالْجَوَاز: للظَّاهِر) .
وَقَالَ فِي " فروعه ": اسْتمرّ فِي الْأَصَح، وَهُوَ
الْمُعْتَمد.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة ": يُعلمهُ سَوَاء كَانَ
قبل الْعَمَل أَو بعده حَيْثُ يجب النَّقْض.
وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: إِن كَانَ عمل بِهِ لم يلْزمه
إِعْلَامه، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَن يعرفهُ إِن تمكن مِنْهُ،
لِأَن الْعَاميّ إِنَّمَا يعْمل بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَول
الْمُفْتِي، وَمَعْلُوم أَنه فِي تِلْكَ الْحَالة لَيْسَ ذَلِك
قَوْله.
(8/3982)
قَوْله: {وَله تَقْلِيد ميت: كحاكم،
وَشَاهد، وَقيل: إِن فقد الْحَيّ، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره:
لَا مُطلقًا، وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد ": فِي بَحثه} .
يجوز تَقْلِيد الْمَيِّت كتقليد الْحَيّ؛ لِأَن قَوْله بَاقٍ
فِي الْإِجْمَاع، وَهَذَا قَول جُمْهُور الْعلمَاء.
وَفِيه يَقُول الإِمَام الشَّافِعِي: " الْمذَاهب لَا تَمُوت
بِمَوْت أَرْبَابهَا " انْتهى.
وكالحاكم وَالشَّاهِد لَا يبطل حكمه بِمَوْتِهِ، وَلَا
شَهَادَته بِمَوْتِهِ.
وَقيل: لَيْسَ لَهُ تَقْلِيده مُطلقًا وَهُوَ وَجه لنا
وللشافعية، وَذكره ابْن عقيل عَن قوم من الْفُقَهَاء
الْأُصُولِيِّينَ.
وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد " فِي أَن عُثْمَان لم يشرط
عَلَيْهِ تَقْلِيد أبي بكر وَعمر، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي
" الْمَحْصُول ".
(8/3983)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (بل من [تَأمل] كَلَام
" الْمَحْصُول " يخرج لَهُ مِنْهُ أَن يمْنَع التَّقْلِيد
مُطلقًا.
فعلى الأول: وَهُوَ جَوَاز التَّقْلِيد لَو كَانَ الْمُجْتَهد
الْحَيّ دون الْمَيِّت، احْتمل أَن يُقَلّد الْمَيِّت
لأرجحيته، وَاحْتمل أَن يُقَلّد الْحَيّ بحياته، وَاحْتمل
التَّسَاوِي.
وَحكى الْهِنْدِيّ قولا رَابِعا فِي الْمَسْأَلَة، وَهُوَ
التَّفْصِيل بَين أَن يكون الحاكي عَن الْمَيِّت أَهلا
للمناظرة، وَهُوَ مُجْتَهد فِي مَذْهَب الْمَيِّت فَيجوز،
وَإِلَّا فَلَا) .
قَوْله: {وَإِن عمل بفتياه فِي إِتْلَاف فَبَان خَطؤُهُ قطعا
ضمنه، وَكَذَا إِن لم يكن أَهلا، خلافًا للأستاذ وَجمع} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": " وَإِن بَان خَطؤُهُ فِي
إِتْلَاف بمخالفة قَاطع ضمن لَا مستفتيه، وَفِي تضمين [مفت]
لَيْسَ أَهلا وَجْهَان ".
وَقَالَ فِي " أُصُوله ": " وَإِن عمل بفتياه فِي إِتْلَاف
فَبَان خَطؤُهُ قطعا ضمنه لَا مستفتيه، وَإِن لم يكن أَهلا
للفتيا وَجْهَان.
(8/3984)
وَعند الإِسْفِرَايِينِيّ وَغَيره: يضمن
الْأَهْل فَقَط.
وَيتَوَجَّهُ فِيهِ: كمنتهب مَعَ غَاصِب " انْتهى.
