التلخيص في أصول الفقه

(37) القَوْل فِي معنى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز والفصل بَينهمَا

[112] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: الْحَقِيقَة تطلق وَيُرَاد بهَا خَاص وصف الشَّيْء الَّذِي يتَمَيَّز ويوافق ويماثل وَهُوَ حَده عَنهُ. وَذَلِكَ كَمَا يُقَال حَقِيقَة الْعَالم من قَامَ بِهِ الْعلم. وَحَقِيقَة الْجَوْهَر المتحيز إِلَى غير ذَلِك. وَهَذَا مَا لَا نطلبه فِي مَضْمُون هَذَا الْبَاب.
وَقد تطلق الْحَقِيقَة فِي اللُّغَات ومجاري المحاورات فَهَذَا مقصدنا من هَذَا الْبَاب. فَإِذا قُلْنَا هَذِه الْعبارَة حَقِيقَة فِي هَذَا الْمَعْنى فَمَعْنَاه أَنَّهَا مستعملة [11 / ب] فِيمَا وضعت فِي أصل / وضع اللُّغَة لَهُ فَهَذَا مَا نريده بِالْحَقِيقَةِ. فَأَما الْمجَاز

(1/184)


فَهُوَ مَا [اسْتعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ فِي أصل] وضع اللُّغَة.
وَيُسمى هَذَا الضَّرْب مجَازًا لِأَن أهل اللُّغَة يتجاوزون بِهِ عَن أصل الْوَضع توسعا مِنْهُم. وَذَلِكَ نَحْو تسميتهم الشجاع البطل من الرِّجَال أسدا والبليد حمارا والأسد فِي أصل الْوَضع لحيوان مَعْلُوم بيد أَنهم قد أَطْلقُوهُ توسعا على من يتخصص بشاعته وجرأته، وعدوا من هَذَا الْقَبِيل أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {جدارا يُرِيد أَن ينْقض} فإضافة الْإِرَادَة إِلَى الْجِدَار لَيْسَ فِي أصل وضع اللُّغَة بل هُوَ من الْمجَاز وَيكثر نَظَائِر ذَلِك فِي الْكتاب وَالسّنة.
[113] وَقد عد بعض أَئِمَّتنَا قَوْله تَعَالَى: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} من هَذَا الْقَبِيل فَإِن الْمَعْنى بالقرية أهل الْقرْيَة. وَمن أَصْحَابنَا من عد ذَلِك من قبيل

(1/185)


الْمجَاز. وَزعم أَن الْقرْيَة وضعت مَوضِع أهل الْقرْيَة وعنى بهَا نَفسهَا أَهلهَا تجوزا.
وَمِنْهُم من قَالَ هَذَا وَأَمْثَاله من الْمُضْمرَات. وَلَا نقُول أُقِيمَت الْقرْيَة مقَام أَهلهَا بل حذف من الْخطاب ذكر أهل الْقرْيَة لدلَالَة بَقِيَّة الْخطاب عَلَيْهِ. وأبواب الْإِضْمَار والحذف لَا يلْتَحق بالمجازات. فَإِن الْمجَاز لَفْظَة مستعملة فِي غير مَا وضعت لَهُ.
[114] وَكَذَلِكَ من أَئِمَّتنَا من صَار إِلَى أَن قَوْله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} فَقَالَ: الْكَاف والمثل تجوزا وتوسعا، وَهَذَا الْقَائِل يَقُول من ضروب الْخطاب مَا يلْتَحق بالمجاز لنُقْصَان شَيْء مِنْهُ كَمَا قدمْنَاهُ. وَمِنْه مَا يلْتَحق بِهِ لزِيَادَة شَيْء فِيهِ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كمثله شَيْء} .
ونرى القَاضِي يمِيل إِلَى عد ذَلِك من قبيل الْمجَاز.
[115] ويلتحق بذلك قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جزاؤا الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} .
مَعْنَاهُ أهل الله ومصدقيه ومتبعي شرائعه.

