التحبير شرح التحرير في أصول الفقه (بَاب تَرْتِيب الْأَدِلَّة والتعادل
والتعارض وَالتَّرْجِيح)
(8/4117)
فارغة
(8/4118)
(قَوْله: {بَاب} {تَرْتِيب الْأَدِلَّة
والتعادل والتعارض وَالتَّرْجِيح} ) .
اعْلَم أَن هَذَا الْبَاب من مَوْضُوع النّظر للمجتهد
وضروراته؛ لِأَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة مُتَفَاوِتَة فِي
مَرَاتِب الْقُوَّة، فَيحْتَاج الْمُجْتَهد إِلَى معرفَة مَا
يقدم مِنْهَا وَمَا يُؤَخر؛ لِئَلَّا يَأْخُذ بالأضعف مِنْهَا
مَعَ وجود الْأَقْوَى.
اعْلَم أَنه لَهُ مَا انْتهى الْكَلَام فِي مبَاحث أَدِلَّة
الْفِقْه الْمُتَّفق عَلَيْهَا والمختلف فِيهَا رُبمَا تعَارض
مِنْهَا دليلان باقتضاء حكمين متضادين، فاحتيج إِلَى معرفَة
التَّرْتِيب، والتعادل، والتعارض، وَالتَّرْجِيح، وَحكم كل
مِنْهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يقوم بِهِ من هُوَ أهل لذَلِك
وَهُوَ الْمُجْتَهد، فَلذَلِك قدم الْمُوفق، والآمدي، وَابْن
الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم بَاب الِاجْتِهَاد
(8/4119)
على هَذَا الْبَاب، لَكِن الرَّازِيّ فِي "
الْمَحْصُول " وَأَتْبَاعه قدمُوا التَّعَارُض والتراجيح على
الِاجْتِهَاد؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُود، وَذَلِكَ مَا يتَوَقَّف
عَلَيْهِ الْمَقْصُود.
وَإِنَّمَا جَازَ دُخُول التَّعَارُض فِي أَدِلَّة الْفِقْه
لكَونهَا ظنية على مَا يَأْتِي قَرِيبا تَفْصِيل ذَلِك
وتحريره.
قَوْله: {التَّرْتِيب جعل كل وَاحِد من شَيْئَيْنِ فَأكْثر فِي
رتبته الَّتِي يَسْتَحِقهَا} .
اعْلَم أَنه لما كَانَ الْبَاب مَقْصُودا لترتيب الْأَدِلَّة
وتعادلها وتعارضها وترجيحها، وَجب الْكَشْف عَن حَقِيقَة
التَّرْتِيب وَغَيره؛ لِأَنَّهَا شُرُوط فِي الِاجْتِهَاد،
وَالْحكم عَلَيْهَا بالشرطية يَسْتَدْعِي سبق تصور ماهيتها؛
إِذْ التَّصْدِيق أبدا مَسْبُوق بالتصور، وَلما كَانَ
التَّرْتِيب مصدر رتب يرتب ترتيبا عَرفْنَاهُ بمصدر مثله
وَهُوَ الْجعل، وَقَوله: (كل وَاحِد من شَيْئَيْنِ فَأكْثر "؛
لِأَن التَّرْتِيب قد يكون فِي شَيْئَيْنِ فَقَط وَقد يكون فِي
أَكثر، وَقَوله:
(8/4120)
(فِي أَكثر) وَقَوله (فِي رتبته) ، أَي:
فِي مَوْضِعه أَو مَنْزِلَته، الَّتِي يَسْتَحِقهَا، أَي:
يسْتَحق جعلهَا فِيهَا بِوَجْه من الْوُجُوه.
وَقد ذكر الْفُقَهَاء: تَرْتِيب الْأَقَارِب فِي نفقاتهم،
وفطرهم، وولايتهم فِي النِّكَاح، وإرثهم وَغَيرهَا بِاعْتِبَار
الْقرب.
قَوْله: {فَيقدم إِجْمَاع ثمَّ سَابق ومتفق عَلَيْهِ أَو أقوى،
وَأَعلاهُ متواتر نطقي، فآحاد، فسكوتي، كَذَلِك فالكتاب،
ومتواتر سنة، فآحاد على مراتبها، فَقَوْل صَحَابِيّ، فَقِيَاس،
وَالتَّصَرُّف فِي الْأَدِلَّة سبق} .
قد تقدم أَن أَدِلَّة الشَّرْع: الْكتاب وَالسّنة
وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس، وَغَيره من الْأُصُول الْمُخْتَلف
فِيهَا، وَالْإِجْمَاع مقدم عَلَيْهَا جَمِيعهَا لوَجْهَيْنِ.
(8/4121)
أَحدهمَا: كَونه قَاطعا مَعْصُوما من
الْخَطَأ كَمَا سبق.
وَالثَّانِي: كَونه آمنا من النّسخ والتأويل، بِخِلَاف بَاقِي
الْأَدِلَّة فَإِن النّسخ يلْحقهَا والتأويل يتَّجه عَلَيْهَا.
وَهُوَ أَنْوَاع: أَحدهَا: الْإِجْمَاع النطقي الْمُتَوَاتر
فَهُوَ مقدم على غَيره.
ثمَّ يَلِيهِ الْإِجْمَاع النطقي الثَّابِت بالآحاد.
ثمَّ الْإِجْمَاع السكوتي الْمُتَوَاتر.
ثمَّ الْآحَاد كَذَلِك.
(8/4122)
فَهَذِهِ الْأَنْوَاع كلهَا مُقَدّمَة على
الْكتاب، وعَلى جَمِيع أَنْوَاع السّنة من متواترة وَغَيرهَا.
وَلَو نقل إجماعان فالمعمول بِهِ مِنْهُمَا هُوَ السَّابِق،
فَيقدم إِجْمَاع الصَّحَابَة على إِجْمَاع التَّابِعين،
وَإِجْمَاع التَّابِعين على من بعدهمْ، وهلم جرا؛ لِأَن
السَّابِق دَائِما أقرب إِلَى زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَشْهُود لَهُم بالخيرية فِي قَوْله:
" خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ".
فَإِن فرض فِي عصر وَاحِد إجماعان، فَالثَّانِي بَاطِل؛ لِأَن
كل من اجْتهد من الْمُتَأَخر فَقَوله بَاطِل لمُخَالفَته
الْإِجْمَاع السَّابِق.
فَإِن كَانَ أحد الإجماعين مُخْتَلفا فِيهِ وَالْآخر مُتَّفق
عَلَيْهِ، فالمتفق عَلَيْهِ
(8/4123)
مقدم، وَذَلِكَ فِي صور تَقْدِيم بَيَانهَا
فِي الْإِجْمَاع، فَليُرَاجع.
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ الْخلاف فِيهِ أَضْعَف يقدم على الْخلاف
فِي كَونه إِجْمَاعًا أقوى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَمَا اتّفق عَلَيْهِ أَو ضعف الْخلاف
فِيهِ أولى " انْتهى.
وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاع الَّذِي لم يسْبقهُ اخْتِلَاف مقدم على
إِجْمَاع سبق فِيهِ اخْتِلَاف، ثمَّ وَقع الْإِجْمَاع.
وَفِي قَول آخر: إِن الْمَسْبُوق بِخِلَاف أرجح لأَنهم اطلعوا
على المأخذ، واختاروا مَأْخَذ مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ فَكَانَ
أقوى.
وَقيل هما سَوَاء؛ لِأَن فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا مرجحا.
لَكِن قَالَ ابْن الْحَاجِب والهندي لَا يتَصَوَّر هَذِه
الْمَسْأَلَة فِي الإجماعين القاطعين؛ وَلِأَنَّهُ: لَا يرجح
بَين القاطعين وَلَا يتَصَوَّر التَّعَارُض بَينهمَا،
وَإِنَّمَا يتَصَوَّر فِي الظنين.
(8/4124)
وَضعف قَوْلهمَا: بِأَنَّهُمَا إِن
أَرَادَا تعَارض الإجماعين فِي نفس الْأَمر فمستحيل، سَوَاء
كَانَا ظنيين أَو قطعيين، وَإِن أَرَادَا فِيمَا يغلب على
الظَّن فَظن تعَارض الإجماعين مُمكن سَوَاء كَانَا قطعيين أَو
ظنيين، وَالله أعلم.
ثمَّ يَلِيهِ، أَي: الْإِجْمَاع: الْكتاب، وَمثله متواتر
السّنة لقطعيتهما فيقدمان على سَائِر الْأَدِلَّة؛
لِأَنَّهُمَا قاطعان من جِهَة الْمَتْن، وَلِهَذَا جَازَ نسخ
كل مِنْهُمَا بِالْآخرِ على مَا سبق، هَذَا هُوَ الْأَصَح؛
لِأَن كلا مِنْهُمَا وَحي من الله تَعَالَى، وَإِن افْتَرقَا
من حَيْثُ إِن الْقُرْآن نزل للإعجاز، فَفِي الْحَقِيقَة هما
سَوَاء.
وَقيل: يقدم الْكتاب عَلَيْهَا لِأَنَّهُ أشرف مِنْهَا.
قيل: تقدم السّنة لقَوْله تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل
إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] .
أما المتواتران من السّنة فمتساويان قطعا.
ثمَّ بعد ذَلِك أَخْبَار الْآحَاد فَتقدم على غَيرهَا، غير مَا
تقدم، وَلها مَرَاتِب: صَحِيح فَيقدم على غَيره، ثمَّ حسن
فَيقدم على غَيره، ثمَّ ضَعِيف وَهُوَ أَصْنَاف كَثِيرَة،
وَيقدم على غَيره ويتفاوت فِي الصِّحَّة وَالْحسن والضعف،
فَيقدم مَا كَانَ أقوى، ثمَّ قَول الصَّحَابِيّ بعد ذَلِك،
ثمَّ الْقيَاس، بعد ذَلِك كُله، وَقد تقدم تفاصيل ذَلِك كُله
وَمَا فِيهِ من الْخلاف فِي أبوابه وفصوله.
وَقَوْلنَا: {وَالتَّصَرُّف فِي الْأَدِلَّة سبق} .
(8/4125)
معنى ذَلِك: أَنه إِذا وَقع فِي
الْأَدِلَّة الظنية مَا ظَاهره التَّعَارُض فَلَا يَخْلُو:
إِمَّا أَن يُمكن الْجمع وَلَو بِوَجْه مَا، وَإِمَّا أَن لَا
يُمكن الْجمع أصلا، فَمَا أمكن الْجمع فِيهِ يجمع وَيعْمل
بالدليلين، وَذَلِكَ فِي صور:
مِنْهَا: تَخْصِيص الْعَام بالخاص على تفاصيله السَّابِقَة.
وَمِنْهَا: تَقْيِيد الْمُطلق بالمقيد.
وَمِنْهَا: حمل الظَّاهِر الْمُحْتَمل لِمَعْنى مَرْجُوح على
الْمَرْجُوح، حَيْثُ دلّ دَلِيل على منع الْعَمَل بِهِ وَهُوَ
التَّأْوِيل.
وَمِنْهَا: حمل الْمُجْمل على الْمُبين.
وَكَذَا إِذا تَأَخّر الْمعَارض بِأَن يكون نَاسِخا فقد عمل
بالدليلين كل مِنْهُمَا فِي وَقت بالمنسوخ أَولا ثمَّ بالناسخ
بعد ذَلِك، وَالْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ لَا ينْحَصر فِي
ذَلِك، بل قد يَقع فِي غَيره، وَقد سبق بَيَان ذَلِك فِي
أبوابه.
قَوْله: {التَّعَارُض: تقَابل الدَّلِيلَيْنِ على سَبِيل
الممانعة وَلَو بَين عَاميْنِ فِي الْأَصَح} .
وَذَلِكَ إِذا كَانَ أحد الدَّلِيلَيْنِ يدل على الْجَوَاز
وَالدَّلِيل الآخر يدل على الْمَنْع، فدليل الْجَوَاز يمْنَع
التَّحْرِيم، وَدَلِيل التَّحْرِيم يمْنَع الْجَوَاز، فَكل
مِنْهُمَا مُقَابل الآخر ومعارض لَهُ ومانع لَهُ.
(8/4126)
قَوْله: {وَلَو بَين عَاميْنِ فِي
الْأَصَح} .
يَعْنِي أَنه يجوز تعَارض عَاميْنِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء، بل
غالبهم أطلق الْعبارَة فِي التَّعَارُض، فَشَمَلَ العامين
وَغَيرهمَا مِمَّا يُمكن التَّعَارُض فِيهِ.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا عَن قوم منع تعَارض عمومين بِلَا
مُرَجّح.
وَقد خص الإِمَام أَحْمد " نَهْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - عَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح وَالْعصر " بقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من نَام عَن صَلَاة
أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا ".
وَذكر القَاضِي، وَأَصْحَابه، والموفق، وَالشَّافِعِيَّة،
تعارضهما؛ لِأَن كلا مِنْهُمَا عَام من وَجه وخاص من وَجه.
(8/4127)
وَقدم الْحَنَفِيَّة النَّهْي لذكر
الْوَقْت فِيهِ، وَتقدم ذَلِك فِي أَوَاخِر التَّخْصِيص.
قَوْله: {والتعادل: التَّسَاوِي، لَكِن تعادل قطعيين محَال
اتِّفَاقًا فَلَا تَرْجِيح، والمتأخر نَاسخ وَلَو آحادا فِي
الْأَصَح، وَمثله قَطْعِيّ وظني، وَيعْمل بالقطعي} .
إِذا لم [يُمكن] الْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين،
فَذَلِك مَحل التعادل والتراجيح.
فالتعادل: عبارَة عَن تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين
بِحَيْثُ لَا يكون فِي أَحدهمَا مَا يرجحه على الآخر،
وَيَأْتِي التَّرْجِيح وتعريفه وَأَحْكَامه قَرِيبا.
(8/4128)
إِذا علم ذَلِك فالتعادل بَين قطعيين
مُمْتَنع قطعا سَوَاء كَانَا عقليين أَو نقليين، أَو أَحدهمَا
عقليا وَالْآخر نقليا؛ إِذْ لَو فرض ذَلِك لزم اجْتِمَاع
النقيضين، أَو ارتفاعهما، وترجيح أَحدهمَا على الآخر محَال
فَلَا مدْخل للترجيح فِي الْأَدِلَّة القطعية؛ لِأَن
التَّرْجِيح فرع التَّعَارُض وَلَا تعَارض فِيهَا فَلَا
تَرْجِيح.
لَكِن إِن علم التَّارِيخ وَكَانَ الْمَدْلُول قَابلا للنسخ،
فالمتأخر نَاسخ للمتقدم إِذا علم تَأَخره بِالْقطعِ، فَإِن
كَانَ مَنْقُولًا بالآحاد عمل بِهِ أَيْضا على الْأَصَح؛
لِأَنَّهُ انْضَمَّ إِلَى ذَلِك أَن الأَصْل فِيهِ الدَّوَام
والاستمرار.
وَقَالَ الْأَنْبَارِي فِي " شرح الْبُرْهَان ": هَذَا
الْأَظْهر، وَذكر احْتِمَالا بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي
إِلَى إِسْقَاط الْمُتَوَاتر بالآحاد.
(8/4129)
وَمثل ذَلِك الْقطعِي والظني، أَعنِي أَنه
لَا تعادل بَينهمَا وَلَا تعَارض لانْتِفَاء الظَّن، لِأَنَّهُ
يَسْتَحِيل وجود ظن فِي مُقَابلَة يَقِين خِلَافه، فالقاطع
هُوَ الْمَعْمُول بِهِ وَالظَّن لَغْو، وَكَذَلِكَ لَا يتعارض
حكم مجمع عَلَيْهِ مَعَ حكم آخر لَيْسَ مجمعا عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَكَذَا ظنيان عِنْد أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه،
والكرخي، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، فَيجمع بَينهمَا، وَلَو بَين
كتاب وَسنة، فِي أصَحهمَا، فَإِن تعذر وَعلم التَّارِيخ،
فَالثَّانِي نَاسخ إِن كَانَ قبله، وَإِن اقترنا خير، وَإِن
جهل وَقبل النّسخ رَجَعَ إِلَى غَيرهمَا، وَإِلَّا اجْتهد فِي
التَّرْجِيح، وَيقف إِلَى أَن يُعلمهُ، وَقَالَ الشَّيْخ:
يُقَلّد عَالما، وَقَالَ القَاضِي وَابْن عقيل وَالْأَكْثَر:
يجوز تعادلهما كَمَا فِي نظر الْمُجْتَهد اتِّفَاقًا وَحكي عَن
أَحْمد، فَعَلَيهِ يتَخَيَّر، وَقيل: فِي وَاجِب وَيسْقط
غَيره، لَكِن لَا يعْمل وَلَا يُفْتِي إِلَّا بقول وَاحِد فِي
الْأَصَح، وَفِي " الْخلاف " و " الرَّوْضَة ": يسقطان، وَقيل:
بِالْوَقْفِ، وللقاضي أَيْضا يُقَلّد غَيره} .
(8/4130)
اخْتلف الْعلمَاء فِي تعادل دَلِيلين ظنيين
على أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه محَال، وَهَذَا الصَّحِيح عندنَا، وَعَلِيهِ
الإِمَام أَحْمد، وَالْأَصْحَاب، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة،
والكرخي، والسرخسي، وَحَكَاهُ الإِسْفِرَايِينِيّ عَن
أَصْحَابه، وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن الْفُقَهَاء، وَيَأْتِي
كَلَام الْخلال، وَابْن خُزَيْمَة.
(8/4131)
فعلى هَذَا إِن أمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن
علم التَّارِيخ وَكَانَ أَحدهمَا عَاما وَالْآخر خَاصّا أَو
مُطلقًا ومقيدا وَنَحْو ذَلِك، عمل بِهِ كَمَا تقدم.
لَكِن إِن كَانَ أحد المتعارضين سنة قابلها كتاب، فَالصَّحِيح
كَذَلِك، أَعنِي إِن أمكن الْعَمَل بهما من وَجه كَانَ أولى،
وَلَا يقدم أَحدهمَا على الآخر.
وَقيل: يقدم الْكتاب على السّنة، لحَدِيث معَاذ: " الْمُشْتَمل
على أَنه يقْضِي بِكِتَاب الله فَإِن لم يجد فبسنة رَسُول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَرَضي رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأقرهُ على ذَلِك "
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره.
وَقيل: تقدم السّنة على الْكتاب، لقَوْله تَعَالَى: {لتبين
للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] .
وَأما قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي
الْبَحْر: " هَذَا الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته " رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَغَيره مَعَ قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أجد فِي
مَا أُوحِي إِلَيّ محرما} إِلَى قَوْله: {أَو لحم خِنْزِير}
[الْأَنْعَام: 145] ، فَكل من الْآيَة والْحَدِيث يتَنَاوَل
خِنْزِير
(8/4132)
الْبَحْر، فيتعارض عُمُوم الْكتاب وَالسّنة
فِي خِنْزِير الْبَحْر.
فَقدم بَعضهم الْكتاب فحرمه، وَقَالَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو
عَليّ النجاد.
وَبَعْضهمْ قدم السّنة فأحله، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد
وَعَلِيهِ جَمَاهِير أَصْحَابه، وَيَأْتِي هَذَا أَيْضا عِنْد
قَوْله: " فِي الْأَمر الْخَارِج فِيمَا إِذا تعَارض قُرْآن
وَسنة ".
وَإِن لم يُمكن الْجمع والتاريخ مَعْلُوم فَالثَّانِي نَاسخ،
فَإِن جهل التَّارِيخ اجْتهد فِي الْجمع إِن أمكن، ثمَّ فِي
التَّارِيخ، فَإِن تعذر وقف الْأَمر إِلَى أَن نتبينه، فَيعْمل
بِمَا يتَبَيَّن.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: إِن عجز عَن التَّرْجِيح أَو
تعذر قلد عَالما.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة: يجوز تعادلهما، وَبِه
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي
(8/4133)
" مُخْتَصره "، وَابْن عقيل فِي ضمن
مَسْأَلَة الْقيَاس، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ، والجرجاني،
والجبائي وَابْنه، وَابْن الباقلاني، وَقَالَ: قَالَه
الْأَشْعَرِيّ،
(8/4134)
وكل من صوب كل مُجْتَهد، وَأَنه حُكيَ عَن
الْحسن الْعَنْبَري، وَقَالَهُ أَكثر الْعلمَاء، وَذكره بعض
أَصْحَابنَا رِوَايَة عَن أَحْمد، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ
وَذكره عَن أَكثر الْفُقَهَاء، كَمَا فِي نظر الْمُجْتَهد
اتِّفَاقًا.