الصَّحِيح أَنه يضمن، إِذا لم يكن أَهلا بل أولى بِالضَّمَانِ
مِمَّن لَهُ أَهْلِيَّة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لَا يضمن، اخْتَارَهُ ابْن حمدَان
فِي " آدَاب الْمُفْتِي "، وَهُوَ بعيد جدا.
قَالَ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين " عَن هَذَا
القَوْل: " لم أعرف هَذَا القَوْل لأحد قبل ابْن حمدَان "
انْتهى.
قلت: الَّذِي يَنْبَغِي أَن ينظر إِن كَانَ المستفتي يعلم أَنه
لَيْسَ أَهلا للفتيا واستفتاه لم يضمن؛ لِأَنَّهُ الْجَانِي
على نَفسه، وَإِن لم يُعلمهُ ضمن الْمُفْتِي.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " لَو عمل بفتواه فِي إِتْلَاف،
ثمَّ بَان أَنه أَخطَأ، فَإِن لم يُخَالف الْقَاطِع لم يضمن؛
لِأَنَّهُ مَعْذُور، وَإِن خَالف الْقَاطِع ضمن.
وَأما مَا نَقله النَّوَوِيّ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق:
أَنه إِن كَانَ أَهلا للْفَتْوَى ضمن وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَن
المستفتي حِينَئِذٍ مقصر، وَلَكِن لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا
الْقَيْد هُنَا؛ لِأَن الْكَلَام فِي الْمُجْتَهد.
(8/3985)
ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ: يَنْبَغِي أَن
يتَخَرَّج على قَول الضَّمَان بالغرور، أَو يقطع بِعَدَمِ
الضَّمَان مُطلقًا، إِذا لم يُوجد مِنْهُ إِتْلَاف وَلَا ألجيء
إِلَيْهِ بإلزام " انْتهى.
(8/3986)
(قَوْله: {فصل} )
{لَو أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى حكم حرم التَّقْلِيد
إِجْمَاعًا، وَإِن لم يجْتَهد فَأَحْمَد، وَمَالك،
وَالشَّافِعِيّ، وَالْأَكْثَر كَذَلِك، وَقيل: فِيمَا لَا
يَخُصُّهُ، وَأَبُو الْفرج، وَحكي عَن أَحْمد، وَالثَّوْري،
وَإِسْحَاق: يجوز مُطلقًا} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي فِي
الْجُزْء الثَّانِي: " وَمَا حُكيَ عَن أَحْمد تَقْلِيد
الْعَالم الْعَالم غلط عَلَيْهِ ".
قَالَ أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ: مَذْهَبنَا جَوَاز تَقْلِيد
الْعَالم للْعَالم.
قَالَ أَبُو الْخطاب: وَهَذَا لَا يعرف عَن أَصْحَابنَا، نَقله
فِي " الْحَاوِي الْكَبِير " فِي الْخطْبَة.
(8/3987)
قَوْله: {وَقيل: لحَاكم، وَابْن حمدَان
وَبَعض الْمَالِكِيَّة: لعذر، وَابْن سُرَيج: لضيق الْوَقْت،
وَمُحَمّد: لأعْلم مِنْهُ، وقديم الشَّافِعِي وَابْن الْبَنَّا
وَابْن حمدَان - أَيْضا - وَجمع: لصحابي أرجح، وَلَا إِنْكَار
مِنْهُم، فَإِن اسْتَووا تخير، وَقَالَهُ بعض الْمُتَكَلِّمين
قبل الْفرْقَة، وَاخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي اعْتِبَار
انتشاره، وَقيل: وتابعي.
وَعنهُ لصحابي وَعمر بن عبد الْعَزِيز فَقَط.
وَله أَن يجْتَهد ويدع غَيره إِجْمَاعًا، وَلَو توقف فِي
مَسْأَلَة نحوية، أَو فِي حَدِيث على أَهله فعامي فِيهِ، عِنْد
أبي الْخطاب، والموفق، والآمدي، وَغَيرهم} .
