(8/4010)
(قَوْله: {بَاب التَّقْلِيد} )
{لُغَة: وضع الشَّيْء فِي الْعُنُق محيطا بِهِ، وَعرفا: أَخذ
مَذْهَب الْغَيْر بِلَا معرفَة دَلِيله، وَقيل: بِلَا حجَّة
ملزمة} .
لما فَرغْنَا من الِاجْتِهَاد ومباحثه شرعنا فِي مُقَابِله،
وَهُوَ التَّقْلِيد وَأَحْكَامه.
التَّقْلِيد فِي اللُّغَة: جعل الشَّيْء فِي الْعُنُق من
دَابَّة وَغَيرهَا محيطا بِهِ، وَهَذَا احْتِرَاز مِمَّا لم
يكن محيطا بالعنق، فَلَا يُسمى قلادة فِي عرف اللُّغَة وَلَا
غَيرهَا، وَالشَّيْء الْمُحِيط بِشَيْء يُسمى قلادة وَجَمعهَا
قلائد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا الْهَدْي وَلَا
القلائد} [الْمَائِدَة: 2] ، يَعْنِي: مَا يقلده الْهَدْي فِي
عُنُقه من النِّعَال وآذان الْقرب.
وَمَعْنَاهُ فِي الْعرف أَي: فِي عرف الْأُصُولِيِّينَ: أَخذ
مَذْهَب الْغَيْر بِلَا معرفَة دَلِيله.
(8/4011)
أَي: المستوجب لَهُ، أَي: الَّذِي
اقْتَضَاهُ وَأوجب القَوْل بِهِ.
ف (أَخذ) جنس وَالْمرَاد بِهِ اعْتِقَاد ذَلِك، وَلَو لم يعْمل
بِهِ لفسق أَو لغيره.
وَقَوْلنَا: (مَذْهَب) يَشْمَل مَا كَانَ قولا لَهُ أَو فعلا،
فَهُوَ أحسن من التَّعْبِير بِأخذ القَوْل لقصوره عَن
الْفِعْل، إِلَّا أَن يُرَاد بالْقَوْل الرَّأْي فَيكون
شَامِلًا.
وَنسبَة الْمَذْهَب إِلَى الْغَيْر: يخرج بِهِ مَا كَانَ
مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ، وَلَا يخْتَص بِهِ ذَلِك
الْمُجْتَهد إِذا كَانَ من أَقْوَاله وأفعاله الَّتِي لَيْسَ
لَهُ فِيهَا اجْتِهَاد، فَإِنَّهَا لَا تسمى مذْهبه.
وَقَوْلنَا: (بِلَا معرفَة دَلِيله) يَشْمَل الْمُجْتَهد إِذا
لم يجْتَهد، وَلَا عرف الدَّلِيل، وجوزنا لَهُ التَّقْلِيد،
فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كالعامي فِي أَخذه بقول الْغَيْر من غير
معرفَة دَلِيله.
فَيخرج [عَنهُ] الْمُجْتَهد إِذا عرف الدَّلِيل وَوَافَقَ
اجْتِهَاده اجْتِهَاد آخر، فَلَا يُسمى تقليدا، كَمَا يُقَال:
أَخذ الشَّافِعِي بِمذهب مَالك فِي كَذَا، وَأخذ أَحْمد بِمذهب
الشَّافِعِي فِي كَذَا.
وَإِنَّمَا خرج ذَلِك؛ لِأَنَّهُ - وَإِن صدق عَلَيْهِ أَنه
أَخذ بقول الْغَيْر - لكنه مَعَ معرفَة دَلِيله حق الْمعرفَة،
فَمَا أَخذ حَقِيقَة إِلَّا من الدَّلِيل لَا من الْمُجْتَهد،
فَيكون إِطْلَاق الْأَخْذ بمذهبه فِيهِ تجوز.
وَعبر الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب بقولهمَا: (لغير حجَّة) ،
وَهُوَ يَقْتَضِي أَن
(8/4012)
أَخذ القَوْل مِمَّن قَوْله حجَّة لَا
يُسمى تقليدا، ومثلوا ذَلِك على هَذَا القَوْل: بِأخذ
الْعَاميّ بقول مثله، وَأخذ الْمُجْتَهد بقول مثله فِي حكم
شَرْعِي، قَالَه الْآمِدِيّ، وَغَيره، فالرجوع إِلَى النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِلَى الْمُفْتِي
وَإِلَى الْإِجْمَاع، وَالْقَاضِي إِلَى الْعُدُول لَيْسَ
بتقليد، وَلَو سمي تقليدا سَاغَ.
وَفِي " الْمقنع ": الْمَشْهُور أَن أَخذه بقول الْمُفْتِي
تَقْلِيد، وَهُوَ أظهر، وَقدمه فِي " آدَاب الْمُفْتِي " فِي
الْإِجْمَاع أَيْضا، وَقيل: وَالْقَاضِي.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": (التَّقْلِيد
قبُول القَوْل بِغَيْر دَلِيل، فَلَيْسَ الْمصير إِلَى
الْإِجْمَاع تقليدا؛ لِأَن الْإِجْمَاع دَلِيل، وَكَذَلِكَ
يقبل قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
وَلَا يُقَال: تقليدا بِخِلَاف فتيا الْفَقِيه.
وَذكر فِي ضمن مَسْأَلَة التَّقْلِيد: أَن الرُّجُوع إِلَى
قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بتقليد؛ لِأَنَّهُ حجَّة، وَقَالَ
فِيهَا: لما جَازَ تَقْلِيد الصَّحَابَة لزمَه ذَلِك، وَلم يجز
مُخَالفَته بِخِلَاف الأعلم، وَقد قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة
أبي الْحَارِث: " من قلد الْخَبَر رَجَوْت أَن يسلم إِن شَاءَ
الله تَعَالَى "، فقد أطلق اسْم التَّقْلِيد على من صَار إِلَى
الْخَبَر، وَإِن كَانَ حجَّة فِي نَفسه) انْتهى.
(8/4013)
وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: رُجُوع القَاضِي
إِلَى قَول الْبَيِّنَة لَا يُسمى تقليدا فِي أظهر
الِاحْتِمَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حجَّة شَرْعِيَّة وَجب فِي
الْعَمَل بهَا.
وَخَالف فِي ذَلِك [ابْن] الْقَاص، وشراحه كالقفال [فجعلوه] من
التَّقْلِيد، وَذكر الرُّجُوع إِلَى خبر الْوَاحِد فِي
حِكَايَة حَدِيث أَو إِجْمَاع، أَو فِي إِخْبَار عَن نَجَاسَة
إِنَاء، أَو دُخُول فِي وَقت، أَو عين الْقبْلَة، لَا يُسمى
تقليدا، وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ، وَصرح ابْن الْقَاص فِي "
التَّلْخِيص " بِأَنَّهُ يُسمى تقليدا، وَتَبعهُ شراحه على
ذَلِك، كالقفال وَغَيره.
(8/4014)
وحكاهما ابْن السَّمْعَانِيّ وَجْهَيْن.
وَلِهَذَا قَالَ ابْن الصّلاح: إِن التَّقْلِيد [قبُول] قَول
من يجوز عَلَيْهِ الِاحْتِرَاز من الْخَطَأ بِغَيْر الْحجَّة،
على غير مَا قبل قَوْله فِيهِ.
ليخرج: أَقْوَال النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - وَالْإِجْمَاع.
وَاحْترز بالنافي: عَن قبُول القَاضِي الْبَيِّنَة وَنَحْو
ذَلِك.
وَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ أرجح.
ومثلوا على قَول الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب ذَلِك: بِأخذ
الْعَاميّ والمجتهد بقول مثله كَمَا تقدم.
قَالَ الْعَضُد: " فَلَا يكون الرُّجُوع إِلَى الرَّسُول -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تقليدا، وَكَذَا إِلَى
الْإِجْمَاع، وَكَذَا رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي،
وَكَذَا رُجُوع القَاضِي إِلَى الْعُدُول فِي شَهَادَتهم؛
وَذَلِكَ لقِيَام الْحجَّة فِيهَا.
فَقَوْل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بالمعجز، وَالْإِجْمَاع بِمَا تقدم فِي حجيته، وَقَول
الشَّاهِد والمفتي بِالْإِجْمَاع.
(8/4015)
وَلَو سمي ذَلِك أَو بعض ذَلِك تقليدا -
كَمَا يُسمى فِي الْعرف - أَخذ الْمُقَلّد الْعَاميّ قَول
الْمُفْتِي تقليدا، فَلَا مشاحة فِي التَّسْمِيَة فِي
الِاصْطِلَاح " انْتهى.
وَلَو أفتى الْمُفْتِي الْعَاميّ بحادثة بِحكم.
فَذهب مُعظم الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنه مقلد لانطباق
تَعْرِيف التَّقْلِيد عَلَيْهِ.
وَذهب الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ": " إِلَى أَن الْمُخْتَار
أَنه لَيْسَ بتقليد أصلا، فَإِن قَول الْعَالم حجَّة فِي حق
المستفتي، نَصبه الله تَعَالَى علما فِي حق الْعَاميّ، وَأوجب
عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ كَمَا أوجب على الْمُجْتَهد الْعَمَل
بِاجْتِهَادِهِ، وَخرج من هَذَا أَنه لَا يتَصَوَّر تقليدا
مُبَاحا لَا فِي الْأُصُول وَلَا فِي الْفُرُوع.
ثمَّ قَالَ الباقلاني: إِنَّه لَو جَازَ تَسْمِيَة هَذَا
تقليدا لجَاز أَن يُسمى التَّمَسُّك بالنصوص وَغَيرهَا من
الدَّلَائِل تقليدا " انْتهى.
(8/4016)
(قَوْله: {فصل} )
{يحرم التَّقْلِيد فِي معرفَة الله تَعَالَى والتوحيد والرسالة
عِنْد أَحْمد وَالْأَكْثَر، وَأَجَازَهُ: جمع، قَالَ بَعضهم:
وَلَو بطرِيق فَاسد، وَقيل: يجب التَّقْلِيد فِيمَا لم يعلم
بالحس، وَحكي عَن أَحْمد وَبَعض أَصْحَابه، وَظَاهر خطْبَة
الْإِرْشَاد: جَوَازه، وَفِي " شرح الْمِنْهَاج " لمؤلفه عَن
الْفُقَهَاء: يجوز مُطلقًا، وَأطلق الْحلْوانِي وَغَيره منع
التَّقْلِيد فِي أصُول الدّين، وَقَالَهُ الْبَصْرِيّ والقرافي
فِي أصُول الْفِقْه أَيْضا} .
لَا يجوز التَّقْلِيد فِي معرفَة الله تَعَالَى والتوحيد
والرسالة، ذكره القَاضِي وَابْن عقيل، وَأَبُو الْخطاب، وَذكره
عَن عَامَّة الْعلمَاء، وَذكر
(8/4017)
غَيره أَنه قَول جُمْهُور الْعلمَاء.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يجوز، وَبِه قَالَ ابْن عبيد الله بن
الْحسن الْعَنْبَري وَغَيرهمَا، ويعزى للحشوية.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَأَجَازَهُ بعض الشَّافِعِيَّة لإِجْمَاع
السّلف على قبُول الشَّهَادَتَيْنِ من غير أَن يُقَال
لقائلهما: هَل نظرت؟ وسَمعه ابْن عقيل من أبي الْقَاسِم بن
التبَّان المعتزلي، وَأَنه يَكْفِي بطرِيق فَاسد.
قَالَ هَذَا المعتزلي: إِذا عرف الله وَصدق رسله، وَسكن قلبه
إِلَى ذَلِك،
(8/4018)
وَاطْمَأَنَّ بِهِ: فَلَا علينا من
الطَّرِيق: تقليدا كَانَ، أَو نظرا، أَو اسْتِدْلَالا، حَتَّى
إِن الطَّرِيق الْفَاسِد إِذا أَدَّاهُ إِلَى معرفَة الله
تَعَالَى كفى، فَلَو قَالَ: أَنا أعرف الله تَعَالَى من طَرِيق
أَنِّي دَعَوْت يَوْمًا فِي غَرَض لي فَكَانَ ذَلِك الْغَرَض،
وَمَا دَعَوْت سواهُ فدلني على إثْبَاته.
قَالَ ابْن عقيل: أوجب قوم من أهل الحَدِيث والظاهرية
التَّقْلِيد فِيمَا لم يعلم بالحس، وأبطلوا حجج الْعُقُول.
قَالَ الْغَزالِيّ فِي " المنخول ": (أثبت أَحْمد قِيَاس
الشَّرْع دون قِيَاس الْعقل، وَعكس دَاوُد.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": قيل يحرم
الْقيَاس النظري وَيجب الْقيَاس، قَالَه أَحْمد بن حَنْبَل
والمقتصدون من أَتْبَاعه، وَلَا يُنكرُونَ إفضاء النّظر إِلَى
الْعلم، بل ينهون عَن ملابسته.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": قَالَ ابْن عقيل:
الْقيَاس [الْعقلِيّ] حجَّة يجب الْعَمَل بِهِ، وَيجب النّظر
وَالِاسْتِدْلَال بِهِ بعد وُرُود الشَّرْع، وَلَا يجوز
التَّقْلِيد، وَقد نقل عَن أَحْمد الِاحْتِجَاج بدلائل
الْعُقُول، وَبِهَذَا قَالَ جمَاعَة الْفُقَهَاء والمتكلمين من
أهل الْإِثْبَات.