(1/186)


[116] فَكل كَلَام وضع فِي أصل اللُّغَة فَإِذا نقص مِنْهُ شَيْء مَعَ اسْتِبْقَاء تَمام المُرَاد فَهُوَ مجَاز. فَإِنَّهُ من هَذَا الْوَجْه معدول عَن أصل الْوَضع وَكَذَلِكَ الزِّيَادَة وَهَذَا لعمري سديد.
(38) فصل

[117] اعْلَم أَنا نتبع وضع اللُّغَة فِي الْحَقَائِق وَاسْتِعْمَال أَهلهَا فِي التجوزات والتوسعات فَلَا يسوغ لنا أَن نتعدى فِي المجازات مَوَاضِع استعمالهم كَمَا لَا يجوز لنا أَن نتعدى أصل الْوَضع فِي الْحَقَائِق.
[118] وَقد ذكر رَضِي الله عَنهُ فصلا نَحن ذاكروه. وَهُوَ أَنه ... الْحَقِيقَة تتعدى إِلَى جَمِيع مَا وضعت لإفادته وَإِن لم تصادف جَمِيعهَا منصوتة لَهُم.

(1/187)


وَبَيَان ذَلِك أَنهم لما سموا من يصدر مِنْهُ الضَّرْب منا ضَارِبًا فيطلق اسْم الضَّارِب على من يصدر مِنْهُ الضَّرْب من الضاربين. وَإِذا نقل عَنْهُم واسئل الْقرْيَة والرباع والأطلال على إِرَادَة أَهلهَا فَلَا يعدى ذَلِك عَن مورده حَتَّى نقُول واسأل الدَّوَابّ. ونعني أَهلهَا. وَهَذَا سديد، وَلَكِن لَو رد إِلَى التَّحْقِيق لم يقتض كَبِير معنى فَإِن الأَصْل أننا فِي الْحَقَائِق نتبع أصل الْوَضع، وَفِي الْمجَاز نتبع اسْتِعْمَال أهل اللُّغَة.
وَإِنَّمَا نسمي كل من يصدر مِنْهُ الضَّرْب ضَارِبًا متبعين لَا قائسين وَلَا معتبرين فَإِن الصَّحِيح عندنَا منع الْقيَاس فِي اللُّغَات وَلَكِن ثَبت بِأَصْل [12 / أ] الْوَضع نصا أَنهم مَا / خصصوا الضَّارِب بِجِنْس بل سموا كل من يصدر مِنْهُ الضَّرْب ضَارِبًا. وَلَو ثَبت عندنَا استعمالهم نصا أَن كل مَا ينتسب إِلَى أهل وَمَال يعبر عَن صَاحبه مجَازًا لأطلقنا ذَلِك عُمُوما كَمَا أطلقناه فِي الضَّارِب وَنَحْوه من حقائق اللُّغَات. فَدلَّ أَن محصول الْكَلَام منع الْقيَاس فِي اللُّغَات وَيتبع الْوَضع فِي الْحَقَائِق والاستعمال فِي الْمجَاز من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان.
[119] ثمَّ ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ طرقا تنفصل بهَا الْحَقَائِق عَن الْمجَاز، بَعْضهَا اتِّفَاق فِي بعض الْمَوَاضِع غير مطرد فِي الْبَابَيْنِ عُمُوما.
فَأول مَا ذكره فِي الْفَصْل بَينهمَا مَا فَرغْنَا مِنْهُ آنِفا فِي أَن الْحَقِيقَة تعدِي

(1/188)


