التلخيص في أصول الفقه (41) القَوْل فِي الْأَسْمَاء
الْعُرْفِيَّة وَمَعْنَاهَا)
[126] فَإِن قيل / فَمَا معنى الِاسْم الْعرفِيّ فِي تجَاوز
أهل اللُّغَات؟
قيل: يَنْقَسِم ذَلِك إِلَى مَعْنيين:
أَحدهمَا أَن الِاسْم فِي أصل وضع اللُّغَة إِذا انقسم بَين
معَان فغلب الِاسْتِعْمَال فِي وَضعه عرفا فِي أحد مَعَانِيه
حَتَّى لَا يفهم مِنْهُ عِنْد إِطْلَاقه إِلَّا بعض مَا وضع
لَهُ. فيسمى عِنْد اخْتِصَاصه بِبَعْض مَا وضع لَهُ عِنْد
غَلَبَة الِاسْتِعْمَال فِي الْعرف عرفيا. وَذَلِكَ نَحْو
قَوْلهم دَابَّة.
فَإِن هَذِه الْكَلِمَة مَوْضُوعَة فِي أصل اللُّغَة لكل مَا
دب ودرج. ثمَّ غلب استعمالهم لَهَا فِي الْبَهَائِم ذَوَات
الْأَرْبَع القوائم. وَكَذَلِكَ الْفَقِيه فِي أصل اللُّغَة
وضعا هُوَ الْعَالم و ... غلب اسْتِعْمَاله فِي ضرب من
الْعُلُوم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه. فَهَذَا ضرب
أَسد فِي السَّبع الْمَشْهُور وَفِي البطل.
(1/197)
الثَّانِي: المتلحق ببابها لَفْظَة تجوز
بهَا عَن أصل الْوَضع على مَنْهَج استعمالهم ...
غلب اسْتِعْمَاله عرفا على إِرَادَة معنى غير مَا وضع أصل
اللَّفْظ لَهُ أصلا فيفهم مِنْهَا الْقَصْد بِهِ لغَلَبَة
الْعرف كَمَا يفهم من الْحَقَائِق مَعَانِيهَا وَذَلِكَ نَحْو
قَوْله: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} ، وَقَوله: {أحل لكم
صيد الْبَحْر} ، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: ((حرمت الْخمر
لعينها)) فَهَذِهِ أَلْفَاظ وَردت فِي معرض الْمجَاز. وَوجه
التَّجَوُّز فِيهَا أَن ظَاهر قَوْله: {حرمت عَلَيْكُم
أُمَّهَاتكُم} ، يَقْتَضِي تَحْرِيم أعيانهن وَظَاهر قَوْله:
{أحل لكم صيد الْبَحْر} يُنبئ عَن تَحْلِيل أَعْيَان الصيود.
وَقد أطبق أَرْبَاب الشَّرَائِع على اسْتِحَالَة نعت [13 / ب]
الْأَعْيَان المنعوتة فِي سِيَاق هَذَا الْبَيَان
بِالتَّحْرِيمِ إِذْ التَّحْرِيم إِنَّمَا يتَعَلَّق بِمَا /
ينْدَرج تَحت التَّكْلِيف. وَإِنَّمَا المندرج تَحت قضيتها
أَفعَال الْمُكَلّفين دون الْأَجْسَام الْخَارِجَة عَن قبيل
مقدورات الْخَلَائق، والمقصد من ذَلِك أَن الْمَعْنى لتَحْرِيم
الْأُم تَحْرِيم فعل فِي الْأُم إِذْ تَحْرِيمهَا فِي عينهَا
غير مُتَحَقق فتجوزوا فِي الْإِطْلَاق. وسوغوا الإنباء عَن فعل
مُتَعَلق بالأعيان بِعِبَارَة عَن الْأَعْيَان. فَهَذَا وَجه
التَّجَوُّز فَلَمَّا غلب الِاسْتِعْمَال فِي هَذِه
الْأَلْفَاظ وأمثالها. وَإِن كَانَت
(1/198)
لَو ردَّتْ إِلَى أصل الْوَضع لم تصادف على
مُقْتَضى الأَصْل وَلَكِن لما غلب اسْتِعْمَالهَا فِي مقصد
معنى تنزل فِي إثارته منزلَة الْحَقَائِق.
[127] فَإِن قيل: قد عَرَفْتُمْ الْأَسْمَاء الْعُرْفِيَّة فِي
شَيْئَيْنِ أَحدهمَا تَخْصِيص اللَّفْظ اسْتِعْمَالا بِبَعْض
مُقْتَضَاهُ وضعا. وَالثَّانِي غَلَبَة الِاسْتِعْمَال فِي
التجوزات فَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟
قُلْنَا: الدَّلِيل على أَن الِاسْم الْعرفِيّ لَا يَخْلُو
إِمَّا أَن يكون يُرَاد بوصفه أَنه عرفي أَنه ابتدئ وَضعه فِي
الأَصْل لما جرى عَلَيْهِ. وَذَلِكَ محَال لِاتِّفَاق الكافة
على اخْتِصَاص الْأَسَامِي الْعُرْفِيَّة [بِبَعْض]
الْأَسَامِي فَلَو صرفت إِلَى أصل الْوَضع لزم تَسْمِيَة جملَة
اللُّغَات عرفية وَهَذَا مَا لم يصر إِلَيْهِ صائر من الخائضين
فِي معنى الِاسْم الْعرفِيّ.
وَكَذَلِكَ لَا يسوغ أَن يُقَال: إِنَّهَا متجردة ابتدئ
وَضعهَا بعد اسْتِقْرَار اللُّغَات، فَإِن هَذَا سَبِيل كل
لُغَة سبقتها أُخْرَى. فَلَزِمَ من ذَلِك أَن نقُول: إِذا سبقت
لُغَة الْعَرَب لُغَة ثمَّ تَجَدَّدَتْ لُغَة الْعَرَب
اصْطِلَاحا أَو توقيفا أَن تكون متصفة لتجددها بِكَوْنِهَا
عرفية. ويستحيل أَن يصرف معنى الْعرفِيّ إِلَى أَنه ابتدأه غير
أهل اللُّغَة من الْعلمَاء وَأهل الصَّنَائِع والمهن والحرف
تواضعا مِنْهُم فِيمَا بَينهم على ابْتِغَاء معَان فَإِن ذَلِك
فِي حُقُوقهم لَو قدر مِنْهُم جَوَازه كوضع أهل اللُّغَة، من
حَيْثُ أَنهم لم يسندوا استعمالهم إِلَى وَاضع سبقهمْ بل
ابتدأوه تواضعا من تِلْقَاء أنفسهم. وَلَو سَاغَ وصف مَا هَذَا
سَبيله بالعرفي وَجب وصف على كل لُغَة لم يسبقها تَوْقِيف
بِكَوْنِهِ عرفيا.
[128] فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْعرفِيّ هُوَ
الَّذِي اسْتعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ وَنقل من أصل
مَوْضُوعه؟
(1/199)
قُلْنَا: فَيلْزم من قَول ذَلِك أَن نقُول
لَو سمى مسم منا الْجَارِحَة الْمُسَمَّاة يدا رَأْسا والمسماة
بِالرَّأْسِ يدا ابْتِدَاء كَانَ ذَلِك اسْما عرفيا. وَإِن لم
يُوَافق هَذَا الْمُطلق على إِطْلَاقه إِذْ قد تحقق فِي ذَلِك
النَّقْل والتعدية عَن أصل الْوَضع.
[129] فَإِن قيل: إِنَّمَا يَتَّصِف بالعرفي إِذا غلب فِي عرف
أهل اللِّسَان.
قيل: هَذَا أحد الْقسمَيْنِ الَّذين ذكرناهما فِي معنى
الْأَسْمَاء الْعُرْفِيَّة فَإنَّا قُلْنَا الْمجَاز إِذا غلب
اسْتِعْمَاله الْتحق بمضمون هَذَا الْبَاب فمصيركم إِلَى هَذَا
السُّؤَال اعْتِرَاف مِنْكُم بمرامنا ومضمون كلامنا.
[130] فَخرج من جملَة مَا قُلْنَاهُ أَن الْعرفِيّ لَا يُنبئ
عَن أصل الْوَضع [14 / أ] وَلَا عَن تَجْدِيد اللُّغَات
وَإِنَّمَا يُنبئ عَمَّا يغلب اسْتِعْمَاله / عرفا من المجازات
أَو يغلب تَخْصِيصه بِبَعْض المقتضيات اسْتِعْمَالا وإرسالا
فَسُمي مَا يلغي تَخْصِيصه بِبَعْض المقتضيات من الْعرف عرفيا
وَسمي الْمجَاز الْغَالِب فِي الْعرف بمجاوزته ضروب المجازات
غير الْغَالِبَة عرفيا.