(8/4019)
وَذهب الْمُعْتَزلَة إِلَى وجوب النّظر
وَالِاسْتِدْلَال قبل الشَّرْع، وَلما ورد
(8/4020)
بِهِ كَانَ تَأْكِيدًا.
وَذهب قوم من أهل الحَدِيث، وَأهل الظَّاهِر إِلَى أَن حجج
الْعُقُول بَاطِلَة، وَالنَّظَر حرَام، والتقليد وَاجِب
انْتهى.
(8/4021)
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: " الْقيَاس
الْعقلِيّ وَالِاسْتِدْلَال طَرِيق لإِثْبَات الْأَحْكَام
الْعَقْلِيَّة، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَبِه قَالَ
عَامَّة الْعلمَاء ".
قلت: كَلَام أَحْمد فِي الِاحْتِجَاج بأدلة عقلية كثير، وَقد
ذكر كثيرا مِنْهَا فِي كِتَابه " الرَّد على الزَّنَادِقَة
والجهمية "، فمذهب أَحْمد: القَوْل بِالْقِيَاسِ الْعقلِيّ
والشرعي. انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاحْتج أَحْمد بحجج الْعُقُول وَعَامة
الْفُقَهَاء والأصوليين.
وَالْمَقْصُود أَن الْمَعْمُول بِهِ عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه
اسْتِعْمَال الْقيَاس الْعقلِيّ فِي الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة
كالقياس الشَّرْعِيّ، وَمَا نقل عَنهُ من إِنْكَاره فَهُوَ:
مَا قَالَه وَرجع عَنهُ، أَو لم يَصح عَنهُ وَالله أعلم.
(8/4022)
وَظَاهر خطْبَة إرشاد ابْن أبي مُوسَى:
جَوَازه.
وَفِي " شرح الْمِنْهَاج " لمؤلفه عَن الْفُقَهَاء: يجوز
مُطلقًا؛ " لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم
يسْأَل أحدا أسلم ".
نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح.
وَأطلق الْحلْوانِي وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم: منع
التَّقْلِيد فِي أصُول الدّين، يَعْنِي فِي جَمِيع مَا
يتَعَلَّق بأصول الدّين.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي أَوَائِل كِتَابه: قَالَ
أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فِي " شرح الْعمد ": لَا يجوز
التَّقْلِيد فِي أصُول الْفِقْه، وَلَا يكون مُجْتَهد فِيهَا
(8/4023)
مصيبا والمخطيء فِيهَا [ملوم] كأصول الدّين
انْتهى.
وَقَالَهُ الْقَرَافِيّ.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول وَهُوَ الصَّحِيح: بأَمْره تَعَالَى
بالتدبر والتفكر وَالنَّظَر، وَفِي " صَحِيح ابْن حبَان ": "
لما نزل فِي آل عمرَان:: {إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم}
الْآيَات [آل عمرَان: 190 - 195] قَالَ: ويل لمن قرأهن وَلم
يتدبرهن ويل لَهُ ويل لَهُ ".
(8/4024)
وَالْإِجْمَاع على وجوب معرفَة الله
تَعَالَى وَلَا تحصل بتقليد، لجَوَاز كذب الْمخبر واستحالة
حُصُوله كمن قلد فِي حدث الْعَالم، وَكَمن قلد فِي قدمه.
وَلِأَن التَّقْلِيد لَو أَفَادَ علما إِمَّا بِالضَّرُورَةِ
وَهُوَ بَاطِل، وَإِمَّا بِالنّظرِ فيستلزم الدَّلِيل
وَالْأَصْل عَدمه، وَالْعلم يحصل بِالنّظرِ وَاحْتِمَال
الْخَطَأ لعدم تَمام مُرَاعَاة القانون الصَّحِيح.
وَلِأَنَّهُ ذمّ التَّقْلِيد بقوله: {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا
على أمة} [الزخرف: 22] ، وَهِي فِيمَا يطْلب الْعلم، فَلَا
يلْزم الْفُرُوع.
(8/4025)
وَلِأَنَّهُ يلْزم الشَّارِع لقَوْله
تَعَالَى: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} [مُحَمَّد:
19] ، فيلزمنا بقوله [فَاتَّبعُوهُ] .
قَالُوا: لَو وَجب لما " نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - عَن الْكَلَام فِي الْقدر " وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة صَالح
المري وَهُوَ ضَعِيف، وَرَوَاهُ أَحْمد
(8/4026)
وَابْن ماجة من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب
عَن أَبِيه عَن جده، وَفِيه: " مَا لكم تضربون كتاب الله بعضه
بِبَعْض، بِهَذَا هلك من كَانَ قبلكُمْ ".
(8/4027)
فَإِن صَحَّ نهى عَن جِدَال بباطل لقَوْله
تَعَالَى: {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} [النَّحْل: 125] .
أَو فِيمَا لَا يَنْبَغِي كَمَا فِي " صَحِيح مُسلم " " أَنه
سمع أصوات رجلَيْنِ اخْتلفَا فِي آيَة، فَغَضب فَقَالَ:
إِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ باختلافهم فِي الْكتاب ".
وَلِهَذَا روى ابْن ماجة وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ عَن أبي
هُرَيْرَة: " أَن مُشْركي قُرَيْش أَتَوا النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخاصمونه فِي الْقدر ".
قَالُوا: لَو كَانَ، فعله الصَّحَابَة وَنقل كالفروع.
رد: هُوَ كَذَلِك؛ لِئَلَّا يلْزم نسبتهم إِلَى الْجَهْل
وَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ غير ضَرُورِيّ، وَلم ينْقل لعدم
الْحَاجة. قَالُوا: لَو كَانَ أنْكرت على الْعَامَّة تَركه.
(8/4028)
رد: المُرَاد دَلِيل جملي، وَيحصل بأيسر
نظر لَا تَحْرِير دَلِيل وَلَا جَوَاب عَن شُبْهَة.
قَالُوا: النّظر مَظَنَّة وُقُوع فِي شُبْهَة وضلالة فَيحرم.
أُجِيب: يجوز أَن يسْتَند إِلَى كشف ومشاهدة.
رد: نمنعه طَرِيقا شَرْعِيًّا قبل الشَّرْع، وَسبق فِي
مَسْأَلَة التحسين: أَن النّظر لَا يتَوَقَّف على وُجُوبه
فَلَا دور.
قَوْله: {وَيحرم التَّقْلِيد أَيْضا فِي أَرْكَان الْإِسْلَام
الْخمس وَنَحْوهَا مِمَّا تَوَاتر واشتهر، وَحكي إِجْمَاعًا،
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ وَغَيره: يلْزمه وَيلْزم غير مُجْتَهد
التَّقْلِيد فِي غَيره عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة
وَالْأَكْثَر، وَمنعه قوم مَا لم يتَبَيَّن لَهُ صِحَة
اجْتِهَاده بدليله، وَقوم: فِيمَا يسوغ فِيهِ اجْتِهَاد،
وَقوم: فِي الْمسَائِل الظَّاهِرَة} .
تقدم فِي الاحترازات فِي حد التَّقْلِيد: أَن مَا يعلم من
الدّين بِالضَّرُورَةِ لَا يجوز التَّقْلِيد فِيهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " لَا يجوز للعامي التَّقْلِيد فِي
أَرْكَان الْإِسْلَام الْخمس،
(8/4029)
وَنَحْوهَا مِمَّا تَوَاتر واشتهر، ذكره
القَاضِي، وَذكره أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل إِجْمَاعًا لتساوي
النَّاس فِي طريقها، وَإِلَّا لزمَه سَاغَ فِيهِ اجْتِهَاد
أَولا، عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَالْأَكْثَر.
وَمنعه قوم من الْمُعْتَزلَة البغداديين مَا لم يتَبَيَّن لَهُ
صِحَة اجْتِهَاده بدليله.
(8/4030)
وَذكره ابْن برهَان عَن الجبائي، وَعنهُ
كَقَوْلِنَا.
وَمنعه أَبُو عَليّ الشَّافِعِي فِيمَا لَا يسوغ فِيهِ
اجْتِهَاد.
وَبَعْضهمْ فِي الْمسَائِل الظَّاهِرَة.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ لُزُومه فِي الْجَمِيع وَذكره عَن محققي
الْأُصُول " انْتهى.
(8/4031)
قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي "
الرَّوْضَة ": وَأما التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع فَهُوَ جَائِز
إِجْمَاعًا.
وَذهب بعض الْقَدَرِيَّة: إِلَى أَن الْعَامَّة يلْزمهُم
النّظر فِي الدَّلِيل فِي الْفُرُوع.
وَقَالَ الطوفي فِي مختصرها وَغَيره: " وَيجوز التَّقْلِيد فِي
الْفُرُوع إِجْمَاعًا خلافًا لبَعض الْقَدَرِيَّة ".
اسْتدلَّ لجَوَاز التَّقْلِيد فِي غير معرفَة الله تَعَالَى
والتوحيد، والرسالة، وأركان الْإِسْلَام الْخمس وَغَيرهَا
مِمَّا تَوَاتر واشتهر بقوله تَعَالَى: {فسئلوا أهل الذّكر إِن
كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] وَهُوَ عَام لتكرره
بِتَكَرُّر الشَّرْط، وَعلة الْأَمر بالسؤال الْجَهْل.
وَأَيْضًا: الْإِجْمَاع بِأَن الْعَوام يقلدون الْعلمَاء من
غير إبداء مُسْتَند من غير نَكِير.
وَأَيْضًا: يُؤَدِّي إِلَى خراب الدُّنْيَا بترك المعائش
والصنائع، وَلَا يلْزم التَّوْحِيد والرسالة ليسره وقلته،
وَدَلِيله الْعقل.
قَالُوا: ورد عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
طلب الْعلم فَرِيضَة على كل مُسلم ".
(8/4032)
فارغة
(8/4033)
رد: لم يَصح، ثمَّ طلبه الشَّرْعِيّ،
فتقليد الْمُفْتِي مِنْهُ، فَإِن الْعلم لَا يجب عِنْد أحد بل
النّظر.
(8/4034)
(قَوْله: {فصل} )
{لَهُ استفتاء من عرفه عَالما عدلا، وَلَو عبدا وَأُنْثَى
وأخرس بِإِشَارَة مفهومة وَكِتَابَة، أَو رَآهُ منتصبا مُعظما،
وَقَالَ ابْن عقيل والموفق وَجمع: يَكْفِيهِ قَول عدل خَبِير،
والباقلاني: عَدْلَيْنِ، وَقيل: يعْتَمد على قَوْله: أَنا أهل
لَهُ، وَاعْتبر الشَّيْخ وَابْن الصّلاح الاستفاضة، لَا
مُجَرّد اعتزائه إِلَى الْعلم، وَلَو بِمنْصب تدريس أَو غَيره،
والطوفي يُقَلّد من علمه أَو ظَنّه أَهلا بطرِيق مَا
اتِّفَاقًا} .
يجوز للعامي استفتاء من عرفه عَالما عدلا، أَو رَآهُ منتصبا
مُعظما؛ لِأَنَّهُ إِذا عرف أَنه عَالم عدل كفى فِي جَوَاز
استفتائه؛ لِأَن الْمَقْصُود من
(8/4035)
الاستفتاء سَوَاء الْعَالم الْعدْل،
وَهَذَا كَذَلِك، وَيَأْتِي حكم المستور وَالْفَاسِق فِي
فتياهما.
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ منتصبا للفتيا والتدريس مُعظما، فَإِن
كَونه كَذَلِك يدل على علمه وَأَنه أهل للاستفتاء، وَلَا يجوز
الاستفتاء فِي هَذِه عِنْد الْعلمَاء، وَذكره الْآمِدِيّ
اتِّفَاقًا، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفسه.
وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِخْبَار فَقَالَ الْمُوفق فِي "
الرَّوْضَة " وَغَيره: يَكْفِيهِ قَول عدل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَمرَاده خَبِير "، وَهُوَ كَذَلِك
وَإِلَّا لم يحصل الْمَقْصُود.
وَكَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: يقبل فِي معرفَة
أَهْلِيَّته عدل وَاحِد.
قَالَ النَّوَوِيّ: " وَهُوَ مَحْمُول على من عِنْده معرفَة
يتَمَيَّز بهَا التلبيس من غَيره، وَلَا يقبل فِي ذَلِك خبر
آحَاد الْعَامَّة لِكَثْرَة مَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ من التلبيس
فِي ذَلِك ".
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني: لَا بُد من ثقتين.
(8/4036)
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: يعْتَمد على
قَوْله أَنا أهل للْفَتْوَى لإِفَادَة التَّوَاتُر فِي
المحسوس، واشتهار مَا لَا أصل لَهُ.