عَن موضوعها اتبَاعا لما راموا من الْفَائِدَة فِيمَا نصوا عَلَيْهِ. كالضارب وَنَحْوه بِخِلَاف الْمجَاز. وَقد أشبعنا القَوْل فِيهِ.
[120] وَالثَّانِي أَن مَا وضع حَقِيقَة تشتق مِنْهُ. وَاسْتِعْمَال الِاشْتِقَاق يجْرِي فِيهِ. وَإِذا اسْتعْمل مجَازًا لم يجر فِيهِ الِاشْتِقَاق.
وَبَيَان ذَلِك أَن حَقِيقَة الْأَمر فِي أصل الْوَضع اقْتِضَاء الْفِعْل من الْمَأْمُور على مَا سنبينه. ثمَّ قد يسْتَعْمل فِي الشَّأْن. فَيُقَال كَيفَ شَأْنك وأمرك. وَهُوَ مجَاز فِي معنى الشَّأْن فَلَا جرم، واشتق من الْأَمر الَّذِي يضاد النَّهْي وَسَائِر مَا يصدر عَن المصادر، وَإِذا اسْتعْمل فِي الشَّأْن لم تصدر عَنهُ النعوت وَالْأَفْعَال. وَهَذَا الَّذِي فِي الصُّور الَّتِي ذَكرنَاهَا سديد. وَلَكِن لَيْسَ يطرد فَرب حَقِيقَة لَا تصدر مِنْهُ النعوت. وَهُوَ إِذا لم تكن مصدرا. وَرب مجَاز ورد التَّجَوُّز بنعوت صادرة عَنهُ كَمَا ورد الِاسْتِعْمَال فِي أَصله فَكل مَا حل مَحل المصادر وضعا واستعمالا فالأغلب أَنه تصدر مِنْهُ النعوت فَدلَّ أَن ذَلِك مِمَّا لَا يطرد فِي الْبَابَيْنِ: الْحَقِيقَة وَالْمجَاز.

(1/189)


[121] وَمِمَّا ذكره فِي الْفَصْل بَينهمَا أَن الِاسْم إِذا اسْتعْمل فِي شَيْء مجَازًا وَجمع فَجَمعه فِي الْحَقِيقَة يُخَالف جمعه فِي الْمجَاز. وَاسْتشْهدَ بِالْأَمر فَإِن الْأَمر إِذا اسْتعْمل فِي حَقِيقَته فَجَمعه الْأَوَامِر. وَإِذا اسْتعْمل فِي الشَّأْن فَجَمعه الْأُمُور. فَلَيْسَ هَذَا أَيْضا مِمَّا يلْزم طرده فَإِنَّهُ قد يتَّفق جَمعهمَا كَمَا أَن [جمع] الْأسد فِي السَّبع الْمَشْهُور وَفِي البطل بِمَثَابَة وَاحِدَة. وَكَذَلِكَ جمع [الْحمار] فِي الدَّابَّة الْمَعْرُوفَة. وَفِي البليد بِمَثَابَة وَاحِدَة، فعندي [أَنه] مَا ذكر هَذِه الفروق لتمييز الْبَابَيْنِ اطرادا، وَلَكِن ذكر ضروبا من الاتفاقات فِي الْفَصْل بَين الْحَقَائِق والتجوزات.
(39) فصل

[122] ذهب من لَا تَحْقِيق وَرَاءه إِلَى أَنه لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى

(1/190)


مجَازًا وَهَذَا الْقَائِل إِن كَانَ يَقُول فِي اللُّغَة مجَازًا فَيلْزمهُ الْمصير إِلَى انطواء كتاب الله تَعَالَى على ذَلِك وأمثلته لَا تحصى وَلَا تحصر وَإِن ذهب

(1/191)


إِلَى نفي الْمجَاز عَن اللُّغَة جملَة فقد أَخطَأ. وَقد حُكيَ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَق

(1/192)


وَالظَّن بِهِ أَن ذَلِك لَا يَصح عَنهُ.
[123] وَوجه التَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن يُقَال إِن أَرَادَ فِي الْمجَاز بقوله كلهَا حقائق أَن الِاسْتِعْمَال يجْرِي فِي جَمِيعهَا فَهَذَا مُسلم. وَإِن أَرَادَ بذلك اسْتِوَاء الْكل فِي أصل الْوَضع / فَهَذِهِ مراغمة الْحَقَائِق. فَإنَّا [12 / ب] نعلم أَن الْعَرَب مَا وضعت اسْم الْحمار للأبله البليد. وَلَو قيل: البليد حمَار على الْحَقِيقَة كالدابة الْمَعْهُودَة وَإِن تنَاول الِاسْم لَهما متساو فِي الْوَضع فَهَذَا دنو من جحد الضَّرُورَة. وَكَذَلِكَ من زعم أَن الْجِدَار لَهُ إِرَادَة حَقِيقَة تمسكا بقوله تَعَالَى: {يُرِيد أَن ينْقض} عد ذَلِك من مستشنع الْكَلَام.

(1/193)