(42) فصل
[131] وَقد ألحق الْمُحَقِّقُونَ بِهَذَا الْفَصْل ضروبا من
الْأَلْفَاظ الشَّرْعِيَّة زاغ فِيهَا بعض نابتة الْفُقَهَاء
وجروا فِيهَا على خلاف الْحَقَائِق. وَهَذِه الْأَلْفَاظ
المتضمنة لنفي مُضَاف إِلَى الْأَعْيَان، والمقصد مِنْهُ نفي
حكم فِيهَا لَا نفي ذواتها
(1/200)
نَحْو قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((رفع
عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان)) وَقَوله: ((لَا صَلَاة
لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد)) ، ((وَلَا نِكَاح
إِلَّا بولِي)) .
(1/201)
وَقَوله: الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ
وَقَوله: لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل إِلَى
غير ذَلِك مِمَّا يضاهيها.
(1/202)
[132] فَذهب شرذمة من الْفُقَهَاء إِلَى
الحاق هَذَا الْقَبِيل بالمجملات الَّتِي لَا تستقل بأنفسها
فِي إثارة الْمعَانِي وتلقوا هَذَا الْإِجْمَال من إِضَافَة
النَّفْي إِلَى الْأَعْيَان مَعَ تَحْقِيق ثُبُوتهَا.
والمصير إِلَى الْإِجْمَال على هَذَا الْمنْهَج سجية
الْجُهَّال بحقائق الْجِدَال.
(1/203)
وَذهب الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء إِلَى
إِلْحَاق هَذَا الْقَبِيل بالمستقلات من الْكَلَام وَحَمَلُوهُ
على نفي الْأَحْكَام وَنَفَوْا عَنهُ سمة الْإِبْهَام وأدانوا
الْمصير إِلَى توقع نفي الْأَعْيَان من فحوى الْخطاب
وَالْبَيَان.
ثمَّ افترق هَؤُلَاءِ فرقا فَمن صائرين إِلَى أَن النَّفْي
إِذا أضيف إِلَى الْأَعْيَان اقتضي بِظَاهِرِهِ انْتِفَاء
الْأَعْيَان وَالْأَحْكَام جَمِيعًا، ثمَّ إِذا قَامَت دلالات
الْمَعْقُول على ثُبُوت الْأَعْيَان الَّتِي انطوى عَلَيْهَا
الْخطاب خصصت الْأَعْيَان من مُقْتَضى الْخطاب، وَبقيت
الْأَحْكَام على مُوجبهَا وَينزل ذَلِك منزلَة تَخْصِيص
اللَّفْظ الشَّامِل للعام.
وَمِنْهُم من ذهب إِلَى أَن نفي الْأَعْيَان لَا يقدر دُخُوله
تَحت الْخطاب لتلجيء الْحَاجة إِلَى تخصيصها. وَمَا انطوى
مَضْمُون اللُّغَة إِلَّا على الْأَحْكَام فتضمن اللَّفْظ
نَفيهَا عُمُوما فَإِن قَامَت دلَالَة فِي قَوْله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي
الْمَسْجِد)) دَالَّة على أَجزَاء الصَّلَاة فَمن اقْتِضَاء
النَّفْي فِي إِطْلَاقه نفي الْجَوَاز والكمال. فَإِذا قَامَت
الدّلَالَة على الْجَوَاز نفي الْكَمَال تَحت قَضِيَّة
النَّفْي الْمَنْقُول وَالَّذِي نرتضيه بطلَان هَذِه الْمذَاهب
كلهَا. فَالْأولى أَن نوضح بُطْلَانهَا ثمَّ نذْكر السديد من
الْمذَاهب عندنَا.
[133] فَأَما وَجه الرَّد عَن من يزْعم أَن الْخطاب يلْتَحق
بالمجملات
(1/204)
لإضافة النَّفْي إِلَى الْأَعْيَان مَعَ
ثُبُوتهَا فَيُقَال لهَؤُلَاء هَل تنكرون فِي إطلاقات الْعَرَب
وتفاهمها وتجاوزها إِطْلَاق الشَّيْء نفيا وإثباتا وَالْمرَاد
نفي وصف مِنْهُ أَو إِثْبَات وصف لَهُ. فَإِن جَحَدُوا ذَلِك
انتسبوا إِلَى إِنْكَار مَا عَلَيْهِ أَرْبَاب اللِّسَان قبل
انبعاث الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَبعده فَإنَّا
نعلم فِي الْجَاهِلِيَّة الجهلاء قبل انبعاث خَاتم
الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِ السَّلَام. وَكَانُوا يتفاوضون بِرَفْع
الزلل وَالْخَطَأ أَن يَقُول الْمَرْء لمن دونه: رفعت / عَنْك
زلتك وخطأك، وَلَا يعنون بذلك رفع [14 / ب] الْأَعْيَان.
وَإِنَّمَا مرامهم نفي الْمُؤَاخَذَة بالْخَطَأ. وَمن
الْمَشْهُور السائر فِي كَلَامهم قَوْلهم للَّذي عمل من غير
نِيَّة وطوية فِي ارتياد طَاعَة، وَلَكِن بدر مِنْهُ الْعَمَل
وفَاقا: مَا عملت شَيْئا، وَلَا يعنون بذلك نفي صُورَة
الْعَمَل وَإِنَّمَا يعنون بذلك نفي الْمَقْصُود والنيات،
كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ((لَا عمل إِلَّا بنية))
إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول اقتصاصه وتتبعه، فتقرر بِمَا
قُلْنَاهُ أَن نفي الصِّفَات تعقل من النَّفْي الْمُضَاف إِلَى
الذوات.
فَإِذا تمهد ذَلِك قُلْنَا النَّفْي الْمَنْقُول عَنهُ
عَلَيْهِ السَّلَام مُضَافا إِلَى شَيْء، لَهُ مصرفان لَا
يتوسطهما ثَالِث، أَحدهمَا نفي الْأَعْيَان والذوات.
وَالثَّانِي نفي غَيرهمَا مِمَّا تتصل بهما من الآثام
وَالْأَحْكَام. وَقد يفهم من اللَّفْظ كِلَاهُمَا. ويستحيل حمل
النَّفْي الْمَنْقُول عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام على نفي
الْأَعْيَان مَعَ الْقطع بثبوتها، وَالْعلم باستحالة الْكَذِب
على الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام. فَإِذا علمنَا قطعا
اسْتِحَالَة الْحمل على نفي الْأَعْيَان. تعين الْمصرف
الثَّانِي. ويتضح ذَلِك بِمَا لَا دفع لَهُ. وَهُوَ أَن
الْإِجْمَال إِنَّمَا يتوقى عِنْد توقع الْإِضْمَار. واشتباه
الْحَال
(1/205)
ويستحيل اسناد الْإِبْهَام إِلَى مَا
يستيقن بُطْلَانه. وَقد ثَبت بطلَان الْمصير إِلَى نفي
الْأَعْيَان فَلم يبْق لاسناد الْإِجْمَال إِلَى ذَلِك أصل.
[134] فَإِن قيل: إِذا أضيف النَّفْي وَالْإِثْبَات إِلَى عين
لم يعقل فِيهِ إِلَّا انْتِفَاء الْعين أَو ثُبُوتهَا،
فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم من
أوجه، أقربها أَن قَوْله عز اسْمه: {حرمت عَلَيْكُم
أُمَّهَاتكُم} لَيست من المجملات وفَاقا. وَالتَّحْرِيم مُضَاف
إِلَى أَعْيَان الْأُمَّهَات مَعَ اسْتِحَالَة تعلق أَحْكَام
التَّكْلِيف بِغَيْر أَفعَال الْمُكَلف على مَا سبق إيضاحه.
وَهَذَا مَا لَا مدفع لَهُ.
ثمَّ نقُول قد أوضحنا عَلَيْكُم من تفاوض الْعَرَب إِطْلَاق
الْأَعْيَان فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات. والمقصد بِالنَّفْيِ
أَحْكَامهَا دون ذواتها. ثمَّ نقُول مَا ذكرتموه من أَنه لَا
يفهم من نفي الْعين إِلَّا نفي ذَاته تَصْرِيح مِنْكُم بالتوصل
إِلَى حمل خطاب الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام على الْخلف
الْمَحْض وَهَذَا الْكَلَام خَارج عَن دَعْوَى الِاحْتِمَال،
بل هُوَ إفصاح بِحمْل خطاب صَاحب الشَّرْع على خلاف
الْمَعْقُول فِي الْحَال.