فعلى هَذَا القَوْل يتخيره كالكفارة وَغَيرهَا، لَكِن فرق
الْقَائِل بِالْأولِ بِأَنَّهُ لَا تعَارض فِي الْكَفَّارَة،
وَلِهَذَا يجوز وُرُود الشَّرْع بِإِيجَاب الْكل، وَلَا يجوز
فِي مَسْأَلَتنَا وَيكون عَلامَة التَّخْيِير.
وَالْقَوْل بالتخيير هُنَا اخْتَارَهُ أَبُو بكر بن الباقلاني،
وَأَبُو عَليّ الجبائي،
(8/4135)
وَابْنه أَبُو هَاشم، وَغَيرهم، وَمن هُنَا
جَازَ للعامي أَن يستفتي من شَاءَ من الْمُفْتِينَ وَيعْمل
بقوله كَمَا تقدم.
وَقيل: إِن وَقع التعادل فِي الْوَاجِبَات تخير؛ إِذْ لَا
يمْتَنع التَّخْيِير فِيهَا فِي الشَّرْع، كمن ملك مِائَتَيْنِ
من الْإِبِل مُخَيّر بَين إِخْرَاج أَربع حقاق أَو خمس بَنَات
لبون، وَإِن وَقع بَين حكمين متناقضين كإباحة وَتَحْرِيم،
فَحكمه التساقط وَالرُّجُوع إِلَى الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة.
وَحَيْثُ قُلْنَا بالتعادل أَو التَّخْيِير فَلَا يعْمل وَلَا
يُفْتى إِلَّا بِوَاحِد فِي الْأَصَح.
قَالَ الباقلاني: وَلَيْسَ لَهُ تَخْيِير المستفتي والخصوم
وَلَا الحكم فِي وَقت بِحكم، وَفِي وَقت بِحكم آخر، بل يلْزم
أحد الْقَوْلَيْنِ، وَذكر أَن هَذَا قَول من حَكَاهُ عَنهُ،
قَالَ: وَهل يتَعَيَّن أحد الْأَقْوَال بِالشُّرُوعِ فِيهِ
كالكفارة أم بالتزامه كالنذر؟ لَهُم فِيهِ قَولَانِ. انْتهى.
(8/4136)
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: نَظِير هذَيْن
الْقَوْلَيْنِ: الْقَوْلَانِ لِأَصْحَابِنَا فِي جَوَاز
انْتِقَال الْإِنْسَان عَنهُ.
وَذكر الْآمِدِيّ: أَنه لَا يمْتَنع ذَلِك كَمَا لَو تغير
اجْتِهَاده، إِلَّا أَن يكون الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَاحِدًا
لتضرره بالحكم لَهُ، كحل النِّكَاح فِي وَقت وتحريمه فِي آخر.
ورد: هَذَا القَوْل الْمُقَابل للأصح.
وَالْقَوْل الثَّالِث فِي الْمَسْأَلَة قَالَه القَاضِي أَبُو
يعلى فِي تعَارض الْبَيِّنَتَيْنِ، وَالشَّيْخ موفق الدّين فِي
" الرَّوْضَة " وَغَيرهمَا يتعارضان ويسقطان، فَيجب الرُّجُوع
إِلَى غَيرهمَا وَهُوَ الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " ذهب إِلَى هَذَا كثير من الْفُقَهَاء،
قَالَ: وَيُؤَيِّدهُ مَا رَجحه أَصْحَابنَا فِي مَسْأَلَة
تعَارض الْبَيِّنَتَيْنِ، لَكِن لَا يلْزم مِنْهُ
(8/4137)
مَحْظُور، وَهَذَا يلْزم مِنْهُ تَعْطِيل
الْأَحْكَام ".
وَالْقَوْل الرَّابِع: الْوَقْف كتعارض الْبَيِّنَتَيْنِ على
قَول.
وفيهَا قَول خَامِس قَالَه القَاضِي أَيْضا: يكون كعامي يجب
تَقْلِيد غَيره.
وَذكر أَبُو الْمَعَالِي أَن كلا من المصوبة والمخطئة قَالَ:
هَل يُقَلّد عَالما كعامي أَو يقف أَو يتَخَيَّر؟ فِيهِ
أَقْوَال. انْتهى.
احْتج من منع التعادل فِي الأمارتين فِي نفس الْأَمر مُطلقًا
بِأَنَّهُ لَو وَقع، فإمَّا أَن يعْمل بهما وَهُوَ جمع بَين
المتنافيين، أَو لَا يعْمل بِوَاحِد مِنْهُمَا فَيكون وضعهما
عَبَثا، وَهُوَ محَال على الله تَعَالَى، أَو يعْمل
بِأَحَدِهِمَا على التَّعْيِين،
(8/4138)
وَهُوَ تَرْجِيح من غير مُرَجّح، أَو لَا
على التَّعْيِين بل على التَّخْيِير، والتخيير بَين الْمُبَاح
وَغَيره يَقْتَضِي تَرْجِيح أَمارَة الإباجة بِعَينهَا،
لِأَنَّهُ لما جَازَ لَهُ الْفِعْل وَالتّرْك كَانَ هَذَا معنى
الْإِبَاحَة فَيكون تَرْجِيحا؛ لإحدى الأمارتين بِعَينهَا.
وَأجِيب: بِأَن ذَلِك لَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَة، بل تَخْيِير
للْعَمَل بِإِحْدَى الأمارتين شَاءَ، لَا عمل بِأَيّ
الْفِعْلَيْنِ شَاءَ، بِدَلِيل أَنه لَو كَانَت إِحْدَاهمَا
تَقْتَضِي تَحْرِيمه لَا يُقَال: هُوَ مُخَيّر بَين فعله مَعَ
كَونه حَرَامًا وَبَين غَيره، فَإِذا عمل بِأَحَدِهِمَا وَجب
أَن يعْتَقد بطلَان الآخر، بِخِلَاف الْإِبَاحَة فَإِنَّهُ لَا
يعْتَقد فِيهَا فَسَاد مَا لم يفعل، وَنَظِيره فِي الشَّرْع
التَّخْيِير بَين أَن يُصَلِّي الْمُسَافِر قصرا أَو إتماما،
فَإِنَّهُ إِذا جَازَ لَهُ ترك الرَّكْعَتَيْنِ عِنْد
اخْتِيَار الْقصر، لَا يُقَال: إِن فعل الرَّكْعَتَيْنِ
مُبَاح.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه نظر، وَاحْتج من جوز تعادل
الأمارتين فِي نفس الْأَمر بِالْقِيَاسِ على جَوَاز تعادلهما
فِي الذِّهْن، وَبِأَنَّهُ لَا يلْزم من فَرْضه محَال، وَقد
أُجِيب عَن ذَلِك.
وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام فِي " قَوَاعِده ": لَا يتَصَوَّر
فِي الظنون تعَارض كَمَا لَا يتَصَوَّر فِي الْعُلُوم،
إِنَّمَا يَقع التَّعَارُض بَين أَسبَاب الظنون، فَإِذا
تَعَارَضَت: فَإِن حصل الشَّك لم يحكم بِشَيْء، وَإِن وجد ظن
فِي أحد الطَّرفَيْنِ
(8/4139)
حكمنَا بِهِ؛ لِأَن ذهَاب مُقَابِله يدل
على ضعفه وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا مُكَذبا للْآخر تساقطا،
وَإِن لم يكذب كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه عمل بِهِ حسب
الْإِمْكَان كدابة عَلَيْهَا راكبان يحكم لَهما بهَا؛ لِأَن
كلا من الْيَدَيْنِ لَا تكذب الْأُخْرَى. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَهُوَ نَفِيس؛ لِأَن الظَّن هُوَ
الطّرف الرَّاجِح، وَلَو عورض بِطرف آخر رَاجِح، لزم أَن يكون
كل وَاحِد مِنْهُمَا راجحا مرجوحا، وَهُوَ محَال " انْتهى.
قَوْله: {وَالتَّرْجِيح تَقْوِيَة أحد أمارتين على أُخْرَى
لدَلِيل، وَمنعه الباقلاني وَجمع كَالشَّهَادَةِ، قَالَ
الطوفي: الْتِزَامه فِيهَا مُتَّجه ثمَّ هِيَ آكِد} .
لَا يَقع التَّرْجِيح إِلَّا مَعَ وجود التَّعَارُض، فَحَيْثُ
انْتَفَى التَّعَارُض انْتَفَى التَّرْجِيح، فالترجيح فرع
التَّعَارُض مُرَتّب على وجوده.
وَاعْلَم أَنه لَا تعَارض بِالْحَقِيقَةِ فِي حجج الشَّرْع؛
وَلِهَذَا أخر مَا أمكن.
(8/4140)
قَالَ أَبُو بكر الْخلال من أَئِمَّة
أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين: لَا يجوز أَن يُوجد فِي الشَّرْع
خبران متعارضان لَيْسَ مَعَ أَحدهمَا تَرْجِيح يقدم، فأحد
المتعارضين بَاطِل إِمَّا لكذب النَّاقِل، أَو خطأ بِوَجْه مَا
من النقليات، أَو خطأ النَّاظر فِي النظريات، أَو لبُطْلَان
حكمه بالنسخ. انْتهى.
وَقَالَ إِمَام الْأَئِمَّة أَبُو بكر ابْن خُزَيْمَة: لَا
أعرف حديثين صَحِيحَيْنِ متضادين، فَمن كَانَ عِنْده شَيْء
مِنْهُ فَليَأْتِنِي بِهِ لأؤلف بَينهمَا، وَكَانَ من أحسن
النَّاس كلَاما فِي ذَلِك، نَقله الْعِرَاقِيّ فِي " شرح
ألفيته فِي الحَدِيث ".
وحد التَّرْجِيح: تَقْوِيَة إِحْدَى الأمارتين على الْأُخْرَى
بِدَلِيل فَيعلم الْأَقْوَى فَيعْمل بِهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " هُوَ اقتران الأمارة بِمَا تقوى بِهِ
على معارضها ".
وَقَالَ بَعضهم: " المُرَاد بِوَصْف فَلَا يرجح نَص وَلَا
قِيَاس بِمثلِهِ " انْتهى.
(8/4141)
فالترجيح فعل الْمُرَجح النَّاظر فِي
الدَّلِيل، وَهُوَ تقدم إِحْدَى الأمارتين الصالحتين للإفضاء
إِلَى معرفَة الحكم لاخْتِصَاص تِلْكَ الأمارة بِقُوَّة فِي
الدّلَالَة، كَمَا لَو تعَارض الْكتاب وَالْإِجْمَاع فِي حكم،
فَكل مِنْهُمَا طَرِيق يصلح لِأَن يعرف بِهِ الحكم، لَكِن
الْإِجْمَاع اخْتصَّ بِقُوَّة على الْكتاب من حَيْثُ
الدّلَالَة، وَيَأْتِي حد الرجحان وَالْفرق بَينهمَا قَرِيبا.
وَمنع الباقلاني وَجمع كَالشَّهَادَةِ.
وَذكر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ عَن قوم منع التَّرْجِيح
مُطلقًا.
قَالَ الطوفي: الْتِزَامه فِي الشَّهَادَة مُتَّجه ثمَّ هِيَ
آكِد
اعْلَم أَن الْعَمَل بالراجح فِيمَا لَهُ مُرَجّح هُوَ قَول
جَمَاهِير الْعلمَاء سَوَاء
(8/4142)
كَانَ الْمُرَجح مَعْلُوما أَو مظنونا،
حَتَّى إِن المنكرين للْقِيَاس عمِلُوا بالترجيح فِي ظواهر
الْأَخْبَار.
وَخَالف القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني فِي جَوَاز
الْعَمَل بالمرجح بالمظنون وَقَالَ: إِنَّمَا أقبل التَّرْجِيح
بالمقطوع بِهِ كتقديم النَّص على الْقيَاس لَا بالأوصاف، وَلَا
الْأَحْوَال، وَلَا كَثْرَة الْأَدِلَّة وَنَحْوهَا، فَلَا يجب
الْعَمَل بِهِ فَإِن الأَصْل امْتنَاع الْعَمَل بِالظَّنِّ.
خالفناه فِي الظنون المستقلة بأنفسها لإِجْمَاع الصَّحَابَة،
فَيبقى التَّرْجِيح على أصُول الِامْتِنَاع؛ لِأَنَّهُ عمل
بِظَنّ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ.
ورد قَوْله: بِالْإِجْمَاع على عدم الْفرق بَين المستقل
وَغَيره.
(8/4143)
وَقد رجحت الصَّحَابَة قَول عَائِشَة -
رَضِي الله عَنْهَا - فِي التقاء الختانين " فعلته أَنا
وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، على
مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا المَاء من المَاء "
لكَونهَا أعرف بذلك مِنْهُم.
(8/4144)
قَالَ الطوفي: وَلَيْسَ قَوْله بِشَيْء؛
لِأَن الْعَمَل بالأرجح مُتَعَيّن عقلا وَشرعا، وَقد عملت
الصَّحَابَة بالترجيح مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ، وَالتَّرْجِيح دأب
الْعقل وَالشَّرْع حَيْثُ احْتَاجَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الطوفي أَيْضا: لما قَاس الباقلاني الْمَنْع فِي
التَّرْجِيح على الْبَينَات الْتِزَام التَّرْجِيح أَيْضا فِي
الْبَينَات مُتَّجه، لِأَن إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ إِذا
اخْتصّت بِمَا يُفِيد زِيَادَة ظن صَارَت الْأُخْرَى
كالمعدومة، وَلَو سلم فِي الْبَيِّنَة فَالْفرق بَينهمَا: أَن
بَاب الشَّهَادَة مشوب بالتعبد بِدَلِيل أَن الشَّاهِد لَو
أبدل لفظ الشَّهَادَة بِلَفْظ الْإِخْبَار أَو الْعلم،
فَقَالَ: أخبر أَو أعلم مَكَان " أشهد "، لم
(8/4145)
يقبل، وَلَا تقبل شَهَادَة جمع من
النِّسَاء وَإِن كثرت على يسير من المَال، حَتَّى يكون
مَعَهُنَّ رجل، مَعَ أَن شَهَادَة الْجمع الْكثير من النِّسَاء
يجوز أَن يحصل بِهِ الْعلم التواتري، وَمَا ذَاك إِلَّا
لثُبُوت التَّعَبُّد فَجَاز أَن يكون عدم التَّرْجِيح فِيهَا
من ذَلِك بِخِلَاف الْأَدِلَّة؛ إِذْ لَا تعبد فِيهَا.
فَهَذَا جَوَاب عَمَّا قَالَه الباقلاني من وَجْهَيْن:
الْتِزَام الحكم بالترجيح فِي الْبَينَات وَالْفرق بَينهَا
وَبَين الْأَدِلَّة على تَقْدِير التَّسْلِيم.
وَلم يذكر مَا قَالَه أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ: أَنه لَا
يعْمل بِأَصْل التَّرْجِيح، بل عِنْد التَّعَارُض يلْزم
التَّخْيِير أَو الْوَقْف؛ لِأَن أَبَا الْمَعَالِي أنكر وجوده
وَلم يره، وَقَالَ غَيره: إِن صَحَّ عَنهُ فَهُوَ مَسْبُوق
بِإِجْمَاع الصَّحَابَة وَالْأمة من بعدهمْ فَلَا يلْتَفت
إِلَيْهِ.
قَوْله: {وَلَا تَرْجِيح فِي الْمذَاهب الخالية عَن دَلِيل،
وَقيل: بلَى، وَفِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: وَلَا بَين علتين
إِلَّا أَن تكون كل مِنْهَا طَرِيقا للْحكم
(8/4146)
مُنْفَرِدَة، قَالَ الشَّيْخ: يَقع إِن
أمكن كَونه طَرِيقا قبل ثُبُوته} .
لَا تَرْجِيح فِي الْمذَاهب الخالية عَن دَلِيل، إِنَّمَا
التَّرْجِيح فِي الْأَلْفَاظ المسموعة والمعاني المعقولة، على
مَا يَأْتِي قَرِيبا تَفْصِيل ذَلِك، لَا فِي الْمذَاهب
الخالية عَن دَلِيل.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة نقلتها من " مُخْتَصر الطوفي ".
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": إِنَّه نقلهَا من جدل ابْن
الْمَنِيّ، قَالَ: " وأصل الْمَسْأَلَة أَن القَاضِي عبد
الْجَبَّار قَالَ: إِن التَّرْجِيح لَهُ مدْخل فِي الْمذَاهب،
بِحَيْثُ يُقَال: مَذْهَب الشَّافِعِي مثلا أرجح من مَذْهَب
أبي حنيفَة أَو غَيره أَو بِالْعَكْسِ، وَخَالفهُ غَيره.
حجَّة عبد الْجَبَّار: أَن الْمذَاهب آراء واعتقادات مُسندَة
إِلَى الْأَدِلَّة، وَهِي تَتَفَاوَت فِي الْقُوَّة والضعف،
فَجَاز دُخُول التَّرْجِيح فِيهَا كالأدلة.
حجَّة المانعين من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن الْمذَاهب لتوافر انهراع النَّاس وتعويلهم
عَلَيْهَا صَارَت كالشرائع والملل الْمُخْتَلفَة، وَلَا
تَرْجِيح فِي الشَّرَائِع.
(8/4147)
وَهُوَ ضَعِيف؛ لِأَن انهراع النَّاس
إِلَيْهَا لَا يُخرجهَا عَن كَونهَا ظنية تقبل التَّرْجِيح،
وَلَا نسلم أَنَّهَا تشبه الشَّرَائِع، وَإِن سلمنَا ذَلِك
لَكِن لَا نسلم أَن الشَّرَائِع لَا تقبل التَّرْجِيح،
بِاعْتِبَار مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْمصَالح والمحاسن،
وَإِن كَانَ طَرِيق جَمِيعهَا قَاطعا.
الْوَجْه الثَّانِي: لَو كَانَ للترجيح مدْخل فِي الْمذَاهب
لاضطرب النَّاس، وَلم يسْتَقرّ أحد على مَذْهَب، فَلذَلِك لم
يكن للترجيح فِيهِ مدْخل كالبينات.
وَهُوَ ضَعِيف - أَيْضا - وَاللَّازِم مِنْهُ مُلْتَزم، وكل من
ظهر لَهُ رُجْحَان مَذْهَب، وَجب عَلَيْهِ الدُّخُول فِيهِ،
كَمَا يجب على الْمُجْتَهد الْأَخْذ بأرجح الدَّلِيلَيْنِ.
الْوَجْه الثَّالِث: أَن كل وَاحِد من الْمذَاهب لَيْسَ متمحضا
فِي الْخَطَأ وَلَا فِي الصَّوَاب، بل هُوَ مُصِيب فِي بعض
الْمسَائِل، مخطيء فِي بَعْضهَا، وعَلى هَذَا فالمذهبان لَا
يقبلان التَّرْجِيح، لإفضاء ذَلِك إِلَى التَّرْجِيح بَين
الْخَطَأ وَالصَّوَاب فِي بعض الصُّور أَو بَين خطأين وصوابين،
وَالْخَطَأ لَا مدْخل للترجيح فِيهِ اتِّفَاقًا.
وَهَذَا الْوَجْه يُشِير فيهإلى أَن النزاع لَفْظِي، وَهُوَ
أَن من نفى التَّرْجِيح فَإِنَّمَا أَرَادَ: لَا يَصح تَرْجِيح
مَجْمُوع مَذْهَب على مَجْمُوع مَذْهَب آخر لما ذكر، وَمن أثبت
التَّرْجِيح بَينهمَا أثْبته بِاعْتِبَار مسائلها
الْجُزْئِيَّة وَهُوَ صَحِيح، إِذْ يَصح أَن يُقَال: مَذْهَب
مَالك فِي أَن المَاء الْمُسْتَعْمل فِي رفع الْحَدث طهُور،
(8/4148)
أرجح من مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد فِي
أَنه غير طهُور، وَكَذَا فِي غَيرهَا من الْمسَائِل.
فَحِينَئِذٍ يكون النزاع لفظيا؛ إِذْ لَا تنَافِي بَين
قَوْلنَا: يجوز التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب وَلَا يجوز
لاخْتِلَاف مَوْضُوع الحكم بِالْكُلِّ والجزء ".
قَالَ الطوفي: وَيحْتَمل أَن يكون مأخذه النزاع فِي التصويب،
من زعم أَن كل مُجْتَهد مُصِيب امْتنع التَّرْجِيح فِي
الْمذَاهب عِنْده، وَمن زعم أَن لَيْسَ كل مُجْتَهد بمصيب اتجه
التَّرْجِيح عِنْده.
قَالَ: وَيحْتَمل أَن النزاع مَبْنِيّ على تعادل الأمارات،
فَمن يمنعهُ يمْنَع التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب، وَمن يُجِيزهُ
يُجِيز التَّرْجِيح وَالتَّفْصِيل.
ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح الْمُخْتَار: أَن للترجيح مدخلًا فِي
كل الْمذَاهب من حَيْثُ الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل إِذا دلّ
عَلَيْهِ الدَّلِيل.
قَالَ: ثمَّ إِن التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب وَاقع
بِالْإِجْمَاع، وَهُوَ دَلِيل الْجَوَاز قطعا، وَذَلِكَ أَن
الْمُسلمين اقتسموا الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا، كمذهب
(8/4149)
سُفْيَان وَدَاوُد وَغَيرهمَا، وكل من حسن
ظَنّه بِمذهب تعبد بِهِ واتخذه دينا، حَتَّى غلب على مَذْهَب
مَالك الْمغرب، وَمذهب أبي حنيفَة الْمشرق، وَالشَّافِعِيّ
غَالب الْبِلَاد بَينهمَا، وَأحمد على أهل جيلان وَبَعض
الْعرَاق، وكل من الْتزم مذهبا فَإِنَّمَا هُوَ لرجحانه عِنْده
بترجيحه بِاجْتِهَادِهِ أَو تَقْلِيد، وَأجْمع الْمُسلمُونَ
على عدم الْإِنْكَار على من الْتزم أَي مَذْهَب شَاءَ بذلك
التَّرْجِيح، فَكَانَ التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب ثَابتا
بِالْإِجْمَاع، وَأطَال فِي ذَلِك.
قلت: وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي
" وَغَيره، وَكَذَلِكَ يُصَرح الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره
بذلك فِي كثير من الْمسَائِل.
(8/4150)
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: "
لَا يَصح التَّرْجِيح بَين علتين إِلَّا أَن تكون كل مِنْهُمَا
طَرِيقا للْحكم مُنْفَرِدَة؛ لِأَنَّهُ لَا يَصح تَرْجِيح
طَرِيق على مَا لَيْسَ بطرِيق ".
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: " يَقع إِن أمكن كَونه طَرِيقا
قبل ثُبُوته ".
قَوْله: {ورجحان الدَّلِيل كَون الظَّن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ
أقوى} .
تقدم تَعْرِيف التَّرْجِيح.
[والرجحان: صفة قَائِمَة بِالدَّلِيلِ أَو مُضَافَة إِلَيْهِ
وَهِي: كَون الظَّن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ أقوى من غَيره،
كالمستفاد من قِيَاس الْعلَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِيَاس
الشّبَه، وَمن الْخَاص بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَام، فالترجيح
فعل الْمُرَجح، والرجحان صفة الدَّلِيل.
وَيظْهر لَك الْفرق بَينهمَا أَيْضا من جِهَة التصريف
اللَّفْظِيّ فَإنَّك تَقول: رجحت الدَّلِيل تَرْجِيحا فَأَنا
مرجِّح، وَالدَّلِيل مرجَّح - بِفَتْح الْجِيم - وَتقول: رجح
الدَّلِيل رجحانا فَهُوَ رَاجِح، إِلَّا أَنَّك أسندت
التَّرْجِيح إِلَى نَفسك إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل،
وأسندت الرجحان إِلَى الدَّلِيل، كَذَلِك كَانَ التَّرْجِيح
وصف الْمُسْتَدلّ والرجحان وصف الدَّلِيل] .
(8/4151)
[وَيجب تَقْدِيم الرَّاجِح إِجْمَاعًا،
وَيكون بَين منقولين ومعقولين، ومنقول ومعقول:
الأول: فِي السَّنَد، والمتن، ومدلول اللَّفْظ، وَأمر خَارج.
السَّنَد: الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر: يرجح بِالْأَكْثَرِ
رُوَاة كالأكثر أَدِلَّة فِي الْأَصَح.
وَابْن برهَان، وَالْمجد: بالأوثق.
(8/4152)
وَخَالف الْكَرْخِي.
وَغَيره كَالشَّهَادَةِ والفتيا.
وَعند مَالك، وَقَول لنا: الشَّهَادَة، كالرواية.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: لَو رجح بِكَثْرَة الْمُفْتِينَ لجَاز.
وَبِزِيَادَة ثِقَة، وفطنة، وورع، وَعلم، وَضبط، ولغة،
وَنَحْو.
(8/4153)
وباشتهاره بأحدها.
أَو أحسن سياقا.
وباعتماده على حفظه أَو ذكره.
وبعمله بروايته.
أَولا يُرْسل إِلَّا عَن عدل.
(8/4154)
أَو مباشرا.
أَو صَاحب الْقِصَّة، خلافًا للجرجاني.
(8/4155)
أَو مشافها، أَو أقرب عِنْد سَمَاعه.
أَو من أكَابِر الصَّحَابَة على الْأَصَح.
(8/4156)
فَيقدم الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وأحدهم،
وذكرهما الْفَخر، والطوفي فيهم.
زَاد الطوفي: فَإِن رجحت رجحت رِوَايَة الأكابر، أَو مُتَقَدم
الْإِسْلَام.
(8/4157)
وَقَالَ القَاضِي، وَالْمجد، والطوفي:
سَوَاء.
وَابْن عقيل وَالْأَكْثَر: الْمُتَأَخر، وبالأكثر صُحْبَة.
زَاد أَبُو الْخطاب: أَو قدمت هجرته.
(8/4158)
قَالَ الْآمِدِيّ وَابْن حمدَان وَجمع: أَو
مَشْهُور النّسَب.
زَاد الْآمِدِيّ وَمن تبعه: أَو غير ملتبس بضعيف.
وردا.
أَو سمع بَالغا.
قَالَ ابْن عقيل: وَأهل الْحَرَمَيْنِ.
وَقيل: وبالحرية والذكورية.
وَالأَصَح: سَوَاء.
(8/4159)
وَقيل: هِيَ فِي أَحْكَام النِّسَاء.
وبكثرة مزكين، وأعدليتهم وأوثقيتهم.
وَسبق تعديله بقول وَحكم وَعمل.
ومسند على مُرْسل عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر.
زَاد ابْن حمدَان والطوفي: إِلَّا مُرْسل صَحَابِيّ.
وَعند الْجِرْجَانِيّ وَأبي الْخطاب: الْمُرْسل.
(8/4160)
ومرسل تَابِعِيّ على غَيره.
وبالأعلى إِسْنَادًا.
وَقَالَ القَاضِي: سَوَاء.
ومعنعن على إِسْنَاده إِلَى كتاب مُحدث، وعَلى مَشْهُور بِلَا
نَكِير.
وَالْكتاب على الْمَشْهُور.
(8/4161)
والشيخان على غَيرهمَا. وَقيل: السِّتَّة،
فَالْبُخَارِي، فَمُسلم، فشرطهما، فَشرط البُخَارِيّ، فَمُسلم،
فَمَا صحّح، ومرفوع، ومتصل على مَوْقُوف، ومنقطع، ومتفق على
رَفعه أَو وَصله على مُخْتَلف فِيهِ.
(8/4162)
وَسبق قِرَاءَة الشَّيْخ وَغَيرهَا.
وَرِوَايَة متفقة على مُخْتَلفَة مضطربة.
وَقيل: سَوَاء.
وَقيل: فِيمَا اتفقَا، وَيسْقط غَيره.
وَقيل: يسقطان وَيعْمل بِمَا لم يخْتَلف.
(8/4163)
وَقدم الْفَخر، والطوفي: مَا ورد
بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة متفقة الْمَعْنى.
وَمَا سمع مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على
كِتَابَة، قَالَه الْجِرْجَانِيّ، وَابْن عقيل، وَالْمجد،
والآمدي.
وَقَالَ أَحْمد: سَوَاء.
فَيحْتَمل فِي الْحجَّة، وَيحْتَمل لَا تَرْجِيح كَالْقَاضِي،
وَابْن الْبَنَّا.
وَمَا سمع مِنْهُ على مَا سكت عَنهُ مَعَ حُضُوره.
(8/4164)
وَهُوَ على غيبته، إِلَّا مَا خطر
السُّكُوت عَنهُ أعظم.
وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعله.
وثالثتها سَوَاء.
وَمَا لَا تعم بِهِ الْبلوى فِي الْآحَاد.
وَمَا لم يُنكره الْمَرْوِيّ عَنهُ.
(8/4165)
وَمَا أنكرهُ نِسْيَانا على غَيره
فِيهِنَّ.
الْمَتْن: يرجح نهي على أَمر.
وَأمر على مُبِيح.
وَعكس الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، والهندي.
(8/4166)
فعلى الأول يرجح نهي عَلَيْهِ، وعَلى
الثَّانِي: عَكسه.
وَالْخَبَر على الثَّلَاثَة.
ومتواط على مُشْتَرك.
ومشترك قل مَدْلُوله على مَا كثر.
قَالَ ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا: وبظهور أحد الْمَعْنيين
اسْتِعْمَالا.
(8/4167)
وَابْن حمدَان: ومشترك بَين علمين، أَو
علم، وَمعنى على مَعْنيين.
والبيضاوي: وعلمين على علم وَمعنى.
ومجاز، على مجَاز: بشهرة علاقته، وبقوتها، وبقرب جِهَته،
وبرجحان دَلِيله، وبشهرة اسْتِعْمَاله.
(8/4168)
ومجاز على مُشْتَرك فِي الْأَصَح.
وَتَخْصِيص على مجَاز.
وهما على إِضْمَار.
وَفِي " الْمقنع ": هُوَ.
وَقيل: هُوَ ومجاز: سَوَاء، جزم بِهِ بعض أَصْحَابنَا.
وَالثَّلَاثَة على نقل.
وَهُوَ على مُشْتَرك قطع بِهِ فِي " الْمقنع " وَغَيره] .
(8/4169)
[قَوْله] { [وَحَقِيقَة مُتَّفق عَلَيْهَا،
وَالْأَشْهر مِنْهَا وَمن مجَاز على عَكسه] } .
[يَعْنِي أَن الْحَقِيقَة الْمُتَّفق عَلَيْهَا تقدم على
عكسها، وَهِي الْحَقِيقَة الْمُخْتَلف فِيهَا] .
[وَالتَّرْجِيح] فِيهَا وَاضح، وَكَذَا تَرْجِيح الْأَشْهر من
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على عَكسه، سَوَاء كَانَت الشُّهْرَة
فِي اللُّغَة أَو الشَّرْع أَو الْعرف.
قَوْله: {وَسبق مجَاز رَاجِح وَحَقِيقَة مرجوحة} .
فِي أَحْكَام الْمجَاز أَو الْكتاب، فَليُرَاجع.
قَوْله: {ولغوي مُسْتَعْمل شرعا فِي لغَوِيّ على مَنْقُول
شَرْعِي} .
يرجح اللَّفْظ اللّغَوِيّ الْمُسْتَعْمل شرعا فِي مَعْنَاهُ
اللّغَوِيّ على الْمَنْقُول الشَّرْعِيّ؛ لِأَن الأَصْل
مُوَافقَة الشَّرْع لَا اللُّغَة.
(8/4170)
قَوْله: {ويرجح مُنْفَرد، وَمَا قل مجازه،
أَو تعدّدت جِهَة دلَالَته، أَو تأكدت، أَو كَانَت جِهَة
مطابقته} .
مَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا لَو اسْتعْمل
الشَّارِع لفظا لغويا فِي مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، فَيقدم على
الْمَنْقُول الشَّرْعِيّ.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة إِذا اسْتعْمل الشَّارِع لفظا لغويا فِي
معنى شَرْعِي فَإِنَّهُ يقدم على اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي
اللُّغَة لِمَعْنى، وَهَذَا معنى قَوْلنَا: (ويرجح مُنْفَرد)
فَإِن الْمَعْهُود من الشَّارِع إِطْلَاق اللَّفْظ فِي
مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ؛ وَلذَلِك قدم.
ويرجح أَيْضا مَا قل مجازه على مَا كثر مجازه؛ لِأَن بِكَثْرَة
الْمجَاز يضعف، فَلذَلِك قدم مَا قل مجازه، وَهَذِه الصُّورَة
ذكرهَا ابْن مُفْلِح.
ويرجح مَا أكد دلَالَته، بِأَن تَتَعَدَّد جِهَات دلَالَته
وَيكون أقوى، وَالْآخر تتحد جِهَة دلَالَته، أَو يكون أَضْعَف
نَحْو: " نِكَاحهَا بَاطِل بَاطِل ".
(8/4171)
وكما تقدم دلَالَة الْمُطَابقَة على
دلَالَة الِالْتِزَام، قَالَه الْعَضُد.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": " ويرجح أحد
المتعارضين بتأكيد الدّلَالَة، مثل أَن يكون أحد المتعارضين
خَاصّا عطف على عَام تنَاوله، والمعارض الآخر خَاص لَيْسَ
كَذَلِك، فَإِن الْمَعْطُوف على الْعَام أكد دلَالَته
بِدلَالَة الْعَام عَلَيْهِ، مثل قَوْله تَعَالَى: {حَافظُوا
على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} [الْبَقَرَة: 238] "
انْتهى.
قَوْله: {وَفِي اقْتِضَاء ضَرُورَة صدق الْمُتَكَلّم على
ضَرُورَة وُقُوعه شرعا أَو عقلا، وعقلا على شرعا، وَفِي
إِيمَاء: بِمَا لولاه لَكَانَ فِي الْكَلَام عَبث أَو حَشْو
على غَيره} .
يرجح فِي الِاقْتِضَاء مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ غير ضَرُورَة
الصدْق مثل: " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ " على مَا يتَوَقَّف
عَلَيْهِ ضَرُورَة وُقُوعه شرعا أَو عقلا، مثل:
(8/4172)
أعتق عَبدك عني، أَو صعدت السَّطْح؛ لِأَن
مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صدق الْمُتَكَلّم أولى مِمَّا
يتَوَقَّف عَلَيْهِ وُقُوعه الشَّرْعِيّ والعقلي؛ نظرا إِلَى
بعد الْكَذِب فِي كَلَام الشَّرْع.
قَوْله: {وعقلا على شرعا} .
أَي: على وُقُوعه، قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره.
ويرجح فِي الْإِيمَاء مَا لولاه لَكَانَ فِي الْكَلَام عَبث
وحشو على غَيره من أَقسَام الْإِيمَاء، مثل أَن يذكر الشَّارِع
مَعَ الحكم وَصفا لَو لم يُعلل الحكم بِهِ لَكَانَ ذكره عَبَثا
أَو حَشْوًا، فَإِنَّهُ يقدم على الْإِيمَاء بِمَا رتب فِيهِ
الحكم بفاء التعقيب؛ لِأَن نفي الْعَبَث والحشو فِي كَلَام
الشَّارِع أولى.
قَوْله: {وَمَفْهُوم مُوَافقَة على مُخَالفَة وَعكس
الْهِنْدِيّ} .
مَا دلّ بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة مقدم على مَا كَانَ مَفْهُوم
الْمُخَالفَة، لِأَن الْمُوَافقَة بِاتِّفَاق فِي دلالتها على
الْمَسْكُوت، وَإِن اخْتلف فِي جِهَته هَل هُوَ بِالْمَفْهُومِ
أَو بِالْقِيَاسِ، أَو مجَاز بِالْقَرِينَةِ، أَو مَنْقُول
عرفي، كَمَا سبق مبرهن عَلَيْهِ.
(8/4173)
قَالَ الْآمِدِيّ: وَقد يُمكن تَرْجِيح
الْمُخَالفَة لفائدة التأسيس.
وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيّ.
قَوْله: {واقتضاء على إِشَارَة وإيماء وَمَفْهُوم، قَالَ
الْآمِدِيّ: وإيماء على مَفْهُوم، وَقَالَ الشَّيْخ:
التَّنْبِيه كنص أَو أقوى} .
يقدم الِاقْتِضَاء على الْإِشَارَة، وعَلى الْإِيمَاء، وعَلى
الْمَفْهُوم؛ لِأَنَّهُ مَقْصُود بإيراد اللَّفْظ صدقا أَو
حصولا، ويتوقف الأَصْل عَلَيْهِ، ومقطوع بِثُبُوتِهِ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: " أما تَرْجِيحه على الْإِشَارَة
فَلِأَن الِاقْتِضَاء مَقْصُود بإيراد اللَّفْظ صدقا أَو حصولا
ويتوقف الأَصْل عَلَيْهِ، بِخِلَاف الْإِشَارَة فَإِنَّهَا لم
تقصد بإيراد اللَّفْظ وَإِن توقف الأَصْل عَلَيْهَا، وَأما
تَرْجِيحه على الْإِيمَاء فَلِأَن الْإِيمَاء - وَإِن كَانَ
مَقْصُودا بأفراد اللَّفْظ - لكنه لم يتَوَقَّف الأَصْل
عَلَيْهِ، وَأما تَرْجِيحه على الْمَفْهُوم؛ فَلِأَن
الِاقْتِضَاء مَقْطُوع بِثُبُوتِهِ، وَالْمَفْهُوم مظنون
ثُبُوته، وَلذَلِك لم يقل بِالْمَفْهُومِ بعض من قَالَ
بالاقتضاء " انْتهى.
(8/4174)
قَالَ الْآمِدِيّ: وَيقدم الْإِيمَاء على
الْمَفْهُوم لقلَّة مبطلاته.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن تَقْدِيم أبي الْخطاب
النَّص على التَّنْبِيه:
" لَيْسَ بجيد، لِأَنَّهَا مثله أَو أقوى ".
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا فِي مَسْأَلَة الْوَقْف
- كتب عَلَيْهَا خمس كراريس فِي أَثْنَائِهَا -: " فَإِن نقل
نصيب الْمَيِّت إِلَى ذَوي طبقته إِذا لم يكن لَهُ ولد دون
سَائِر أهل الْوَقْف، تَنْبِيه على أَنه يَنْقُلهُ إِلَى
وَلَده إِن كَانَ لَهُ ولد، والتنبيه دَلِيل أقوى من النَّص
حَتَّى فِي شُرُوط الواقفين ".
قَوْله: {وَتَخْصِيص عَام على تَأْوِيل خَاص، وخاص وَلَو من
وَجه، فَكَذَا مَا قرب مِنْهُ، وعام لم يخصص، أَو قل تَخْصِيصه
على عَكسه} .
(8/4175)
يرجح تَخْصِيص الْعَام على تَأْوِيل
الْخَاص؛ لِأَن تَخْصِيص الْعَام كثير وَتَأْويل الْخَاص
لَيْسَ بِكَثِير؛ وَلِأَن الدَّلِيل لما دلّ على عدم إِرَادَة
الْبَعْض تعين كَون الْبَاقِي مرَادا، وَإِذا دلّ على أَن
الظَّاهِر الْخَاص أقوى غير مُرَاد لم يتَعَيَّن هَذَا
التَّأْوِيل.
ويرجح الْخَاص على الْعَام.
وَيرجع الْخَاص من وَجه على الْعَام مُطلقًا؛ لِأَن الْخَاص
أقوى دلَالَة من الْعَام، فَكَذَا كل مَا هُوَ أقرب.
ويرجح الْعَام الَّذِي لم يخصص على الْعَام الَّذِي خصص؛ لِأَن
الْعَام
(8/4176)
بعد التَّخْصِيص اخْتلف فِي كَونه حجَّة
بِخِلَاف الْعَام الْبَاقِي على عُمُومه
قَوْله: {ومقيد وَمُطلق كعام وخاص} .
حكم الْمُقَيد وَالْمُطلق حكم الْخَاص وَالْعَام، فَيقدم
الْمُقَيد وَلَو من وَجه على الْمُطلق، وَالْمُطلق لم يخرج
مِنْهُ مُقَيّد على مَا أخرج مِنْهُ، قَالَه الْعَضُد.
قَوْله: {وعام شرطي ك " من " و " مَا " على غَيره، وَرجح
الْهِنْدِيّ: النكرَة المنفية، فَظَاهر كَلَام أبي
الْمَعَالِي: سَوَاء، ويرجح جمع واسْمه معرفان ب " اللَّام "،
و " من " و " مَا " على الْجِنْس بِاللَّامِ، وَقيل يرجح مُنكر
على معرف، قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: وفصيح لَا أفْصح، وَلم يذكرهُ
الْأَكْثَر} .
إِذا تَعَارَضَت صِيغ الْعُمُوم فصيغة الشَّرْط بِصَرِيح ك "
من " و " مَا " و " أَي " تقدم على صِيغَة النكرَة الْوَاقِعَة
فِي صِيغَة النَّفْي وَغَيرهَا، كالجمع الْمحلى.
