التلخيص في أصول الفقه

بَاب الْكَلَام فِي الْأَوَامِر

(58) القَوْل فِي الْأَمر وَحَقِيقَته

[184] اعْلَم، وفقك الله أَنا نحتاج إِلَى تَقْدِيم أصل قبل الْخَوْض فِي تَحْرِير عبارَة عَن حَقِيقَة الْأَمر. فَاعْلَم أَن الْكَلَام على أصُول الْمُحَقِّقين معنى فِي النَّفس

(1/239)


وَهُوَ مَا تدل الْعبارَات عَلَيْهِ. وَلَا تسمى الْعبارَات كلَاما إِلَّا تجوزا

(1/240)


وتوسعا فالعبارة إِذا دلَالَة على الْكَلَام، وَلَيْسَت بِعَين الْكَلَام وَهِي نازلة

(1/241)


منزلَة الرموز والإشارات المعقبة أفهام المخاطبين وَكَذَلِكَ طرق المكاتبات وَغَيرهَا من ضروب الأمارات المنصوبة لإفهام الْكَلَام الْقَائِم بِالنَّفسِ. وَإِنَّمَا يستقصي ذَلِك فِي أصُول الديانَات إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَإِذا أحطت علما بِهِ فَاعْلَم أَن الْأَمر من أَقسَام الْكَلَام. وَهُوَ معنى قَائِم بِنَفس الْآمِر غيرالعبارة. فَإِذا أطلق الْأَمر فِي أبوابه فَاعْلَم أننا نعني بِهِ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ دون الْأَصْوَات وضروب الْعبارَات.
[185] فَإِن قيل: فَمَا حَقِيقَة الْأَمر إِذا؟
قيل: هُوَ القَوْل المتضمن اقْتِضَاء الطَّاعَة من الْمَأْمُور لفعل الْمَأْمُور بِهِ فيندرج تَحت ذَلِك الْإِيجَاب والإلزام وَالْمَنْدُوب والاستحباب. وَيخرج فِيهِ مَا سواهُ وعداه كالإباحة وَالتَّحْرِيم. وَمَا ضاهاهما من أَقسَام الْأَحْكَام المتلقاة من مجاري الْكَلَام.
[186] فَإِن قيل: ظَاهر مَا أطلقتموه يَقْتَضِي تَسْمِيَة النّدب أمرا.
قُلْنَا: هَذَا مَا نقُوله وسنوضحه فِي بَابه إِن شَاءَ الله عز وَجل.

(1/242)


[187] وَقد خرج عَن قَضِيَّة الْحَد المسئلة والاستدعاء وَذَلِكَ نَحْو ... ابتهاله إِلَى ربه فِي دُعَائِهِ. وَقَوله ارْحَمْنِي واغفر لي فَإِن هَذَا وَأَمْثَاله [لَيْسَ بِأَمْر، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤال وَطلب] .
[188] [وعرفه] بعض أَئِمَّتنَا بالتحرز من ذَلِك، فَقَالَ هُوَ القَوْل الْمُقْتَضى للْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ على غير وَجه [الْمَسْأَلَة] وَهُوَ يَنُوب مناب مَا قدمْنَاهُ، مَعَ أَنه أَسد وأوضح، وسندل على كَون النّدب أمرا إِن شَاءَ الله عز وَجل.
[189] وَخرج مِمَّا قدمْنَاهُ أَن الْأَمر إِذا أطلقناه لم نرد بِهِ الصِّيَغ والعبارات. وَإِنَّمَا أردنَا الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ ثمَّ ذكرنَا أَنه يتَرَدَّد أَيْضا بَين الْإِيجَاب وَالنَّدْب.
[190] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي قَول الْقَائِل افْعَل، وعنى السَّائِل بذلك الْعبارَة.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي أَوْمَأت إِلَيْهِ لَيْسَ هُوَ نفس الْأَمر وَلَيْسَ عين الْكَلَام وَإِنَّمَا هُوَ من قبيل الدلالات على الْكَلَام كالإشارة والرموز وَالْكِنَايَة وَنَحْوهَا من الدلالات.

(1/243)


[191] فَإِن قيل: فعلى مَا يدل قَول الْقَائِل: افْعَل؟
قُلْنَا: هَذِه عبارَة مترددة بَين الدّلَالَة على الْإِلْزَام وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة والتهديد وَغَيرهَا من المصارف الَّتِي سنذكرها. فَالْأَمْر الْحَقِيقِيّ إِذا مُتَرَدّد [20 / ب] بَين النّدب والإيجاب. وَهَذِه الْعبارَة الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا السَّائِل تترد فِي / كَونهَا دلَالَة بَين المصارف الَّتِي أومأنا إِلَيْهَا.
[192] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْأَمر فَلم كَانَ الْأَمر أمرا؟
قُلْنَا: كَون الْأَمر أمرا وصف يرجع إِلَى ذَاته. وَهُوَ مَا لَا يُعلل بعلة. وَلَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ مُعَلّق تَخْصِيص وَإِرَادَة. فَإِذا قيل لَك: لماذا كَانَ الْأَمر أمرا؟ فجوابك السديد أَن تَقول: إِنَّمَا كَانَ الْأَمر أمرا لنَفسِهِ وَتَحْقِيق قَول الْقَائِل ثَبت الحكم لنَفس الشَّيْء يرجع إِلَى أَنه ثَبت لَا لعِلَّة، وَلَا تَظنن أَنا نعني بِإِضَافَة الْوَصْف إِلَى النَّفس تَعْلِيله بِهِ. وَالْأَحْكَام منقسمة. فَمِنْهَا: مَا يُعلل. وَمِنْهَا: مَا يَسْتَحِيل تَعْلِيله. وأوصاف الْأَجْنَاس مِمَّا يَسْتَحِيل تعليلها. وَكَون الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ أمرا وصف جنسه وَنَفسه، وَهُوَ نَحْو كَون الْعلم علما، وَالْقُدْرَة قدرَة.
[193] فَإِذا قيل: لم كَانَ الْعلم علما؟ كَانَ المرتضى فِي جوابك أَن

(1/244)


تَقول للسَّائِل إِن رمت بِمَا قلت طلب تَعْلِيل، فالمسؤول عَنهُ مِمَّا لَا يُعلل. وَوجه إيجاز الْجَواب أَن الْعلم علم لنَفسِهِ، ثمَّ يعود الْكَلَام عِنْد الْإِيضَاح إِلَى أَنه علم لَا لعِلَّة.
[194] وَأما الْمُعْتَزلَة فقد أطبقوا على أَن أَقسَام الْكَلَام رَاجِعَة إِلَى الْعبارَات وأنكروا مَا عَداهَا من كَلَام النَّفس الَّذِي نثبته. وصرفوا الْأَمر إِلَى الْعبارَة نَفسهَا ثمَّ الْأَكْثَرُونَ صَارُوا إِلَى أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، لَيْسَ بِأَمْر لنَفسِهِ وجنسه فَإِنَّهُ قد يُوجد والمقصد مِنْهُ الْوَعيد والتهديد. وَقد يبدر جنسه من الهاذي فَلَا يُسمى أمرا مَعَ صُدُور اللَّفْظ مِنْهُ.
قَالُوا: فَإِنَّمَا يصير أمرا بِثَلَاث إرادات، إِحْدَاهَا: تتَعَلَّق بحدوث هَذِه اللفظية. وَالْأُخْرَى: تتَعَلَّق بِكَوْنِهَا أمرا. وَالثَّالِثَة: تتَعَلَّق بالمأمور بِهِ، إِذْ الْأَمر لَا يتَحَقَّق عِنْد الْقَوْم إِلَّا مَعَ كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر.
[195] وأبدع الكعبي مِنْهُم مذهبا لم يُتَابع عَلَيْهِ. . [فَقَالَ] قَول الْقَائِل افْعَل أَمر لنَفسِهِ وجنسه، وَيكون أمرا لذاته. فَإِذا قيل لَهُ: فقد ترد هَذِه الْعبارَة بِعَينهَا وَالْمرَاد بهَا الْإِبَاحَة. فَقَالَ مرتكبا: الْإِبَاحَة أَمر والمباح مَأْمُور بِهِ وسنوضح وَجه الرَّد عَلَيْهِم فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله عز وَجل.

(1/245)


فَقيل لَهُ: فقد يرد وَالْمرَاد بِهِ التهديد نَحْو قَوْله عز اسْمه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} .
فَقَالَ: إِذا ورد لاقْتِضَاء هَذَا المُرَاد فَهُوَ فِي جنسه مُخَالف للَّذي يَقْتَضِيهِ الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة. وَهَذَا الَّذِي ذكره [قَول بَين فِي] جحد الضروريات فَإنَّا نعلم أَن هَذِه الْأَصْوَات مجانسة للَّتِي ترد مورد الْأَمر، والصائر إِلَى أَنَّهَا تخالفها فِي الْجِنْس منتسب إِلَى الْمصير إِلَى اخْتِلَاف المتجانسات المتماثلات.
[196] وَقد زعم كثير من الْفُقَهَاء الَّذين لم يحظوا بِحَقِيقَة الْأُصُول أَن الْأَمر يرجع إِلَى هَذِه الْأَصْوَات المتقطعة والحروف المنتظمة. ثمَّ زَعَمُوا أَن قَول افْعَل يكون أمرا إِذا تجرد عَن الْقَرَائِن الصارفة لَهُ عَن اقْتِضَاء الْوُجُوب [21 / أ] فَإِذا سئلوا وَقيل لَهُم لم كَانَ / الْأَمر أمرا؟
قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ أمرا بصيغته وتجرده عَن الْقَرَائِن.
[197] وَالدَّلِيل على تَحْقِيق الرَّد على هَؤُلَاءِ أَن نقُول: أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا: إِن الصِّيغَة الَّتِي ذكرتموها أَمر لنَفسهَا، أَو تَقولُوا: إِنَّمَا تصير أمرا لتجردها عَن الْقَرَائِن أَو تَقولُوا تصير أمرا لنَفسهَا ولتجردها عَن الْقَرَائِن.

(1/246)


وَالْأولَى لَك بعد مَا قدمت هَذِه الْأَقْسَام أَن تعقبه بتقسيم يجمع الْمَقَاصِد. فَتَقول هَذَا الْوَصْف الَّذِي ثبتموه لهَذِهِ الصِّيغَة فَلَا يَخْلُو من أحد أَمريْن أما أَن يرجع إِلَيْهَا رُجُوع الْأَوْصَاف إِلَى الذوات والأجناس حَقِيقَة. وَإِمَّا أَن تزعموا أَنه ينْصَرف إِلَيْهَا تواضعا وَاصْطِلَاحا، فَإِن زعمتم أَن الْوَصْف الَّذِي فِيهِ الْكَلَام يثبت بِهَذِهِ الصِّيغَة من غير تواضع واصطلاح فيلزمكم عَلَيْهِ مَا لَا قبل لكم بِهِ، مِنْهَا: أَن هَذِه اللَّفْظَة تبدر من النَّائِم والمغشى عَلَيْهِ وَلَا تسمى أمرا فَلَو كَانَت أمرا لنَفسهَا وجنسها وَجب تَحْقِيق هَذَا الْوَصْف كلما تحقق نَفسه اللَّفْظ.
[198] فَإِن قيل: إِنَّمَا اتصفت هَذِه الصِّيغَة بِكَوْنِهَا أمرا عِنْد تجردها عَن الْقَرَائِن، وَمن الْقَرَائِن الَّتِي يشْتَرط تجرد الصِّيغَة عَنْهَا الْمعَانِي المضادة لكَمَال الْعقل.
قيل: فَمَا قدمْنَاهُ من التَّقْسِيم فِي صدر الْكتاب يعود. فإننا نقُول: إِن كَانَت الصِّيغَة أمرا لنَفسهَا لزمكم مَا ألزمناكم. وَإِن كَانَ كَونهَا أمرا مُعَللا بِانْتِفَاء الْقَرَائِن كَانَ ذَلِك مستحيلا فَإِن الانتفاء لَا يَقْتَضِي تثبيت وصف وَإِنَّمَا الْمُقْتَضى للْأَحْكَام ثُبُوت الْعِلَل والذوات. فَإِن أَنْتُم زعمتم أَن الْمُقْتَضى لهَذَا الْوَصْف نفس الصِّيغَة مَعَ انْتِفَاء الْقَرَائِن كَانَ ذَلِك مستحيلا أَيْضا. فَإِن الانتفاء إنباء عَن عدم، ويستحيل تَأْثِير الْعَدَم والانتفاء فِي إِيجَاب الْأَحْكَام لَا على سَبِيل الِاسْتِقْلَال وَلَا على سَبِيل الانضمام إِلَى غَيره، فَإِن مَا لَا يكون كَيفَ يتَصَرَّف بالتأثير اسْتِقْلَالا أَو انضماما. ولعلنا نوضح القَوْل فِي ذَلِك فِي بَاب الْعِلَل عَن قَضِيَّة الْمَعْقُول لَهُم الْقَرَائِن الَّتِي شرطتم تجرد الصِّيغَة اللفظية عَنْهَا:

(1/247)


هِيَ الْقَرَائِن الدَّالَّة على خلاف الْإِلْزَام والإيجاب نَحْو مَا يدل على الْإِبَاحَة وَالنَّدْب أَو اقْتِضَاء التهديد. وَقد تحقق انْتِفَاء هَذِه الْقَرَائِن فِي حق الهاذي. فَهَذَا لَو زَعَمُوا أَن هَذِه الصِّيغَة تكون أمرا لَا على جِهَة التَّوَاضُع والاصطلاح.
[199] فَإِن قَالُوا: إِنَّهَا أَمر تواضعا وَلَيْسَ ينْصَرف وصفهَا بِكَوْنِهَا أمرا إِلَى نَفسهَا وجنسها. وَلَكِن اصْطلحَ أَرْبَاب اللُّغَات على تثبيت هَذَا الْوَصْف لَهَا عِنْد تعريها عَن الْمَوَانِع والدوافع. وَجُمْلَة الْقَرَائِن المنافية لاقْتِضَاء الْإِلْزَام وَهَذَا مَا يعول عَلَيْهِ من ينتمي إِلَى التَّحْقِيق من هَذِه الفئة.
فَنَقُول: إِذا زعمتم أَن أهل اللُّغَة اصْطَلحُوا على تَسْمِيَة هَذِه الصِّيغَة أمرا وإلزاما وإيجابا عِنْد فقد قَرَائِن الْإِبَاحَة وَالنَّدْب والوعيد فَبِمَ تنكرون على من [21 / ب] يعكس عَلَيْكُم / دعواكم. وَيَقُول لَا بل وضعوها للاذن وَالْإِطْلَاق وَالْإِبَاحَة عِنْد تجردها عَن قَرَائِن الْإِلْزَام وَالنَّدْب والوعيد. فتتقابل الدعوتان وتتساقطان على مَا سنوضحه فِي بَاب الْوَقْف إِن شَاءَ الله عز وَجل.
[200] ثمَّ يَتَّضِح ذَلِك بِمَا عَلَيْهِ الْمعول فِي إِثْبَات اللُّغَات ونفيها فَنَقُول: معاشر الْمُخَالفين! إِلَى مَا تسندون علمكُم بِمَا ادعيتموه فَإِن أسندتموه إِلَى اضطرار انتسبتم إِلَى التَّصْرِيح بالعناد. وَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ أَن تقابلوا دعواكم فِي ضد مقصودها فتتقابل دعوتا الِاضْطِرَار وتتساقطان. وَإِن أَنْتُم أسندتم علمكُم إِلَى دلَالَة عقلية فقد أخطاتم مقصدكم، فَإِن الْعُقُول لَا يتَوَصَّل بهَا إِلَى مجاري اللُّغَات، وَتَخْصِيص الْأَسَامِي بالمسميات. وَإِن أَنْتُم أسندتم علمكُم إِلَى سَماع وَهُوَ مَا يتلَقَّى مِنْهُ اللُّغَات فَلَا تخلون إِمَّا أَن تزعموا: أَن

(1/248)


أَرْبَاب اللُّغَات نقلوا مَا ذكرتموه نقل تَوَاتر وإطباق، [أَو تزعموا] أَنه نقل آحَاد، فَإِن ادعيتم نقلا عَن سَبِيل الِاتِّفَاق والإطباق أحلتم بِمَا قُلْتُمْ وانتسبتم إِلَى مُجَرّد الدَّعْوَى. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الواقفين والحاملين الْأَمر على النّدب والحاملين على الْإِبَاحَة لَو جمعت فرقهم لأربوا فِي أعدادهم على الْقَائِلين بِالْوُجُوب فَمَا لهَذَا النَّقْل المطبق عَلَيْهِ اخْتصَّ بكم وَذهل عَنهُ مخالفكم، فَلَا يستتب نقل مَا ادعوهُ عَن اللُّغَة. وَإِن هم زَعَمُوا أَن ذَلِك نقل آحَاد فَالْكَلَام عَلَيْهِم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن نقُول لم يَصح أَيْضا عندنَا على سَبِيل الْآحَاد عَن أحد مِمَّن يوثق بِهِ من أَئِمَّة اللُّغَات أَن الصِّيغَة الَّتِي فِيهَا تنازعنا عِنْد تجردها عَن الْقَرَائِن تَقْتَضِي الْإِيجَاب، فَهَذَا مِمَّا لَا يُؤثر عَن أحد من أَرْبَاب اللُّغَات. وَلم يسطر ذَلِك مَعَ إِرَادَته مصنفاتهم. فقد بَطل مَا ادعوهُ على سَبِيل النَّقْل إِجْمَاعًا وآحادا على أَنا نقُول: اللُّغَات لَا تثبت آحادا وَقد أومأنا إِلَى ذَلِك فِي بَاب مَأْخَذ

(1/249)


اللُّغَات.
(59) فصل

[201] فَإِن قيل: فقد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْأَمر فَمَا حَقِيقَة النَّهْي.
قيل: مَا قدمْنَاهُ فِي حَقِيقَة الْأَمر يرشد إِلَى حَقِيقَة النَّهْي فحقيقته القَوْل الْمُقْتَضى طَاعَة المنهى بترك الْفِعْل المنهى عَنهُ.
فَيدْخل تَحت النَّهْي التَّنْزِيه وَالتَّحْرِيم كَمَا دخل تَحت الْأَمر الِاسْتِحْبَاب والإيجاب.
(60) القَوْل فِي الْفرق بَين الْإِبَاحَة وَالْأَمر

[202] اعْلَم أَن الْإِبَاحَة هِيَ الْإِذْن المتضمن تَخْيِير الْمُخَاطب بَين فعل الشَّيْء وَتَركه الْجَارِي مجْرَاه فِي الْإِبَاحَة من غير تَخْصِيص ذمّ وَلَا مدح

(1/250)


بِأَحَدِهِمَا وَأما الْأَمر فقد سبق تَحْقِيقه وَإِذا جمعت بَين الحقيقتين تميزتا / [22 / أ] وامتاز أحد الْبَابَيْنِ عَن الآخر.
[203] وَذهب الكعبي وشيعته إِلَى أَن الْمُبَاح مَأْمُور بِهِ وَأَن الْأَمر بِهِ دون رُتْبَة الْإِيجَاب وَالنَّدْب. وَالْأَمر على سَبِيل النّدب دون الْأَمر على سَبِيل الْإِيجَاب.
[204] ثمَّ اعْلَم أَنه [و] إِن أطلق اسْم الْأَمر على الْإِبَاحَة وَاسم الْمَأْمُور بِهِ على الْمُبَاح فَلَا يُسمى الْمُبَاح وَاجِبا وَلَا الْإِبَاحَة

(1/251)


إِيجَابا.
[205] فَأول مَا نفاتحه أَن نقُول الْأَمر عندنَا هُوَ اقْتِضَاء الطَّاعَة، وَالْإِبَاحَة هِيَ الْإِذْن على النَّعْت الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي صدر الْبَاب. فَأَنت أَيهَا الكعبي هَل تدرج الْإِبَاحَة فِي حَقِيقَة الْأَمر حَتَّى تزْعم أَنَّهَا اقْتِضَاء للطاعة أَو لَا تَقول ذَلِك. فَإِن أَنْت زعمت أَنَّهَا اقْتِضَاء الْفِعْل على سَبِيل الطَّاعَة فقد راغمت الْحَقَائِق، فَإنَّا نعلم بديهة وقطعا أَن تَخْيِير الْمُخَاطب بَين الشَّيْء وَتَركه المتساويين فِي جملَة أَحْكَام التَّكْلِيف لَا يتَضَمَّن اقْتِضَاء طَاعَة بل هُوَ تَخْيِير وَلَيْسَ باقتضاء وَدُعَاء إِلَى فعل، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك مَا لَا محيص عَنهُ. وَهُوَ أَن نقُول إِن اقْتَضَت الْإِبَاحَة اقْتِضَاء وَدُعَاء فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن تَقْتَضِي دُعَاء إِلَى الْفِعْل وَتَركه جَمِيعًا. وَذَلِكَ متضاد يَسْتَحِيل الدُّعَاء إِلَيْهِ. وَإِمَّا أَن تَتَضَمَّن اقْتِضَاء أَحدهمَا وَذَلِكَ محَال، فَإِنَّهُ لَا يعين وَاحِد مِنْهُمَا فِي حكم الِاقْتِضَاء إِلَّا ويسوغ قلب الدَّعْوَى فِي الثَّانِي. وَإِن قَالَ الْخصم: هُوَ اقْتِضَاء لأَحَدهمَا لَا بِعَيْنِه كَانَ محالا. وَذَلِكَ أَن الْإِبَاحَة تَقْتَضِي تَفْوِيض الْأَمر إِلَى مشْيَة من أُبِيح لَهُ وَلَيْسَ فِيهَا دعاؤه إِلَى مَا فوض إِلَى خيرته لَا على سَبِيل الْإِجْمَال وَلَا على سَبِيل التَّعْيِين. وَمن أنصف علم أَن قَول الْقَائِل: أَدْعُوك إِلَى أحد الْفِعْلَيْنِ، فَهَذَا القَوْل مُخَالف لقَوْل الْقَائِل: أبحث لَك الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، وجاحد ذَلِك ينْسب إِلَى العناد وَالْخُرُوج.
[206] فَإِن قَالَ الكعبي: ترك الْمَحْظُور مَأْمُور بِهِ وفَاقا وَمَا من مُبَاح إِلَّا وَهُوَ ترك لمحظور فَلَزِمَ من ذَلِك كَونه مَأْمُورا بِهِ.

(1/252)


قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل. فَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ أَن نقُول: قد وافقتمونا على أَن الْمُبَاح لَا يُوصف بِالْوُجُوب وزعمتم أَنه فِي كَونه مَأْمُورا بِهِ ينحط عَن الْمَنْدُوب إِلَيْهِ فضلا عَن الْوَاجِب. فَإِذا تمهد ذَلِك من أصلكم قُلْنَا: فَترك الْمَحْظُور وَاجِب كَمَا أَنه مَأْمُور بِهِ فَهَلا زعمتم أَن الْمُبَاح وَاجِب من حَيْثُ أَنه ترك للمحظور وَترك الْمَحْظُور وَاجِب وفَاقا، فقد انعكس عَلَيْكُم فِي الْوُجُوب مَا ألزمتمونا فِي كَون الْمُبَاح مَأْمُورا بِهِ. وسنوضح القَوْل إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي ذَلِك بعد مَا كَفَيْنَاك مُؤنَة الْخصم فِي الْبَاب المنطوي على إِيجَاب شَيْء من جملَة أَشْيَاء لَا بِعَيْنِه.
(61) فصل

[207] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ فِي تَحْقِيق الْإِبَاحَة أَنَّهَا / الْإِذْن فِي الْفِعْل [22 / ب] وَتَركه الْجَارِي مجْرَاه فَمَا الْمَعْنى بقولكم الْجَارِي مجْرَاه؟
قُلْنَا: مقصدنا من ذَلِك التَّحَرُّز من أصل وَهُوَ أَن من الْمَحْظُور مَا هُوَ ترك للمباح ومضاد لَهُ. فَلَو أطلقنا التّرْك لم نَأْمَن اللّبْس فِي الْكَلَام فخصصنا القَوْل فِي التّرْك باقتضاء الْإِبَاحَة لدفع اللّبْس.
[208] فَإِن قيل: أفتزعمون أَن الْمُبَاح دَاخل تَحت التَّكْلِيف.

(1/253)


قُلْنَا: إِن عنيتم بذلك أَن على الْمُكَلف فِي الْمُبَاح شَيْئا فَلَا. وَإِن عنيتم بذلك وُرُود السّمع بِالْإِذْنِ فَهُوَ مِمَّا نقُول بِهِ. وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن الْإِبَاحَة لَا تدخل فِي إِلْزَام وَندب وَتَحْرِيم، وَلَا يتَعَلَّق بهَا من العواقب المرقوبة فِي الشَّرْع شَيْء من وعد ووعيد وذم وثناء وثواب وعقاب، وَإِنَّمَا الْإِبَاحَة مُجَرّد إِذن وَإِطْلَاق وإنباء عَن رفع حرج. وَمن أحَاط علما بحقيقتها على هَذَا الْوَجْه هان عَلَيْهِ مدرك السُّؤَال.
[209] فَإِن قيل: أفتقولون إِن الْمُبَاح من الْأَفْعَال حسن أَو قَبِيح؟

(1/254)


قُلْنَا: لَا نصفه بِوَاحِد من الوصفين فَإنَّا ذكرنَا فِي حد الْحسن أَنه الْفِعْل الَّذِي ورد الشَّرْع باقتضاء الثَّنَاء على فَاعله والقبيح على الضِّدّ من ذَلِك. والمباح خَارج عَن النعتين والوصفين جَمِيعًا.
(62) فصل

[210] أطبق أهل الْحق على أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُرِيد للْفِعْل الْمُبَاح إِذا وَقع وَحدث جَريا على الأَصْل الْمَأْثُور عَن أهل الْحق فِي وجوب تعلق الْإِرَادَة الْقَدِيمَة بِكُل المرادات.
وَزَعَمت الْقَدَرِيَّة أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غير مُرِيد للمباح وَلَا كَارِه.

(1/255)


[211] ونشأت مسئلة فِي هَذِه الْقَاعِدَة. وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا [لَو] أَرَادَ الله عز وَجل فعل شَيْء ووردت فِيهِ صِيغَة الْأَمر لم يكن ذَلِك إِلَّا اقْتِضَاء تَكْلِيف.
فَقيل لَهُم: فَمَا قَوْلكُم معاشر الْمُعْتَزلَة هَل يُرِيد الرب تَعَالَى دُخُول أهل الْجنان الْجنان. فَإِذا قَالُوا: أجل قيل لَهُم: فقد ورد فِي ذَلِك مَعَ إِرَادَته مَا هُوَ صِيغَة الْأَمر وَذَلِكَ قَوْله: {ادخلوها بِسَلام آمِنين} فاضطربت الْقَدَرِيَّة غَايَة الِاضْطِرَاب عِنْد هَذَا الْإِلْزَام. فَذهب الْجُمْهُور مِنْهُم إِلَى أَنه تَعَالَى غير مُرِيد لدُخُول أهل الْجنَّة الْجنَّة وَهُوَ إفصاح لكشف القناع، وَإِنَّمَا ألجأهم إِلَى ذَلِك مَا قدمْنَاهُ من السُّؤَال الْمُتَرَتب على فَسَاد أصلهم. وَزعم ابْن الجبائي أَنه مُرِيد لدُخُول أهل الْجنان الْجنان وَهُوَ آمُر لَهُم بِالدُّخُولِ تَحْقِيقا، ثمَّ قرر ذَلِك من أصل لَهُم فَقَالَ إِدْخَال أهل الْجنَّة الْجنَّة إثابة، وَترك ذَلِك ظلم فَيلْزم تعلق الْإِرَادَة بِمَا لَو قدر تَركه لَكَانَ ظلما، فَقيل لَهُ: فَأهل الْجنان إِذا مكلفون مخاطبون وَإِذا ثَبت التَّكْلِيف تبعه توابعه من ترقب الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَتحقّق الْوَعْد والوعيد فَيلْزم من مَضْمُون ذَلِك أَن يثبت الِابْتِلَاء والتكليف والامتحان [23 / أ] فِي الدَّار الْآخِرَة كَمَا ثَبت فِي دارالدنيا ثمَّ مَا / ألزمناهم فِي دُخُول الْجنان يلْزمهُم مثله فِي التَّمَتُّع بنعيمها فَإِن الرب تَعَالَى قَالَ: {كلوا وتمتعوا} فِي الإنباء عَن تمتعهم بنعيم الْجنان.

(1/256)


(63) القَوْل فِي الدّلَالَة على أَن النّدب مَأْمُور بِهِ

[212] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ فِيمَا قد قدمتم أَن الْمَنْدُوب إِلَيْهِ مَأْمُور بِهِ على الْحَقِيقَة. وزعمتم أَن الْأَمر الْقَائِم بِالنَّفسِ يتضمنه كَمَا يتَضَمَّن

(1/257)


الْإِلْزَام فَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟
قُلْنَا: الَّذِي يدل على ذَلِك اتِّفَاق الْأمة قاطبة على أَن الْمَنْدُوب طَاعَة وَأَن النَّوَافِل وَسَائِر التطوعات تتصف بِكَوْنِهَا طاعات فَلَا تَخْلُو إِمَّا تصير طَاعَة لنفوسها وأجناسها، وَذَلِكَ مُسْتَحِيل، فَإِن أَمْثَالهَا قد تقع غير طَاعَة قبل وُرُود الشَّرَائِع وَبعد وُرُودهَا عِنْد اختلال بعض الشُّرُوط، وإيضاح ذَلِك بَين لَا يحوجك إِلَى الإطناب. وَإِمَّا أَن تصير طَاعَة لحدوثها ووجودها وَذَلِكَ بَاطِل بِمَا يبطل بِهِ الْقسم الأول. وَإِمَّا أَن تكون طَاعَة لكَونهَا مُرَادة للمطاع وَهَذَا بَاطِل أَيْضا بِمَا ثَبت من أصل أهل الْحق أَن الْمُحرمَات مُرَادة للرب سُبْحَانَهُ وَأَن إرداته الْقَدِيمَة تتَعَلَّق بحدوث الْمَحْظُورَات والمباحات تعلقهَا بالطاعات. وَهَذَا مِمَّا يستقصى فِي أصُول الديانَات، فَبَطل تلقي كَونهَا طَاعَة من كَونهَا مُرَادة. وَإِمَّا أَن تصير طَاعَة لضمان الثَّوَاب ووعده عَلَيْهَا. وَذَلِكَ بَاطِل لِأَنَّهُ قد تقرر من أصل أهل الْحق جَوَاز ثُبُوت الطَّاعَات من الْوَاجِبَات والتطوعات دون وعد الثَّوَاب عَلَيْهَا، فَإِن الثَّوَاب من الرب تَعَالَى فضل وَالْعِقَاب عدل، فَلَا يَتَّصِف وَاحِد مِنْهُمَا بالتحتم وَالْوُجُوب عِنْد تحقق الطَّاعَات أَو عِنْد تحقق تَركهَا، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك من أصُول الْخصم أَن

(1/258)


الْمُطِيع قد تقع طَاعَته محبطة الثَّوَاب لكبيرة يقارفها مَعَ إقدامهم على الصَّلَوَات وَسَائِر الطَّاعَات، وَالْحكم بِصِحَّتِهَا مِنْهُ، فَتبين اسْتِحَالَة تلقي كَونهَا طَاعَة من هَذَا المأخذ، وَإِمَّا أَن تصير طَاعَة لعلم الله عز وَجل بِكَوْنِهَا طَاعَة وإخباره على نعتها بذلك، وَهَذَا بَاطِل أَيْضا لِأَن الْخَبَر وَالْعلم يتعلقان بمتعلقهما على مَا هما عَلَيْهِ وَلَا يقتضيان للمخبر [عَنهُ] والمعلوم إِثْبَات وصف، إِذْ الْعلم وَالْخَبَر فِي تعلقهما يتبعان الْمَعْلُوم والمخبر عَنهُ، وَلَو سَاغَ الْمصير إِلَى ذَلِك لساغ أَن يُقَال إِن الْمُحدث إِنَّمَا يثبت لَهُ وصف الْحُدُوث للْعلم بحدوثه والإخبار عَنهُ والمختص بِأحد الْأَوْصَاف الْجَائِزَة إِنَّمَا صَحَّ تخصصه بِهِ للْعلم بِوُقُوعِهِ على ذَلِك الْوَجْه مَعَ الْخَبَر عَنهُ إِلَى غير ذَلِك فَلم يبْق بعد بطلَان هَذِه الْأَقْسَام إِلَّا الْمصير إِلَى أَنَّهَا إِنَّمَا اتصفت بِكَوْنِهَا طَاعَة لكَونهَا مَأْمُورا بهَا واتصاف الْمُقدم عَلَيْهَا

(1/259)


بِكَوْن [هـ] ممتثلا لِلْأَمْرِ، وَإِذا استمرت الدّلَالَة أوضحناها بِالْإِطْلَاقِ [23 / ب] الْمُتَعَارف لُغَة وَعرفا فَإِن / الْعَرَب تقرن فِي إِطْلَاقهَا بَين الْأَمر وَالطَّاعَة من الْمَأْمُور بِهِ. وَمِنْه يَقُولُونَ فلَان مُطَاع الْأَمر وَلَا يَأْمر إِلَّا يطاع وَفُلَان مُطِيع لأمر فلَان فيطلقون الطَّاعَة على الْمَأْمُور بِهِ - والمطاع على الْآمِر والمطيع على الممتثل الْأَمر وَإِذا أنبأوا عَن نقيض ذَلِك قَالُوا عصى فلَان فلَانا. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أفعصيت أَمْرِي} وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْإِخْبَار عَن مواظبة الْمَلَائِكَة على الطَّاعَة: {ويفعلون مَا يؤمرون} وَمن هَذِه الْجِهَة يبطل

(1/260)


تلقي الطَّاعَة من الْإِرَادَة. فَإِن الْعَرَب لَا تَقول فِي إِطْلَاقهَا فلَان مُطَاع الْإِرَادَة وَفُلَان أَرَادَ فأطيع فَثَبت حَقِيقَة وَعرفا كَون الطَّاعَة مَأْمُورا بهَا. وَقد تقرر بِاتِّفَاق الْأمة تَسْمِيَة الْمَنْدُوب طَاعَة.
[213] وَاعْلَم، وفقك الله أَن الدهماء من الْمُعْتَزلَة يوافقون أهل الْحق فِي أَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ، وَلَكِن تخْتَلف الطّرق فِي المأخذ، فمأخذ أهل الْحق مَا سلف، وَمَا يعولون هم عَلَيْهِ فِي تثبيت الْمَنْدُوب طَاعَة كَونه مرَادا للْآمِر فَهَذَا يطرد على أصلهم فِي الطَّاعَات، وينعكس فِي الْمَحْظُورَات والمباحات. والخوض فِي ذَلِك يشغلنا عَن الْمَقْصد فَالْأولى إحالته على الديانَات.
(64) القَوْل فِي استقصاء الْمذَاهب فِي مُقْتَضى الْأَمر ووجوه الرَّد على غير مَا نرتضيه مِنْهَا

[214] قد قدمنَا من مَذَاهِب أهل الْحق أَن الْأَمر الْحَقِيقِيّ معنى قَائِم بِالنَّفسِ وَحَقِيقَته اقْتِضَاء الطَّاعَة على مَا قدمْنَاهُ ثمَّ ذَلِك يَنْقَسِم إِلَى ندب وَوُجُوب لتحَقّق الِاقْتِضَاء فيهمَا.
وَأما الْعبارَة الدَّالَّة على الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ نَحْو قَول الْقَائِل: ((افْعَل)) فمترددة بَين الدّلَالَة على الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة والتهديد. فَيتَوَقَّف فِيهَا

(1/261)


حَتَّى يثبت بقيود الْمقَال أَو قَرَائِن الْحَال تخصصها بِبَعْض المقتضيات فَهَذَا مَا نرتضيه من الْمذَاهب.
[215] وَذهب الْجُمْهُور من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْأَمر المتجرد عَن الْقَرَائِن يَقْتَضِي كَون الْمَأْمُور بِهِ ندبا وَإِنَّمَا يعرف الْوُجُوب بِقَرِينَة تنضم إِلَيْهَا، وَحَقِيقَة أصلهم مَا ذكره عبد الْجَبَّار فِي شرح الْعمد وَذَلِكَ أَنه قَالَ وَالْأَمر يُنبئ عَن كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر. فَهَذَا مُقْتَضَاهُ، وَمَا سواهُ لَا يثبت إِلَّا بالقرائن. فَإِذا قيل لَهُ: أفتجوز إِرَادَة الْوُجُوب بِالْأَمر الْمُطلق من غير قرينَة، امْتنع من تجويزه. وصاروا إِلَى أَن الْأَمر لَا يَقْتَضِي إِلَّا كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر، وَهَذَا لَا يُنبئ عَن الْوُجُوب. ثمَّ قَالَ: إِنَّمَا يعرف الْوُجُوب بوعيد أَو بتهديد يقترنان بِالْأَمر.
فَقيل لَهُ: فَإِذا اقْترن الْوَعْد بِالْأَمر فَهَل تزْعم أَن المُرَاد بِالْأَمر مَعَ الْوَعيد

(1/262)


الْإِيجَاب؟ فَقَالَ: لَا أصير إِلَى ذَلِك بل الْأَمر اقْتضى كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر. والوعيد اقْتضى وصف الْوُجُوب لَهُ، وَلَيْسَ / الْوُجُوب من مُقْتَضى [24 / أ] الْأَمر بِحَال، سَوَاء ورد مُطلقًا أَو مُقَيّدا. وَكَذَلِكَ قيل لَهُ: أفيجوز اسْتِعْمَال الْأَمر الْمُطلق فِي الْإِيجَاب مجَازًا تمنع مِنْهُ. وَلم يجوزه مصيرا مِنْهُ إِلَى أَن الْوُجُوب وصف زَائِد للْمَأْمُور لَا يتلَقَّى من الْأَمر لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا.
[216] وَذهب بعض الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن مُقْتَضى الْأَمر الْمُطلق الْإِبَاحَة وَالْإِذْن، وَإِنَّمَا يثبت مَا عداهُ بالقرائن والقيود.
[217] وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْأَمر الْمُطلق يَقْتَضِي وجوب الْمَأْمُور بِهِ مَا لم تقترن بِهِ قرينَة مَانِعَة من اسْتِعْمَاله باقتضاء الْوُجُوب. وَإِلَى هَذَا صَار الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء.

(1/263)


[218] وَأما الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فقد ادّعى كل من أهل الْمذَاهب أَنه على وفاقه وتمسكوا بعبارات مُتَفَرِّقَة لَهُ فِي كتبه: حَتَّى اعْتصمَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِأَلْفَاظ لَهُ من كتبه واستنبط مِنْهَا مصيره إِلَى الْوَقْف وَهَذَا عدُول عَن سنَن الْإِنْصَاف. فَإِن الظَّاهِر والمأثور من مذْهبه حمل مُطلق الْأَمر على الْوُجُوب.
[219] فمما يلْزم تَجْدِيد الْعَهْد بِهِ عودا على بَدْء ان تعلم أَن الْخلاف مَعَ الْقَوْم فِي الْعبارَات والصيغ دون مَا هُوَ حَقِيقَة الْأَمر عندنَا. فَإِذا أحطت علما بذلك فَالْأولى بِنَا أَن نذْكر نُكْتَة نعول عَلَيْهَا إبِْطَال كل مَذْهَب سوى مَا ارتضيناه حَتَّى إِذا استثبت انعطفنا على شبه كل فِئَة وتتبعناها بِالنَّقْضِ وَالَّذِي نعول عَلَيْهِ مَا سبق الْإِيمَاء إِلَيْهِ فِي بعض الْأَبْوَاب السالفة وَذَلِكَ أَن نقُول لمن يُخَالف من أهل الْمذَاهب المفترقة فِي حمل الصِّيغَة الْمُطلقَة على اقْتِضَاء معنى بِعَيْنِه لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يتلَقَّى علمه بذلك من قضايا الْعُقُول أَو يتلقاه من أَدِلَّة السّمع وَلم ندرج فِي الدّلَالَة ادِّعَاء الِاضْطِرَار علما منا بِأَن أحدا

(1/264)


لَا يصير إِلَى إدعائه، فَلَا مدرك للعلوم بعد انْتِفَاء الضرورات والبداية إِلَّا الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة والسمعية فَبَطل إِسْنَاد هَذَا الْعلم إِلَى دلالات الْعُقُول وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ فِيهَا دلَالَة على مجاري اللُّغَات الثَّابِتَة توقيفا أَو اصْطِلَاحا. وَهَذَا ثَابت وفَاقا لَا حَاجَة لَك إِلَى الْأَطْنَاب فِي إثْبَاته فَلَا يبْقى إِلَّا إِسْنَاد الْعلم إِلَى الدلالات السمعية. فَنَقُول للخصم أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تثبتوا إِفَادَة الصِّيغَة لِمَعْنى بِعَيْنِه من قَضِيَّة اللُّغَة أَو من أَدِلَّة السّمع فَإِن أَنْتُم رمتم إِثْبَات ذَلِك من مُقْتَضى اللُّغَة قيل لكم مدارك اللُّغَات مضبوطة يحصرها وَجْهَان: أَحدهمَا: معاصرة أهل الْوَضع ومشاهدة اصطلاحهم أصلا وإحاطة الْعلم بمرادهم وقرائن أَحْوَالهم الْمُشَاهدَة، فَهَذَا وَجه. وَلَا سَبِيل لمن يُكَلِّمنَا فِي نفي أَو إِثْبَات إِلَى التَّمَسُّك بِهَذَا الْوَجْه للْعلم بِأَنَّهُ لَا أحد مِمَّن يدْرك على مَذَاهِب الْمُخَالفين عاصر الواضعين اللُّغَة. وَالْوَجْه الثَّانِي: النَّقْل عَن أهل اللُّغَة. ثمَّ النَّقْل يَنْقَسِم إِلَى تَوَاتر يعقب الْعلم الضَّرُورِيّ وَإِلَى غَيره. وَلَا سَبِيل للخصم إِلَى ادِّعَاء هَذَا الضَّرْب من النَّقْل لبُطْلَان دَعْوَى الِاضْطِرَار مَعَ ظُهُور الِاخْتِلَاف ووضوحه بَين أَرْبَاب الْعقل وَالشَّرْع فَلم يبْق بعد ذَلِك إِلَّا نقل استفاضة تدل الدّلَالَة على الْقطع بِصِحَّتِهِ أَو نقل آحَاد. وَلَيْسَ مَعَ الْخصم نقل مستفيض يَقْتَضِي الْعلم فِيمَا يرومه ويلتمسه. وإيضاح ذَلِك أَنه لَا يُمكن أَن يُؤثر عَن أَئِمَّة اللُّغَة صُورَة هَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي فِيهَا التَّنَازُع. وَلَو قلت لأرباب اللُّغَة وَقد جمعهم محفل وَاحِد وفَاقا: الْأَمر هَل يَقْتَضِي الْإِيجَاب وَالنَّدْب أَو الْإِبَاحَة وَالْإِطْلَاق وَمَا مُقْتَضَاهُ إِذا تجرد عَن الْقَرَائِن وَإِذا انضمت إِلَيْهِ الْقَرَائِن؟ فَلَا تراهم فِي سؤالك إِلَّا حيارى، فَلَا يَصح بِوَجْه من الْوُجُوه نقل عين هَذِه المسئلة عَنْهُم.
[220] فَإِن توصل الْخصم إِلَى مقْصده لوُرُود أوَامِر على إِرَادَة الْإِيجَاب فيقابل بصيغ أَمْثَالهَا، وَالْمرَاد بهَا الْإِبَاحَة وَالْإِطْلَاق.