[135] فَإِن قيل: إِذا نقل لفظ مَا هَذَا وَصفه استربنا فِي
ناقليه وبرأنا عَنهُ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
قيل: فقد ورطكم أصلكم فِي أقبح المطاعن فِي الْأَخْبَار
وَحملهَا على الْمحَال. ثمَّ انعطفتم بِفساد أصلكم على الطعْن
فِي الروَاة والثقات ثمَّ الْكَلَام
(1/206)
عَلَيْكُم فِي ذَلِك أَن الْحمل على
الْمُجْمل الَّذِي ذكرتموه محَال قطعا. وبدور الْمحَال من
الرَّسُول محَال سمعا وعقلا. وَلَا تستريبوا فِيمَا هَذَا
سَبيله بل اقْطَعُوا بكذب النقلَة حَتَّى تصرحوا بِأَن قَوْله
" لَا عمل إِلَّا بنية " خلف على الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] قطعا.
وَهَذَا مَا لم يصر إِلَيْهِ صائر. ثمَّ نقُول إِنَّمَا يستتب
لكم هَذَا فِي أَخْبَار الْآحَاد وَنقل الْأَفْرَاد. وَقد ثَبت
فِي ظواهر الْكتاب والمستفيض من الْأَخْبَار / [15 / أ]
إِضَافَة النَّفْي وَالْإِثْبَات إِلَى أَعْيَان مَعَ
اسْتِحَالَة حملهَا على التَّخْصِيص بالذوات فِي النَّفْي
وَالْإِثْبَات، وَلَئِن سَاغَ اتهام الثِّقَات فِي الْآحَاد
لَا نحسم هَذَا الْبَاب فِي ظواهر الْكتاب ومستفيض السّنَن
فَهَذَا وَجه الرَّد على هَذِه الطَّائِفَة.
[136] فَأَما وَجه الرَّد على من زعم أَن النَّفْي يعم
الْمَنْفِيّ وَحكمه ثمَّ يخصص ذَوَات الْأَفْعَال بدلالات
الْعُقُول، فَهُوَ أَن نقُول انطواء اللَّفْظ على الْمَعْنيين
المتضادين مُسْتَحِيل وفَاقا. وَالْحمل على نفي الْعين وَنفي
حكمهَا محَال فَإِن نفي الحكم جَوَازًا أَو كَمَا لَا يُنبئ
عَن ثُبُوت الْفِعْل مَعَ انْتِفَاء الحكم، وَنفي الذوات
يُصَرح باستحالة الثُّبُوت. وَالْحمل عَلَيْهِمَا حمل على
المتناقضين، فَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ.
[137] وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة نرد على من يزْعم أَن النَّفْي
يتَضَمَّن نفي الْجَوَاز والكمال فَإِن نفي الْكَمَال يُنبئ
عَن ثُبُوت الْجَوَاز والأجزاء مَعَ انْتِفَاء سمة
الْفَضِيلَة. وَنفي الْجَوَاز يُنَافِي ذَلِك. وَهَذَا كَمَا
أَنا نقُول نفي سمة الْإِبَاحَة تنَاقض وصف الْوُجُوب. وَيبْطل
قَول من قَالَ من نابتة الْفُقَهَاء أَن كل وَاجِب مُبَاح.
(1/207)
وَلَيْسَ كل مُبَاح وَاجِبا فَإِن
الْمُبَاح مَا يُخَيّر الْمُكَلف فِي فعله وَتَركه من غير لوم
وَاسْتِحْقَاق ذمّ فِي وَاحِد مِنْهُمَا. وَهَذِه الصِّيغَة
مَعْدُومَة فِي الْوُجُوب فَكَذَلِك نفي الْكَمَال إِذا قدر
مُجَردا انبأ عَن الْأَجْزَاء، وَنفي الْأَجْزَاء يناقضه،
فالحمل عَلَيْهِمَا مَحل على النقيضين. فقد بطلت الْمذَاهب
الَّتِي قدمناها.
[138] فَإِن قيل: فَمَا الَّذِي ترتضونه؟
قُلْنَا " مَا نرتضيه إِلْحَاق اللَّفْظ بالمحتملات لتردد
النَّفْي بَين الْكَمَال وَالْجَوَاز. واستحالة الْحمل
عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَلَا طَرِيق إِلَّا التَّوْقِيف ليتعين
أحد المحتملين.
[139] فَإِن قيل: فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب الأول فِي ادِّعَاء
الْإِجْمَال.
قُلْنَا: الْفرق بَين المذهبين أَن الَّذين ادعوا الْإِجْمَال
أَولا أسندوه إِلَى توقع نفي الْأَعْيَان، وَهُوَ مُسْتَحِيل.
وَنحن أسندنا ادِّعَاء الْإِبْهَام إِلَى الْأَحْكَام، ثمَّ
هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مَعَ الْمصير إِلَى القَوْل
بِالْعُمُومِ. وَإِن نَحن نَفينَا الْعُمُوم لم نحتج إِلَى
إِيضَاح وَجه الْإِجْمَال على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
(1/208)
(43) القَوْل فِي الرَّد على من زعم أَن
فِي أَلْفَاظ صَاحب الشَّرِيعَة كَلِمَات خَارِجَة عَن
قَضِيَّة اللُّغَة
[140] اعلموا - أحسن الله إرشادكم - أَن الْمُعْتَزلَة
وَطَوَائِف من الْخَوَارِج قسموا الْأَلْفَاظ فِي الشَّرِيعَة
ثَلَاثَة أَقسَام:
أَحدهَا: الْأَسَامِي الدِّينِيَّة.
وَالثَّانِي: الْأَسَامِي الشَّرْعِيَّة.
وَالثَّالِث: الْأَسَامِي اللُّغَوِيَّة.
[141] فَأَما الْأَسَامِي الدِّينِيَّة فَثَلَاثَة:
الْإِيمَان، وَالْكفْر، وَالْفِسْق.
فَأَما الْإِيمَان فقد وضع فِي تواضع اللُّغَة للتصديق
وَاسْتَعْملهُ صَاحب الشَّرِيعَة فِي الطَّاعَات المفترضة قولا
وفعلا وعقدا فَمن أخل بِشَيْء مِنْهَا خرج عَن وصف الْإِيمَان
شرعا. وَإِن كَانَ متصفا / بالتصديق لُغَة وَعرفا وَكَذَلِكَ
[15 / ب]
(1/209)
الْكفْر هُوَ التغطية فِي أصل اللُّغَة.
وَمِنْه يُسمى اللَّيْل كَافِرًا لتغطيته النعم وَكَذَلِكَ
يُسمى الْفَلاح كَافِرًا لتغطيته الْبذر بِبَعْض طَبَقَات
الأَرْض. ثمَّ سموا جَاحد النعم كَافِرًا وتارك الشُّكْر
كَافِرًا لتغطيته النعم فَهَذَا وَجه اسْتِعْمَاله فِي
اللُّغَة. وَيُسمى ترك الْمعرفَة فِي الدّين كفرا. وَالْفِسْق
فِي اللُّغَة هُوَ الْخُرُوج والتنصل عَن الْأَمر. وَمِنْه
قَوْلهم فسقت الرّطبَة إِذا تفقأت عَنْهَا قشرتها. فَهَذِهِ
الْأَسْمَاء الدِّينِيَّة عِنْد الْقَوْم. ومرامهم بذلك
اسْتِعْمَال الْإِيمَان فِي غير مَا اسْتعْمل فِي أصل اللُّغَة
حَقِيقَة ومجاز. وَكَذَلِكَ الْكفْر وَالْفِسْق.
[142] والمعتزلة يفارقون الْخَوَارِج فِي خلة وَاحِدَة. هِيَ
أَنهم قَالُوا مقارف الْكَبِيرَة مَعَ اسْتِصْحَاب الْمعرفَة
والتصديق لَا يَتَّصِف بِالْإِيمَان وَلَا بالْكفْر بل يتسم
بالفسوق.
والخوارج يطلقون القَوْل بِأَن الْخَارِج من الْإِيمَان
كَافِر.
(1/210)
[143] ثمَّ ذهب أَبُو الْهُذيْل إِلَى أَن
اسْم الْإِيمَان يتَنَاوَل فَرَائض الدّين ونوافله وَهُوَ
ثَلَاثَة أَقسَام فقسم مِنْهُ يكفر تَاركه. وَهُوَ الْمعرفَة
والتصديق. وَقسم يفسق تَاركه وَلَا يكفر وَهُوَ مفترضات الدّين
من جملَة الطَّاعَات. وَقسم مِنْهُ لَا يكفر تَاركه وَلَا
يفسق. وَأنكر عَلَيْهِ كَافَّة الْمُعْتَزلَة وَقَالُوا اسْم
الْإِيمَان وَاقع على فَرَائض الدّين دون نوافله. فَهَذِهِ
الْأَسْمَاء الدِّينِيَّة عِنْد الْقَوْم.