(8/4177)
والمضاف وَنَحْوهمَا، لدلَالَة الأول على
كَون ذَلِك عِلّة للْحكم، وَهُوَ أدل على الْمَقْصُود مِمَّا
لَا عِلّة فِيهِ، إِذْ لَو ألغينا الْعَام الشرطي كَانَ
إِلْغَاء لِلْعِلَّةِ، بِخِلَاف الْعَام غير الشرطي لَا يلْزم
بِهِ إِلْغَاء الْعلَّة، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي " الْمَحْصُول "
من أَن عُمُوم الأول بِالْوَضْعِ وَالثَّانِي بِالْقَرِينَةِ.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يُمكن هَذَا، وَيُمكن تَرْجِيح النكرَة
المنفية؛ لِأَنَّهُ بعد خُرُوج وَاحِد مِنْهُ خلفا.
وَهَذَا اخْتَارَهُ الصفي الْهِنْدِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَكَانَ وَجهه أَن طروق التَّخْصِيص
إِلَيْهِ بعيد، لبعد أَن يُقَال فِي " لَا رجل فِي الدَّار ":
إِن فِيهَا فلَانا.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": لَا فرق بَين
الْعُمُوم الشرطي والنكرة المنفية فِي معنى الْعُمُوم، وَأَنه
يقطع بِأَن الْعَرَب وضعتهما كَذَلِك)
(8/4178)
انْتهى.
ويرجح الْجمع، وَاسم الْجمع، الْمُعَرّف بِاللَّامِ، و " من "
و " مَا " على اسْم الْجِنْس الْمُعَرّف بِاللَّامِ، لِأَن
الْجِنْس الْمحلى بِاللَّامِ اخْتلف الْمُحَقِّقُونَ فِي
عُمُومه بِخِلَاف الْجمع واسْمه الْمُعَرّف بِاللَّامِ، و " من
" و " مَا "؛ لِأَن الْجمع واسْمه لَا يحْتَمل الْعَهْد، أَو
يحْتَملهُ على بعد، بِخِلَاف اسْم الْجِنْس الْمحلى
بِاللَّامِ، فَإِنَّهُ مُحْتَمل للْعهد احْتِمَالا قَرِيبا.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: وَرُبمَا رجح جمع مُنكر على معرف لقُرْبه
من الْخُصُوص. انْتهى.
قَوْله: {قَالَ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره وفصيح لَا أفْصح} .
مَا كَانَ فصيحا مقدم على مَا لم يستكمل شُرُوط الفصاحة.
(8/4179)
وَهِي كَمَا ذكر البيانيون: سَلامَة
الْمُفْرد من تنافر الْحُرُوف، والغرابة، وَمُخَالفَة
الْقيَاس، وَفِي الْمركب سَلَامَته من ضعف التَّأْلِيف وتنافر
الْكَلِمَات والتعقيد مَعَ فصاحتها، وَمحله علم الْبَيَان.
وَقَالَ بَعضهم: إِذا كَانَ فِي اللَّفْظ الْمَرْوِيّ ركاكة
لَا يقبل.
وَالْحق أَنه يقبل إِذا صَحَّ السَّنَد، وَيحمل على أَن
الرَّاوِي رَوَاهُ بِلَفْظ نَفسه.
وَأما مَا كَانَ زَائِد الفصاحة فَلَا يرجح على غَيره، فَإِن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينْطق
بالفصيح وبالأفصح، فَلَا فرق بَين ثبوتهما عَنهُ، وَالْكَلَام
فِي سوى ذَلِك
(8/4180)
لَا سِيمَا إِذا خَاطب من لَا يعرف تِلْكَ
اللُّغَة الَّتِي لَيست بأفصح لقصد إفهامهم.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: فيرجح الفصيح لَا الْأَفْصَح.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وزائد الفصاحة، قَالَ فِي " شَرحه ":
وَلم أقل أفْصح كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيّ؛ لِأَن الْأَفْصَح
يكون فِي كلمة وَاحِدَة لُغَتَانِ أَحدهمَا أفْصح، بِخِلَاف
زَائِد الفصاحة فَإِنَّهُ يكون فِي كَلِمَات مِنْهَا الفصيح،
والأفصح فِيهَا أَكثر، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَن يجْرِي ذَلِك
فِي البليغ فَلَا يرجح على الفصيح.
والبلاغة كَمَا قَالَ البيانيون: مُطَابقَة الْكَلَام لمقْتَضى
الْحَال) .
قَالَ ابْن مُفْلِح بعد كَلَام الْبَيْضَاوِيّ: " [مَعْنَاهُ]
لبَعض أَصْحَابنَا وَلم يذكرهُ أَكْثَرهم ".
وَتقدم حكم الْإِجْمَاع وتقديمه فِي أول تَرْتِيب الْأَدِلَّة
فليعاود.
قَوْله: {الْمَدْلُول} .
(8/4181)
معنى مَدْلُول اللَّفْظ، أَي: معنى
اللَّفْظ، وَكَذَلِكَ مَفْهُوم اللَّفْظ، أَي: مَعْنَاهُ، لَا
الْمَفْهُوم الْمُقَابل للمنطوق، فَاعْلَم ذَلِك وَهُوَ وَاضح،
فَالْأول كَقَوْلِهِم: إِذا اتَّحد اللَّفْظ ومدلوله - كَمَا
تقدم أول الْكتاب - أَي: مَعْنَاهُ.
وَإِذا علم ذَلِك {فَقَالَ أَحْمد، وَأَصْحَابه، والكرخي،
والرازي، وَغَيرهم: يرجح حظر على إِبَاحَة، وَابْن حمدَان عكس،
وَالْغَزالِيّ وَغَيره: سَوَاء وعَلى كَرَاهَة وَندب، وَوُجُوب
وَندب على إِبَاحَة، وَوُجُوب وَكَرَاهَة على ندب} .
لما فَرغْنَا من التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْمَتْن شرعنا
فِي التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْمَدْلُول، فيرجح مَا
مَدْلُوله الْحَظْر على مَا مَدْلُوله الْإِبَاحَة؛ لِأَن فعل
الْحَظْر يسْتَلْزم مفْسدَة بِخِلَاف الْإِبَاحَة، لِأَنَّهُ
لَا يتَعَلَّق بِفِعْلِهَا وَلَا تَركهَا مصلحَة وَلَا
مفْسدَة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَعَلِيهِ أَحْمد،
وَأَصْحَابه، والكرخي،
(8/4182)
والرازي، وَذكره الْآمِدِيّ عَن
الْأَكْثَر، وأصحابهم، لِأَنَّهُ أحوط.
وَاسْتدلَّ: بِتَحْرِيم متولد بَين مَأْكُول وَغَيره،
وَجَارِيَة مُشْتَركَة.
رد: لم تحصل جِهَة إِبَاحَة الْمُبِيح، لِأَن الْمُبِيح ملك
جَمِيعهَا، وانفراد الْمُبَاح بالمتولد مِنْهُ.
وَعكس ابْن حمدَان، وَغَيره، فَقَالَ: ترجح الْإِبَاحَة على
الْحَظْر؛
(8/4183)
لِأَن الْإِبَاحَة تَسْتَلْزِم نفي الْحَرج
الَّذِي هُوَ الأَصْل.
وَقيل: يستويان، ويسقطان، حَكَاهُ الْهِنْدِيّ عَن أبي هَاشم
وَابْن أبان، وَرجحه الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى ".
ويرجح الْحَظْر أَيْضا على الْكَرَاهَة لقَوْله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا اجْتمع الْحَلَال
وَالْحرَام إِلَّا غلب الْحَرَام " لِأَنَّهُ أحوط.
(8/4184)
ويرجح أَيْضا الْحَظْر على النّدب؛ لِأَن
النّدب لتَحْصِيل الْمصلحَة، والحظر لدفع الْمفْسدَة، وَدفع
الْمفْسدَة أهم من تَحْصِيل الْمصلحَة فِي نظر الْعُقَلَاء.
ويرجح - أَيْضا - على الْوُجُوب، لِأَن دفع الْمفْسدَة أهم،
كَمَا تقدم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " يقدم على ندب وَوُجُوب؛ لِأَن دفع
الْمفْسدَة [أهم] بِدَلِيل ترك مصلحَة لمفسدة مُسَاوِيَة،
وَشرع عُقُوبَته أَكثر كرجم زَان مُحصن؛ وَلِأَن إفضاء
الْحُرْمَة إِلَى مقصودها أتم لحصوله بِالتّرْكِ قَصده أَولا
بِخِلَاف الْوَاجِب ".
ويرجح أَيْضا ندب على إِبَاحَة هَذَا الصَّحِيح الَّذِي
عَلَيْهِ الْأَكْثَر.
(8/4185)
لَكِن الْهِنْدِيّ نَازع فِي ذَلِك،
فَقَالَ: " يُمكن أَن يرجح الْإِبَاحَة بِكَوْنِهِ متأيدا
بِالْأَصْلِ فِي جَانب الْفِعْل وَالتّرْك، وبكونه أَعم، وأسهل
من حَيْثُ كَونه مفوضا إِلَى خيرة الْمُكَلف، وَمن حَيْثُ لَا
إِجْمَال فِي الصِّيغَة الدَّالَّة عَلَيْهِ بِخِلَاف النّدب،
فَإِنَّهُ يثبت بِصِيغَة الْأَمر، وفيهَا الْإِجْمَال "
انْتهى.
ويرجح - أَيْضا -: وجوب على ندب للِاحْتِيَاط فِي الْعَمَل
بِهِ.
ويرجح - أَيْضا -: كَرَاهَة على ندب كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: {ومثبت على ناف عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ
وأصحابهما، وَغَيرهم، وَفِي " الْكِفَايَة " وَأَبُو
الْحُسَيْن: سَوَاء، وَالْمرَاد مَا قَالَه الْفَخر، والطوفي:
إِن أسْند النَّفْي إِلَى علم بِالْعدمِ، وَفِي الْخلاف
والانتصار والآمدي: النَّفْي، وَقيل: إِن وَافق نفيا
أَصْلِيًّا وَكَذَا العلتان} .
يرجح الْمُثبت على النَّافِي عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ،
(8/4186)
وأصحابهما، وَغَيرهم، وَجزم بِهِ القَاضِي
فِي " الْعدة "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَأَبُو
الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، والموفق فِي " الرَّوْضَة "،
وَغَيرهم من الْأَصْحَاب، وَغَيرهم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: يرجح عِنْد الْفُقَهَاء، كدخوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْت، قَالَ بِلَال:
(8/4187)
" صلى فِيهِ "، وَقَالَ أُسَامَة: " لم يصل
"، وَكَذَا ابْن عَبَّاس،
(8/4188)
فَأخذ بقول بِلَال وَسن الصَّلَاة فِي
الْبَيْت المشرف.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْكِفَايَة "، وَأَبُو
الْحُسَيْن: هما سَوَاء، فَلَا يرجح أَحدهمَا على الآخر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَالْمرَاد مَا قَالَه الْفَخر
إِسْمَاعِيل - وَتَبعهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " إِن اسْتندَ
النَّفْي إِلَى علم بِالْعدمِ لعلمه بجهات إثْبَاته فَسَوَاء
".
قلت: وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا وَالَّذِي قبله سَوَاء،
أَعنِي بِلَا خلاف.
وَمعنى استناد النَّفْي إِلَى علم بِالْعدمِ: أَن يَقُول
الرَّاوِي: أعلم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لم يصل فِي الْبَيْت؛ لِأَنِّي كنت مَعَه فِيهِ،
وَلم يغب على نَظَرِي طرفَة عين فِيهِ، وَلم أره صلى فِيهِ،
أَو قَالَ: أَخْبرنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنه لم يصل فِيهِ، أَو قَالَ: أعلم أَن فلَانا
لم يقتل زيدا؛ لِأَنِّي رَأَيْت زيدا حَيا بعد موت فلَان، أَو
(8/4189)
بعد الزَّمن الَّذِي أخبر الْجَانِي أَنه
قَتله فِيهِ، فَهَذَا يقبل لاستناده إِلَى مدرك علمي،
وَيَسْتَوِي هُوَ وَإِثْبَات الْمُثبت فيتعارضان، وَيطْلب
الْمُرَجح من خَارج.
وَكَذَا حكم كل شَهَادَة نَافِيَة استندت إِلَى علم
بِالنَّفْيِ لَا إِلَى [نفي] الْعلم فَإِنَّهَا تعَارض
المثبتة، لِأَنَّهَا تساويها، أَو هما فِي الْحَقِيقَة مثبتان؛
لِأَن أَحدهمَا تثبت الْمَشْهُود بِهِ، وَالْأُخْرَى تثبت
الْعلم بِعَدَمِهِ.
وَكَذَا حكم الشَّهَادَة من غير معَارض تقبل فِي النَّفْي إِذا
كَانَ النَّفْي محصورا.
فَقَوْلهم: لَا تقبل الشَّهَادَة بِالنَّفْيِ مُرَادهم إِذا لم
تكن محصورة، فَإِن كَانَت محصورة قبلت قَالَه الْأَصْحَاب،
وَقد ذكر ذَلِك الْأَصْحَاب فِي الشَّهَادَة فِي الْإِعْسَار
وَفِي حصر الْإِرْث فِي فلَان.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْخلاف "، وَأَبُو الْخطاب فِي "
الِانْتِصَار "، فِي
(8/4190)
حَدِيث ابْن مَسْعُود لَيْلَة الْجِنّ:
(8/4191)
النَّفْي أولى.
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ.
(8/4192)
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ صَاحب
" الْإِيضَاح " فِي تَرْجِيح مَا وَافق نفيا أَصْلِيًّا:
وَجْهَان، وَكَذَا العلتان.
وَقَالَ القَاضِي - أَيْضا - فِي " الْخلاف " عَن نفي صلَاته
على شُهَدَاء أحد: الزِّيَادَة مَعَه هُنَا؛ لِأَن الأَصْل غسل
الْمَيِّت وَالصَّلَاة عَلَيْهِ، ثمَّ سَوَاء.
وَقَالَ عبد الْجَبَّار: يتساويان لتقابل المرجحين.
وَقيل: إِن كَانَ فِي طَلَاق وعتاق، قدم النَّافِي وَإِلَّا
الْمُثبت.
(8/4193)
وَقيل: بِالْعَكْسِ.
وَقيل: لَا يتعارضان لِامْتِنَاع التَّعَارُض بَين
الْفِعْلَيْنِ، لاحْتِمَال وقوعهما فِي حَالين.
اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَن مَعَ الْمُثبت
زِيَادَة علم.
قَالُوا: يُؤَخر النَّفْي ليَكُون فَائِدَته التأسيس.
رد: فِيهِ رفع حكم الْمُثبت.
فَإِن عورض بِمثلِهِ.
رد: إِن صَحَّ فَرفع مَا فَائِدَته التَّأْكِيد بِخِلَاف
الْعَكْس.
فَإِن قيل: بل رفع حكما تأسيسيا وَهُوَ الْبَاقِي على الْحَال
الْأَصْلِيّ، وَزِيَادَة تَأْكِيد النَّافِي بِخِلَاف
الْعَكْس.
رد بِالْمَنْعِ.
قَوْله: {وناقل عَن الأَصْل، وَعند الرَّازِيّ والبيضاوي
والطوفي الْمُقَرّر} .
(8/4194)
إِذا تعَارض حكمان أَحدهمَا مُقَرر للْحكم
الْأَصْلِيّ، وَالْآخر ناقل عَن حكم الأَصْل.
فالناقل مقدم عِنْد الْجُمْهُور؛ لِأَنَّهُ يُفِيد حكما
شَرْعِيًّا لَيْسَ مَوْجُودا فِي الآخر، كَحَدِيث: " من مس
ذكره فَليَتَوَضَّأ "، مَعَ حَدِيث: " هَل هُوَ إِلَّا بضعَة
مِنْك؟ ".
(8/4195)
والمخالف فِي ذَلِك الرَّازِيّ،
وَأَتْبَاعه: كالبيضاوي، وَغَيره.
فَقَالُوا: يتَرَجَّح الْمُقَرّر؛ لِأَن الْحمل على مَا لَا
يُسْتَفَاد إِلَّا من الشَّرْع أولى مِمَّا يُسْتَفَاد من
الْعقل.
(8/4196)
وَاخْتَارَهُ الطوفي فِي " شَرحه "
فَقَالَ: وَالْأَشْبَه تَقْدِيم الْمُقَرّر لاعتضاده بِدَلِيل
الأَصْل، قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَه بقواعده، وقواعد غَيره فِي
اعْتِبَار التَّرْجِيح مِمَّا يصلح لَهُ، وَالْيَد صَالِحَة
للترجيح انْتهى.
قيل: وَالتَّحْقِيق فِي الْمَسْأَلَة تَفْصِيل، وَهُوَ أَنه
يرجح الْمُقَرّر فِيمَا إِذا تقرر حكم النَّاقِل مُدَّة فِي
الشَّرْع عِنْد الْمُجْتَهد، وَعمل بِمُوجبِه، ثمَّ نقل لَهُ
الْمُقَرّر وَجَهل التَّارِيخ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عمل
بالخبرين النَّاقِل فِي زمَان والمقرر بعد ذَلِك، فَأَما إِن
كَانَ الثَّابِت بِمُقْتَضى الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، وَنقل
الخبران، فَإِنَّهُمَا يتعارضان هُنَا، وَيرجع إِلَى
الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة.
بل عبد الْجَبَّار يَقُول: إِن تَقْدِيم النَّاقِل أَو
الْمُقَرّر على الِاخْتِلَاف لَيْسَ من بَاب التَّرْجِيح بل من
بَاب النّسخ.
وَهُوَ ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لَا يتَوَقَّف رَفعه على مَا يرفع
بِهِ الحكم
(8/4197)
الشَّرْعِيّ.
قَوْله: {وداريء حد، وَفِي " الْكِفَايَة " و " الْوَاضِح "،
وَابْن الْبناء وَقَالَ: هُوَ الْمَذْهَب: الْمُثبت، وَفِي "
الْعدة ": سَوَاء كالغزالي، والموفق} .
الصَّحِيح أَن داريء الْحَد مقدم على مثبته.
قَالَ الشريف أَبُو جَعْفَر، والحلواني من أَصْحَابنَا يقدم
نافي الْحَد على مثبته، وَرجحه أَبُو الْخطاب فِي "
التَّمْهِيد "، وَغَيره، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
(8/4198)
لِأَن الْحُدُود تدرأ بِالشُّبُهَاتِ،
رُوِيَ عَن الصَّحَابَة، وَفِيه أَخْبَار ضَعِيفَة، ولقلة
مبطلات نَفْيه، وكتعارض بينتين، وَلِأَن إثْبَاته خلاف دَلِيل
نَفْيه.
قَالَ الْآمِدِيّ: وَلِأَن الْخَطَأ فِي نفي الْعقُوبَة أولى
من الْخَطَأ فِي تحقيقها، على مَا قَالَه عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: " لِأَن تخطيء فِي الْعَفو خير من أَن تخطيء فِي
الْعقُوبَة ".
وَاخْتَارَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْعدة "، وَالْقَاضِي
عبد الْجَبَّار، والموفق، وَالْغَزالِيّ: أَنَّهُمَا سَوَاء.
لِأَن الشُّبْهَة لَا تُؤثر فِي ثُبُوت مشروعيته بِدَلِيل أَنه
يثبت بِخَبَر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس مَعَ قيام الِاحْتِمَال،
فالحد إِنَّمَا يُؤثر فِي إِسْقَاطه لشبهته، وَإِذا كَانَت فِي
نفس الْفِعْل أَو بالاختلاف فِي حكمه، كَأَن يبيحه قوم ويحرمه
آخَرُونَ كَالْوَطْءِ فِي نِكَاح بِلَا ولي أَو بِلَا شُهُود.
(8/4199)
وَلَيْسَ الْخلاف لفظيا كَمَا قد يتَوَهَّم
من أَن قَول التَّسَاوِي يؤول إِلَى تَقْدِيم النَّافِي،
فَإِنَّهُمَا يتعارضان فيتساقطان، وَيرجع إِلَى غَيرهمَا،
فَإِن كَانَ هُنَاكَ دَلِيل شَرْعِي حكم بِهِ، وَإِلَّا نفي
الآخر على الأَصْل، فَيلْزم نفي الْحَد، بل الْخلاف معنوي على
الصَّوَاب، فَإِن الأول يَنْفِي الْحَد بالحكم الشَّرْعِيّ،
وَالْآخر يَقُول بِالنَّفْيِ استصحابا للْأَصْل.
وَقدم القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " الْمُثبت، وَقَالَهُ: ابْن
الْبَنَّا، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، لتقديم أَحْمد خبر
عبَادَة فِي " الْجلد وَالرَّجم " لإثباته بِخَبَر
(8/4200)
وَاحِد وَقِيَاس، لِأَن الْمُوجب للحد
يُوَافق التأسيس، وموافقة التأسيس أولى من مُوَافقَة النَّفْي
الْأَصْلِيّ، لِأَن التأسيس يُفِيد فَائِدَة زَائِدَة.