وَاعْتبر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن الصّلاح: الاستفاضة
بِأَنَّهُ أهل للفتيا، وَهُوَ الرَّاجِح فِي " رَوْضَة
النَّوَوِيّ "، وَنَقله عَن أَصْحَابهم.
فَلَا يَكْتَفِي بِوَاحِد وَلَا بِاثْنَيْنِ وَلَا مُجَرّد
اعتزائه إِلَى الْعلم، وَلَو بِمنْصب تدريس أَو غَيره.
(8/4037)
وَمرَاده فِي زَمَانه، بل هُوَ فِي هَذِه
الْأَزْمِنَة أولى؛ لِأَن الدخيل قد دخل على الْفَقِيه
والمدرسين.
قَالَ ابْن عقيل: يجب سُؤال أهل الثِّقَة والخبرة عَنهُ؛
لِأَنَّهُ لَا يجوز الرُّجُوع إِلَى غَيره إِلَّا بعد علمه
بِأَنَّهُ أهل بِدَلِيل النَّبِي وَالْحَاكِم والمقوم والمخبر
بِعَيْب.
ثمَّ قَالَ: يَكْفِي خبر وَاحِد كَحكم شَرْعِي.
وَقَالَ الطوفي: " يُقَلّد من علمه أَو ظَنّه أَهلا بطرِيق مَا
اتِّفَاقًا "، وَهُوَ معنى القَوْل الأول فِي الْمَسْأَلَة.
وَذكر ابْن عقيل عَن قَول: لَا يلْزمه فَيسْأَل من شَاءَ.
وَهَذَا خطأ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {فسئلوا أهل الذّكر
إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] .
وروى عَن الشِّيعَة: منع تَقْلِيد غير الْمَعْصُوم، وَهُوَ
مُقَابل لما قبله.
(8/4038)
قَالَ ابْن مُفْلِح: وهما باطلان، وَحَيْثُ
قُلْنَا بِالْقبُولِ فَإِنَّهُ يقبل من العَبْد وَالْأُنْثَى
والأخرس، إِمَّا بِإِشَارَة مفهومة أَو كِتَابَة؛ لأَنهم
كغيرهم فِي ذَلِك.
قَوْله: {وَيمْنَع عندنَا وَعند الْأَكْثَرين من لم يعرف
بِعلم، أَو جهل حَاله، وَيلْزم ولي الْأَمر مَنعه، قَالَ
ربيعَة: بعض من يُفْتِي أَحَق بالسجن من السراق} .
يمْنَع عندنَا وَعند أَكثر الْعلمَاء من الْفَتْوَى من لم يعرف
[بِأَنَّهُ] عَالم أَو جهل حَاله؛ لِأَن الأَصْل وَالظَّاهِر
الْجَهْل، فَالظَّاهِر أَنه مِنْهُ، وَلَا يلْزم الْجَهْل
بِالْعَدَالَةِ لأَنا نمنعه. ونقول: لَا يقبل من جهلت
عَدَالَته.
ثمَّ سلمه فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي، وَغَيرهمَا؛ لِأَن
الْغَالِب عَدَالَة الْعلمَاء.
(8/4039)
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "
وَغَيره: من عرف علم الِاجْتِهَاد، وَكَانَ عدلا لزمَه
الِاجْتِهَاد، وَجَاز لَهُ أَن يُفْتِي.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": صفة من يسوغ فتواه:
الْعَدَالَة.
وَكَذَا أطلق بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يلْزم ولي الْأَمر
منع من لَيْسَ أَهلا، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِي، وَغَيره: لَا
يَنْبَغِي أَن يُفْتِي إِلَّا من كَانَ كَذَلِك.
وَقَالَ ربيعَة: بعض من يُفْتِي أَحَق بالسجن من السراق.
(8/4040)
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " الْعَدَالَة
شَرط لجَوَاز اعْتِمَاد قَوْله ".
وَمَعْنَاهُ للْقَاضِي فِي " الْعدة ".
فَقَالَ: فِي " الْمُغنِي ": إِن من شهد مَعَ ظُهُور فسقه لم
يُعَزّر؛ لِأَنَّهُ لَا يمْنَع صدقه.
وَكَلَامه هُوَ وَغَيره يدل على أَنه لَا يحرم أَدَاء فَاسق
مُطلقًا.
قَوْله: {ويفتي فَاسق نَفسه عِنْد أَصْحَابنَا
وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم، وَاخْتَارَ ابْن الْقيم وَغَيره:
وَلغيره مَا لم يكن مُعْلنا أَو دَاعِيَة} .
الصَّحِيح أَن الْفَاسِق لَا تتعدى فتياه إِلَى غَيره، بل
يُفْتِي نَفسه فَقَط، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَمذهب
الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بأمين على مَا
يَقُول.
(8/4041)
وَقَالَ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام
الموقعين ": " قلت: الصَّوَاب جَوَاز استفتاء الْفَاسِق،
إِلَّا أَن يكون مُعْلنا بِفِسْقِهِ دَاعيا إِلَى مذْهبه،
فَحكم استفتائه حكم إِمَامَته وشهادته " انْتهى.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَغَيره: وَلَا تشْتَرط
عَدَالَته فِي اجْتِهَاده، بل فِي قبُول فتياه وَخَبره،
وَهَذَا مُوَافق لقَوْل الْأَصْحَاب.
قَوْله: {وَلَا تصح من مَسْتُور الْحَال عِنْد أَكثر
أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَقيل: بلَى، وَهُوَ أظهر، وَقَالَ
الْمَاوَرْدِيّ: لَا يُفْتِي على عدوه كَالْحكمِ عَلَيْهِ} .
لَا تصح الْفَتْوَى وَلَا تقبل من مَسْتُور الْحَال، بل لَا
بُد أَن يكون عدلا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر
الْأَصْحَاب، وَقدمه فِي " الْفُرُوع "، وَغَيره، كَمَا لَا
تقبل رِوَايَته.
(8/4042)
وَقيل: تصح، وَهَذَا أظهر، وَعمل النَّاس
عَلَيْهِ لَا سِيمَا فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، وَقدمه فِي "
آدَاب الْمُفْتِي "، وَصَححهُ فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "،
وَاخْتَارَهُ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين ".
وَقيل: تصح إِن اكتفينا بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَة، وَإِلَّا
فَلَا.
وَالصَّحِيح أَن الْفتيا تصح من الْعَدو قدمه فِي " الْفُرُوع
" فِي بَاب أدب القَاضِي، و " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، و "
آدَاب الْمُفْتِي "، وَغَيرهم.
وَقيل: لَا يُفْتِي عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ الْمَاوَرْدِيّ
كَالْحكمِ وَالشَّهَادَة عَلَيْهِ.
قَوْله: {ويفتي حَاكم} .
(8/4043)
هَذَا الصَّحِيح وَأَنه كَغَيْرِهِ فِيهَا.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا قولا: لَا يُفْتِي الْحَاكِم.
وَقد قَالَ القَاضِي شُرَيْح: " أَنا أَقْْضِي وَلَا أُفْتِي
".
وَقيل: يُفْتِي فِيمَا لَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ:
كالطهارة، وَالصَّلَاة، وَنَحْوهمَا، وَلَا يُفْتِي فِيمَا
يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ يصير كَالْحكمِ مِنْهُ
على الْخصم، فَلَا يُمكن نقضه وَقت المحاكمة إِذا ترجح عِنْده
ضِدّه بقول خَصمه أَو حجَّته أَو قَرَائِن حَالهمَا.
وَكَرِهَهُ ابْن الْمُنْذر فِيمَا يتَعَلَّق بالحكم.
(8/4044)
إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح أَن فتيا
الْحَاكِم لَيست بِحكم.
قَالَ فِي " أَعْلَام الموقعين ": " فتيا الْحَاكِم لَيست حكما
مِنْهُ، فَلَو حكم غَيره بِغَيْر مَا أفتى لم يكن نقضا لحكمه،
وَلَا هِيَ كَالْحكمِ، وَلِهَذَا يجوز أَن يُفْتِي الْحَاضِر
وَالْغَائِب وَمن يجوز حكمه لَهُ وَمن لَا يجوز " انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي فِي " التَّعْلِيق "، وَالْمجد فِي " محرره
"، وَمن تَبِعَهُمْ: فعل الْحَاكِم حكم إِن حكم بِهِ أَو غَيره
وفَاقا كفتياه.
فَجعلَا الْفتيا حكما إِن حكم بِهِ هُوَ أَو غَيره.
قَوْله: {وَلَا يُفْتِي فِي حَال لَا يحكم فِيهَا كغضب
وَنَحْوه، وَظَاهره يحرم كَالْحكمِ، وَفِي " الرِّعَايَة ":
إِن أصَاب صَحَّ وَكره، وَقيل لَا يَصح} .
الَّذِي يظْهر أَن حكم الْمُفْتِي حكم القَاضِي فِي ذَلِك،
وَالصَّحِيح التَّحْرِيم فِي القَاضِي وَكَذَا فِي الْمُفْتِي،
وَالصَّحِيح أَن حكم الْحَاكِم الْمُوَافق للحق ينفذ وَيصِح،
فَكَذَلِك فِي الْفتيا.
(8/4045)
وَمثل الْغَضَب: إِذا كَانَ حاقنا، أَو
حاقبا، أَو بِهِ ريح محتشية، أَو فِي شدَّة مرض، أَو خوف، أَو
فَرح غَالب، أَو ملل، أَو كسل، وَشدَّة جوع وعطش، وهم، ووجع،
ونعاس، وَبرد مؤلم، وحر مزعج، ومرادهم بِالْغَضَبِ: الْغَضَب
الْكثير وَكَذَا غَيره.
قَوْله: {وَله أَخذ رزق من بَيت المَال، وَإِن تعين أَن
يُفْتِي وَله كِفَايَة لم يَأْخُذهُ، وَقيل: بلَى كعادمها فِي
الْأَصَح، وَمن أَخذ مِنْهُ لم يَأْخُذ وَإِلَّا أَخذ أُجْرَة
خطه، وَقيل: بلَى، وَإِن جعل لَهُ أهل بلد رزقا ليتفرغ لَهُم
جَازَ فِي الْأَصَح} .
للمفتي أَخذ الرزق من بَيت المَال؛ لِأَن لَهُ فِيهِ حَقًا على
الْفتيا، فَجَاز لَهُ أَخذ حَقه.
وَإِن تعين أَن يُفْتِي لعدم غَيره فَلهُ حالتان:
(8/4046)
إِحْدَاهمَا: أَن يكون لَهُ كِفَايَة،
فَهَل لَهُ أَن يَأْخُذ إِذا لم يكن لَهُ شَيْء من بَيت المَال
أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِك، وَهُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ فِي
" أَعْلَام الموقعين "، وَهُوَ الْمُخْتَار.
وَالْوَجْه الثَّانِي: لَهُ الْأَخْذ.
وَأطلقهُمَا فِي " الرِّعَايَة "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، و "
أصُول ابْن مُفْلِح " و " فروعه ".
وَالْحَالة الثَّانِيَة: أَن لَا يكون لَهُ كِفَايَة لَا من
مَاله وَلَا من بَيت المَال، فَهَذَا إِذا قَالَ: لَا أَقْْضِي
بَيْنكُمَا إِلَّا بِجعْل جَازَ لَهُ الْأَخْذ على الصَّحِيح؛
لِأَنَّهُ إِن لم يَأْخُذ أفْضى إِلَى ضَرَر يلْحقهُ فِي
عائلته - إِن كَانُوا - وحرج، وَهُوَ منفي شرعا، وَإِن لم يفت
حصل أَيْضا للمستفتى ضَرَر، فَتعين الْجَوَاز، وَقدمه ابْن
مُفْلِح فِي " فروعه ".
قَالَ فِي " الْكَافِي ": " وَإِذا قُلْنَا بِجَوَاز أَخذ
الرزق فَلم يحصل لَهُ شَيْء فَقَالَ: لَا أَقْْضِي بَيْنكُم
إِلَّا بِجعْل: جَازَ ".
وَقَالَ فِي " الْمُغنِي "، و " الشَّرْح ": " فَإِن لم يكن
للْقَاضِي رزق فَقَالَ:
(8/4047)
لَا أَقْْضِي بَيْنكُمَا حَتَّى تجعلا لي
جعلا: جَازَ، وَيحْتَمل أَن لَا يجوز " انْتهى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الْأَخْذ.
قلت: وَهُوَ ضَعِيف، وَهُوَ احْتِمَال فِي " الْمُغنِي "،
وَاخْتَارَهُ فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، وَالنّظم.
وَمن أَخذ من بَيت المَال لم يَأْخُذ فِي الْحَالَتَيْنِ،
لَكِن هَل لَهُ أَخذ أُجْرَة خطه أم لَا؟ فِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: يجوز، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ هُنَا تبعا لِابْنِ
مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
وَالْوَجْه الثَّانِي: لَا يجوز لَهُ الْأَخْذ، وَاخْتَارَهُ
فِي " أَعْلَام الموقعين ".