[144] فَأَما الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة فَهِيَ عِنْدهم
أَسمَاء لغوية نقلت فِي الشَّرْع عَن أصل وَضعهَا إِلَى
أَحْكَام شَرْعِيَّة نَحْو الصَّلَاة، وَالْحج، وَالزَّكَاة،
وَالصِّيَام وَمَا يضاهيها فزعموا أَن هَذِه الْأَحْكَام لما
حدثت من الشَّرْع نقلت إِلَيْهَا هَذِه الْأَسْمَاء من
اللُّغَة. وَقد تبع هَؤُلَاءِ شرذمة من الْفُقَهَاء الحائدين
عَن التَّحْقِيق، [وَمَا] راموا مرامهم بيد أَنهم زلوا عَن
سَوَاء الطَّرِيق.
(1/211)
[145] وَأما الْأَسْمَاء اللُّغَوِيَّة
فَهِيَ الْجَارِيَة على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي أصل الْوَضع
من غير تَحْرِيف وَنقل وَهِي الْأَغْلَب من أَلْفَاظ صَاحب
الشَّرَائِع.
[146] فَمن أوضح مَا نستدل بِهِ أَن نقُول قد ثبتَتْ اللُّغَات
وضعا واستعمالا. وتقرر اسْتِقْرَار هَذِه الْأَسَامِي الَّتِي
فِيهَا التَّنَازُع على مسمياتها فِي أصل الْوَضع، ثمَّ ادعيتم
معاشر الْمُخَالفين نقلهَا إِلَى قَضِيَّة الدّين أَو إِلَى
عرفية شَرْعِيَّة فَنَقُول لكم لَا تخلون إِمَّا أَن تتوصلوا
إِلَى معرفَة ذَلِك عقلا أَو سمعا. فَإِن أَنْتُم زعمتم
أَنكُمْ توصلتم إِلَى معرفَة ذَلِك عقلا فَلَا تخلون إِمَّا
أَن تسندوا دعواكم إِلَى ادِّعَاء الضَّرُورِيّ فِي مُقْتَضى
الْعُقُول فتخرجون عَن قَضِيَّة النَّقْل. فَأول مَا نلزمكم
فِي مُقَابلَة دعواكم بِمِثْلِهَا. وَإِن أَنْتُم زعمتم
أَنكُمْ تبلغتم بدلالات الْعُقُول إِلَى معرفَة النَّقْل
فَهَذَا محَال. فَإِن أصُول اللُّغَة لَا تضبط عقلا، وَلَا تدل
عَلَيْهَا دلَالَة عقلية فَكيف يدل على النَّقْل مِنْهُمَا.
وَإِن زعمتم أَن التَّوَصُّل إِلَى معرفَة مَا أنكرتموه
بِدلَالَة سمعية ففصلوها لنا نتكلم عَلَيْهَا. فَإِن
الدّلَالَة السمعية خبر أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس وَلَا
إِجْمَاع مَعَ اخْتِلَاف. [16 / أ] وَلَا يثبت نقل / اللُّغَات
بالمقاييس لما بَيناهُ فِي بَابه فَلَا يبْقى بعدهمَا إِلَّا
الْأَخْبَار. ثمَّ هِيَ تَنْقَسِم إِلَى متواتر وَإِلَى مستفيض
وَنقل آحَاد. وَأَنْتُم معاشر الْمُخَالفين لَا تقدرون على نقل
خبر من طَرِيق الْآحَاد عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي
نقل الْأَسَامِي عَن أصل اللُّغَات. فَإِذا تبين عجزكم عَن
إِسْنَاد دعواكم إِلَى طَرِيق من طرق الْأَدِلَّة. وَبَطل
ادِّعَاء الضَّرُورَة لم يبْق لكم مستروح. وَهَذَا مَا لَا
طَرِيق لَهُم إِلَى الْقدح فِيهِ.
(1/212)
[147] فَإِن قيل: فَفِي كتاب الله تَعَالَى
وَسنة نبيه مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام مَا لَا يُوجد فِي
اللُّغَات وضعا واستعمالا. وعدوا من ذَلِك جملا. مِنْهَا
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ}
قَالُوا فالإيمان هُوَ التَّصْدِيق فِي اللُّغَة وَالْمرَاد
بِهِ فِي الْآيَة صَلَاة الَّذين صلوا إِلَى بَيت الْمُقَدّس
ثمَّ نسخ التَّوَجُّه إِلَيْهِ فَهَذَا خَارج من اللُّغَة وضعا
واستعمالا ومنقول إِلَى غَيره. وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : ((الْإِيمَان بضع وَسَبْعُونَ
جُزْءا أَعْلَاهَا شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله
وَأَدْنَاهَا إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق)) قَالُوا فَسمى
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] طاعات الشَّرَائِع
إِيمَانًا واستشهدوا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَام وَالزَّكَاة
وَالْحج فِي قبيل الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة. وَزَعَمُوا
أَنَّهَا لم تعهد فِي أصل اللُّغَات مستعملة فِي مواقعها
الشَّرْعِيَّة.
فَيُقَال لَهُم: أما قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله
لِيُضيع إيمَانكُمْ} فَمَعْنَاه وَمَا كَانَ الله لِيُضيع
تصديقكم بالصلوات إِلَى الْقبْلَتَيْنِ فَهُوَ إِذا مَحْمُول
على حَقِيقَة اللُّغَة. وَأما تمسكهم بالْخبر فَهُوَ من
الْآحَاد. وَالَّذِي نَحن فِيهِ لَا يثبت إِلَّا
(1/213)
بمقطوع بِهِ فَإِن الْمصير إِلَى نفي سمة
الْإِيمَان وَإِثْبَات سمة الْكفْر مِمَّا يجل خطره فِي الدّين
فَلَا يتشبث فِيهِ بأخبار الْآحَاد ثمَّ لَو قبلناه
فَالْمَعْنى بِهِ أَن الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة دَلَائِل
الْإِيمَان وأماراته لَا أَنَّهَا نفس الْإِيمَان. وأمثال
ذَلِك لَا تستبدع فِي اسْتِعْمَال اللُّغَات فَإنَّك تَقول لمن
تُرِيدُ تَحْقِيق تَصْدِيقه وَقد [بَدَت مِنْهُ] أَعمال
دَالَّة على تَصْدِيقه إياك، فَتطلق القَوْل على آحَاد أَعماله
فَإِنَّهُ تَصْدِيق مِنْهُ وَإِن لم تكن نفس التَّصْدِيق بل
كَانَت دلالات عَلَيْهِ. وَقد تسمى الْعَرَب الشَّيْء لكَونه
مِنْهُ أَو لكَونه بِسَبَب مِنْهُ وَهَذَا [كَمَا] أَنَّهَا
تسمى الْبَدَائِع من صنع الله قدرَة الله. وتعنى بذلك أَنَّهَا
مقدوراته، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه، فَأَما تعلقهم
فِيهِ بالأسامي الشَّرْعِيَّة وادعاؤهم نقلهَا فَهَذَا بَاطِل،
فَأَما الْحَج فَهُوَ الْقَصْد فِي أصل اللُّغَة. وَقد
اسْتشْهدُوا عَلَيْهِ بنظم الْعَرَب ونثرها وَالْحج
الشَّرْعِيّ هُوَ قصد بَيت الله الْحَرَام. وَالصَّلَاة فِي
أصل اللُّغَة هِيَ الدُّعَاء. وَالْعِبَادَة الشَّرْعِيَّة
[الْمُسَمَّاة] بِالصَّلَاةِ منطوية على الدُّعَاء، فسميت
الدَّعْوَات صَلَاة جَريا على أصل اللُّغَة. وَالصِّيَام هُوَ
الْإِمْسَاك فيسمى الْإِمْسَاك عَن المفطرات صياما وَالزَّكَاة
هِيَ النَّمَاء فيسمى مَا يُؤَدِّي عَن نَمَاء [16 / ب] المَال
غَالِبا زَكَاة / وَهِي أَيْضا سَبَب فِي تنمية المَال على وعد
صَاحب الشَّرْع فَسمى الْمخْرج لإدائه إِلَى تنمية المَال
نَمَاء وَهُوَ مَوْضُوع للنماء.
[148] فَإِن قيل: الْحَج هُوَ الْقَصْد، وَلَكِنَّكُمْ لَا
تجتزون بِمُجَرَّد الْقَصْد
(1/214)
فِي اسْم الشَّرْع بل تشترطون ضروبا فِي
الْأَعْمَال والأقوال. وَكَذَلِكَ لَا تجتزون بِمُجَرَّد
الدَّعْوَات فِي الصَّلَوَات. وَلَا تكتفون بِمُجَرَّد
الْإِمْسَاك فِي الصّيام فأوضحوا مثل ذَلِك فِي الزَّكَاة.