(1/265)


[221] فَإِن زعم الْخصم بِأَن مَا اعْتصمَ بِهِ معرى عَن قَرَائِن الْإِبَاحَة فَلذَلِك اقْتضى الْوُجُوب أَو النّدب عِنْد إِطْلَاقه قيل لَهُ: وَالَّذِي يَقْتَضِي الْإِبَاحَة متجرد عَن قَرَائِن الْإِيجَاب. وَإِنَّمَا اقْتضى الْإِبَاحَة عَن إِطْلَاقه لتعريه عَن قَرَائِن الْإِيجَاب وَالنَّدْب فتتقابل الدعاوي فِي موارد الصِّيَغ وَقد تبين بطلَان نقل صُورَة المسئلة عَنْهُم فَلم يبْق للنَّقْل عَنْهُم وَجه.
[222] وَمن سَبِيل النَّقْل أَيْضا أَن يخبر الْمخبر عَن قَضِيَّة من اللُّغَة بِحَيْثُ يشْتَهر ذَلِك بَين أَهلهَا. فيصمتون ويسكتون وَلَا يبدون إنكارا فَرُبمَا يعد ذَلِك من النَّقْل الْمَقْطُوع بِهِ على مَا سَنذكرُهُ فِي أَبْوَاب الْأَخْبَار إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذَا الضَّرْب أَيْضا لم يتَحَقَّق فَإِنَّهُ كَمَا اشْتهر فيهم قَول الْقَائِلين بِالْوُجُوب فَكَذَلِك اشْتهر فيهم قَول الْقَائِلين بِالْإِبَاحَةِ أَو النّدب وَلم يُؤثر عَنْهُم رد على التَّصْرِيح والإفصاح على قيد فَهَذَا لَو ادعوا تثبيت مذاهبهم من قَضِيَّة اللُّغَة.
[223] وَإِن هم ادعوا تثبيته من أَدِلَّة السّمع فَلَيْسَ فِي أَدِلَّة السّمع نَص قَاطع يَقْتَضِي مَا قَالُوهُ وَإِنَّمَا نراهم يعتصمون فِي إِثْبَات مُقْتَضى الصِّيَغ والألفاظ المحتملة بِأَلْفَاظ مُحْتَملَة من الْكتاب وَالسّنة على مَا نتقصاها فِي شبههم إِن شَاءَ الله عز وَجل فانسدت موارد الْعُلُوم، وَتبين وُرُود هَذِه الصِّيغَة المتنازعة فِيهَا على موارد متباينة فَلَا يبْقى إِلَّا التَّوَقُّف لتعين المُرَاد بهَا.

(1/266)


[224] فَإِن قيل: مَا طردتموه ينعكس عَلَيْكُم فِي ادِّعَاء الْوَقْف فَإِنَّهُ كَمَا لم يُؤثر عَنْهُم مَا ذَكرْنَاهُ، فَكَذَلِك لم ينْقل عَنْهُم الْوَقْف.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك فِي وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن نقُول: تثبيت أنباء الْأَسَامِي عَن المسميات فِي وضع اللُّغَات يحوج مدعيه إِلَى النَّقْل. وَحَقِيقَة الْمصير إِلَى الْوَقْف عدم النَّقْل، فإننا نقُول / إِذا لم ينْقل وَجه مُتَعَيّن من [25 / أ] الْوُجُوه الَّتِي ادعيتموها فنتوقف، ولسنا نجْعَل التَّوَقُّف لُغَة لنحتاج إِلَى نقلهَا. وَاحْذَرْ أَن تزْعم أَن مُقْتَضى الصِّيغَة الْوَقْف، فَإنَّا نتبرأ عَن ذَلِك، بل نقُول: إِذا لم يَصح وَجه مُتَعَيّن فِي النَّقْل فنرقب تَعْيِينه بطرِيق يقطع بِهِ فمحصول هَذَا إِذا يؤول إِلَى أَنا لم نثبت لُغَة لننقلها.
وَالْوَجْه الآخر من الْجَواب أَن نقُول: إِذا رَأينَا صِيغَة وَاحِدَة ترد على موارد مُخْتَلفَة ومعاني متباينة فَإِذا وَردت مُطلقَة فَلَا نحتاج فِي التَّوَقُّف فِي مَعْنَاهَا إِلَى نقل مُجَرّد من أهل اللُّغَات. وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن الْعين لما ورد منقسما بَين معَان فَإِذا أطلق فِي المورد لم يحْتَج فِي التَّوَقُّف فِي مَعْنَاهُ إِلَى نقل متجرد وَإِذا وَردت لَفْظَة الْوُجُود مَعَ انطلاقها على الْحُدُوث والقدم

(1/267)


لم يحْتَج فِي التَّوَقُّف إِلَى نقل متجرد من أهل اللُّغَة. فَتبين مَا قُلْنَاهُ وَلكُل قلب الْخصم وَعَكسه الدّلَالَة علينا. فَهَذَا أقوى مَا نعول عَلَيْهِ وَسَنذكر بَقِيَّة أدلتنا فِي تَرْتِيب الْأَبْوَاب إِن شَاءَ الله.
[225] عمد من صَار إِلَى أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي الْإِيجَاب.
اعْلَم، أَن الصائرين إِلَى هَذَا الْمَذْهَب تحزبوا حزبين فَمن صائرين إِلَى أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي الْإِيجَاب لُغَة ووضعا وَمن ذَاهِبين إِلَى أَن اللُّغَة لَا تدل على ذَلِك وَلَكِن دلالات السّمع تدل على وجوب حمل الْأَوَامِر الشَّرْعِيَّة المتجردة عَن الْقَرَائِن على الْوُجُوب.

(1/268)


[226] فَأَما من ادّعى أصل الْوَضع وهم الْأَكْثَرُونَ فقد استدلوا على ذَلِك بأَشْيَاء مِنْهَا: أَنهم قَالُوا قد ثَبت فِي إِطْلَاق أهل اللُّغَة تَسْمِيَة من خَالف مُطلق الْأَمر عَاصِيا، وَثَبت مِنْهُم تقريعه وتوبيخه بالعصيان عِنْد مُجَرّد ذكر الْأَمر، فَإِن الْوَاحِد مِنْهُم يَقُول لمن دونه أَمرتك فعصيت أَمْرِي وَهَذَا شَائِع ذائع فيهم. ومساقه أَنه لما جَازَ التوبيخ بسمة الْعِصْيَان عِنْد ذكر مُطلق الْأَمر، وَلَا يسْتَوْجب التوبيخ إِلَّا بترك وَاجِب اقْتضى مَجْمُوع ذَلِك دلَالَة الْأَمر الْمُطلق على الْوُجُوب. فَيُقَال لَهُم: لسنا نسلم لكم مَا أطلقتموه من دعواكم، وَذَلِكَ أَن النزاع مَعكُمْ فِي الصِّيغَة الْمُطلقَة المعراة من الْقَرَائِن. وَلَيْسَ فِي إِطْلَاق اللُّغَة وتحاور أَهلهَا مَا يدل على مَا رمتموه فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم إِن وبخوا تَارِك الأمتثال لسمة الْعِصْيَان فَإِنَّمَا وبخوه عِنْد تَركه امْتِثَال أَمر شَاهد قَرَائِن أَحْوَال الْأَمر بِهِ دَالَّة على اقْتِضَاء الْوُجُوب فَلَيْسَ يمكنكم أَن تزعموا أَنهم يوبخون بالعصيان فِي الْأَمر الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن وَاسم الْأَمر ينْطَلق على الْمُجَرّد والمقترن جَمِيعًا، فَمن أَيْن لكم أَن مَا أَطْلقُوهُ

(1/269)


[25 / ب] ينْصَرف إِلَى الصِّيغَة الْمُطلقَة / وَلم ينْقل عَنْهُم فِي توبيخ التارك عصيت مُطلق أَمْرِي المعرى عَن الْقَرَائِن، وَهَذِه دَعْوَى لم تقرن ببرهان، ثمَّ نقُول لسنا نسلم أَن تثبيت سمة الْعِصْيَان وصف ذمّ على الْإِطْلَاق إِذْ قد يرد ذَلِك فِي غير مَوضِع اسْتِحْقَاق الذَّم. فَإنَّك تَقول أَشرت على فلَان بِكَذَا فعصاني وَعصى مشورتي، وَإِن لم يكن بمشورتك مُوجب على من أَشرت إِلَيْهِ.
[227] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم وَهِي من عمدهم.
فَإِن قَالُوا: قَول الْقَائِل: ((افْعَل)) يتَضَمَّن إِثْبَات الْفِعْل وَحصر الْمَقْصد فِي ثُبُوته، إِذْ لَيْسَ فِي قَول الْقَائِل ((افْعَل)) إِلَّا اقْتِضَاء ثُبُوت الْفِعْل فَلَو حمل على النّدب وَالْإِبَاحَة اقْتضى جَوَاز التّرْك وَهَذَا يُنَاقض ثُبُوت الْفِعْل. وَهَذَا مِمَّا يشغفون بِهِ. وَلَو رد إِلَى التَّحْقِيق اضمحل، وَذَلِكَ أَنا نقُول إِن عنيتم بقولكم: إِنَّه يَقْتَضِي ثُبُوت الْفِعْل أَنه يُنبئ عَن ثُبُوته لَا

(1/270)


محَالة. فَهَذَا عين مَا تنازعنا فِيهِ، فكأنكم عبرتم بِثُبُوتِهِ لَا محَالة عَن الْوُجُوب، وَآل قصاري كلامكم فِي تثبيت الْمَذْهَب إِلَى نفس نقل الْمَذْهَب، فكأنكم قُلْتُمْ الْأَمر على الْوُجُوب لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوب فَأَنِّي يَسْتَقِيم هَذَا مِنْكُم؟ والخصم يزْعم أَنه قد يرد وَالْمرَاد بِهِ التَّخْيِير وَقد يرد وَالْمرَاد بِهِ التهديد، فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا.
[228] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: الْوُجُوب معنى صَحِيح يتَصَوَّر فِي الْقُلُوب ويتخالج فِي الصُّدُور فَيعلم أَنه مِمَّا يخْطر بِهِ لأرباب اللُّغَات فَيجب لَا محَالة أَن يضعوا لَهُ لفظا يُنبئ عَنهُ وَلَا لفظ يُنبئ عَنهُ إِن لم يُنبئ الْأَمر.

(1/271)


وَهَذَا وَاضح الْبطلَان وَلَوْلَا أَن الْأَئِمَّة تمسكوا بِهِ لاقتضى الْحَال ترك نَقله لوهايته وَضَعفه. فَأول مَا نفاتحهم بِهِ أَن نقُول: لم زعمتم أَولا أَنه يجب تَسْمِيَة كل معنى يتخالج فِي الصُّدُور، وَبِمَ تنكرون على من يجوز بَقَاء معَان لَيْسَ فِي اللُّغَات إنباء عَنْهَا على التَّنْصِيص والتخصيص؟ فَهَذَا وَجه فِي الْإِبْطَال. وَالْوَجْه الآخر أَن نقُول بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن النّدب أحد الْمعَانِي المتقدرة فِي الصُّدُور فَلَا بُد من قصد أهل اللُّغَة إِلَى وضع لفظ يتضمنه؟
فَإِن قيل: اللَّفْظ المتضمن لَهُ قَوْلهم: أندبك إِلَى كَذَا وأحثك عَلَيْهِ إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنى.
فَيُقَال لَهُم: وَبِمَ تنكرون على من طرد مَا قلتموه أَن يكون اللَّفْظ الْمَوْضُوع باقتضاء الْإِيجَاب قَوْلهم أوجبت عَلَيْك وافترضت عَلَيْك وألزمتك حتما عَلَيْك إِلَى مَا يضاهي ذَلِك من الْأَلْفَاظ؟
[229] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: زلوا فِي إلزامها، وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا النَّهْي عَن الشَّيْء يتَضَمَّن وجوب الْكَفّ عَنهُ، فَالْأَمْر بِهِ وَاجِب أَن يتَضَمَّن وجوب الْإِقْدَام

(1/272)


عَلَيْهِ وحققوا ذَلِك بِأَن الْأَمر بالشي نهي عَن أضداد الْمَأْمُور / بِهِ فَإِذا ثَبت [26 / أ] اقْتِضَاء النَّهْي وجوب التّرْك ترَتّب عَلَيْهِ اقْتِضَاء الْأَمر وجوب الْإِقْدَام.
فَيُقَال لَهُم: أقصروا فقد زللتم فِي الْإِلْزَام وَذَلِكَ أَنكُمْ إِن عنيتم بِالنَّهْي قَول الْقَائِل: ((لَا تفعل)) فَهَذَا من الْأَلْفَاظ المحتملة عندنَا المترددة بَين معَان على مَا سَنذكرُهُ فِي بَاب النواهي إِن شَاءَ الله عز وَجل ولسنا نقطع أَيْضا باقتضاء اللَّفْظ وجوب الْكَفّ.
[230] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: إِذا أَمر السَّيِّد عَبده بِشَيْء فَلم يمتثل أمره حسن مِنْهُ توبيخه بِمُجَرَّد ذكر الْأَمر، فَإِنَّهُ يَقُول أَمرتك فخالفتني فلولا أَن مجرده يَقْتَضِي الِامْتِثَال لما حسن ذَلِك. وَهَذَا يداني الشُّبْهَة الأولى، وَمَا قدمْنَاهُ من الْجَواب عَنْهَا يبطل ذَلِك. ونجدد آنِفا كلَاما يتَضَمَّن بطلَان مَا قَالُوهُ وَيصْلح لابتداء اسْتِدْلَال فِي الرَّد على من عين لهَذَا اللَّفْظ مُوجبا. وَذَلِكَ أَنا نقُول إِذا بدرت من السَّيِّد الصِّيغَة الَّتِي فِيهَا نزاعنا فَيحسن من العَبْد تَقْسِيم الْكَلَام وتنويعه فِي استفصال الْمَقْصد بِهِ فَيَقُول: للسَّيِّد هَذَا الَّذِي بدر مِنْك إِلْزَام لَا محيص عَنهُ أَو هُوَ ندب أتخير

(1/273)


فِيهِ؟ فَلَمَّا حسن مِنْهُ الاستفصال والاستفسار دلّ ذَلِك على خُرُوج اللَّفْظَة من اقْتِضَاء معنى معِين. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه لَو قَالَ لعَبْدِهِ: رَأَيْت إنْسَانا، لم يحسن مِنْهُ أَن يَقُول مستفسرا: تَعْنِي بِهِ شخصا من بني آدم أم حمارا؟ لِأَن اللَّفْظَة أنباء عَن جنس بني آدم فَلم يحسن الاستفصال فِيهِ. فَهَذَا مَا يعولون عَلَيْهِ من الشّبَه.
[231] وَمِمَّا يعولون عَلَيْهِ من آي الْكتب وَسنَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام جمل من الظَّوَاهِر نومئ إِلَى أظهرها فِي مقصدكم مقصدهم ونتقصى عَنهُ لنستدل بِهِ على مثله.
[232] فَمن أظهر مَا يتمسكون بِهِ قَوْله تَعَالَى فِي تقريع إِبْلِيس: {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} وَوجه التَّمَسُّك بِهِ أَنه تَعَالَى وبخه بالامتناع عَن السُّجُود بعد توجه الْأَمر عَلَيْهِ وَأطلق تَعَالَى ذكره الْأَمر وَلم يقل إِذْ أَمرتك أَمر إِيجَاب. فَاقْتضى ذَلِك إنباء مُطلق الْأَمر عَن الْإِلْزَام والإيجاب.
وَأَشد الْأَجْوِبَة عَلَيْهِم عَن ذَلِك أَن نقُول: كَانَ أَمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود متقيدا بقرائن اقْتِضَاء الْإِيجَاب. وَاسم الْأَمر ينْطَلق على

(1/274)


المتقيد بالقرائن كَمَا ينْطَلق على الْمُطلق، فيسمى الْأَمر مَعَ قيوده المتضمنة الْإِيجَاب أمرا كَمَا يُسمى الأمرالمجرد المعري عَنْهَا أمرا.
[233] فَإِن قيل: فَمَا الْقَرَائِن الدَّالَّة على اقْتِضَاء الْإِيجَاب؟
قُلْنَا: الْجَواب عَن ذَلِك من ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن نقُول: من الْقَرَائِن مَا يتَحَقَّق عِنْد صُدُور الْأَمر من الْآمِر ويحيط المأمورعلما بهَا، وَلَا يُمكن التَّعْبِير عَنْهَا على التَّفْصِيل والتخصيص / [26 / ب] وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيل إِلَى جَحده.
وَالْوَجْه الثَّانِي: من الْجَواب أَن نقُول قد قدمنَا فِي بعض الْأَبْوَاب السالفة أَن من خاطبه الرب سُبْحَانَهُ بأَمْره لم يتَصَوَّر توصل الْمُخَاطب إِلَى الْعلم بقضية الْخطاب إِلَّا اضطرارا وَقد أوضحنا القَوْل فِي ذَلِك وَلَقَد كَانَ الرب تَعَالَى خَاطب الْمَلَائِكَة بِالْأَمر بِالسُّجُود مَعَ ارْتِفَاع الوسائط وتبليغ المبلغين فاضطرهم الله عز وَجل إِلَى الْعلم بِمُقْتَضى مَا توجه عَلَيْهِم من الْأَمر.
وَالْوَجْه الثَّالِث من الْجَواب: أَن نقُول: أَنْتُم لَا تخلون معاشر المتمسكين بِهَذَا الظَّاهِر إِمَّا أَن تَقولُوا: نعلم أَن الْأَمر المتوجه عَلَيْهِم كَانَ متجردا عَن الْقَرَائِن أَو تَقولُوا: لَا نعلم ذَلِك، فَإِن زعمتم أَنا لَا نعلم تجرده عَن الْقَرَائِن عِنْد توجهه عَلَيْهِم فقد استربتم فِيمَا بِهِ استدللتم. وَإِن أَنْتُم زعمتم أَنا نَعْرِف تجرده عَن الْقَرَائِن، فَيُقَال لكم: فَبِمَ عَرَفْتُمْ ذَلِك؟ وطرق الْعلم ومداركها مضبوطة، ونعيد عَلَيْهِم فِي ذَلِك التَّقْسِيم الَّذِي ذكرنَا فِيمَا عَلَيْهِ عولنا من الدَّلِيل على الْوَقْف. وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ.

(1/275)


[234] فَإِن قَالُوا: مَا ظهر مِنْهَا شَيْء يدل على تجرد الْأَمر عَنْهَا.
قيل لَهُم: فَمَا يؤمنكم أَنَّهَا ظَهرت لغيركم وَإِن لم تظهر لكم؟ أَو بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنَّهَا كَانَت وَلم تظهر لكم وَلَا لغيركم. إِذْ لَيْسَ من شَرط كل مَا سبق أَن ينْقل إِلَيْكُم وَإِلَى أمثالكم وَهَذَا مَا يحسم عَلَيْهِم وَجه الِاعْتِصَام بالظواهر.
[235] فَإِن قيل: إِنَّمَا عرفنَا ذَلِك من ذكر الله تَعَالَى الْأَمر مُطلقًا فِي قَوْله: {إِذْ أَمرتك} .
قُلْنَا: فاسم الْأَمر ينْطَلق على المقترن إِطْلَاقه على الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن. وَهَذَا أوضح من استدلالهم.
[236] وَمِمَّا يتشبثون بِهِ قَوْله عز وَجل: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} .
قَالُوا: فَهَذَا يَقْتَضِي وجوب كل امْتِثَال وَطَاعَة. فَيُقَال: لَهُم مَا أغفلكم عَمَّا يُرَاد بكم، أَو لسنا نازعناكم فِي أَمْثَال مَا بِهِ استدللتم، فَهَذَا الَّذِي اعْتصمَ بِهِ آنِفا من الْأَلْفَاظ الَّتِي يتَوَقَّف فِي مَعْنَاهَا وفحواها، وَكَيف تتشبثون على الْقَائِلين بِالْوَقْفِ بِمَا يتوقفون فِيهِ؟
[237] وَمِمَّا يتمسكون من السّنَن مَا روى أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ

(1/276)


لبريرة وَقد أعتقت تَحت زَوجهَا: ((لَو أَقمت تَحت هَذَا العَبْد. قَالَ: أبأمر مِنْك يَا رَسُول الله! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: لَا بل إِنَّمَا أَنا شَافِع)) وَوجه استدلالهم بِهَذَا الْخَبَر أَنَّهَا اعتقدت وجوب الِامْتِثَال لَو كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَهَا آمرا، وَلم يُنكر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَلَيْهَا فِي اعتقادها بل بَين لَهَا أَنه لَيْسَ بآمر.
قُلْنَا: هَذَا وَأَمْثَاله من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يَصح التَّمَسُّك بِهِ فِي مسَائِل الْقطع وَهَذِه الَّتِي نَحن فِيهَا مِنْهَا. ثمَّ نقُول إِطْلَاقهَا الْأَمر يتَنَاوَل الْأَمر الْمُقَيد / وَالْمُطلق، فنحمله على الْمُقَيد كَمَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا قبل، أَو نقُول لَيْسَ [27 / أ] فِيمَا قَالَت إنباء عَن اعْتِقَاد الْوُجُوب عِنْد تَقْدِير الْأَمر، فَإِنَّهَا لم تقل أفبأمر مِنْك

(1/277)


فألتزم مُوجبه، فلعلها عنت بذلك أفبأمر مِنْك موكد على التحريض وَالنَّدْب فِي الْمقَام تَحت هَذَا العَبْد.
[238] فَإِن قيل: فالشفاعة تنبئ عَن النّدب.
قُلْنَا: للوكادات رتب ودرجات والشفاعة لَا تنبئ عَن أَعْلَاهَا، فَعَاد استفصالها إِلَى ذَلِك. وَالَّذِي يُحَقّق مَا قُلْنَاهُ أَن الْمَنْقُول عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يكن من قبيل مَا يستراب فِي أَنه لَا يَقْتَضِي الْإِيجَاب، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: ((لَو أَقمت تَحت هَذَا العَبْد)) وَهَذَا مُصَرح بِنَفْي التحتم والإيجاب، مُتَرَدّد فِي دَرَجَات النّدب، وعَلى هَذَا الْوَجْه يستدلون بجمل من الْأَخْبَار، وَمَا قدمْنَاهُ ويرشدك إِلَى الِانْفِصَال عَنْهَا إِن شَاءَ الله عز وَجل.
[239] وَمِمَّا تعلقوا بِهِ من جِهَة الْإِجْمَاع وعدوه من أقوى عصمهم أَو أَشد الْكَلَام فِي الْمَسْأَلَة، أَن قَالُوا: نعلم استرواح الْأمة قاطبة فِي تثبيت وجوب الصَّلَاة وَالصِّيَام وَمَا ضاهاهما من الْعِبَادَات إِلَى قَوْله عز اسْمه: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة} فلولا أَنهم اعتقدوا إنباء الْأَوَامِر عَن الْإِيجَاب لما استروحوا فِي تثبيت الْإِيجَاب إِلَى الْأَوَامِر، ووكدوا ذَلِك بِأَن قَالُوا مَا أومأنا

(1/278)


إِلَيْهِ من الْأَوَامِر غير مقترنة بِشَيْء من الْقُيُود الدَّالَّة عنْدكُمْ، فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ختمتم بِهِ كلامكم فِيهِ أَشد النزاع، فَإِن الْأَوَامِر الَّتِي اعْتصمَ بهَا وقررتم استرواح أهل الْإِجْمَاع إِلَيْهَا مقترنة بقرائن الشَّرْع فِي اقْتِضَاء الْإِيجَاب. ثمَّ نعيد عَلَيْهِم مَا قدمْنَاهُ من التَّقْسِيم فَنَقُول: بِمَ عَرَفْتُمْ تجرد مَا ذكرْتُمْ من الْأَوَامِر عَن الْقَرَائِن؟ فَلَا يرجعُونَ إِذا حقق عَلَيْهِم إِلَّا إِلَى عدم النَّقْل، فَيُقَال لَهُم: وَلَيْسَ كل مَا اسْتندَ إِلَيْهِ الْإِجْمَاع يتَعَيَّن على المجمعين نَقله وَكم من مَسْأَلَة أجمع الْعلمَاء على حكمهَا عَن خبر أَو قِيَاس، وَلَو أردنَا نقل الأَصْل الَّذِي مِنْهُ انْعَقَد الْإِجْمَاع على التَّعْيِين لم نقدر على ذَلِك، وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ فَمَا أنكرتم أَن أهل الْإِجْمَاع أحاطوا بِهِ علما بقراين الْأَوَامِر الدَّالَّة على الْوُجُوب، واعتقدوا الْوُجُوب وَلم ينقلوها، فَهَذِهِ جمل مقنعة فِي شبه الْقَائِلين بِالْوُجُوب والتقصي عَنْهَا.
[240] فَأَما الْقَائِلُونَ بِأَن الْأَمر يَقْتَضِي النّدب فقد اعتصموا بِأَن قَالُوا: قد ثَبت بِاتِّفَاق بَيْننَا وَبَيْنكُم أَن الْأَمر يَقْتَضِي طَاعَة الْمَأْمُور واقتضاء الطَّاعَة يتَحَقَّق فِي النّدب وَإِنَّمَا يتَبَيَّن الْوُجُوب بِذكر الذَّم على ترك الْوَاجِب، فَإِذا ورد مُطلق الْأَمر حمل على الِاقْتِضَاء الْمُجَرّد والاقتضاء الْمُجَرّد يتَحَقَّق فِي النّدب، فَإِن الْوُجُوب يثبت بِقَرِينَة زَائِدَة، والملطق متعر عَنْهَا، وحقق الْمُعْتَزلَة ذَلِك عِنْد أنفسهم بِأَن قَالُوا: الْأَمر يتَضَمَّن كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر فَلَا يُنبئ عَن غير ذَلِك / وَأَقل الرتب فِي هَذَا الْمَعْنى النّدب فَحمل الْأَمر على الْأَقَل [27 / ب] المستيقن. فَيُقَال لَهُم: أول مَا نناقشكم فِيهِ أَنا لَا نَلْتَقِي على مَذْهَب فِي الْأَمر

(1/279)


فَإِن الَّذِي نصفه بِكَوْنِهِ أمرا وننعته بِكَوْنِهِ مقتضيا للطاعة هُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَأَنْتُم معاشر الْمُخَالفين تنكرون أصل ذَلِك، وَالَّذِي تثبتونه أمرا إِيمَاء مِنْكُم إِلَى الصِّيَغ والعبارات فلسنا نسلم أَنه يتَضَمَّن اقْتِضَاء الْفِعْل فَإِنَّهُ يتَرَدَّد بَين الدّلَالَة على الِاقْتِضَاء وَالْإِبَاحَة والحظر كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي صدر الْمَسْأَلَة فتصدهم هَذِه الْمُنَازعَة من مقصدهم، وَأما مَا أسندت الْمُعْتَزلَة قَوْلهَا إِلَيْهِ من كَون الْمَأْمُور مرَادا للْآمِر فَهَذَا من أعظم أصل نخالفهم فِيهِ فَإنَّا لَا نشترط تعلق الْإِرَادَة بالمأمور بِهِ، ثمَّ نقُول لَهُم بعد التعري عَن هَذِه المناقشة معولكم فِي مَا طردتموه على كَون الْأَمر مقتضيا للطاعة ثمَّ أردفتم ذَلِك بِأَن قُلْتُمْ اسْتِحْقَاق الذَّم مِمَّا لَا يُنبئ عَنهُ الِاقْتِضَاء الْمُطلق فحملناه على مُجَرّد الِاقْتِضَاء دون اسْتِحْقَاق الذَّم فَإِن اللَّفْظ لَا يُنبئ عَنهُ. فَيُقَال لكم فَإِذا حملتموه على النّدب فقد صرحتم جَوَاز تَركه وَلَيْسَ فِي اللَّفْظ إنباء عَن جَوَاز التّرْك كَمَا لَيْسَ فِي اللَّفْظ إنباء عَن اسْتِحْقَاق الذَّم وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ.
[241] فَإِن قيل: إِذا أطلق الله تَعَالَى الْأَمر وجوزنا حمله على النّدب، وَلم يبين سُبْحَانَهُ كَون تَركه مَحْظُورًا حملناه على النّدب، إِذْ لَو كَانَ مَحْظُورًا لبينه.
قيل لَهُم: فَبِمَ تنكرون على من يعكس عَلَيْكُم مَا قلتموه؟ وَيَقُول: لَو كَانَ ترك الْمَأْمُور بِهِ غير مَحْظُور لبين الله تَعَالَى نفي سمة الْحَظْر عَنهُ فيتقابل الْقَوْلَانِ على هَذَا الْمنْهَج ويتساقطان.
[242] فَإِن قَالُوا يثبت بورود الْأَمر كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر وَلَا يتَضَمَّن نفس الْأَمر جَوَاز التّرْك وَلَكنَّا نقُول: إِذا لم يكن فِي الْأَمر

(1/280)


وَمُقْتَضَاهُ تعرض لتَحْرِيم التّرْك وَلَا إِبَاحَته فَيحمل ترك الْمَأْمُور بِهِ على مَا علمناه عقلا قبل وُرُود الشَّرَائِع، قَالُوا: وَقد علمنَا الْإِبَاحَة فِيمَا لَا يسْتَدرك بِالْعقلِ تَحْرِيمه، ومحصول هَذَا الْكَلَام يؤول إِلَى أَن الْأَمر يتَضَمَّن كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا وَلَا يتَضَمَّن تعريضا لتَركه ويتوصل بِالْعقلِ استصحابا للْحَال إِلَى حكم الْإِبَاحَة فِي ترك الْمَأْمُور بِهِ.
قُلْنَا: لَو ناقشناكم فِيمَا ابتديتموه من أَحْكَام الْأَفْعَال قبل وُرُود الشَّرَائِع طَال الْكَلَام بيد أَنا نشغلكم عَن الِاعْتِصَام جملَة فَنَقُول: إِذا زعمتم أَن الْأَمر يتَضَمَّن كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا على التجرد، فَكل مَا تجرد فِيهِ كَونه مرَادا أنبأ تجرد هَذَا الْوَصْف فِيهِ عَن جَوَاز تَركه لَا محَالة، وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ.
[243] ثمَّ نقُول: مقصدنا التَّوَصُّل إِلَى الرَّد عَلَيْكُم فِي مصيركم إِلَى أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي النّدب فَإِذا اعترفتم على أَنفسكُم فِي أَنه لَا يَقْتَضِي التّرْك فقد صرحتم بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي النّدب وصرفتم قصارى كلامكم إِلَى كَون / [28 / أ] الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر. وَنحن ننكر اشْتِرَاط ذَلِك، ولعلنا نوضحه، فَأول مَا يعتصم بِهِ فِي إبِْطَال تعويلهم على كَون الْمَأْمُور مرَادا دلَالَة تحجزهم عَن إِثْبَات أصل الْإِرَادَة فَإنَّا نقُول لَهُم: قد وافقتمونا معاشر الْمُعْتَزلَة أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُرِيد بِإِرَادَة وأحلتم كَونه مرِيدا لنَفسِهِ على مَنْهَج أصلكم فِي الْحَيّ والعالم والقادر ثمَّ لما قُلْتُمْ: إِنَّه مُرِيد بِإِرَادَة أحلتم كَونه سُبْحَانَهُ مرِيدا بِإِرَادَة قديمَة وزعمتم أَنه مُرِيد بِإِرَادَة حَادِثَة فَإِذا أوضحنا بطلَان هَذَا التَّقْسِيم الَّذِي ارتضيتموه وَقد ثَبت من مذهبكم الْمصير إِلَى بطلَان مَا سواهُ من الْأَقْسَام، فَلَا يبْقى إِلَّا نفي الْإِرَادَة.

(1/281)


[244] فالدليل على بطلَان مَا ارتضوه أَن نقُول: قد ثَبت أَن الدَّلِيل الدَّال على الْإِرَادَة يخصص الْحَادِث بِبَعْض الصِّفَات والأوقات مَعَ تَقْدِير جَوَاز أَمْثَالهَا إبدالا عَنْهَا، فَبِمَ تنكرون على من يلزمكم فِي مثل ذَلِك فِي الْإِرَادَة نَفسهَا فَإِنَّهَا حَادِثَة متخصصة بالوجود عَن الْعَدَم فلئن سَاغَ استغناؤها فِي تخصصها عَن إِرَادَة سَاغَ اسْتغْنَاء كل مُرَاد عَن الْإِرَادَة.
[245] وَمِمَّا يُوضح بطلَان مَا اختاروه أَن نقُول: الْإِرَادَة الْحَادِثَة الَّتِي أثبتموها لَا تخلون فِيهَا إِمَّا أَن تزعموا أَنَّهَا قَائِمَة بِمحل مخترع، أَو ثَابِتَة لَا بِمحل فَإِن أَنْتُم زعمتم أَنَّهَا تقوم بِذَاتِهِ فقد صرحتم بِقبُول ذَاته الْحَوَادِث، وَهَذَا مِمَّا تحاشوا مِنْهُ فَلَا فَائِدَة فِي نصب الدَّلِيل عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أحالوا قيام الْإِرَادَة بِمحل مخترع فَلم يبْق إِلَّا تثبيت الْإِرَادَة لَا فِي مَحل وَأول مَا يلْزمهُم على ذَلِك تَجْوِيز قيام إرادتنا لَا فِي مَحل، وَقد أطبقوا على اسْتِحَالَة ذَلِك وَلَا محيص لَهُم عَن هَذَا. ثمَّ نقُول: الْإِرَادَة من قبيل الْأَعْرَاض وفَاقا فَإِن سَاغَ تثبيت عرض لَا فِي مَحل سَاغَ طرد ذَلِك فِي كل الْأَعْرَاض، ويستقصى ذَلِك فِي الديانَات إِن شَاءَ الله عز وَجل.
(65) فصل يلْتَحق بِمَا قدمْنَاهُ

[246] وَاعْلَم، وفقك الله أَن الْأَمر لَا يَقْتَضِي حسن الْمَأْمُور بِهِ

(1/282)


وَذَلِكَ أَن الْأَمر الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ يَقْتَضِي طَاعَة الْمَأْمُور بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء حسن الْمَأْمُور بِهِ، وَذَلِكَ أَن الْحسن على قَضِيَّة أصُول أهل الْحق لَيْسَ يرجع إِلَى وصف الْفِعْل وَنَفسه، لكنه يرجع إِلَى الْأَمر بالثناء على فَاعله على مَا سبق استقصاءه فِي بَاب الْحسن والقبيح، وَلَيْسَ فِي اقْتِضَاء الطَّاعَة أَمر بالثناء على الطَّاعَة، وَهُوَ الْمَعْنى بالْحسنِ لَا غير.
[247] وَالَّذِي صَحَّ من مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة مثل مَا ذَكرْنَاهُ وَمن المنتمين إِلَى الْأُصُول من يَحْكِي عَن الْمُعْتَزلَة اقْتِضَاء الْأَمر حسن الْمَأْمُور بِهِ، وحكاية ذَلِك على هَذَا الْإِطْلَاق غلط، وَذَلِكَ أَن الْأَمر قد يصدر من الْوَاحِد منا مُتَعَلقا بقبيح كالأمير يَأْمر أَتْبَاعه بالظلم الصَّرِيح وَرُبمَا / يُقيد أمره بِفعل الْقَبِيح [28 / ب] وَيُسمى ذَلِك أمرا على التَّحْقِيق، فمحصول أصل القَوْل أَن الْأَمر يَقْتَضِي كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر ثمَّ قَالُوا بعد ذَلِك لما تعلّقت إرادتنا بالْحسنِ والقبيح

(1/283)


لم يدل تعلق أمرنَا بالمأمور بِهِ على حسنه، والرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُرِيد إِلَّا الْحسن وَتعلق أمره بالمأمور بِهِ يَقْتَضِي كَونه مرَادا لَهُ، ثمَّ من حَيْثُ عرفنَا أَنه لَا يُرِيد الْقَبِيح توصلنا إِلَى كَون الْمَأْمُور بِهِ حسنا فَافْهَم ذَلِك من مذاهبهم فَأَما نَحن فَلَا نصير إِلَى أَن الْأَمر بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي حسنه وَلَكِن إِن ورد الْأَمر بالثناء لفَاعِله فَيحكم بحسنه لِلْأَمْرِ الثَّانِي.
(66) فصل

[248] اعْلَم، أرشدك الله أَن الْأَوَامِر الْمقيدَة باقتضاء الْإِيجَاب لَا يتَعَيَّن امتثالها إِلَّا بِأَمْر الله وَإِذا اتَّصل بِنَا أَمر من صَاحب الشَّرِيعَة أَو من الإِمَام الْقَائِم على النَّاس فامتثالنا لأوامره امْتِثَال لأمر الله تَعَالَى وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِنَّمَا يتَمَيَّز عَن أَمْثَاله وَأَضْرَابه بالمعجزة الدَّالَّة على صدقه فالمعجزة تَتَضَمَّن تَصْدِيقه وَقبُول أنبائه وتحقيقها وَلَيْسَ فِيهَا تضمن وجوب قبُول أوامره. فَيجب أَن نصدقه فِي كل مَا يخبر بِهِ وَالْأَمر الصَّادِر مِنْهُ على الاستبداد لَا يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب، وَلَكِن نقل عَن ربه أمرا دلّت المعجزة على صدقه فِي نَقله فدلتك هَذِه الْجُمْلَة على ان الممتثل على الْوُجُوب أَمر الله عز وَجل، وَإِذا أطلق ذَلِك فِي غَيره كَانَ توسعا.
(67) فصل

[249] اعْلَم، أَن أَمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قديم على مَذَاهِب أهل الْحق وَمن حكم ثُبُوت الْقدَم اسْتِحَالَة وَصفه بالْحسنِ والقبح، فَإِنَّهُمَا نعتان

(1/284)


يعتوران على الْحَوَادِث، إِذْ الْحسن رُبمَا يفهم مِنْهُ انتظام التَّرْتِيب فِي معرض يحلو فِي الأسماع، والأبصار، وَذَلِكَ بِمَا يتقدس عَنهُ الْكَلَام الْقَدِيم. وَقد يُطلق فِي اصْطِلَاح الْمُحَقِّقين وَالْمرَاد بِهِ مَا ورد الْأَمر بالثناء على فَاعله وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِيمَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ فعلا، فَكَذَلِك لَا يُوصف أَمر الْقَدِيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ أَو مُبَاحا أَو وَاجِبا أَو صَوَابا فَإِن هَذِه الصِّفَات كلهَا تتخصص بالحادثات ويجل عَنْهَا الْقَدِيم، وَأما الْأَوَامِر الْحَادِثَة الصادرة من الْمُحدثين مقدورة لَهُم فتتصف بالْحسنِ والقبح وَالْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة، فَإِنَّهَا من أفعالهم فَيجوز أَن تتصف بِمَا تتصف بِهِ سَائِر أفعالهم الدَّاخِلَة تَحت التَّكْلِيف.
[250] ثمَّ اعْلَم أَن الْمَأْمُور بِهِ قد يكون ندبا وَالْأَمر بِهِ وَاجِب فَإنَّا لَا نستبعد أَن يُوجب الرب تَعَالَى على الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام الْأَمر بالندب فَيكون الْأَمر وَاجِبا عَلَيْهِ والمأمور بِهِ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ فِي حق الْمَأْمُور.
(68) القَوْل فِي حكم القَوْل ((افْعَل)) إِذا ورد / بعد الْحَظْر وَالْمَنْع
[29 / أ]
[251] إِذا ثَبت الْحَظْر فِي شَيْء ثمَّ يعقبه قَول: ((افْعَل)) فقد اخْتلف الْعلمَاء، فَمَا صَار إِلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي أظهر أجوبته أَن وُرُود هَذَا

(1/285)


اللَّفْظ بعد تقدم الْحَظْر يَقْتَضِي الْإِبَاحَة وَإِلَى نَحْو ذَلِك صَار جمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين وَمن الْعلمَاء من فصل القَوْل فِي ذَلِك فَقَالَ: إِن ثَبت الْحَظْر ابْتِدَاء غير مُعَلّق بِسَبَب ثمَّ تعقبه لفظ الْأَمر اقْتضى لفظ الْأَمر الْوُجُوب وَإِن علق التَّحَرُّم بِسَبَب ثمَّ عقب ارْتِفَاع ذَلِك السَّبَب بِلَفْظ الْأَمر اقْتضى ذَلِك الْإِبَاحَة. وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما حرم الصَّيْد

(1/286)


وعلق تَحْرِيمه بِالْإِحْرَامِ ثمَّ قَالَ عِنْد انقضائه: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} اقْتضى ذَلِك الْإِبَاحَة وَكَأن جملَة الْكَلَام تتنزل منزلَة تَعْلِيق الحكم على الْغَايَة وَمن حكم التَّعْلِيق على الْغَايَة ارْتِفَاع الحكم بارتفاعها وَهَذَا أَسد مَذْهَب لهَؤُلَاء. فَأَما الَّذِي نختاره فَهُوَ أَن الْأَمر بعد سبق الْحَظْر كالأمر من غير سبقه وَإِن فَرضنَا الْكَلَام فِي الْعبارَة فَهِيَ بعد الْحَظْر كهي من غير حظر يسْبق وَقد فرط من أصلنَا الْمصير إِلَى الْوَقْف وَهَا نَحن عَلَيْهِ فِي صُورَة التَّنَازُع كَمَا ارتضيناه فِي صُورَة الْإِطْلَاق من غير تقدم حظر.