الْمُجْتَهد إِذا اجْتهد فأداه اجْتِهَاده إِلَى حكم فَهُوَ
مَمْنُوع من تَقْلِيد لمجتهد آخر اتِّفَاقًا، وَأما قبل أَن
يجْتَهد فَهَل هُوَ مَمْنُوع أم لَا؟ فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه مَمْنُوع أَيْضا وَهُوَ الصَّحِيح، وَقَالَهُ
الْأَمَام أَحْمد وَأكْثر
(8/3988)
أَصْحَابه، وجديد قولي الشَّافِعِي،
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَذكره عَن أَكثر الْفُقَهَاء.
وَقيل: مَمْنُوع فِيمَا لَا يَخُصُّهُ من الحكم، بل يُفْتِي
بِهِ، غير مَمْنُوع فِيمَا يَخُصُّهُ.
وَجوزهُ بعض أَصْحَابنَا، وَبَعض الْمَالِكِيَّة: لعذر.
وَلأبي حنيفَة رِوَايَتَانِ، وللشافعية، وَجْهَان.
الْمَنْع: قَالَه أَبُو يُوسُف.
وَالْجَوَاز: حُكيَ عَن أَحْمد، وَالثَّوْري، وَإِسْحَاق،
وَذكره بعض أَصْحَابنَا قولا لنا.
(8/3989)
وَمُحَمّد: لأعْلم مِنْهُ.
وَعَن ابْن سُرَيج مثله.
وَمثل ضيق الْوَقْت.
وَقيل: للْقَاضِي دون غَيره.
وَجوز الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، والجبائي وَابْنه، والسرخسي
وَبَعض شُيُوخه: لغير صَحَابِيّ تَقْلِيد صَحَابِيّ أرجح وَلَا
إِنْكَار مِنْهُم، فَإِن اسْتَووا تخير، وَقَالَهُ بعض
الْمُتَكَلِّمين: قبل الْفرْقَة.
(8/3990)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَحكى ابْن
الْحَاجِب قولا سابعا وَعَزاهُ إِلَى الشَّافِعِي: أَنه لَا
يُقَلّد إِلَّا صحابيا يكون أرجح من غَيره من بَقِيَّة
الصَّحَابَة، فَإِن اسْتَووا تخير، ويعزى للقديم.
قَالَ الْهِنْدِيّ: وَقَضيته: أَنه لَا يجوز للصحابة تَقْلِيد
بَعضهم بَعْضًا ".
وَاخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي اعْتِبَار انتشاره، وَقيل
تَابِعِيّ.
وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن أَحْمد: يُقَلّد صحابيا
وَيتَخَيَّر فيهم، وَمن التَّابِعين عمر بن عبد الْعَزِيز
فَقَط.
وَلَكِن قَالَ ابْن رَجَب فِي " مَنَاقِب الإِمَام أَحْمد ":
وَأما مَا نَقله طَائِفَة عَن أَحْمد أَنه جعل قَول عمر بن عبد
الْعَزِيز وَحده حجَّة بَين التَّابِعين، فَلَا أعلم ثُبُوته
عَنهُ، وَلَا رَأَيْته بِإِسْنَاد إِلَيْهِ، وَلَكِن قد يخرج
على مذْهبه من أصلين:
أَحدهمَا: أَن عمر بن عبد الْعَزِيز من الْخُلَفَاء
الرَّاشِدين، وَنَصّ عَلَيْهِ أَحْمد.
وَالثَّانِي: أَن قَول الْوَاحِد من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين
حجَّة يقدم على قَول غَيره.
(8/3991)
وَفِي هَذَا رِوَايَتَانِ عَنهُ، لَكِن
وَقع فِي بعض نصوصه تَقْيِيده بالخلفاء الْأَرْبَعَة انْتهى.
اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَن إِثْبَات
التَّقْلِيد يعْتَبر دَلِيله، وَالْأَصْل عَدمه، ونفيه
لانْتِفَاء دَلِيله، وَأَيْضًا: اجْتِهَاده أصل مُتَمَكن
مِنْهُ فَلم يجز بدله كَغَيْرِهِ.
فَإِن قيل: لَو توقف فِي مَسْأَلَة نحوية على سُؤَاله
النُّحَاة، أَو فِي حَدِيث على أَهله مَا حكمه؟
قيل: قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": هُوَ عَامي
فِيهِ.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي: هُوَ
الْأَشْبَه.
وَأَيْضًا مِمَّا يدل على التَّقْلِيد: قَوْله تَعَالَى:
{فاعتبروا} ، {فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} [النِّسَاء:
59] .
وَأَيْضًا: كبعد اجْتِهَاده.
رد: بِالْمَنْعِ؛ لِأَن الْمُجْتَهد حصل لَهُ ظن أقوى.
(8/3992)
وَاسْتدلَّ أَيْضا: كالعقليات.
رد: الْمَطْلُوب فِيهَا الْعلم وَلَا يحصل بتقليد.
قَالُوا: {فسئلوا أهل الذّكر} [النَّحْل: 43] .
رد: المُرَاد: ليسأل من لَيْسَ أَهلا، أهل الذّكر وَكلهمْ أهل
فَلم يدخلُوا، وَقَوله أَيْضا: {إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ}
[النَّحْل: 43] ، وَأمره هُنَا للْوُجُوب، ولتخصيصه بِمَا بعد
الِاجْتِهَاد، وَسبق: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ "، وكتعارض
دَلِيلين، وَلم يسوغوا الْأَخْذ بِكُل من قَوْلهمَا بل
بالراجح.
قَالُوا: الظَّن كَاف.
رد: ظَنّه مُتَعَيّن بِعِلْمِهِ بِشُرُوطِهِ كعلم على ظن؛
وَلِأَنَّهُ مبدل لتعينه بعد اجْتِهَاده.
قَالُوا: عَاجز مَعَ الْعذر، كعامي.
رد: اجْتِهَاده شَرط يُمكنهُ كَسَائِر الشُّرُوط فيؤخر
الْعِبَادَة.
وَفِي " التَّمْهِيد ": مثل الصَّلَاة يَفْعَله بِحَسبِهِ،
ثمَّ يُعِيد كعادم مَاء وتراب، ومحبوس بِموضع نجس.
(8/3993)
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يُعِيد كظاهر
مَذْهَبنَا فِي الأَصْل.
وكالعقليات لَا يُقَلّد فِيهَا من خشِي الْمَوْت.
قَالَه فِي " التَّمْهِيد "، وَكَذَا فِي " الْوَاضِح " مَعَ
ضيق الْوَقْت.
وَقَالَ فِي " الْفُصُول ": لَا يُقَلّد إِلَّا فِي
التَّوْحِيد، مَعَ ضيقه، والعامي يلْزمه التَّقْلِيد مُطلقًا.
(8/3994)
(قَوْله: {فصل} )
{يجوز أَن يُقَال لنَبِيّ ومجتهد: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ
صَوَاب، وَيكون مدْركا شَرْعِيًّا، وَيُسمى التَّفْوِيض عِنْد
الْأَكْثَر، وَتردد الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، فَقَالَ
أَبُو الْمَعَالِي فِي الْجَوَاز وَالْأَكْثَر فِي الْوُقُوع،
وَقَالَ السَّمْعَانِيّ، وَابْن حمدَان: للنَّبِي فَقَط،
وَمنعه فيهمَا السَّرخسِيّ، وَأَبُو الْخطاب، وَهَذَا أشبه
بِالْمذهبِ، فعلى الأول لم يَقع فِي الْأَصَح} .