وَهَذِه عصمتهم. فَإِن تفصيت عَنْهَا تبدد شملهم. وانبت
كَلَامهم فَنَقُول: الْمُسَمّى بِالْحَجِّ هُوَ الْقَصْد عِنْد
وجوب أَسبَاب وشرائط والمسمى بِالصَّلَاةِ هِيَ الدَّعْوَات
عِنْد اتِّصَال أَفعَال وأقوال بهَا. والمسمى بالصيام هُوَ نفس
الْإِمْسَاك عِنْد تقدم النِّيَّة والشرائط. فقد تبين تَقْرِير
الْأَسَامِي على أصل موضوعاتها.
[149] فَإِن قيل: فاللغة [لَا] تَقْتَضِي تَخْصِيص الْحَج
بِقصد مَشْرُوط وَتَخْصِيص الصَّلَاة وَالصِّيَام بِأَسْبَاب
مقترنة بالدعوات والإمساك فَمن هَذَا الْوَجْه خالفتم
اللُّغَة.
قُلْنَا: قد أوضحنا عَلَيْكُم تَقْدِير الْأَسَامِي على مَا
وضعت لَهُ. فَأَما مَا ادعيتموه من أَن اللُّغَة لَا تَقْتَضِي
تخصيصها فَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن.
أَحدهمَا: أَنه لَا يستبدع فِي اسْتِعْمَال اللُّغَة أَن يعمد
إِلَى اسْم مُشْتَرك بَين معَان فَيخْتَص بِبَعْض محتملاته
اسْتِعْمَالا عِنْد غَلَبَة الْعرف وَلَا يُسمى ذَلِك نقلا
وَلَا تبديلا. وَذَلِكَ نَحْو الدَّابَّة وَغَيرهَا مِمَّا
قدمناها فِي بَابهَا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: من الْجَواب أَن نقُول لَو اقْتضى
الشَّرْع نفي اسْم الْحَج وَالصَّلَاة وَالصَّوْم عِنْد عدم
الشَّرَائِط رُبمَا كَانَ يستتب لكم قَوْلكُم. وَلَكِن لَيْسَ
فِي الشَّرْع ذَلِك، بل فِيهِ تَسْمِيَة الْقَصْد حجا عِنْد
وجود الشَّرَائِط من غير منع
(1/215)
من إِطْلَاق اسْم الْحَج على قصد غير
ذَلِك. وَكَذَلِكَ وَردت الشَّرِيعَة بِتَسْمِيَة الدَّعْوَات
الْمَخْصُوصَة بشرائطها صَلَاة، وَلم يرد منع بِتَسْمِيَة
غَيرهَا من الدَّعْوَات صَلَاة كَيفَ وَقد وَردت الشَّرِيعَة
صَرِيحًا بِتَسْمِيَة الدُّعَاء الْمَحْض صَلَاة فَإِنَّهُ
تَعَالَى وَجل قَالَ لرَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] :
{وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} وَقَالَ تَعَالَى: {إِن
الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} وَالْمعْنَى بِصَلَاة
الْمَلَائِكَة دعاؤهم فقد تبين بِمَا نبهناك عَلَيْهِ أَن
شَيْئا من الْأَسَامِي الَّتِي اعتضدوا بهَا غير خَارج من أصل
اللُّغَة. وَطَرِيق اسْتِعْمَالهَا.
(1/216)
(44) القَوْل فِي الرَّد على من زعم أَن
فِي الْقُرْآن مَا لَيْسَ من لُغَة الْعَرَب وكلامها
[150] اعْلَم، وفقك الله أَن مَا صَار إِلَيْهِ
الْمُحَقِّقُونَ من أَرْبَاب الشَّرَائِع أَن الرب تَعَالَى لم
يخاطبنا فِي الشَّرِيعَة بِمَا لَيْسَ من كَلَام الْعَرَب.
وَكَذَلِكَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَلَيْسَ
فِي الْقُرْآن كلمة / خَارِجَة عَن لُغَة الْعَرَب ولسنها. [17
/ أ]
وَزَعَمت طَائِفَة مِمَّن يتعاطى اللُّغَة أَن الْقُرْآن
يشْتَمل على كَلِمَات لَيست من كَلَام الْعَرَب أصلا.
وَإِنَّمَا هِيَ من سَائِر اللُّغَات.
(1/217)
وَالدَّلِيل على الرَّد عَلَيْهِم قَوْله
تَعَالَى: {بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} وَقَوله تَعَالَى:
{وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين} فنعت الْقُرْآن كُله
بِكَوْنِهِ عَرَبيا مُبينًا فتقوم الدّلَالَة بِمُقْتَضى
الْآيَة على الْخُصُوم سِيمَا مَعَ قَوْلهم بِالْعُمُومِ.
ويتأكد الِاسْتِدْلَال على قَول نفاة الْعُمُوم بمضمون
الْآيَة، والمقصد من سياقها، وَذَلِكَ أَن العندة من
الْكَفَرَة زَعَمُوا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] يتلَقَّى الْقُرْآن من سلمَان الْفَارِسِي وَمِنْه
يتلقف قصَص الْأَوَّلين وسير الماضين فاحتج الله عَلَيْهِم فِي
رد مقالتهم وَقَالَ: (لِسَان الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ أعجمي
وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ
(1/218)
مُبين} فَلَو كَانَ من جملَة الْقُرْآن فِي
تضاعيف نظمه كَلِمَات أَعْجَمِيَّة لبطل الِاحْتِجَاج على
الْعَرَب بِمَا ذكره الله عز وَجل ولتشبثت الْعَرَب بِتِلْكَ
الْكَلِمَات وتوصلت بهَا إِلَى ادِّعَاء تلقيها من فَارسي.
ولخصم سيد الْأَوَّلين والآخرين عَلَيْهِ السَّلَام فِي
احتجاجه عَلَيْهِم. فَدلَّ سِيَاق الْآيَة فِي مُقْتَضى
الِاحْتِجَاج مَعَ ظَاهرهَا على مَا ذَكرْنَاهُ. وعَلى هَذَا
الْوَجْه يسْتَدلّ بقوله تَعَالَى: {وَلَو جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا أعجميا لقالوا لَوْلَا فصلت آيَته أعجمي وعربي}
وَالْمعْنَى بِالْآيَةِ أَنا لَو بَعْضنَا الْقُرْآن فَجعلنَا
بعضه أعجميا وَبَعضه عَرَبيا لقالت الْعَرَب أعجمي وعربي.
واستدلت بقصور الْكَلَام فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة حَتَّى
احْتَاجَ إِلَى امداده بلغَة أُخْرَى. وَهَذَا الْمَعْنى بقوله
تَعَالَى: {لَوْلَا فصلت آيَته} بلغَة من غير أَن يشوبها مَا
لَيْسَ مِنْهَا فَدلَّ ذَلِك على تمحض لُغَة الْعَرَب فِي كتاب
الله تَعَالَى.
[151] فَإِن قيل: فِي الْقُرْآن أَلْفَاظ معربة من لُغَة
الْعَجم مِنْهَا الإستبرق. وَهُوَ مُعرب استبره بِلِسَان
الْعَجم. والمشكاة كلمة هندية
(1/219)
والسندس والقسطاس كلمتان روميتان وَقد زعم
أهل اللُّغَة أَن الْأَب لم يُوجد فِي شَيْء من كَلَام
الْعَرَب فَتبين بذلك خُرُوج هَذِه الْأَلْفَاظ عَن أصل
اللُّغَة.
قُلْنَا: لَئِن صَارَت شرذمة إِلَى مَا قلتموه فقد صَار مُعظم
الْمُفَسّرين إِلَى إِلْحَاق ذَلِك باللغات وتفسيرها على
الْمنْهَج الَّذِي فسروا سَائِر الْكَلِمَات، فتتقابل
الْمذَاهب. وَيبقى لنا الِاسْتِدْلَال بِنَصّ الْكتاب ثمَّ
نقُول مَا ذكرتموه من كَون الإستبرق معربا من قَول الْعَجم
استبره بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْعَجم عبرت عَن استبرق
باستبره على الضِّدّ مِمَّا ادعيتموه وَأما الْمشكاة فَهِيَ
لُغَة مَعْرُوفَة [و] وجودهَا فِي لُغَة الْهِنْد لَا ينفيها
عَن لُغَة الْعَرَب. وَقد تتفق اللغتان فِي اسْم وفَاقا.