(1/287)


[252] وَالدَّلِيل على فَسَاد مَا صَار إِلَيْهِ من زعم أَن لفظ الْأَمر يَقْتَضِي الْإِبَاحَة بعد الْحَظْر، أَن نقُول: تَقْدِير إِثْبَات الْإِيجَاب بعد الْحَظْر مِمَّا لَا يَسْتَحِيل كَمَا لَا يَسْتَحِيل تَقْدِير ثُبُوته ابْتِدَاء وَكَذَلِكَ القَوْل فِي النّدب وَاللَّفْظ الَّذِي فِيهِ الْكَلَام بعد الْحَظْر يضاهي اللَّفْظ الْوَارِد ابْتِدَاء فَلَا اثر للحظر السَّابِق فِي نفي الْوُجُوب تصورا وَلَا [حَظّ] فِي تَغْيِير نفس الصِّيغَة.
[253] فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْحَظْر السَّابِق قرينَة تَقْتَضِي حمل اللَّفْظ المتعقب لَهُ على الْإِبَاحَة.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي قلتموه بَاطِل من أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول: الْحَظْر كَمَا يُنَافِي الْوُجُوب فَكَذَلِك يُنَافِي الْإِبَاحَة وَمن المستحيل أَن يكون الشَّيْء قرينَة فِي ثُبُوت نقيضه، وَلَئِن سَاغَ أَن يكون قرينَة فِي الْإِبَاحَة وَهُوَ نقيضها سَاغَ أَن يكون قرينَة فِي اقْتِضَاء الْإِيجَاب فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا يناقضه.
وَالْجَوَاب الآخر: أَن نقُول: لَو صَحَّ مَا قلتموه للَزِمَ أَن تَقولُوا: إِذا فرط الْإِيجَاب وَسبق التحتم ثمَّ تعقبته لَفْظَة تَقْتَضِي تَحْرِيمًا لَو قدرت مُطلقَة أَنَّهَا

(1/288)


لَا تحمل على التَّحْرِيم وَقد قُلْتُمْ جَمِيعًا أَنَّهَا مَحْمُولَة على التَّحْرِيم فَبَطل مَا قلتموه جملَة وتفصيلا.
[254] فَإِن استروحوا إِلَى أَن قَالُوا: إِذا علق التَّحْرِيم بِسَبَب ثمَّ عقب ارتفاعه بِلَفْظ الْأَمر تنزل ذَلِك منزلَة تَعْلِيق الحكم على الْغَايَة قيل لَهُم: هَذِه دَعْوَى مِنْكُم فَإِن صِيغَة التَّعْلِيق / على الْغَايَة أَن يَقُول الْقَائِل: حرمت عَلَيْك [29 / ب] الصَّيْد مَا دمت محرما، فَهَذَا هُوَ التَّعْلِيق على الْغَايَة فَأَما ذكر لفظ الْأَمر بعد تَقْدِير ارْتِفَاع سَبَب فَلَيْسَ من صِيغَة التَّعْلِيق على الْغَايَة، لَا صَرِيحًا وَلَا ضمنا، ثمَّ هَذَا يَنْقَلِب عَلَيْهِم فِي وجوب سَابق تعقبه لفظ التَّحْرِيم فَإِنَّهُ لَا يحمل على نفي الْوُجُوب على التجرد بل يحمل على الْحَظْر الْمُحَقق عِنْدهم.
[255] فَإِن تمسكوا بظواهر من الْكتاب مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} .
وَقَوله: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا} .
فَيُقَال لَهُم زعمتم أَنه إِذا ورد لفظ على الندور والشذوذ فِي مورد مَخْصُوص وَجب طرده عُمُوما، وَأول مَا يلزمكم من ذَلِك معاشر الْقَائِلين

(1/289)


بِالْعُمُومِ أَن مُعظم الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة لاستيعاب الْأَجْنَاس عنْدكُمْ وَردت مخصصة بِبَعْض المحتملات ثمَّ لم يقتض ذَلِك نفي الْعُمُوم عنْدكُمْ، وَهَذَا بَين الْبطلَان. ثمَّ مَا اعتضدوا بِهِ يُعَارضهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} .
(69) القَوْل فِي أَن الْأَمر بِالْفِعْلِ أَمر بِفعل مَا لَا يتم إِلَّا بِهِ

[256] اعلموا، وفقكم الله أَن الَّذِي لَا يتم فعل الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بِهِ يَنْقَسِم، فَمِنْهُ مَا هُوَ من فعل الله تَعَالَى، وَلَيْسَ من قبيل مقدورات الْعباد، وَمِنْه مَا هُوَ من جنس مقدورات الْعباد. فَأَما مَا هُوَ من فعل الله تَعَالَى فينقسم قسمَيْنِ: فَمِنْهُ مَا لَا يتم فعل الْمَأْمُور بِهِ وَلَا تَركه إِلَّا بِهِ، وَمِنْه مَا لَا يتم فعل الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بِهِ ويتقدر تَركه دونه، فَأَما مَا لَا يحصل الْمَأْمُور بِهِ وَلَا تَركه إِلَّا بِهِ فينقسم قسمَيْنِ:

(1/290)


أَحدهمَا: مَا يتَضَمَّن الْخُرُوج عَن تصور فهم الْخطاب فَمَا هَذَا سَبيله فيستحيل مَعَه ثُبُوت الْخطاب وَهَذَا كَمَا نحيل تَكْلِيف الْمَيِّت والجماد والبهائم، فَإِن فِيهَا مَعَاني تضَاد فهم الْخطاب. وَمن أجَاز من أَصْحَابنَا تَكْلِيف الْمحَال منع من هَذَا الْقَبِيل، فَأَما مَا لَا يُنَافِي فهم الْخطاب وَلَكِن لَا يتَحَقَّق فعل الْمَأْمُور بِهِ وَلَا تَركه إِلَّا بمحصوله وَذَلِكَ نَحْو تَكْلِيف الْعلم الَّذِي يَقع مَقْدُورًا عَن دَلِيل من غير نصب دَلِيل نَحْو تَكْلِيف الْمَشْي مَعَ عدم الْآلَة من الرجل وَغَيرهَا من الْجَوَارِح، فَمَا هَذَا سَبيله فَهَل يجوز وُرُود التَّكْلِيف بِهِ مَعَ عدم مَا هُوَ شَرط فِي وُقُوعه وَوُقُوع تَركه؟ هَذَا يَنْبَنِي على تَجْوِيز تَكْلِيف الْمحَال وَمَا لَا يُطَاق، فَمن جوزه - وَهُوَ مَذْهَب شَيخنَا رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ أصح - أجَاز ذَلِك. وَمن منع تَكْلِيف الْمحَال منع التَّكْلِيف فِي الْقَبِيل الَّذِي أومأنا إِلَيْهِ.

(1/291)


[257] فَإِن قيل: التَّوَصُّل إِلَى الْعلم الْوَاقِع عَن النّظر يتَحَقَّق تعذره من غير دَلِيل، فَمَا وَجه تَحْقِيق تعذر الْإِقْدَام على تَركه ليتَحَقَّق قَوْلكُم: إِن انْتِفَاء الدَّلِيل يَنْفِي تصور الْعلم وَتَركه؟
[30 / أ] قيل: التّرْك الْمُطلق فِي / أَحْكَام التَّكْلِيف هُوَ التّرْك الْوَاقِع مَقْدُورًا، وَترك الْعلم فِي المسؤول عَنهُ لَا يتَصَوَّر ان يَقع مَقْدُورًا، فَإِن الدَّلِيل إِذا انْتَفَى تعين ضد الْعلم اضطرارا، من غير تَقْدِير اقتدار وَاخْتِيَار، وَكَذَلِكَ فقد الْجَارِحَة الَّتِي هِيَ آلَة الْمَشْي تمنع تصور الْمَشْي وَتَركه جَمِيعًا على الْوَجْه الَّذِي جوزناه من كَون التّرْك مَقْدُورًا دَاخِلا تَحت التَّكْلِيف. وَهَذَا كَلَام فِي قسم وَاحِد وَهُوَ أَن يكون وُقُوع الْمَأْمُور بِهِ وَتَركه جَمِيعًا على حكم التَّكْلِيف مَوْقُوفا على فعل من أَفعَال الله جلّ اسْمه خَارج عَن مقدورات الْمُكَلّفين.

(1/292)


[258] فَأَما مَا هُوَ من فعل الله وَلَكِن فَقده يمْنَع من تصور الْمَأْمُور بِهِ، وَلَا يمْنَع تَصْوِير تَركه مَقْدُورًا مُخْتَارًا، فَهُوَ نَحْو الْقُدْرَة فَإِن عدم الْقُدْرَة على الْقيام يمْنَع تصور الْقيام مَقْدُورًا وَلَا يمْنَع تصور ضِدّه مَقْدُورًا، فَمَا هَذَا سَبيله لَا يَنْفِي التَّكْلِيف وجوازه، وَلذَلِك جَوَّزنَا وُرُود الْأَمر بِالْقيامِ فِي حَال قعُود الْمُكَلف وَإِن كَانَت الْقُدْرَة على الْقيام مفقودة فِي حَال الْقعُود فَهَذِهِ جملَة فِيمَا هُوَ من فعل الله عز وَجل مقنعة إِن شَاءَ الله عز وَجل.
[259] فَأَما مَا لَا يتم وُقُوع الْمَأْمُور بِهِ موقع الْأَجْزَاء إِلَّا بِهِ وَهُوَ من فعل الْمُكَلف فَهُوَ نَحْو الطَّهَارَة وَالصَّلَاة، وَمَا ضاهاهما من الْعِبَادَة الْمَشْرُوطَة وشرائطها فَإِذا تقرر فِي الشَّرْع وجوب الصَّلَاة وتقرر توقف أَجْزَائِهَا على الطَّهَارَة فَالْأَمْر بِالصَّلَاةِ على اقْتِضَاء الْإِيجَاب يتَضَمَّن الْأَمر بِالطَّهَارَةِ لَا محَالة، وَقد أنكر ذَلِك شرذمة من الْمُعْتَزلَة ولقب المسئلة يُغْنِيك عَن نصب الدّلَالَة عَلَيْهَا، بيد أَنا نحرر مَا يُوضح الْحق فِي ذَلِك فَنَقُول: إِذا تقرر وقُوف وُقُوع الصَّلَاة موقع الْأَجْزَاء على الطَّهَارَة ثمَّ ثَبت إِيجَاب صَلَاة مجزئة وَاقعَة موقع الْأَجْزَاء فَلَا يتَقَدَّر فِي الْعقل إِيجَابهَا على هَذَا النَّعْت مَعَ تَجْوِيز الْإِبَاحَة أَو النّدب فِيمَا هُوَ مَشْرُوط فِي أَجْزَائِهِ إِذْ لَو قدر ذَلِك فِي شَرطه تداعى ذَلِك إِلَيْهِ. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن النُّطْق بِغَيْر ذَلِك مُسْتَحِيل فِي الْمَعْنى إِذْ لَو قَالَ الْقَائِل: فرضت عَلَيْك الصَّلَاة الصَّحِيحَة تحتما وتعينا وَلَا تصح مِنْك إِلَّا بِالطَّهَارَةِ وَأَنت بِالْخِيَارِ فِيهَا، كَانَ ذَلِك من متناقض الْكَلَام، فَإِذا اسْتَحَالَ تَقْدِير الْإِبَاحَة والحظر وَالنَّدْب فِي شَرط صِحَة الصَّلَاة لم يبْق إِلَّا تثبيت الْوُجُوب.

(1/293)


[260] فَإِن قيل: أفتقولون على طرد مَا عهدتموه أَن الْأَمر بِالصَّلَاةِ أَمر بِطَلَب المَاء وانتزاحه والتسبب إِلَى تَحْصِيله بالتردد والتطلب.
قيل لَهُم: هَذَا مَا نقُوله طرد لما قدمْنَاهُ، فَإِن قيل: فأوجبوا ابتياع المَاء بِثمن غال مَعَ الاقتدار.
قيل لَهُم: قد ورد الشَّرْع بِنَفْي وجوب ابتياع المَاء فِي الصُّورَة الَّتِي ذكرتموها [وَورد] الشَّرْع بِأَن الصَّلَاة دون اسْتِعْمَال المَاء وَالتَّيَمُّم يقوم

(1/294)


مقَامه، فتبعنا مورد الشَّرْع، وَإِنَّمَا / الْمَقْصد من سِيَاق المسئلة تثبيت كَون [30 / ب] الطَّهَارَة مندرجة تَحت الْأَمر بِالصَّلَاةِ حَيْثُ يدل الشَّرْع على توقف صِحَة الصَّلَاة الْوَاجِبَة عَلَيْهَا وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ.
[261] فَإِن قيل: فأوجبوا على الْمَرْء التَّسَبُّب إِلَى جَمِيع أَسبَاب الْجُمُعَة مَعَ الاقتدار حَتَّى يلْزم من ذَلِك أَن يبتنى دَار مقَام وَيجمع فِيهَا أَرْبَعِينَ من القاطنين الموصوفين بِالصِّفَاتِ المضبوطة فِي شَرَائِط انعاقد الْجُمُعَة.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا يلْزم فَإِنَّهُ كَمَا ورد الشَّرْع بتوقيف صِحَة

(1/295)


الْجُمُعَة على وجوب مَا أومأتم إِلَيْهِ من الشَّرَائِط، فَكَذَلِك وُرُود الشَّرْع بتوقيف وُجُوبهَا على تحقق الشَّرَائِط فَلَو قَدرنَا أمرا بِالْجمعَةِ مُوجبا من غير شَرط ثُبُوت الشَّرَائِط مَعَ التَّنْصِيص على أَنَّهَا لَا تصح دونهَا لاقتضى الْأَمر بِالْجمعَةِ وَالْحَالة هَذِه وجوب التَّسَبُّب إِلَى كل مَا يقتدر عَلَيْهِ.
[262] فَإِن قيل: أَو لَيْسَ الْفُقَهَاء قَالُوا: إِن اسْتِيعَاب أَجزَاء الْوَجْه فِي الْوضُوء لما لم يتأت إِلَّا بِأخذ أَجزَاء من الرَّأْس فَيكون إِيصَال المَاء إِلَى أَجزَاء من الرَّأْس [مَنْدُوبًا] وَإِن كَانَ لَا يتَوَصَّل إِلَى اسْتِيعَاب الْوَجْه إِلَّا بإيصال المَاء إِلَيْهَا.
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا نرتضيه، وَذَلِكَ أَنا نقُول: مَا لَا يتم غسل الْوَجْه إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب فِي نَفسه وعَلى هَذَا يجْرِي فِي اسْتِصْحَاب الْإِمْسَاك عَن المفطرات فِي أَجزَاء لَطِيفَة من أول اللَّيْل فَإِنَّهُ لَا يقتدر على إِيقَاع الْفطر مَعَ أول جُزْء من اللَّيْل وَيكثر نَظَائِر ذَلِك فِي الشَّرْع، وَمن صَار إِلَى أَن ذَلِك ندب فقد صرف بِمَا لم يعرف فَإِنَّهُ إِذا رد إِلَى التَّحْقِيق، وَقيل لَهُ: إِذا لم يقتدر على الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَلَو قدر تَركه تعطل الْوَاجِب لَا محَالة فَمَا معنى نَعته بالتطوع وَهَذَا وَصفه، فَلَا يُبْدِي مَعَ هَذَا السُّؤَال مقَالا لَهُ تَحْقِيق.
[263] فَإِن قيل: فَهَل تحدون الْأَجْزَاء الَّتِي تغسل من الرَّأْس؟

(1/296)


قيل: هَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى تحديده فِي مجاري الْعَادَات وَإِنَّمَا الْمرجع فِيهِ إِلَى إِطْلَاق القَوْل بِأَن مَا لَا بُد مِنْهُ فِي التَّوَصُّل إِلَى أَدَاء الْوَاجِب فَهُوَ وَاجِب وَلَا يتَقَدَّر بمبلغ تحيط بِهِ الْعبارَة وَهَذَا كَمَا أَن الرُّكُوع وَالسُّجُود وَنَحْوهمَا من أَرْكَان الصَّلَاة قد أوجب مُعظم الْعلمَاء فِيهَا الطُّمَأْنِينَة وَلَو أردنَا أَن نضبط مبلغ مَا فِي الرُّكُوع، من الحركات والسكنات لم نجد إِلَى ذَلِك طَرِيقا.
[264] فَإِن قيل: إِذا اخْتَلَط محرم بِمُحَلل كالمايع الطَّاهِر يخالط المَاء النَّجس فَهَل تحكمون بِتَحْرِيم الْكل أم تحكمون بِتَحْرِيم النَّجس؟
قيل لَهُم: إِن تعذر التَّمْيِيز وتعسر الإفزاز فَالْكل محرم إطلاقا

(1/297)


وَلَا يتخصص التَّحْرِيم بالأجزاء النَّجِسَة أَولا، وفروع الِاخْتِلَاط تطول واستقصاؤها يَلِيق بِغَيْر هَذَا الْفَنّ وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ مقنع فِي مقصدنا.
(70) القَوْل فِي أَن مُطلق الْأَمر هَل يَقْتَضِي التكرارا [أم] يَقْتَضِي الْفِعْل مرّة وَاحِدَة

[265] اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْأَمر إِذا تضمن اقْتِضَاء الْفِعْل وَكَانَ مُطلقًا متعريا عَن الْقَرَائِن الدَّالَّة على اقْتِضَاء التّكْرَار فَلَا يَقْتَضِي الْفِعْل إِلَّا مرّة وَاحِدَة، وتبرأ الذِّمَّة بهَا عَن مُوجب الْأَمر، وَإِلَى ذَلِك صَار الجماهير من الْفُقَهَاء. وَذهب الأقلون إِلَى أَن الْأَمر الْمُطلق فِي مورده

(1/298)


يتَضَمَّن تكْرَار الِامْتِثَال فِي الْمَأْمُور بِهِ واستغراق جملَة الْأَوْقَاف على الِاتِّصَال مَعَ انتقاء الِاضْطِرَار والاعتذار.
[266] وَمن صَار إِلَى حمل الْأَمر مرّة وَاحِدَة زعم ان مطلقه يَقْتَضِي الْمرة الْوَاحِدَة دون مَا عَداهَا، فَلَا تحْتَمل اللَّفْظَة الْمُطلقَة إِلَّا الْمرة الْوَاحِدَة دون مَا عَداهَا.
[267] وَقَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يجب أَن نرتضي أَن يُقَال إِذا ثَبت اقْتِضَاء الْفِعْل بِالْأَمر الْوَاصِل مُطلقًا فَيحمل على وجوب الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة وَهُوَ لَا يُنبئ عَن نفي مَا عَداهَا وسواها، وَلَكِن يتَرَدَّد الْأَمر فِي الزَّائِد على الْمَرْء الْوَاحِدَة.

(1/299)


[268] وَهَذَا الْمَذْهَب يُخَالف مَذْهَب الْأَوَّلين فَإِنَّهُم قطعُوا بِأَن الْأَمر العاري المتجرد عَن قَرَائِن التّكْرَار يحمل على الْمرة الْوَاحِدَة وَلَا يحمل تضمن غَيرهَا، فَافْهَم ذَلِك الْفَصْل بَين الْمذَاهب.
[269] وَالدَّلِيل على مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي رَحمَه الله أَن نقُول: إِذا بدر الْأَمر وَاللَّفْظ الدَّال عَلَيْهِ من الْآمِر مُطلقًا حسن الاستفصال والاستفهام والاستعلام فِي تَكْرِير الِامْتِثَال والاكتفاء بالمرة الْوَاحِدَة فَإِن الرجل إِذا قَالَ

(1/300)


لعَبْدِهِ: ((اضْرِب زيدا)) حسن مِنْهُ أَن يَقُول: ((اضربه مرّة وَاحِدَة ثمَّ أكرر عَلَيْهِ عودا على بَدْء)) ؟ فَلَمَّا حسن الِاسْتِفْهَام دلّ على أَن مُطلق اللَّفْظ لَا يُنبئ عَنهُ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو قَالَ: ((اضربه عشر مَرَّات)) ، لم يحسن مِنْهُ أَن يَقُول: ((أضربه خَمْسَة، أم عشرَة)) ؟ ويعتضد مَا ذَكرْنَاهُ بقول سراقَة بن مَالك لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَقد اتَّصل بِهِ الْأَمر بِالْحَجِّ فَقَالَ: ((احجتنا هَذِه لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد)) وَهَذَا استفصال مِنْهُ فِي تكْرَار الْمِثَال: فَلَو كَانَ مُطلق الْأَمر

(1/301)


يَقْتَضِيهِ لما خَفِي على مثل سراقَة هَذَا مَعَ مَكَانَهُ من صميم الْعَرَب العاربة، وَلما أقره رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على تردده فِي الصِّيغَة، وللخصوم أسئلة على مَا ذَكرْنَاهُ، نومي إِلَيْهَا فِي بَاب التَّرَاخِي والفور إِن شَاءَ الله عز وَجل.
[270] وَقد تمسك نفاة التّكْرَار بحروف لَا يَصح معظمها وَهَا نَحن نذكرها ونتتبعها بِالنَّقْضِ فمما عولوا عَلَيْهِ أَن قَالُوا الِامْتِثَال والمخالفة فِي الْأَمر وَالنَّهْي يتنزلان منزلَة الْبر والحنث فِي الْقسم، ثمَّ نَحن نعلم أَن من قَالَ: وَالله لأصلين ثمَّ صلى مرّة وَاحِدَة برت يَمِينه، وَلم يتَوَقَّف برهَا على مَا عَداهَا، فَكَذَلِك الِامْتِثَال، وَهَذَا مَا لَا معتصم فِيهِ، فَإِن قصاراه قِيَاس الْأَمر على الْقسم. واللغة لَا تثبت قِيَاسا لما أوضحنا فِي بَابه.
[31 / ب] [271] وَمِمَّا / عدوه من عمدهم قَوْلهم: الْفِعْل لَا يُنبئ عَن التّكْرَار إِذا كَانَ خَبرا، فَكَذَلِك الْأَمر الْمُطلق لَا يُنبئ عَن تَكْرِير الِامْتِثَال، وعنوا بذلك أَن من قَالَ: ((فعل فلَان)) لم يُنبئ ذَلِك عَن إقدامه على الْفِعْل استغراقا

(1/302)


للأوقات واللحظات. وَهَذَا يفْسد بِمَا فسد بِهِ الِاعْتِبَار بالقسم فَإِن مآله التَّمَسُّك بالمقاييس فِي اللُّغَات، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
[272] وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ أَن قَالُوا لَو قَالَ الرجل لامْرَأَته: ((طَلِّقِي نَفسك)) لم تستفد إِلَّا تَطْلِيقَة وَاحِدَة، فَهَذَا أقرب مِمَّا قدمْنَاهُ فَإِن تمسك بِمَا هُوَ على صِيغَة الْأَمر، وَيدخل عَلَيْهِ شَيْء، وَهُوَ أَن يُقَال ظَاهر اللَّفْظ يَقْتَضِي التسليط على التّكْرَار وَلَكِن منع مِنْهُ دَلِيل الشَّرْع، وَمَا هَذَا أول لفظ أزيل عَن ظَاهره، وَهَذَا كَمَا أَن الرجل إِذا قَالَ: لفُلَان عَليّ ثَلَاثَة دَرَاهِم، ثمَّ فَسرهَا بالمعدودة لم يقبل مِنْهُ حَتَّى يُفَسِّرهَا بالوازنة وَإِن [كَانَ] الِاسْم ينْطَلق على المعدودة فِي حَقِيقَة اللُّغَة وَكَذَلِكَ ينْطَلق على المغشوشة، وَلَا يقبل مِنْهُ إِلَّا النقرة الْخَالِصَة، والتعويل على مَا قدمْنَاهُ.

(1/303)


[273] شُبْهَة الصائرين إِلَى أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي التّكْرَار فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا النَّهْي يَقْتَضِي الْكَفّ عَن المنهى عَنهُ فِي عُمُوم الْأَوْقَات فَكَذَلِك الْأَمر وَجب أَن يَقْتَضِي الِامْتِثَال عُمُوما، وقرنوا ذَلِك بِأَن قَالُوا الْأَمر فِي الْوَضع على مضادة النَّهْي فَوَجَبَ أَن يكون الْمَعْقُول من الْأَمر ضد الْمَعْقُول من النَّهْي فَإِذا فهم من النَّهْي وجوب الْكَفّ عُمُوما وَجب أَن يفهم من الْأَمر وجوب الْإِقْدَام عُمُوما. وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ فَإِذا ثَبت كَون النَّهْي مستوعبا للأوقات فِي اقْتِضَاء الْكَفّ، وَالْأَمر يتَضَمَّن النَّهْي، فَهَذَا تَصْرِيح باقتضاء الْأَمر بالتكرار على الِاسْتِغْرَاق.
[274] وَقد أجَاب أَصْحَابنَا عَن ذَلِك بأوجه مدخولة، مِنْهَا: أَن قَالُوا: نفصل بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات فِي الْأَمر وَالنَّهْي كَمَا فصلنا بَينهمَا فِي الْقسم، وإيضاح ذَلِك أَنه قَالَ: ((وَالله لَا تفعل) فَيتَعَلَّق بره فِي يَمِينه بامتناعه عَن الْفِعْل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ عُمُوما، وَإِذا قَالَ: ((وَالله لَأَفْعَلَنَّ)) لم يتخصص الْبر بالمداومة على الْفِعْل. وَلَا يَصح الِاعْتِمَاد على ذَلِك اسْتِدْلَالا وَلَا انفصالا لما قدمْنَاهُ ذكره.
[275] وَمن أَصْحَابنَا من أجَاب عَن النَّهْي بِأَن قَالَ: لما وجدنَا النَّهْي

(1/304)


فِي مُطلق اللُّغَة متضمنا كفا على الْعُمُوم حملناه عَلَيْهِ استغراقا، وَلما وجدنَا الْأَمر على خلاف ذَلِك اقْتِضَاء الِاسْتِيعَاب جرينا على الْمَعْهُود مِنْهُ.
/ ويتضح ذَلِك بالمثال فَإِن الرجل إِذا قَالَ لعَبْدِهِ: لَا تضرب زيدا، [32 / أ] وَلَا تدخل الدَّار، فهم من ذَلِك عِنْد الاطلاق الدُّعَاء إِلَى الْكَفّ عُمُوما، وَمثله لَو قَالَ ادخل الدَّار أَو اضْرِب زيدا، لم يفهم من ذَلِك إدمان الدُّخُول والمواظبة على الضَّرْب ففرقنا بَينهمَا رُجُوعا منا إِلَى مُقْتَضى اللُّغَة فِي الْإِطْلَاق وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن من قَالَ لعَبْدِهِ: اضْرِب زيدا، فَضَربهُ ضَرْبَة وَاحِدَة سمي مُطيعًا ممتثلا لِلْأَمْرِ وَلَو نَهَاهُ عَن ضربه فَضَربهُ مرّة وَاحِدَة سمي مُخَالفا لقضية النَّهْي، وَهَذَا مِمَّا ذكره الْأَصْحَاب ((أشبههَا وأمثلها، وَهُوَ مَدْخُول أَيْضا فَإِن التَّمَسُّك بأعيان الْأَوَامِر فِي خُصُوص الْحَوَادِث لَا يَلِيق بالتحقيق، إِذْ يسوغ للخصم ادِّعَاء الْقَرَائِن فِيهَا)) .
وَلَو طرقنا هَذَا الْقَبِيل إِلَى قَوَاعِد الْأُصُول لتشاكلت الْأَقْوَال فَإِن الْأَمر قد يحمل على التّكْرَار فِي بعض موارده. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك مَا يتَمَسَّك بِهِ الْقَائِلُونَ بالتكرار من الحَدِيث الْمَشْهُور فِي الْأَمر بِضَرْب الشَّارِب فَإِنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَمر أَصْحَابه بِضَرْب شَارِب الْخمر الْمَرْفُوع إِلَى مَجْلِسه فوالو عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ حَتَّى نَهَاهُم، وَلم يفهموا من مُطلق الْأَمر الضَّرْب مرّة وَاحِدَة وَكَذَلِكَ إِذا

(1/305)


قَالَ الْإِنْسَان لمن دونه احفظ هَذِه الدَّابَّة وَمر الْآمِر على وَجهه فَلَو أَن الْمَأْمُور حفظهَا لَحْظَة ثمَّ سيبها لم يعد ممتثلا فالتمسك بِمَا هَذَا وَصفه حيد عَن سَبِيل التَّحْقِيق.
[276] وَالْأولَى عندنَا فِي التَّقَصِّي عَمَّا عولوا عَلَيْهِ عَن النَّهْي شَيْئَانِ، أَوْمَأ إِلَيْهِمَا القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَحدهمَا أَن قَالَ: لست أسلم أَن النَّهْي يسْتَغْرق الْأَوْقَات بِوُجُوب الْكَفّ وَلَكِن يَقْتَضِي الِانْتِهَاء مرّة وَاحِدَة وَإِن حمل على الدَّوَام فَهُوَ بقرائن تَقْتَضِيه كَمَا حملت جملَة من الْأَوَامِر فِي الشَّرِيعَة على التّكْرَار كالأمر بِالْإِيمَان وَنَحْوه، ثمَّ لم يدل ذَلِك على اقْتِضَاء الْأَمر للتكرار وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه كَمَا يحسن الاستفصال على الدَّوَام والاكتفاء بالمرة الْوَاحِدَة فَكَذَلِك يحسن ذَلِك فِي النَّهْي، فَإِن الرجل إِذا قَالَ لعَبْدِهِ: ((لَا تضرب زيدا وَلَا تشتر لَحْمًا)) فَيحسن من العَبْد أَن يَقُول لَا أضربه أبدا، وَلَا أَشْتَرِي اللَّحْم سرمدا أم أكف عَنْهُمَا زَمنا؟ فَلَمَّا حسن الاستفصال، كَانَ ذَلِك على مَا قُلْنَاهُ، وَلَا يبْقى للخصوم إِلَّا التثبت بدعاوى التشنيع.
ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَلَو قدر تَسْلِيم ذَلِك بِمَا فِيهِ مستروح فَإِن قصارى مَا فِيهِ قِيَاس الْأَمر على النَّهْي. وقضايا اللُّغَة لَا تثبت قِيَاسا لما أوضحناه فِي بَاب مُفْرد.

(1/306)


[277] فَإِن قَالَ قايل: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن أضداده وأعادوا مَا قدروه فِي دليلهم وراموا بذلك / الْخُرُوج والتنصل عَن تثبيت اللُّغَات [32 / ب] بِالْقِيَاسِ. فَنَقُول لَهُم: الْمصير إِلَى الْقيَاس فِي تَقْرِير هَذَا الْكَلَام ألزم لكم من طوق الْحمام للحمام. وَذَلِكَ أَنا رُبمَا لَا نسلم أَن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي نهيا عَن ضِدّه، وَكَيف نسلم ذَلِك مَعَ مصيرنا إِلَى تَجْوِيز الْأَمر بِجمع الضدين، فَكيف يكون الْأَمر بالشَّيْء يتَضَمَّن نهيا عَن ضِدّه، ثمَّ نقُول لَهُم: لَو سلم لكم ذَلِك، فَلم زعمتم أَن مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمر ضمنا يتنزل منزلَة مَا يُصَرح بِهِ من النَّهْي، فَهَل هُوَ إِلَّا اعْتِبَار الضمن بِالصَّرِيحِ وَهُوَ عين الْقيَاس وَالله أعلم. ثمَّ نقُول إِنَّمَا يتَضَمَّن الْأَمر بالشَّيْء النَّهْي عَن الْوَجْه الَّذِي يتَضَمَّن الِامْتِثَال فَإِذا اقْتضى الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة تضمن نهيا عَن التّرْك مرّة وَاحِدَة. وَهَذَا لِابْنِ مُجَاهِد رَحمَه الله.

(1/307)


[278] وَمِمَّنْ ينتمي إِلَى الْأُصُول من يفرق بَين الْأَمر وَالنَّهْي وَيَقُول الْكَفّ عَن المنهى عَنهُ لَا مشقة فِيهِ عُمُوما وَفِي امْتِثَال الْأَمر على الْعُمُوم أعظم الْمَشَقَّة وَهَذَا مَدْخُول فَإِن قضايا الْأَلْفَاظ لَا تخْتَلف بالمشقات والتيسير، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْأَمر لَو كَانَ متقيدا باقتضاء التّكْرَار حمل على مَا قدمْنَاهُ.
[279] وَمِمَّا يتَمَسَّك بِهِ الْقَائِلُونَ بالتكرار أَن قَالُوا: الْأَمر إِذا ورد مقتضيا إِيجَابا يتَضَمَّن ثَلَاثَة أَشْيَاء.
أَحدهَا: امْتِثَال الْأَمر. وَالثَّانِي: اعْتِقَاد الْوُجُوب فِي فعل الْمَأْمُور، وَالثَّالِث: إبرام الْعَزْم على الِامْتِثَال. ثمَّ لَا يتخصص الْعَزْم واعتقاد الْوُجُوب والإلزام بأوان وزمان، فَكَذَلِك الِامْتِثَال وَهَذَا واه جدا، وَذَلِكَ أَنا نقُول:

(1/308)


أما اعْتِقَاد الْإِيجَاب فمرتب على الْإِيجَاب والإبرام فَكَمَا ثبتنا أَن وجوب الِامْتِثَال عِنْد تَقْيِيد الْأَمر بِالْإِيجَابِ وَإِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْمرة الْوَاحِدَة والمصير إِلَى أَن إدامة الِاعْتِقَاد مُتَعَيّن كَذَلِك. فَإِنَّهُ لَو اتَّصل بِهِ الْأَمر الْمُقْتَضى وجوب الِامْتِثَال واعتقد الْوُجُوب ثمَّ أخر الِامْتِثَال وذهلت نَفسه عَن الِاعْتِقَاد فَلَا يعْصى بترك الِاعْتِقَاد، فَبَطل مَا قلتموه من ادِّعَاء وجوب الِاعْتِقَاد دواما.
[280] وَهَذَا الَّذِي طردناه فِي الِاعْتِقَاد يطرد فِي الْعَزْم فَإِنَّهُ لَو ذهلت نَفسه عَنهُ أَو تناساه قَاصِدا لم يعْص عندنَا إِذا سوغنا لَهُ تَأْخِير الِامْتِثَال ثمَّ مَا ذكره على الْمنْهَج الَّذِي أوردهُ يبطل عَلَيْهِم صَرِيحًا بِالْأَمر المتقيد باقتضاء الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة على التَّرَاخِي وَالتَّأْخِير فَإِن مَا قدروه من الِاعْتِقَاد والعزم على الِامْتِثَال يتَحَقَّق فِي هَذِه الصُّورَة مَعَ اتِّحَاد الِامْتِثَال فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا.
(71) القَوْل فِي الْأَمر الْمُعَلق بِالشّرطِ

[281] اعْلَم، وفقك الله أَن الْأَمر إِذا ورد متقضيا تعلق الْمَأْمُور بِهِ بِشَرْط، فَالَّذِينَ صَارُوا إِلَى حمل مطلقه على التّكْرَار يتفقون على وجوب تكْرَار الِامْتِثَال عِنْد تكْرَار الشَّرَائِط المنعوتة فِي الْأَمر وَمن صَار إِلَى حمل

(1/309)


[33 / أ] الْمُطلق من الْأَمر على اقْتِضَاء الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة / افْتَرَقُوا فِي الْمُقَيد بِالشّرطِ فَمن صائرين إِلَى أَن الِامْتِثَال يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الشَّرْط وَإِن كَانَ مطلقه لَا يَقْتَضِي التّكْرَار.
[282] وَالَّذِي يَصح وَهُوَ مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن الْأَمر الْمُقَيد بِالشّرطِ لَا يتَضَمَّن تَكْرِير الِامْتِثَال عِنْد تَكْرِير الشَّرْط وَإِنَّمَا الميز بَين الْمُطلق والمقيد بِالشّرطِ أَن الْمُطلق يَقْتَضِي الْأَمر من غير تخصص بِصفة وَشرط والمقيد بِالشّرطِ يَقْتَضِي الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة على قَضِيَّة الشَّرْط وَهُوَ على الْوَقْف فِيمَا عدا الْمرة الْوَاحِدَة. وكل مَا نصبناه دَلِيلا فِي الْأَمر الْمُطلق يدل على الْمُقَيد بِالشّرطِ وَكَذَلِكَ كل مَا عول عَلَيْهِ الْخصم فِي المسئلة الْمُتَقَدّمَة يعود فِي هَذِه وتعود وُجُوه الِانْفِصَال عَنْهَا.
[283] وَمِمَّا ذَكرُوهُ فِي هَذِه المسئلة أَن قَالُوا الحكم يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ وَالشّرط ثمَّ إِذا علق بِالْعِلَّةِ تكَرر بتكررها فَكَذَلِك إِذا علق

(1/310)


بِالشّرطِ وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ اجتراء مِنْهُم بِدَعْوَى مُجَرّدَة. فإننا نقُول لَهُم: خلافنا يؤول إِلَى صِيغَة عَرَبِيَّة، وَقَضِيَّة مفهومة، وَقد أوضحنا فِي بَاب مُفْرد منع إِثْبَات اللُّغَات بالمقاييس ومعظم كَلَامهم يتَرَدَّد على الْقيَاس فَلم قُلْتُمْ إِن الصِّيغَة المنبئة عَن التَّعْلِيل تضاهيها الصِّيغَة المنبئة عَن الشَّرْط

(1/311)


فاكتف بِهَذَا الْقدر، وسنوضح الْمَقْصد فِي الْعلَّة وَالشّرط وَالْفرق بَينهمَا فِي بَاب الْقيَاس إِن شَاءَ الله عز وَجل.
(72) فصل

[284] فَإِن قَالَ قَائِلُونَ: مَا تعنون بِالشّرطِ الَّذِي تطلقونه فِي أصُول الشَّرْع؟
قيل: الشَّرْط كالأمر علق إِيقَاع الِامْتِثَال والكف بِهِ على وَجه [يتَعَذَّر] وُقُوعه على مُوجب الشَّرْع دونه، ثمَّ قد يكون من فعل الله تَعَالَى وَقد يكون من كسب العَبْد.
فَأَما الَّذِي يكون من فعل الله عز وَجل، فنحو الْقُدْرَة، وَالصِّحَّة، وَكَمَال الْعقل، وَمَا ضاهاها من شَرَائِط للعبادات الآئلة إِلَى أَفعَال الله جلّ اسْمه. وَمِنْهَا مَا يكون من كسب الْمُكَلف كالطهارات والتوصل إِلَى أَسبَاب الاستطاعات إِلَى مَا يطول تتبعه.
[285] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا جوزتم عقلا وُرُود التَّكْلِيف بالمحال نَحْو تَقْدِير وُرُود الْأَمر بج يعتضد؟ ا؟ 0 كرناه؟ (قَول؟ 3 راقة؟ (ن؟ الك؟ رَسُول؟ " لله؟ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد؟ " صتل؟ (هـ؟ " لأمر؟ (الْحَج؟ قالغ ((" حجتنا؟ ذه؟ عامنا؟
م؟ لأبدة) هَذَا؟ " ستفصال؟ نه؟ ي؟ كرار؟ " لمثالغ لَو؟ ان؟ طلق؟ " لأمر؟

(1/312)


قيل: نَحن وَإِن سوغنا تَكْلِيف الْمحَال فَلَا يجوز ذَلِك. واستقصاء الْفَصْل بَينهمَا يتَعَلَّق بالديانات، بيد أَنا نبدي مِنْهُ مَا فِيهِ غشاء فَنَقُول: لَو قدر الْأَمر مُتَعَلقا بِجمع الضدين كَانَ الْمَقْصد مِنْهُ تعجيز الْمَأْمُور وَتَحْقِيق إِلْمَام الْعقَاب بِهِ على مَا سنوضحه فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله عز وَجل، وَلم يتَحَقَّق فِي / ذَلِك اسْتِحَالَة الشَّرْط، وَهَذَا يتَبَيَّن لكل متأمل. [33 / ب]
[286] وَمن أَصْحَابنَا الْقَائِلين بتكليف مَا لَا يُطَاق من جوز تَعْلِيق الْمَأْمُور بِهِ بِشَرْط مُسْتَحِيل كَمَا يجوز تعلق الْأَمر بِنَفس المستحيل.
[287] وَمَا ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ذَلِك الَّذِي قدمْنَاهُ أَولا، وَهُوَ الْأَصَح، وَوجه التَّحْقِيق فِيهِ أَن الْأَمر هُوَ اقْتِضَاء الطَّاعَة على الْجُمْلَة، فَإِن تعلق بممكن مَقْدُور أنبأ عَن اقتضائه، وَإِن تعلق بمحال فالصيغة تَقْتَضِي اقتضاءه مَعَ استحالته على الْمنْهَج الَّذِي سنقرره إِن شَاءَ الله عز وَجل.
[288] فَأَما إِذا كَانَ الشَّرْط الَّذِي يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْأَمر فِي تقرره مستحيلا فيؤول الانتفاء وَعدم التَّعَذُّر إِلَى نفس الْأَمر، فَإِذا قَالَ الْقَائِل لمخاطبه: إِن تحرّك زيد فِي حَال سكونه فَقُمْ، فتقدير الْخطاب أَن ذَلِك لَا يكون فَلَا تقم فيؤول الانتفاء إِلَى نفس الْأَمر ويسلبه سمة الِاقْتِضَاء وَهَذَا بَين إِن شَاءَ الله عز وَجل.