رد: لَا شُبْهَة فيهمَا.
قَالَ الطوفي: قلت: " فَهُوَ من بَاب تعَارض النَّاقِل والمقرر
".
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: " مَوْضُوع هَذِه الْمَسْأَلَة أَن يكون
الْإِثْبَات وَالنَّفْي شرعيين، فَأَما إِن كَانَ النَّفْي
بِاعْتِبَار الأَصْل فَهُوَ مَسْأَلَة النَّاقِل والمقرر
السَّابِقَة ". انْتهى.
قَوْله: {وَمُوجب عتق وَطَلَاق، وَقيل نافيهما، وَظَاهر "
الرَّوْضَة ": سَوَاء كَعبد الْجَبَّار} .
أَدخل جمَاعَة هَذِه الصُّورَة فِي جملَة صور الْمُقَرّر
والناقل، وَحكي الْخلاف فِي الْجَمِيع، وحكوا قولا بِالْفرقِ
بَين الْعتْق وَالطَّلَاق وَغَيرهمَا، وأفردهما جمَاعَة، وَلَا
شكّ أَنَّهُمَا من جمل النَّفْي وَالْإِثْبَات.
إِذا علم ذَلِك فرجح أَبُو الْخطاب تَقْدِيم مُوجب الْعتْق،
وَذكره قَول غير عبد الْجَبَّار.
(8/4201)
وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة أَو الْكَرْخِي
مِنْهُم، وَهُوَ ظَاهر مَا قدمه ابْن الْحَاجِب لقلَّة سَبَب
مُبْطل الْحُرِّيَّة وَلَا تبطل بعد ثُبُوتهَا، ولموافقة
النَّفْي الْأَصْلِيّ رفع العقد.
وَظَاهر " الرَّوْضَة ": سَوَاء، كَعبد الْجَبَّار،
لِأَنَّهُمَا حكمان.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَيتَوَجَّهُ احْتِمَال تقدم النَّفْي -
كَقَوْل بَعضهم -
(8/4202)
لموافقة دَلِيل بَقَاء الصِّحَّة، وَمثله
الطَّلَاق " انْتهى.
ويحتمله كَلَام الطوفي فِي " مُخْتَصره ".
قَوْله: {وَفِي تكليفي على وضعي، ثالثهما سَوَاء فِي ظَاهر
كَلَامهم} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلم يذكر أَصْحَابنَا تَرْجِيح حكم
تكليفي على وضعي، فَظَاهره: سَوَاء " انْتهى.
لِأَنَّهُ مَقْصُود بِالذَّاتِ، وَأكْثر فِي الْأَحْكَام،
فَكَانَ أولى، وَهُوَ الَّذِي قدمه ابْن الْحَاجِب.
وَقد ذكر الْمَسْأَلَة غير الْأَصْحَاب وَذكروا فِيهَا خلافًا،
وَالصَّحِيح عِنْدهم تَقْدِيم الحكم التكليفي كالاقتضاء
وَنَحْوه على الوضعي، كالصحة وَنَحْوهَا، لِأَنَّهُ مُحَصل
للثَّواب.
وَقيل: بل يقدم الوضعي؛ لِأَنَّهُ لَا يتَوَقَّف على فهم
الْمُكَلف للخطاب
(8/4203)
وَلَا يُمكنهُ من الْفِعْل، بِخِلَاف
التكليفي فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على ذَلِك، وَهَذَا الَّذِي قدمه
الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {وأخف على أثقل، وَعكس القَاضِي، وَظَاهر " الرَّوْضَة
": سَوَاء} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيتَوَجَّهُ فِي تَقْدِيم الأخف وَعَكسه
احْتِمَالَانِ، وَذكر الْآمِدِيّ قَوْلَيْنِ؛ لِأَن
الشَّرِيعَة سَمْحَة، وَثقله لتأكيد الْمَقْصُود مِنْهُ.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": وَرجح قوم الْعلَّة لخفة حكمهَا.
وَعكس آخَرُونَ وَهِي ترجيحات ضَعِيفَة، فَظَاهره
التَّسْوِيَة) .
وَالصَّحِيح أَن التكليفي الأخف يرجح على الأثقل، لقَوْله
تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر}
[الْبَقَرَة: 185] ، وَلقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار فِي الْإِسْلَام ".
(8/4204)
وَقيل: يقدم الأثقل، لِأَنَّهُ أَكثر
ثَوابًا، وَهُوَ الَّذِي نقلته عَن القَاضِي، وَلم أعلم الْآن
من أَيْن نقلته، ثمَّ رَأَيْتنِي فِي " المسودة " الَّذِي
يظْهر لي أَنِّي أخذت اخْتِيَار القَاضِي من كَلَام الطوفي فِي
" مُخْتَصره " من قَوْله: " وَمَا اشْتَمَل على وَعِيد على
غَيره احْتِيَاطًا عِنْد القَاضِي ".
فَإِنَّهُ ذكر فِي " الشَّرْح ": " إِذا تعَارض الحاظر والمبيح
أَو مَا تضمن وعيدا أَو غَيره احْتمل الْخلاف، قَالَ: وَهُوَ
شَبيه أَيْضا بِمَا سبق فِيمَا إِذا تَعَارَضَت فتيا مجتهدين
عِنْد الْمُقَلّد هَل يَأْخُذ بالأخف أَو الأثقل؟ نظر إِلَى
الدَّلِيل المتعارض هُنَاكَ، وَإِلَى الِاحْتِيَاط تَارَة،
وَإِلَى عُمُوم التَّخْفِيف فِي الشَّرِيعَة أُخْرَى " انْتهى.
وَتقدم مَرَاتِب المفاهيم والمقدم مِنْهَا فِي آخر فَصله.
قَوْله: {الْخَارِج يرجح مَا وَافق دَلِيلا آخر، فَيقدم
الْخَبَر على الأقيسة، وَقيل: لَا، إِن تعدد أَصْلهَا وَإِلَّا
فمتحدة، فَإِن تعَارض قُرْآن وَسنة وَأمكن بِنَاء كل مِنْهُمَا
على الآخر كخنزير المَاء، قدم ظَاهر سنة فِي ظَاهر كَلَامه،
وَيحْتَمل عَكسه، وَبنى القَاضِي عَلَيْهَا خبرين مَعَ
أَحدهمَا ظَاهر قُرْآن وَالْآخر ظَاهر سنة، وَذكر الْفَخر
فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَكَذَا ابْن عقيل وَبنى الأولى
عَلَيْهَا} .
(8/4205)
لما فَرغْنَا من التَّرْجِيح الْعَائِد
إِلَى الْمَدْلُول، شرعنا فِي التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى
أَمر خَارج، وَهُوَ تَرْجِيح بِأُمُور لَا يتَوَقَّف عَلَيْهَا
الدَّلِيل لَا فِي وجوده وَلَا فِي صِحَّته ودلالته، لَكِن
يتَرَجَّح الدَّلِيل الْمُوَافق لدَلِيل آخر على الدَّلِيل
الَّذِي لَا يُوَافقهُ دَلِيل آخر؛ لِأَن الظَّن الْحَاصِل من
الدَّلِيلَيْنِ أقوى من الظَّن الْحَاصِل من دَلِيل وَاحِد،
وَسَوَاء كَانَ مُوَافق لدَلِيل آخر من كتاب أَو سنة أَو
إِجْمَاع أَو قِيَاس؛ لِأَن تَقْدِيم مَا لم يُوَافق ترك
لشيئين الدَّلِيل وَمَا عضده، وَتَقْدِيم الْمُوَافق ترك
لدَلِيل وَاحِد، وَلِهَذَا قدمنَا حَدِيث عَائِشَة: " فِي
صَلَاة الْفجْر بِغَلَس " على حَدِيث [رَافع] " فِي
الْإِسْفَار " لموافقته قَوْله: (حَافظُوا على
(8/4206)
5 - الصَّلَوَات} [الْبَقَرَة: 238] لِأَن
من الْمُحَافظَة الْإِتْيَان بالمحافظة عَلَيْهِ الْمُؤَقت أول
وقته.
إِذا علم ذَلِك فَقَالَ ابْن مُفْلِح بعد ذَلِك: (ثمَّ قيل:
يقدم الْخَبَر على الأقيسة، وَقيل: بِالْمَنْعِ إِن تعدد
أَصْلهَا وَإِلَّا فمتحدة.
قَالَ: وتعارض قُرْآن وَسنة وَأمكن بِنَاء كل مِنْهُمَا على
الآخر - كخنزير المَاء - فَقَالَ القَاضِي: ظَاهر كَلَام
أَحْمد يقدم ظَاهر السّنة لقَوْله: " السّنة تفسر الْقُرْآن
وتبينه "، قَالَ: وَيحْتَمل عَكسه للْقطع بِهِ.
وَذكر أَبُو الطّيب للشَّافِعِيَّة وَجْهَيْن.
(8/4207)
وَبنى القَاضِي عَلَيْهَا خبرين مَعَ
أَحدهمَا ظَاهر قُرْآن وَالْآخر ظَاهر سنة، ثمَّ ذكر نَص
أَحْمد تَقْدِيم الْخَبَرَيْنِ.
وَذكر الْفَخر إِسْمَاعِيل أَيهمَا يقدم، على رِوَايَتَيْنِ،
وَكَذَا ابْن عقيل، وَبنى الأولى عَلَيْهَا) .
وتحرير ذَلِك إِذا كَانَ أحد الدَّلِيلَيْنِ سنة وَالْآخر
كتابا، فَإِن أمكن الْعَمَل بهما عمل، وَإِلَّا قيل: يقدم
الْكتاب فَإِنَّهُ أرجح، وَقيل: تقدم السّنة لِأَنَّهَا بَيَان
لَهُ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد كَمَا تقدم.
مِثَاله قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي
الْبَحْر: " الْحل ميتَته "، فَإِنَّهُ عَام فِي ميتَة
الْبَحْر حَتَّى خنزيره مَعَ قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أجد فِي
مَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون
ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير} [الْأَنْعَام: 145]
، يتَنَاوَل خِنْزِير الْبَحْر، فتعارض عُمُوم الْكتاب
وَالسّنة فِي خِنْزِير الْبَحْر، فَقدم بَعضهم الْكتاب فحرمه،
وَقَالَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو عَليّ النجاد.
وَبَعْضهمْ السّنة فأحله، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد
وَعَلِيهِ جَمَاهِير أَصْحَابه فِي حلّه.
(8/4208)
قَوْله: {وبعمل أهل الْمَدِينَة عِنْد
أَحْمد، وَالشَّافِعِيَّة، وَأبي الْخطاب، وَخَالف القَاضِي،
وَابْن عقيل، وَالْفَخْر، وَالْمجد، والطوفي، وَرجح
الْحَنَفِيَّة بِعَمَل أهل الْكُوفَة إِلَى زمن أبي حنيفَة قبل
ظُهُور الْبدع، والجرجاني، وَأَبُو الْخطاب بِمَا أَقَامَ بِهِ
الصَّحَابَة إِلَى ظُهُور الْبدع} .
يرجح بِمَا وَافق عمل أهل الْمَدِينَة وَإِن لم يكن حجَّة،
لكنه يقوى بِهِ.
وَقد رجح أَحْمد " نِكَاح الْمحرم بعملهم "، وَقَوله: " مَا
رَوَوْهُ ثمَّ عمِلُوا بِهِ أصح مَا يكون ".
(8/4209)
وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد "،
كالشافعية لأَنهم أعرف، وَالظَّاهِر بقاؤهم على مَا أَسْلمُوا
عَلَيْهِ وَأَنه نَاسخ لمَوْته بَينهم.
وَذكر القَاضِي، وَابْن عقيل، وَأَبُو مُحَمَّد
الْبَغْدَادِيّ، والطوفي: لَا يرجح بذلك كَغَيْرِهِ.
رد: بِالْفرقِ.
وَرجح الْحَنَفِيَّة بِعَمَل الْكُوفَة إِلَى زمن أبي حنيفَة
قبل ظُهُور الْبدع.
وَفِي " التَّمْهِيد ": مَا أَقَامَ بِهِ الصَّحَابَة أَخذ
بِهِ إِلَى أَن ظَهرت الْبدع،
(8/4210)
وَهُوَ مَا كَانَ [زمن] الْخُلَفَاء نَحْو
الْبَصْرَة والكوفة، قَالَ: وَقَالَهُ الْجِرْجَانِيّ.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " إِذا تعَارض نصان وَقد قَالَ
أهل الْمَدِينَة بِأَحَدِهِمَا، فَلَا يكون ذَلِك تَرْجِيحا
لَهُ، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة فِي قَوْلهم: يرجح بِهِ،
وَكَذَلِكَ لَا يرجح بقول أهل الْكُوفَة خلافًا لبَعض
الْحَنَفِيَّة.
حجَّة الأول: أَن الْأَمَاكِن لَا تَأْثِير لَهَا فِي زِيَادَة
الظنون، فَلَا فرق بَين قَول أهل الْمَدِينَة والكوفة
وَغَيرهَا فِي عدم التَّرْجِيح بِهِ.
حجَّة الثَّانِي: أَن إطباق الجم الْغَفِير على الْعَمَل على
وفْق أحد الْخَبَرَيْنِ يفِيدهُ تَقْوِيَة وَزِيَادَة ظن فيرجح
بِهِ، كموافقة خبر آخر، وَلِأَن اتِّفَاق أهل البلدين
الْمَذْكُورين قد اخْتلف فِي كَونه إِجْمَاعًا، فَإِن كَانَ
فَهُوَ مُرَجّح لَا محَالة، وَإِن لم يكن إِجْمَاعًا فأدنى
أَحْوَاله أَن يكون مرجحا، كَالظَّاهِرِ، وَالْقِيَاس، وَخبر
الْوَاحِد.
قلت: هَذَا هُوَ الظَّاهِر.
وَقَوْلهمْ: لَا تَأْثِير للأماكن فِي زِيَادَة الظنون.
قُلْنَا: نَحن لَا نرجح بالأماكن، بل بأقوال الجم الْغَفِير من
عُلَمَاء أَهلهَا، وَهُوَ مُفِيد لزِيَادَة الظَّن بِلَا شكّ "
انْتهى.
قَوْله: {وبعمل الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة عِنْد أَحْمد
وَأَصْحَابه، وَقيل: بِأبي بكر
(8/4211)
وَعمر، وَقيل: وبأحدهما، وَعنهُ:
وَالصَّحَابَة، وَقيل: إِن ميزه النَّص، وَعنهُ: لَا مُطلقًا،
وَقَالَ الْآمِدِيّ وَابْن حمدَان: أَو بعض [الْأمة] ، أَو
أعلم، أَو أَكثر، فِي الْأَصَح} .
إِذا تعَارض نصان وَعمل بِأَحَدِهِمَا الْخُلَفَاء الراشدون،
فَهَل يكون عَمَلهم بِهِ مرجحا لَهُ على النَّص الآخر؟ فِيهِ
أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن عَمَلهم بِهِ مُرَجّح لَهُ على الآخر، وَهُوَ
الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَحْمد وَأَصْحَابه، [وَغَيرهم] .
لوُرُود النَّص باتبَاعهمْ، حَيْثُ قَالَ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة
الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي، عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ ".
وَلِأَن الظَّاهِر أَنهم لم يتْركُوا النَّص الآخر إِلَّا لحجة
عِنْدهم، فَلذَلِك قدم.
(8/4212)
قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل: نَص عَلَيْهِ
أَحْمد فِي مَوَاضِع.
وَقيل: يرجح أَيْضا بقول أبي بكر وَعمر لقَوْله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقتدوا باللذين من بعدِي أبي
بكر وَعمر ".
قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ: إِذا بلغك اخْتِلَاف عَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوجدت فِي
ذَلِك أَبَا بكر وَعمر، فَشد يدك فَإِنَّهُ الْحق وَهُوَ
السّنة. انْتهى.
وَقيل: وبأحدهما.
قلت: وَهُوَ قوي.
زَاد جمع إِلَّا أَن يُعَارضهُ قَول زيد فِي الْفَرَائِض، أَو
معَاذ فِي الْحَلَال وَالْحرَام.
قلت: أَو عَليّ فِي الْقَضَاء.
(8/4213)
وَنقل الْمَرْوذِيّ أَو الصَّحَابَة.
وَالْمرَاد وَالله أعلم: أَو أحد من الصَّحَابَة وَهُوَ
الظَّاهِر.
وَقدمه الْبرمَاوِيّ وَغَيره، فيرجح مَا وَافق قَول
الصَّحَابِيّ بِقُوَّة الظَّن فِي الْمُوَافق.
وَيَأْتِي هَذَا بعد الْمَدْلُول وَأمر خَارج، وَالأَصَح لَا،
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة.
وَقيل: يرجح بقول الصَّحَابِيّ إِن كَانَ حَيْثُ ميزه النَّص،
أَي: فِيمَا ميزه فِيهِ من أَبْوَاب الْفِقْه كزيد فِي
الْفَرَائِض ميز فِيهَا بِحَدِيث: " أفرضكم زيد "، ومعاذ فِي
الْحَلَال وَالْحرَام، وَعلي فِي الْقَضَاء.
فَإِذا وجد نصان أَحدهمَا أَعم أَخذ بالأخص، وَالنَّص على أَن
زيدا أفرض أخص من النَّص على أَن معَاذًا أعلم بالحلال
وَالْحرَام، فيرجح قَول زيد فِي الْفَرَائِض على قَول معَاذ،
وَقَول معَاذ فِي الْحَرَام والحلال على قَول عَليّ، ويرجح
قَول عَليّ فِي الْقَضَاء على قَول غَيره.
لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الحَدِيث: " أفرضكم زيد، وَأعْلمكُمْ
بالحلال وَالْحرَام معَاذ، وأقضاكم عَليّ ".
(8/4214)
فالقضاء أَعم من الْكل، لِأَنَّهُ يعم
الْفَرَائِض والحلال وَالْحرَام وَغَيرهمَا، فالشهادة لزيد أخص
من الْجَمِيع، وَبعده معَاذ، وبعدهما عَليّ، فَهِيَ ثَلَاث
مَرَاتِب فَيقدم زيد فِي الْفَرَائِض، ومعاذ فِي الْحَلَال
وَالْحرَام، وَعلي فِي غَيرهمَا، عملا بالأخص فالأخص.
وَذكر الْفَخر إِسْمَاعِيل رِوَايَة عَن أَحْمد: أَنه لَا
يرجح.
(8/4215)
وَقَالَ الْآمِدِيّ: وَتَبعهُ ابْن حمدَان:
أَو بعض الْأمة.
يَعْنِي: إِذا عمل بعض الْأمة على وفْق أحد النصين يرجح بذلك.
ويرجح بِعَمَل الأعلم قطع بِهِ الْأَكْثَر؛ لِأَن لَهُ مزية
لكَونه أحفظ لمواقع الْخلَل وَأعرف بدقائق الْأَدِلَّة.
ويرجح - أَيْضا -: بِمَا وَافق عمل الْأَكْثَر؛ لَكِن بِشَرْط
أَن لَا يكون الْمعَارض لَهُ يخفى مثله عَلَيْهِم.
وَإِنَّمَا قدم الْمُوَافق للْأَكْثَر، لِأَن الْأَكْثَر موفق
للصَّوَاب مَا لَا يوفق لَهُ الْأَقَل، هَذَا قَول
الْأَكْثَرين.
وَمنع جمع كالغزالي التَّرْجِيح بذلك.
قَالَ: لعدم الحجية فِي قَول الْأَكْثَر.
(8/4216)
وَلَو سَاغَ التَّرْجِيح بقول بعض
الْمُجْتَهدين لانسد بَاب الِاجْتِهَاد على الْبَعْض الآخر.
قيل: وَالتَّحْقِيق أَن مُقَابل قَول الْأَكْثَر إِن كَانَ
قَول شذوذ فيرجح بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا إِجْمَاع على رَأْي،
وَإِمَّا حجَّة على رَأْي آخر، وَإِمَّا مقو وعاضد، على رَأْي
من قَالَ لَيْسَ بِحجَّة، وَإِن لم يكن مقابلهم شذوذ فَلَا
تَرْجِيح بِهِ، لاحْتِمَال أَن الصَّوَاب مَعَ [الْأَقَل] .
قَوْله: {وَإِن كَانَا مؤولين وَدَلِيل أَحدهمَا أرجح: قدم} .
يرجح أحد التَّأْويلَيْنِ على الآخر برجحان دَلِيله على دَلِيل
التَّأْوِيل الآخر؛ لِأَن لَهُ مزية بذلك.