وَإِن جعل لَهُ أهل بلد رزقا ليتفرغ لَهُم جَازَ على
الصَّحِيح، كالمسألة الَّتِي قبلهَا.
(8/4048)
لَكِن ظَاهر هَذَا: وَلَو كَانَ لَهُ
كِفَايَة وَمَا يقوم بِهِ، فيشكل، أَو يُقَال: يفهم من قَوْله:
ليتفرغ لَهُم، أَنه كَانَ مَشْغُولًا بِمَا يقوم بالعيال،
وَهُوَ الظَّاهِر.
وَقيل: لَا يجوز لَهُ ذَلِك، وَمَال إِلَيْهِ فِي "
الرِّعَايَة "، وَاخْتَارَهُ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ".
قَوْله: {وَله قبُول الْهَدِيَّة، وَعنهُ: لَا، إِلَّا أَن
يكافيء، قَالَ أَحْمد: لَا يَنْبَغِي أَن يُفْتِي حَتَّى تكون
لَهُ نِيَّة ووقار وسكينة، قَوِيا على مَا هُوَ فِيهِ ومعرفته،
والكفاية، وَإِلَّا مضغه النَّاس، وَمَعْرِفَة النَّاس، قَالَ
ابْن عقيل: هَذِه الْخِصَال مُسْتَحبَّة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " وَله قبُول هَدِيَّة،
وَالْمرَاد لَا يفتيه بِمَا يُريدهُ وَإِلَّا حرمت، زَاد
بَعضهم: أَو لينفعه بجاهه أَو مَاله، وَفِيه نظر " انْتهى.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " وَله قبُول الْهَدِيَّة،
وَقيل: يحرم إِذا كَانَ رشوة على أَن يفتيه بِمَا يُرِيد.
قلت: أَو يكون لَهُ فِيهِ نفع من جاه أَو مَال فيفتيه لذَلِك
بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ
(8/4049)
غَيره مِمَّا لَا ينْتَفع بِهِ كنفع الأول
" انْتهى.
وَهُوَ مُرَاد ابْن مُفْلِح بقوله: وَفِيه نظر.
فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر من الْأَصْحَاب: جَوَاز قبُول
الْهَدِيَّة للمفتي.
وَنقل الْمَرْوذِيّ: " لَا يقبل الْهَدِيَّة إِلَّا أَن يكافيء
".
قَالَ أَحْمد: " الدُّنْيَا دَاء وَالسُّلْطَان [دَاء] ،
والعالم طبيبه، فَإِذا رَأَيْت الطَّبِيب يجر الدَّاء إِلَى
نَفسه فاحذره ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فِيهِ التحذير من استفتاء من يرغب فِي
مَال وَشرف بِلَا حَاجَة.
قَالَ أَحْمد: " لَا يَنْبَغِي أَن يُفْتِي إِلَّا أَن يكون
لَهُ نِيَّة، فَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة لم يكن عَلَيْهِ نور
وَلَا على كَلَامه نور، وحلم، ووقار، وسكينة، قَوِيا على مَا
هُوَ فِيهِ وعَلى مَعْرفَته، والكفاية وَإِلَّا مضغه النَّاس،
(8/4050)
وَمَعْرِفَة النَّاس ".
قَالَ ابْن عقيل: هَذِه الْخِصَال مُسْتَحبَّة، فيقصد
الْإِرْشَاد وَإِظْهَار أَحْكَام الله لَا رِيَاء وَلَا سمعة،
والتنويه باسمه.
والسكينة وَالْوَقار: ترغب المستفتي، وهم وَرَثَة
الْأَنْبِيَاء فَيجب أَن يتخلقوا بأخلاقهم.
والكفاية: لِئَلَّا ينْسبهُ النَّاس إِلَى التكسب بِالْعلمِ
وَأخذ الْعِوَض عَلَيْهِ، فَيسْقط قَوْله.
وَمَعْرِفَة النَّاس: تحْتَمل حَال الرِّوَايَة وتحتمل حَال
المستفتين، فالفاجر لَا يسْتَحق الرُّخص، فَلَا يفتيه بالخلوة
بالمحارم مَعَ علمه بِأَنَّهُ يسكر،
(8/4051)
وَلَا يرخص لجند وقتنا لمعرفتنا لسفرهم،
والتسهيل على معتدات على صِفَات وقتنا؛ لِئَلَّا يضع
الْفَتْوَى فِي غير محلهَا.
وَكَذَا قَالَ والخصلة الأولى وَاجِبَة.
وَعَن عمرَان مَرْفُوعا: " وَإِن أخوف مَا أَخَاف على أمتِي:
كل مُنَافِق عليم اللِّسَان "، حَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد،
وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ:
(8/4052)
مَوْقُوفا أشبه.
وَعَن عمر قَالَ: " كُنَّا نتحدث إِنَّمَا يهْلك هَذِه الْأمة
كل مُنَافِق عليم اللِّسَان "، رَوَاهُ أَبُو يعلى، وَفِيه
مُؤَمل بن إِسْمَاعِيل، وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ.
(8/4053)
وَقَالَ معَاذ: " احذر زلَّة الْعَالم
وجدال الْمُنَافِق ".
(8/4054)
قَوْله: {وَمن عدم مفتيا فَلهُ حكم مَا قبل
الشَّرْع من إِبَاحَة، أَو حظر، أَو وقف} .
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " فَإِن لم يجد الْعَاميّ من
يسْأَله عَنْهَا فِي بَلَده وَلَا غَيره، فَقيل: لَهُ حكم مَا
قبل الشَّرْع، على الْخلاف فِي الْحَظْر، وَالْإِبَاحَة،
وَالْوَقْف، وَهُوَ أَقيس " انْتهى.
وَقطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
قَوْله: {وَيلْزم الْمُفْتِي تَكْرِير النّظر عِنْد تكْرَار
الْوَاقِعَة فِي الْأَصَح، وَلُزُوم السُّؤَال ثَانِيًا على
الْخلاف، وَعند أبي الْخطاب والآمدي: إِن ظن طَرِيق
الِاجْتِهَاد لم يلْزمه، وَإِلَّا لزمَه} .
(8/4055)
قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا
من الْأَصْحَاب: يلْزم الْمُفْتِي تَكْرِير النّظر عِنْد
تكْرَار الْوَاقِعَة.
قَالَ ابْن عقيل: وَإِن لم يُكَرر النّظر كَانَ مُقَلدًا
لنَفسِهِ لاحْتِمَال تغير اجْتِهَاده إِذا كرر، قَالَ:
وكالقبلة يجْتَهد لَهَا ثَانِيًا.
وَاعْترض: فَيجب تكريره أبدا.
رد: نعم، وَغلط بَعضهم فِيهِ.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا: لَا يلْزم؛ لِأَن الأَصْل بَقَاء مَا
اطلع عَلَيْهِ وَعدم غَيره.
وَلُزُوم السُّؤَال ثَانِيًا فِيهِ الْخلاف، فَلَا يَكْتَفِي
السَّائِل بِالْجَوَابِ الأول على الصَّحِيح كَمَا قُلْنَا فِي
تكَرر النّظر.
(8/4056)
وَعند أبي الْخطاب والآمدي: إِن ذكر
الْمُفْتِي طَرِيق الِاجْتِهَاد لم يلْزمه، وَإِلَّا لزمَه.
وَهُوَ ظَاهر.
وَقَالَ كثير من الْعلمَاء: للمسألة أَحْوَال: لِأَنَّهُ
إِمَّا أَن يَتَجَدَّد لَهُ مَا يَقْتَضِي رُجُوعه عَمَّا ظهر
لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الأول أَو لَا، وكل مِنْهُمَا إِمَّا
مَعَ كَونه ذَاكِرًا لدَلِيل ذَلِك الْمَاضِي أَو لَا.
الأول من الْأَرْبَعَة: أَن يَتَجَدَّد مَا يَقْتَضِي
الرُّجُوع، وَلكنه ذَاكر الدَّلِيل الأول، فَإِن كَانَ راجحا
على مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع عمل بِالْأولِ، وَلَا يُعِيد
الِاجْتِهَاد.
الثَّانِي: أَن لَا يكون ذَاكِرًا للدليل الأول فَيجب أَن
يُعِيد الِاجْتِهَاد قطعا، قَالَه الشَّافِعِيَّة، لِأَنَّهُ
لَا ثِقَة بِبَقَاء الظَّن، وَإِن كَانَ الأصوليون حكوا فِيهِ
قولا بِالْمَنْعِ، بِنَاء على أَن الظَّن السَّابِق قوي
فَيعْمل بِهِ؛ لِأَن الأَصْل عدم رُجْحَان غَيره عَلَيْهِ.
(8/4057)
الثَّالِث: أَن لَا يَتَجَدَّد لَهُ مَا
يَقْتَضِي رُجُوعه، وَهُوَ ذَاكر الدَّلِيل الأول، فَلَا
يلْزمه أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد قطعا.
الرَّابِع: أَن يَتَجَدَّد مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع وَلَا هُوَ
ذَاكر للدليل الأول، فَهَذَا يلْزمه أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد
ثَانِيًا، فَإِن وَافق مُقْتَضَاهُ الأول فَظَاهر، وَإِن
خَالفه عمل بِالثَّانِي.
وَأما المستفتي إِذا أفتاه الْمُفْتِي بِحكم ثمَّ تَجَدَّدَتْ
الْوَاقِعَة، وَقُلْنَا إِن الْمُجْتَهد يُعِيد اجْتِهَاده،
يجب على السَّائِل أَن يُعِيد السُّؤَال؛ لِأَنَّهُ قد
يتَغَيَّر نظر الْمُفْتِي وَهَذَا الصَّحِيح، لَكِن مَحل
الْخلاف إِذا عرف المستفتي أَن جَوَاب الْمُفْتِي مُسْتَند
إِلَى الرَّأْي كالقياس أَو شكّ فِي ذَلِك، وَالْغَرَض أَن
الْمُقَلّد حَيّ، فَإِن عرف استناد الْجَواب إِلَى نَص أَو
إِجْمَاع فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَة السُّؤَال ثَانِيًا
قطعا، وَكَذَا لَو كَانَ الْمُقَلّد مَيتا.
(8/4058)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا وَعبد الْوَهَّاب وَجمع، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ
أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن برهَان: لَا يجوز خلو عصر عَن
مُجْتَهد، وَاخْتَارَهُ ابْن دَقِيق الْعِيد مَا لم يتداع
الزَّمَان بِنَقْض الْقَوَاعِد، وَقَالَ الْأَكْثَر: يجوز،
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن قَول أَصْحَابنَا: مَعَ
بَقَاء الْعلمَاء فَلَا اخْتِلَاف إِذا، وَاخْتَارَ التَّاج
السُّبْكِيّ: أَنه لم يَقع} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا يجوز خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد عِنْد
أَصْحَابنَا وَطَوَائِف.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: ذكره أَكثر من تكلم فِي الْأُصُول فِي
مسَائِل الْإِجْمَاع،
(8/4059)
وَلم يذكر ابْن عقيل خِلَافه إِلَّا عَن
بعض الْمُحدثين.
وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَجمع
مِنْهُم، وَمن غَيرهم.
(8/4060)
قَالَ الْكرْمَانِي فِي " شرح البُخَارِيّ
" فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا
تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين " إِلَى آخِره.
(قَالَ ابْن بطال: لِأَن أمته آخر الْأُمَم وَعَلَيْهَا تقوم
السَّاعَة، وَإِن ظَهرت أشراطها وَضعف الدّين فَلَا بُد أَن
يبْقى من أمته من يقوم بِهِ.
قَالَ: فَإِن قيل: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يَقُول أحد:
الله الله "، وَقَالَ - أَيْضا -: " لَا تقوم السَّاعَة إِلَّا
على شرار النَّاس ".
(8/4061)
قُلْنَا: هَذِه الْأَحَادِيث لَفظهَا على
الْعُمُوم، وَالْمرَاد مِنْهَا الْخُصُوص، فَمَعْنَاه: لَا
تقوم على أحد يوحد الله إِلَّا بِموضع كَذَا؛ إِذْ لَا يجوز
أَن تكون الطَّائِفَة الْقَائِمَة بِالْحَقِّ الَّتِي توَحد
الله إِلَّا بِموضع كَذَا، فَإِن بِهِ طَائِفَة قَائِمَة على
الْحق، وَلَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس بِموضع
كَذَا.
إِذْ لَا يجوز أَن تكون الطَّائِفَة الْقَائِمَة بِالْحَقِّ
الَّتِي توَحد الله هِيَ شرار الْخلق.
وَقد جَاءَ ذَلِك مُبينًا فِي حَدِيث أبي أُمَامَة
الْبَاهِلِيّ، أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق، لَا
يضرهم من خالفهم "، قيل: وَأَيْنَ هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ:
" بِبَيْت الْمُقَدّس، أَو أكناف بَيت الْمُقَدّس ") . انْتهى.