فَهَذَا مَا لَا استشهاد فِيهِ وَهَذَا وَجه الْكَلَام على
السندس والقسطاس. وَأما الْأَب فقد فسره مُعظم أهل اللُّغَة
بالكلأ واللغات تَنْقَسِم. فَمِنْهَا مَا يظْهر، وَمِنْهَا مَا
ينْدر وَلَا يعثر عَلَيْهِ إِلَّا المتبحر [17 / ب] فِي
اللُّغَة. وَذُهُول / الْبَعْض عَنهُ لَا يَنْفِيه عَن
اللُّغَة.
(1/220)
[152] فَإِن قيل: لَيْسَ فِي لُغَة
الْعَرَب اسْم على وزن استفعل. والاستبرق لَا نَظِير لَهُ فِي
وَضعه ووزنه.
قيل: وَكم من اسْم شَاذ فِي وضع اللُّغَة لَا نَظِير لَهُ.
وَانْتِفَاء نَظِيره لَا يَنْفِيه عَن أصل اللُّغَة. وَذَلِكَ
نَحْو قرعبلانة وذويل وصعفوق وخذعل فَإِن فعلالا إِنَّمَا يكون
فِي المضاعف كالزلزال.
(1/221)
(45) القَوْل فِي تَفْسِير جمل من
الْحُرُوف
[153] اعْلَم، وفقك الله أَن الْحُرُوف تَنْقَسِم إِلَى معَان.
فَتطلق وَالْمرَاد بِهِ طرف الْجِسْم وشفيره كَمَا يُقَال حرف
الْوَادي وحرف الْجَبَل. وَقد يُطلق وَالْمرَاد بِهِ النَّاقة
المهزولة. وَيُطلق وَالْمرَاد بِهِ الْوَاحِد من حُرُوف المعجم
وَيُطلق وَالْمرَاد بِهِ أحد الْحُرُوف الَّتِي هِيَ أصوات
مقطعَة بادرة من مخارج الْعبارَات وَقد يُطلق وَالْمرَاد بِهِ
الْكَلَام التَّام المنتظم، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تمسك بالحرف
الْفُلَانِيّ فِي الْمَسْأَلَة وتعني بِهِ نُكْتَة ارتضيتها.
وَيُطلق وَالْمرَاد بِهِ اللَّفْظ الْمُتَّصِل بالأسماء
وَالْأَفْعَال وجمل الْمقَال لتعتبر مَعَانِيهَا وفوائدها.
وَهَذَا مَقْصُود الْبَاب. وَهُوَ نَحْو من وَأي وَبعد،
وَحَتَّى. وَمَا شاكلها.
(46) القَوْل فِي معنى ((من))
[154] اعْلَم أَن هَذِه الْحُرُوف ترد لثلاث جِهَات. فتجيء
مَجِيء الْخَبَر نَحْو قَوْلك: أعجبني من رَأَيْت وَقد تَجِيء
مَجِيء الشَّرْط وَالْجَزَاء نَحْو قَوْلك: من جَاءَنِي أكرمته
وَمن عَصَانِي عاقبته. وَترد مورد الِاسْتِفْهَام نَحْو قَوْلك
الاستعلام لمن تخاطبه: من عنْدك وَمن كلمك.
(1/222)
[155] ثمَّ اعْلَم أَن هَذِه الْحُرُوف فِي
أصل الْوَضع مُخَصص بالعقلاء. فَإِن اسْتعْمل فِي غَيرهم كَانَ
تجوزا فَإِذا قلت مستفهما: من عنْدك؟ لم يحسن من الْمُخَاطب
أَن يَقُول: ثوب أَو دَابَّة.
(47) القَوْل فِي معنى ((أَي))
[156] هَذَا يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام:
فَيرد مورد الْخَبَر نَحْو قَوْلك لأُكلمَن أَيهمْ قَامَ
تَعْنِي بِهِ من قَامَ. وَيرد مورد الِاسْتِفْهَام نَحْو
قَوْلك: أَي النَّاس رَأَيْت؟ وَيرد فِي معرض الشَّرْط
وَالْجَزَاء نَحْو قَوْلك: أَيهمْ يضربني أضْرب.
(48) القَوْل فِي معنى ((من))
[157] هَذَا الْحَرْف يتنوع بِمَعْنَاهُ فَيرد وَالْمرَاد بِهِ
إِفَادَة ابْتِدَاء الْغَايَة. وَهَذَا أظهر مَعَانِيه.
وَذَلِكَ نَحْو قَوْلك: مشيت من دَاري إِلَى دَارك. فَهُوَ فِي
اقْتِضَاء الْغَايَة نقيضته ((إِلَى)) . فَإِنَّهُ يُنبئ عَن
ابْتِدَاء الْغَايَة و ((إِلَى)) تنبئ عَن انتهاءها. وَقد يرد
وَالْمرَاد بِهِ التَّبْعِيض نَحْو قَوْلك: أخذت من
الدَّرَاهِم. تَعْنِي أخذت بَعْضهَا.
(1/223)
وَقد ترد صلَة زَائِدَة نَحْو قَوْلك: مَا
جَاءَنِي من أحد. يَعْنِي مَا جَاءَنِي أحد.
(49) القَوْل فِي معنى ((مَا))
[158] هَذَا من أَكثر الْحُرُوف انقساما: فَترد على معنى
الْجحْد نَحْو قَوْلك مَا لزيد عِنْدِي حق. وَترد فِي
الْكَلَام للتعجب نَحْو قَوْلك مَا أحسن زيدا، وَترد على معنى
الَّذِي فِي الْخَبَر نَحْو قَوْلك فعلت مَا قلت أَي فعلت [18
/ أ] الَّذِي قلت. وَترد على معنى الِاسْتِفْهَام نَحْو
قَوْلك، مَا فعل / زيد؟ إِلَى غير ذَلِك من انقسامه فِي
الْمعَانِي.
[159] ثمَّ اخْتلف أهل اللُّغَة فَقَالَ بَعضهم: تتخصص ((مَا))
على معنى الْخَبَر بِغَيْر الْعُقَلَاء. وَقَالَ بَعضهم هُوَ
مُسْتَعْمل فِي الْعُقَلَاء وَغير الْعُقَلَاء
(1/224)
و ((من)) متخصص بالعقلاء لَا ينْقل عَنْهُم
إِلَّا توسعا وتجوزا.
(50) القَوْل فِي معنى ((أم))
[160] أصل مَوْضُوع هَذَا الْحَرْف للاستفهام فَإنَّك تَقول
أسكت
(1/225)
فلَان أم نطق. وَقد يقوم فِي معنى
الِاسْتِفْهَام مقَام أَيهمَا. وَذَلِكَ إِذا قلت زيد عنْدك أم
عَمْرو فَمَعْنَاه أَيهمَا عنْدك. وَتقوم مقَام أَو تَقول زيد
عنْدك أم عَمْرو تَعْنِي بذلك أَو عَمْرو.
(51) القَوْل فِي معنى ((إِلَى))
[161] هَذَا الْحَرْف مَوْضُوع لإِفَادَة انْتِهَاء الْغَايَة.
وَهِي نقيضة ((من)) . ثمَّ ظَاهر اللَّفْظ الْبِدَايَة والغاية
بِنَفْي دخل الحدين تَحت الْمَحْدُود بهما. وَإِنَّمَا
يدخلَانِ تَحْتَهُ بِدلَالَة تقوم من غير قَضِيَّة اللَّفْظ.
وَفِي ذَلِك بَاب يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[162] وَأما الْوَاو: فَإِنَّهُ مَوْضُوع للْجمع
(1/226)
والنسق وَتَحْقِيق الِاشْتِرَاك بَين
الْمَذْكُورين نَحْو قَوْلك ضربت زيدا وعمرا.
وَمن زعم من الْفُقَهَاء أَنه يَقْتَضِي التَّرْتِيب فَهُوَ
حيد عَن حَقِيقَة مَعْنَاهُ، وَقد ترد الْوَاو بِمَعْنى أَو
نَحْو قَوْله تَعَالَى:
(1/227)
{فانحكوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى
وَثَلَاث وَربَاع} .
مَعْنَاهُ أَو ثَلَاث.
[163] فالدليل على أَن الْوَاو يَقْتَضِي الْجمع أَنه
يسْتَعْمل من غير تجوز فِي مَا لَا تَرْتِيب فِيهِ أصلا،
وَذَلِكَ نَحْو قَوْلك: اقتتل زيد وَعَمْرو، واختصم بكر
وخَالِد فَلَا تعد [الْوَاو] فِي هَذَا الْموضع مستعملة فِي
غير محلهَا. وَإِن كَانَ الاقتتال لَا يتَوَقَّع ترتيبه بَين
الْمَذْكُورين. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن ((ثمَّ)) لما
كَانَت للتَّرْتِيب بعد اسْتِعْمَاله فِي هَذَا الْموقع فَلَا
تَقول اقتتل زيد ثمَّ عَمْرو.