قَوْله: {وَيقدم مَا علل، أَو رجحت علته، وعام ورد على سَبَب
خَاص فِي السَّبَب، وَالْعَام عَلَيْهِ فِي غَيره، وَمثله
الْخطاب شفاها مَعَ الْعَام، وَمَا لم يقبل نسخا أَو أقرب
إِلَى الِاحْتِيَاط، وَلَا يسْتَلْزم نقض صَحَابِيّ خبر كقهقهة
فِي صَلَاة، قَالَ ابْن عقيل وَابْن الْبَنَّا: أَو إِصَابَته
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ظَاهرا وَبَاطنا،
كامتناعه من الصَّلَاة، حَتَّى قَالَ عَليّ: " هما عليّ "،
وَأَنه ابْتِدَاء ضَمَان،
(8/4217)
وَقَالَ القَاضِي وَابْن عقيل وَجمع: وعام
عمل بِهِ، وَعكس الْآمِدِيّ، وَالْعَام بِأَنَّهُ أمس
بِالْمَقْصُودِ، وَمَا فسره راو بِفِعْلِهِ أَو قَوْله وَذكر
سَببه، أَو أحسن سياقا، وبقرائن تَأَخره كتأخير إِسْلَام أَو
تَارِيخ مضيق، أَو تشديده} .
يرجح أحد الْحكمَيْنِ بالتعرض لعلته على الحكم الَّذِي لم
يتَعَرَّض لعلته؛ لِأَن الحكم الَّذِي تعرض لعلته أفْضى إِلَى
تَحْصِيل مَقْصُود الشَّارِع، لِأَن النَّفس لَهُ أقبل بِسَبَب
تعقل الْمَعْنى.
وَكَذَا إِذا علل الْحكمَيْنِ لَكِن عِلّة أَحدهمَا أرجح فيرجح
بذلك.
ويرجح الْعَام الْوَارِد على سَبَب خَاص على الْعَام الْمُطلق
فِي حكم ذَلِك السَّبَب؛ لِأَن الْعَام الْوَارِد على السَّبَب
الْخَاص كالخاص بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك السَّبَب، وَالْخَاص
يقدم على الْعَام لقُوَّة دلَالَته.
(8/4218)
ويرجح الْعَام الْمُطلق على الْعَام
الْوَارِد على سَبَب خَاص فِي حكم غير السَّبَب؛ لِأَنَّهُ
اخْتلف فِي عُمُوم الْعَام الْوَارِد على السَّبَب، وَلم
يخْتَلف فِي عُمُوم الْعَام الْمُطلق.
وَمثله الْخطاب شفاها إِذا عَارض عَاما لم يكن بطرِيق
المشافهة، رجح الْخطاب بالمشافهة فِيمَن خُوطِبَ شفاها.
قَالَ الْعَضُد: " إِذا ورد عَام هُوَ خطاب شفَاه لبَعض من
تنَاوله، وعام آخر لَيْسَ كَذَلِك فَهُوَ كالعامين ورد
أَحدهمَا على سَبَب دون الآخر، فَيقدم عَام المشافهة فِيمَن
شوفهوا بِهِ، وَفِي غَيرهم الآخر، وَوَجهه ظَاهر " انْتهى.
ويرجح مَا لم يقبل نسخا على مَا يقبله، لِأَنَّهُ أقوى.
ويرجح - أَيْضا - مَا كَانَ أقرب إِلَى الِاحْتِيَاط على
غَيره.
ذكرهمَا ابْن مُفْلِح.
(8/4219)
ويرجح - أَيْضا - مَا لَا يسْتَلْزم نقض
صَحَابِيّ خَبرا: كقهقهة فِي صَلَاة.
(8/4220)
قَالَ ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا،
وَغَيرهمَا: (يقدم مَا لَا يُوجب تخطئه النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن على
مَا يتَضَمَّن إِصَابَته فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن، على مَا
يتَضَمَّن إِصَابَته فِي الظَّاهِر فَقَط.
فَالْأول مقدم ومرجح، لِأَنَّهُ بعيد عَن الْخَطَأ وَهُوَ
اللَّائِق بِهِ وبحاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-، كَمَا ورد فِي ضَمَان عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - دين
الْمَيِّت، وَقَول عَليّ: " هما عَليّ "، وَأَنه ابْتِدَاء
ضَمَان، وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- " امْتنع من الصَّلَاة "، وَكَانَ وَقت
(8/4221)
الِامْتِنَاع مصيبا فِي امْتِنَاعه،
وَكَانَ مقدما على حمله على الْإِخْبَار عَن ضَمَان سَابق
يكْشف عَن أَنه كَانَ امْتنع من الصَّلَاة فِي غير مَوْضِعه
بَاطِنا) هَذَا لفظ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ".
وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَجمع: وعام عمل بِهِ.
وَعكس الْآمِدِيّ.
وَمَعْنَاهُ: إِذا تعَارض عَام لم يعْمل بِهِ فِي صُورَة من
الصُّور، وعام عمل بِهِ وَلَو فِي صُورَة، فَقَالَ الْآمِدِيّ،
وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا: قدم مَا لم يعْمل بِهِ ليعْمَل
بِهِ فَيكون قد عمل بهما، وَلَو اعْتبر مَا عمل بِهِ لزم
إِلْغَاء الْآخِرَة بالمرة، وَالْجمع وَلَو بِوَجْه أولى.
(8/4222)
وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَجمع:
يرجح الْعَام الَّذِي عمل بِهِ؛ لِأَنَّهُ شَاهد لَهُ
بِالِاعْتِبَارِ لقُوته بِالْعَمَلِ.
وَإِذا تعَارض عامان أَحدهمَا أمس بِالْمَقْصُودِ وَأقرب
إِلَيْهِ قدم على الآخر، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَأَن تجمعُوا
بَين الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاء: 23] ، يقدم فِي مَسْأَلَة
الْجمع بَينهمَا فِي وَطْء النِّكَاح على قَوْله تَعَالَى:
{أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} [النِّسَاء: 3] ، فَإِنَّهُ أمس
بِمَسْأَلَة الْجمع؛ لِأَن الْمَسْأَلَة الأولى قصد بهَا
بَيَان تَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْء
بِنِكَاح وَملك يَمِين، وَالثَّانيَِة لم يقْصد بهَا بَيَان
حُرْمَة الْجمع.
وَإِذا تعَارض خبران، وَفسّر رَاوِي أَحدهمَا مَا قد رَوَاهُ
بقول أَو فعل دون رَاوِي الآخر، قدم الأول؛ لِأَنَّهُ أعرف
بِمَا رَوَاهُ فَيكون ظن الحكم بِهِ أوثق، كَحَدِيث عبد الله
بن عمر فِي خِيَار الْمجْلس، وَأَن المُرَاد بالتفرق تفرق
الْأَبدَان؛ لِأَنَّهُ فسره بذلك، لِأَنَّهُ اشْتَمَل على
فَائِدَة زَائِدَة.
(8/4223)
ويرجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر بِذكر
السَّبَب، فَإِن الحَدِيث الَّذِي ذكر الرَّاوِي السَّبَب
مَعَه رَاجِح أحد الْخَبَرَيْنِ على مَا لم يذكر السَّبَب
مَعَه؛ لِأَن ذكر السَّبَب يدل على زِيَادَة اهتمام الرَّاوِي
بالرواية.
ويرجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر إِذا كَانَ سِيَاقه أحسن؛
لِأَنَّهُ يدل على أَنه أولى من غَيره.
ويرجح - أَيْضا -: باقتران قرينَة تدل على تَأَخره على الآخر،
وَذَلِكَ مثل تَأَخّر إِسْلَام رَاوِيه؛ إِذْ الآخر يجوز أَن
يكون قد سَمعه قبل إِسْلَامه، لَا سِيمَا إِن علم موت الآخر
قبل إِسْلَامه.
وَمثل كَونه مؤرخا بتاريخ مضيق وَالْآخر بتاريخ موسع، نَحْو:
ذِي الْقعدَة من سنة كَذَا، وَسنة كَذَا لاحْتِمَال كَون الآخر
قبل ذِي الْقعدَة.
(8/4224)
وَمثل أَن يكون فِيهِ تَشْدِيد؛ لِأَن
التشديدات مُتَأَخِّرَة، لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَت حِين
ظُهُور الْإِسْلَام وكثرته وعلت شوكته، وَالتَّخْفِيف كَانَ
فِي أول الْإِسْلَام، وَحَدِيث عَائِشَة يدل على ذَلِك.
(8/4225)
وَكَذَا [كل] مَا يشْعر بشوكة الْإِسْلَام،
قَالَه الْعَضُد وَغَيره.
قَوْله: {المعقولان قياسان أَو استدلالان، فَالْأول يعود
إِلَى: أَصله، وفرعه، ومدلوله، وَأمر خَارج} .
لما فَرغْنَا من مرجحات المنقولين بأنواعه شرعنا فِي تَرْجِيح
المعقولين بأنواعه، وَهُوَ الْغَرَض الْأَعْظَم من بَاب
التراجيح وَفِيه اتساع مجَال الِاجْتِهَاد.
قَوْله: {الأَصْل بِقطع حكمه وبقوة دَلِيله، وَبِأَنَّهُ لم
ينْسَخ، وعَلى سنَن الْقيَاس، وبدليل خَاص بتعليله، وَقدم
الأرموي والبيضاوي بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع} .
تَرْجِيح الْقيَاس بِحَسب أَصله من وُجُوه:
بِأَن يكون دَلِيل أَصله أقوى، وَتَحْته صور:
(8/4226)
أَحدهَا: أَن يكون قَطْعِيا فَيقدم على مَا
دَلِيل أَصله ظَنِّي، كَقَوْلِنَا فِي لعان الْأَخْرَس: إِن
مَا صَحَّ من النَّاطِق صَحَّ من الْأَخْرَس كاليمين،
فَإِنَّهُ أرجح من قياسهم على شَهَادَته تعليلا بِأَنَّهُ
يفْتَقر إِلَى لفظ الشَّهَادَة؛ لِأَن الْيَمين تصح من
الْأَخْرَس بِالْإِجْمَاع، وَالْإِجْمَاع قَطْعِيّ، وَأما
جَوَاز شَهَادَته فَفِيهِ خلاف بَين الْفُقَهَاء.
الصُّورَة الثَّانِيَة: بِقُوَّة دَلِيله، لِأَنَّهُ أغلب على
الظَّن.
(8/4227)
الصُّورَة الثَّالِثَة: بِكَوْنِهِ لم
ينْسَخ بِاتِّفَاق، فَإِن مَا قيل بِأَنَّهُ مَنْسُوخ، وَإِن
كَانَ القَوْل بِهِ ضَعِيفا، لَيْسَ كالمتفق عَلَيْهِ أَنه لم
ينْسَخ.
الصُّورَة الرَّابِعَة: بِكَوْن حكم الأَصْل على سنَن
الْقيَاس، وَالْقِيَاس الَّذِي يكون حكم أَصله جَارِيا على
سنَن الْقيَاس رَاجِح على الْقيَاس الَّذِي لَا يكون كَذَلِك
لبعده عَن الْخلَل.
وَفَسرهُ الْعَضُد " بِأَن يكون على سنَن الْقيَاس بِاتِّفَاق
وَالْآخر مُخْتَلف فِيهِ؛ إِذْ لَو جرى على ظَاهره فمقابله على
غير سنَن الْقيَاس، فَلَا يَصح فَلَا تعَارض فَلَا تَرْجِيح "
انْتهى.
وَهُوَ كَمَا قَالَ
قَالَ الْبرمَاوِيّ ": " وَالْمرَاد بذلك هُنَا أَن يكون فَرعه
من جنس أَصله كَمَا صرح بِهِ أَبُو الطّيب، وَالْمَاوَرْدِيّ،
وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ،
وَغَيرهم.
وَذَلِكَ كقياس مَا دون أرش الْمُوَضّحَة فِي تحمل الْعَاقِلَة
إِيَّاه، فَهُوَ أولى من قياسهم ذَلِك على غرامات الْأَمْوَال
فِي إِسْقَاط التَّحَمُّل، لِأَن الْمُوَضّحَة من
(8/4228)
جنس مَا اخْتلف فِيهِ فَكَانَ على سنَنه؛
إِذا لجنس أشبه، كَمَا يُقَال: قِيَاس الطَّهَارَة على
الطَّهَارَة، أولى من قياسها على ستر الْعَوْرَة.
قَالَ: وَإِنَّمَا تعرضت لشرح ذَلِك لما سبق أَن من شَرط حكم
الأَصْل فِي الْقيَاس أَن لَا يكون معدولا بِهِ عَن سنَن
الْقيَاس، فَإِذا لم يَصح الْقيَاس كَيفَ يَقع التَّعَارُض،
فبيت أَن ذَلِك الْمَشْرُوط هُنَاكَ لَيْسَ هُوَ المُرَاد
هُنَا.
قَالَ: وَقد يُرَاد هُنَا أَن يكون أَحدهمَا على سنَن الْقيَاس
بِاتِّفَاق وَالْآخر على رَأْي، فيرجح الَّذِي بِاتِّفَاق -
كَمَا قَالَ الْعَضُد -.
قَالَ: وَكَذَا أَن يكون أَحدهمَا على سنَن الْقيَاس قَطْعِيا
وَالْآخر ظنيا، فيرجح مَا كَانَ قَطْعِيا " انْتهى.
الصُّورَة الْخَامِسَة: يرجع لقِيَام دَلِيل خَاص على
تَعْلِيله وَجَوَاز الْقيَاس عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أبعد من
التَّعَبُّد والقصور وَالْخلاف.
ويرجح مَا ثبتَتْ عليته بِالْإِجْمَاع على مَا ثبتَتْ عليته
بِالنَّصِّ، لقبُول النَّص للتأويل بِخِلَاف الْإِجْمَاع،
قَالَه فِي " الْمَحْصُول ".
(8/4229)
ثمَّ قَالَ: وَيُمكن تَقْدِيم النَّص؛
لِأَن الْإِجْمَاع فَرعه.
وَجزم بِهَذَا الْبَحْث الأرموي فِي " الْحَاصِل "، والبيضاوي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " نعم إِذا اسْتَوَى النَّص وَالْإِجْمَاع
فِي الْقطع متْنا وَدلَالَة: كَانَ مَا دَلِيله الْإِجْمَاع
راجحا، ودونهما إِذا كَانَا ظنيين.
فَإِن كَانَ أَحدهمَا ظنيا وَالْآخر إِجْمَاعًا ظنيا: رجح
أَيْضا مَا كَانَ دَلِيله الْإِجْمَاع، لما سبق من قبُول
النَّص النّسخ والتخصيص.
قَالَ الْهِنْدِيّ: هَذَا صَحِيح بِشَرْط التَّسَاوِي فِي
الدّلَالَة، فَإِن اخْتلفَا فَالْحق أَنه يتبع فِيهِ
الِاجْتِهَاد، فَمَا يكون إفادته للظن أَكثر فَهُوَ أولى،
فَإِن الْإِجْمَاع وَإِن لم يقبل النّسخ والتخصيص، لَكِن قد
تضعف دلَالَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى
(8/4230)
الدّلَالَة القطعية، فقد ينجبر النَّقْص
بِالزِّيَادَةِ وَقد لَا ينجبر، فَيَقَع فِيهِ الِاجْتِهَاد "
انْتهى.
قَوْله: {وبالقطع بِالْعِلَّةِ، أَو دليلها، أَو بِظَنّ غَالب
فيهمَا، وسبر، فمناسبة، فَشبه، ودوران، وَقدم الْبَيْضَاوِيّ:
الْمُنَاسبَة، فالدوران، فالسبر، وَقيل: الدوران فالمناسبة} .
هَذَا التَّرْجِيح يعود إِلَى عِلّة الأَصْل، فيرجح أحد
القياسين على الآخر بِالْقطعِ بِالْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ رَاجِح
على مَا هُوَ مظنون، وَكَذَا لَو كَانَ دليلهما مَقْطُوعًا
بِهِ، وَكَذَا بِالظَّنِّ الْأَغْلَب فيهمَا؛ فَشَمَلَ هَذَا
الْكَلَام أَربع صور:
أَحدهَا: الْقطع بِالْعِلَّةِ يرجح على الظَّن بهَا.
الثَّانِيَة: الظَّن الْغَالِب فِي الْعلَّة يرجح على الظَّن
غير الْغَالِب.
الثَّالِثَة: الْقطع بِدَلِيل الْعلَّة.
الرَّابِعَة: الظَّن الْغَالِب فِي دَلِيل الْعلَّة.
فيرجح الْقيَاس الَّذِي يكون مَسْلَك علته قَطْعِيا على
الْقيَاس الَّذِي لَا يكون كَذَلِك.
(8/4231)
ويرجح الْقيَاس الَّذِي استنبط عِلّة وَصفه
بالسبر على الْقيَاس الَّذِي استنبط عِلّة وَصفه بالمناسبة،
لتضمن السبر انْتِفَاء الْمعَارض فِي الأَصْل بِخِلَاف
الْمُنَاسبَة.
ويرجح مَا ثبتَتْ عليته بالمناسبة على الثَّابِتَة بالشبه،
لزِيَادَة غَلَبَة الظَّن بِغَلَبَة الْوَصْف الْمُنَاسب.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَأدنى الْمعَانِي فِي 5
الْمُنَاسبَة يرجح على أَعلَى الْأَشْبَاه.
ويرجح [مَا ثبتَتْ] علته بالشبه على الثَّابِتَة بالدوران، قطع
بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: مَا ثَبت بالطرد وَالْعَكْس يقدم على
غَيره من الْأَشْبَاه، لجريانه مجْرى الْأَلْفَاظ انْتهى.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي " منهاجه ": " يرجع بالمناسبة
الضرورية الدِّينِيَّة، ثمَّ الدُّنْيَوِيَّة، ثمَّ الَّتِي
فِي حيّز الْحَاجة الْأَقْرَب اعْتِبَارا فَالْأَقْرَب، ثمَّ
الدوران فِي مَحل، ثمَّ فِي محلين، ثمَّ السبر، ثمَّ الشّبَه،
ثمَّ الْإِيمَاء، ثمَّ الطَّرْد " انْتهى.
(8/4232)
فَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": "
يرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالمناسبة على
الدوران وَغَيره مِمَّا بَقِي؛ لِأَن الْمُنَاسبَة لَا تنفك
عَن الْعلية، وَأما الدوران فقد لَا يدل كالمتضايفين وَنَحْوه
مِمَّا تقدم.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالدوران على
الَّذِي ثبتَتْ عليته بالسبر وَغَيره من الطّرق الْبَاقِيَة،
لِأَن الْغَلَبَة المستفادة من الدوران مطردَة منعكسة بِخِلَاف
غَيره من الطّرق.
وَمِنْهُم من قدمه على الْمُنَاسبَة كَمَا قَالَه الرَّازِيّ
لهَذَا الْمَعْنى أَيْضا.
- وَهَذَا القَوْل هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن
بقولنَا: وَقيل: الدوران فَالْمُنَاسِب -.
والدوران قد يكون فِي مَحل وَاحِد، وَهُوَ: أَن يحدث حكم فِي
مَحل لحدوث صفة فِيهِ، وينعدم ذَلِك الحكم عَن ذَلِك الْمحل
بِزَوَال ذَلِك الْوَصْف عَنهُ كدوران الْحُرْمَة مَعَ
الْإِسْكَار فِي مَاء الْعِنَب وجودا وعدما.
(8/4233)
وَقد يكون فِي محلين كاستدلال الْحَنَفِيّ
على وجوب الزَّكَاة فِي الْحلِيّ: بدوران وجوب الزَّكَاة مَعَ
الذَّهَب وجودا فِي الْمَضْرُوب وعدما فِي الثِّيَاب،
[فالدوران] فِي مَحل أرجح فِي الْعلية من الدوران فِي محلين؛
لِأَن احْتِمَال الْخَطَأ فِيهِ أقل، أَلا ترى أَن يقطع فِي
مثالنا بِأَن مَا عدى السكر من الصِّفَات لَيْسَ بعلة،
وَإِلَّا لزم تخلف الْمَعْلُول على علته، بِخِلَاف مَا ثَبت
فِي محلين، فَإِنَّهُ لَا يُفِيد الْقطع بِأَن غير الذَّهَب
لَيْسَ عِلّة للْوُجُوب، لاحْتِمَال أَن تكون الْعلَّة فِيهِ
هُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من كَونه ذَهَبا، وَكَونه غير معد
للاستعمال.