(8/4062)
فَاخْتَارَ مَا اخْتَارَهُ القَاضِي عبد
الْوَهَّاب.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَاخْتَارَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي "
شرح العنوان " مَذْهَب الْحَنَابِلَة، وَكَذَا فِي أول " شرح
الْإِلْمَام "، بل أَشَارَ إِلَى ذَلِك إِمَام
(8/4063)
الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَان "،
وَكَذَا ابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط "، لَكِن كَلَامهم
مُحْتَمل الْحمل على عمَارَة الْوُجُود بالعلماء لَا على
خُصُوص الْمُجْتَهدين) انْتهى.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (قَالَ فِي " شرح العنوان ":
الْمُخْتَار عدم خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد، لَكِن إِلَى
الْحَد الَّذِي تنْتَقض بِهِ الْقَوَاعِد بِسَبَب زَوَال
الدُّنْيَا فِي آخر الزَّمَان.
وَيُوَافِقهُ قَوْله فِي " شرح خطْبَة الْإِلْمَام ":
وَالْأَرْض لَا تَخْلُو من قَائِم لله بِالْحجَّةِ وَالْأمة
الشَّرِيفَة لَا بُد لَهَا من سالك [إِلَى الْحق] إِلَى أَن
يَأْتِي أَمر الله فِي أَشْرَاط السَّاعَة الْكُبْرَى وتتابع
بعده مَا لَا يبْقى مَعَه إِلَّا قدوم الْأُخْرَى) انْتهى.
(8/4064)
وَاخْتَارَ صَاحب " جمع الْجَوَامِع ":
جَوَاز ذَلِك إِلَّا أَنه لم يَقع.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يجوز خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد عِنْد
جمَاعَة، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَار؛ لِأَنَّهُ لَو امْتنع
لَكَانَ بِغَيْرِهِ، وَالْأَصْل عَدمه.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا
ينتزعه، وَلَكِن يقبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالم
اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا، فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم،
فضلوا وأضلوا ".
(8/4065)
اسْتدلَّ للْأولِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي
ظَاهِرين على الْحق ".
رد: الْخَبَر الأول أدل على الْمَقْصُود، وَلَو تَعَارضا سلم
الأول.
وَأَيْضًا: التفقه فرض كِفَايَة، فَفِي تَركه اتِّفَاق الْأَمر
على بَاطِل.
رد: مَنعه الْآمِدِيّ إِن أمكن تَقْلِيد الْعَصْر السَّابِق،
ثمَّ فرض عِنْد إِمْكَانه، فَإِذا مَاتَ الْعلمَاء لم يُمكن.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن هَذَا مُرَاد
أَصْحَابنَا وَغَيرهم، فَلَا اخْتِلَاف لقَوْله: " لَا تقوم
السَّاعَة حَتَّى لَا يبْقى فِي الأَرْض من يَقُول: الله الله
"، وَقَوله: " إِن الله يبْعَث ريحًا، فَلَا تدع أحدا فِي قلبه
مِثْقَال حَبَّة من إِيمَان إِلَّا قَبضته " رَوَاهُمَا مُسلم.
وَلأَحْمَد وَأبي دَاوُد عَن عمرَان مَرْفُوعا: " لَا تزَال
طَائِفَة من أمتِي يُقَاتلُون
(8/4066)
على الْحق، ظَاهِرين على من ناوأهم، حَتَّى
يُقَاتل آخِرهم الدَّجَّال ".
وَأما قَوْله فِي " التَّمْهِيد ": قَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَخْلُو عصر من حجَّة لله "،
وَذكره القَاضِي أَيْضا.
وَقَوله: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق
حَتَّى يردوا عَليّ " فَلَا يَصح.
(8/4067)
قَوْله: {قَالَ ابْن حمدَان وَالنَّوَوِيّ:
عدم الْمُجْتَهد الْمُطلق من زمن طَوِيل} .
قَالَ ابْن حمدَان: " وَمن زمن طَوِيل عدم الْمُجْتَهد
الْمُطلق، مَعَ أَنه الْآن أيسر مِنْهُ فِي الزَّمن الأول؛
لِأَن الحَدِيث وَالْفِقْه قد دونا، وَكَذَا مَا يتَعَلَّق
بِالِاجْتِهَادِ من الْآيَات، والْآثَار، وأصول الْفِقْه،
والعربية وَغير ذَلِك، لَكِن الهمم قَاصِرَة، والرغبات فاترة،
ونار الْجد والحذر خامدة، وَعين الخشية وَالْخَوْف جامدة،
اكْتِفَاء بالتقليد واستغناء من التَّعَب الوكيد، وهربا من
الأثقال وأربا، فِي تمشية الْحَال، وبلوغ الآمال وَلَو
بِأَقَلّ الْأَعْمَال ".
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب ": فقد الْآن
الْمُجْتَهد الْمُطلق وَمن دهر طَوِيل، نَقله عَنهُ ابْن
السُّيُوطِيّ فِي " شرح منظومته جمع الْجَوَامِع ".
(8/4068)
وَقَالَ الرَّافِعِيّ: (لِأَن النَّاس
الْيَوْم كالمجمعين أَن لَا مُجْتَهد الْيَوْم، نَقله
الأردبيلي فِي " الْأَنْوَار " فِي بَاب أدب الْقَضَاء) .
قَالَ ابْن مُفْلِح لما نقل كَلَامهمَا: وَفِيه نظر.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ وجد من الْمُجْتَهدين بعد ذَلِك
جمَاعَة، مِنْهُم: الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية،
وَنَحْوه، وَمِنْهُم: الشَّيْخ تَقِيّ الدّين
(8/4069)
السُّبْكِيّ، والبلقيني، قَالَه ابْن
الْعِرَاقِيّ.
قَوْله: {أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم لَا يُفْتِي إِلَّا
مُجْتَهد، وَمَعْنَاهُ عَن أَحْمد، وَجوزهُ فِي " التَّرْغِيب
وَالتَّلْخِيص " لمجتهد فِي مَذْهَب إِمَامه ضَرُورَة،
وَالْأَكْثَر: بلَى إِن كَانَ مطلعا على المأخذ أَهلا
للنَّظَر، والقفال: من حفظ مَذْهَب إِمَام أفتى، والجويني
يُفْتِي المتبحر فِيهِ، وَابْن حمدَان عِنْد عدم مُجْتَهد،
وَظَاهر كَلَام أَحْمد جَوَاز تَقْلِيد أهل الحَدِيث
وَلَعَلَّه للْحَاجة، وَظَاهر كَلَام ابْن شاقلا الْجَوَاز،
وَقَالَهُ ابْن بشار، وَاخْتَارَهُ فِي " الْإِيضَاح "، و "
الرِّعَايَة "، و " الْحَاوِي " كالحنفية، وَرجح فِي هَذِه
الْأَزْمِنَة، فَيكون مخبرا لَا مفتيا، ذكره أَبُو الْخطاب
وَابْن عقيل والموفق وَغَيرهم، فيخبر عَن معِين وَيعْمل
بِخَبَرِهِ لَا بفتياه، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ لَو عرف حكم
حَادِثَة بدليلها لم يفت فِي الْأَصَح، وَقيل: بلَى إِن كَانَ
من كتاب أَو سنة} .
(8/4070)
ذكر القَاضِي، وَأَصْحَابه، والموفق فِي "
الرَّوْضَة "، وَغَيرهم، بل جَمَاهِير الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ
أَبُو الْحُسَيْن، وَجَمَاعَة: لَا يجوز أَن يُفْتِي إِلَّا
مُجْتَهد.
قَالَ الْحَلِيمِيّ وَالرُّويَانِيّ من الشَّافِعِيَّة: لَا
يُفْتِي مقلد.
قَالَ القَاضِي: وَمَعْنَاهُ عَن أَحْمد، فَإِنَّهُ قَالَ: "
يَنْبَغِي للمفتي أَن يكون عَالما بِوُجُوه الْقُرْآن
والأسانيد الصَّحِيحَة وَالسّنَن "، وَقَالَ: " يَنْبَغِي أَن
يكون عَالما بقول من تقدم ".
(8/4071)
وَقَالَ أَيْضا: " لَا يجوز الِاخْتِيَار
إِلَّا لعام بِكِتَاب وَسنة ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: الِاخْتِيَار تَرْجِيح قَول، وَقد
يُفْتِي بالتقليد. انْتهى.
وَقَالَ صَاحب " التَّلْخِيص وَالتَّرْغِيب ": يجوز للمجتهد
فِي مَذْهَب إِمَامه لأجل الضَّرُورَة.
قَالَ فِي " التَّلْخِيص ": [عز] الْمُجْتَهد، والمقلد لَا
يَصح قَضَاؤُهُ، فَيبقى الْمُجْتَهد فِي مَذْهَب إِمَام ألجأت
الضَّرُورَة إِلَى الِاكْتِفَاء بِهِ وَقد عز.
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ للْإِجْمَاع على قبُوله، فَيدل أَنه
لَيْسَ كعامي، ولبعده عَن الْخَطَأ.
وَقَالَ أَكثر الْعلمَاء: يجوز لغير الْمُجْتَهد أَن يُفْتِي
إِن كَانَ مطلعا على المأخذ أَهلا للنَّظَر.
(8/4072)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " يجوز أَن يُفْتِي
بِمذهب الْمُجْتَهد من عرف مذْهبه، وَقَامَ بتفريع الْفِقْه
على أُصُوله، وَقدر على التَّرْجِيح فِي مَذْهَب ذَلِك
الْمُجْتَهد، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يصير كإفتاء الْمُجْتَهد
بِنَفسِهِ، فالمجتهد الْمُقدم فِي مَذْهَب إِمَامه وَهُوَ: من
يسْتَقلّ بتقرير مذْهبه، وَيعرف مآخذه من أدلته التفصيلية،
بِحَيْثُ لَو انْفَرد لقرره كَذَلِك، فَهَذَا يُفْتِي بذلك
لعلمه بالمأخذ، وَهَؤُلَاء أَصْحَاب الْوُجُوه.
ودونهم فِي الرُّتْبَة: أَن يكون فَقِيه النَّفس حَافِظًا
للْمَذْهَب قَادِرًا على التَّفْرِيع وَالتَّرْجِيح، فَهَل
لَهُ الْإِفْتَاء؟ بذلك أَقْوَال:
أَصَحهَا: يجوز.
وَالثَّانِي: الْمَنْع.
[وَالثَّالِث] : عِنْد عدم الْمُجْتَهد.
(8/4073)
ودونهم من يحفظ وَلَيْسَ قَادِرًا على
التَّفْرِيع وَالتَّرْجِيح، فَقيل: يجوز لَهُ الْإِفْتَاء؛
لِأَنَّهُ ناقل، [وَيَنْبَغِي] أَن يكون هَذَا [رَاجعا] لمحل
الضَّرُورَة، لَا سِيمَا فِي هَذِه الْأَزْمَان " انْتهى.
قَالَ الْقفال الْمروزِي من الشَّافِعِيَّة: من حفظ مَذْهَب
إِمَام أفتى بِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ: يُفْتِي المتبحر فِيهِ.
وَذكر الْمَاوَرْدِيّ مِنْهُم فِي عَامي عرف حكم حَادِثَة
بدليلها يُفْتِي، أَو إِن كَانَ من كتاب أَو سنة، أَو الْمَنْع
مُطلقًا وَهُوَ أصح، فِيهِ أوجه. انْتهى.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " فَمن أفتى
وَلَيْسَ على صفة من
(8/4074)
الصِّفَات الْمَذْكُورَة من غير ضَرُورَة:
فَهُوَ عَاص آثم ".
وَظَاهر كَلَام أَحْمد تَقْلِيد أهل الحَدِيث.
قَالَ القَاضِي: سَأَلَ عبد الله الإِمَام أَحْمد فِيمَن [فِي]
مصره أَصْحَاب رَأْي وَأَصْحَاب حَدِيث لَا يعْرفُونَ
الصَّحِيح، لمن يسْأَل؟ قَالَ: أَصْحَاب الحَدِيث.
قَالَ القَاضِي: فَظَاهره تقليدهم.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَلم يتأوله، وَظَاهره أَنه جعلهَا على
رِوَايَتَيْنِ، قَالَ: وَقد يُقَال للْحَاجة.
قلت: وَهَذَا أولى.
(8/4075)
وَقَالَ فِي " الْوَاضِح ": ظَاهر رِوَايَة
عبد الله أَن صَاحب الحَدِيث أَحَق بالفتيا، وَحملهَا على
أَنهم فُقَهَاء، أَو أَن السُّؤَال يرجع إِلَى الرِّوَايَة.
ثمَّ ذكر القَاضِي قَول أَحْمد: " لَا يكون فَقِيها حَتَّى
يحفظ أَرْبَعمِائَة ألف حَدِيث ".
وَحمله هُوَ وَغَيره على الْمُبَالغَة وَالِاحْتِيَاط.
(8/4076)
وَلِهَذَا قَالَ أَحْمد: " الْأُصُول
الَّتِي يَدُور عَلَيْهَا الْعلم عَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْبَغِي أَن تكون ألفا أَو
ألفا وَمِائَتَيْنِ ".