(1/313)


(73) فصل

[289] اعْلَم أَن أَرْبَاب الْكَلَام يطلقون لفظ الشَّرْط وأرباب الشَّرَائِع يطلقونه أَيْضا وَقد تتباين بهم الْمَقَاصِد، فَإِن أَرْبَاب الْكَلَام إِذا أطْلقُوا الشَّرْط عنوا بِهِ مَا كَانَ شرطا لنَفسِهِ، حَتَّى لَا يتَقَدَّر ثُبُوته إِلَّا وَهُوَ شَرط، كالحياة لما كَانَت شرطا للأوصاف الَّتِي لَا تثبت دونهَا، وَآل ذَلِك إِلَى أَنْفسهَا وذواتها لم يتَحَقَّق ثُبُوت نَفسهَا غيرمنعوت بِكَوْنِهَا شرطا، وَكَذَلِكَ وجود الْجَوَاهِر لما كَانَ شرطا فِي ثُبُوت الْأَعْرَاض وقيامها بهَا لم يتَقَدَّر ثُبُوته إِلَّا شرطا فِي الْمَشْرُوط، وَأما أَرْبَاب الشَّرَائِع إِذا أطْلقُوا الشَّرْط فَلَا يخصصونه فِي الْإِطْلَاق بِمَا يكون شرطا لنَفسِهِ بل يطلقونه على مَا ثَبت شرطا شرعا، وَإِن لم يكن شرطا لنَفسِهِ، كالطهارة، والاستطاعة فِي الْمَنَاسِك وَمَا ضاهاها من الشَّرَائِط الْمَشْرُوعَة.
(74) فصل

[290] اعْلَم أَن الْفِعْل الْمُسْتَقْبل الْمَأْمُور بِهِ إِذا كَانَ مُعَلّقا على شَرط لزم أَن يكون الشَّرْط مترقبا فِي الِاسْتِقْبَال غير مَاض، وأيضاح ذَلِك بالمثال أَن الْقَائِل إِذا قَالَ لمن يخاطبه: إِذا قَامَ زيد فَاضْرِبْهُ، فقد أنبأ اللَّفْظ عَن ضرب فِي الْمَآل مَعْقُود بِشَرْط مرقوب فِي ثَانِي الْحَال، وَلَو قَالَ فِي حَال قيام زيد: إِذا قَامَ زيد فَاضْرِبْهُ كَانَ ذَلِك من متناقض الْكَلَام فِي إِرَادَة الشَّرْط والإنباء عَنهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يَعْنِي بقوله إِذا قَامَ زيد قد قَامَ زيد إِقَامَة لبَعض الْحُرُوف مقَام بعض، على بعد فِي المأخذ. ومقصدنا من هَذَا الْفَصْل تَبْيِين أَن من شَرط الشَّرْط فِي الْفِعْل الْمُسْتَقْبل تَقْدِير استقباله.

(1/314)


(75) القَوْل فِي الْأَمر إِذا تكَرر هَل يَقْتَضِي تكْرَار الْمَأْمُور بِهِ؟

[291] اعْلَم أَن هَذَا الْبَاب، لَا يُفِيد على مَذْهَب الصائرين إِلَى تضمن التّكْرَار فِي مُقْتَضى الْأَمر الْمُفْرد الْمُجَرّد. فَأَما الَّذِي قَالُوا: إِن الْمُطلق من الْأَمر الْمُفْرد لَا يتَضَمَّن / تكْرَار الِامْتِثَال فَلَو تكَرر الْأَمر فَمَا حكمه على [34 / أ] مَذَاهِب هَؤُلَاءِ؟ .
التَّفْصِيل فِيهِ أَن يُقَال: إِن لم يَتَقَرَّر امْتِثَال معقب لِلْأَمْرِ الأول ثمَّ تلاه الْأَمر ثَانِيًا مِمَّا يُخَالف جنس الْمَأْمُور بِهِ الأول فيتضمن ذَلِك اقْتِضَاء مُجَردا بيد أَنا نستبشع فِي هَذَا الْقَبِيل إِطْلَاق القَوْل بتكرار الْأَمر، فَإِن لفظ تكْرَار الْأَمر إِنَّمَا يُطلق عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس الْمَأْمُور بِهِ.
فَأَما إِذا اخْتلف الْمَأْمُور بِهِ فالأوامر متعاقبة أَو مترادفة فَأَما أَن ينعَت بالتكرر فَفِيهِ بعد.
[292] وَأما إِذا ورد الْأَمر ثَانِيًا بِمثل مَا ورد بِهِ الْأَمر الأول فَهَل يتَضَمَّن ذَلِك اقْتِضَاء مُجَردا أم يَقْتَضِي تَأْكِيدًا ام يتَوَقَّف فِيهِ، فَمَا صارإليه الْأَكْثَرُونَ أَنه يحمل على اقْتِضَاء مُجَرّد حملا على التّكْرَار عِنْد تكَرر الْأَمر فِي مورده وَذهب أَصْحَاب الْوَقْف إِلَى أَنه مُتَرَدّد بَين اقْتِضَاء التَّأْكِيد لِلْأَمْرِ

(1/315)


الأول، وَبَين تثبيت حكم على التَّجْرِيد فَيتَوَقَّف فِيهِ على مَا يتَبَيَّن بالقرائن.
[293] وَقد ردد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ جَوَابه فِي هَذِه المسئلة، وَهَا نَحن نؤمى إِلَى جوابيه ونستخير الله عز وَجل فِي ارتضاء أصَحهمَا إِن شَاءَ الله عز وَجل. فَالَّذِي صدر بِهِ الْبَاب أَن قَالَ: إِن اقْترن بمورد الْأَمر ثَانِيًا مَا ينفى حمله على التكرارفلا نحمله عَلَيْهِ. والموانع من حمله على التّكْرَار تَنْحَصِر فِي أَرْبَعَة أَقسَام:
أَحدهَا: أَن يكون التّكْرَار مُمْتَنعا عقلا وَذَلِكَ نَحْو الْأَمر بِالْقَتْلِ إِذا سبق ثمَّ ورد ثَانِيًا فنعلم أَن الْقَتْل لَا يثنى فَلَا يَتَعَدَّد، وَالثَّانِي: أَن يمْتَنع التّكْرَار شرعا وَذَلِكَ نَحْو الْأَمر بِالْعِتْقِ فِي عبد معِين مَعَ الْعلم بِأَنَّهُ لَا يتَكَرَّر إِلَى غير ذَلِك من أمثلته فِي الشَّرْع، وَالثَّالِث: أَن يكون الْأَمر متضمنا اسْتِيعَاب جنس الْمَأْمُور بِهِ فَيعلم أَن الْأَمر الثَّانِي لَا يَقْتَضِي

(1/316)


تحديدا فَإِن الأول استغرق جملَة مَا قدر فِي الْجِنْس الْمُسَمّى، وَالرَّابِع: قرينَة حَال تقترن بِتَكَرُّر الْأَوَامِر تنبئ عَن التَّأْكِيد، وَذَلِكَ نَحْو قَول السَّيِّد لعَبْدِهِ وَقد أجهده الْعَطش: / ((اسْقِنِي)) ، فَلَيْسَ يقْصد بذلك إِلَّا تحريضه على الابتدار إِلَى السَّقْي. وَيلْحق بِهَذَا الْقَبِيل عهد سبق بَين الْآمِر والمأمور وَذَلِكَ بِأَن يَقُول: ((إِذا كررت عَلَيْك الْأَمر فِي الْفِعْل فَاعْلَم أَنِّي أُرِيد بتكرار الْأَمر الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة)) . فَهَذِهِ قَرَائِن التَّأْكِيد وَمَا يذكر من الْفُنُون المتنوعة يداني مَا قدمْنَاهُ، وَلَا يخرج مِنْهُ.
[294] وَقَالَ القَاضِي فِي أحد جوابيه: إِن اقترنت الْأَوَامِر المتكررة بِقَرِينَة من الْقَرَائِن الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي اقْتِضَاء التَّأْكِيد فَهِيَ مَحْمُولَة عَلَيْهِ، وَإِن تعرت عَنْهَا حمل كل أَمر على اقْتِضَاء امْتِثَال مُجَرّد فيتعدد الِامْتِثَال بِتَعَدُّد الْأَوَامِر الْمُطلقَة، وَأَوْمَأَ فِي تضاعيف كَلَامه إِلَى مَا هُوَ الْأَصَح عندنَا على الأَصْل الَّذِي مهدناه فِي الْوَقْف، وَذَلِكَ أَن لَا تحمل الْأَوَامِر المتكررة على اقْتِضَاء مُجَرّد الِامْتِثَال بل يتَوَقَّف فِيهَا وَيثبت الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة / ويتوقف [34 / ب] فِيمَا عَداهَا، فَيجوز التّكْرَار فِي الِامْتِثَال وَيجوز قصد التَّأْكِيد.
[295] فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا فرقتم بَين أَن تتصل الْأَوَامِر وتتعاقب من غير تخَلّل زمن ممتد بَين كل أَمريْن وَبَين أَن يَتَخَلَّل بَينهمَا أزمان ممتدة؟ .

(1/317)


قيل: إِن كَانَ الْكَلَام فِي الْأَوَامِر البادرة منا فَمَا ذكرتموه مُحْتَمل فَيجوز قطع القَوْل عِنْد تخَلّل الْأَزْمَان بتجديد الِامْتِثَال وَيجوز الْمصير إِلَى الْوَقْف كَمَا قدمْنَاهُ.
[296] فَإِن قَالَ الْقَائِل: أَلسنا فِي أَلْفَاظ الطَّلَاق نفصل بَين الْأَلْفَاظ المتعاقبة وَبَين الْأَلْفَاظ الَّتِي تتخللها مُدَّة؟ .
قُلْنَا: لَا مُعْتَبر بآحاد الْأَلْفَاظ فِي الشَّرَائِع لما قدمْنَاهُ غير مرّة، فَهَذَا فِيمَا يَبْدُو منا من الْأَوَامِر.
[297] فَأَما مَا يتَّصل بِنَا من أوَامِر الله تَعَالَى فَلَا فرق بَين متعاقبها فِي الِاتِّصَال بِنَا وَبَين أَن يَتَخَلَّل فِي الِاتِّصَال بِنَا زمن، فَإِن جملَة مَا يتَّصل بِنَا كَلَام وَاحِد لَا يَتَّصِف بالتبعيض وَلذَلِك سَاغَ تَأَخّر الِاتِّصَال فِي الْمُخَصّص عَن

(1/318)


اللَّفْظ الَّذِي يَقْتَضِي عُمُوما، إِن قُلْنَا بِالْعُمُومِ، وَإِن كُنَّا لَا نجوز تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء فِي كلامنا عَن الْمُسْتَثْنى.
[298] وَقد اسْتدلَّ القَاضِي فِيمَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ أَولا بِأَن قَالَ: كل أَمر من الْأَوَامِر الْمُتَّصِلَة بِنَا لَو قدر مُجَردا اقْتضى امتثالا، فَتقدم الْأَوَامِر عَلَيْهِ وتأخرها عَنهُ لَا يُوجب تَغْيِيره عَن مُقْتَضَاهُ إِذا ارْتَفَعت الْقَرَائِن الَّتِي نوعناها.
[299] وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن يقدر فِي كل أَمر مُقْتَضَاهُ وَلَا ينظر إِلَى مَا سواهُ فَيحصل من مضمونها امتثالات مُتعَدِّدَة وطاعات متجددة.
[300] ثمَّ وَجه على نَفسه سؤالا، وانفصل عَنهُ، وَقَالَ: ألستم قُلْتُمْ بِالْوَقْفِ فِي الصِّيغَة الْمُطلقَة وَهِي قَول الْقَائِل: ((افْعَل)) ، وصرتم فِي تثبيت ذَلِك إِلَى انقسام الْمَوَارِد وَهَذَا الْمَعْنى مُتَحَقق فِي الْأَوَامِر المتكررة فَإِن مواردها فِي التَّأْكِيد والتكرار تَنْقَسِم، وَلَئِن سَاغَ أَن يُقَال: إِنَّمَا يحمل على التَّأْكِيد لقَرِينَة، سَاغَ أَن يُقَال إِنَّمَا يحمل على التّكْرَار لقَرِينَة، فَالَّذِي دلّ عنْدكُمْ على الْوَقْف فِي كل مَا تتوقفون فِيهِ يدل عَلَيْهِ فِي التّكْرَار والتأكيد، ثمَّ تفصى عَن ذَلِك وَقَالَ: الصِّيغَة الَّتِي ذكرتموها فِي نَفسهَا مُحْتَملَة فتوقف فِي مَعْنَاهُ. وَهَذِه المسئلة مَفْرُوضَة فِيهِ إِذا كَانَ كل أَمر من الْأَوَامِر وَصِيغَة من الصِّيَغ مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ فِي إثارة ندب أَو إِيجَاب فَلَا احْتِمَال فِي كل أَمر، والأوامر السَّابِقَة لَهُ والمتأخرة عَنهُ لَا توجب تغير مُقْتَضَاهُ، فانفصلا من هَذَا الْوَجْه، فَهَذَا نِهَايَة كَلَامه وقصاراه.

(1/319)


[301] وَهَذَا مِمَّا فِيهِ نظر، وَذَلِكَ أَنا نقُول: مَا علينا إِلَّا أَن نحمل كل أَمر على الِاقْتِضَاء لنكون قد وفرنا على كل أَمر مُقْتَضَاهُ وَلَكِن إِذا ورد الْأَمر الثَّانِي فَيجوز تَقْدِير تعلقه بالمأمور الأول وَيجوز تَقْدِير تعلقه بمأمور مثله [35 / أ] وَلَا يستبعد تعلق أَمريْن بمأمور وَاحِد فَثَبت بِمَا ذَكرْنَاهُ أَن / الْأَمر الثَّانِي يَقْتَضِي امتثالا وَيبقى اللّبْس المفضي إِلَى الْوَقْف فِي أَنه هَل اقْتضى الِامْتِثَال الأول أَو اقْتضى مثلا لَهُ سواهُ، وَإِلَّا وضح الْوَقْف إِذا فافهمه.
[302] وَإِن قيل: إِذا ثَبت كَون الْمَأْمُور الأول مَأْمُورا ثمَّ حملنَا الْأَمر الثَّانِي على مَا حملنَا عَلَيْهِ الأول فكأننا نلغيه.
قُلْنَا: حاشى أَن نقُول ذَلِك، فَإِن الإلغاء هُوَ أَن يقدر الْأَمر غير مُتَعَلق بمأمور مَعَ استقلاله وَقد قَدرنَا لَهُ مَأْمُورا فَمن أَيْن أَنه غير الأول؟
فَإِن قيل: لَو حمل مَا حمل عَلَيْهِ الأول لم يتَضَمَّن إثارة فَائِدَة إِذْ الِامْتِثَال قد تقرر بِالْأولِ فَمن هَذَا الْوَجْه يلْزم إِلْغَاء الثَّانِي.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: لَو صَحَّ ذَلِك لزم اسْتِحَالَة وُرُود الْأَمر على التكرر فِيمَا يَسْتَحِيل تكرره كَالْقَتْلِ وَنَحْوه لما صرتم إِلَيْهِ من ادِّعَاء الإلغاء. فَإِن قَالُوا يُفِيد الْأَمر الثَّانِي فِيمَا صورتموه التَّأْكِيد.
قيل لَهُم: اكتفوا بِمثل ذَلِك فِي الْمُتَنَازع فِيهِ وَهُوَ الْجَواب الثَّانِي، فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِي اخْتِيَار الْوَقْف إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

(1/320)


(76) القَوْل فِي الْأَمر هَل يَقْتَضِي الْفَوْر أم لَا يَقْتَضِي

[303] اعْلَم، وفقك الله أَن من قَالَ: إِن الْأَمر يَقْتَضِي التّكْرَار واستغراق الْأَوْقَات فَلَا يُفِيد فرض الْخلاف مَعَه فِي الْفَوْر والتراخي فَإِن من حكم استغراق الْأَوْقَات اندراج الْوَقْت المتعقب لِلْأَمْرِ تَحت قَضيته فِي الْإِيجَاب وَالنَّدْب.
[304] فَأَما من زعم أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة فقد اخْتلفُوا فِي الْفَوْر والتراخي فَذَهَبت طَائِفَة من الْعلمَاء إِلَى أَن الْأَمر يَقْتَضِي الِامْتِثَال على الِاتِّصَال والفور والمبادرة بِلَا فسحة، وَلَا تَأْخِير، إِن لم يصد عَن الِامْتِثَال مَانع،

(1/321)


وَإِلَيْهِ مَال مُعظم أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله. وَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى

(1/322)


إِن الْأَمر لَا يَقْتَضِي الِامْتِثَال فَوْرًا وَلَكِن يَقْتَضِي فعل الْمَأْمُور بِهِ فِي أَي وَقت يقدر إِمَّا معجلا وَإِمَّا مُؤَخرا.
[305] ونرى الْمُحَقِّقين من الْأُصُولِيِّينَ يتسامحون فِي عبارَة لَا نرتضيها وَهِي أَن نفاة الْفَوْر يعبرون عَن أصلهم فَيَقُول: الْأَمر يَقْتَضِي التَّرَاخِي وَكَثِيرًا مَا يُطلقهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي مصنفاته وَوجه الدخل فِيهَا أَن ظَاهر قَول الْقَائِل: الْأَمر على التَّرَاخِي، يُنبئ عَن اقْتِضَاء الْأَمر تَأْخِيرا فِي الِامْتِثَال وَهَذَا مَا لم يصر إِلَيْهِ صائر وَالْأَحْسَن فِي الْعبارَة أَن نقُول: الْأَمر يَقْتَضِي الِامْتِثَال من غير تخصص بِوَقْت.
[306] وَذَهَبت طَائِفَة من الواقفة إِلَى التَّوَقُّف فِي هَذَا الْبَاب فِي الْفَوْر

(1/323)


والتراخي.
[307] وَالْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ قطع القَوْل بِإِبْطَال الْمصير إِلَى الوقفة فِي هَذَا الْبَاب، وأوضحه بِمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ الْأَصَح إِذْ الْمصير إِلَى الْوَقْف فِي هَذَا الْبَاب يعود إِلَى خرق الْإِجْمَاع أَو يلْزم ضربا من التَّنَاقُض.
[35 / ب] [308] ثمَّ افْتَرَقت الواقفية فَمنهمْ / من صَار إِلَى أَنا نعلم أَنه لَو امتثل الْمَأْمُور الْأَمر فِي أول زمَان يعقبه فَيكون ممتثلا وَإِنَّمَا الْوَقْف فِي جَوَاز التَّأْخِير فِيهِ وَذَهَبت الغلاة من الوافقية إِلَى أَنا لَا نقطع القَوْل بِكَوْنِهِ ممتثلا لَو قدر مقدما على الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ فِي أول الزَّمَان فَهَذِهِ جملَة من الْمذَاهب.

(1/324)


[309] وَالَّذِي يَصح مِنْهَا إبِْطَال الْفَوْر وَالْوَقْف وَهَا نَحن نرد على الفئتين إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[310] فَأَما الدَّلِيل على بطلَان القَوْل بِالْوَقْفِ فَهُوَ أَن نقُول: معاشر الواقفية! هَل تعلمُونَ أَن الْمَأْمُور لَو امتثل الْأَمر فِي أول الزَّمَان تَبرأ ذمَّته أم لَا تعلمُونَ ذَلِك؟ فَإِن قُلْتُمْ: نعلم ذَلِك، فقد نقضتم أصل الْوَقْف فَإِن الَّذِي تعولون عَلَيْهِ فِي الْمصير إِلَى الْوَقْف تَجْوِيز إِضَافَة الْأَمر إِلَى كل وَقت فَإِذا عينتم الْوَقْت الأول لِلْخُرُوجِ من قَضِيَّة الْأَمر مَعَ تَجْوِيز إِضَافَة الْأَمر إِلَى كل وَقت من الْأَوْقَات الْمُسْتَقْبلَة فقد صرحتم بِإِبْطَال الْوَقْف، وَإِن أَنْتُم قُلْتُمْ أَنا لَا نعلم ذَلِك فيلزمكم مِنْهُ مَا لَا قبل لكم بِهِ، وَذَلِكَ أَن الْأمة اجْتمعت على أَن الْأَمر إِذا ورد من صَاحب الشَّرْع مقتضيا للْإِيجَاب إِمَّا بِإِطْلَاقِهِ على مَذْهَب قوم أَو مَعَ قرائنه على مَذْهَب آخَرين فَمن ابتدر إِلَى الِامْتِثَال متسارعا مَعَ اعْتِقَاد عدم التّكْرَار فيعد ممتثلا لِلْأَمْرِ، والجاحد لذَلِك ينْسب إِلَى خرق الاجماع.
[311] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك فِي إِطْلَاق الْعرف أَن من أطلق أمرا فابتدر الْمُخَاطب بِهِ إِلَى الِامْتِثَال فَإِنَّهُ يعد ممتثلا فِي أصل اللُّغَة ووضعها واستعمالها وَعرفهَا. ومنكر ذَلِك كمنكر مَا اتّفق عَلَيْهِ أَرْبَاب اللُّغَات.
[312] وَمِمَّا يُوضح ذَلِك أَن نقُول: لَو سبق الْحَظْر فِي شَيْء ثمَّ ثَبت إِيجَابه من غير تعرض للأوقات فَإِذا توقفتم فِي الْوَقْت الأول لزمكم أَن تَقولُوا: لَا يجوز الْإِقْدَام على الِامْتِثَال استصحابا للحظر السَّابِق ثمَّ إِذا أفصحتم بذلك فِي الْوَقْت الأول لزمكم مثله فِي سَائِر الْأَوْقَات الْمُسْتَقْبلَة وَمِثَال ذَلِك اسْتِدَامَة الْحَظْر فِي جملَة الْأَوْقَات، فَإِن قَالُوا: إِذا كَانَ الْأَمر على مَا صورتموه فيتقيد بِالْوَقْتِ الْمعِين معجلا أَو مُؤَخرا.

(1/325)


قيل لَهُم: أفتجوزون [التَّقْيِيد] على مَا ذكرتموه وتجوزون نفي [التَّقْيِيد] أَو توجبون [التَّقْيِيد] وَلَا توجبون انتفاءه فِي الْأَمر الَّذِي فرض الْكَلَام عَلَيْكُم فِيهِ؟ . فَإِن زعمتم أَن تقيده لَا يجب، فبمَا ألزمناكم أَو لَا لَازِما لكم، وَلَا تَجِدُونَ عَنهُ محيصا، وَإِن قُلْتُمْ أَن تَقْيِيده وَاجِبا فَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن، أَحدهمَا أَن مصيركم إِلَى الْوَقْف قادكم إِلَى القَوْل بِنَفْي الْوَقْف فِي الصُّورَة الَّتِي ذَكرنَاهَا فَإِن التَّقْيِيد لَو قدر واستقل الْخطاب فَيَنْتَفِي [36 / أ] مَعَ ذَلِك القَوْل بِالْوَقْفِ. وَأَيْضًا فَإِن الْأَمر إِن قيد بالامتثال / فِيهِ بِوَقْت متراخ فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن توجبوا تَقْيِيد الْأَمر بِالْوَقْفِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي أول مورد الْأَمر، أَو لَا توجبون التَّقْيِيد إِلَّا مَعَ الْوَقْت الْمعِين للامتثال، وَإِن أَنْتُم زعمتم أَنه يجب اقتران الْأَمر فِي مورده بالتقييد وَوقت الِامْتِثَال متراخ فَهَذَا مصير إِلَى

(1/326)


وجوب الْبَيَان قبل الْحَاجة وأصل الْوَقْف مَعَ هَذَا الأَصْل يتباعد [أَي] تبَاعد على مَا سنذكر فِي بَاب الْبَيَان وتفصيل الْمذَاهب إِن شَاءَ الله عز وَجل. وَإِن زعمتم أَن التَّقْيِيد يقارن الْوَقْت الْمعِين للامتثال.
فَقبل وُرُود التَّقْيِيد يتَعَيَّن الْكَفّ لما قدمْنَاهُ من تَصْوِير تقدم الْحَظْر ثمَّ إِذا تعين الْكَفّ فَهَذَا إبِْطَال للْوَقْف ومصير إِلَى حكم معِين وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.
[313] وَمن أوضح مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي إبِْطَال القَوْل بِالْوَقْفِ وَهُوَ صدر أدلتنا فِي إبِْطَال القَوْل بالفور وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِذا ورد الْأَمر مُطلقًا وَلم يتَضَمَّن تَسْرِيح لَفظه وَلَا تضمنه من حَيْثُ مُقْتَضى اللَّفْظ التَّعَرُّض للأوقات وَإِنَّمَا أنبأ عَن امْتِثَال الْفِعْل.
وَمَعْلُوم أَن الْأَوْقَات يُرَاد بهَا قبيل من أَفعَال الله عز وَجل على مَا خَاضَ فِيهِ الْمُحَقِّقُونَ فِي علم الديانَات، فَإِذا ثَبت أَنَّهَا من أَفعَال الله تَعَالَى وَثَبت أَن الْأَمر لَا يُنبئ عَنْهَا صَرِيحًا وَلَا ضمنا على مَا سنوضحه فِي الرَّد على الْقَائِلين بالفور بعد تمهيد ذَلِك: [توقف] مُقَارنَة الْفِعْل وقتا من الْأَوْقَات [كتوقف] مُقَارنَة الْفِعْل سَائِر أَفعَال الله تَعَالَى. فَلَو سَاغَ التَّوَقُّف فِي الْأَوْقَات سَاغَ التَّوَقُّف فِي سَائِر الْأَفْعَال حَتَّى يُقَال: إِذا ورد الْأَمر بِفعل

(1/327)


فَيتَوَقَّف الْمَرْء فِي الِامْتِثَال حَتَّى يرد الْبَيَان بَيَان السَّمَاء فِي وَقت الِامْتِثَال متغيمة أَو مصحية والنجوم آفلة أم طالعة والأراضي مُجْدِبَة أَو مخصبة إِلَى غير ذَلِك من تبدل الصِّفَات المعنوية على سَائِر الْجَوَاهِر من أَفعَال الله عز وَجل فَإِن ركبُوا التَّوَقُّف فِي ذَلِك باهتوا وَقطع الْكَلَام عَنْهُم وَإِن لم يتوقفوا لم يَجدوا عَنْهَا محيصا.
[314] وَقد طرد بعض الْأُصُولِيِّينَ عَلَيْهِم مَا ذَكرْنَاهُ فِي معرض يبْقى مَعَه ضرب من اللّبْس وَهُوَ أَنه قَالَ فِي تَحْقِيق الْمَقْصُود بالمثال: وَلَو قَدرنَا وُرُود الْأَمر بالمكث حَتَّى يُقَال امْكُث صَائِما أَو مُفطرا قَائِما أم قَاعِدا إِلَى غير ذَلِك من صِفَاته وَهَذَا لعمري سديد، وَلَكِن لَا يلْزم من ركُوبه مَا يلْزم من

(1/328)


ركُوب مَا قدمْنَاهُ فِي أَفعَال الله تَعَالَى الْخَارِجَة عَن مقدراتنا، والأوقات مِنْهَا، فاجتزى بِمَا قدمْنَاهُ فَإِنَّهُ يحسم الْبَاب.
[315] ثمَّ اعتضد بعض الْأُصُولِيِّينَ بِقصَّة بني إِسْرَائِيل فِي الْبَقَرَة الَّتِي أمروا بذبحها وادعو على الواقفية أَنهم لَو اجتزوا بِمَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْبَقَرَة أَولا لكانوا / ممتثلين وَلَكِن رُبمَا تمنع الواقفية ذَلِك فَالْأَحْسَن أَن يُقَال لَهُم: [36 / ب] فَمَا لَهُم لم يستفصلوا عَن كَيْفيَّة الذّبْح وَعَن قد الْبَقَرَة وَحدهَا وَسَائِر نعوتها، فَإِن مَا ذَكرُوهُ أقل مَا تَرَكُوهُ من صفاتها، فَبَطل الْمصير إِلَى الْوَقْف، وبقى الْكَلَام بَين الصائرين إِلَى الْفَوْر، والمبطلين الْمصير إِلَى الْفَوْر.
[316] وَالدَّلِيل على بطلَان القَوْل بالفور أَن نقُول: إِذا ورد الْأَمر مقتضيا للْفِعْل فَلَيْسَ يُنبئ عَن الْوَقْت وَذَلِكَ أَن إنباء اللَّفْظ عَن الشَّيْء يَنْقَسِم إِلَى صَرِيح وَضمن وَلَا استرابة فِي تعري اللَّفْظ الْمُطلق عَن ذكر الْأَوْقَات صَرِيحًا فَإِذا بَطل ذَلِك لم يبْق للخصوم إِلَّا ادِّعَاء الضمن فَيُقَال: إِنَّمَا يَجْعَل اللَّفْظ متضمنا لشَيْء إِذا أنبأ صَرِيحه عَمَّا لَا يتم الْمُصَرّح بِهِ إِلَّا بِهِ، وَالْأَمر الْمُطلق لَيْسَ يُنبئ عَن تعْيين وَقت لَا يتم الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا

(1/329)


بِهِ فَإِذا بَطل الْوَجْهَانِ ثَبت أَن الْأَمر لَيْسَ يُنبئ عَن وَقت معِين وَجُمْلَة الْأَوْقَات مُتَسَاوِيَة فِي مضمونه وَقد بَطل الْمصير إِلَى الْوَقْت فَلَا يبْقى إِلَّا الْمصير إِلَى الِامْتِثَال فِي وَقت كَانَ معجلا أَو مُؤَخرا وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الرجل لَو قَالَ لمخاطبه اضْرِب شخصا وَاسم الشَّخْص لَا يتَعَيَّن فِي حق وَاحِد فَأَي شخص ضرب كَانَ متمثلا، وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ اضْرِب أَو أوجبت عَلَيْك ضربا وَلم يتَعَرَّض للمضروب تَصْرِيحًا وَلَا ضمنا فَأَي مَضْرُوب ضرب كَانَ ممتثلا لِأَن اللَّفْظ عَار عَن التَّخْصِيص وَالتَّعْيِين وكل من يَتَّصِف بِكَوْنِهِ مَضْرُوبا يتساوي فِي حكم الْأَمر فاستحال تعين وَاحِد من مُقْتَضى الْأَمر فَكَذَلِك الْأَوْقَات فِي امْتِثَال الْأَمر الْمُطلق.
[317] وَاعْلَم، وفقك الله أَن هَذِه الدّلَالَة لَا معترض عَلَيْهَا بيد أَنَّهَا لَا تصفو لَك إِلَّا بعد أَن تتقصى شبه الصائرين إِلَى الْفَوْر، وتتفصى عَنْهَا، فَإِنَّهُم رُبمَا يعترضون بِشَيْء من شبههم على هَذِه الدّلَالَة.
[318] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ أَيْضا فِي إبِْطَال القَوْل بالفور أَن نقُول: قَضِيَّة اللُّغَات لَا تثبت إِلَّا نقلا، والمصير إِلَى الْفَوْر مِمَّا لم ينْقل عَن أهل اللُّغَات نصا، وَلم يدل عَلَيْهِ شَيْء من كَلَامهم إِلَّا ويقابله مَا يُنَافِيهِ وَهَذَا يقرب مِمَّا قدمْنَاهُ فِي مسئلة الْوَقْف فِي الصِّيغَة الْمُطلقَة، فَإذْ تعذر الْفَوْر لم يبْق إِلَّا الِامْتِثَال الْمُجَرّد.

(1/330)


[319] فَإِن قيل: فَكَمَا لم ينْقل عَنْهُم الْفَوْر فَكَذَا لم ينْقل عَنْهُم التَّرَاخِي.
فَقيل لَهُم: وَنحن لَا نحمل الْأَمر على التَّرَاخِي على التَّعْيِين بيد أَنا نقُول: الْمَفْهُوم من اللَّفْظ الِامْتِثَال الْمُجَرّد فِي أَي وَقت كَانَ، وَهَذَا وَاضح لَا ريب فِيهِ.
[320] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ أَن نقُول إِذا بدر الْأَمر الْمُطلق حسن من الْمَأْمُور الاستفصال فِي التَّأْخِير والاستعجال وَهَذَا من / أوضح الْبَرَاهِين على [37 / أ] بطلَان تعين الْفَوْر فِي مُقْتَضى اللَّفْظ وَقد أوضحنا هَذِه الدّلَالَة فِي غير مسئلة.
[321] وَمن أقوى مَا يسْتَدلّ بِهِ مَا أومأنا إِلَيْهِ فِي الرَّد على الواقفية، وَنحن نزيده إيضاحا فِي إبِْطَال الْفَوْر، فَنَقُول: لَيْسَ الْمَعْنى بِوُقُوع الْفِعْل فِي الْوَقْت إِلَّا كَون الْوَقْت ظرفا للْفِعْل فَإِن الْأَوْقَات من أَفعَال الله عز وَجل وَهِي تؤول فِي محصول القَوْل إِلَى حركات الْفلك فَلَا تعلق لَهَا بالأفعال فَلَا تعلق للأفعال بهَا، فَكَمَا لَا يتَضَمَّن مُطلق الْأَمر لتعريه عَن التَّعَرُّض لسَائِر أَفعَال الله تَصْرِيحًا وضمنا أَن يكون الْفِعْل مُقَارنًا لشَيْء مِنْهَا تعيينا، فَكَذَلِك يَنْبَغِي أَن لَا تَقْتَضِي مقارنته بِشَيْء من الْأَوْقَات تعيينا.
[322] وَتمسك بعض أَصْحَابنَا بِمَا قدمْنَاهُ فِي مسئلة التّكْرَار عَن الْبر

(1/331)


والحنث فَقَالُوا: إِذا قَالَ الْقَائِل: وَالله لأصلين لم يتخصص بره بِالْوَقْتِ المتعقب ليمينه فَكَذَلِك الِامْتِثَال. واعتضدوا أَيْضا بالألفاظ المنبئة عَن الْأَفْعَال فِي الِاسْتِقْبَال نَحْو قَوْلك، سيقوم زيد أَو يقوم زيد، فَإِن هَذَا لَا يُنبئ عَن وَقت معِين وَالْأولَى الِاحْتِرَاز بِمَا قدمْنَاهُ فَإِن الْمصير إِلَى مثل ذَلِك يلْزم تثبيت اللُّغَات بِالْقِيَاسِ.
[323] شبه الْقَائِلين بالفور: من عمدهم فِي إِثْبَات الْفَوْر أَن قَالُوا: إِذا ورد الْأَمر مُطلقًا وجوزتم تَأْخِير الِامْتِثَال وَلم توجبوا المسارعة والابتدار إِلَى الِامْتِثَال فِي أول وَقت الْإِمْكَان، وزعمتم أَن الْأَوْقَات مُتَسَاوِيَة فَإِذا اخترم الْمُكَلف لم يخل إِمَّا أَن تَقولُوا: لَا يعْصى بِالتّرْكِ مَعَ سبق الْإِمْكَان مِنْهُ، وَإِمَّا أَن تَقولُوا يعْصى بِالتّرْكِ، فَإِن قُلْتُمْ إِنَّه لَا يعْصى بِالتّرْكِ فقد صرحتم بِنَفْي الْوُجُوب وألحقتم الْوَاجِب فِي هَذِه الصُّورَة بالنفل، فَإِن زعمتم أَنه يعْصى فَلَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا يعْصى بِالتَّأْخِيرِ عَن أول وَقت الْإِمْكَان [أَو لَا] فَإِن

(1/332)


قُلْتُمْ يعْصى بِالتَّأْخِيرِ عَن أول وَقت الْإِمْكَان فَهَذَا التَّصْرِيح مِنْكُم بالفور وَإِن قُلْتُمْ يعْصى بِالتَّأْخِيرِ عَن أَوسط الْوَقْت فَهَذَا محَال فَإِنَّكُم جوزتم لَهُ التَّأْخِير عَنْهَا وفسحتم ذَلِك [لَهُ] أَولا، فيستحيل مِنْكُم ان تعصوه آخرا، وَإِن زعمتم أَن آخر وَقت الْإِمْكَان يتَعَيَّن للامتثال فقد أبطلتم كل مَا عَلَيْهِ عولتم فَإِن معولكم على تَسَاوِي الْأَوْقَات وَعدم إنباء اللَّفْظ عَن تعْيين شَيْء مِنْهَا وَالْوَقْت الآخر كَالَّذي تقدمه من الْأَوْقَات، قَالُوا فَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام لم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى الْفَوْر.
[324] وَهَذَا من أعظم شبه الْقَوْم، وَقد زل فِي الِانْفِصَال عَنْهَا مُعظم الصائرين إِلَى التَّرَاخِي، فطريقنا ان نقرر عَلَيْهِم من قَوْلهم فِي تقسيمهم مَا يقارن الصِّحَّة، ونعترض على مَوضِع الْبطلَان مِنْهُ. فَأَما مَا ذَكرُوهُ فِي تضاعيف كَلَامهم من بطلَان القَوْل بِأَنَّهُ يعْصى بِالتَّأْخِيرِ عَن أَوسط الْوَقْت فَهُوَ على مَا ذَكرُوهُ وَكَذَلِكَ لَا نحكم / عَلَيْهِ بالمعصية بِالتَّأْخِيرِ عَن أول الْوَقْت [37 / ب] وَلَا نقُول أَيْضا أَن آخر وَقت الْإِمْكَان يتَعَيَّن للامتثال عَن التَّضْيِيق حَتَّى نعصيه فِي التّرْك فَلَا يبْقى مِمَّا قسموه إِلَّا قَوْلهم إِنَّه إِذا لم يعْص الْتحق الْمَأْمُور بِهِ بالنوافل فَيُقَال لَيْسَ الْأَمر على مَا ذكرتموه وَذَلِكَ أَن النَّفْل لَا يكون نفلا لجَوَاز تَركه إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ الْمُبَاح نفلا وَلَا يكون النَّفْل نفلا لكَون فعله خيرا من تَركه مَعَ جَوَاز تَركه فَإِن الْفَرْض الَّذِي وسع وقته كَالصَّلَاةِ المخصصة

(1/333)


بِوَقْت مضبوط الأول وَالْآخر يجوز تَأْخِيرهَا عَن أول الْوَقْت، والابتدار إِلَيْهَا خير فِي أول الْوَقْت وَيجوز تَركهَا فِيهِ، ثمَّ لَا يتَضَمَّن ذَلِك نفي الْوُجُوب عَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت لما سنقرره إِن شَاءَ الله عز وَجل بعد ذَلِك.
[325] فَإِن قيل: فَبِمَ ينْفَصل النَّفْل عَن الْفَرْض إِذا، قيل لَهُم ينْفَصل النَّفْل عَن الْفَرْض بأَشْيَاء نذكرها فِي موَاضعهَا وَلَكِن نذْكر هُنَا مَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال فَنَقُول النَّفْل يجوز تَركه أبدا إِلَى غير بدل، وَالْفَرْض لَا يجوز تَركه إِلَّا إِلَى بدل إِن كَانَ مُطلقًا غير مضيق.
[326] فَإِن قيل: إِذا أخر الْحَج مثلا أَو الْكَفَّارَة حَتَّى اخترمته الْمنية فَمَا بدل الْكَفَّارَة المتروكة؟ قيل لَهُم: الْأَوْقَات لعصي، فَكَذَلِك لَو تَركهَا

(1/334)


وَترك الْعَزْم على الِامْتِثَال فنعصيه، فقد افترق النَّفْل وَالْفَرْض فِي ذَلِك فَإِن تَارِك النَّفْل لَا يعْصى مَعَ ترك الْعَزْم وتارك الْفَرْض الْمُطلق يعْصى مَعَ ترك الْعَزْم.
[327] وَكَذَلِكَ يُفَارق الْفَرْض النَّفْل فِي أَن تَارِك الْفَرْض [لَا] يعْصى بِتَرْكِهِ إِذا أَتَى بِبَدَل عَنهُ وَهُوَ الْعَزْم أَو أَتَى بِمثلِهِ فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات، فانتفاء الْمعْصِيَة عَنهُ مَشْرُوط بِبَدَلِهِ وَانْتِفَاء الْمعْصِيَة عَن تَارِك النَّفْل غير مَشْرُوط بِشَيْء من ذَلِك.
[328] فَإِن قيل: فَمَا معولكم فِي ذَلِك كل مَا قدمتموه على الاعتضاد بِمُطلق اللَّفْظ مَعَ الْمصير إِلَى أَنه لَا يُنبئ عَن الْوَقْت صَرِيحًا وَلَا ضمنا ثمَّ أثبتم الْعَزْم وَلَا يُنبئ اللَّفْظ عَنهُ فلئن جَازَ تثبيت الْعَزْم مَعَ أَن اللَّفْظ الْمُطلق لَا يُنبئ عَنهُ جَازَ تعين الْوَقْت الأول مَعَ أَن اللَّفْظ لَا يُنبئ عَنهُ وَهَذَا أصعب سُؤال للْقَوْم.
وَالْجَوَاب عَنهُ أَن نقُول: اعلموا أَن وجوب الْعَزْم لَا يتلَقَّى من مُطلق الْأَمر وَلَكِن ثَبت ذَلِك بِدلَالَة أُخْرَى فَإِذا ثَبت ذَلِك وتهيأ رتبنا عَلَيْهِ مَا يعضده وَقد أوضحنا بِمَا سبق من الْأَدِلَّة تَسَاوِي الْأَوْقَات وَفِي ثُبُوت تساويها فِي مُقْتَضى اللَّفْظ منع تعْيين وَاحِد مِنْهَا وَلَيْسَ من شَرط تَسَاوِي الْأَوْقَات منع وَاجِب آخر سوى مَا انطوى عَلَيْهِ الْأَمر بِدلَالَة أُخْرَى تدل عَلَيْهِ، فمحصول القَوْل فِي ذَلِك إِذا يؤول إِلَى أَن تعْيين الْوَقْت يَنْفِي تَسَاوِي الْأَوْقَات وَفِي ثُبُوت

(1/335)


[38 / أ] تساويها فِي مُقْتَضى اللَّفْظ منع تعين / وَاحِد مِنْهَا وَلَيْسَ من شَرط تَسَاوِي الْأَوْقَات منع وَاجِب آخر سوى مَا انطوى عَلَيْهِ الْأَمر بِدلَالَة أُخْرَى تدل عَلَيْهِ، فمحصول القَوْل فِي ذَلِك إِذا يؤول إِلَى أَن تعْيين الْوَقْت يَنْفِي تَسَاوِي الْأَوْقَات وَمُطلق الْأَمر يتَضَمَّن تساويها فَفِي التَّعْيِين إبِْطَال قَضِيَّة الْأَمر وَلَيْسَ فِي إِيجَاب الْعَزْم مَا يبطل قَضِيَّة الْأَمر صَرِيحًا وَلَا ضمنا وَهَذَا بَين، فَتَأَمّله.
[329] فَإِن قيل: ففصلوا مذهبكم فِي الْعَزْم وَانْتِفَاء الْمعْصِيَة وثبوتها.
قُلْنَا سنفرد فِي ذَلِك فصلا بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ثمَّ نقُول: كل مَا ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بِمَا إِذا قَالَ الْقَائِل الْمُخَاطب للمخاطب: ألزمتك وأوجبت عَلَيْك ضربا أَو ضرب شخص فالأشخاص تتساوى فِي حكم الضَّرْب الْمَأْمُور بِهِ فَمَا من شخص يتلقاه إِلَّا وَله أَن يتعداه. ثمَّ نقُول فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟ مَتى يعْصى مَعَ تَسَاوِي الْأَشْخَاص؟ فقولنا فِي تَسَاوِي الْأَوْقَات كقولكم فِي تَسَاوِي أَوْصَاف المضروبين.
[330] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم وتداني مَا قدمْنَاهُ وَهِي أَنهم قَالُوا إِذا ورد الْأَمر مُطلقًا لم يخل من ثَلَاثَة أَحْوَال: أما أَن يَقْتَضِي تكْرَار الِامْتِثَال أَو يَقْتَضِي الِامْتِثَال على الِاتِّحَاد من غير بدل أَو يَقْتَضِي اتِّحَاد الِامْتِثَال مَعَ تَقْدِير بدل. فَإِن اقْتضى التّكْرَار واستيعاب الْأَوْقَات فَمن ضَرُورَة ذَلِك الذّهاب إِلَى الْفَوْر. وَإِن اقْتضى فعلا وَلم يتَضَمَّن بَدَلا ثمَّ تَسَاوَت الْأَوْقَات فِيهِ وَجَاز تَأْخِيرهَا فَفِي نفي ذَلِك تَصْرِيح بإلحاقها بالنوافل وَإِن اقْتضى فعلا وبدلا كَانَ [محالا] فَإِن اللَّفْظ لَا يُنبئ عَن الْبَدَل.