قَالَ: ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالسبر على
الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالشبه وَغَيره مِمَّا بَقِي
كالإيماء والطرد؛ لِأَن مُسَمَّاهُ عِلّة اتِّفَاقًا فِي
العقليات والشرعيات، وَهُوَ السبر الْخَاص، بِخِلَاف
الْبَوَاقِي فَإِن فِيهَا خلافًا مَشْهُورا، وَمِنْهُم من
رَجحه على الْمُنَاسبَة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن
الْحَاجِب - وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ - لِأَنَّهُ يُفِيد علية
الْوَصْف، وَنفي الْمعَارض لَهُ بِخِلَاف الْمُنَاسبَة،
فَإِنَّهُ لَا دلَالَة لَهَا على نفي الْمعَارض " انْتهى.
(8/4234)
قَوْله: {وبالقطع بِنَفْي الْفَارِق، أَو
ظن غَالب، وَوصف حَقِيقِيّ وثبوتي، وباعث، على غَيرهَا} .
يرجح أحد القياسين على الآخر بطرِيق نفي الْفَارِق بَين
الأَصْل وَالْفرع، فَالْقِيَاس الْمَقْطُوع بِنَفْي الْفَارِق
فِيهِ بَين الأَصْل وَالْفرع رَاجِح على الْقيَاس الَّذِي يكون
نفي الْفَارِق فِيهِ مظنونا، وَكَذَا الْقيَاس الَّذِي يكون
نفي الْفَارِق مظنونا بِالظَّنِّ الْأَغْلَب رَاجِح على
الَّذِي يكون نفي الْفَارِق فِيهِ مظنونا بِالظَّنِّ غير
الْأَغْلَب.
ويرجح الْوَصْف الْحَقِيقِيّ على الْوَصْف الَّذِي هُوَ غير
حَقِيقِيّ.
قَالَ الْعَضُد: " يقدم مَا الْعلَّة فِيهِ وصف حَقِيقِيّ على
غَيره مِمَّا الْعلَّة فِيهِ وصف اعتباري أَو حِكْمَة
مُجَرّدَة " انْتهى.
وَقَالَ غَيره: " يرجح التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيّ
وَهُوَ المظنة كالسفر، على
(8/4235)
التَّعْلِيل بالحكمة كالمشقة، وعَلى
الْوَصْف الاعتباري أَو الْحكمِي، كَقَوْلِنَا فِي الْمَنِيّ:
مبدأ خلق الْبشر فَأشبه الطين، مَعَ قَوْلهم: مَائِع يُوجب
الْغسْل فَأشبه الْحيض " انْتهى.
ويرجح مَا الْعلَّة فِيهِ وصف ثبوتي على مَا الْعلَّة فِيهِ
عدمي.
ويرجح مَا الْعلَّة فِيهِ وصف باعث على مَا هِيَ مُجَرّد
أَمارَة لظُهُور مُنَاسبَة الباعثة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " ويرجح بِالْقطعِ بِنَفْي الْفَارِق أَو
ظن غَالب، وَالْوَصْف الْحَقِيقِيّ، أَو الثبوتي، أَو
الْبَاعِث، على غَيرهَا للاتفاق عَلَيْهَا، وَلِأَن الحسية
كالعقلية وَهِي مُوجبَة، وَلَا تفْتَقر فِي ثُبُوتهَا إِلَى
غَيرهَا " انْتهى.
وَرجح أَبُو الْخطاب، والسمعاني، والشيرازي: الْحكمِيَّة،
(8/4236)
وَذكره أَبُو الْخطاب عَن آخَرين،
وللشافعية: وَجْهَان، لِأَنَّهَا أَشد مُطَابقَة للْحكم
وبلازمه فَهِيَ أخص بِهِ.
وَسوى الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بَين حسية وحكمية وثبوتية
وعكسها، فَقَالَ فِي " المسودة ": إِذا كَانَت إِحْدَاهمَا
حسية وَالْأُخْرَى حكمِيَّة، أَو إِحْدَاهمَا إِثْبَاتًا
وَالْأُخْرَى نفيا، فَلَا تَرْجِيح بذلك.
وَقَالَ بعض الجدليين: " ترجح المنفية على الحسية، وَقَالَ
أَبُو الْخطاب: المنفية أولى وَلم يذكر فِيهِ خلافًا " انْتهى.
(8/4237)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلم يرجح بعض
أَصْحَابنَا الثبوتي، وَكَونه نفس الْعلَّة على ملازمها ذكره
الْآمِدِيّ " انْتهى.
قَالَ الطوفي: " إِذا تعَارض قياسان وَالْجَامِع فِي أَحدهمَا
حكم شَرْعِي، وَفِي الآخر وصف حسي، الْجَامِع فِي أَحدهمَا حكم
سَلبِي، وَفِي الآخر حكم إثباتي، فَالْحكم الشَّرْعِيّ مقدم
على الْوَصْف الْحسي، لِأَن الْقيَاس طَرِيق شَرْعِي لَا حسي،
فَكَانَ الِاعْتِمَاد فِيهِ على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
أولى مِنْهُ فِي الِاعْتِمَاد على الْأَوْصَاف الحسية،
وَكَذَلِكَ الحكم السلبي مقدم على الثبوتي، لِأَنَّهُ أوفق
للْأَصْل؛ إِذْ الأَصْل عدم الْأَشْيَاء كلهَا، قَالَه بعض
الْأُصُولِيِّينَ.
وَقَالَ الْآخرُونَ: الحكم الشَّرْعِيّ مَعَ الْوَصْف الْحسي،
وَالْحكم السلبي مَعَ الإثباتي سَوَاء؛ لِأَن الدَّلِيل لما
قَامَ على علية كل وَاحِد من الْأَمريْنِ ثبتَتْ عليته،
وَالظَّن لَا يتَفَاوَت بِشَيْء مِمَّا ذكرنَا، فاستويا لعدم
مَا يصلح تَرْجِيحا ".
قَوْله: {وظاهرة، ومنضبطة، مطردَة، ومنعكسة، ومتعدية، وَأكْثر
تَعديَة، على غَيرهَا} .
(8/4238)
تقدم الْعلَّة الظَّاهِرَة على الْعلَّة
الْخفية.
وَالْعلَّة المنضبطة على الْعلَّة المضطربة لأجل الْخلاف فِي
مقابلتهما.
وَتقدم الْعلَّة المطردة على الْعلَّة المنقوضة؛ لِأَن شَرط
الْعلَّة اطرادها، وَلِأَن المطردة أغلب على الظَّن، وأضعف
المنقوضة بِالْخِلَافِ فِيهَا.
وَتقدم الْعلَّة المنعكسة على غير المنعكسة لِأَنَّهَا أكمل،
لِأَن الانعكاس وَإِن لم يفد الْعلية لكنه يقويها.
وَتَأْتِي المطردة فَقَط، والمنعكسة فَقَط وَكَلَام الطوفي
هُنَاكَ قَرِيبا.
وَتقدم المتعدية على القاصرة على الْأَصَح، لِكَثْرَة فوائدها،
كالتعليل
(8/4239)
فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْوَزْنِ،
فيتعدى الحكم إِلَى كل مَوْزُون: كالحديد، والنحاس، والصفر،
وَنَحْوهَا، بِخِلَاف التَّعْلِيل بالثمنية والنقدية، فَلَا
يتعداهما، فَكَانَ التَّعْلِيل بِالْوَزْنِ الَّذِي هُوَ وصف
مُتَعَدٍّ لمحل النَّقْدَيْنِ إِلَى غَيرهمَا أَكثر فَائِدَة
من الثمنية القاصرة عَلَيْهِمَا.
فعلى هَذَا القَوْل ترجح الْعلَّة الَّتِي هِيَ أَكثر فروعا
على [الَّتِي] هِيَ أقل.
مِثَاله: لَو قَدرنَا أَن أَكثر عللنا فِي الرِّبَا الْكَيْل؛
لِأَن عِلّة الْكَيْل حِينَئِذٍ تكون أَكثر فروعا، وَلَو
قَدرنَا أَن المطعومات أَكثر عللنا فِيهِ بالطعم؛ لِأَنَّهُ
حِينَئِذٍ أَكثر فروعا، وَحِينَئِذٍ يصير الْأَقَل فروعا
بِالْإِضَافَة إِلَى الْأَكْثَر فروعا، كالقاصرة بِالنِّسْبَةِ
إِلَى المتعدية، وَيخرج فيهمَا الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِي
المتعدية والقاصرة.
وَقدم الْأُسْتَاذ الْعلَّة القاصرة على الْعلَّة المتعدية،
إِن قيل بِصِحَّتِهَا لوَجْهَيْنِ:
(8/4240)
أَحدهمَا: أَنَّهَا مُطَابقَة للنَّص فِي
موردها [أَي] لم يتَجَاوَز تأثيرها مَوضِع النَّص، بِخِلَاف
المتعدية فَإِنَّهَا لم تطابق النَّص بل زَادَت عَلَيْهِ،
وَمَا طابق النَّص كَانَ أولى.
الثَّانِي: أَمن صَاحبهَا الْمُعَلل بهَا من الْخَطَأ،
لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى التَّعْلِيل بهَا فِي غير مَحل
النَّص كالمتعدية، فَرُبمَا أَخطَأ بالوقوع فِي بعض مثارات
الْغَلَط فِي الْقيَاس، وَمَا أَمن فِيهِ من الْخَطَأ أولى
مِمَّا كَانَ عرضة لَهُ.
وَقَالَ أَبُو بكر الباقلاني، وَابْن السَّمْعَانِيّ،
وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، والطوفي: هما سَوَاء لَا رُجْحَان
لأَحَدهمَا [على] الآخر، لقِيَام الدَّلِيل على صحتهما،
وَلِأَن الْفُرُوع لَا تبنى على قُوَّة ذَاتهَا.
فَإِن قيل: الْعلَّة القاصرة لَا يُمكن الْقيَاس عَلَيْهَا،
فَالْكَلَام فِي التَّرْجِيح
(8/4241)
بَينهَا وَبَين الْعلَّة المتعدية لَا
يتَعَلَّق بترجيح الأقيسة؛ إِذْ التَّرْجِيح إِنَّمَا يكون من
وجودين، وَالْقِيَاس على القاصرة غير مَوْجُود وَلَا يُمكن،
فَكيف يَصح التَّرْجِيح بَينه وَبَين الْقيَاس على الْعلَّة
المتعدية؟
وَالْجَوَاب: أَنه لَيْسَ فَائِدَة ذَلِك تَرْجِيح أحد
القياسين على الآخر كَمَا ذكرْتُمْ، بل فَائِدَته أَنى إِن
رجحنا المتعدية أمكن الْقيَاس وَإِلَّا فَلَا، كالوزن فِي
النَّقْدَيْنِ وَعَدَمه بِتَقْدِير تَقْدِيم القاصرة كالثمنية؛
إِذْ القاصرة لَا يتَعَدَّى مَحَله ليقاس عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَإِن تقابلت عِلَّتَانِ فِي أصل: فَمَا قل أوصافها
أولى} .
هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَقدمه الْمجد
فِي " المسودة "، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم، وَذَلِكَ
للشبه بِالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّة، وَلِأَنَّهَا أجْرى على
الْأُصُول، وأسهل على الْمُجْتَهد، وَأكْثر فَائِدَة وفروعا،
كَشَهَادَة الْأُصُول.
(8/4242)
وَقَالَ الْفَخر: هما سَوَاء.
قَوْله: {وَإِن كَانَا من أصلين، فَمَا كثر أوصافها أولى، إِذا
كَانَت أَوْصَاف كل وَاحِدَة مِنْهُمَا مَوْجُودَة فِي
الْفَرْع} .
وَهَذَا الصَّحِيح لقُوَّة شبهه بِالْأَكْثَرِ وَقدمه ابْن
مُفْلِح، وَالْمجد فِي " المسودة "، وَغَيرهمَا.
وَقَالَ أَكثر الشَّافِعِيَّة: القليلة الْأَوْصَاف أولى.
(8/4243)
وَهُوَ احْتِمَال فِي " التَّمْهِيد "،
لِأَنَّهَا أسلم من الْفساد.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض
الشَّافِعِيَّة أَنَّهُمَا سَوَاء، لتساويهما فِي إِفَادَة
الحكم، والسلامة من الْفساد، وهما من جنس، فَلَا يلْزم
تَقْدِيم الْخَبَر على الْقيَاس؛ لِأَن دلالتهما نطق،
وَالْقِيَاس معنى.
وَبنى الطوفي الْمَسْأَلَة على الْعلَّة المتعدية والقاصرة،
كَمَا تقدم لَفظه فِي المتعدية والقاصرة.
وَقدم الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وشراح مُخْتَصره،
وَغَيرهم: المتحدة على المتعددة للضبط، والبعد من الْخلاف.
(8/4244)
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ":
المتحدة وقليلة الْأَوْصَاف أولى.
وَفِيه أَيْضا: إِذا صحتا فَمَا كثر فروعها أَو اسْتَويَا
سَوَاء، وَاعْتبر قوم جدليون لصحتها تَسَاوِي الْفَرْع.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَا يَصح.
والبيضاوي: العدمي للعدمي فَقَالَ: فِي " منهاجه ": " يرجح
[الوجودي] للوجودي، ثمَّ العدمي للعدمي " انْتهى.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": " الْوَصْف وَالْحكم قد
يكونَانِ وجوديين، وَقد يكونَانِ عدميين، وَقد يكون الحكم
وجوديا، وَالْوَصْف عدميا، وَقد يكون بِالْعَكْسِ، فتعليل
الحكم الوجودي بِالْوَصْفِ الوجودي أرجح من الْأَقْسَام
الثَّلَاثَة، لِأَن الْعلية، والمعلولية وصفان ثبوتيان فحملهما
على الْمَعْدُوم لَا يُمكن إِلَّا إِذا قدر الْمَعْدُوم
مَوْجُودا، ثمَّ يَلِي هَذَا الْقسم فِي الْأَوْلَوِيَّة
تَعْلِيل العدمي بالعدمي، وَحِينَئِذٍ فَيكون أرجح من تَعْلِيل
الحكم الوجودي بِالْعِلَّةِ العدمية وَمن الْعَكْس للمشابهة "
انْتهى.
(8/4245)
قَوْله: {وأعمها قَالَه فِي: " الْكِفَايَة
"، و " التَّمْهِيد "، وَجمع، وَخَالف فِي " الْعدة "،
وَالْحَنَفِيَّة: كعمومين} .
لم يرجح القَاضِي فِي " الْعدة "، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض
الشَّافِعِيَّة، بِكَوْن أَحدهمَا أَعم كالطعم أَعم من
الْكَيْل كالعمومين.
ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ يُمكن بِنَاء أَحدهمَا على الآخر
بِخِلَاف هَذَا.
ورجحها القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " كَمَا سبق.
وَاخْتلف اخْتِيَار أبي الْخطاب وَذكر على الأول وَجْهَيْن:
هَل ترجح المتعدية أَو سَوَاء؟
(8/4246)
قَالَ كثير من الشَّافِعِيَّة: يقدم
التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ البسيطة كتعليل الرِّبَا بالطعم على
التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ المركبة، كالطعم مَعَ التَّقْدِير
بكيل أَو وزن لِكَثْرَة فروع البسيطة وفوائدها، ولقلة
الِاجْتِهَاد فِيهِ.
وَقيل: ترجح المركبة.
وَقيل: هما سَوَاء.
وَفِي " التَّلْخِيص " لإِمَام الْحَرَمَيْنِ قَالَ القَاضِي:
وَلَعَلَّه الصَّحِيح. انْتهى.
(8/4247)
قَوْله: {ومطردة فَقَط على منعكسة فَقَط،
وَقَالَ الطوفي: تقدم المطردة إِن قيل بِصِحَّتِهَا، والمنعكسة
إِن اشْترط الْعَكْس} .
تقدم الْعلَّة المطردة فَقَط على المنعكسة فَقَط؛ لِأَن
اعْتِبَار الاطراد مُتَّفق عَلَيْهِ، وَضعف الثَّانِيَة
بِعَدَمِ الاطراد أَشد من ضعف الأولى بعد الانعكاس.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": " تقدم المطردة على غَيرهَا
إِن قيل بِصِحَّتِهَا، والمنعكسة على غَيرهَا إِن اشْترط
الْعَكْس؛ لِأَن انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها يدل على
زِيَادَة اختصاصها بالتأثير، فَيصير كالحد مَعَ الْمَحْدُود،
وَالْعلَّة الْعَقْلِيَّة مَعَ الْمَعْلُول ".
قَالَ فِي " شَرحه ": " وَتَحْقِيق هَذَا أَن غير المطردة
وَهِي المنتقضة بِصُورَة فَأكْثر إِن لم نقل بِصِحَّتِهَا لم
تعَارض المطردة حَتَّى تحْتَاج إِلَى التَّرْجِيح، فَإِن
قُلْنَا بِصِحَّتِهَا فاجتمعت هِيَ والمطردة: فالمطردة راجحة،
لِأَن ظن الْعلية فِيهَا أغلب، وَلِأَنَّهَا مُتَّفق عَلَيْهَا
والمنتقضة مُخْتَلف فِيهَا، فهما كالعامين إِذا خص أَحدهمَا
دون الآخر كَانَ الْبَاقِي على عُمُومه راجحا.
ثمَّ قَالَ: والمنعكسة راجحة على غير المنعكسة إِن اشْترط
الْعَكْس يَعْنِي فِي الْعِلَل، وَسبق أَن انعكاس الْعلَّة هَل
هُوَ شَرط فِي صِحَّتهَا أم لَا؟ فَإِن لم يشْتَرط الْعَكْس لم
ترجح المنعكسة على غير المنعكسة؛ لِأَن الْمُشْتَرك بَينهمَا
فِي شَرط الصِّحَّة هُوَ الاطراد وَهُوَ مَوْجُود، والانعكاس
غير مشترط فوجوده
(8/4248)
كَالْعدمِ، وَإِن اشترطنا انعكاس الْعلَّة
رجحت المنعكسة على غَيرهَا؛ لِأَن انْتِفَاء الحكم عِنْد
انتفائها يدل على زِيَادَة اختصاصها بالتأثير، فَتَصِير كالحد
مَعَ الْمَحْدُود، وَيقدم المنعكس على غَيره، وكالعلة
الْعَقْلِيَّة مَعَ الْمَعْلُول كالتسويد مَعَ الاسوداد،
فَكَانَت الشبيهة لَهَا من الْعِلَل الشَّرْعِيَّة أولى "
انْتهى.
قَوْله: {والمقاصد الضرورية الْخَمْسَة على غَيرهَا، ومكملها
على الحاجية، وَهِي على التحسينية، وَحفظ الدّين على
الْأَرْبَعَة، وَقيل: الْأَرْبَعَة، ثمَّ مصلحَة النَّفس،
فالنسب، فالعقل، فَالْمَال} .
إِذا تَعَارَضَت أَقسَام من الْمُنَاسبَة قدم بِحَسب قُوَّة
الْمصلحَة، فَتقدم الْأُمُور الْخَمْسَة الضرورية على غَيرهَا
من حاجي أَو تحسيني.
وَتقدم الْمصلحَة الحاجية على التحسينية.
وَتقدم التكميلية من الْخَمْسَة الضرورية على أصل الحاجية.
وَإِذا تَعَارَضَت بعض الْخمس الضرورية قدمت الدِّينِيَّة على
الْأَرْبَع الْأُخَر، لِأَنَّهَا الْمَقْصُود الْأَعْظَم،
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا
ليعبدون} [الذاريات: 56] ، [وَلِأَن] ثَمَرَته نيل السَّعَادَة
الأخروية، لِأَنَّهَا أكمل الثمرات.
(8/4249)
وَقيل: تقدم الْأَرْبَعَة الْأُخَر على
الدِّينِيَّة، لِأَنَّهَا حق آدَمِيّ وَهُوَ يتَضَرَّر بِهِ،
والدينية حق الله تَعَالَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا
يتَضَرَّر بِهِ، وَلذَلِك قدم قتل الْقصاص على قتل الرِّدَّة
عِنْد الِاجْتِمَاع، ومصلحة النَّفس فِي تَخْفيف الصَّلَاة عَن
مَرِيض ومسافر، وَأَدَاء صَوْم، وإنجاء غريق، وَحفظ المَال،
بترك جُمُعَة وَجَمَاعَة، وَبَقَاء الذِّمِّيّ مَعَ كفره.
ورد ذَلِك: بِأَن الْقَتْل إِنَّمَا قدم لِأَن فِيهِ حقين،
وَلَا يفوت حق الله بالعقوبة الْبَدَنِيَّة فِي الْآخِرَة،
وَفِي التَّخْفِيف عَنْهُمَا تَقْدِيم على فروع الدّين لَا
أُصُوله، ثمَّ هُوَ قَائِم مقَامه، فَلم يخْتَلف الْمَقْصُود
وَكَذَا غَيرهمَا، وَبَقَاء الذِّمِّيّ من مصلحَة الدّين
لاطلاعه على محَاسِن الشَّرِيعَة، فيسهل انقياده كَمَا فِي صلح
الْحُدَيْبِيَة، وتسميته فتحا مُبينًا.