اعْلَم أَن طَرِيق معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِمَّا
التَّبْلِيغ عَن الله تَعَالَى بِإِخْبَار رسله عَنهُ بهَا،
وَهُوَ مَا سبق من كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا تفرع عَن ذَلِك من
إِجْمَاع أَو قِيَاس وَغَيرهمَا من الاستدلالات، وطرقها
بِالِاجْتِهَادِ وَلَو من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَمَا سبق آنِفا.
وَإِمَّا أَن يكون طَرِيق معرفَة الحكم التَّفْوِيض إِلَى
رَأْي نَبِي أَو عَالم فَيجوز أَن يُقَال لنَبِيّ، أَو لمجتهد
غير نَبِي: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب عِنْد
(8/3995)
بَعضهم، وَيُؤْخَذ من كَلَام القَاضِي،
وَابْن عقيل، وصرحا بِجَوَازِهِ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَهُ الشَّافِعِي، وَأكْثر
أَصْحَابه، وَجُمْهُور أهل الحَدِيث، فَيكون حكمه من جملَة
المدارك الشَّرْعِيَّة، فَإِذا قَالَ: هَذَا حَلَال، عرفنَا
أَن الله تَعَالَى فِي الْأَزَل حكم بحله، أَو هَذَا حرَام،
أَو نَحْو ذَلِك، لَا أَنه ينشيء الحكم؛ لِأَن ذَلِك من
خَصَائِص الربوبية.
قَالَ ابْن الْحَاجِب وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح: وَتردد
الشَّافِعِي، أَي: فِي جَوَازه، كَمَا قَالَه إِمَام
الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: الْجُمْهُور فِي وُقُوعه،
(8/3996)
وَلكنه قَاطع بِجَوَازِهِ.
وَالْمَنْع إِنَّمَا هُوَ مَنْقُول عَن جُمْهُور
الْمُعْتَزلَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمِنْه السَّرخسِيّ وَجَمَاعَة من
الْمُعْتَزلَة، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَذكره عَن أَكثر
الْفُقَهَاء، وَأَنه أشبه بمذهبنا: الْحق عَلَيْهِ أَمارَة
فَكيف تحكم بِغَيْر طلبَهَا.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: أَن ذَلِك يجوز فِي النَّبِي
دون الْعَالم، وَاخْتَارَهُ ابْن حمدَان، وَابْن
السَّمْعَانِيّ.
قَالَ: وَذكر الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة " مَا يدل عَلَيْهِ.
ثمَّ اخْتلف فِي وُقُوعه:
فَقَالَ ابْن الْحَاجِب: الْمُخْتَار أَنه لم يَقع، وتبعناه
فِي ذَلِك.
(8/3997)
الْقَائِل بِالْأولِ اسْتدلَّ: بِأَن الله
تَعَالَى قَادر عَلَيْهِ فَجَاز كالوحي وَلَا مَانع، الأَصْل
عَدمه.
وَاسْتدلَّ بتخييره فِي الْكَفَّارَة، والعامي فِي
الْمُجْتَهدين.
رد: لَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصّ هُنَا بمجتهد الْقَائِل
بِأَنَّهُ وَقع.
احْتج القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا: بقوله تَعَالَى:
{إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} [آل عمرَان: 93] ؛
لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يحرم على نَفسه إِلَّا بتفويض الله
تَعَالَى لأمر إِلَيْهِ، لَا أَنه بإبلاغه ذَلِك الحكم؛ لِأَن
الْمحرم يكون هُوَ الله تَعَالَى.
رد: مُحْتَمل وللمفسرين قَولَانِ، هَل بِاجْتِهَاد، أَو بِإِذن
الله تَعَالَى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " قلت: وعَلى كل حَال فالمحرم هُوَ الله
تَعَالَى، فالاحتمال قَائِم وَلَا دَلِيل فِيهِ لذَلِك "
انْتهى.