(1/336)


قُلْنَا: أما التّكْرَار فَلَا نصير إِلَيْهِ وَلَا نَذْهَب أَيْضا إِلَى أَن [الْبَدَل] يثبت بِمُقْتَضى اللَّفْظ وَلَكِن يثبت بِاللَّفْظِ الِامْتِثَال الْمُجَرّد ثمَّ يثبت بِدلَالَة أُخْرَى الْعَزْم الَّذِي قدرناه بَدَلا وَفِيمَا قدمْنَاهُ غنية إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[331] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم وَهِي أَنهم قَالُوا الْأَمر الْمُطلق يَقْتَضِي الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة واعتقاد الْوُجُوب والعزم، ثمَّ الْعَزْم واعتقاد الْوُجُوب يثبتان على الْفَوْر وَلَا فسحة فِي تأخيرهما عَن أول وَقت الْإِمْكَان فَكَذَلِك الِامْتِثَال وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل من أوجه: أَحدهَا: أَن مِمَّا عولوا عَلَيْهِ الْعَزْم وَهُوَ لَا يَتَقَرَّر على مُقْتَضى أصلهم وَذَلِكَ أَن الْعَزْم إِنَّمَا يتَحَقَّق مُتَعَلقا بِشَيْء فِي الثَّانِي بِشَيْء، فَإِن ادعوا الِامْتِثَال متعقبا لمورد الْأَمر لم يتَصَوَّر الْعَزْم عَلَيْهِ مُقَارنًا لوُجُوده. وَأما الِاعْتِقَاد فَلَا يَصح التَّمَسُّك بِهِ من أوجه: أَحدهَا أَنه على التّكْرَار وَلَا يتخصص بالكرة الْوَاحِدَة والامتثال يتخصص بالكرة الْوَاحِدَة فَلَمَّا تكَرر الِاعْتِقَاد استغرق جملَة أَوْقَات الْإِمْكَان. وَالْوَجْه الآخر فِي الِانْفِصَال أَن تَقول نَحن لَا نوجب اعْتِقَاد الْوُجُوب من قَضِيَّة الْأَمر، فَإِن الْأَمر لَا يُنبئ إِلَّا عَن الِامْتِثَال وَإِنَّمَا ثبتنا وجوب / اعْتِقَاد الْوُجُوب بِدلَالَة أُخْرَى [38 / ب] وَإِنَّمَا خلافنا مَعكُمْ فِي مُوجب اللَّفْظ، فَلَا يَصح أَن يثبت لموجب اللَّفْظ مَا لَا يتلَقَّى مِنْهُ وَهَذَا وَاضح فِي بطلَان مَا قَالُوهُ. ثمَّ نقُول: لَو ورد الْأَمر

(1/337)


الْمُقْتَضِي للْإِيجَاب مُقَيّدا [بتجويز] تراخي الِامْتِثَال عَن مورد الْأَمر فاعتقاد الْوُجُوب عِنْد دُخُول وَقت الِامْتِثَال يتعقب الْأَمر وَإِن كَانَ الِامْتِثَال لَا يتعقبه، فَبَان افتراقهما. ثمَّ وَجه التَّحْقِيق فِي الِاعْتِقَاد أَن نقُول: مَا أطلقتموه من اعْتِقَاد الْوُجُوب لَا يزِيد على الْعلم بِالْوُجُوب وَإِذا أَمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عباده بِشَيْء، فَمن شَرط توجه الْأَمر عَلَيْهِم علمهمْ بِالْأَمر ومورده أَو تمكنهم من الْعلم بِهِ، إِذْ لَا يتَحَقَّق الْإِقْدَام على الِامْتِثَال إِلَّا مَعَ الْعلم بِمَا كلف، وَإِنَّا قد قُلْنَا: إِن مَا يضاد الْعلم يُنَافِي تحقق التَّكْلِيف فَإِذا ثَبت ذَلِك فَمَا دَامَ ذَاكِرًا لِلْأَمْرِ مستجمعا لشرائط الْخطاب فَلَا يتَصَوَّر خلوه عَن الْعلم بِالْأَمر الْمُوجب وَلَو ذهل عَنهُ فِي غفلاته فَلَا نؤثمه، فَتبين من ذَلِك أَن مَا تمسكوا بِهِ من الِاعْتِقَاد وَهُوَ نفس الْعلم بورود الْأَمر على صفته. وَإِذا احطت علما بذلك سَقَطت عصمتهم.
[332] وحقق القَاضِي ذَلِك بِأَن قَالَ إِذا توجه الْأَمر على الْمُكَلف فمقتضاه وَإِن لم يكن أَخْبَار الْإِخْبَار عَن وجوب الْفِعْل على الْمُكَلف وَقد [ثَبت] بِأَصْل الْإِيمَان إدامة تَصْدِيق الرب تَعَالَى. فَمن هَذَا الْوَجْه يَدُوم عَلَيْهِ اعْتِقَاد الْوُجُوب.
[333] وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ فِي المسئلة النَّهْي، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن هَذَا الْكَفّ

(1/338)


عَن الْمنْهِي عَنهُ على الْفَوْر وكل مَا قدمْنَاهُ من طَرِيق الِانْفِصَال فِي مسئلة التّكْرَار يعود فِي المسئلة غير أَنِّي نقلت عَن القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي المسئلة الأولى إِجْرَاء النَّهْي مجْرى الْأَمر من أَنه لَا يَقْتَضِي التّكْرَار وَلم أر لَهُ فِي مسئلة الْفَوْر نصا وَالْأولَى إجراؤه على الْمَعْهُود من قَول الْأَصْحَاب وَهُوَ أَنه يتَضَمَّن الْكَفّ على الْفَوْر.
[334] وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَن قَالُوا: إِذا زعمتم أَن الْأَمر يَقْتَضِي الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة فَهُوَ على التَّقْدِير فعل وَاحِد ثمَّ الْفِعْل الْمُقدر فِي أول الزَّمَان عَن الْفِعْل الْمُقدر فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات فَيبْطل الْمصير إِلَى جَوَاز التَّرَاخِي القَوْل باتحاد الْفِعْل فِي الِامْتِثَال، ويؤول محصول الْكَلَام إِلَى أَن كل فعل من الْأَفْعَال المتقدرة الْوَاقِعَة فِي الْأَوْقَات المتعاقبة مَأْمُور بِهِ وَهَذَا يتناقض لِاتِّحَاد الِامْتِثَال، قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه زلل وَذَلِكَ أَنا لَا نقُول: أَن الِامْتِثَال فعل معِين وَلَكِن إِن حصل الِامْتِثَال فِي أول وَقت الْإِمْكَان فَذَلِك ... الأخرا فالفعل المتماثل لَهُ تَقْدِير فِي أول الْوَقْت الثَّانِي يقوم مقَامه فَكَانَ الْمَأْمُور وَاحِدًا من الْأَفْعَال المتماثلة المتغايرة المتقارنة للأوقات لَا بِعَيْنِه وَلَا يستبعد تثبيت الْإِيجَاب على هَذَا السَّبِيل، وَهَذَا / كَمَا نقُول فِي كَفَّارَة [39 / أ]

(1/339)


الْيَمين على مَا سنعقد فِيهَا بَابا إِن شَاءَ الله عز وَجل. ثمَّ مَا ذَكرُوهُ يبطل عَلَيْهِم بِمَا لَو قَالَ: اضْرِب شخصا فَإِن كل ضرب يقدر صادرا مِنْهُ فِي مَضْرُوب فَهُوَ غيرالضرب الَّذِي يقدر فِي مَضْرُوب آخر. وَقَوْلنَا فِي الْأَوْقَات كَقَوْلِهِم فِي المضروبين.
[335] فَإِن قيل: فَإِذا ورد الْأَمر مُطلقًا مُجَردا فَلَيْسَ فِي ظَاهره وفحواه التَّخْيِير بَين أَشْيَاء، فَإِذا زعمتهم أَن الْمَأْمُور أحد الْأَفْعَال وَهُوَ مُخَيّر فِيهَا فقد تلقيتم التَّخْيِير من مُطلق الْأَمر. فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ينعكس عَلَيْكُم فِي التَّعْيِين وَذَلِكَ أَن الْأَمر الْمُطلق لَيْسَ فِي ظَاهره تعرض لفور فَإِذا حملتموه عَلَيْهِ فقد تعديتم مُوجب اللَّفْظ، ثمَّ نقُول لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْأَمر يُنبئ عَن التَّخْيِير الَّذِي استبعدتموه وَذَلِكَ أَنه إِذا ثَبت أَن الْأَمر الْمُطلق لَا يتَضَمَّن تَخْصِيص الِامْتِثَال بِوَقْت فَكَانَ تَقْدِيره: امتثلوا الْأَمر فِي أَي وَقت شِئْتُم، ثمَّ لَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا فِي أَفعَال مُتَغَايِرَة كَمَا صورتموه فَتبين بذلك إنباء الْأَمر عَمَّا استنكرتموه - فَهَذِهِ عمدهم يتَوَصَّل بهَا إِلَى أغيارها.
(77) فصل

[336] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا قُلْتُمْ أَن الْأَمر بِالْحَجِّ مثلا على التَّرَاخِي وزعمتم أَن الْأَمر بالكفارات الَّتِي تجب عَن أَسبَاب لَا تعدِي فِيهَا على التَّرَاخِي فَمَا تَفْصِيل مذهبكم فِي تَركهَا المعقب سمة الْعِصْيَان.
قيل لَهُم: هَذِه مسئلة خَاضَ فِيهَا الْفُقَهَاء، وَنحن نومئ إِلَى مذاهبهم ثمَّ نوثر الصَّحِيح مِنْهَا فَمن الْفُقَهَاء من صَار إِلَى أَن من تمكن من الْحَج بُرْهَة من

(1/340)


دهره ثمَّ اخترمته الْمنية وَلم يحجّ فَتبين لَهُ أَنه مَاتَ عَاصِيا، وتتسلط الْمعْصِيَة على أول وَقت الْإِمْكَان إِلَى الاخترام، وَمِنْهُم من قَالَ نعصيه ونخصص ذَلِك بآخر سني الْإِمْكَان وَكَذَلِكَ نخصص الْمعْصِيَة فِي الْكَفَّارَات

(1/341)


بآخر وَقت الْإِمْكَان من ملتزمها. وَصَارَ مُعظم الْفُقَهَاء إِلَى أَن من أخر الصَّلَاة من أول وَقتهَا إِلَى وسط الْوَقْت ثمَّ اخترم فَلَا نعصيه أصلا بِخِلَاف مَا علق وُجُوبه بمدى الْعُمر وَقد صَار بعض من لَا يؤبه لَهُ من المنتمين إِلَى الْفُقَهَاء إِلَى أَنه ينتسب إِلَى الْمعْصِيَة فِي هَذِه المسئلة أَيْضا وَهَذَا بعيد جدا فَإِن من زعم أَن من دخل عَلَيْهِ أول وَقت الصَّلَاة وانقضى عَلَيْهِ مِنْهُ مَا يسع قدر الْفَرْض ثمَّ اخترم فَيَمُوت عَاصِيا فقد اقْترب من خرق الْإِجْمَاع. وَأما الَّذِي يرتضيه

(1/342)


الْمُحَقِّقُونَ من الْأُصُولِيِّينَ فَهُوَ أَنا إِذا سوغنا لَهُ التَّأْخِير فِي الْوَاجِبَات الَّتِي قدمناها فأخرها وَهُوَ عازم على الْإِقْدَام عَلَيْهَا فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات فَلَا نعصيه أصلا، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنا إِذا جَوَّزنَا لَهُ التَّأْخِير فَأخر وَترك مَا يسوغ لَهُ تَركه لبدله وَهُوَ الْعَزْم فالمصير إِلَى التعصية بِسَبَب تَأْخِير مجوزا شرعا محَال.
[337] فَإِن قَالَ قَائِل: فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه إِنَّمَا جوز لَهُ التَّأْخِير بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة واستشهدوا على ذَلِك بالتعزير فَإِن الزَّوْج لَهُ أَن يُعَزّر زَوجته / فَلَو أدّى إِلَى تلفهَا تبين لنا وجوب الضَّمَان على الزَّوْج وَإِن [39 / ب] كُنَّا قد جَوَّزنَا لَهُ الْإِقْدَام على التَّعْزِير أَولا.

(1/343)


وَاعْلَم أَن هَذَا لَا تَحْقِيق وَرَاءه وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِذا زعمتم معاشر الْفُقَهَاء أَن تَأْخِير الْكَفَّارَات سَائِغ فَلَا تخلون أما أَن تزعموا أَن الانتساب إِلَى المعصيبة مُعَلّق على مَا يُحِيط الْمُكَلف بِهِ علما، أَو تزعموا أَنه مُعَلّق على مَا لَا يُحِيط علمه بِهِ، وَلَا يتَوَصَّل إِلَى مَعْرفَته، فَإِن زعمتم أَن الانتساب إِلَى الْمعْصِيَة مُعَلّق على مَا لَا يتَحَقَّق من الْمُكَلف علمه، فَهَذَا محَال، فَإِن من شَرط ثُبُوت قضايا التَّكْلِيف تمكن الْمُكَلف من الْعلم بالمندوبات والواجبات، وَهَذَا بَاطِل أطبق عَلَيْهِ الكافة، وَفِي تَجْوِيز التَّكْلِيف مَعَ اسْتِحَالَة الْوُصُول إِلَى الْعلم بحقيقته مصير إِلَى تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق على مَا قدرناه فِي غير مَوضِع وَإِن زعمتم أَن الْمعْصِيَة تستند إِلَى مَا يُعلمهُ الْمُكَلف فَهَذَا يُنَاقض الأَصْل الَّذِي أسستموه، وَذَلِكَ أَنكُمْ زعمتم أَن مُدَّة الْعُمر وَقت لِلْحَجِّ وَأَدَاء الْكَفَّارَات فَلَو تعذر من ملتزمها الْإِقْدَام عَلَيْهَا على مَوته فَلَا ينْسب إِلَى الْمعْصِيَة. وانقراض الْعُمر وانتهاؤه مِمَّا لَا يسْتَدرك، وَهَذَا وَاضح فِي بطلَان مَا قَالُوهُ، ونستدل على جَمَاهِير الْفُقَهَاء بالاخترام فِي أَوسط وَقت الصَّلَاة [المؤقتة] وَلَا يَسْتَقِيم فِي ذَلِك فصل سديد وَلَا يرتكبه إِلَّا متجاهل.
[338] فَإِن قيل: فَمَا الميز بَين النَّوَافِل والواجبات؟ ، قُلْنَا: قد سبق القَوْل فِيهِ فِي أثْنَاء مسئلة الْفَوْر وسنزيده إيضاحا إِن شَاءَ الله عز وَجل فِي بَاب ثُبُوت وَاجِب من جمل لَا بِعَيْنِه.
[339] فَإِن قيل: فَهَل للْوَاجِب على التَّرَاخِي وَقت تحكمون فِيهِ بِوُجُوبِهِ تضيقا؟

(1/344)


قيل: قد صَار بعض الْعلمَاء إِلَى أَن من ألمت بِهِ الآلام، وحس من نَفسه بِالْمَوْتِ، وَغلب ذَلِك على ظَنّه، فَتعين عَلَيْهِ الابتدار إِلَى الْحَج وَالْكَفَّارَة مَعَ الاقتدار عِنْد الْغَلَبَة على الظَّن خشيَة الْفَوات وَهَذَا لَو صَار إِلَيْهِ صائر لم يبعد، وَهَذَا كَمَا أَنا نقُول الضَّرْب المبرح الَّذِي يغلب على الْقلب إفضاؤه إِلَى مَا يُجَاوز حد التَّأْدِيب محرم على الزَّوْج عِنْد حُصُول غَلَبَة الظَّن، ومعظم الْأَحْكَام فِي المجتهدات منوطة بغلبات الظنون.
[340] فَإِن قيل: فَمَا وَجه انفصالكم عَمَّا ألزمتم فِي التَّعْزِير؟ وَرُبمَا يعتضدون بِمَا يداني ذَلِك وَيَقُولُونَ إِنَّمَا يُبَاح للْمُسلمِ الرَّمْي إِلَى صف الْكَفَرَة فِي المعترك بِشَرْط أَن لَا يُصِيب مُسلما وَإِن كَانَ قد يبدر ذَلِك مِنْهُ.
قُلْنَا: هَذَا زلل عَظِيم مِنْكُم فِي أَحْكَام التَّكْلِيف، فَأَما الَّذِي قدمتموه من قَضِيَّة التَّعْزِير فأعلموا أننا لَا نجوز لَهُ تعزيرا يعري فِي مَعْلُوم الله عز وَجل عَن استعقاب تلف، فَإنَّا لَو خصصنا الْجَوَاز بذلك / أفْضى ذَلِك بِنَا إِلَى تَعْلِيق [40 / أ] الْأَحْكَام على مَا لَا يتَعَلَّق الْعلم بِهِ أصلا، وَلَا يتَقَدَّر تمكن الْعلم بِهِ، وَقد أوضحنا مُنَافَاة ذَلِك لقضايا التَّكْلِيف وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيل أَن نقُول إِنَّمَا نجوز

(1/345)


للْمُسلمِ الرَّمْي إِلَى الْكَفَرَة بِشَرْط أَلا يُصِيب مُسلما فَإِن الْعلم بذلك مِمَّا لَا يدْخل تَحت الْإِمْكَان فِي مجاري الْعَادَات وَلَكِن القَوْل فِي المسئلتين أَنه جوز لَهُ الْإِقْدَام على مَا الْأَغْلَب أَنه لَا يعقب تعزيزه مَا يُؤَدِّي إِلَى تعدِي المجوز وَهَذَا يطرد فِي المسئلتين والمرجع إِلَى أغلب الْعَادَات فيهمَا.
[341] فَإِن قيل: فَلَو تعقب التَّعْزِير الَّذِي لَا يغلب إفضاء مثله إِلَى التّلف أَو أصَاب السهْم وَاحِدًا من المستأسرين أَلَيْسَ الضَّمَان يتَعَلَّق بِهِ؟
قيل لَهُم: فِي الضَّمَان تَفْصِيل للفقهاء فَإِن قُلْنَا بِهِ فَلَيْسَ فِيهِ مُنَافَاة لما قدمْنَاهُ. وَكم من مُبَاح يتَعَلَّق بِهِ لُزُوم شَيْء، وأمثلة ذَلِك لَا تحصى من موارد الشَّرِيعَة، فَتَأمل ذَلِك.

(1/346)


(78) فصل

[342] إِذا خصصت الْعِبَادَة المفترضة بأوقات فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون مستغرقة لَهَا وَإِمَّا أَن لَا تكون مستغرقة لَهَا، فَإِن كَانَت مستغرقة للأوقات المضروبة فَلَا يتَقَدَّر فِيهَا تصور تراخ وفسحة تَأْخِير، وَذَلِكَ كَالصَّوْمِ علق بِمَا بَين مطلع الْفجْر إِلَى وجوب الشَّمْس. وَإِن كَانَت الْعِبَادَة غير مستغرقة للأوقات المضروبة لَهَا كَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَة المؤقتة. فقد اخْتلف الْعلمَاء فِي نعتها بِالْوُجُوب فِي أول الْوَقْت وأوسطه وَآخره.
فَذهب أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِلَى أَن الصَّلَاة إِنَّمَا تجب بآخر الْوَقْت فَإِذا بقى من الْوَقْت الْقدر الَّذِي يسع فعل الصَّلَاة من غير زِيَادَة فَحِينَئِذٍ يتَحَقَّق وجوب الصَّلَاة ثمَّ صَار إِلَى أَن الصَّلَاة لَو أُقِيمَت فِي أول وَقتهَا تأدى الْفَرْض بهَا وَاخْتلفت عِبَارَات أَصْحَابه فَذهب بعض متعسفيهم إِلَى أَن الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت نَافِلَة قَائِمَة مقَام الْفَرْض وَذهب بَعضهم إِلَى أَن

(1/347)


الْوُجُوب فِيهَا مرقوب فَإِن انْقَضى الْوَقْت والمكلف مستجمع لشرائط الِالْتِزَام تبين بِالْآخرِ أَن الْمقَام أَولا وَقع فرضا إِسْنَادًا وَذهب بَعضهم إِلَى أَن آخر الْوَقْت إِذا دخل ثَبت آنِفا من غير إِسْنَاد انقلاب تِلْكَ الصَّلَاة فرضا فِي هذيان طَوِيل لَهُم، وَذهب بعض المنتمين إِلَى الْفُقَهَاء إِلَى أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت فَإِن أخرت كَانَت قَضَاء وَهَذَا الْقَائِل مَعَ مصيره إِلَى ذَلِك

(1/348)


يُوَافق الكافة فِي جَوَاز التَّأْخِير.
[343] وَقد نقل عَن مَالك رَضِي الله عَنهُ قريب من ذَلِك فِي الْحَج وَجُمْلَة الْعِبَادَات الْمُتَعَلّقَة بالعمر وَيَأْتِي مثل ذَلِك فِي الصَّلَاة.

(1/349)


[344] وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله أَن الصَّلَاة يتَحَقَّق [40 / ب] وُجُوبهَا فِي مفتتح الْوَقْت / وَلَا يتخصص بِالْوَقْتِ الأول بل تتساوى جملَة الْأَوْقَات المصروفة فِي حكم الْوُجُوب كَمَا تتساوى جملَة الْأَوْقَات فِي امْتِثَال الْأَمر الْمُطلق فالأوقات المضروبة للصَّلَاة على التَّعْيِين كأوقات الْإِمْكَان فِي الْعُمر فِيمَا ورد الْأَمر بِهِ مُطلقًا من غير تأقيت بِهِ نَحْو الْحَج وَمثله.
[345] ثمَّ اعْلَم أَنا إِذا فسحنا لَهُ فِي تَأْخِير الصَّلَاة من أول وَقتهَا فَلَا يجوز ذَلِك التّرْك إِلَّا لبدل عَنهُ وَهُوَ الْعَزْم على فعله فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات

(1/350)


بِشَرْط بَقَاء الصِّفَات المشترطة فِي التَّكْلِيف على مَا أومأنا إِلَيْهِ فِي أثْنَاء مسئلة الْفَوْر.
[346] وَهَا نَحن نبطل مَا حكينا من الْمذَاهب خلاف مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا حَتَّى إِذا بطلت تعين مَذْهَبهمَا للصِّحَّة.
فَأَما أَبُو حنيفَة فَيُقَال لَهُ أَلَسْت وافقتنا أَن من أَقَامَ الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا ليتأدى الْفَرْض بذلك فَلَا تَخْلُو بعد تَسْلِيم هَذَا الأَصْل إِمَّا أَن تَقول أَن مَا أَدَّاهَا فِي أول الْوَقْت وَقع نفلا قَائِما مقَام الْفَرْض أَو لَا تَقول ذَلِك فَإِن قُلْتُمْ ذَلِك أدّى ذَلِك إِلَى خرق إِجْمَاع الْأمة، وَذَلِكَ أَن قَائِلا لَو قَالَ لكم إِذا أَقَامَ الْمُكَلف الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا فَهَل تحكمون بِوُجُوب الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي آخر الْوَقْت، أَو لَا تحكمون بِوُجُوبِهَا أصلا بعد مَا فرطت الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، فَإِن لم تحكموا بِوُجُوبِهَا فِي آخر الْوَقْت لزمكم أَن تَقولُوا دخل وَقت الظّهْر على مُكَلّف مقتدر على إِقَامَة الصَّلَاة بشرائطها مَعَ الِاخْتِيَار وارتفاع الْأَعْذَار وَلم تجب عَلَيْهِ الظّهْر، وَهَذَا مراغمة مَا عَلَيْهِ الْأمة، وَيلْزم من قوده أَن تَقولُوا: من عمر مائَة أَقَامَ الصَّلَاة فِي جَمِيع عمره فِي أَوَائِل الْأَوْقَات فقد انْقَضى عمره وَمَا أوجب الله عَلَيْهِ صَلَاة، وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ، وَإِن هم قَالُوا: تجب الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت مَعَ جَوَاز تَقْدِيم الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، فيلزمهم من ذَلِك شَيْئَانِ: أَحدهمَا خرق الْإِجْمَاع، وَالثَّانِي إبِْطَال مَا عَلَيْهِ معولهم فِي المسئلة، فَأَما خرق

(1/351)


الْإِجْمَاع فَإِنَّمَا يلْزمهُم لِأَن الْأمة مجمعة على أَن من أَقَامَ الظّهْر فِي أول الْوَقْت فَلَا يتَعَلَّق بِهِ إِلْزَام الظّهْر فِي آخر الْوَقْت. وَأما إبطالهم مَا عولوا عَلَيْهِ فَذَلِك أَنهم قَالُوا: حَقِيقَة جَوَاز التَّأْخِير، فَهَذَا لَو قَالُوا: إِن الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت وَقعت نفلا.
[347] ثمَّ أعقب الْفُقَهَاء مَا قدمْنَاهُ بشيئين: أَحدهمَا أَنهم قَالُوا لَو كَانَت الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت نفلا لجَاز للْمُصَلِّي أَن يَنْوِي النَّفْل وَقد وافقتمونا على أَنه لَو نوى ذَلِك لم يَقع موقع الْفَرْض. وأوضحوا ذَلِك بِأَن [41 / أ] قَالُوا التَّنَفُّل قبل / الزَّوَال سَائِغ كَمَا أَنه جَائِز بعده فَلَو كَانَت الصَّلَاة نفلا لما اخْتصّت بِمَا بعد الزَّوَال. وَالَّذِي نرتضيه الِاكْتِفَاء بِمَا قدمْنَاهُ.
[348] وَإِن قَالُوا: الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت مَوْقُوفَة فَإِن انْقَضى الْوَقْت والمكلف على شَرَائِط الصِّحَّة والالتزام بَان لنا وُجُوبهَا، وَإِن اخترم قبل آخر الْوَقْت بَان لنا وُقُوعهَا موقع النَّفْل وَهَذَا مَا تميل [إِلَيْهِ] الدهماء من فُقَهَاء أَصْحَاب أبي حنيفَة، ثمَّ تمثلوا فِي ذَلِك بأمثلة فِي الشَّرِيعَة نصير فِيهَا إِلَى الْوَقْف أَولا ثمَّ نسند إِلَيْهَا حكما آخر، فَنَقُول فِي الرَّد على هَؤُلَاءِ: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنا نقُول: إِذا انْقَضى عَلَيْهِ الْوَقْت ألستم

(1/352)


زعمتم أَنه يتَبَيَّن أَن الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت وَقعت فرضا أول مَا وَقعت، فَنَقُول: أَنْتُم فَلَا تخلون إِذا إِمَّا أَن تزعموا أَنه بَان لنا وُجُوبهَا فِي أول الْوَقْت حَتَّى لَو قدر تَأْخِيره عَن أول الْوَقْت نسبناه إِلَى الْعِصْيَان، أَو لَا تَقولُونَ ذَلِك؟ فَإِن قُلْتُمْ تبين لنا أَنه كَانَ لَا يجوز لَهُ التَّأْخِير، فَهَذَا خرق الْإِجْمَاع، وَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى تَقْرِيره لوضوحه وَإِن قُلْتُمْ لم يبن لنا تضيق الْوَقْت، فقد أثبتم وَاجِبا يجوز تَأْخِيره، وَهَذَا أوضح من فلق الصُّبْح.
وَالْوَجْه الثَّانِي: فِي الرَّد عَلَيْهِم أَن نقُول: من أَقَامَ الظّهْر فِي أول وقته ثمَّ اخترم فِي أَوسط الْوَقْت فقد أَجمعت الْأمة على أَنه قد أَقَامَ الظّهْر ثمَّ أَجمعُوا أَن الْمُكَلف مَعَ سَلامَة الْأَحْوَال وارتفاع الْأَعْذَار لَو بدر مِنْهُ مَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ ظهرا أَولا مَعَ الِاقْتِصَار عَلَيْهِ [لَا] يكون نفلا، فَلَا يزالون يتورطون فِيمَا يلْزمهُم خرق الْإِجْمَاع. واجتز بِمَا قدمْنَاهُ قبل ذَلِك.
[349] وَإِن قَالُوا: إِن الصَّلَاة المقامة فِي أول وَقتهَا وَقعت نفلا ثمَّ انقلبت فرضا لَا على وَجه التبين والإسناد. فَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَا مضى من الْأَفْعَال وانقضى من الْعِبَادَات على كمالها فيستحيل قلب صفتهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَضَت وَانْقَضَت منعوتة بالتطوع فَلَو وصفناها ابْتِدَاء بِالْوُجُوب كَانَ محالا، لِأَن الْوَصْف بِالْوُجُوب إِنَّمَا يتَحَقَّق إِمَّا فِي مَوْجُود حَال حُدُوثه، وَإِمَّا فِيمَا سيوجد. فَأَما مَا انْقَضى وجوده على خلاف نعت الْوُجُوب فيستحيل ابْتِدَاء وصف الْوُجُوب لَهُ وَهَذَا كَمَا أَن فعلا لَو وَقع فِي غير موقع

(1/353)


الطَّاعَات وانقضى فيستحيل وَصفه بعد انقضائه ابْتِدَاء وإنشاء إِلَّا أَن يتَبَيَّن بِكَوْنِهِ طَاعَة، اللَّهُمَّ وَإِن سبق لنا مُقَارنَة سمة الطَّاعَة لوجودها وَهَذَا بَين لَا ريب فِيهِ.
وَالْوَجْه الآخر للإبطال أَن نقُول: ألستم عولتم فِيمَا إِلَيْهِ ذهبتم على أَن من حكم الْوَاجِب أَن يَعْصِي الْمُكَلف بِتَرْكِهِ، فَنَقُول لكم بِمَا دخل آخر [41 / ب] الْوَقْت فقد تحقق مِنْهُ التّرْك / وَلم ينتسب إِلَى الْمعْصِيَة وَالَّذِي بدر مِنْهُ فِي أول الْوَقْت غير مَا يجب عَلَيْهِ فِي آخر الْوَقْت فقد أثبتم وجوبا مَعَ انْتِفَاء الْعِصْيَان عِنْد تَحْقِيق تَركه، فاتضح بطلَان مَا قَالُوهُ من كل الْوُجُوه، وَلم يبْق إِلَّا الْقطع بِأَن الصَّلَاة تجب وَلَا يتخصص وُجُوبهَا بآخر الْوَقْت. فَهَذَا أوجه الرَّد على أَصْحَاب أبي حنيفَة.
[350] فَأَما من زعم من أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت، وَلَو أخرت عَنهُ لكَانَتْ قَضَاء فَهَذَا مَذْهَب لَا طائل وَرَاءه، فَأَنا نقُول: إِذا زعمتم أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت. فَهَل تَقولُونَ: إِن الْمُكَلف يَعْصِي بتأخيرها؟ فَإِن قُلْتُمْ ذَلِك، خرقتم الْإِجْمَاع المنعقد قبل حُدُوث هَذَا الْمَذْهَب، وَقطع الْكَلَام عَنْكُم، وَإِن قُلْتُمْ: إِنَّه لَا يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ، فَنَقُول لكم: فَلَو أَقَامَهَا فِي الْوَقْت الثَّانِي هَل تَبرأ ذمَّته؟ فَإِن قَالُوا: تَبرأ ذمَّته، قيل لَهُم: فَلَا خلاف بَيْننَا فِي الْمَعْنى، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي تَسْمِيَة الصَّلَاة أَدَاء أَو قَضَاء، فَمن أَيْن عَرَفْتُمْ الْفَصْل بَين الْوَقْتَيْنِ؟ وَإِضَافَة الصَّلَاة إِلَى الْوَقْت الأول كإضافتها إِلَى الْوَقْت الثَّانِي، فاضمحل هَذَا الْمَذْهَب وَرجع محصوله إِلَى التسميات، وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِنَّمَا يُطلق الْقَضَاء على مَا يسْتَدرك وُجُوبه بِالْأَمر بِالْأَدَاءِ كَمَا

(1/354)


سنقرره إِن شَاءَ الله عز وَجل وَهَؤُلَاء وافقونا أَن إِقَامَة الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت يدْرك وُجُوبهَا بِالْأَمر الْمُطلق فِي الصَّلَاة المؤقتة بجملة الْأَوْقَات.
[351] فَإِذا بطلت هَذِه الْمذَاهب تعين مَا ارْتَضَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا.
[352] فَإِن قَالُوا: لَيْسَ من وصف الْوَاجِب أَن يَعْصِي الْمُكَلف بِتَرْكِهِ ويتحقق التّرْك فِي أول الْوَقْت من غير انتساب إِلَى الْمعْصِيَة فَلَو جَازَ إِثْبَات وصف الْوُجُوب على هَذَا الْوَجْه جَازَ وصف النَّوَافِل بِالْوُجُوب. وَبِمَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة ننفصل عَن ذَلِك، ثمَّ نقُول اعلموا أَن الْوَاجِب عندنَا فِي أول الْوَقْت أحد شَيْئَيْنِ: إِمَّا فعل الصَّلَاة أَو الْعَزْم على إِقَامَتهَا فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات فَأَيّهمَا فعل فقد أدّى مَا كلف فَإِن تَركهمَا عصى، ويتنزل الْمُكَلف فِي أول الْوَقْت منزلَة من تلْزمهُ كَفَّارَة الْيَمين وتخيره بَين ثلث خلال وَقد يضيق عَلَيْهِ وَقت التَّكْفِير. وَقد يتضيق فِي بعض الْمَوَاضِع فَلَو قَالَ قَائِل أَن شَيْئا من أَقسَام الْكَفَّارَة لَيْسَ بِوَاجِب لِأَنَّهُ لَو تَركه لم يعْص بِهِ، كَانَ محالا، بل الْوَاجِب أَحدهمَا، على مَا نقرره بعد ذَلِك فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله عز وَجل، فَلَو ترك كليهمَا عصى حِينَئِذٍ مَعَ ثُبُوت التَّضْيِيق. ثمَّ طرد ذَلِك فِي سَائِر الْأَوْقَات حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى آخر الْوَقْت فَنَقُول: لَا يتَصَوَّر مِنْهُ الْعَزْم على الْأَدَاء فِي الِاسْتِقْبَال، فَتعين فعل الصَّلَاة فَهَذَا وَجه التَّحْقِيق وكشف الغطاء وَمن أحَاط / [42 / أ] علما بِهِ لم يبْق عَلَيْهِ لبس إِن شَاءَ الله عز وَجل.

(1/355)


(79) فصل

[353] فَإِن قيل: هَل تجوزون تأقيت الْعِبَادَة بِوَقْت لَا يَسعهَا مَعَ الْمصير إِلَى إِحَالَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق؟ .
قُلْنَا: لَا يجوز ذَلِك على هَذَا الأَصْل فَإِنَّهُ من المحالات.
[354] فَإِن قيل: أَلَيْسَ قَالَ الْفُقَهَاء إِن من أدْرك من أَصْحَاب الضرورات قدر رَكْعَة من آخر صَلَاة الْعَصْر فَيلْزمهُ الْعَصْر فِي وَقت لَا يَسعهَا وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ من نذر أَن يَصُوم يَوْم يقدم زيد فَلَو قدم لَيْلًا لم يلْزم بِالنذرِ شَيْئا

(1/356)


وَلَو قدم نَهَارا

(1/357)


ألزمتم الصَّوْم، وَإِن كَانَ بَقِيَّة الْيَوْم بعد مقدمه لَا يسع صوما مَشْرُوعا.
قيل: إِذا أطلق الْفُقَهَاء عبارَة الْوُجُوب فِي هَذَا الْمنَازل فَلَا يعنون بهَا وجوب الْأَدَاء مَعَ تضييق الْوَقْت وَلَكِن يعنون بذلك وجوب الْقَضَاء فَإِذا قَالُوا من أدْرك من الْعَصْر وَجب عَلَيْهِ الْعَصْر، أَرَادوا بذلك أَو يُوقع المسئلة الَّتِي صورتموها فَلَا يعنون بذلك وجوب صَوْم ذَلِك الْيَوْم وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ وجوب الْقَضَاء وَهُوَ مُصَرح بِهِ كَلَامهم فَإِنَّهُم يفصحون بِالْقضَاءِ ويفصلون الْمذَاهب فِي وجوب الِامْتِثَال فِي يَوْم الْمُقدم فَتبين المرام على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ.