وَذكر القَاضِي أَن ابْن شاقلا اعْترض عَلَيْهِ بِهِ، فَقَالَ:
" إِن كنت لَا أحفظ، فَإِنِّي أُفْتِي بقول من يحفظ أَكثر
مِنْهُ ".
قَالَ القَاضِي: لَا يَقْتَضِي هَذَا أَنه كَانَ يُقَلّد
أَحْمد لمَنعه الْفتيا بِلَا علم.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: ظَاهره تَقْلِيده، إِلَّا أَن يحمل على
أَخذه طرق الْعلم مِنْهُ.
ثمَّ ذكر عَن ابْن بطة: " لَا يجوز أَن يُفْتِي بِمَا يسمع من
مفتي ".
(8/4077)
وروى عَن ابْن بشار: " مَا أعيب على رجل
حفظ لِأَحْمَد خمس مسَائِل، اسْتندَ إِلَى سَارِيَة الْمَسْجِد
يُفْتِي بهَا ".
قَالَ القَاضِي: هَذَا مِنْهُ مُبَالغَة فِي فَضله.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ صَرِيح بالإفتاء بتقليد أَحْمد،
قَالَ: فَصَارَ لِأَصْحَابِنَا فِيهَا قَولَانِ، قَالَ: فَإِن
لم يجز لحَاجَة مُطلقًا، وَإِلَّا فالأقوال ثَلَاثَة.
وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة: من لم يجوز إِلَّا تَوْلِيَة قَاض
مُجْتَهد، إِنَّمَا عَنى قبل اسْتِقْرَار هَذِه الْمذَاهب
وانحصار الْحق فيهم.
(8/4078)
وَقَالَ: الْمُجْتَهد الْيَوْم لَا
يتَصَوَّر اجْتِهَاده فِي هَذِه الْمسَائِل الَّتِي حررت فِي
الْمذَاهب؛ لِأَن الْمُتَقَدِّمين فرغوا مِنْهَا، فَلَا
يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَّا إِلَى أحدهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: جوز بعض الْعلمَاء الْإِفْتَاء بالتقليد.
وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن بشار كَمَا تقدم، وَاخْتَارَهُ أَبُو
الْفرج فِي " الْإِيضَاح "، وَصَاحب " الرِّعَايَة " و "
الْحَاوِي " من أَصْحَابنَا، كالحنفية؛ لِأَنَّهُ ناقل
كالراوي.
(8/4079)
رد: لَيْسَ إِذا مفتيا بل مخبر، ذكره
جمَاعَة مِنْهُم: أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، والموفق، وَزَاد
- وَمَعْنَاهُ لغيره - فَيحْتَاج بِخَبَر عَن معِين مُجْتَهد،
فَيعْمل بِخَبَرِهِ لَا بفتياه.
وَتقدم كَلَام الْمَاوَرْدِيّ، والقفال، وَرجح قَول
الْحَنَفِيَّة وَمن تَابعهمْ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، بل عمل
النَّاس الْمُفْتِينَ عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَله تَقْلِيد مفضول عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا،
وَالْأَكْثَر، وَقيل: إِن اعتقده فَاضلا أَو مُسَاوِيا، وَعند
ابْن عقيل، وَابْن سُرَيج، والقفال، والسمعاني: يلْزمه
الِاجْتِهَاد فَيقدم الْأَرْجَح، وَمَعْنَاهُ للخرقي وَغَيره،
وَلأَحْمَد: رِوَايَتَانِ} .
(8/4080)
الأول: قَول أَكثر أَصْحَابنَا مِنْهُم
القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَصَاحب " الرَّوْضَة "، وَقَالَهُ
الْحَنَفِيَّة والمالكية، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَهُ تَقْلِيده إِن اعتقده فَاضلا أَو
مُسَاوِيا، وَاخْتَارَهُ التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي،
وَجمع.
(8/4081)
وَوَجهه: أَنه إِذا اعتقده مفضولا فَقَوله
عِنْده مَرْجُوح، وَلَيْسَ من الْقَوَاعِد أَن يعدل عَن
الرَّاجِح إِلَى الْمَرْجُوح.
وَقَالَ ابْن عقيل: يلْزمه الِاجْتِهَاد، فَيقدم الْأَرْجَح.
وَمَعْنَاهُ: قَول الْخرقِيّ، والموفق فِي " الْمقنع "،
وَغَيرهمَا، فِي اسْتِقْبَال الْقبْلَة.
وَقَالَهُ ابْن سُرَيج، والقفال، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَابْن
السَّمْعَانِيّ،
(8/4082)
والباقلاني، وَلأَحْمَد رِوَايَتَانِ،
كَالْأولِ، وَهَذَا.
اسْتدلَّ للْأولِ: بِأَن الْمَفْضُول من الصَّحَابَة
وَالسَّلَف كَانَ يُفْتِي مَعَ وجود الْفَاضِل مَعَ الاشتهار
والتكرار، وَلم يُنكر ذَلِك أحد، فَكَانَ إِجْمَاعًا على
جَوَاز
(8/4083)
استفتائه مَعَ الْقُدْرَة على استفتاء
الْفَاضِل، وَقَالَ تَعَالَى: {فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم
لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] ، وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ
اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، وَفِيهِمْ الْأَفْضَل من
غَيره.
وَأَيْضًا: الْعَاميّ لَا يُمكنهُ التَّرْجِيح لقصوره، وَلَو
كلف بذلك لَكَانَ تكليفا بِضَرْب من الِاجْتِهَاد.
لَكِن زيف ابْن الْحَاجِب بِأَن ذَلِك يظْهر بِالتَّسَامُعِ
وَرُجُوع الْعلمَاء إِلَيْهِ وَغَيره، لِكَثْرَة المستفتين
وَتَقْدِيم الْعلمَاء لَهُ.
قَوْله: {أما لَو بَان لَهُ الْأَرْجَح لزمَه تَقْلِيده،
وَتَقْدِيم أعلم على أورع فِي الْأَصَح فيهمَا، وَفِي "
الرِّعَايَة " لَا يَكْفِيهِ من لَا تسكن نَفسه إِلَيْهِ} .
إِذا بَان لَهُ الْأَرْجَح مِنْهُمَا فَالْأَصَحّ أَنه يلْزمه
تَقْلِيده، زَاد بعض أَصْحَابنَا وَبَعض الشَّافِعِيَّة: فِي
الْأَظْهر.
قَالَ الْغَزالِيّ: لَا يجوز تَقْلِيده غَيره.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا وَإِن كَانَ ظَاهرا فَفِيهِ نظر،
لما ذكرنَا من سُؤال آحَاد الصَّحَابَة وَوُجُود أفاضلهم.
(8/4084)
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد: إِن رجح دين
وَاحِد قدمه فِي أحد الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الآخر: لَا؛ لِأَن
الْعلمَاء لَا تنكر على الْعَاميّ تَركه.
وَذكر - أَيْضا - فِي " التَّمْهِيد " فِي تَقْدِيم الأدين على
الأعلم، وَعَكسه مذهبين.
وَلنَا وَجْهَان، قيل لِأَحْمَد: من نسْأَل بعْدك؟ قَالَ: "
عبد الْوَهَّاب الْوراق، فَإِنَّهُ صَالح، مثله موفق للحق ".
قَالَ فِي " الرِّعَايَة ": وَلَا يَكْفِيهِ من لم تسكن نَفسه
إِلَيْهِ، فَلَا بُد من سُكُون النَّفس والطمأنينة بِهِ،
وَقَالَ: يقدم الْعَالم على الْوَرع الأدين؛ لِأَنَّهُ
(8/4085)
لَا تعلق بمسائل الِاجْتِهَاد بالورع
وَالدّين، وَلِهَذَا يقدم فِي الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة؛
وَلِأَن الظَّن الْحَاصِل بقوله أَكثر، وَقيل بالتساوي.
قَوْله: {قَوْله: فَإِن اسْتَووا تخير عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا
وَغَيرهم، وَلَا يلْزم التمذهب بِمذهب وَالْأَخْذ بِرُخصِهِ
وعزائمه، والامتناع من الِانْتِقَال عِنْد الْأَكْثَر،
فَيتَخَيَّر، وَقيل: بلَى، وَفِي " الرِّعَايَة " هُوَ
الْأَشْهر فَلَا يُقَلّد غير أَهله، وَقَالَ الْقَدُورِيّ:
إِذا ظَنّه أقوى، وَفِي " آدَاب الْمُفْتِي " يجْتَهد فِي أصح
الْمذَاهب فيتبعه} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " فَإِذا اسْتَووا تخير ذكره أَبُو
الْخطاب، وَجَمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة: هَل
يلْزم
(8/4086)
التمذهب بِمذهب وَالْأَخْذ بِرُخصِهِ
وعزائمه؟ على وَجْهَيْن:
أشهرهما: لَا، كجمهور الْعلمَاء فَيتَخَيَّر.
وَالثَّانِي: يلْزمه.
وَاخْتِيَار الْآمِدِيّ منع الِانْتِقَال فِيمَا عمل بِهِ.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الْأَخْذ بِرُخصِهِ
وعزائمه: طَاعَة غير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِي كل أمره وَنَهْيه وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع،
وَتوقف أَيْضا فِي جَوَازه.
وَقَالَ أَيْضا: إِن خَالفه لقُوَّة الدَّلِيل، أَو زِيَادَة
علم، أَو تقوى، فقد
(8/4087)
أحسن، وَلم يقْدَح فِي عَدَالَته بِلَا
نزاع، وَقَالَ أَيْضا: بل يجب فِي هَذِه الْحَال، وَأَنه نَص
أَحْمد.
وَكَذَا قَالَ الْقَدُورِيّ الْحَنَفِيّ: مَا ظَنّه أقوى،
عَلَيْهِ تَقْلِيده فِيهِ، وَله الْإِفْتَاء بِهِ حاكيا
مَذْهَب من قَلّدهُ.
وَذكر ابْن هُبَيْرَة من مَكَائِد الشَّيْطَان: أَن يُقيم
أوثانا فِي الْمَعْنى تعبد من دون الله، مثل: أَن يتَبَيَّن
الْحق، فَيَقُول: لَيْسَ هَذَا مَذْهَبنَا، تقليدا لمعظم
عِنْده قد قدمه على الْحق.
وَقَالَ ابْن حزم: أَجمعُوا أَنه لَا يحل لحَاكم وَلَا لمفت
تَقْلِيد رجل، فَلَا يحكم وَلَا يُفْتِي إِلَّا بقوله ".
وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ أَنه لَا يلْزمه، على مَا يَأْتِي.
(8/4088)
وَقيل: يلْزمه التمذهب بِمذهب.
قَالَ فِي " الرِّعَايَة ": هَذَا الْأَشْهر فَلَا يُقَلّد غير
أَهله.
وَقَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": يجْتَهد فِي أصح الْمذَاهب
فيتبعه. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة - وَهُوَ الكيا -
فَإِنَّهُ قطع بِأَنَّهُ يلْزمه التمذهب.
فعلى هَذَا يلْزمه أَن يخْتَار مذهبا يقلده فِي كل شَيْء،
وَلَيْسَ لَهُ التمذهب لمُجَرّد التشهي.
قَالَ النَّوَوِيّ: " هَذَا كَلَام الْأَصْحَاب وَالَّذِي
يَقْتَضِيهِ أَنه لَا يلْزمه التمذهب بِمذهب، بل يستفتي من
شَاءَ، لَكِن [من] غير تلقط للرخص، وَلَعَلَّ من مَنعه لم
يَثِق بِعَدَمِ تلقطه " انْتهى.
(8/4089)
قَوْله: {وَلَا يجوز للعامي تتبع الرُّخص،
وَحكي إِجْمَاعًا، وَخَالف ابْن هُبَيْرَة، ويفسق عِنْد أَحْمد
وَغَيره، وَحكي عَنهُ: لَا، وَحمل القَاضِي الأول على غير
متأول أَو مقلد، وَالْحَنَفِيَّة كَالْقَاضِي: لَهُ أَن يتمذهب
بِمذهب فَيَأْخُذ بِهِ فِي الْأَصَح} .
يحرم على الْعَاميّ تتبع الرُّخص، وَهُوَ: أَنه كلما وجد رخصَة
فِي مَذْهَب عمل بهَا وَلَا يعْمل [بغَيْرهَا فِي ذَلِك
الْمَذْهَب] ، بل هَذِه الفعلة زندقة من فاعلها، كَأَن
الْقَائِل بِهَذِهِ الرُّخْصَة فِي هَذَا الْمَذْهَب لَا
يَقُول بِالرُّخْصَةِ بِتِلْكَ الرُّخْصَة الْأُخْرَى.
وَمِمَّا يحْكى أَن بعض النَّاس تتبع رخص الْمذَاهب وأقوال
الْعلمَاء وَجَمعهَا فِي كتاب، وَذهب بهَا إِلَى بعض
الْخُلَفَاء، فعرضها على بعض الْعلمَاء الْأَعْيَان، فَلَمَّا
رَآهَا قَالَ: " يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذِه زندقة فِي
الدّين، وَلَا يَقُول بِمَجْمُوع ذَلِك أحد من الْمُسلمين ".