وَأَيْضًا: فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن بلد مَكَّة:: " لَا
يخْتَلى خلاه، فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله إِلَّا
الْإِذْخر فَإِنَّهُ لغنمهم وَبُيُوتهمْ، فَقَالَ: إِلَّا
الْإِذْخر ".
رد: لَيْسَ الْإِذْخر من الْخَلَاء فإباحته بالاستصحاب
واستثناؤه تَأْكِيد
(8/3998)
وَهُوَ من الْخَلَاء واستثناؤه لفهم ذَلِك،
أَو أَرَادَهُ وَنسخ بِوَحْي سَرِيعا، أَو أَرَادَ استثناءه
فسبقه السَّائِل.
وَأَيْضًا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " لَوْلَا أَن أشق على
أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة ".
وَفِي مُسلم: " فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا، فَقَالَ رجل: أكل
عَام، فَقَالَ: لَو قلت: نعم لَوَجَبَتْ، وَلما اسْتَطَعْتُم
".
رد: يجوز أَن الله خَيره فِي ذَلِك بِعَيْنِه، وَيجوز أَن
قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بِوَحْي.
الْقَائِل بِالْمَنْعِ: وضعت الشَّرِيعَة لمصْلحَة العَبْد
وَهُوَ يجهلها، وَقد يخْتَار الْمضرَّة، ثمَّ: يمْتَنع دوَام
اخْتِيَاره الصّلاح كأفعال كَثِيرَة محكمَة بِلَا علم.
ثمَّ يلْزم الْعَاميّ.
رد: الأول مَبْنِيّ على رِعَايَة الْمصلحَة ثمَّ أمنا
الْمفْسدَة.
وَالثَّانِي مَمْنُوع، ثمَّ لَا مَانع فِي أَفعَال قَليلَة.
(8/3999)
قَوْله: {وَيجوز لعامي عقلا، وَفِي "
التَّمْهِيد " وَغَيره: لَا إِجْمَاعًا، القَاضِي: لَا يمْتَنع
فِي مُجْتَهد بِلَا اجْتِهَاد، وَفِي " التَّمْهِيد " يمْتَنع
إِجْمَاعًا، وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل: لَا يمْتَنع
قَوْله: أخبر فَإنَّك لَا تخبر إِلَّا بصواب، وَمنعه أَبُو
الْخطاب} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيجوز للعامي عقلا، أَي: يجوز أَن
يَقُول لَهُ: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ بمحال، قَالَه الْآمِدِيّ.
وَفِيه، وَفِي " التَّمْهِيد ": بِأَن مَنعه فِيهِ إِجْمَاع.
فَقيل: لفضل الْمُجْتَهد وإكرامه.
رد: اسْتَويَا هُنَا فِي الصَّوَاب.
وَقَالَ القَاضِي: لَا يمْتَنع فِي مُجْتَهد بِلَا اجْتِهَاد،
أَي: أَن يُقَال لَهُ: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب، من غير
أَن يجْتَهد لتخيير عَامي فِي تَقْلِيد من شَاءَ، والتخيير فِي
الْكَفَّارَة وَغَيرهَا.
وَفِي " التَّمْهِيد ": مَنعه بِلَا اجْتِهَاد إِجْمَاع.
وَأَيْضًا: كَمَا لَا يجوز أخبر فَإنَّك لَا تخبر إِلَّا
بصواب.
(8/4000)
رد: لَا يمْتَنع، قَالَه القَاضِي، وَابْن
عقيل.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": لَو جَازَ خرج كَون الْإِخْبَار
عَن الغيوب دَالَّة على ثُبُوت الْأَنْبِيَاء، وكلف تَصْدِيق
النَّبِي وَغَيره من غير علم بذلك.
كَذَا قَالَ، وَالْفرق بالمعجزة.
قَالُوا: كجعل وضع الشَّرِيعَة إِلَى النَّبِي.