(1/358)


(80) القَوْل فِي وُرُود الْإِيجَاب الْمُتَعَلّق بأَشْيَاء على جِهَة التَّخْيِير

[355] فَإِن قَالَ قَائِل: هَل تجوزون وُرُود الْإِيجَاب والإلزام مُتَعَلقا بِشَيْء من أَشْيَاء على جِهَة التَّخْيِير وَانْتِفَاء التَّعْيِين.
قُلْنَا: نجوز ذَلِك وَلَا نَحْفَظ عَن أحد من أَصْحَاب الْمذَاهب منع تَجْوِيز ذَلِك على الْجُمْلَة، وَلَكنَّا ندل عَلَيْهِ بأوضح شَيْء فَنَقُول: إِذا وَجب على الحانث فِي يَمِينه الْكَفَّارَة، وَورد الشَّرْع بتخييره بَين ثَلَاث خلال، أَحدهَا الْعتْق وَالثَّانيَِة الْإِطْعَام وَالثَّالِثَة الْكسْوَة فَهَذَا مِمَّا يجوز، وَلَا يستبعد عقلا وَذَلِكَ أَن كل وَاحِد مِنْهَا يَقع التَّخْيِير فِيهِ مِمَّا يَصح اكتسابه، وَقد قدمنَا فِيمَا سبق أَن كل مَا يَصح اكتسابه يَصح تعلق التَّكْلِيف بِهِ فَإِذا كَانَ كل وَاحِد على النَّعْت الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَلَيْسَ فِي تَفْوِيض إِيثَار وَاحِد إِلَى الْمُكَلف تنَاقض وتناف، فَتبين جَوَاز ذَلِك عقلا.
[356] وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة فِي تمهيد جَوَاز ذَلِك لَهُ إِلَى أَن مُقْتَضى

(1/359)


قواعدهم فِي [بِنَاء] التَّكْلِيف على الْمصَالح وَزَعَمُوا أَنه لَا يستبعد فِي مجاري الْمصَالح أَن يَسْتَوِي شَيْئَانِ فِي الْأَدَاء إِلَى مصلحَة عبد ثمَّ إِذا تماثلا خير الْمُكَلف بَينهمَا وأوضحوا ذَلِك عِنْد أنفسهم بمثال فِي الشَّاهِد وَقَالُوا إِذا [42 / ب] طلب الْأَب مصلحَة ابْنه فِي أمره وَعلم / أَنه لَو ألطف لَهُ القَوْل صلح فِيمَا يرومه مِنْهُ، وَلَو حباه بِدِينَار صلح أَيْضا، فَيتَخَيَّر فِي طلب صَلَاحه بِأَحَدِهِمَا.
[357] وَنحن معاشر أهل الْحق نستغني عَن هذيانهم فِي الصّلاح والأصلح، ونبني جَوَاز التَّكْلِيف على مَا يجوز اكتسابه إِذا احتلنا القَوْل بتكليف مَا لَا يُطَاق.
[358] ثمَّ اعْلَم أَن التَّخْيِير قد يتَعَلَّق بمتضادين يَسْتَحِيل الْجمع بَينهمَا عقلا، وَقد يتَعَلَّق بمختلفين يجوز بَينهمَا عقلا وسمعا، وَقد يتَعَلَّق بمختلفين يجوز الْجمع بَينهمَا عقلا وَقد منع الشَّرْع بَينهمَا، وَقد يتَعَلَّق التَّخْيِير فِي الْإِلْزَام بشيئين ويتخصص أَحدهمَا لَو آثره الْمُكَلف بِزِيَادَة ندب وإيضاح ذَلِك بالأمثلة: أما التَّخْيِير بَين المتضادين فَهُوَ نَحْو وُرُود الْأَمر بِالْقيامِ وَالْقعُود، وَأما التَّخْيِير بَين مُخْتَلفين منع الشَّرْع الْجمع بَينهمَا وَإِن سَاغَ تَقْدِير ذَلِك عقلا، فَهُوَ نَحْو تَخْيِير الْوَلِيّ بَين الْأَكفاء فِي تَزْوِيج وليته، فَيثبت التَّخْيِير بَين آحادهم، وَلَا يجوز الْجمع بَين اثْنَيْنِ فِي حكم التَّزْوِيج، وَكَذَلِكَ إِذا انطوى

(1/360)


الْعَصْر على أشخاص يصلح كل وَاحِد مِنْهُم للْإِمَامَة فَيجب نصب أحدهم، والتخيير فِي ذَلِك إِلَى أهل الْحل وَالْعقد عِنْد التَّسَاوِي فِي الصِّفَات وَلَو أَرَادوا الْجمع بَين إمامين لم يجز لَهُم ذَلِك وأمثلته تكْثر، وَأما تَخْصِيص إِحْدَى الخيرتين بِزِيَادَة تحريض فَهُوَ نَحْو الْإِعْتَاق مَعَ الْإِطْعَام فِي أغلب الْأَوْقَات فَإِن الْعتْق يخصص بِزِيَادَة تحريض.
[359] فَإِن قيل: يتَصَوَّر التَّخْيِير بَين مثلين قبل ان يتساويا فِي كل الْأَوْصَاف، وَلم يتخصص أَحدهمَا عَن الثَّانِي بِوَصْف وَوقت وَتعذر الميز بَينهمَا، فَلَا يجوز تثبيت التَّخْيِير مَعَ تعذر الْعلم بالميز فَإِن من شَرط ثُبُوت أَحْكَام التَّكْلِيف إِمْكَان الْعلم بمواقعها. وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن قَائِلا لَو قَالَ: يتَخَيَّر الْمُكَلف بَين أَن يُصَلِّي أَربع رَكْعَات وَبَين أَن يُصَلِّي أَربع رَكْعَات مَعَ تساويهما فِي كل النعوت كَانَ ذَلِك مِمَّا لَا يدْرك فِي حكم التَّكْلِيف وَإِن كَانَ المتماثلان [متغايرين] كَمَا أَن الْمُخْتَلِفين [متغايران] .
[360] ثمَّ اعْلَم أَن مُعظم الْعِبَادَات فِي الشَّرْع على التَّخْيِير وَمَا من عبَادَة إِلَّا ويدخلها التَّخْيِير إِلَّا مَا يشذ ويندر.
فَإِن قيل: فَمَا وَجه التَّخْيِير فِي كَفَّارَة الْقَتْل فِي حق المقتدر على الْإِعْتَاق.

(1/361)


قُلْنَا: إِذا كَانَت لَهُ رِقَاب تخير فِي أَيهمْ شَاءَ وَإِذا لم تكن تخير فِي ابتياع أَي عبد شَاءَ إِذا كَانَ مستجمعا لشرائط الْأَجْزَاء.
[361] فَإِن قيل: إِذا تعين رد الْوَدِيعَة فَمَا معنى التَّخْيِير فِيهَا مَعَ الْإِمْكَان.
قيل: [يردهَا] بِيَمِينِهِ أَو يسَاره وهما فعلان متغايران، وَكَذَلِكَ يتَوَضَّأ مَعَ تعْيين الْوضُوء بِأَيّ مَاء شَاءَ، وَيُصلي مَعَ ضيق الْوَقْت فِي أَي مَكَان شَاءَ مَعَ أَي لبوس سَاتِر أَرَادَ، فَمَا من عبَادَة وَطَاعَة إِلَّا ويتجمع فِيهَا ضروب من الْخيرَة.
[43 / أ] [362] فَإِذا احطت علما بذلك / فَاعْلَم أَن الشَّرْع إِذا تعلق باقتضاء إِيجَاب فِي أَشْيَاء على التَّخْيِير مَعَ تساويها فِي الصِّفَات فَمَا صَار إِلَيْهِ المتكلمون وَمن يعول على مذْهبه من الْفُقَهَاء أَن الْوَاجِب مِمَّا وَقع فِيهِ التَّخْيِير وَاحِد لَا بِعَيْنِه، وَلَا تُوصَف كلهَا بِالْوُجُوب وَلَيْسَ الْمَعْنى بقولنَا إِن الْوَاجِب وَاحِد لَا بِعَيْنِه إِنَّه مُتَعَيّن فِي علم الله ملتبس علينا وَلَكِن مَا من وَاحِد مِنْهَا قد

(1/362)


يُبدل سَائِر إِلَّا تعلّقت بِهِ بَرَاءَة الذِّمَّة.
[363] وَذهب الجبائي وَابْنه فِي فِئَة من أتباعهما وشرذمة من

(1/363)


الْفُقَهَاء أَن الْكل مِنْهَا وَاجِب وَلَا يتخصص بِالْوُجُوب مِنْهَا وَاحِد، حَتَّى قَالُوا من حنث فِي يَمِينه وَجب عَلَيْهِ الْإِعْتَاق وَالْكِسْوَة وَالْإِطْعَام وَلَا نقُول: إِن الْوَاجِب وَاحِد فِي ذَلِك، وَالدَّلِيل فِي الرَّد عَلَيْهِم أَن نقُول: قد تتَعَلَّق الْخيرَة بأَشْيَاء يحرم الْجمع بَينهَا وَذَا نَحْو مَا تمثلنا بِهِ فِي الْإِمَامَة وَالتَّزْوِيج من

(1/364)


الإكفاء إِلَى غَيرهمَا من الْأَمْثِلَة. فَنَقُول لخصومنا لَا تخلون إِمَّا أَن تحكموا بِأَن الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِد لَا بِعَيْنِه فقد سلمتم المسئلة فَإِن معولكم فِي وصف كلهَا بِالْوُجُوب على تساويها فِي النعوت والإفضاء إِلَى الصّلاح لَو قدرت أفرادا فزعمتم أَنه إِذا وَجب وصف وَاحِد بِالْوُجُوب وَجب وصف مثله بِمثل وَصفه لَا ستحالة أَن يثبت للشَّيْء وصف وَلَا يثبت مثل لمثله، وَإِن زعمتم أَن كلهَا وَاجِب فيلزمكم من ذَلِك الْمصير إِلَى وجوب كلهَا مَعَ تَحْرِيم الْجمع بَينهمَا، وَهَذَا إفصاح بالمحال، وتطرق إِلَى تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ.
[364] وَمِمَّا يعول عَلَيْهِ فِي المسئلة أَن نقُول: إِذا خير الْمُكَلف بَين أَشْيَاء فَمن تَركهَا كلهَا مفرطا بِتَرْكِهَا لَزِمته كَفَّارَة، فَلَا تلْزمهُ الْمعْصِيَة إِلَّا

(1/365)


بترك وَاحِد وفَاقا، وَلَا نجْعَل الحانث التارك للإعتاق وَالْإِطْعَام وَالْكِسْوَة عَاصِيا بترك كل وَاحِدَة من هَذِه الْخلال، حَتَّى يتنزل منزلَة من ترك الْإِعْتَاق وَالصِّيَام وَالْإِطْعَام عَن ثَلَاث كَفَّارَات، وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ، فَتبين بذلك أَن الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِد.
[365] وَأَرْدَفَ الْفُقَهَاء ذَلِك بِأَن قَالُوا إِذا عَم الْوُجُوب عَمت الْمعْصِيَة عِنْد ترك وَهُوَ نَحْو فرض الْكِفَايَة يتَعَلَّق بالمكلفين فَلَو غفل حرج الكافة.
وَكَذَلِكَ من ضمن ألفا عَن الْمَدْيُون عَلَيْهِ ثمَّ تمنع مَعَ الْمَضْمُون عَنهُ عَن الْأَدَاء فيعصي كل وَاحِد مِنْهُمَا بترك أَدَاء الْألف الْمُلْتَزم، وَإِن كَانَ مقصد المطالب مِنْهُمَا ألفا، فَلَمَّا عَمهمَا الْوُجُوب عمتهما الْمعْصِيَة بِالتّرْكِ، وَلما اتّحدت الْمعْصِيَة فِي صُورَة التَّنَازُع دلّ على اتِّحَاد الْوُجُوب.
[366] وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ أَصْحَابنَا أَن قَالُوا: لَو أقدم على الْخِصَال الثَّلَاث فِي الْكَفَّارَة مَعًا وَيتَصَوَّر ذَلِك بِأَن ينصب فِي تأديتها وكلاء فتتفق [43 / ب] أفعالهم / فِي وَقت وَاحِد فقد قَالُوا اجْمَعْ: إِنَّهَا إِذا وَقعت فَالْوَاجِب مِنْهَا

(1/366)


وَاحِد.
[367] وَقد انْفَصل أَبُو هَاشم من ذَلِك فَقَالَ هَذَا سُؤال محَال على قَضِيَّة أصلنَا، فَإِن مَا اتّصف بالوجود لَا يُوصف بِالْوُجُوب فَإِن الْوُجُوب من أَحْكَام التَّكْلِيف، وَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بالشَّيْء مَعَ حُدُوثه، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق التَّكْلِيف قبل الْحُدُوث، كَمَا يتَحَقَّق الاقتدار قبل الْحُدُوث، فَيُقَال لَهُ هَذَا لَا ينجيك عَمَّا أُرِيد بك، وَذَلِكَ أَنَّك وَإِن كنت لَا تصفها بِالْوُجُوب عِنْد الْوُجُود فَنَقُول فِي كل مَا وَجب قبل حُدُوثه إِذا حدث: إِنَّه كَانَ وَاجِبا، وَإِذا وجدت الْخِصَال الثَّلَاث فِي الْكَفَّارَة فَلَا يمكنك أَن تَقول: كلهَا كَانَت وَاجِبَة حَتَّى يُثَاب الْمُكَلف

(1/367)


على كل وَاحِد الإثابة على الْوَاجِبَات، وَهَذَا بَين من هَذَا الْوَجْه.
[368] وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ أَن من لزمَه إِعْتَاق رَقَبَة فَهُوَ مُخَيّر بَين الرّقاب المحدثة فِي الْعَالم، ثمَّ لَا يُقَال: إِنَّه يجب عَلَيْهِ إِعْتَاق رِقَاب الْعَالم وَكَذَلِكَ من لزمَه التَّصَدُّق بدرهم فَهُوَ مُخَيّر فِي أَعْيَان الدَّرَاهِم، ثمَّ لَا يُقَال: إِنَّه يجب عَلَيْهِ التَّصَدُّق بِدَرَاهِم الدُّنْيَا. وَهَذَا قبيل لَا يرتكبونه وَلَا يفصلون بَينه وَبَين الْمُتَنَازع فِيهِ بفصل سديد.
[369] شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِدًا بِغَيْر عينه لَأَدَّى ذَلِك إِلَى أَن يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِمَا لَا يتَعَيَّن للمكلف وَلَا يتَمَيَّز وَذَلِكَ محَال.

(1/368)


قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من أوجه: أَحدهَا: أَن من لزمَه إِعْتَاق رَقَبَة فَلَا يُطلق بِوُجُوب إِعْتَاق الرّقاب عَلَيْهِ ثمَّ يلْزم فِي ذَلِك من اللّبْس مَا ألزمتموه. ثمَّ نقُول ألستم تَقولُونَ: إِنَّه يَعْصِي بترك وَاحِد لَو ترك كلهَا مَعَ تساويها فِي كل الصِّفَات وَلَا يتَعَيَّن مَا يَعْصِي بِتَرْكِهِ. فقولنا فِي الْإِقْدَام كقولكم فِي التّرْك، وأفرض عَلَيْهِم الْكَلَام فِي خِصَال مُتَسَاوِيَة فِي الْمصَالح وكل الصِّفَات فَإِنَّهَا إِذا اخْتلف فَرُبمَا يَزْعمُونَ أَنه إِذا تَركهَا عصى بترك أدونها ثمَّ نقُول إِنَّمَا يَسْتَحِيل التَّكْلِيف لَو طلب من الْمُكَلف خصْلَة من خِصَال وَلم يُفَوض إِلَى خيرته وَلم يعين لَهُ، فَأَما إِذا فوض إِلَى اخْتِيَاره فَلَا اسْتِحَالَة فِيهِ وَهَذَا بَين لكل ذِي تَأمل.
[370] وَالَّذِي عول عَلَيْهِ أَبُو هَاشم أَن قَالَ: إِنَّمَا يثبت وجوب الشَّيْء لكَونه على صفة تَقْتَضِي لَهُ نعت الْوُجُوب، وَإِذا تعلق التَّخْيِير بأَشْيَاء فَكل وَاحِد مِنْهَا على الصّفة الَّتِي تَقْتَضِي لَهُ نعت الْوُجُوب، فَلَو نَفينَا سمة الْوُجُوب عَن كل وَاحِدَة مِنْهَا مَعَ كَونهَا على الصّفة الَّتِي تَقْتَضِي لَهَا نعت الْوُجُوب لزم نفي الْوُجُوب عَن سائرها.
فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بِنَاء مِنْكُم على فَاسد أصلكم فِي صرف

(1/369)


[44 / أ] الْأَحْكَام إِلَى صِفَات الْأَنْفس / والذوات فَإِنَّكُم زعمتم أَن الْقَبِيح فِي نَفسه على سمة تَقْتَضِي لَهُ سمة الْقبْح، وَالْحسن فِي نَفسه على صفة تَقْتَضِي لَهُ وصف الْحسن، فطردتم ذَلِك فِي مُعظم أَحْكَام التَّكْلِيف. وَأما نَحن فننكر ذَلِك ونصير إِلَى أَن الْأَحْكَام لَا ترجع إِلَى صِفَات الْأَنْفس وَإِنَّمَا هِيَ فِي التَّحْقِيق آئلة إِلَى قضايا كَلَام الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقد أفردنا بَابا فِي ذَلِك فِي صدر الْكتاب فَإِذا بَطل مَا ادعوهُ من صرف الْوَاجِب إِلَى صفة الْوَاجِب اضمحل مَا بنوا عَلَيْهِ من وجوب التَّمَاثُل فَإِن التَّمَاثُل إِنَّمَا يرجع إِلَى صفة الْأَجْنَاس. ثمَّ نقُول لَهُم هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم برقاب الْعَالم فِي حق من لَزِمته رَقَبَة فَإِنَّهَا مُتَسَاوِيَة فِي الصِّفَات الَّتِي أومأتم إِلَيْهَا مَعَ اسْتِحَالَة القَوْل بِوُجُوب إِعْتَاق جَمِيعهَا وَالَّذِي يهدم هَذَا الأَصْل مَا عولنا عَلَيْهِ فِي أدلتنا حَيْثُ قُلْنَا قد يتَعَلَّق بأَشْيَاء يحرم جَمِيعهَا على مَا سبق إيضاحه. فَنَقُول للمعتصم بِهَذِهِ الشُّبْهَة مَا ذكرته من تَسَاوِي الصِّفَات مَوْجُود فِي هَذَا الْقسم، أفتقول بِوُجُوب الْكل؟ فَإِن لم يقل بِهِ فقد نقض شبهته وَإِن قَالَ بِوُجُوب الْكل قيل: فَكيف يَسْتَقِيم القَوْل بِوُجُوب الْكل مَعَ الْمصير إِلَى تَحْرِيم الْإِتْيَان بِالْكُلِّ فَهَذَا مَا يَنْفِي [موارد] الريب.
[371] وَمن شبه الْقَوْم أَن قَالُوا: إِذا زعمتم أَن الحانث المتخير بَين

(1/370)


الْخلال الثَّلَاث لَا يجب عَلَيْهِ جَمِيعهَا، وَإِنَّمَا يجب وَاحِدَة مِنْهَا لَا بِعَينهَا، فَذَلِك الَّذِي سيقع مِنْهُ مَعْلُوم لله فَهَلا قُلْتُمْ: إِن الْوَاجِب على الحانث مَا علم الله وُقُوعه مِنْهُ، فَإِن مَا علم وُقُوعه يَقع لَا محَالة، قَالُوا: فَإِذا ثَبت ذَلِك يلْزم مِنْهُ أَن يكون الْوَاجِب مُتَعَيّنا فِي علم الله ملتبسا على الْمُكَلف، وَهَذَا إفصاح مِنْك بتكليف مَا لَا يُطَاق.
قيل لَهُم: هَذَا تلبيس مِنْكُم، وَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ إِعْتَاق الرَّقَبَة مَعَ التَّخْيِير فِي كل الرّقاب وَالْعلم بِأَن الله تَعَالَى عين الرَّقَبَة الَّتِي سيعتقها فيلزمكم من ذَلِك مَا ألزمتموه، ثمَّ نقُول تعلق علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بخلة من الْخلال لَا يُوجب تعينه فِي حكم التَّكْلِيف، فَإِن الْعلم يتَعَلَّق بالمعلوم على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يَقْتَضِي للمعلوم وَصفا وَلَو كَانَ تعلق الْعلم بالمعلوم يَقْتَضِي مُنَافَاة التَّخْيِير وَجب أَن يتَضَمَّن إِخْرَاج مَا عدا الْمَعْلُوم عَن قبيل المقدورات من حَيْثُ إِن الْمَعْلُوم يَقع كَمَا قلتموه فلئن لم يلْزم ذَلِك فِي حكم [الْقُدْرَة] لم يلْزم فِيمَا رمتموه. وَهَذِه المسئلة وَهِي خلاف الْمَعْلُوم مِمَّا يعظم خطرها فِي الديانَات. وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ غَنِي، ثمَّ نقُول لَو طلب من العَبْد فعل لَا بِعَيْنِه وَهُوَ مُتَعَيّن وَلَا يتَمَكَّن العَبْد من العثور على الْعلم بِهِ فَذَلِك من الْمحَال الَّذِي لَا يرد التَّكْلِيف بِهِ، فَأَما إِذا كَانَ الْوَاقِع هُوَ / الْمَعْلُوم وَهُوَ يَقع لَا محَالة فَأنى يلْتَحق ذَلِك [44 / ب] بِمَا لَا يدْخل فِي طوقه وَكَانَ تعلق الْعلم تَابع لفعله الَّذِي يختاره وَفعله لَا يتبع تعلق الْعلم.

(1/371)


(81) فصل

[372] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ مذهبكم فِي الْوُجُوب فخبرونا عَن حَقِيقَة أصلكم فِي الْإِرَادَة، فَإِذا حنث الْمُكَلف وَلَزِمَه إِحْدَى ثَلَاث خِصَال فَمَا مُرَاد الله مِنْهَا.
قيل لَهُم: الْإِرَادَة لَا تطابق مواقع الشَّرْع وجوبا على مَذَاهِب أهل الْحق فَإِن كل حَادث مُرَاد لله مَحْظُورًا كَانَ أَو وَاجِبا فَالْجَوَاب السديد إِذا أَن كل مَا علم الله وُقُوعه من العَبْد فَهُوَ مُرَاد، وكل مَا أَرَادَ وَجب إِيقَاعه.
[373] وَأما الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم فسحوا القَوْل فِي ذَلِك فَقَالُوا: إِذا تعلق التَّخْيِير بخلال يسْتَحبّ جمعهَا فَكلهَا مُرَادة لله وَإِن كَانَت بِحَيْثُ يحرم جمعهَا فَوَاحِدَة مُرَادة وَجَمعهَا مَكْرُوه لله. وَقد تكون وَاحِدَة مُرَادة وَالْبَاقِي لَا مُرَادة وَلَا مَكْرُوه. وإيضاح ذَلِك بالأمثلة أَن الحانث لما يُخَيّر بَين الْإِعْتَاق وَالْإِطْعَام وَالْكِسْوَة فَلَو أَتَى بجميعها كَانَ مثابا عَلَيْهَا فَكلهَا مُرَادة لله فَإِن إِرَادَة الله تَعَالَى تتَعَلَّق بِكُل خير وَإِن تعلق التَّخْيِير بأَشْيَاء يحرم جمعهَا كالتزوج من الْأَكفاء وَنصب الْأَئِمَّة فِي زمن وَاحِد مَعَ التَّخْيِير فِي الْآحَاد، فالواحد مِمَّا هُوَ قبيله مُرَاد، وَالْجمع مَكْرُوه لله تَعَالَى، وَإِن تعلق التَّخْيِير بأَشْيَاء تتَعَلَّق بالمعصية بترك وَاحِدَة مِنْهَا وَجَمعهَا مُبَاح غير مَحْظُور وَلَا مثاب

(1/372)


عَلَيْهِ فالواحد مُرَاد وَالْجمع غير مُرَاد وَلَا مَكْرُوه وَهَذَا وصف الْمُبَاح عِنْدهم لَا تتَعَلَّق بِهِ إِرَادَة الله وَلَا كراهيته.
[374] وأصولنا بمعزل عَن هَذَا فَإنَّا نقُول الْإِرَادَة تتَعَلَّق بِكُل الكائنات مَعَ تبَاين أوصافها.
(82) فصل

[375] اعْلَم، أَن التَّخْيِير إِنَّمَا يتَعَلَّق بشيئين متباينين متميزين أَو بأَشْيَاء على هَذَا الْوَصْف. وَإِنَّمَا يثبت التَّخْيِير بشرائط مِنْهَا أَن تكون الأِشياء الَّتِي يتَعَلَّق بهَا التَّخْيِير بِحَيْثُ تتَمَيَّز، ويتمكن للمكلف من الْعلم بتميزها، فَلَو لم يكن كَذَلِك لما صَحَّ التَّخْيِير فِيهَا وَمن الشَّرَائِط اتِّحَاد وَقت الْأَفْعَال وَمعنى ذَلِك أَن يَأْتِي كل وَاحِد بَدَلا عَن أغيارها. فَلَو [ذكرهَا وَلَو] ذكر للمكلف فعلان مؤقتان بوقتين فَلَا يكون ذَلِك تخييرا، فَإِنَّهُ فِي وَقت الأول لَا يتَمَكَّن من الْفِعْل الثَّانِي مَعَ تَقْدِير اتِّحَاد الْوَقْت وَمن شَرَائِط التَّخْيِير أَن تتساوى صِفَات الْأَشْيَاء الَّتِي خير فِيهَا حكم التَّخْيِير. وَبَيَان ذَلِك أَن التَّخْيِير إِن كَانَ فِي إِيجَاب فيتصف كل مَا يقدم عَلَيْهِ بَدَلا عَن أغياره بسمة

(1/373)


النّدب.

(1/374)


[376] فَإِن قيل: أَلَيْسَ التَّخْيِير ثَبت فِي كَفَّارَة الْحِنْث بَين الْإِعْتَاق وَالْإِطْعَام وَالْكِسْوَة ثمَّ لم تتساو فِي جملَة / الصِّفَات فِي أَن الْعتْق أَولا [45 / أ] و [الْإِطْعَام] عَلَيْهِ أُخْرَى.
قُلْنَا: هَذَا سُؤال من لم يفهم مَا قدمْنَاهُ، فَإنَّا قُلْنَا قد يَنْبَغِي أَن تتساوى الْخلال فِيمَا وَقع التَّخْيِير فِيهِ، والتخيير فِي الْخِصَال الثَّلَاث إِنَّمَا هُوَ فِي قَضِيَّة الْإِيجَاب إِذا وَجب عَلَيْهِ أحد الثَّلَاثَة فَلَا جرم تتساوى كلهَا

(1/375)


فِيمَا أومأنا إِلَيْهِ وَأما النّدب فَلَا ينطوي عَلَيْهِ هَذَا التَّخْيِير.
[377] ثمَّ لَا تظن الْمَعْنى بتساويها اتصاف كلهَا بِالْوُجُوب على مَا صَار إِلَيْهِ فِئَة من الْمُعْتَزلَة، وَلَكِن المُرَاد بِهِ [أَنه] مَا من وَاحِد يقدم الْإِقْدَام عَلَيْهِ أَولا إِلَّا يَقع وَاجِبا فَهَذَا مَا عنيناه بالتساوي وَرُبمَا يؤول كَلَام الْمُعْتَزلَة إِلَى قريب من ذَلِك فيرتفع الْخلاف وَإِلَيْهِ أَشَارَ عبد الْجَبَّار فِي شرح الْعمد.
(83) القَوْل فِي أَن الْأَمر هَل يَقْتَضِي إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ؟

[378] اعْلَم، وفقك الله أَن هَذَا الْبَاب مِمَّا عده الأصوليون أصلا من الْأُصُول وتسببوا إِلَى إِقَامَة الْمَقْصُود فِيهِ بالأدلة وَرُبمَا يوثرون فِيهِ ضربا من الْخلاف وَمن أحَاط علما بِهِ أغناه تَصْوِير من المسئلة على التَّحْقِيق عَن

(1/376)


.. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/377)


نصب الْأَدِلَّة واستحال عِنْده تعذر الْخلاف فِيهِ على معرض يثبت أَو يبطل بالأدلة، فَإِن ورد الْأَمر مقتضيا فعلا متصفا بأوصاف أَو مَنْسُوبا بشرائط فَإِذا أقدم الْمَأْمُور على الْمَأْمُور بِهِ، ووفاه جملَة أَوْصَافه وشرائطه من غير إخلال بِشَيْء مِنْهَا فقد وَقع البادر مِنْهُ مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَى إيضاحه بالأدلة، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنى بالإجزاء إِلَّا مَا قدمْنَاهُ.
[379] فَإِن قيل: أفتجوزون أَن يرد الْأَمر بِمثل مَا أقدم عَلَيْهِ الْمَأْمُور ثَانِيًا؟
[قُلْنَا: يجوز ذَلِك ووضوح تَجْوِيز ذَلِك يُغني عَن تثبيته بالأدلة.
[380] فَإِن قيل: افتجوزون وُرُود الْأَمر بِقَضَاء مَا فرغ الْمَأْمُور مِنْهُ؟
قُلْنَا: إِن عنيتم بِالْقضَاءِ وجوب مثله بِأَمْر جَدِيد فَلَا نستنكر وَإِن عنيتم بذلك أَن يكون الثَّانِي تلافيا لما أخل بِهِ أَولا وَمَا أخل بِهِ، فَهَذَا محَال، فَإنَّا فَرضنَا هَذَا الْقَبِيل من الْكَلَام فِيهِ إِذا امتثل الْأَمر أَولا من غير اختلال آئل إِلَى

(1/378)


اقتداره وَمن غير اختلال متقدر خَارج عَن مُوجب التَّكْلِيف فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَأنى يتَصَوَّر الْقَضَاء على معنى تلافي الاختلال وَلَا اختلال.
[381] فَإِن قيل: فَالْأَمْر الْوَارِد هَل يجوز أَن يَقْتَضِي الْفِعْل مرَّتَيْنِ.
قُلْنَا: سبق الْكَلَام فِي مسئلة التّكْرَار، وَورد الْأَمر بِفعل مَوْصُوف بِوَصْف فِي معرض الْإِلْزَام وتضمن إِيجَاب إِيقَاعه على جملَة الصِّفَات الْمَذْكُورَة فَإِذا أخل الْمُكَلف بِشَيْء مِنْهَا فَلَا يكون ممتثلا لِلْأَمْرِ وَالْأَمر لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مُقَيّدا بِوَقْت وَإِمَّا أَن يكون مُطلقًا، فَإِن كَانَ مُطلقًا غير مُتَعَلق بِوَقْت على التَّخْصِيص فَإِذا لم يمتثله الْمَأْمُور على وَجه فَلَا يكون ممتثلا، وَنَفس الْأَمر يَقْتَضِي مِنْهُ الأمتثال، فَإِن كَانَ الْأَمر بِالْفِعْلِ الْمَوْصُوف بالأوصاف / مؤقتا بِوَقْت ثمَّ خرج وقته، فَإِذا أقدم عَلَيْهِ على خلاف [45 / ب] الْأَوْصَاف المضبوطة فَلَا نجعله ممتثلا وَلَكِن لَا يثبت الْقَضَاء إِلَّا بِأَمْر جَدِيد على مَا سَنذكرُهُ. فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله عز وَجل.
[382] فَإِن قيل: فَإِذا لم يقتدر الْمُكَلف على مَاء وَلَا تُرَاب

(1/379)


وأوجبتم عَلَيْهِ إِقَامَة الصَّلَاة على حسب استطاعة حَاله فبماذا أوجبتم الْقَضَاء؟ .
قُلْنَا: إِذا فرضتم الْكَلَام فِي فرض مُؤَقّت فَالْأَمْر بِهِ مؤقتا لَا يَقْتَضِي إِعَادَته بعد انْقِضَاء الْوَقْت. وَإِن الْكَلَام فِي فرضتم مُطلق فَلَا يتَحَقَّق الْقَضَاء فِيهِ وَلَكنَّا نقُول إِذا لم يقدر على مَا أَمر بِهِ فَلم يمتثل والامتثال عَلَيْهِ بَاقٍ، فَلَيْسَ هُوَ إِذا من إِلْزَام الْقَضَاء فِي شَيْء.
[383] فَإِن قيل: فَمن أفسد حجه أَلَيْسَ يجب عَلَيْهِ الْمُضِيّ فِي فَاسد الْحَج ثمَّ يلْزمه الْقَضَاء.
قُلْنَا: نعم وَلَكِن إِنَّمَا ألزمناه حجَّة صَحِيحَة لِأَن الْأَمر اتَّصل بِهِ مقتضيا حجا متعريا عَمَّا يُفْسِدهُ فَإِذا أفسد الْحَج بَقِي عَلَيْهِ أصل الِامْتِثَال.

(1/380)


[384] فَإِن قيل: إِنَّمَا نفرض الْكَلَام عَلَيْكُم فِيمَن بَرِئت ذمَّته عَن حجَّة الْإِسْلَام وَشرع فِي حجَّة التَّطَوُّع ثمَّ أفسدها فإتمامها وَاجِب وقضاؤها حتم.
قُلْنَا: إِنَّمَا وَجب قَضَاؤُهَا بِأَمْر جَدِيد وَإِلَّا فَالْأَمْر بإتمامها لَا يتَضَمَّن بِنَفسِهِ الْأَمر بإعادته، وَوجه التَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن مَا ورد الْأَمر بِهِ هُوَ الْإِتْمَام بعد الْفساد، وَلَا يتَصَوَّر أَن يُؤمر بالإتمام على هَذَا الْوَجْه تلافيا لما أَمر بِهِ أَولا، وَالَّذِي يُؤمر بِهِ إِنَّمَا هُوَ مَا لم يتَعَلَّق بِهِ الْأَمر بالإتمام، فَإِن الْإِتْمَام لما أَمر بِهِ وامتثله الْمَأْمُور فقد وَقع موقع الْإِجْزَاء إتماما بعد إِفْسَاد، فَلَا جرم لَا يتلافى على هَذَا الْوَجْه الَّذِي وَقع وَالَّذِي قصد الْقَضَاء لَهُ مَا وَقع مِنْهُ حَتَّى يُوصف بِأَنَّهُ مجزئ أَو غير مجزئ، وَهَذِه جملَة مقنعة فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[385] فَإِن قيل: فقد تختل الْعِبَادَة بِمَا لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ وَذَلِكَ مثل أَن ينسى الْمصلى ركنا من صلَاته فَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ فِي حَالَة كَونه نَاسِيا ثمَّ لَا يوجبون الْقَضَاء.

(1/381)


قُلْنَا قدمنَا فِي ذَلِك صَدرا مغنيا عَن الْكَلَام. ومحصوله أَنه مهما لم يَأْتِ بِمَا أَمر على مَا أَمر لَا يعد ممتثلا، فَيبقى عَلَيْهِ الْأَمر بالامتثال، وَمَا فرضتم الْكَلَام فِيهِ من النَّاسِي فَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ على مَا قَالُوهُ، وَلَكِن إِذا انجلى النسْيَان، توجه عَلَيْهِ الْأَمر بالائتمار والامتثال، وَهَذَا كَمَا لَو نسى الِامْتِثَال أصلا بُرْهَة من الزَّمَان فَإِذا تذكره تعلق أصل الْأَمر بِهِ فِي الِامْتِثَال.
(84) فصل

[386] اعْلَم، أَن مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْفُقَهَاء، وَأطْلقهُ المنتمون إِلَى أصُول الْفِقْه أَن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي جَوَازه وَقد أنكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ذَلِك على مَا أَطْلقُوهُ، وَقَالَ / الْأَمر إِذا اقْتضى إِيجَاب الشَّيْء فَمَا الْمَعْنى [46 / أ] بِالْجَوَازِ بعد ثُبُوت الْإِيجَاب فَإِن فسرتم الْجَوَاز / بِنَفس الْوُجُوب فَهُوَ

(1/382)


الْمَقْصُود وَإِنَّمَا يؤول الْكَلَام إِلَى تناقش فِي الْعبارَة، فَإنَّا لَا نستحسن تَسْمِيَة الْوُجُوب جَوَازًا وَلَا تَسْمِيَة الْوَاجِب جَائِزا وَإِن أَنْتُم عنيتم بِالْجَوَازِ شَيْئا آخر سوى الْوُجُوب فَهُوَ محَال فَإِن أَحْكَام الشَّرْع مضبوطة منحصرة فِي أَقسَام مِنْهَا الْوُجُوب، وَمِنْهَا الْحَظْر، وَمِنْهَا النّدب، وَمِنْهَا الْكَرَاهِيَة وَمِنْهَا الْإِبَاحَة، فَهَذِهِ أَحْكَام الْأَفْعَال لَا متزيد عَلَيْهَا، فالجواز الَّذِي ذكرتموه إِذا لم تصرفوه إِلَى الْوُجُوب واستحال صرفه إِلَى الْحَظْر " تحقق الْوُجُوب " وَكَذَلِكَ لم تصرفوه إِلَى النّدب فَلَا يتبقى إِلَّا الصّرْف إِلَى الْإِبَاحَة، ويؤول محصول القَوْل إِلَى أَن الْوُجُوب مُبَاح وَذَلِكَ من أمحل الْمحَال فَإِن الْمُبَاح مَا جَازَ تَركه وَالْوَاجِب مَا لَا يجوز تَركه فكأنكم تَقولُونَ مَا لَا يجوز تَركه يجوز تَركه.
[387] فَإِن قَالُوا: أردنَا بِالْجَوَازِ أَن الْمُقدم عَلَيْهِ لَا يسْتَوْجب بالإقدام دَمًا، قُلْنَا فَهَذَا نفي وَلَيْسَ بِحكم، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْمُقدم على الْفِعْل قبل وُرُود الشرايع لَا يسْتَحق الذَّم مَعَ مصيرنا إِلَى نفي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشرايع.
[388] فَإِن قيل: إِذا ثَبت الْوُجُوب بِأَمْر ثمَّ نسخ الْوُجُوب فَهَل يبْقى الْجَوَاز؟ .

(1/383)


قُلْنَا: لما. فَإِن الْأَمر إِذا اقْتضى وجوبا ثمَّ نسخ لم يبْق من مُقْتَضَاهُ شَيْء وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَن نقُول لَو سَاغَ الْمصير إِلَى أَن الْأَمر الْمُقْتَضى للْإِيجَاب إِذا ثَبت ثمَّ نسخ الْإِيجَاب بَقِي الْجَوَاز ثمَّ لزم أَن يُقَال يبْقى النّدب بعد أَن تقاصر وصف الْوُجُوب، وَهَذَا أولى من الْجَوَاز، فَإِن حَقِيقَة الِاقْتِضَاء يتَقَدَّر فِي النّدب تقدرها فِي الْوَاجِب وَإِنَّمَا يتَمَيَّز الْوَاجِب على النّدب بِاسْتِحْقَاق اللوم على تَركه وَإِلَّا فالإقتضاء مُتَحَقق فيهمَا، فَهَلا قُلْتُمْ: إِن الْوُجُوب إِذا نسخ بَقِي الِاقْتِضَاء مُجَردا عَن اسْتِحْقَاق اللوم عِنْد تَقْدِير التّرْك والاقتضاء الْمُجَرّد هُوَ النّدب، فالندب إِذا أولى بِالْبَقَاءِ من الْجَوَاز لَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء.