(8/4090)
قَالَ ابْن عبد الْبر: لَا يجوز للعامي
تتبع الرُّخص إِجْمَاعًا.
وَنقل عَن إِسْحَاق الْمروزِي جَوَازه، لَكِن الَّذِي فِي "
فَتَاوَى الحناطي " عَنهُ أَنه قَالَ: من تتبع الرُّخص فسق،
وَأَن [ابْن أبي هُرَيْرَة] قَالَ: لَا يفسق.
(8/4091)
وَحَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَنهُ فِي كتاب "
الْقَضَاء ".
وَحكى الْجَوَاز عَن الْمروزِي فِي " جمع الْجَوَامِع "،
وَغَيره.
وَقَالَ الْمحلي فِي " شَرحه ": (وَالظَّاهِر أَن هَذَا
النَّقْل عَنهُ سَهْو، لما فِي " الرَّوْضَة "، وَأَصلهَا عَن
الحناطي وَغَيره عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي: أَنه يفسق بذلك،
وَعَن ابْن أبي هُرَيْرَة: أَنه لَا يفسق) .
وَلذَلِك قطع بِهِ السُّيُوطِيّ فِي شرح منظومته " جمع
الْجَوَامِع ".
(8/4092)
وَكنت قد نقلت ذَلِك عَن الْمروزِي
فأصلحته، وذكرته عَن ابْن أبي هُرَيْرَة لذَلِك، وَيحمل أَن
يكون للمروزي قَولَانِ.
فعلى الأول يفسق عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَيحيى الْقطَّان،
وَغَيرهمَا من الْعلمَاء، وَلَكِن حمله القَاضِي على غير متأول
أَو مقلد.
(8/4093)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَفِيه نظر، وَذكر
بعض أَصْحَابنَا فِي فسق من أَخذ بالرخص رِوَايَتَيْنِ، وَإِن
قوي دَلِيل، أَو كَانَ عاميا فَلَا، كَذَا قَالَ، وَقَالَت
الْحَنَفِيَّة: كَالْقَاضِي أبي يعلى: إِلَّا أَن يتمذهب
بِمذهب فَيَأْخُذ بِهِ فِي الصَّحِيح ".
(8/4094)
(قَوْله: {فصل} )
{يجب أَن يعْمل الْمُفْتِي بِمُوجب اعْتِقَاده فِيمَا لَهُ
وَعَلِيهِ إِجْمَاعًا، حَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا، وَهُوَ وَاضح،
وَلَو أفتاه وَاحِد وَعمل بِهِ لزمَه قطعا، وَإِن لم يعْمل
لزمَه بالتزامه، وَفِي " الرِّعَايَة ": مَعَ ظَنّه أَنه حق،
[وَقيل: بِالظَّنِّ] وَحده كالسمعاني، وَابْن حمدَان أَيْضا،
وَقيل: بِالشُّرُوعِ، وَابْن الْبَنَّا: بالإفتاء كَمَا لَو لم
يجد غَيره، أَو حكم عَلَيْهِ بِهِ} .
لَو أفتى الْمُقَلّد مفت وَاحِد وَعمل بِهِ الْمُقَلّد لزمَه
قطعا، وَلَيْسَ لَهُ
(8/4095)
الرُّجُوع عَنهُ إِلَى فَتْوَى غَيره فِي
تِلْكَ الْحَادِثَة بِعَينهَا إِجْمَاعًا، نَقله ابْن
الْحَاجِب، والهندي، وَغَيرهمَا.
وَإِن لم يعْمل بِهِ فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنه يلْزمه
بالتزامه.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": هَذَا الْأَشْهر.
وَقيل: يلْزمه بالتزامه إِذا ظَنّه أَنه حق، فعلى هَذَا لَا
بُد من شَيْئَيْنِ: الْتِزَامه، وظنه أَنه حق، اخْتَارَهُ ابْن
حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي ".
وَقيل: يلْزمه إِذا وَقع فِي نَفسه صِحَّته وَأَنه حق، وَهَذَا
أولى الْأَوْجه. انْتهى.
(8/4096)
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: " وَيلْزمهُ
إِذا وَقع فِي نَفسه صِحَّته وَحَقِيقَته وَهَذَا أولى
الْأَوْجه ".
قَالَ ابْن الصّلاح: " وَلم أجد هَذَا لغيره ".
وَقيل: يلْزمه بِالشُّرُوعِ، فَإِن شرع لزمَه، وَإِن لم يشرع
شاع سُؤال غَيره.
وَقَالَ ابْن الْبَنَّا بالإفتاء لمُجَرّد مَا أفتاه لزمَه
الْعَمَل بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقه كالدليل بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمُجْتَهد.
قَوْله: {كَمَا لَو لم يجد غَيره، أَو حكم عَلَيْهِ بِهِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " فَإِن لم يجد مفتيا آخر لزمَه، كَمَا
[لَو] حكم عَلَيْهِ بِهِ حَاكم ".
وَقطع بِهِ وَلم يحك فِيهِ خلافًا.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَالَّذِي تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد أَنه
إِن لم يجد سواهُ تعين عَلَيْهِ الْأَخْذ بفتياه، وَلَا
يتَوَقَّف ذَلِك على الْتِزَامه، وَلَا سُكُون نَفسه إِلَى
صِحَّته،
(8/4097)
وَإِن وجد غَيره، فَإِن استبان أَن الَّذِي
أفتاه هُوَ الأعلم والأوثق لزمَه، بِنَاء على تَقْلِيد
الْأَفْضَل، وَإِن لم يستبن لم يلْزمه.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة ": " الْمُخْتَار مَا
نَقله الْخَطِيب وَغَيره إِن لم يكن هُنَاكَ مفت آخر لزمَه
بِمُجَرَّد فتياه.
وَإِن لم تسكن نَفسه، فَإِن كَانَ هُنَاكَ آخر لم يلْزمه
بِمُجَرَّد فتياه، إِذْ لَهُ أَن يسْأَل غَيره، وَحِينَئِذٍ
فقد يُخَالِفهُ، فَيَجِيء فِيهِ الْخلاف فِي اخْتِلَاف
الْمُفْتِينَ " الْآتِيَة بعد هَذِه.
قَوْله: {وَإِن اخْتلف عَلَيْهِ فتيا اثْنَيْنِ تخير عِنْد
القَاضِي وَالْمجد وَأبي الْخطاب، وَذكره ظَاهر كَلَام أَحْمد،
وَقيل: يَأْخُذ بالأفضل علما ودينا - فَإِن اسْتَويَا تخير،
اخْتَارَهُ الْمُوفق وَغَيره، وَقيل: بالأغلظ، وَقيل: بالأخف،
وَقيل: بأرجحهما دَلِيلا، وَقيل: يسْأَل آخر} .
إِذا اخْتلف عَلَيْهِ فتيا مفتيين: تخير فِي الْأَخْذ، على
الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي وَالْمجد وَأَبُو الْخطاب،
وَذكره ظَاهر كَلَام أَحْمد فَإِنَّهُ سُئِلَ
(8/4098)
عَن مَسْأَلَة فِي الطَّلَاق؟
فَقَالَ: " إِن فعل حنث، فَقَالَ السَّائِل: إِن أفتاني
إِنْسَان لَا أحنث؟ قَالَ: تعرف حَلقَة الْمَدَنِيين؟ قلت:
فَإِن أفتوني حل؟ قَالَ: نعم ".
وَقيل: يَأْخُذ بقول الْأَفْضَل علما ودينا، فَإِن اسْتَويَا
تخير، هَذَا اخْتِيَار الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة
"، لَا التَّخْيِير كَمَا ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "،
لكنه علل التَّخْيِير، وَظَاهره أَنه مَال إِلَيْهِ.
وَقيل: يَأْخُذ بقول الأغلظ والأثقل، ذكره ابْن الْبَنَّا.
وَقيل: يَأْخُذ بالأخف، اخْتَارَهُ عبد الْجَبَّار.
وَقيل: يَأْخُذ بأرجحهما دَلِيلا، ذكره ابْن الْبَنَّا أَيْضا.
وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا هُوَ الصَّحِيح.
[قَالَ] فِي " أَعْلَام الموقعين ": " يجب عَلَيْهِ أَن
يتحَرَّى ويبحث عَن الرَّاجِح بِحَسبِهِ، وَهُوَ أرجح
الْمذَاهب السَّبْعَة " انْتهى.
وَقيل: يسْأَل مفتيا آخر.
(8/4099)
قَالَ الطوفي وَغَيره: " وَيحْتَمل أَن
يسقطا وَيرجع إِلَى غَيرهمَا إِن وجد، وَإِلَّا فَإلَى مَا قبل
السّمع " انْتهى.
قَوْله: {لَهُ رد الْفتيا وَفِي الْبَلَد غَيره أهل لَهَا
شرعا، خلافًا للحليمي، وَإِلَّا لزمَه، وَلَا يلْزم جَوَاب مَا
لم يَقع، وَمَا لم يحْتَمل السَّائِل، وَمَا لَا يَنْفَعهُ،
وَقَالَ ابْن عقيل: يحرم إِلْقَاء علم لَا يحْتَملهُ، وَقَالَ
ابْن الْجَوْزِيّ: لَا يَنْبَغِي} .
لَهُ رد الْفتيا إِذا كَانَ فِي بَلَده غَيره من الْمُفْتِينَ
وَهُوَ أهل للفتيا شرعا، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ
جَمَاهِير الْأَصْحَاب، لِأَنَّهُ فِي حَقه سنة.
وَقَالَ الْحَلِيمِيّ الشَّافِعِي: لَيْسَ لَهُ رده وَلَو
كَانَ فِي الْبَلَد غَيره؛ لِأَنَّهُ تعين عَلَيْهِ بذلك.
وَإِن لم يكن فِي الْبَلَد لزمَه الْفتيا قطعا؛ لِأَنَّهُ فرض
كِفَايَة فِي حَقه ذكره أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل وَغَيرهمَا.
(8/4100)
وَلَا يلْزمه مَا لم يَقع وَمَا لم
يحْتَملهُ السَّائِل وَلَا يَنْفَعهُ.
وَقد سُئِلَ الإِمَام أَحْمد عَن يَأْجُوج وَمَأْجُوج: أمسلمون
هم؟ فَقَالَ للسَّائِل: " أحكمت الْعلم حَتَّى تسْأَل عَن ذَا!
".
وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة اللّعان، فَقَالَ: " سل - رَحِمك الله
- عَمَّا ابْتليت بِهِ ".
وَسَأَلَهُ مهنا عَن مَسْأَلَة فَغَضب، وَقَالَ: " خُذ وَيحك
فِيمَا ينْتَفع بِهِ، وَإِيَّاك وَهَذِه الْمسَائِل المحدثة،
وَخذ فِيمَا فِيهِ حَدِيث ".
وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة، فَقَالَ: " لَيْت أَنا نحسن مَا جَاءَ
بِهِ فِيهِ الْأَثر ".
وَلأَحْمَد عَن ابْن عمر: " لَا تسألوا عَمَّا لم يكن، فَإِن
عمر نهى [عَنهُ] ".
(8/4101)
وَله أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ -
عَن الصَّحَابَة -: " مَا كَانُوا يسْأَلُون إِلَّا عَمَّا
يَنْفَعهُمْ ".
وَاحْتج الشَّافِعِي على كَرَاهَة السُّؤَال عَن الشَّيْء قبل
وُقُوعه بقوله تَعَالَى: {لَا تسئلوا عَن أَشْيَاء} الْآيَة
[الْمَائِدَة: 101] .
وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ينْهَى عَن
قيل وَقَالَ، وإضاعة المَال، وَكَثْرَة السُّؤَال ".
وَفِي لفظ: " إِن الله كره لكم ذَلِك "، مُتَّفق عَلَيْهِمَا.
وَفِي حَدِيث اللّعان: " وَكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - الْمسَائِل وعابها ".
(8/4102)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كره السُّؤَال عَن
الْمَسْأَلَة قبل كَونهَا إِذا لم يكن فِيهَا كتاب أَو سنة،
لِأَن الِاجْتِهَاد إِنَّمَا يُبَاح ضَرُورَة.
ثمَّ روى عَن معَاذ: " أَيهَا النَّاس لَا تعجلوا بالبلاء قبل
نُزُوله ".
(8/4103)
وَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن -
مُرْسلا - مَعْنَاهُ.
(8/4104)
وَقَالَ ابْن عَبَّاس لعكرمة: من سَأَلَك
عَمَّا لَا يعنيه فَلَا تفته.
وَسَأَلَ الْمَرْوذِيّ أَحْمد عَن شَيْء من أَمر الْعدْل،
فَقَالَ: " لَا تسْأَل عَن هَذَا فَإنَّك لَا تُدْرِكهُ ".
وَذكر ابْن عقيل: أَنه يحرم إِلْقَاء علم لَا يحْتَملهُ
السَّامع.
قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ عَليّ: " حدثوا النَّاس بِمَا
يعْرفُونَ، أتريدون أَن يكذب الله وَرَسُوله ".