رد: لَا يمْتَنع، قَالَه ابْن عقيل، وَغَيره.
قَالَ القَاضِي: إِن أمكنه بفكر وَرَأى أَن علمه الله مصلحَة
كحله لَهُ الْحل مَا شَاءَ أَن علمه لَا يخْتَار حَرَامًا) .
(8/4001)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر: نافي الحكم
عَلَيْهِ الدَّلِيل كمثبته، وَقيل: لَا كضرورين، وَقَالَ قوم:
عَلَيْهِ فِي حكم عَقْلِي لَا شَرْعِي، وَعَكسه عَنْهُم فِي "
الرَّوْضَة "} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (الثَّانِي للْحكم عَلَيْهِ دَلِيل عِنْد
أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَذكره فِي " التَّمْهِيد "،
عَن عَامَّة الْعلمَاء، وَابْن عقيل عَن محققي الْفُقَهَاء،
والأصوليين.
وَمنعه قوم مِنْهُم.
وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة: لَا.
(8/4002)
وَعند قوم [مِنْهُم] عَلَيْهِ فِي حكم
شَرْعِي، وَعَكسه عَنْهُم فِي " الرَّوْضَة ") .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَلَا يُطَالب النَّافِي لشَيْء
بِدَلِيل إِذا دلّ عَلَيْهِ ذَلِك النَّفْي أَمر ضَرُورِيّ.
أما إِذا لم يكن ضَرُورِيًّا فالأكثر على أَنه يُطَالب
بِدَلِيل مُطلقًا.
وَقيل: لَا مُطلقًا، ويعزى للظاهرية. لَكِن فِي " إحكام ابْن
حزم " أَنه يجب عَلَيْهِ الدَّلِيل لقَوْله تَعَالَى: {قل
هاتوا برهانكم} [الْبَقَرَة: 111] ، {وَأَن تَقولُوا على الله
مَا لَا تعلمُونَ} [الْأَعْرَاف: 33] .
وَثَالِثهَا: يجب فِي العقليات دون الشرعيات.
وَاسْتشْكل الْهِنْدِيّ جَرَيَان الْأَقْوَال على الْإِطْلَاق
" انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (لنا أَنه أثبت يَقِينا أَو ظنا
بنفيه فَلَزِمَهُ كمثبت؛ وَلِئَلَّا يعبر كل أحد عَن مَقْصُوده
بِنَفْي فَيَقُول: بدل: مُحدث: لَيْسَ بقديم.
(8/4003)
يَعْنِي: أَنه لَو أَتَى بِقِيَاس منطقي
فَقَالَ: الْعَالم متغير، وكل متغير مُحدث، فالعالم مُحدث،
فَلَو أبدل مُحدث فَقَالَ: الْعَالم متغير، وكل متغير لَيْسَ
بقديم، فالعالم لَيْسَ بقديم، وَلِأَنَّهُ كاتم للْعلم.
وَاحْتج فِي " التَّمْهِيد ": بِأَنَّهُ يلْزم من نفي قدم
الْأَجْسَام بِلَا خلاف، فَكَذَا غَيره.
وَاحْتج الْآمِدِيّ: بِأَنَّهُ يلْزم مدعي الوحدانية والقدم
إِجْمَاعًا، وحاصلها: نفي شريك وحدوث.
قَالُوا: لَو لزمَه لزم مُنكر مدعي النُّبُوَّة، وَصَلَاة
سادسة، ومنكر الدَّعْوَى، وَلَا يلْزمه إِجْمَاعًا.
رد: الدَّلِيل الِاسْتِصْحَاب مَعَ عدم رافعه.
قَالَ الْآمِدِيّ: قد يكْتَفى بِظُهُور دَلِيل عَن ذكره.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": دَلِيله قَوْله: لَو كنت نَبيا
لأيدك الله بالمعجزة فَلَا فرق.