(1/384)


[389] فَإِن قيل: فاحسبوا أَن مَا ذكرتموه يعكس على خصمكم مُرَاده فَمَا انفصالكم عَن سُؤال النّدب فَإِنَّهُ محيل جدا، فَهَلا قُلْتُمْ أَن نسخ الْوُجُوب يرجع إِلَى مُجَرّد رفع اللوم فَيبقى الِاقْتِضَاء [والإيجاب] زايد على الِاقْتِضَاء وَلَكنَّا نقُول الِاقْتِضَاء على وَجه الْإِلْزَام إِيجَاب، والاقتضاء الَّذِي لَا يجْزم وَلَا يحتم ندب وَدُعَاء على معرض التحريض. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك اتفاقنا على انصراف الِاقْتِضَاء على النّدب والإيجاب، فَلَو سَاغَ الْمصير إِلَى أَن الْإِيجَاب اقْتِضَاء وَوصف يزِيد عَلَيْهِ، سَاغَ الْمصير إِلَى أَن النّدب اقْتِضَاء مَعَ التفسيح فِي التّرْك والاقتضاء لَا يُنبئ عَنهُ، فيؤدى ذَلِك إِلَى إِخْرَاج الِاقْتِضَاء الْمُطلق عَن حيّز النّدب والإيجاب مَعًا وَهَذَا محَال، وَالَّذِي يكْشف الغطاء أَن نقُول: أَن الْأَمر الْقَائِم بِالنَّفسِ يَقْتَضِي معنى لَا محَالة، وَقد ذكرنَا فِي حد الْأَمر أَنه اقْتِضَاء الطَّاعَة فَلَو كَانَ الِاقْتِضَاء بِمُجَرَّدِهِ / لَا يكون ندبا وَقد ثَبت أَن الْأَمر لَا يَقْتَضِي [46 / ب] كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر فَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام فيفضي ذَلِك إِلَى إبِْطَال مُوجب الْأَمر وَمُقْتَضَاهُ، فَخرج من ذَلِك أَن الإيحاب اقْتِضَاء على وَجه الْإِلْزَام، وَالنَّدْب اقْتِضَاء على وَجه التحريض، وَهَذَا مَا لَا يُحِيط بِهِ علما إِلَّا فطن.
[390] وَمن عَجِيب الْمذَاهب مَا صَار إِلَيْهِ بعض الْفُقَهَاء المنتمين

(1/385)


إِلَى الْأُصُول فَقَالَ الْأَمر الْمُوجب يَقْتَضِي جَوَازًا وَادّعى فِي ذَلِك إِجْمَاعًا ثمَّ قَالَ: لَو نسخ الْوُجُوب لم يبْق الْجَوَاز مَعَ مصيره إِلَى أَن الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب وَالْجَوَاز أَولا، ثمَّ تشبث بِكَلَام رَكِيك بزدريه أعين ذَوي التَّحْقِيق وَذَلِكَ أَنه قَالَ الْجَوَاز تَابع للْوُجُوب وَالْوُجُوب متبوع فَإِذا نسخ الْمَتْبُوع زَالَ التَّابِع وَنقل هَذَا الْمَذْهَب يُغْنِيك عَن الِاشْتِغَال بإفساده فَتدبر واستغن بِاللَّه يُغْنِيك.
(85) القَوْل إِن الْكفَّار هَل يخاطبون بِفُرُوع الشَّرَائِع؟

[391] اعْلَم، وفقك الله أَن مَا صَار إِلَيْهِ سلف الْأمة وَخَلفهَا من

(1/386)


الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء أَن الْكفَّار مخاطبون مأمورون بِمَعْرِِفَة الله عز اسْمه وتصديق رسله وَالْإِيمَان بجملة قَوَاعِد العقائد وَذَهَبت شرذمة من نوابتة المبتدعين إِلَى أَن الْعلم بِاللَّه عز اسْمه وبالعقائد يَقع اضطرارا وَمَا يَقع اضطرارا لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ وَذهب بعض أهل الْأَهْوَاء إِلَى أَن المعارف كسبية وَلَكِن لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بهَا وَإِنَّمَا صَارُوا إِلَى ذَلِك بشبه تستقصى فِي

(1/387)


الديانَات إِن شَاءَ الله عز وَجل، وَزعم الجاحظ أَن الْعلم يَقع من طباع نامية لم يتقدمه نظر واستدلال ثمَّ قد يتم النّظر فَلَا يعقب الْعلم لانْقِطَاع نَمَاء الطباع، وَالْكَلَام على هَؤُلَاءِ الْفرق لَا يَلِيق بِهَذَا الْفَنّ.
[392] فَإِذا عرفت كَونهم مخاطبين بِأَصْل الْإِيمَان فقد اخْتلف الْعلمَاء بعد ذَلِك فِي أَنهم مخاطبون بالعبادات نَحْو الْحَج وَالزَّكَاة وَالصَّلَاة وَهل يتَعَلَّق التَّكْلِيف بهم فِي اجْتِنَاب الْمَحْظُورَات والكف عَن الْمُحرمَات فَذهب بَعضهم إِلَى أَنهم غير مخاطبين بِشَيْء مِنْهُ وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الْخطاب بهم فِي أصل الدّين وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنهم مخاطبون بالمفترضات وتجنب الْمَحْظُورَات، معاقبون على المخالفات فِي أَحْكَام الشَّرَائِع.

(1/388)


[393] وَاعْلَم قبل الْخَوْض فِي أَدِلَّة المسئلة أَن الَّذين صَارُوا إِلَى أَنهم مخاطبون لَا يدعونَ ثُبُوت ذَلِك عقلا ووجوبا وحتما، بل يجوزون فِي حكم الْعقل خُرُوجهمْ عَن التَّكْلِيف فِي أَحْكَام الشَّرَائِع كَيفَ وَقد خرج أنَاس من المخاطبين الْمُسلمين عَن قَضِيَّة جمل من الْأَحْكَام فِي الْحَلَال وَالْحرَام، كالحائض الْخَارِجَة عَن الْتِزَام الصَّلَاة وَأَدَاء الصَّوْم وَنَحْوهَا وَلَكِن

(1/389)


[47 / أ] هَؤُلَاءِ يَزْعمُونَ أَن تكليفهم سَائِغ عقلا وَتَركه مجوز عقلا بيد أَن فِي الْأَدِلَّة / السمعية مَا يَقْتَضِي تَعْلِيق التَّكْلِيف بهم فتتبعناها. وَالَّذِي صَارُوا إِلَى أَنهم غير مخاطبين انقسموا فَمنهمْ [من يحِيل] تكليفهم، وَمِنْهُم من يُجِيز تكليفهم عقلا وَمنع اتِّصَال الْأَدِلَّة السمعية بهم.
[394] وَالَّذِي نرتضيه تعلق التَّكْلِيف بهم وَمن أوضح مَا نستدل بِهِ قَوْله تَعَالَى: {مَا سلككم فِي سقر} الْآيَة. وَوجه الدَّلِيل مِنْهَا أَنهم عوقبوا بمضمون

(1/390)


الْآيَة على ترك الصَّلَاة وَالصَّدقَات كَمَا عوقبوا على الْإِشْرَاك وَترك المعارف.
[395] فَإِن قيل: لَا حجَّة فِي الْآيَة لكم فَإِن الرب تَعَالَى أخبر عَن مقَال أهل النَّار وَلَا احتجاج فِي أَقْوَالهم.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه قرب مِنْكُم من جحد مَا اتّفق عَلَيْهِ أهل التَّأْوِيل فَإِنَّهُم أطبقوا على أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ بالإخبار عَن أَحْوَالهم وَذكر أَقْوَالهم الزّجر والردع عَن الْإِشْرَاك وَترك الصَّلَوَات وَالصَّدقَات وَالتَّرْغِيب فِي الْإِقْدَام على امْتِثَال المأمورات وتحذير المخاطبين عَن اجْتِنَاب مَا يوقعهم فِي المعاقبات الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة وَلَيْسَ الْمَقْصد مِنْهَا نقل قَوْلهم لَا تَحْقِيق فِيهِ وَهَذَا مَا لَا يجحده إِلَّا معاند، ثمَّ إِنَّه سُبْحَانَهُ قرن بَين الإشرك وَترك الصَّلَاة فَلَو حمل سِيَاق الْخطاب على مَا رمتموه وَقيل: إِنَّهُم لَا يعاقبون على ترك الصَّلَاة ويعاقبون على الْإِشْرَاك، انطوى قَوْلهم على صدق وَخلف فَكَانَ يجب أَن يبين الرب عز اسْمه وَجه الرَّد عَلَيْهِم وتوبيخهم وتقريعهم على مَا بدر مِنْهُم من الْمقَال والمحال.
[396] فَإِن قيل: فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم أَرَادوا بقَوْلهمْ: {لم نك من الْمُصَلِّين} أَي لم نك من الْمُصَلِّين المصدقين بِوُجُوب الصَّلَاة

(1/391)


وَمَا أَرَادوا نفس الصَّلَاة وَهَذَا كَمَا أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: ((نهيت من قتل الْمُصَلِّين)) وَمَا أَرَادَ بذلك الخائضين فِي الصَّلَاة حَتَّى يتخصص النَّهْي عَن الْقَتْل بِحَالَة التَّلَبُّس بِالصَّلَاةِ قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه إِزَالَة مِنْكُم للظَّاهِر وتسبب إِلَى حمل اللَّفْظ على التَّجَوُّز وَلَيْسَ لكم ذَلِك إِلَّا بعد إِقَامَة دلَالَة دَالَّة ثمَّ إِن كَانَ هَذَا كلامكم فِي قَوْله من الْمُصَلِّين فَلَا يسْتَمر ذَلِك فِي قَوْله: {وَلم نك نطعم الْمِسْكِين} وَإِن تعسفوا بِالْحملِ على التَّصْدِيق بِالْإِطْعَامِ كَانُوا متعالين مُحْتَاجين إِلَى إِقَامَة الدَّلِيل.
[397] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} .
إِلَى قَوْله: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب} .
وَوجه الدَّلِيل أَن الرب تَعَالَى فرق بَين الشّرك وَالْقَتْل وَالزِّنَا ثمَّ قَالَ:

(1/392)


{وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} .
فنعت جملَة الْخلال جمعا فَإِنَّهَا تورط فِي المأثم. وَلِلْقَوْمِ أسئلة يهون دَفعهَا.
[398] وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ فِي توجه الْخطاب على الْكفَّار قَوْله تَعَالَى: {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة} .
فَإِن قَالُوا إِنَّمَا ذكر الِامْتِنَاع عَن إيتَاء الزَّكَاة نعتا لَا يتعاقبوا عَلَيْهِ

(1/393)


قيل لَهُم: هَذَا إِزَالَة مِنْكُم للظَّاهِر وَالدَّال على كَونه معاقبين على الشّرك فِي قَضِيَّة الْآيَة حَال على مثله فِي منع الزَّكَاة.
[47 / ب] [399] فَإِن قيل: / ظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي أَن لَا يُعَاقب الْمُشرك إِلَّا عِنْد امْتِنَاعه عَن أَدَاء الزَّكَاة.
قيل لَهُم: هَذِه لتسبب مِنْكُم إِلَى حمل الْآيَة على خلاف الْإِجْمَاع مَعَ إِمْكَان حملهَا على الْوِفَاق، والمقصد من الْآيَة ذكر مَا يستوجبون الْعقَاب عَلَيْهِ نسقا، من غير اشْتِرَاط جمع، وَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} .
فَهَذَا توعد على وصفين أَحدهمَا المشاقة وَالثَّانِي مُخَالفَة الْأمة. لم تدل الْآيَة على توقف التوعد على اجْتِمَاع الوصفين.
[400] وَمِمَّا تمسك بِهِ الْأَصْحَاب قَوْله تَعَالَى: {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب} .

(1/394)


إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة} .
[401] فَإِن قيل: فمالكم لَا تستدلون بالظواهر المحتملة فِي مسئلة قَطْعِيَّة؟ .
قيل لَهُم: اعلموا أَن المسئلة لَهَا طرفان أَحدهمَا تَجْوِيز خطابهم عقلا وَالثَّانِي تقدر ذَلِك شرعا. فَأَما تَجْوِيز خطابهم عقلا فَهُوَ مِمَّا يثبت قطعا وَلَا يثبت إِذا رمنا تَقْدِيره بالظواهر المحتملة وَأما اتِّصَال الْخطاب بالقوم سمعا [فَلَا يُقَال] فِيهِ الْقطع وَلكنهَا مسئلة اجْتِهَاد وَهِي نَحْو اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي

(1/395)


إِلْزَام بعض [الْأَحْكَام] كثيرا من الْأَشْخَاص ونفيها عَنْهُم فَافْهَم ذَلِك.
[402] فَالَّذِي نرتضيه لَك معتصما فِي المسئلة أَن نقُول لخصومنا: هَل تسلمون لنا جَوَاز تكليفهم عقلا أم تنكرون ذَلِك؟ فَإِن أَنْتُم أنكرتموه قبل لكم: فَكل مَا جَازَ اكتسابه جَازَ تَعْلِيق التَّكْلِيف بِهِ وَالَّذِي فِيهِ التَّنَازُع مِمَّا يتَصَوَّر من الْكَفَرَة اكتسابه والتوصل والتبلغ إِلَيْهِ فَلَيْسَ فِي تكليفهم اسْتِحَالَة تعقل.
[403] فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الَّذِي يحِيل تكليفهم عدم تصور الْعِبَادَات مِنْهُم مَعَ الشّرك، وَلَو قدر إسْلَامهمْ فيتفق على توجه الْأَحْكَام عَلَيْهِم.
قيل لَهُم: يلزمكم على قَود ذَلِك أَن تَقولُوا لَا تخاطبوا الدهرية ونفاة الصَّانِع بِتَصْدِيق الرُّسُل وَالْإِيمَان بهم لِاسْتِحَالَة الْإِيمَان بالرسل مَعَ اعْتِقَاد نفي الْمُرْسل وَكَذَلِكَ جملَة العقائد الْمُتَرَتب بَعْضهَا على بعض الَّتِي لَا يتَحَقَّق الْعلم مِنْهَا بِالثَّانِي إِلَّا مُرَتبا على سبق الْعلم بالدرجة الأولى، فَيلْزم من ذَلِك أَن لَا يجب على مُعْتَقد قدم الْعَالم إِلَّا الْعلم بحدوثه فَبَطل مَا قَالُوهُ.

(1/396)


[404] وَالْجَوَاب السديد أَن الْكَافِر يتَصَوَّر مِنْهُ التبلغ إِلَى الْعِبَادَات وَإِن كَانَ لَو قدر بَقَاؤُهُ على كفره، وإصراره على شركه لم تصح مِنْهُ الْعِبَادَات وَهَذَا كَمَا قَالَ إِن الْأَمر بِالْقيامِ يتَوَجَّه على الْقَاعِد فيتصف بِكَوْنِهِ مَأْمُورا بِالْقيامِ فِي حَال قعوده وَإِن كَانَ لَا يتَصَوَّر الْقيام مَعَ تَقْدِير اسْتِصْحَاب / الْقعُود فَتبين أَنه [48 / أ] لَيْسَ فِي توجه الْخطاب بالعبادات على الْكفَّار اسْتِحَالَة فِي [الْعقل] وكل اسْتِحَالَة يبدوها تلزمهم مثلهَا فِي المعارف. فَإِذا ثَبت جَوَاز خطابهم فقد وَردت فِي أَلْفَاظ الشَّرِيعَة أَلْفَاظ عَامَّة تنطوي عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم فِي قَضِيَّة اللُّغَة فَلَزِمَ تعميمها إِن قُلْنَا بِالْعُمُومِ وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} .
وَغير ذَلِك، فَمَا الَّذِي يصدنا عَن تَعْمِيم الْخطاب وَهُوَ من مجوزات الْعقل وَلَيْسَ فِي أَدِلَّة السّمع مَا يَقْتَضِي استخراجهم من قَضِيَّة الْعُمُوم.
[405] فَإِن قيل: فَأنْتم معاشر الواقفية إِذا نفيتم صِيغ الْعُمُوم فَأنى يَسْتَقِيم مِنْكُم مَا قلتموه؟ قُلْنَا: إِذا نَفينَا صِيغَة الْعُمُوم جعلنَا اللَّفْظ الْوَارِد فِي صَلَاحه للْكفَّار كصلاحه لغَيرهم وَإِن كُنَّا لَا نقطع بتعميم وَتَخْصِيص ومقصدنا

(1/397)


تثبيت التَّسْوِيَة إِمَّا فِي تَعْمِيم وَإِمَّا فِي صَلَاح اللَّفْظ لَهُم ولغيرهم على مثابة وَاحِدَة. [406] وَمِمَّا عول عَلَيْهِ أَئِمَّتنَا أَن قَالُوا أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا أَن النَّهْي عَن الْمُنْكَرَات لَا يتَعَلَّق بالكفرة أَو تَقولُوا يتَعَلَّق النَّهْي بهم فَإِن زعمتم أَن النَّهْي لَا يتَعَلَّق بهم على قِيَاس الْأَمر فيلزمكم من ذَلِك أَشْيَاء مِنْهَا: أَن تَقولُوا إِن الْمُشرك المنعزل المنشغل بِنَفسِهِ إِذا انْقَضى عمره على إصراره فيتنزل فِي اسْتِحْقَاق الْعقَاب منزلَة من جمع إِلَى كفره قتل الْأَنْبِيَاء والأولياء وهتك الحرمات والتسبب إِلَى جملَة الجراير وَهَذَا مِمَّا اتّفق الْمُسلمُونَ على خِلَافه وَفِي إبدائه أعظم الإغراء للكفرة بمقارفة الجرائر والكبائر. ثمَّ نقُول: لَو كَانَ الْأَمر على مَا قلتموه لزمكم طرد مَا ذكرتموه فِي أهل الذِّمَّة فَإِن الْكفْر مِنْهُم وَفِي أهل الْحَرْب بِمَثَابَة. ثمَّ لَا خلاف أَنا نُقِيم عَلَيْهِم الْحُدُود إِذا ارتكبوا موجباتها وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْمُرْتَد.

(1/398)


[407] وَإِن قَالُوا إِن النَّهْي يتَعَلَّق بالكفرة فقد سلمُوا المسئلة فَإِن النَّهْي فِيمَا صورناه تَكْلِيف فِي الْفُرُوع، فَمَا الْفَصْل بَينه وَبَين الْأَمر. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الصَّلَاة منهى عَن تَركهَا وَهُوَ من أعظم الْكَبَائِر، فَقَالُوا إِن هَذَا الْقَبِيل من النَّهْي يتَعَلَّق بهم فَيلْزم مِنْهُ الإفصاح بِالْأَمر بِالصَّلَاةِ فيقودهم النَّهْي إِلَى الْوِفَاق فِي الْأَمر.
[408] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا صححنا توجه النَّهْي لتصور التّرْك مِنْهُم دون الِامْتِثَال بالإقدام على الْعِبَادَة.
قيل لَهُم: فَقولُوا على طرد ذَلِك أَن النَّهْي يتَصَوَّر تعلقه بالمجنون لتصور التّرْك مِنْهُ، ثمَّ مَا ذَكرُوهُ من عدم تصور الِامْتِثَال فقد قدمنَا مَا فِيهِ أكمل الْغنى، مَعَ أَنه يبطل بصور فِي الشَّرِيعَة، مِنْهَا الصَّلَاة فِي حق الْمُحدث فَإِنَّهَا لَا تصح دون رفع الْحَدث مَعَ الاقتدار، وَالْأَمر مُتَوَجّه مَعَ الْحَدث وأمثلة ذَلِك تكْثر فِي الشَّرِيعَة.
[409] فَإِن وجوب الشَّيْء لَا يُنبئ عَن وجوب قَضَائِهِ عِنْد فَوَات

(1/399)


وقته إِذْ الْقَضَاء يثبت عندنَا بِأَمْر مُجَدد وكل أصل يعتبرونه فِي تثبيت الْقَضَاء [48 / ب] فلسنا نقُول أَنه ثَبت لوُجُوب أَصله بل ثَبت بِأَمْر / مبتدئ وَالَّذِي ينْقض ذَلِك عَلَيْهِم طردا وعكسا أَن الْحَائِض لَا يجب عَلَيْهَا أَدَاء الصَّوْم [ويلزمها] الْقَضَاء، وتفوت الْجُمُعَة ثمَّ لَا تقضي إِلَى غير ذَلِك من مسَائِل الشَّرْع الَّتِي مِنْهَا الْقيام فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ لَو ترك صَلَاة مُتَعَمدا مَعَ اقتداره على الْقيام ثمَّ عجز عَن الْقيام وَقضى مَا فَاتَهُ قَاعِدا بَرِئت ذمَّته وفَاقا وَسقط عَنهُ الْقيام.
[410] فَإِن عَادوا وعولوا على عدم تصور الْعِبَادَة مِنْهُ فقد فرط الْجَواب عَنهُ ثمَّ يلْزمهُم الْمُرْتَد فَإِنَّهُ مُخَاطب عِنْد أَكْثَرهم فَإِن فصلوا بَينه وَبَين الْكَافِر الْأَصْلِيّ بِأَنَّهُ مُلْتَزم للْأَحْكَام تنكص على عَقِبَيْهِ وَهَذَا من أبشع مَا يتَكَلَّم بِهِ من لَا حَظّ لَهُ فِي الْأُصُول، فَإنَّا نقُول لَا حكم لالتزام الْمَرْء وَإِنَّمَا الحكم لإلزام الله، الْتزم الْمُكَلف أَو أَبى. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْخطاب

(1/400)


مُتَوَجّه على الْكفَّار بِتَصْدِيق الرُّسُل وَإِن لم يسْبق مِنْهُم فِي ذَلِك الْتِزَام فَبَطل الْمصير إِلَى هَذَا الْقَبِيل من الْكَلَام.

(1/401)


(86) القَوْل فِي أَن الْأَمر يتَنَاوَل عِنْد إِطْلَاقه وَانْتِفَاء سمات الْخُصُوص مِنْهُ الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْحر وَالْعَبْد

[411] إِذا ورد الْخطاب على مَذْهَب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ وَلم يكن فِيهِ مَا يَقْتَضِي اختصاصا بالأحرار وَلم تقم دلَالَة على خُرُوج العَبْد عَن مُقْتَضى اللَّفْظ الْعَام وَهُوَ مَوْضُوع فِي أصل اللُّغَة للتعميم، فالعبيد والأحرار فِيهِ بِمَثَابَة وَاحِدَة، وَإِن قَامَت دلَالَة مقتضية تَخْصِيص الْأَحْرَار خصصوا.
[412] وَذهب بعض الْعلمَاء أَن العبيد لَا يدْخلُونَ تَحت مُطلق الْخطاب فَيُقَال لَهُم: إِذا ورد الْخطاب مَنُوطًا بِالْمُؤْمِنِينَ مثلا وَهُوَ الْأَمر يتَحَقَّق فِي العبيد تحَققه فِي الْأَحْرَار، وَلَيْسَ فِي وضع اقْتِضَاء تَخْصِيص.

(1/402)


وخطاب العبيد مُمكن كَمَا أَن خطاب الْأَحْرَار مُمكن، فَإِذا تساوى العبيد والأحرار فِي إِمْكَان تَوْجِيه الْخطاب عَلَيْهِم عقلا وانطوت اللَّفْظَة الْمُطلقَة عَلَيْهِم لُغَة وَعرفا وَلم تقم دلَالَة مخصصة فَلَا معنى لإخراجهم من مُوجب اللَّفْظ وتخصيصه بالأحرار وَلَيْسَ الصائر إِلَى ذَلِك بِأَسْعَد حَالا مِمَّن يقلب عَلَيْهِ هَذَا الْمَذْهَب.
[413] فَإِن قَالُوا: العبيد مستحقون لملاكهم، وجهات تصرفاتهم منصرفة إِلَى ساداتهم فَكَأَنَّهَا بِحكم الشَّرْع مستثنون عَن تصريف الشَّرْع وتكليفه؟
قيل لَهُم: فَهَل يفزعون فِيمَا يبدون إِلَى غير موارد الشَّرِيعَة فَإذْ كَانَت لفزعكم فاعلموا أننا نعول مهما دلّت دلَالَة شَرْعِيَّة على خُرُوج العَبْد عَن قَضِيَّة التَّكْلِيف لاسْتِحْقَاق مُتَعَلق بِهِ فنخصصه، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِيمَا لم يقم فِيهِ دلَالَة تَخْصِيص، فَإِن ادعيتم ثُبُوت الِاسْتِحْقَاق فِي العبيد بِأَصْل الشَّرْع عُمُوما فَهَذَا محَال وفَاقا، ومعظم الْعِبَادَات متوجهة عَلَيْهِم، فَالْأَمْر فيهم على الانقسام إِذا، فَلَيْسَ إِلَّا تتبع الْأَلْفَاظ وإجراؤها على ظواهرها فِي وضع / اللُّغَة إِلَى أَن يمْنَع [49 / أ] من ذَلِك مَانع، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك صِحَة وُرُود الْخطاب مُخْتَصًّا بالعبيد أَو متناولا لَهُم ولغيرهم على التَّنْصِيص فَلَو صَحَّ مَا ادعوهُ من الِاسْتِحْقَاق على وَجه الِاسْتِغْرَاق لما جَازَ وُرُود الْخطاب خَاصّا إِلَّا أَن يكون نَاسِخا.

(1/403)


(87) فصل

[414] فَإِن قيل: الْخطاب الْوَاحِد هَل يَشْمَل الذُّكُور وَالْإِنَاث؟ .
قيل: يتتبع فِي ذَلِك وضع اللُّغَة فَإِن وَردت لَفْظَة وضعت لتخصيص بِالرِّجَالِ خصصت بهم، وَإِن وضعت مُشْتَركَة حملناها على الِاشْتِرَاك وَذَلِكَ نَحْو قَول كل نفس ((وكل شخص)) فَهَذَا مِمَّا يعم الرِّجَال وَالنِّسَاء.
[415] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين وَنَحْوهمَا هَل يتَنَاوَل النِّسَاء؟ .
قيل: هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء فَصَارَ بَعضهم إِلَى أَن الْجمع الْمَوْضُوع للذّكر ينطوي على الْإِنَاث أَيْضا. وَالَّذِي ارْتَضَاهُ الشَّافِعِي

(1/404)


رَضِي الله عَنهُ ومعظم أَرْبَاب الْأُصُول أَن مثل هَذَا اللَّفْظ إِذا ورد مُطلقًا مُخَصص بِالرِّجَالِ فِي مورده إِلَّا ان تقوم دلَالَة تَقْتَضِي الِاشْتِرَاك وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الْعَرَب فصلت فِي منزلَة الوحدان بَين الذّكر وَالْأُنْثَى وَكَذَلِكَ فِي منزلَة التَّثْنِيَة فَقَالَت مُسلم ومسلمان ومسلمة ومسلمتان ثمَّ خصصوا جمعهن بِصِيغَة فَقَالُوا مسلمات وَكَذَلِكَ خصصوا جمع الذُّكُور فَقَالُوا: مُسلمين، والجميع إِنَّمَا هُوَ جمع الْآحَاد فَإِذا اتَّضَح التباين فِي صِيغ الْآحَاد اتَّضَح فِيهَا بجمعها [وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي] رَضِي الله عَنهُ بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال} فَصَارَ إِلَى ان الْمَقْصد بِالْآيَةِ الرِّجَال دون النِّسَاء، وأوضح مَا قَالَه مَا روى عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : ((مَا بَال

(1/405)


الرِّجَال يسمون فِي الْقُرْآن دون النِّسَاء فَنزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} إِلَى آخر الْآيَة.
[416] فَإِن قيل: أَلَيْسَ من أهل اللُّغَة أَن من أَرَادَ أَن يعبر عَن الذّكر وَالْإِنَاث عبر عَنْهُم بِمَا يعبر عَنهُ عَن مَحْض الذُّكُور تَغْلِيبًا للذكور فِي حكم الْخطاب على الْإِنَاث.
قيل لَهُم: صَحَّ مَا قلتموه على أهل اللُّغَة وَلَيْسَ لكم فِيهِ فرج، وَذَلِكَ أَنه مَا نقل عَنْهُم أَن مُطلق جمع الذُّكُور يُنبئ عَن الْإِنَاث، وَلَكِن قَالُوا: إِذا أَرَادَ الْمعبر أَن يعبر عَن الذُّكُور وَالْإِنَاث عبر عَنْهُم بِجمع الذُّكُور وَفِي نفس مَا نقلتموه [رد]

(1/406)


عَلَيْكُم فَإِنَّهُم قَالُوا يغلب [نعت الذُّكُور] على نعت الْإِنَاث، فَلَو كَانَ ينطوي عَلَيْهِم انطواءه عَلَيْهِ [ن لم يكن] لذكر التغليب [للرِّجَال عَلَيْهِنَّ معنى] فَكَانَ محصول مَا نقل عَنْهُم يؤول إِلَى أَنه إِذا ثَبت ... عَن الْجَمِيع غلب نعت الذُّكُور وَلَا يَصح أَن ينْقل [عَنْهُم] أَن مُطلق اللَّفْظ فِي جمع الذُّكُور يُنبئ عَن الْإِنَاث على الْوَجْه الَّذِي يُنبئ عَن الذُّكُور وَمن أحَاط علما بِطرف من اللُّغَة استيقن مَا قُلْنَاهُ /. [49 / ب]
(88) فصل

[417] إِذا ورد خطاب يتَنَاوَل فِي وضع اللُّغَة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَغَيره من الْأمة اقْتضى ظَاهر الْخطاب التَّعَلُّق بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فهم إِن لم تفهم دلَالَة مخصصة للْأمة بِحكم الْخطاب وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {يَا عباد}

(1/407)


و {يَا أَيهَا النَّاس} و {يَا أولي الْأَلْبَاب} إِلَى غَيرهَا. وَذهب بعض من خبْرَة لَهُ بالحقائق إِلَى أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا يدْخل تَحت مُطلق هَذَا الْخطاب وَالَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْفُصُول السَّابِقَة تحقق الْمَقْصد هَا هُنَا وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة عَامَّة فِي وضع اللُّغَة وَتعلق الْخطاب بِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُمكن وَلم تقم دلَالَة مَانِعَة من إِجْرَاء اللَّفْظ على ظَاهره.
[418] فَإِن قَالُوا: قد ثَبت لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خَصَائِص فَلَا يدرج حكمه فِي قَضِيَّة الْأَلْفَاظ الْعَامَّة.

(1/408)


قُلْنَا: مَا ثَبت اخْتِصَاصه فِيهِ خصص بِهِ، ثمَّ اخْتِصَاصه بِهِ لَا يُوجب عُمُوم اخْتِصَاصه فيا عجبا مِمَّن يخصص اللَّفْظَة الْعَامَّة من غير دَلِيل ويعمم الحكم الْخَاص وَهَذَا لَو تأملته قلب الْحَقَائِق. ثمَّ نقُول قد ثبتَتْ جملَة من الخصائص لآحاد الْمُكَلّفين نَحْو الْمُسَافِرين وَالْحيض وأرباب المعاذير وَغَيرهم ثمَّ اختصاصهم بِبَعْض الْأَحْكَام لَا يخرجهم عَن عُمُوم الْأَلْفَاظ.
[419] وَمِمَّا يتَّصل بذلك أَن اللَّفْظ إِن وَردت مخصصة بالرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خصصت بِهِ مَا لم تقم دلَالَة على أَن غَيره يضاهيه [فِيهِ، وَذَلِكَ] نَحْو
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل} و {يَا أَيهَا المدثر} وَكَقَوْلِه: {إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها خَالِصَة لَك} الْآيَة. [إِلَّا أَنه ذهب بعض] الْعلمَاء إِلَى

(1/409)


أَن الْخطاب وَإِن اخْتصَّ بِهِ فِي الصِّيغَة فسائر الْأمة مَعَه فِيهِ شرع، وَالَّذِي [يثبت بِهِ] تَحْقِيق الْعُمُوم فِي الْفَصْل الَّذِي قبل ذَلِك يُحَقّق الْخُصُوص فِي هَذَا الْفَصْل.
[420] فَإِن قيل: [نعلم مُسَاوَاة] الْأمة للرسول عَلَيْهِ السَّلَام فِي مُعظم الشَّرْع فَيحمل عَلَيْهِ كل خطاب يرد.
قيل لَهُم: إِن ادعيتم أَن ذَلِك [ثَابت فَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ بِحَال] وَإِن زعمتم أَن الشَّرْع يَقْتَضِي التَّعْمِيم فِي جملَة الْأَحْكَام فَهَذَا ادِّعَاء ... لشرع يَنْقَسِم فَمِنْهُ مايتخصص وَمِنْه مَا يعم فَلَا سَبِيل إِلَى تَخْصِيص كُله لَا ... والبت فِي تَعْمِيم كُله لعُمُوم بعضه فَلَا مُعْتَبر فِي ذَلِك بالمعظم والأقل، ثمَّ لَو سَاغَ تَعْمِيم الل [فظ الْخَاص لَو] رَود بعض الْأَحْكَام

(1/410)


على الْعُمُوم سَاغَ تَخْصِيص اللَّفْظ ال [عَام] لوُرُود بعض الأح [كام على الخا] ص فَإِذا تقَابل الْقَوْلَانِ تساقطا وَلزِمَ اتِّبَاع الصِّيَغ [وإجراؤها على ظواهرها فِي الْعُمُوم مَا لم تقم] دلَالَة تخصها فِي إِزَالَة ظَاهرهَا.
(89) القَوْل فِي أَن الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن ضِدّه وَوجه الْخلاف فِيهِ

[421] اعْلَم، وفقك الله أَن أَرْبَاب الْأُصُول اخْتلفُوا فِي ذَلِك فَصَارَ ذاهبون إِلَى قدم الْكَلَام الَّذِي اتّصف بِهِ الرب تَعَالَى إِلَى أَنه وصف وَاحِد يَسْتَحِيل عَلَيْهِ التجدد والتغاير وَهُوَ خبر عَن كل / مخبر، أَمر بِكُل مَأْمُور بِهِ [50 / أ] نهي عَن كل مَنْهِيّ عَنهُ، وَاخْتلفُوا فِي أوامرنا الَّتِي تتصف بهَا فَمن زعم أَن حَقِيقَة الْكَلَام يرجع إِلَى مَا فِي النَّفس على مَا قَررنَا زعم أَن الْأَمر بالشَّيْء على التَّنْصِيص والتخصيص لَا على التَّخْيِير مَنْهِيّ عَن جَمِيع أضداد الْمَأْمُور بِهِ.

(1/411)


وَمن زعم أَن الْكَلَام ينْطَلق على الْعبارَات والحروف المنتظمة الَّتِي هِيَ الْأَصْوَات لم يُطلق القَوْل بِأَن الْأَمر نهي، فَإِن الْأَمر عِنْده قَول الْقَائِل افْعَل، وَالنَّهْي قَول الْقَائِل لَا تفعل، وَلَكِن قَالَ الْأَمر بالشَّيْء على الْجَزْم وَنفي التَّخْيِير يتَضَمَّن النَّهْي من طَرِيق الْمَعْنى وَلَيْسَ هُوَ عين النَّهْي، وَرُبمَا يطلقون القَوْل بِأَن الْأَمر يُنبئ من طَرِيق الْمَعْنى.
[422] وَإِنَّمَا قيدنَا الْكَلَام بِانْتِفَاء التَّخْيِير، لِأَن الْأَمر المنطوي على التَّخْيِير قد يتَعَلَّق بالشَّيْء وضده وَيكون الْوَاجِب أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، فَلَا سَبِيل لَك إِلَى أَن تَقول فِيمَا هَذَا وَضعه أَنه نهى عَن ضِدّه إِذا خير الْمَأْمُور بَينه وَبَين

(1/412)


ضِدّه فقيدنا الْكَلَام بِانْتِفَاء التَّخْيِير لذَلِك.
[423] وَرُبمَا يعبر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ عَن ذَلِك فَيَقُول: الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ وَبدل الْقَائِم مقَامه إِن كَانَ ذَا بدل فَيخرج بذلك الْأَمر الْمُشْتَمل على التَّخْيِير.
[424] وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة بأسرها إِلَى أَن الْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ بنهي عَن [ضِدّه] لَا من حَيْثُ الْحَقِيقَة وَلَا من حَيْثُ الْمَعْنى. فَأول مَا نفاتحهم بِهِ أَن نقُول أَلَيْسَ الْأَمر [عنْدكُمْ هُوَ] اللَّفْظ الْمَخْصُوص، فَإِذا قَالُوا نعم قيل لَهُم: فَهَل يتَصَوَّر أَن يكون أمرا بالشَّيْء على [سَبِيل الْجَزْم غيرناه] ...

(1/413)


عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ فَإِذا قَالُوا لَا يتَصَوَّر ذَلِك وَلَا بُد مِنْهُ.
قيل لَهُم: فبماذا ... فَإِن صرفتم ذَلِك إِلَى نفس مَا يلفظه وَهُوَ قَوْله افْعَل فقد جعلتموه نهيا ... النَّفس فَلَا يَسْتَقِيم على أصلكم فَإِنَّكُم ... آخر وَلم يبدر مِنْهُ فِيمَا قا ... بناه عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ.
قيل لَهُم: فَهَذَا [خرق مَا عَلَيْهِ الكافة مَعَ أَنا لَا نلجئكم إِلَى] مَا لَا قبل لكم بِهِ وَهُوَ أَن تَقول إِذا ورد الْأَمر على الْجَزْم بِشَيْء وَهُوَ مُقَيّد بالفور وانتفى عَنهُ] سمة التَّخْيِير وَثَبت الِامْتِثَال على التنص [يص، فتحريم ضد الِامْتِثَال لَا شكّ فِيهِ، إِذْ لَو لم يحرم فَمَا معنى وجوب الِامْتِثَال] ؟ فَإِن قَالُوا لَا يجوز عَلَيْهِ فَإنَّا نتحقق مَعَ ... نجزم أضداد الِامْتِثَال، قيل لَهُم فبماذا؟ ... فَإِن قَالَ عَنْهُم ... مَذَاهِب الْقَوْم فَإِنَّهُم كَمَا استبعدوا كَون

(1/414)


الْأَمر نهيا استبعدوا كَون الْإِرَادَة كَرَاهِيَة لأضداد المُرَاد فبطلت الطّرق وَضَاقَتْ / عَلَيْهِم المسالك.
[425] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ أَن نثبت على الْخُصُوم قدم الْكَلَام للرب تَعَالَى ثمَّ نرتب عَلَيْهِ اتحاده فيترتب على ذَلِك كَون الْمَوْجُود الْوَاحِد أمرا نهيا لَا محَالة وَهَذَا يستقصي فِي الديانَات إِن شَاءَ الله عز وَجل.
[426] وَمَا عول عَلَيْهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن قَالَ قد ثَبت أَن الْمَوْصُوف بِكَوْنِهِ آمرا بالشَّيْء منعوت بِكَوْنِهِ ناهيا عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ إِذا كَانَ الْأَمر على التَّضْيِيق، وَالْخُرُوج عَن الاتصاف بِكَوْنِهِ ناهيا يُوجب الْخُرُوج عَن الاتصاف بِكَوْنِهِ أمرا، وَلم تقم دلَالَة عقلية على تغار مَعْنيين، وَلم يقتض التغاير علم ضَرُورِيّ، فَلَا طَرِيق إِلَّا أَن نصرف هذَيْن الوصفين إِلَى مُقْتَضى وَاحِد، ويتضح ذَلِك بالمثال، فَنَقُول إِذا قرب جَوْهَر من جَوْهَر وَبعد من غَيره فنعلم أَن عين قربه مِمَّا قرب مِنْهُ بعد مِمَّا بعد عَنهُ فَإِذا تحرّك الْجَوْهَر من مَكَان إِلَى مَكَان فَنَفْس خُرُوجه من الْمَكَان الأول دُخُول فِي الثَّانِي وَإِنَّمَا عرفنَا ذَلِك الأَصْل الَّذِي مهدناه وَهُوَ أَنه لم يعقل دُخُوله فِي غير اتصافه بِالْخرُوجِ وَلم يعقل قربه مِمَّا قرب مِنْهُ إِلَّا مَعَ بعده مِمَّا بعد مِنْهُ، وَلم تدل دلَالَة على تثبيت مَعْنيين فَلَا وَجه إِلَّا أَن يصرفا إِلَى مُوجب وَاحِد، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي كَون الْآمِر آمرا ناهيا وبهذه الطَّرِيقَة تَبينا الْعِلَل وجوزناها لاقْتِضَاء معلولاتها فَإنَّا لما نَظرنَا إِلَى الْقُدْرَة ووجدناها لَا تثبت إِلَّا بِأَن تَقْتَضِي وصف الْمحل وَالْجُمْلَة الَّتِي الْمحل مِنْهَا معنى لكَونهَا قَادِرًا وَلم نجد كَونه قَادِرًا إِلَّا مَعَ الْقُدْرَة وَلم تثبت دلَالَة فِي انضمام معنى إِلَى الْقُدْرَة عرفنَا أَن الْقُدْرَة تَقْتَضِي معلولها بِنَفسِهَا

(1/415)


وَهَذِه الطَّرِيقَة مستمرة فِي مُعظم أصُول الديانَات، وَهُوَ من أقوى مَا يتشبث بِهِ، وَلَا يصفوا لَك إِلَّا بعد أَن نذْكر شبههم ونتفصى عَنْهَا ليتبين لَك أَنه لم تقم دلَالَة دَالَّة على التغاير، ونردف هَذِه الدّلَالَة بِأَن نقُول: فَإِن أيا ذَا أثبتم

(1/416)


لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي مَعْنيين فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونَا مثلين أَو خلافين [أَو ضدين] وَلَا ... كَانَا مثلين فَمن حكم المثلين أَن يَتَّصِف أَحدهمَا بِمَا يَتَّصِف بِهِ الثَّانِي نَحْو أَدِلَّة الْخَاص فَوَجَبَ أَن يَقع الِاسْتِقْلَال بِأَحَدِهِمَا وَإِن كَانَا ضدين اسْتَحَالَ اجْتِمَاعهمَا ... اسْتِحَالَة الاتصاف بهما جَمِيعًا وَقد ثَبت وجوب اتصاف كل أَمر جازم بِكَوْنِهِ نهيا فِي حَال كَونه أمرا وَإِن كَانَا خلافين غير متضادين وَجب أَن يتَصَوَّر ثُبُوت أَحدهمَا وَانْتِفَاء الثَّانِي كالحركة والسواد والسكون وَالْعلم وَغَيرهمَا من المختلفات وشأن كل مُخْتَلفين لَا يتضادان، وَلَا يتَعَلَّق أَحدهمَا بِالثَّانِي تعلق الشَّرْط بالمشروط وَالْعلَّة بالمعلول والإدراك بالمدرك أَن يجوز ثُبُوت أَحدهمَا / مَعَ جَوَاز ثُبُوت ضد الآخر فَيلْزمهُ من ذَلِك [51 / أ] أَن يجوز ثُبُوت الْأَمر مَعَ ثُبُوت ضد النَّهْي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ وضد النَّهْي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ هُوَ الْأَمر بهَا فَيلْزم من ذَلِك جَوَاز ثُبُوت الْأَمر بالشَّيْء جزما مَعَ ثُبُوت الْأَمر بأضداد الْمَأْمُور بِهِ على التحتم أَيْضا فَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام لم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ.
[427] شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا: الْأَمر لَفْظَة مَعْلُومَة فِي اللُّغَة وَهِي تخَالف لَفْظَة النَّهْي فَمن جعل الْأَمر نهيا فقد وصف الشَّيْء بِوَصْف خِلَافه وَينزل منزلَة من قَالَ الْعلم حَرَكَة وَالْحَرَكَة علم.
قيل لَهُم: بنيتم ذَلِك على فَاسد أصلكم حَيْثُ قُلْتُمْ: إِن الْأَمر يرجع إِلَى

(1/417)


الْأَلْفَاظ فَهَذَا [مَا ننكره] أَشد الْإِنْكَار ثمَّ نقُول فَلَو ساعدناكم على مَا قلتموه فَبِمَ تنكرون على من يَقُول إِن لفظ الْأَمر لَيْسَ تَسْمِيَة هُوَ عين لفظ النَّهْي وَلَكِن يتَضَمَّن معنى النَّهْي وَهَذَا كَمَا قَالَ إِن النَّهْي عَن التأفيف فِي قَوْله عز اسْمه: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} الْآيَة مُخَالف للفظ النَّهْي عَن الضَّرْب وَلَكِن مُتَضَمّن لَهُ وَإِن لم يكن عينه، إِلَى غير ذَلِك من فحوى الْخطاب. فَإِن ساعدونا على ذَلِك فقد ارْتَفع الْخلاف مَعَ فِئَة من الْفُقَهَاء وهم الَّذين سموا الصِّيَغ أوَامِر ونواهي.
[428] فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الْأَمر نهيا جَازَ أَن يكون الْقُدْرَة على الشَّيْء عَجزا عَن أضداده وَالْعلم بالشَّيْء جهلا بضده إِلَى غير ذَلِك من أَمْثَاله.
قيل لَهُم هَذَا اجتزاء مِنْكُم لمقابلة اللَّفْظ بِاللَّفْظِ واقتصار مِنْكُم على مُجَرّد دَعْوَى، فَلم قُلْتُمْ: إِنَّه لما لم يكن الْعلم جهلا وَالْقُدْرَة عَجزا لَا يكون الْأَمر نهيا، ثمَّ بِمَ تنكرون على من يَقُول يلزمكم على قَود ذَلِك أَن تجْعَلُوا الْحَرَكَة عَن الْمَكَان سكونا فِي الْمَكَان الثَّانِي وَلَا يكون الْقرب مَعَ الشَّيْء بعدا عَن غَيره لما ذكرتموه فِي الْقُدْرَة وَالْعجز وَالْعلم وَالْجهل فَتبين أَن تتبع الإطلاقات لَا سَبِيل إِلَيْهِ. ثمَّ نقُول لما لم نجد اتصاف كل قَادر على شَيْء بِكَوْنِهِ عَاجِزا عَن ضِدّه لم يلْزم أَن يكون الْقُدْرَة عَجزا، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْعلم وَلما ألزم القَوْل فِي الْعلم وَلما لزم أَن يكون آمُر كل امْر جازم ناهيا فَتبين الْفَصْل بَينهمَا.
[429] فَإِن قيل: فَإِذا جعلتم الْأَمر نهيا فقد علقتم وَصفا حَادِثا بمتعلقين وَالْوَصْف الْحَادِث لَا يتَعَلَّق بمتعلقين.