(52) القَوْل فِي معنى ((الْفَاء))
[164] اعْلَم أَن الْفَاء فِي مَحل النسق والعطف يَقْتَضِي
التَّرْتِيب والتعقيب وَنفي الإبطاء وَهِي تخَالف الْوَاو فِي
اقْتِضَاء التَّرْتِيب وتخالف ثمَّ
(1/228)
فِي اقْتِضَاء التعقيب وَنفي المهلة.
وَكَذَلِكَ أَن ((ثمَّ)) يَقْتَضِي التَّرْتِيب وَلَا
يَقْتَضِي التعقيب. وَلذَلِك دخل الْفَاء فِي الشَّرْط
وَالْجَزَاء لِأَنَّهُ أَدخل مدْخل التَّعْجِيل فَتَقول: لَا
تضربني فأضربك. ويستبعد فِي هَذَا الْمَعْنى لَا تضربني ثمَّ
أضربك.
[165] وَأما ((ثمَّ)) فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّرْتِيب فَإِذا
قلت ضربت زيدا ثمَّ عمرا اقْتضى ذَلِك تخَلّل زمن بَينهمَا.
وَقد ترد مجَازًا بِمَعْنى الْوَاو نَحْو قَوْله عز وَجل:
{ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} .
مَعْنَاهُ وَالله شَهِيد.
(53) القَوْل فِي معنى ((حَتَّى))
[166] اعْلَم أَن هَذَا الْحَرْف قد يرد للغاية نَحْو قَوْلك:
أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا. مَعْنَاهُ انْتَهَيْت إِلَى
رَأسهَا. وَذَلِكَ إِذا كسرت مَا بعد حَتَّى. وَقد يكون
بِمَعْنى الْوَاو نَحْو قَوْلك: كلمت الْقَوْم حَتَّى زيدا.
تُرِيدُ وزيدا كَلمته.
(1/229)
(54) القَوْل فِي معنى ((مَتى)) و
((أَيْن)) و ((حَيْثُ))
[18 / ب] [167] أما مَتى فَإِنَّهُ / ظرف زمَان وَالسُّؤَال
عَنهُ يُنبئ عَن الزَّمَان فَإِذا قلت: مَتى الْحَرْب: قَالَ
مخاطبك: غَدا.
[168] وَأما ((أَيْن) فتنبئ عَن الْمَكَان وَهِي فِي عبارَة
الْقَوْم ظرف مَكَان وجوابها يَقع بِهِ، فَإِذا قلت: أَيْن
زيد؟ قَالَ مخاطبك: فِي الْمَسْجِد أَو الدَّار.
[169] كَذَلِك حَيْثُ ظرف مَكَان.
(55) القَوْل فِي معنى ((إِذا)) و ((إِذْ))
[170] هما ظرفان.
فَإذْ لما مضى، وَإِذا لم يسْتَقْبل فَتَقول: قُمْت إِذْ قَامَ
زيد. وأقوم إِذا قَامَ عَمْرو. فَهَذِهِ جمل فِي الْحُرُوف
كَافِيَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(56) القَوْل فِي أَنه هَل يجوز أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ
الْوَاحِدَة مَعْنيانِ مُخْتَلِفَانِ؟
[171] اعْلَم، وفقك الله أَن الْأَسْمَاء والألفاظ منقسمة.
فَمِنْهَا مَا وضع لإِفَادَة معنى وَاحِد وَلم يسْتَعْمل عرفا
فِي غَيره فَلَا يُفِيد فِي الْإِطْلَاق إِلَّا مُقْتَضَاهُ
وَمِنْهَا: مَا وضع فِي أصل اللُّغَة لمعنيين فَصَاعِدا. ثمَّ
ذَلِك يَنْقَسِم فَمِنْهُ
(1/230)
مَا يُنبئ عَن أَشْيَاء متماثلة وَمِنْه
مَا يُنبئ عَن معَان مُخْتَلفَة فَالَّذِي يُنبئ عَن أَشْيَاء
متماثلة فَهُوَ نَحْو قَوْلك. السوَاد وَالْبَيَاض. فالسواد
يُنبئ عَن آحَاد جنسه وَكَذَلِكَ كل مَا يضاهيه وَأما الَّذِي
يُنبئ عَن معَان مُخْتَلفَة فنحو الْعين والقرن والبيضة
والقرء، فَإِنَّهُ على الْأَصَح مُتَرَدّد بَين الطُّهْر
وَالْحيض. وَمِمَّا يلْتَحق بِهَذَا الْقسم أَن اللَّفْظَة قد
تُوضَع فِي أصل اللُّغَة لِمَعْنى وَاحِد ثمَّ تسْتَعْمل فِي
غير ذَلِك تجوزا، وَذَلِكَ نَحْو اللَّمْس بِالْيَدِ وَغَيرهَا
ثمَّ اسْتعْمل مجَازًا فِي الوطئ. وَكَذَلِكَ النِّكَاح
حَقِيقَة الوطئ فِي أصل اللُّغَة ثمَّ غلب اسْتِعْمَاله فِي
إِرَادَة العقد وَمن الْأَلْفَاظ المنقسمة بَين معَان قَوْلك
أَي شَيْء يحسن زيد. يَنْقَسِم إِلَى الِاسْتِفْهَام وَإِلَى
الازدراء بِمَا يُحسنهُ وَإِلَى التَّعْظِيم لما يُحسنهُ.
[172] ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك كُله أَن كل لَفْظَة تنبئ عَن
مَعْنيين فَإِن كَانَا متناقضين لَا يتَحَقَّق اجْتِمَاعهمَا
فَلَا تجوز إرادتهما باللفظة الْوَاحِدَة وكل مَعْنيين غير
متناقضين تنبئ اللَّفْظَة عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فَتجوز
إرادتهما باللفظة وَإِن أطلقت مرّة وَاحِدَة. ثمَّ كَمَا يجوز
إِرَادَة مَعْنيين بِلَفْظَة وَاحِدَة وضعت لَهما حَقِيقَة
فَكَذَلِك يجوز إِرَادَة مَعْنيين بِلَفْظ هُوَ حَقِيقَة فِي
أَحدهمَا مجَاز فِي الثَّانِي وإيضاح ذَلِك بالأمثلة أَن قَول
الْقَائِل ((افْعَل)) . عِنْد منكري
(1/231)
الصِّيغَة مُتَرَدّد بَين الْإِبَاحَة
والإيجاب وَالنَّدْب والزجر وَغير ذَلِك. فَلَا تصح إِرَادَة
هَذِه الْمعَانِي باللفظة الْوَاحِدَة لتناقضها وَالْعين لما
ترددت بَين معَان مُخْتَلفَة لَا تتناقض فَتَصِح إرادتهما
بِاللَّفْظِ مَعَ إيجازه وَأما تَمْثِيل حمل اللَّفْظ على
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَهُوَ مثل اللَّمْس يجوز حمله على
مُجَرّد الْمَسِيس وعَلى الوطئ مَعًا.
[173] وَفِي هَذَا الْقسم أصل تزل فِيهِ أفهام المستطرفين.
وَنحن [19 / أ] ننبهك عَلَيْهِ، وَهُوَ أَن مُطلق هَذَا
اللَّفْظ لَو خطر لَهُ قصر اللَّفْظ / على الْحَقِيقَة أَو قصر
اللَّفْظ على الْمجَاز لم يتَصَوَّر الْجمع بَين الْمَعْنيين
فَلَا يَتَقَرَّر اسْتِعْمَاله على حَقِيقَة مَعَ الْجمع
بَينهمَا وَبَين وَجه التَّجَوُّز فَإِن الْحَقِيقَة تَقْتَضِي
قصرهَا والتجوز يَقْتَضِي تعديتها عَن أصل وَضعهَا فَافْهَم
ذَلِك.
وَاعْلَم أَن إِرَادَة الْجمع إِنَّمَا تصح مِمَّن لم يخْطر
لَهُ التَّعَرُّض للْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَلَكِن يقْتَصر على
إِرَادَة الْمَسِيس من غير تعرض لوجه الِاسْتِعْمَال حَقِيقَة
وتجوزا. [174] فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مَذَاهِب المحققة
وجماهير الْفُقَهَاء؟
(1/232)
[175] وَزعم ابْن الجبائي من الْمُعْتَزلَة
وشرذمة من أَصْحَاب أبي حنيفَة أَنه لَا يجوز إِرَادَة
مَعْنيين بِلَفْظَة وَاحِدَة تطلق مرّة وَاحِدَة، سَوَاء
كَانَت حَقِيقَة فيهمَا أَو مجَازًا أَو حَقِيقَة فِي أَحدهمَا
مجَازًا فِي الثَّانِي.