وَذكر فِي الْأَخِيرَتَيْنِ الِاسْتِصْحَاب.
وَفِي " الْوَاضِح "، و " الرَّوْضَة ": الْيَمين دَلِيل.
وَأجَاب بَعضهم: بِأَنَّهُ مَانع يدْفع الدَّعْوَى لَا مُدع.
(8/4004)
ويستدل بِانْتِفَاء لَازم على انْتِفَاء
ملزوم، وبقياس شَرْعِي على نفي يَجْعَل جَامع وجود مَانع أَو
انْتِفَاء شَرط إِن جَازَ تَخْصِيص الْعلَّة) .
قَوْله: {إِذا حدثت مَسْأَلَة لَا قَول فِيهَا، سَاغَ
الِاجْتِهَاد فِيهَا، وَهُوَ أفضل، وَقيل التَّوَقُّف، وَقيل:
فِي الْأُصُول، اخْتَارَهُ ابْن حمدَان، وَالشَّيْخ، وَصَاحب "
الْحَاوِي "، وَقَالَ ابْن الْقيم قد يسن، أَو يجب عِنْد
الْحَاجة، وَحكي ابْن حمدَان وَغَيره: الْخلاف فِي الْجَوَاز
وَعَدَمه، وَأَوْمَأَ أَحْمد إِلَى الْمَنْع، وَفِي "
الْإِرْشَاد " وَغَيره: لَا بُد من جَوَاب} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (إِذا حدثت مَسْأَلَة لَا قَول فِيهَا
فللمجتهد الِاجْتِهَاد فِيهَا وَالْفَتْوَى وَالْحكم) .
وَهل هَذَا أفضل أم التَّوَقُّف؟ أم توقفه فِي الْأُصُول؟
فِيهِ أوجه لنا ذكرهَا ابْن حَامِد على مَا ذكره بَعضهم.
وَذكرهَا بَعضهم فِي الْجَوَاز وَمَعْنَاهُ كَلَام القَاضِي
أبي الْحُسَيْن فِي تَرْجَمَة ابْن حَامِد، وَذكر قَول أَحْمد:
من قَالَ: الْإِيمَان غير مَخْلُوق: ابتدع ويهجر.
(8/4005)
وَذكرهَا صَاحب " الرِّعَايَة ": وَأَن
أَحْمد أَوْمَأ إِلَى الْمَنْع لقَوْله للميموني: إياك أَن
تَتَكَلَّم فِي مَسْأَلَة لَيْسَ لَك فِيهَا إِمَام.
وَفِي خطْبَة " الْإِرْشَاد " لِابْنِ أبي مُوسَى وَغَيره: لَا
بُد من الْجَواب) انْتهى.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": لَيْسَ لَهُ أَن يُفْتِي فِي
شَيْء من مسَائِل الْكَلَام مفصلا، بل يمْنَع السَّائِل
وَسَائِر الْعَامَّة من الْخَوْض فِي ذَلِك أصلا.
وَقدمه فِي " مقنعه "، وَاخْتَارَهُ فِي " الرِّعَايَة ".
وَقدم ابْن مُفْلِح أَن مَحل الْخلاف فِي الْأَفْضَلِيَّة لَا
فِي الْجَوَاز وَعَدَمه.
(8/4006)
وَقَالَ فِي " أَعْلَام الموقعين " بعد أَن
حكى الْأَقْوَال: " وَالْحق التَّفْصِيل، وَأَن ذَلِك يجوز بل
يسْتَحبّ، وَيجب عِنْد الْحَاجة، وأهلية الْمُفْتِي
وَالْحَاكِم، فَإِن عدم الْأَمْرَانِ لم يجز، وَإِن وجد
أَحدهمَا احْتمل الْجَوَاز وَالْمَنْع، وَالْجَوَاز عِنْد
الْحَاجة دون عدمهَا " انْتهى.
(8/4007)
فارغة
(8/4008)
|