(8/4250)
قلت: وَنَظِير الْقَتْل بالقود وَالرِّدَّة
إِذا مَاتَ من عَلَيْهِ زَكَاة وَدين لآدَمِيّ، فَقيل: تقدم
الزَّكَاة لِأَنَّهُ حق الله، اخْتَارَهُ القَاضِي فِي "
الْمُجَرّد "، وَصَاحب " الْمُسْتَوْعب ".
وَعنهُ: يقدم دين الْآدَمِيّ.
وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب أَنهم يقتسمون بِالْحِصَصِ،
وَنَصّ عَلَيْهِ أَحْمد، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابه.
وَكَذَا لَو مَاتَ وَعَلِيهِ حج وَدين وضاق مَاله عَنْهُمَا
أَخذ لِلْحَجِّ بِحِصَّتِهِ وَحج من حَيْثُ يبلغ، نَص عَلَيْهِ
أَحْمد، وَعَلِيهِ الْأَصْحَاب.
وَعنهُ: يقدم الدّين لتأكده.
وَلم يحكوا هُنَا فِي الأَصْل القَوْل بالتساوي، ولعلهم حكوه
وَلم نره.
(8/4251)
ثمَّ مصلحَة النَّفس؛ لِأَن الْبَقِيَّة
لأَجلهَا وَبهَا تحصل الْعِبَادَات.
ثمَّ النّسَب بعْدهَا؛ لشدَّة تعلقه ببقائها فبقاء الْوَلَد
لَا مربي لَهُ، فَيُؤَدِّي إِلَى هَلَاكه.
ثمَّ الْعقل بعده لفَوَات النَّفس بفواته، وَلِأَن بِهِ
التَّكْلِيف، ثمَّ المَال
قَوْله: {وَمَا مُوجب نقض علته مَانع أَو فَوَات شَرط على مَا
مُوجبه ضَعِيف، لِأَن قوته دَلِيل قوتها} .
أَي لِأَن قُوَّة مُوجب النَّقْض دَلِيل على قُوَّة الْعلَّة
المنقوضة.
قَالَ الْعَضُد: " إِذا انْتقض العلتان، وَكَانَ مُوجب
التَّخَلُّف فِي أَحدهمَا فِي صُورَة النَّقْض قَوِيا، وَفِي
الآخر ضَعِيفا، قدم الأول ".
قَوْله: {وَمَا مُوجب نقضهَا محققا على مُحْتَمل، وبانتفاء
مزاحمها فِي أَصْلهَا، وبرجحانها عَلَيْهِ} .
يرجح الْقيَاس الَّذِي يكون مُوجب نقض علته محققا على الْقيَاس
الَّذِي يكون مُوجب نقض علته مُحْتملا.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي قد انْتَفَى مُزَاحم علته فِي الأَصْل
على مَا لم ينتف
(8/4252)
مُزَاحم علته فِيهِ، لِأَن انْتِفَاء
مُزَاحم الْعلَّة يُفِيد غَلَبَة الظَّن بِالْعِلَّةِ.
قَالَ الْعَضُد: ترجح الْعلَّة بِانْتِفَاء الْعلَّة المزاحم
لَهَا فِي الأَصْل، بِأَن لَا تكون مُعَارضَة وَالْأُخْرَى
مُعَارضَة، ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون علته راجحة على
مزاحمها فِي الأَصْل على مَا لَا تكون علته راجحة على مزاحمها.
قَوْله: {والمقتضية للثبوت عِنْد القَاضِي، وَأَصْحَابه،
والموفق، وَغَيرهم} .
لِأَن الْمُقْتَضِيَة للثبوت تفِيد حكما شَرْعِيًّا لم يعلم
بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة بِخِلَاف الْمُقْتَضِيَة
للنَّفْي، فَإِنَّهَا تفِيد مَا علم بِالْبَرَاءَةِ
الْأَصْلِيَّة، وَمَا فَائِدَته شَرْعِيَّة رَاجِح على غَيره.
وقاسه أَبُو الْخطاب على الْخَبَرَيْنِ.
(8/4253)
وَعند الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب،
وَغَيرهمَا.
ترجح النافية؛ لِأَن الْمُقْتَضِيَة للنَّفْي متأيدة
بِالنَّفْيِ.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ النافية لتتمة مقتضاها بِتَقْدِير
رُجْحَانهَا، وَبِتَقْدِير مساواتها ولتأييدها بِالْأَصْلِ،
وَالْحكم إِنَّمَا يطْلب للحكمة، والشارع يحصلها بالحكم
وبنفيه.
وَذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي الْمُقْتَضِيَة
للنَّفْي احتمالات.
أَحدهَا: سَوَاء، وَهَذَا اخْتِيَار الْحلْوانِي، وَبَعض
الشَّافِعِيَّة، وَظَاهر اخْتِيَار " الرَّوْضَة ".
وَالثَّانِي: النافية، وَهَذَا اخْتِيَار أبي عبد الله
الْبَصْرِيّ.
وَالثَّالِث: المثبتة، وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي عبد
الْجَبَّار.
(8/4254)
قَالَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": هَذَا
أشبه بأصلنا وَتعلق بِكَلَام الإِمَام أَحْمد.
قَوْله: {وبقوة الْمُنَاسبَة بِأَن يكون أفْضى إِلَى مقصودها
أَو لَا تناسب نقيضه، والعامة للمكلفين على الْخَاصَّة،
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَهُ الِاسْتِدْلَال
بِكُل من علتين مستقلتين، وَقدم الْكَرْخِي وَأكْثر
الشَّافِعِيَّة: الْخَاصَّة} .
يرجح أحد القياسين على الآخر بِقُوَّة الْمُنَاسبَة؛ لِأَن
قُوَّة الْمُنَاسبَة تفِيد قُوَّة ظن الْعلية.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وبقة الْمُنَاسبَة بِأَن يكون أفْضى
إِلَى مقصودها أَو لَا تناسب نقيضه ".
ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون علته عَامَّة فِي الْمُكَلّفين،
أَي: متضمنة لمصْلحَة عُمُوم الْمُكَلّفين على الْقيَاس
الَّذِي تكون علته جَامِعَة لبَعض الْمُكَلّفين، لِأَن مَا
تكون فَائِدَته أَكثر أولى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَهُ الِاسْتِدْلَال
بِكُل من علتين مستقلتين.
(8/4255)
وَقدم الْكَرْخِي وَأكْثر الشَّافِعِيَّة
الْخَاصَّة لتصريحها بالحكم.
وَكَذَا مَا أَصْلهَا من جنس فرعها كإلحاق بيع الْغَائِب
بالسلم بِلَا صفة، وَبِقَوْلِهِ: بِعْتُك عبدا، وَاخْتَارَ
ذَلِك الْكَرْخِي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، كالعلة الْخَاصَّة.
قَوْله: {والموجب للحرية عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَقيل:
عَكسه، وَأَبُو الْخطاب: سَوَاء} .
تقدم الْمُقْتَضِيَة للحرية، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله
" وَقَالَ: (قَالَه القَاضِي، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين) .
وَقيل: عَكسه، أَي: تقدم الْعلَّة الْمُقْتَضِيَة للرق.
(8/4256)
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب: أَنَّهُمَا
سَوَاء وَذكره عَن الشَّافِعِيَّة.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " ترجح مسقطة الْحَد على موجبته،
وموجبة الْعتْق على نافيته، وَالَّتِي هِيَ أحف حكما على
الَّتِي أثقل حكما، على خلاف [فِي] ذَلِك كُله، كَمَا سبق فِي
نَظِيره من الْأَخْبَار؛ لِأَن الْعِلَل مستفادة من النُّصُوص
فتتبعها فِي الْخلاف والوفاق فِي ذَلِك وَنَحْوه، وَهَذَا كُله
فِي المنصوصتين والمستنبطتين، أما فِي المنصوصة والمستنبطة،
فالمنصوصة وَاجِبَة التَّقْدِيم بِكُل حَال، كَمَا سبق فِي
الْمُنَاسبَة مَعَ غَيرهَا " انْتهى.
قَوْله: {والحاظرة أولى عِنْد القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن
عقيل، والكرخي، لِأَنَّهَا أولى وأحوط} .
أَي: الَّتِي توجب الْحَظْر مُقَدّمَة على الَّتِي توجب
الْإِبَاحَة، وَقطع بِهِ
(8/4257)
الطوفي فِي مَتنه وَشَرحه.
وَذكر أَبُو الْخطاب احْتِمَالا بِأَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ
ظَاهر اخْتِيَار الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ".
وللشافعية وَجْهَان، كهذين.
قَوْله: {وَمَا لم يخص أَصْلهَا، ذكره أَبُو الْخطاب، وَابْن
عقيل، كالطعم على الْكَيْل عِنْد من يُجِيز التَّفَاضُل فِي
الْقَلِيل} .
تقدم عَامَّة الأَصْل بِأَن تُوجد فِي جَمِيع جزئياته؛
لِأَنَّهَا أَكثر فَائِدَة مِمَّا لم تعم، كالطعم فِيمَن يُعلل
بِهِ فِي بَاب الرِّبَا، فَإِنَّهُ مَوْجُود فِي الْبر مثلا
قَلِيله وَكَثِيره، بِخِلَاف " الْقُوت " الْعلَّة عِنْد
الْحَنَفِيَّة فَلَا يُوجد فِي قَلِيله، فجوزوا بيع الحفنة
مِنْهُ بالحفنتين.
قَوْله: {وَمَا وجد حكمهَا مَعهَا على مَا قبلهَا، وَمَا وصف
بموجود
(8/4258)
فِي الْحَال على مَا يجوز وجوده فِي
الثَّانِي، وَمَا عَمت معلولها على مَا خصته، ومفسرة على مجملة
عِنْد أَصْحَابنَا فِيهِنَّ} .
هَذِه الصُّور ذكرهَا أَبُو الْخطاب وَغَيره من أَصْحَابنَا.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " مِنْهَا أَن يكون حكم أَحدهمَا
مَعهَا وَحكم الْأُخْرَى مَوْجُودا قبلهَا فَالْأولى أولى،
لِأَنَّهُ يدل على تأثيرها فِي الحكم، كتعليل أَصْحَابنَا فِي
الْبَائِن: أَنَّهَا لَا نَفَقَة لَهَا وَلَا سُكْنى؛
لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّة مِنْهُ فَأشبه المنقضية الْعدة.
- قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَفِيه نظر -.
ويعلل الْخصم: بِأَنَّهَا مُعْتَدَّة من طَلَاق أشبه
الرَّجْعِيَّة، فعلتنا أولى؛ لِأَن الحكم وَهُوَ سُقُوط
النَّفَقَة وجد بوجودها، وَقبل أَن تصير أَجْنَبِيَّة كَانَت
النَّفَقَة وَاجِبَة، وعلتهم غير مُؤثرَة؛ لِأَن وجوب
النَّفَقَة وَالسُّكْنَى تجب للزَّوْجَة قبل أَن تصير
مُعْتَدَّة فَوَجَبَ لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى ".
(8/4259)
وَقَالَ أَيْضا: وَمِنْهَا: " أَن [تكون
إِحْدَاهمَا] مَوْصُوفَة بِمَا هُوَ مَوْجُود فِي الْحَال،
وَالْأُخْرَى مَوْصُوفَة بِمَا يجوز وجوده فِي الثَّانِي
كتعليل أَصْحَابنَا فِي رهن الْمشَاع، أَنه عين يَصح بيعهَا
فصح رَهنهَا كالمفرد.
وتعليل الْخصم، بِأَنَّهُ قَارن العقد معنى يُوجب اسْتِحْقَاق
رفع يَده فِي الثَّانِي، فعلتنا مُحَققَة الْوُجُود، وَمَا
ذَكرُوهُ يجوز أَن يُوجد، وَيجوز أَن لَا يُوجد، فَكَانَت
علتنا أولى ".
وَقَالَ أَيْضا: " وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا تستوعب
معلولها، كقياسنا فِي جَرَيَان [الْقصاص] بَين الرجل
وَالْمَرْأَة فِي الْأَطْرَاف: بِأَن من جرى [الْقصاص]
بَينهمَا فِي النَّفس جرى بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف كالحرين.
أولى من قياسهم بِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي بدل النَّفس
فَلَا يجْرِي [الْقصاص]
(8/4260)
بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف، كَالْمُسلمِ
مَعَ الْمُسْتَأْمن، لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لقَولهم، فَإِن
الْعَبْدَيْنِ وَلَو تَسَاويا فِي الْقيمَة، لَا يجْرِي
[الْقصاص] بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف عِنْده ".
وَقَالَ أَيْضا: وَمِنْهَا: " أَن تكون إِحْدَاهمَا مفسرة
وَالْأُخْرَى مجملة كقياسنا فِي الْأكل فِي رَمَضَان، أَنه لَا
كَفَّارَة فِيهِ، لِأَنَّهُ إفطار بِغَيْر مُبَاشرَة فَأشبه
لَو ابتلع حَصَاة، أولى من قياسهم: أفطر بمسوغ جنسه؛ لِأَن
الْمُفَسّر فِي
(8/4261)
الْكتاب وَالسّنة مقدم على الْمُجْمل،
وَكَذَا فِي المستنبطة ".
انْتهى كَلَامه فِي " التَّمْهِيد ".
قَوْله: {وَالْفرع يُقَوي الظَّن بالمشاركة وَفِي الْأَخَص
والبعد عَن الْخلاف فَيقدم عين الحكم، وَعين الْعلَّة، وَعين
أَحدهمَا على الجنسين، وَعين الْعلَّة على عين الحكم، وبالقطع
بهَا فِيهِ، وبتأخير الْفَرْع وثبوته بِنَصّ جملَة} .
هَذَا التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْفَرْع وَيحصل بترجيح
الْقيَاس بِحَسبِهِ من وُجُوه، فيرجح الْقيَاس الَّذِي يكون
فَرعه مشاركا لأصله فِي عين الحكم وَعين الْعلَّة، على
الثَّلَاثَة، أَي: على مَا يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي جنس
الحكم وجنس الْعلَّة، وَفِي جنس الحكم وَعين الْعلَّة، وَفِي
عين الحكم وجنس الْعلَّة، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقولنَا: على
الثَّلَاثَة، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك؛ لِأَن التَّعْدِيَة
(8/4262)
بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك فِي الْمَعْنى
الْأَخَص يكون أغلب على الظَّن من الِاشْتِرَاك فِي الْمَعْنى
الْأَعَمّ.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين
أَحدهمَا، أَي: عين الْعلَّة أَو الحكم على عَكسه، أَي: على
الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي الجنسين، أَي:
جنس الْعلَّة وجنس الحكم لما مر.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين
الْعلَّة على عَكسه، أَي: على الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه
مشاركا لأصله فِي عين الحكم؛ لِأَن الْعلَّة أصل الحكم
الْمُتَعَدِّي، فاعتبار مَا هُوَ مُعْتَبر فِي خُصُوص الْعلَّة
أولى من اعْتِبَارهَا مَا هُوَ مُعْتَبر فِي خُصُوص الحكم.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون الْعلَّة فِي فَرعه مَقْطُوعًا
على الْقيَاس الَّذِي تكون علته فِي الْفَرْع مظنونة.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثَبت حكم الْفَرْع فِيهِ بِالنَّصِّ
جملَة لَا تَفْصِيلًا، على الْقيَاس الَّذِي لم يثبت حكم
الْفَرْع فِيهِ بِالنَّصِّ.
وَقَوْلنَا: جملَة؛ لِأَنَّهُ لَو ثَبت حكم الْفَرْع
بِالنَّصِّ على سَبِيل التَّفْصِيل لم يكن ثَابتا
بِالْقِيَاسِ، كَمَا مر فِي شَرط حكم الْفَرْع.
(8/4263)
قَوْله: {الْمَدْلُول وَأمر خَارج نَظِير
مَا سبق من المنقولين} .
أما الترجيحات العائدة إِلَى الْمَدْلُول وَهُوَ حكم الْفَرْع
فعلى مَا تقدم، وَكَذَا الترجيحات العائدة من خَارج فعلى
قِيَاس مَا سلف.
قَوْله: {وترجح عِلّة وافقها قَول صَحَابِيّ، ذكره ابْن عقيل،
وَأَبُو الْخطاب، وَقَالَ: من لم يَجعله حجَّة يرجح بِهِ،
قَالَ أَبُو الطّيب: أَو مُرْسل، وَفِي " الْعدة " لَا يرجح
بِمَا لَا يثبت بِهِ حكم، وَالْقَوْلَان لِابْنِ عقيل} .
الصَّحِيح أَن الْعلَّة ترجح إِذا وافقها قَول الصَّحَابِيّ
وَإِن لم نجعله حجَّة، وَقد تقدم نَظِير ذَلِك فِي
الدَّلِيلَيْنِ وَأَن الصَّحِيح أَنه يرجح هُنَاكَ، فَكَذَا
هُنَا.
(8/4264)
وَالصَّحِيح - أَيْضا -: أَن الْمُرْسل
يرجح بِهِ أحد الدَّلِيلَيْنِ فَكَذَلِك فِي الْعلَّة.
وَعند القَاضِي فِي " الْعدة ": لَا يرجح بِمَا لَا يثبت بِهِ
حكم، فَلَا يرجح بمرسل وَلَا بقول صَحَابِيّ، إِذا لم يثبت
بذلك حكم على القَوْل بِهِ.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَهُوَ مُحْتَمل، وَقَالَ
أَيْضا: وَأطلق ابْن عقيل وَغَيره التَّرْجِيح بِهِ.
وَقيل لَهُ أَيْضا فِي تصويب كل مُجْتَهد: لَا خلاف فِي
التَّرْجِيح بِمَا لَا يجوز ثُبُوت الحكم بِهِ.
(8/4265)
فَقَالَ: لَا نسلم.
وَقد نقل الْجَمَاعَة عَن أَحْمد أَنه كَانَ يكْتب حَدِيث
الرجل الضَّعِيف كَابْن لَهِيعَة، وَجَابِر الْجعْفِيّ، وَأبي
بكر بن أبي مَرْيَم، فَيُقَال لَهُ؟ فَيَقُول: أعرفهُ أعتبر
بِهِ كَأَنِّي أستدل بِهِ مَعَ غَيره.
وَيَقُول: " يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: قَول أَحْمد: أستدل بِهِ مَعَ غَيره،
يَعْنِي يصير حجَّة بالانضمام لَا مُنْفَردا.
وَكَذَا حكم الْمُرْسل، وَقَول الصَّحَابِيّ كالخبر الضَّعِيف
يقوى بِهِ، ويرجح بِهِ، وَهُوَ الصَّوَاب.
(8/4266)
قَوْله: {الْمَنْقُول وَالْقِيَاس يرجح
خَاص دلّ بنطقه، وَإِلَّا فَمِنْهُ ضَعِيف وَقَوي ومتوسط،
فالترجيح فِيهِ بِحَسب مَا يَقع للنَّاظِر} .
لما فَرغْنَا من تَرْجِيح المعقولين شرعنا فِي تَرْجِيح
الْمَنْقُول والمعقول.
فَإِذا وَقع التَّعَارُض بَين الْقيَاس وَالْمَنْقُول الَّذِي
هُوَ الْكتاب وَالسّنة، فَإِن كَانَ الْمَنْقُول خَاصّا أَو
دلّ على الْمَطْلُوب بمنطوقه يرجح على الْقيَاس، لكَون
الْمَنْقُول أصلا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقيَاس، وَلِأَن
الْمَنْقُول مقدماته أقل فَيكون أقل خللا.
وَإِن كَانَ الْمَنْقُول خَاصّا وَدلّ على الْمَطْلُوب لَا
بمنطوقه فَهُوَ يَقع على دَرَجَات، لِأَن الظَّن الْحَاصِل من
الْمَنْقُول الَّذِي دلّ على الْمَطْلُوب لَا بمنطوقه، قد يكون
أقوى من الظَّن الْحَاصِل من الْقيَاس، وَقد يكون مُسَاوِيا
لَهُ، وَقد يكون أَضْعَف، فالترجيح فِيهِ حسب مَا يَقع
للنَّاظِر، فَلهُ أَن يعْتَبر الظَّن فِيهِ وَمن الْقيَاس،
وَيَأْخُذ بأقوى الظنيين.
وَإِن كَانَ الْمَنْقُول عَاما فَحكمه مَعَ الْقيَاس قد تقدم
الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب الْخَبَر، فَلَا حَاجَة إِلَى
إِعَادَته.
(8/4267)
|