(1/233)
[176] وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك
عَلَيْهِم أَن نقُول أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا
يَسْتَحِيل من مُطلق اللَّفْظ الْمُشْتَرك إِرَادَة
الْمَعْنيين مَعًا، وَإِمَّا أَن تَقولُوا لَا يَسْتَحِيل
مِنْهُ إرادتهما وَلَكِن لَا يفهم من مُطلق اللَّفْظ جمع
الْمَعْنيين من غير قرينَة. فَإِن قُلْتُمْ يَسْتَحِيل
إِرَادَة الْمَعْنيين جَمِيعًا فَهَذَا قرب مِنْكُم من جحد
الضَّرُورَة والمعهود فِي الْمَعْقُول. فَإنَّا نعلم قطعا
جَوَاز إِرَادَة الْمُخْتَلِفين غير المتناقضين مَعًا. وجاحد
ذَلِك مفصح بالعناد. وَإِن أَنْتُم زعمتم أَن ذَلِك لَا
يَسْتَحِيل وَلَكِن لَا يفهم من مُطلق اللَّفْظ فَهَذَا مَا
نقُول بِهِ. فَإنَّا نقُول إِذا احْتمل إِرَادَة الْمَعْنيين
وَاحْتمل تَخْصِيص اللَّفْظ بِأَحَدِهِمَا فَيتَوَقَّف فِي
معنى اللَّفْظ على قرينَة تدل على الْجمع أَو التَّخْصِيص.
وَكَيف لَا نقُول ذَلِك وَنحن على نصْرَة نفي صِيغَة
الْعُمُوم.
[177] فَإِن قيل: إِذا جوزتم إِرَادَة الْمَعْنيين أفتتعلق
بهما إِرَادَة وَاحِدَة أم إرادتان؟ قُلْنَا: الْأَصَح عندنَا
أَن الْإِرَادَة الْحَادِثَة لَا تتَعَلَّق إِلَّا بِمُرَاد
وَاحِد
(1/234)
فَلَا تتَحَقَّق إِرَادَة المرادين إِلَّا
بإرادتين وَهَذَا لَو أطنبنا فِيهِ لتَعلق الْكَلَام بالديانات
فِي حقائق صِفَات المتعلقات.
(57) القَوْل فِي بَيَان الطّرق إِلَى معرفَة مُرَاد الله
تَعَالَى وَمُرَاد رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
بِالْخِطَابِ
[178] فَأَما خطاب الله عز وَجل فَاعْلَم أَنه يتَّصل بذوي
الْأَلْبَاب على وَجْهَيْن من غير وَاسِطَة وَلَا تخَلّل مؤد
وَرَسُول مبلغ. وَذَلِكَ تكليم الله عز وَجل من حمله وحيه من
مَلَائكَته. وَهُوَ نَحْو تكليم الله مُوسَى وَنَبِينَا صلوَات
الله عَلَيْهِمَا. فَإِن كَانَت المخاطبة على هَذَا الْوَجْه
فَلَا طَرِيق إِلَى مَعْرفَتهَا والإحاطة بعلمها إِلَّا
الِاضْطِرَار. فَإِذا كلم الله عبدا من عباده يضطره إِلَى
الْعلم بِأَن مخاطبه رب الْعَالمين ويبدع لَهُ الْعلم
الضَّرُورِيّ بِأَن مَا سَمعه كَلَام الله تَعَالَى.
وَالدَّلِيل على تَحْقِيق مَا قُلْنَاهُ أَن كَلَام الرب
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُخَالف الْأَجْنَاس فَلَا يتبلغ
بِمَعْرِِفَة ضروب الْكَلَام إِلَى معرفَة كَلَامه وَلَا
يتَوَصَّل باللغات / والمواضعات على الإطلاقات والعبارات إِلَى
الْعلم بِكَلَامِهِ سُبْحَانَهُ [19 / ب] وَتَعَالَى.
فَإِنَّهُ يُخَالف الْعبارَات، وَجُمْلَة ضروب الْكَلَام
واللغات، وَلَا تدل على كَلَامه دلَالَة عقلية، نَحْو دلَالَة
الْحُدُوث على الْمُحدث والاتقان على الْعلم والتخصيص على
المريد فَلَا تبقي طَريقَة فِي مدرك الْعلم بِكَلَامِهِ سوى
الِاضْطِرَار.
(1/235)
[179] فَإِن قيل: فَلَو قرن خطابه مَعَ
انْتِفَاء الوسائط بِالْآيَاتِ الظَّاهِرَة والمعجزات الباهرة
أفتدل؟
قيل: مَا نرى أَنَّهَا تدل، فَإِنَّهُ لَا تعلق لمبدعات الرب
تَعَالَى وصنائعه بِكَوْن المسموع كَلَامه. وَإِنَّمَا تدل
المعجزات على صدق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لاقتران
التحدي مَعَ عجز الَّذين تعلق بهم التحدي عَن الْمُقَابلَة
والمعارضة. فَلَو خضنا فِي وَجه دلَالَة المعجزة على الصدْق
لخرج عَن الْمَقْصُود. وَهُوَ مِمَّا يتَعَلَّق بالديانات.
[180] وَقد ذهب القلانسي وَعبد الله بن سعيد وَغَيرهمَا من
سلفنا أَن نفس سَماع كَلَام الله تَعَالَى يعقب الْعلم بِهِ
لَا محَالة.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا مِمَّا لَا أرتضيه
وأجوز سَماع كَلَام الله تَعَالَى مَعَ الذهول عَن كَونه
كلَاما لله تَعَالَى، فَلَا طَرِيق مَعَ تَقْدِير انْتِفَاء
(1/236)
الوسائط يُوصل إِلَى الْعلم إِلَّا
الِاضْطِرَار، فَلَو خَاطب الرب تَعَالَى عَبده من غير توَسط
مبلغ وَرَسُول.
[181] فَأَما الْوَجْه الثَّانِي من الْخطاب فَهُوَ الَّذِي
يتَّصل بالمخاطبين من جِهَة الرُّسُل المبلغين، فَمَا هَذَا
سَبيله تترتب مَعْرفَته على الْعلم بِصدق الْمُرْسل أَولا
وَوُجُوب عصمته عَن الْخلف فِي التَّبْلِيغ. وَإِنَّمَا
يتَبَيَّن ذَلِك بالمعجزات فَإِذا استيقن الْمُكَلف صدق
[الْمبلغ] فِيمَا بلغه.
[182] ثمَّ صِيغ الْكَلَام تَنْقَسِم إِلَى نُصُوص ومحتملات.
فَأَما النُّصُوص على مَذْهَبنَا لم يُتَابع عَلَيْهِ ...
فتستقل بأنفسها فِي إثارة الْمعَانِي ... أَمر لذاته ... فِي
دَرك المُرَاد مِنْهَا حَتَّى تقترن بهَا قرينَة من حَال أَو
مقَال تَقْتَضِي تَحْقِيق المُرَاد بهَا، على مَا ستأتيك
الْقَرَائِن ومنازلها فِي أَبْوَاب الْعُمُوم وَالْخُصُوص
وأبواب الْأَوَامِر والنواهي. فَهَذَا وَجه انقسام معرفَة خطاب
الله تَعَالَى.
[183] فَأَما معرفَة خطاب رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
فينقسم أَيْضا إِلَى شفَاه ووجاه وَإِلَى مَا يبلغ عَنهُ.
فَأَما مَا خَاطب بِهِ من عاصره وجاها فَمِنْهُ مَا كَانَ نصا
علم المخاطبون مَعْنَاهُ وفحواه قطعا. وَمِنْهَا مَا كَانَ
مُحْتملا فِي نَفسه، ووضح لديهم مَعْنَاهُ بقرائن الْحَال.
وَمِنْه مَا بَقِي على الِاحْتِمَال وَلم [يتَّفق] فِيهِ
استفصال وَهَذَا الْقَبِيل يتَعَلَّق بالوعد والوعيد وأنباء
الْآخِرَة، فَإِنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَا كَانَ
(1/237)
ينْطق بِمَا يُنبئ عَن الشَّرْع إِلَّا
ويوضحه على مَا نقرر التَّحْقِيق فِي ذَلِك فِي أَبْوَاب
الْبَيَان إِن شَاءَ الله عز وَجل.
وَأما مَا يبلغ عَنهُ فينقسم إِلَى تَوَاتر وآحاد واستفاضة.
ثمَّ يَنْقَسِم [20 / أ] الْمَنْقُول / إِلَى نَص ومحتمل
فَهَذَا وَجه الْإِيمَاء إِلَى جمل مدارك خطاب الله وَرَسُوله
وتفصيلها يَأْتِي فِي مُعظم أَبْوَاب الْكتاب.
(1/238)
|