وَفِي مُقَدّمَة مُسلم عَن ابْن مَسْعُود: " مَا أَنْت بمحدث
قوما حَدِيثا لَا تبلغه عُقُولهمْ إِلَّا كَانَ فتْنَة
لبَعْضهِم ".
(8/4105)
وَعَن مُعَاوِيَة مَرْفُوعا: " نهى عَن
الغلوطات "، رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد.
وَقيل: بِفَتْح الْغَيْن، وَاحِدهَا: غلوطة، وَهِي الْمسَائِل
الَّتِي يغالط بهَا.
وَقيل: بضَمهَا، وَأَصلهَا: الأغلوطات، وَنهى عَنْهَا السّلف.
قَوْله: {تَنْبِيه: يَنْبَغِي أَن يحفظ الْأَدَب مَعَ
الْمُفْتِي، إِلَى آخِره} .
هَذِه مسَائِل تتَعَلَّق بأدب المستفتي والمفتي.
(8/4106)
وَقد ذكر ذَلِك ابْن حمدَان فِي كِتَابه "
آدَاب الْمُفْتِي "، وَأطَال وأجاد.
فَيَنْبَغِي للمستفتي أَن يحفظ الْأَدَب مَعَ الْمُفْتِي،
ويجله ويعظمه، فَلَا يَقُول لَهُ وَلَا يفعل مَا جرت عَادَة
الْعَوام بِهِ، كإيماء بِيَدِهِ فِي وَجهه، وَمَا مَذْهَب
إمامك فِي كَذَا؟ وَمَا تحفظ فِي كَذَا؟ أَو أفتاني غَيْرك أَو
فلَان بِكَذَا أَو كَذَا، أَو كَذَا قلت أَنا، أَو وَقع لي،
أَو إِن كَانَ جوابك مُوَافقا فَاكْتُبْ، وَإِلَّا فَلَا.
لَكِن إِن علم غَرَض السَّائِل فِي شَيْء لم يجز أَن يكْتب
بِغَيْرِهِ، وَلَا يسْأَله فِي ضجر، أَو هم، أَو قيام
وَنَحْوه، وَلَا يُطَالِبهُ بِالْحجَّةِ، هَذَا الصَّحِيح.
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: لَا يمْنَع مِنْهُ، وَيلْزمهُ
ذكر دَلِيل قَطْعِيّ، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " للعامي سُؤال الْمُفْتِي عَن
مأخذه استرشادا، وَيلْزم الْعَام حِينَئِذٍ أَن يذكر لَهُ
الدَّلِيل إِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، لَا الظني لافتقاره
إِلَى مَا يقصر فهم الْعَاميّ عَنهُ " انْتهى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " المنثور ": من أَرَادَ كِتَابَة من
فتيا أَو شَهَادَة لم يجز أَن يكبر خطه لتصرفه فِي ملك غَيره
بِلَا إِذْنه وَلَا حَاجَة، كَمَا لَو أَبَاحَهُ قَمِيصه
فَاسْتَعْملهُ فِيمَا يخرج عَن الْعَادة بِلَا حَاجَة.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي " عُيُون الْمسَائِل " فِي الْفتيا
وَالشَّهَادَة، وَلَا يجوز أَن
(8/4107)
يُوسع الأسطر، وَلَا يكثر إِن أمكنه
الِاخْتِصَار.
قلت: وَفِيه نظر لَا سِيمَا فِي الْفَتَاوَى، فَإِن الْعلمَاء
لم يزَالُوا إِذا كتبُوا عَلَيْهَا أطنبوا وَزَادُوا على
المُرَاد، بل كَانَ بَعضهم يسْأَل عَن الْمَسْأَلَة فيجيب
فِيهَا بمجلد أَو أَكثر، وَقد وَقع هَذَا كثيرا للشَّيْخ
تَقِيّ الدّين - رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ -.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيتَوَجَّهُ مَعَ قرينَة خلاف لنا.
يَعْنِي على جَوَاز ذَلِك -.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " فنونه ": لَا يجوز إِطْلَاق الْفتيا
فِي اسْم مُشْتَرك إِجْمَاعًا، فَلَو سُئِلَ: أَيجوزُ الْأكل
بعد طُلُوع الْفجْر؟ فَلَا بُد أَن يَقُول: يجوز بعد الْفجْر
الأول لَا الثَّانِي.
قَالَ: وَمن هُنَا إرْسَال أبي حنفية من سَأَلَ أَبَا يُوسُف
عَمَّن دفع ثوبا إِلَى قصار، فَقَصره وجحده: هَل لَهُ أُجْرَة
إِن عَاد سلمه لرَبه؟ وَقَالَ: إِن قَالَ: نعم، أَو لَا، فقد
أَخطَأ، فجَاء إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِن كَانَ قصره قبل جحوده:
فَلهُ الْأُجْرَة، وَإِن كَانَ بعد جحوده: فَلَا أُجْرَة لَهُ؛
لِأَنَّهُ قصره لنَفسِهِ.
(8/4108)
واختبر أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ أصحابا
لَهُ فِي بيع رَطْل تمر برطل تمر، فأجازوا فخطأهم، فمنعوا
فخطأهم، فخجلوا فَقَالَ: إِن تَسَاويا مَكِيلًا يجوز، فَهَذَا
يُوضح خطأ الْمُطلق فِي كل مَا احْتمل التَّفْصِيل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَيتَوَجَّهُ عمل بعض
أَصْحَابنَا بِظَاهِر) .
قَوْله: {فَائِدَة: قيل للْإِمَام أَحْمد: الرجل يسْأَل عَن
الْمَسْأَلَة فأدله على إِنْسَان، هَل عَليّ شَيْء؟ قَالَ: إِن
كُنَّا مُتبعا فَلَا بَأْس، وَلَا يُعجبنِي رَأْي أحد.
وَفِي " الْوَاضِح ": يسن إِعْلَامه إِن كَانَ أَهلا للرخصة
كالتخلص من الرِّبَا وَالْخلْع [بعد] الْوُقُوع، وَذكره غَيره:
يحرم الْخلْع حِيلَة} .
(8/4109)
هَذِه الْمسَائِل مُتَعَلقَة بالتخلص
مِمَّا يَقع فِيهِ الْإِنْسَان كالعامي، فَإِن فِي ذَلِك
رَاحَة وخلاصا مِمَّا هُوَ أعظم مِمَّا وَقع فِيهِ.
وروى عَن أَحْمد فِي ذَلِك رِوَايَات: فَإِنَّهُ سُئِلَ عَن
الرجل يسْأَل عَن الْمَسْأَلَة فأدله على إِنْسَان، هَل عَليّ
شَيْء؟ قَالَ: إِن كَانَ مُتبعا أَو معينا فَلَا بَأْس، وَلَا
يُعجبنِي رَأْي أحد.
وَذكر ابْن عقيل فِي " واضحه ": أَنه يستجب إِعْلَام المستفتي
بِمذهب غَيره، إِن كَانَ أَهلا للرخصة كطالب التَّخَلُّص من
الرِّبَا، فيدله على من يرى التحيل للخلاص مِنْهُ، وَالْخلْع
بعد وُقُوع الطَّلَاق. انْتهى.
وَلَا يسع النَّاس فِي هَذِه الْأَزْمِنَة غير هَذَا.
وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي " فروعه " فِي كتاب
الطَّهَارَة عَن أَحْمد أَنهم جاؤوه بفتوى فَلم تكن على
مذْهبه، فَقَالَ: عَلَيْكُم بِحَلقَة الْمَدَنِيين.
- وَتقدم قريب من ذَلِك - فَفِي هَذَا دَلِيل على أَن
الْمُفْتِي إِذا جَاءَهُ المستفتي، وَلم يكن عِنْده رخصَة، أَن
يدله على مَذْهَب من لَهُ فِيهِ رخصَة انْتهى.
(8/4110)
وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب.
وَنقل الْأَثْرَم عَنهُ: " قوم يفتون هَكَذَا يتقلدون قَول
الرجل وَلَا يبالون بِالْحَدِيثِ ".
وَنقل أَبُو طَالب: عجبا لقوم عرفُوا الْإِسْنَاد وَصِحَّته
يَدعُونَهُ ويذهبون إِلَى رَأْي سُفْيَان وَغَيره، قَالَ الله
تَعَالَى: {فليحذر الَّذِي يخالفون عَن أمره} الْآيَة
[النُّور: 63] الْفِتْنَة: الْكفْر.
وَقَالَ أَحْمد بن الْحسن: أَلا يعجب يُقَال للرجل: قَالَ
رَسُول الله فَلَا يقنع، وَقَالَ عَن فلَان فيقنع.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ عَن أصُول ظَاهِرَة الْبُرْهَان: لَا
يهولنك مخالفتها لقَوْل مُعظم فِي النَّفس ولطغام.
(8/4111)
قَالَ رجل لعَلي: أتظن أَنا نظن أَن
طَلْحَة وَالزُّبَيْر على الْخَطَأ، وَأَنت على الصَّوَاب؟
فَقَالَ: إِنَّه ملبوس عَلَيْك، اعرف الْحق تعرف أَهله.
وَقَالَ رجل لِأَحْمَد: إِن ابْن الْمُبَارك قَالَ كَذَا،
قَالَ: " ابْن الْمُبَارك لم ينزل من السَّمَاء ".
وَقَالَ أَحْمد: من ضيق علم الرجل أَن يُقَلّد.
وَذكر لِأَحْمَد كَلِمَات عَن إِبْرَاهِيم بن أدهم، فَقَالَ:
وقعنا فِي بنيات الطَّرِيق، عَلَيْك بِمَا كَانَ عَلَيْهِ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه.
(8/4112)
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: التَّقْلِيد
للأكابر أفسد العقائد وَلَا يَنْبَغِي أَن يناظر بأسماء
الرِّجَال إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يتبع الدَّلِيل، فَإِن
أَحْمد أَخذ فِي الْجد بقول زيد وَخَالف الصّديق.
(8/4113)
وَفِي " وَاضح ابْن عقيل ": من أكبر
الْآفَات الإلف لمقالة من سلف، أَو السّكُون إِلَى قَول مُعظم
فِي النَّفس لَا بِدَلِيل، فَهُوَ أعظم حَائِل عَن الْحق وبلوى
يجب معالجتها.
وَقَالَ فِي " الْفُنُون ": من قَالَ فِي مُفْرَدَات أَحْمد
الِانْفِرَاد لَيْسَ بمحمود، وَقَالَ: الرجل مِمَّن يُؤثر
الْوحدَة، ثمَّ ذكر قَول عَليّ السَّابِق، وانفراد
الشَّافِعِي، وصواب عمر فِي أُسَارَى بدر، فَمن يعير بعد هَذَا
بالوحدة. انْتهى.
قَوْله: {تذنيب} .
مَأْخُوذ من مَادَّة: ذَنْب الدَّابَّة على التَّأَخُّر
والتعقب، وَمِنْه ذَنْب الدَّابَّة، فَهُوَ إِشَارَة مِنْهُ.
(8/4114)
قَوْله: {كَانَ السّلف يهابون الْفتيا
ويشددون فِيهَا، ويتدافعونها. وَأنكر أَحْمد وَغَيره على من
يهجم فِي الْجَواب، وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَن يُجيب فِي كل
مَا يستفتى فِيهِ. وَقَالَ أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يحرم تساهل
مفت وتقليد مَعْرُوف فِيهِ. قَالَ الْبَاجِيّ، وَبَعض
الشَّافِعِيَّة: من اكْتفى بفتياه بقول أَو وَجه الْمَسْأَلَة
من غير نظر فِي تَرْجِيح وَلَا تقيد بِهِ، فقد خرق
الْإِجْمَاع} .
لَا شكّ أَن أَمر الْفتيا خطر، فَيَنْبَغِي أَن يتبع السّلف
فِي ذَلِك، فقد كَانُوا يهابون الْفتيا كثيرا ويشددون فِيهَا
ويتدافعونها حَتَّى ترجع إِلَى الأول لما فِيهَا من المخاطرة.
وَقد أنكر الإِمَام أَحْمد وَغَيره من الْعلمَاء الْأَعْيَان
على من تهجم فِي الْجَواب، وَقَالَ: " لَا يَنْبَغِي أَن يُجيب
فِي كل مَا يستفتى فِيهِ "، وَقَالَ: " إِذا هاب الرجل شَيْئا
لَا يَنْبَغِي أَن يحمل على أَن يَقُول ".
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: من اكْتفى فِي فتياه بقول أَو
وَجه فِي الْمَسْأَلَة من غير نظر فِي تَرْجِيح وَلَا تقيد
بِهِ، فقد جهل وخرق الْإِجْمَاع.
(8/4115)
وَذكر عَن أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ [أَنه]
ذكر عَن بعض أَصْحَابهم أَنه كَانَ يَقُول: الَّذِي لصديقي
عَليّ أَن أفتيه بالرواية الَّتِي توافقه، قَالَ أَبُو
الْوَلِيد: وَهَذَا لَا يجوز عِنْد أحد يعْتد بِهِ فِي
الْإِجْمَاع.
(8/4116)