التلخيص في أصول الفقه (40) القَوْل فِي منع الْقيَاس فِي
الْأَسْمَاء اللُّغَوِيَّة
[124] مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين من الْفُقَهَاء
والمتكلمين أَن الْأَسْمَاء فِي اللُّغَات لَا تثبت قِيَاسا
وَلَا مجَال للأقيسة فِي إِثْبَاتهَا. وَإِنَّمَا تثبت
اللُّغَات نقلا وتوقيفا.
وَذهب بعض الْفُقَهَاء والمنتمين إِلَى الْكَلَام إِلَى أَن
الْأَسْمَاء قد تثبت قِيَاسا وَهَذَا كَمَا أَنهم [لم ينصوا]
فِي اللُّغَة على تَسْمِيَة النَّبِيذ خمرًا والنباش سَارِقا
وَآتى الْبَهِيمَة زَانيا وَالشَّرِيك الخليط جارا فَمن
الْعلمَاء من يثبت اسْم الْخمر فِي النَّبِيذ. وَزعم أَنهم
إِنَّمَا سموا الْخمر بِهَذَا الِاسْم لِأَنَّهَا تخامر
(1/194)
الْعقل أَو تخمره كَمَا تخمر الْأَوَانِي.
وَهَذَا الْمَعْنى مُتَحَقق فِي النَّبِيذ وطردوا مثل ذَلِك
فِي أمثالهم. وَالصَّحِيح منع الْقيَاس فِي اللُّغَات جملَة.
وَوُجُوب اتِّبَاع النَّقْل مَعَ الاجتزاء والاكتفاء بِهِ.
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن نقُول: إِذا سمت الْعَرَب الشَّرَاب
الْمُسكر العنبي الني خمرًا. وَلم يرد ذَلِك نصا فِي النَّبِيذ
فَلَا يَخْلُو الْحَال فِي ذَلِك من أَقسَام إِمَّا أَن يَصح
من أهل اللُّغَة وضعا إِن خصصنا هَذَا الِاسْم بِهَذَا
الْمُسَمّى نصا. وَإِن كَانَ من التخمير، فَإِن كَانَ كَذَلِك
فَلَا معترض عَلَيْهِ وَلَا يسوغ طرد الْقيَاس فِي مثل هَذِه
الصُّورَة وفَاقا. وَهَذَا كَمَا أَنهم سموا الْفرس الْأسود
أدهم وَثَبت عندنَا أَنهم خصصوه، وَمنعُوا تعديته إِلَى كل
أسود فَلَا جرم أَنا لم نسم الثَّوْب الْأسود أدهم اتبَاعا
لوضعهم وَهَذَا لَو نصوا على التَّخْصِيص. وَإِن هم قَالُوا كل
مَا يخَامر الْعقل خمر، فَمن [سمى] غير هَذَا الشَّرَاب خمرًا
وَهُوَ مخامر فَلَا يكون قِيَاسا، بل هُوَ مُتبع للتوقيف،
وَهَذَا مَا لَا [نزاع] فِيهِ وَإِن صحت التَّسْمِيَة وجوزنا
أَنهم أَرَادوا التَّخْصِيص وَلم يبوحوا بِهِ، وجوزنا أَنهم
أَرَادوا التَّعْدِيَة وَلم يتَبَيَّن لنا نَص نقل مِنْهُم،
فبماذا تصح عندنَا إرادتهم. وَإِذا أثبتنا اسْما فلسنا نبتدئ
بِهِ من تِلْقَاء أَنْفُسنَا إِثْبَات اللُّغَات، وَلَكنَّا
ندعي على أهل اللُّغَات أَنهم أَرَادوا ذَلِك. وَنحن مترددون
فِي إرادتهم مَعَ الِاعْتِرَاف بذلك التَّرَدُّد. وَكَيف ندعي
الْعلم بِأَنَّهُم أَرَادوا تَسْمِيَة النَّبِيذ خمرًا
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَنا وجدنَا
(1/195)
كل مَا يطرد من الْمعَانِي منتقضة، فَإِن
مخامرة الْعقل متحققة فِي البنج. وَسَائِر مَا [يخمر] وَيُورث
الغشية، ثمَّ شَيْء مِنْهَا لَا يُسمى خمرًا.
[125] فَإِن قيل: إِذا استنبطنا فِي الشرعيات قِيَاسا: فلسنا
نقطع بِأَن [13 / أ] صَاحب الشَّرِيعَة نَصه علما وَمَعَ ذَلِك
تطرد الأقيسة فَمَا أنكرتم من مثل ذَلِك / فِي اللُّغَات.
قُلْنَا: اعلموا أَنكُمْ وافقتمونا أَن اللُّغَة لَا تثبت
جَدِيدا فِي يَوْمنَا. وَإِنَّا إِنَّمَا نعلم ثُبُوت المسميات
إِذا علمنَا أَن أهل اللُّغَة أرادوها وخطرت لَهُم ضمنا أَو
تَصْرِيحًا فِي أصل الْوَضع، فَلَا تثبت اللُّغَة إِلَّا
بِهَذِهِ الطَّرِيقَة.
فَإِذا تقرر ذَلِك قُلْنَا: فقد ثَبت التَّرَدُّد فِي فصل
الِاقْتِصَار والتعدية جَمِيعًا فَأنى نتحقق بِأَنَّهُم
أرادوه.
أما الْقيَاس الشَّرْعِيّ فحاشا أَن نقُول نعلم طرده أَن صَاحب
الشَّرِيعَة نَصبه علما. بل نَحن متشككون فِي ذَلِك. وَلَكِن
ثَبت بِدلَالَة قَاطِعَة أَن الرب تَعَالَى أَمر بِالْعَمَلِ
مهما غلب على ظنوننا طرد قِيَاس صَحِيح فنعمل عملا. فَأَما أَن
نعلم أَن هَذَا علم شَرْعِي.
قُلْنَا: لعمرنا هُوَ علم لوُجُوب الْعَمَل علينا. وَلم يثبت
فِي اللُّغَات وجوب عمل عِنْد طرد قِيَاس، فَإِن الْأَعْمَال
لَا مجَال لَهَا فِي اللُّغَات وَقد بَينا أَن أصل اللُّغَة لم
نعلمهُ فَإِذا لم نعلمهُ وَجب التَّوَقُّف فِيهِ.
وَهَذَا وَاضح لَا شكّ فِيهِ.
(1/196)
ثمَّ معنى المخامرة مَوْجُود فِي كثير من الْأَدْوِيَة.
فَإِن قيل: يعْتَبر بالسكر وَالِاضْطِرَاب مَعَ المخامرة.
قُلْنَا: فَلَيْسَ فِي اسْم الْخمر اقْتِضَاء الِاضْطِرَاب.
وَإِنَّمَا فِيهِ المخامرة فَحسب، فبمَا حسبتم الْقيَاس فِي
اللُّغَات. |