(1/418)


قيل لَهُ: لَيْسَ الْأَمر على مَا ذكرتموه فَإِن الْوَصْف الْحَادِث قد يتَعَلَّق بمتعلقين فَإنَّا رُبمَا نقُول إِن الْعلم مُتَعَلق بالمعلوم.
قيل لَهُم: لَيْسَ الْأَمر على مَا ذكرتموه فَإِن تعلق بِنَفسِهِ وَالْقُدْرَة عنْدكُمْ تتَعَلَّق بالشي / وضده. [51 / ب]
[430] فَإِن قَالُوا: فَإِذا زعمتم أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ لزمكم أَن تَقولُوا النَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بأضداد المنهى عَنهُ حَتَّى يلْزم من ذَلِك الْأَمر بالمتضادات جَمِيعهَا.
قيل لَهُم: النَّهْي عَن الشَّيْء الَّذِي لَهُ ضد وَاحِد يتَضَمَّن الْأَمر بالمتضاد الَّذِي لَهُ أضداد فيتضمن الْأَمر بِأحد أضداده وَمَا قلتموه من وجوب التَّسْوِيَة بَينهمَا ادِّعَاء مُجَرّد وإلزام بِمُجَرَّد لفظ وَوجه التَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن الْأَمر بالشَّيْء على التَّضْيِيق لما تضمن تَحْرِيم كل الأضداد كَانَ نهيا عَن كلهَا، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء لَا يتَضَمَّن إِيجَاب كل الأضداد فَلَا يكون أمرا بكلها فتتبع الْأَلْفَاظ أولى من مُقَابلَة الْأَلْفَاظ فَافْهَم.
(90) القَوْل فِي معنى فَوَات الْفِعْل الْمُؤَقت وإعادته، وَكَون الْقَضَاء فرضا ثَانِيًا

[431] اعْلَم أَن الْفَوات إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْفِعْل الْمُؤَقت بِوَقْت مَحْصُور مَحْدُود، فَإِن قيل لَك مَا الْفَوات؟ .

(1/419)


قلت: هُوَ اسْم لمضي الْوَقْت الْمَحْدُود للْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ. والفائت هُوَ الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ إِذا انْقَضى وقته [و] لم يتَقَدَّر أَدَاؤُهُ. فَأَما مَا لم يعلق بِوَقْت مَحْدُود فَلَا يُطلق اسْم الْفَوات فِيهِ، وَمَا وَجب على الْفَوْر وَلم يتَعَلَّق الأمرعلى ذكر وَقت وَلَكِن تقرر بالقرائن وجوب الابتدار إِلَى الِامْتِثَال فِي أول وَقت الْإِمْكَان فَإِذا أخرالمكلف مقصرا فَيتَحَقَّق اسْم الْفَوات هَكَذَا قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ إِذا ثَبت الْفَوْر استحقاقا فَمن ضَرُورَته وجوب إِيقَاع الْفِعْل فِي أول زمن من الْإِمْكَان فَهُوَ إِذا مَأْمُور بإيقاعه فِيهِ.
[432] وَهَذَا الَّذِي ذكره مُسْتَمر على مَنْهَج الْأُصُول وَإِن كَانَ مُخَالف إطلاقات الْفُقَهَاء فَإِنَّهُم إِذا قَالُوا يجب تَعْجِيل أَدَاء الزَّكَاة عِنْد الْإِمْكَان فَإِذا مضى من الْوَقْت مَا لَو ابتدر فِيهِ لأَدَاء الزَّكَاة أمكنه فَلَا يَقُول الْفُقَهَاء إِن أَدَاء الزَّكَاة قد فَاتَهُ فَإِذا قدم عَلَيْهِ فِي الْوَقْت الثَّانِي لَا يسمونه قَاضِيا وَذَلِكَ يرجع إِلَى الْعبارَات.

(1/420)


[433] وَالتَّحْقِيق مَا قَالَه القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ويتبين لَك ذَلِك بِشَيْء وَهُوَ أَنه إِذا ثَبت ان الْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار بمطلقه وَلَا الْفَوْر ثمَّ اقْترن بِهِ مَا يَقْتَضِي الْفِعْل فِي أول زمن الْإِمْكَان فَلَو انْقَضى أول الزَّمن فَلَا يثبت الْوُجُوب فِي الزَّمَان الثَّانِي إِلَّا بِأَمْر مُجَدد كَمَا لَا يثبت وجوب الْقَضَاء فِي كل مَا اتَّفقُوا على تَسْمِيَته قَضَاء إِلَّا بِأَمْر مُجَدد على مَا سنذكر إِن شَاءَ الله عز وَجل.
[434] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ الْفَوات والفائت فَمَا الْقَضَاء؟
قُلْنَا: هُوَ فعل مَا فَاتَ وقته / الْمَحْدُود لَهُ وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الْقَضَاء إِذا [52 / أ] انْقَضى وَقت الْأَدَاء على من كَانَ مُلْتَزما لَهُ فِيهِ وَرُبمَا يُطلق الْفُقَهَاء اسْم الْقَضَاء تجوزا فِي حق من لم يكن من أهل الِالْتِزَام فِي وَقت الْأَدَاء، وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم: على الْحَائِض قَضَاء الصّيام، وَإِن عرفنَا قطعا أَن أداءه لم يجب عَلَيْهَا فِي زمن محيضها وَلَكنهُمْ أطْلقُوا ذَلِك توسعا وَغلب ذَلِك على الْأَلْسِنَة.

(1/421)


[435] فَإِن قيل: فَمَا الْإِعَادَة؟
قيل: هِيَ فعل مثل مَا بَطل وَفَسَد من الْمَأْمُور بِهِ مَعَ انْتِفَاء الْفساد عَنهُ فَيخرج من ذَلِك أَن من فَاتَتْهُ صَلَاة، حسن مِنْهُ أَن يَقُول: عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَلَا يحسن أَن نقُول عَلَيْهِ إِعَادَتهَا فَإِن الْإِعَادَة مَبْنِيَّة على الْعود إِلَى الشَّيْء فَإِذا لم يتَحَقَّق التَّلَبُّس بِهِ لم يحسن فِيهَا إِطْلَاق الْإِعَادَة، وَلَكِن لَو تلبس بِالصَّلَاةِ ثمَّ أفسدها حسن إِطْلَاق الْإِعَادَة هَا هُنَا، فَهَذَا مَا يحسن إِطْلَاقه، وَقد نرى الْفُقَهَاء يتسامحون فِي ذَلِك فَيَقُولُونَ الْإِعَادَة، ويعنون بهَا الْقَضَاء، ومقصدنا التَّنْبِيه على الْحَقَائِق ثمَّ لَا حرج عَلَيْك لَو توسعت.
(91) فصل

[436] ذهب بعض من لَا معرفَة لَهُ بالحقائق إِلَى أَن الصّيام يجب على الْحَائِض فِي زمن الْحيض وَلكنهَا لَا تتمكن مِنْهُ فتقضيه عِنْد ارْتِفَاع الْمَانِع وَهَذَا محَال فَإِن الْأمة أَجمعت على أَن الْوَاجِب هُوَ الصّيام الصَّحِيح ثمَّ اتَّفقُوا

(1/422)


على أَنه لَا يَصح من الْحَائِض الصّيام كَيفَ وَقد أَجمعُوا على أَنَّهَا لَو أَمْسَكت عَن المفطرات ناوية صَومهَا عَصَتْ الله، وَكَيف يجب عَلَيْهَا صَوْم صَحِيح وَلَا يتَصَوَّر مِنْهَا التَّوَصُّل إِلَى الصَّوْم الصَّحِيح.
[437] فَإِن قيل الْأَمر بِالصَّلَاةِ مُتَوَجّه على الْمُحدث وَلَا يَصح مِنْهُ مَعَ حُدُوثه وَكَذَلِكَ الْأَمر بالشرائع مُتَوَجّه على الْكفَّار مَعَ اسْتِحَالَة وُقُوعهَا على الصِّحَّة مَعَ بَقَاء الْكفْر، قيل لَهُم: يتَصَوَّر من الْمُحدث التَّسَبُّب إِلَى رفع الْحَدث وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْكَافِر وَلَا يتَصَوَّر ذَلِك فِي الْحيض فافترق الْأَمْرَانِ وتباين البابان.
[438] فَإِن قيل أَلَيْسَ يجب عَلَيْهَا الْقَضَاء؟ .
قيل لَهُم: وجوب الْقَضَاء لَا يتلَقَّى عندنَا من وجوب الْأَدَاء فَإنَّا نقُول وَإِن ثَبت وجوب الْأَدَاء ثمَّ فَاتَ لم يجب الْقَضَاء إِلَّا بِأَمْر مُجَدد.
[439] فَإِن قيل: أَلَيْسَ اسْم الْقَضَاء إِنَّمَا يتَنَاوَل بعد تَحْقِيق فَوَات وَاجِب؟ .
قُلْنَا هَذَا تمسك بالعبارات الدائرة فِي بعض الْفُقَهَاء وَلَيْسَت عبارَة شَرْعِيَّة فَيصح التَّمَسُّك بهَا، ثمَّ نقُول اسْم الْقَضَاء يَنْقَسِم فقد ينْطَلق بعد فَوَات وَاجِب وَقد ينْطَلق بعد فَوَات وجوب إِذا كَانَ فِي حق مُكَلّف على الْجُمْلَة، وتجوزنا بقولنَا فِي ((حق مُكَلّف)) عَن الصَّبِي يبلغ فينتدب لامتثال / الْأَوَامِر وجوبا، فَإِن مَا يبدر مِنْهُ لَا يُسمى قَضَاء لِأَن مَا فَاتَ وُجُوبه [52 / ب]

(1/423)


كَانَ فِي زمَان سُقُوط التَّكْلِيف فَتبين بذلك أَن مَا عولوا عَلَيْهِ رُجُوع إِلَى مَحْض الْعبارَات.
[440] فَإِن قيل: أَلَيْسَ يجب عَلَيْهَا أَن تنوي قَضَاء الصَّوْم فَهَذَا رَاجع إِلَى الحكم دون الْعبارَة.
قُلْنَا: الْمَقْصُود من النيات التَّمْيِيز فِي الْعِبَادَات، فَأمرت أَن تميز بَين الصَّوْم الْموقع فِي غير رَمَضَان وَبَين الصَّوْم الْموقع فِي رَمَضَان، فَلَو تأتى بهَا التميز بِغَيْر لفظ الْقَضَاء وَالْأَدَاء صَحَّ صَومهَا، وَفِي الْفُقَهَاء من لم يَجْعَل للفظ الْقَضَاء وَالْأَدَاء حكما.
[441] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْمُسَافِر فِي حكم الصّيام؟
قُلْنَا: حكمه فِي الصّيام حكم الْمُكَلف فِي الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت فَإِن أَقَامَهَا فِيهِ كَانَ مُؤديا فرضا، وَإِن أَخّرهَا عَازِمًا على فعلهَا فِي الِاسْتِقْبَال جَازَ لَهُ تَأْخِيرهَا فَقَامَ الْعَزْم مقَام مَا ترك فِي أول الْوَقْت فَكَذَلِك القَوْل فِي الْمُسَافِر إِن أَقَامَ الصّيام فِي سَفَره فقد أدّى فرضا، وَإِن أَخّرهُ إِلَى الْإِقَامَة سَاغَ تَأْخِيره، بِشَرْط الْعَزْم على إِقَامَتهَا.
[442] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْمَرِيض؟
قُلْنَا: إِن كَانَ يتَصَوَّر مِنْهُ الصّيام فَحكمه حكم الْمُسَافِر وَإِن كَانَ لَا يتَصَوَّر مِنْهُ لزوَال عقل أَو غَيره فَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ كَمَا لَا يتَعَلَّق

(1/424)


بالحائض وَقد صَار بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنه إِذا كَانَ فِي مَرضه بِحَيْثُ يجهده الصَّوْم وَإِن تصور مِنْهُ على ضرّ ومقاشاة كلفة فَلَا يجب عَلَيْهِ الصَّوْم، لَا مضيقا وَلَا موسعا، بِخِلَاف الْمُسَافِر وَرُبمَا يمِيل القَاضِي إِلَى ذَلِك فِي بعض كتبه ويفصل بَين الْمَرِيض وَالْمُسَافر فَإِن الْمَرِيض خفف عَنهُ لما يَنَالهُ من الْمَشَقَّة فَلم يصفه بِكَوْنِهِ مُخَاطبا بِالصَّوْمِ وَأما الْمُسَافِر فَلَا مشقة عَلَيْهِ فِي الصّيام، والرخصة فِي حَقه تفسيح فِي التَّأْخِير، وَلَيْسَ تحط الْوُجُوب وَالصَّحِيح غير ذَلِك فَكل من يَصح مِنْهُ الصَّوْم الْمَفْرُوض فَيكون من أهل الْتِزَامه إِمَّا على التَّضْيِيق وَإِمَّا على التَّوَسُّع، وَمَا أَوْمَأ إِلَيْهِ من الْفَصْل لَا يكَاد يَتَّضِح.
(92) فصل

[443] ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْأَمر إِذا تعلق بِالْفِعْلِ الْمُؤَقت بِوَقْت مَحْصُور فَإِذا انْقَضى ذَلِك الْوَقْت وَلم يتَّفق امْتِثَال الْأَمر فِيهِ فبنفس الْأَمر السَّابِق يعلم وجوب اقْتِضَاء الْفِعْل الْفَائِت بعد انْقِضَاء الْوَقْت وَمَا صَار إِلَيْهِ

(1/425)


الْمُحَقِّقُونَ أَن نفس الْأَمر بِالْأَدَاءِ فِي الْوَقْت المحصور لَا يتَضَمَّن الْأَمر بِالْقضَاءِ وَإِنَّمَا ثَبت وجوب الْقَضَاء بِأَمْر مُجَدد وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْأَمر إِذا تعلق [53 / أ] بِفعل مُخَصص بِوَقْت فقد انطوى عَلَيْهِ دون غَيره فَلَيْسَ فِي / الْأَمر تَصْرِيح بإيقاع مثله بعد وقته وَلَيْسَ يتضمنه لَا محَالة، فَإِذا لم يُنبئ عَنهُ صَرِيحًا وَلَا ضمنا [لم يستفد] مِنْهُ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْأَمر إِذا تعلق بِفعل يتخصص بشخص لم يستفد مِنْهُ تَخْصِيصه بشخص آخر، وَكَذَلِكَ إِذا اقْتضى تَخْصِيصه بمَكَان يُمكن لم يستفد مِنْهُ إِيقَاعه فِي غَيره نَحْو الْأَمر بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَة فِي وَقت مَخْصُوص إِذا تعذر امتثاله فِي الْمَكَان الْمَخْصُوص بِهِ لم نستفد من

(1/426)


الْأَمر إِيقَاع الْوُقُوف فِي غَيره وَلَيْسَ يُنبئ عَنهُ تضمنا لَا محَالة، فَوَجَبَ تَخْصِيصه بمورده.
[444] فَإِن من تمسك من يخالفنا بِوُجُوب الْقَضَاء فِي بعض موارد الشَّرْع.
قيل لَهُ: ثَبت أَن قَضَاء مَا استشهدت بِهِ مُسْتَفَاد من الْأَمر بِأَدَائِهِ. ثمَّ نقُول إِن لزم قَضَاء عبادات سقط قَضَاء بَعْضهَا كَالْجُمُعَةِ وَرمي الْجمار عِنْد بعض الْعلمَاء والعبادات فِي حق الْكفَّار. وَالصَّلَاة المتروكة فِي أول الْوَقْت إِذا عرض فِي أثْنَاء الْوَقْت حيض أَو جُنُون إِلَى غَيرهَا.
(93) القَوْل فِي أَن خطاب المواجهين مَقْصُور عَلَيْهِم إِلَّا أَن يقوم دَلِيل على دُخُول من بعدهمْ فيهم

[445] اعْلَم أَن الْخطاب الْوَارِد فِي عصر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُتَوَجّه على أهل زَمَانه مُخْتَصّ بالمكلفين الْمَوْجُودين يَوْمئِذٍ، وَلَا يدْخل من بعدهمْ فِي قَضِيَّة الْخطاب المتوجه عَلَيْهِم إِلَّا بِدلَالَة يقطع بهَا وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى:

(1/427)


{يَا أَيهَا النَّاس} و {يَا أولي الْأَبْصَار} {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} وَجُمْلَة أوَامِر الْقُرْآن يجْرِي على هَذَا الْمنْهَج، فَلَو خلينا وظواهرها لخصصناها بالذين عاصروا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَإِن الصِّفَات الَّتِي يُقيد بهَا الْخطاب يَسْتَحِيل تحققها إِلَّا فِي متصف بالوجود، وَلَكِن أجمع الْمُسلمُونَ قاطبة على أَن من سبق من الْخطاب فِي عصر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُتَوَجّه على أهل عصره كَافَّة فَمن بعدهمْ مندرجون تَحت قَضيته، إِذا لم نقل ذَلِك أدّى ذَلِك [إِلَى قصر] الشَّرْع على الَّذين انقرضوا، فلدلالة الْإِجْمَاع عدينا الْخطاب من السّلف إِلَى الْخلف.
[446] فَإِن قَالَ قَائِل: فَلَو خَاطب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَاحِدًا من أهل عصره، وسمى [رجلا] باسمه فَهَلا يتَعَدَّى الحكم مِنْهُ إِلَى غَيره؟
قُلْنَا: ظَاهر الصِّيغَة يَقْتَضِي تَخْصِيص الْخطاب [بِهِ] فَإِن قَامَت دلَالَة

(1/428)


على تعديته إِلَى غَيره عدي.
[447] فَإِن قيل: فَهَل تجرون ذَلِك مجْرى تَعديَة خطاب أهل الْعَصْر الأول إِلَى أهل الْعَصْر الثَّانِي؟
قُلْنَا: قد ثَبت إِجْمَاع فِي المسئلة الأولى ... بِهِ وَلم نقصر الشَّرْع على أهل الْعَصْر الأول إِلَى أهل الْعَصْر الثَّانِي، وَلم يثبت فِي المسئلة / [53 / ب] الثَّانِيَة إِجْمَاع، فقد يُخَاطب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَاحِدًا وَيُرِيد تَعْمِيم الكافة، وَقد يرد التَّخْصِيص عَن قَضِيَّة ظَاهر اللَّفْظ فَلَمَّا انقسمت أَلْفَاظه فِي ذَلِك لزم التَّمَسُّك بِظَاهِر التَّخْصِيص إِلَى أَن تقوم دلَالَة.
[448] وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن خطاب الْوَاحِد خطاب للكافة.

(1/429)


تمسكا بقوله سُبْحَانَهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} .
فَهَذَا يدل على تَعْمِيم كل مَا أرسل فِيهِ.
قيل: لَا بل يدل هَذَا على كَونه رَسُولا فِي حق الكافة، وَأما أَن يدل على استوائهم فِي كل الْأَحْكَام فَلَا، وَأَنِّي يَسْتَقِيم فِي الْأَحْكَام فِي موارد الشَّرِيعَة، فَمن مُخْتَصّ وَمن عَام.
[449] وَرُبمَا يتَمَسَّك هَذَا الْقَائِل بِمَا رُوِيَ عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: ((خطابي للْوَاحِد خطابي للكافة)) .
قيل: هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يسوغ التَّمَسُّك بِهِ فِي إِثْبَات الْحجَج،

(1/430)


فَإِن حجج الشَّرْع لَا تثبت إِلَّا بأدلة قَاطِعَة إِذْ لَو أَرَادَ مزية تثبيت كَون خبر الْوَاحِد مُوجبا للْعَمَل بِمَا لَا يُوجب الْقطع لم يتَقَبَّل مِنْهُ مَعَ أَن هَذَا عرضة للتأويل فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بقوله: ((خطابي للْوَاحِد خطابي للْجَمِيع)) أَن أَمْرِي كَمَا يلْزم الْوَاحِد يلْزم الكافة، لَو خاطبت الكافة بِصِيغَة تَعْمِيم وَإِن اسْتدلَّ بِأَن قَالَ: لَو كَانَ يُرِيد تَخْصِيص مُخَاطبَة لنَصّ عَلَيْهِ كَمَا أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لما خص بعض أَصْحَابه [بالتضحية] بِمَا دون الْجذع قَالَ: ((تُجزئ عَنْك وَلَا تُجزئ عَن أحد بعْدك)) وَقَالَ لمن تزوج على مَا حفظه من الْقُرْآن:

(1/431)


((هَذَا لَك) إِلَى غير ذَلِك، وَهَذَا من ضَعِيف الِاسْتِدْلَال، فَإِن التَّنْصِيص على التَّخْصِيص لَا يُوجب الْعُمُوم عِنْد الْإِطْلَاق، كَمَا أَن عدم التَّنْصِيص على التَّعْمِيم فِي الصِّيَغ الْعَامَّة لَا يَنْفِي عمومها عِنْد الْقَائِلين بِالْعُمُومِ، وَإِن كَانَ قد يرد بعد الْأَلْفَاظ مؤكدا فِي اقْتِضَاء التَّعْمِيم.
[450] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنا لَو جعلنَا التَّقْيِيد مثل ذَلِك علما للتخصيص لزم إبِْطَال التَّأْكِيد فِي مُقْتَضى الْكَلَام، فَإِن اللَّفْظَة قد ترد على

(1/432)


معنى هِيَ مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا فِي إثارته، ثمَّ قد يُؤَكد فِي تَحْقِيق مَعْنَاهَا بضروب من الْقُيُود، وَلَا يدل تَأْكِيد الْقَرَائِن على عدم إِثْبَاتهَا فِي مَعْنَاهَا عِنْد الْإِطْلَاق والتجرد عَن الْقَرَائِن.
(94) القَوْل فِي أَنه هَل يَصح علم الْمُكَلف بِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْفِعْلِ

[451] اعْلَم - وفقك الله - أَن خلف الْأمة وسلفها أَجمعُوا على أَن الْأَمر إِذا اتَّصل بالمكلف وَلَا مَانع يمنعهُ من الِامْتِثَال فَيعلم أَنه مَأْمُور بِالْأَمر الْوَارِد مَنْهِيّ بِالنَّهْي الْمُتَّصِل بِهِ، وَلكنه يعْتَقد كَونه مَأْمُورا فِي الثَّانِي / من [54 / أ] الْأَوْقَات الْمُسْتَقْبلَة بِشَرْط أَن يبْقى، وَتبقى لَهُ صِفَات التَّكْلِيف فيستيقن فِي الْحَالة توجه الْأَمر عَلَيْهِ، وَلَو قيل مَا حالك إِذا اشتغلت بالامتثال فِي

(1/433)


الِاسْتِقْبَال أيدوم عَلَيْك الْوُجُوب فطريق جَوَابه أَن تَقول: إِن بقيت دَامَ عَليّ الْوُجُوب وَإِن اخترمت انْقَطع عني الْوُجُوب.
[452] وَقَالَت الْقَدَرِيَّة: لَا يَصح علمه بتوجه الْأَمر عَلَيْهِ إِلَّا بعد الْإِقْدَام عَلَيْهِ على الِامْتِثَال، أَو بعد مُضِيّ وَقت يَسعهُ مَعَ تَركه لَهُ.
وَحَقِيقَة أصلهم فِي ذَلِك أَن الْأَمر لَا يتَضَمَّن إِيجَاب الِامْتِثَال مقترنا بِهِ بل يتَعَيَّن بآخر الِامْتِثَال عَن اتِّصَال الْأَمر وَلَو بِزَمَان.
ثمَّ من أصلهم أَن مَا تحقق حُدُوثه عَن الِامْتِثَال فَلَا يكون الْمُكَلف فِي حَال حُدُوثه مَأْمُورا بِهِ على مَا سنعقد فِي ذَلِك فصلا إِن شَاءَ الله عز وَجل.
وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الْوُجُوب فِيمَا سيفعله فِي الثَّانِي، وَلمن يتَحَقَّق استيقانه لبَقَائه على صفة التَّكْلِيف فِي الثَّانِي، فاستحال عِنْدهم اعْتِقَاد الْوُجُوب مَعَ الْأَمر، واستحال اعْتِقَاده مَعَ حُدُوث الِامْتِثَال، واستحال استيقانه فِي الِاسْتِقْبَال مَعَ انطواء الْغَيْب عَنَّا.
فَقَالُوا لهَذِهِ الْأُصُول الَّتِي أومأنا إِلَيْهَا: لَا يَصح من الْمُكَلف أَن يعلم كَون نَفسه مَأْمُورا قطعا.
[453] وَأما نَحن فَإنَّا نزعم أَن الْمُكَلف يعلم كَون نَفسه مَأْمُورا، ونقطع بِهِ فِي مَحل الْقطع، ويؤول توقفه فِي اسْتِدَامَة الْوُجُوب إِلَى توقع

(1/434)


الاخترام والبقاء، فالدليل على مَا صرنا إِلَيْهِ إِجْمَاع الْمُسلمين قاطبة فَإِن أهل الْإِسْلَام أَجمعُوا على توجه النَّهْي عَن الْمُحرمَات على الْمُكَلّفين وَكَذَلِكَ أَجمعُوا على توجه الْأَمر وَالنَّهْي على أحد من المخاطبين، وَفِي هَذَا أعظم الْفِرْيَة.
[454] فَإِن قيل: فَإِذا انْقَضى الْوَقْت تبين توجه الْأَمر؟
قيل: حدتم عَن مَوضِع الْإِلْزَام وَذَلِكَ أَن الْوَقْت إِذا انْقَضى فَبعد انقضائه لَا يتَحَقَّق إِثْبَات الْأَمر بإيقاع فعل مثله مذهبكم يقودكم أَنه حَيْثُ تصور مِنْهُ الِامْتِثَال لَا يعلم توجه الْأَمر مقتضيا لامتثال وَحَيْثُ يعلم لَا يتَصَوَّر الِامْتِثَال وَلما عظم خطر هَذَا الْكَلَام صَار بَعضهم يُدَلس متقيا خرق الْإِجْمَاع ويوافق أهل الْحق وَإِلَيْهِ مَال عبد الْجَبَّار، وَلَكِن لَا يَسْتَقِيم ذَلِك على مُقْتَضى أصولهم.

(1/435)


[455] وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ أَن نقُول: إِذا زعمتم أَن الْإِيجَاب لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِيمَا يُوقع فِي الثَّانِي، فَإِن الْإِيقَاع فِي الْمَاضِي لَا يتَصَوَّر وجوب الِامْتِثَال مَعَ الْأَمر لَا يتَقَدَّر اقترانا بِأول حَالَة، وَبَقَاء صفة الْمُكَلف فِي الثَّانِي مَشْكُوك فِيهِ، فَإِذا كَانَ هَذَا أصلكم فَهَلا قُلْتُمْ أَنه لَا يجب الْإِقْدَام على [54 / ب] الِامْتِثَال / فَإِن شَرط ثُبُوت التَّكْلِيف فِي الِالْتِزَام علم الْمُكَلف بِهِ، فَإِذا لم يتَحَقَّق علمه بِهِ كَيفَ يتَحَقَّق اللُّزُوم، وَهل هَذَا إِلَّا عين التَّنَاقُض؟ .
[456] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا يعرف وجوب الْإِقْدَام على الِامْتِثَال لأصل، وَهُوَ أَن الْمُكَلف إِذا جوز أَن يبْقى فِي الثَّانِي، وَجوز أَن يخترم وَعلم أَنه لَو بَقِي وَلم يُوقع فِي الْوَقْت الثَّانِي امتثالا كَانَ مَعْلُوما، فَإِذا تصدى لَهُ طَرِيقَانِ يتَوَصَّل بِأَحَدِهِمَا إِلَى الْأَمر من اسْتِحْقَاق الْعقَاب، فالعقل يلْزمه إيثاره واختياره.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تشبيث مِنْكُم بأطراف مسئلة الْعقل، وَكَونه مُوجبا، وسنشبع القَوْل فِي الرَّد عَلَيْكُم إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ثمَّ نقُول: فاحسبونا وافقناكم على مَا قُلْتُمْ فَلَا مخلص فِيهِ، فَإِن مَا أومأتم إِلَيْهِ ضرب من الْإِيجَاب وَشرط [الْبَقَاء] على صفة التَّكْلِيف فَإِن

(1/436)


هَذَا الحكم لَا يخْتَلف بِإِسْنَاد الْإِيجَاب إِلَى عقل وَسمع وكما يشْتَرط بَقَاؤُهُ فِي تَحْقِيق الْوُجُوب الْعقلِيّ، وَمَا ذكرتموه ضرب من الْوُجُوب فَكَمَا لزمكم فِي الأَصْل عِنْد التشكك فِي الْإِيجَاب إِلَّا بعزم فيلزمكم فِي عين مَا قلتموه مثله، وَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ.
[457] وَتمسك القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بنكتة أُخْرَى فَقَالَ: أجمع الْفُقَهَاء على من تلبس بِالصَّلَاةِ وَهُوَ مستريب فِي وُجُوبهَا فَلَا تَنْعَقِد، وَإِنَّمَا تَنْعَقِد صلَاته إِذا نوى وُجُوبهَا جزما أَو نوى مَا يقوم مقَام نِيَّة الْوُجُوب وَلَا معنى لجزم النِّيَّة على أصلهم مَعَ مَا قدمْنَاهُ من مَذْهَبهم، وَهَذَا وَإِن أمكن تَقْرِيره فالاعتماد على مَا قدمْنَاهُ.
[458] فَإِن قَالُوا: ألستم وافقتمونا على اسْتِحَالَة القَوْل بِوُجُوب الِامْتِثَال مَعَ الْمَوَانِع عَنهُ؟ فَإِذا كَانَت الْمَوَانِع غير مَأْمُونَة وَلم يعلم انتفاؤها مَقْطُوعًا بِهِ فِي الْمِثَال وَجب أَن لَا يكون الْوُجُوب مَقْطُوعًا بِهِ أَيْضا.
وَهَذَا لعمري شُبْهَة مخيلة فَأول مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي الْجَواب أَن نقُول: توجه الْأَمر على الْمُكَلف يتَحَقَّق فِي الْحَال وَلَيْسَ فِي ثُبُوت الْأَمر وجوده مُتَعَلقا بالمأمور شرطا، وَإِنَّمَا الشَّرْط فِي دوَام الْوُجُوب على الْمَأْمُور فَلم يرجح الشَّرْط إِذا إِلَى تعلق الْأَمر، وَإِنَّمَا رجح إِلَى بَقَاء الْوُجُوب على الْمَأْمُور.

(1/437)


[459] وسر مَذْهَبنَا فِي ذَلِك أَنا نجوز ثُبُوت الْأَمر بالشَّيْء مَعَ أَنه فِي مَعْلُوم الله سينسخ قبل مُضِيّ وَقت يسع الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله فِي أَبْوَاب النّسخ، فَإِذا جَوَّزنَا ثُبُوت وجوب شَيْء ثمَّ جَوَّزنَا نسخه قبل مُضِيّ وَقت الْإِمْكَان، تبين بذلك أَنا لَا نشترط فِي تَحْقِيق الْوُجُوب تقرر الْإِمْكَان بل نشترط على منع تَكْلِيف الْمحَال كَونه من قبيل الممكنات.
[460] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الحكم إِذا نسخ قبل فعله وَوَقته فلسنا نقُول أَن الحكم لَا يثبت أصلا، وَلَكِن نقُول: ثَبت وارتفع فأقصى مَا يلزمونا فِي المسئلة الْوُجُوب من عدم الْإِمْكَان فِي الْمَآل، وَهَذَا مِمَّا نقُول [55 / أ] بِهِ فِي أَحْكَام النّسخ، فَافْهَم ذَلِك من أَصله، وَأحل تثبيته / بِالدَّلِيلِ على النّسخ.
[461] ثمَّ نقُول: إِذا علم الله تَعَالَى أَن الْمُخَاطب سَيبقى إِلَى وَقت امْتِثَال الْفِعْل فَيَقُولُونَ إِنَّه مَأْمُور فِي علمه، ويعلمه مَأْمُورا، وَإِن لم يطلقوا ذَلِك فِي حق العَبْد نَفسه، وتصوير ذَلِك أَن الرب تَعَالَى إِذا أَمر الْمُحدث

(1/438)


بِالصَّلَاةِ على شَرط التَّطْهِير، وَعلم أَنه يتَمَكَّن مِنْهُ وَمن الصَّلَاة فَهُوَ مَأْمُور بِالصَّلَاةِ عِنْد الله وفَاقا وَإِن كَانَ يُوجد فِي ثَانِي الْحَال، فَلَو كَانَ التَّمَكُّن شَرط كَونه مَأْمُورا، للزمكم أَن تَقولُوا: لَا يكون مَأْمُورا بِالصَّلَاةِ قبل التَّطْهِير، فَلم قُلْتُمْ إِنَّه مَأْمُور بهَا، وَإِن كَانَ شَرط صِحَّتهَا يُوجد فِي الثَّانِي، فَبِمَ تنكرون على من يقطع بِكَوْنِهِ مَأْمُورا فِي الْحَال وَإِن كَانَ الشَّرْط فِي الْمِثَال مغيبا عَنهُ.
ثمَّ نقُول لَهُم الْوَاحِد منا إِذا أَمر عَبده بِأَمْر مَعَ علمه بِأَنَّهُ يخترم قبل اتمامه أَو قبل الشُّرُوع فِيهِ بِأَن علمه بذلك نَبِي، أَو ثَبت لَهُ علم ضَرُورِيّ فَيحسن مِنْهُ أَمر ليبتلي بذلك طَاعَته، وَهَذَا [مَا لَا يُنكره] أَرْبَاب الْأَلْبَاب فِي الْعَادَات حَتَّى لَو أَتَى الْمَأْمُور وَالصُّورَة هَذِه عد عَاصِيا، وَلَو أبرم الْعَزْم على الِامْتِثَال عد مُطيعًا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده فلولا أَن حَقِيقَة كَونه مَأْمُورا مَعَ عدم الْإِمْكَان فِي الْمِثَال، وَإِلَّا لما انتسب الْمَأْمُور إِلَى الْمعْصِيَة.
[462] فَإِن قيل: كَأَنَّهُ بأَمْره طلب مِنْهُ الْعَزْم على الْفِعْل [دون] الْفِعْل وَهَذَا مُتَصَوّر مِنْهُ.
قيل لَهُم: فتكليف الْعَزْم على الْأَمر مَعَ عدم الْإِمْكَان فِيهِ محَال، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَو قدر الْمَأْمُور عَالما بِعَدَمِ الْإِمْكَان لم يتَصَوَّر تَكْلِيفه الْعَزْم فَدلَّ أَن الْأَمر تعلق بِهِ فِي نفس الْفِعْل، ثمَّ يُقَال لَهُم فَكل مَا تبدوه فِي الصُّورَة الَّتِي فرضت عَلَيْكُم شَاهدا يلزمكم مثله فِي أَمر الله تَعَالَى حَتَّى تَقولُوا: إِن أمره يُوجب الْعَزْم إِذا علم عدم الْإِمْكَان فيلزمكم من ذَلِك تَجْوِيز التَّكْلِيف بالعزم على الشَّيْء مَعَ عدم الْإِمْكَان فِي المعزوم عَلَيْهِ، وَهَذَا محَال

(1/439)


عنْدكُمْ، كَمَا يَسْتَحِيل التَّكْلِيف بالعزم على المحالات.
(95) القَوْل فِي جَوَاز كَون الْأَمر مَشْرُوطًا بِبَقَاء الْمَأْمُور على صِفَات التَّكْلِيف

[463] اعْلَم - وفقك الله - أَن الْأَمر إِذا صدر من الْوَاحِد منا مَعَ انطواء الْغَيْب عَنهُ فَيصح تَقْيِيد أمره المتوجه على مخاطبه بِشَرْط بَقَائِهِ على صِفَات المخاطبين. فَأَما أَمر الله تَعَالَى فَيصح على أصُول الْحق أَن ترد الصِّيغَة عَنهُ مُقَيّدَة بِبَقَاء الْمَأْمُور مَعَ علمه بِمَا يكون وتقدسه عَن الريب فِي الْغَيْب، وَأنْكرت الْمُعْتَزلَة ذَلِك غَايَة الْإِنْكَار وَقَالُوا: يَسْتَحِيل أَن يرد الْأَمر من الله تَعَالَى مُقَيّدا بِشَرْط بَقَاء الْمُكَلف على صِفَات التَّكْلِيف، وَأَنه عَالم بِمَا يكون وَإِنَّمَا يَصح الشَّرْط منا لترددنا وتقابل الجائزات فِي حقوقنا حَتَّى

(1/440)


قَالُوا لَو علم الْوَاحِد منا بِوَحْي أَو إِعْلَام نَبِي بِمَا يكون من حَال مخاطبه فَلَا يحسن مِنْهُ أَيْضا تَقْيِيد خطابه بِبَقَاء الْمُخَاطب على صِفَات الْمُخَاطب.
وَالدَّلِيل / على تَجْوِيز الْخطاب بِبَقَاء صِفَات الْإِنْكَار وَإِن صدر الْخطاب [55 / ب] من عَالم بِمَا يكون: أَن نقُول: إِذا ورد الْأَمر من الله تَعَالَى فَلَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا يمْتَنع تَقْيِيده بِعِلْمِهِ بِمَا يكون فِي الْمَآل وَإِمَّا أَن تَقولُوا يمْتَنع تَقْيِيده للْعلم بِأَن الِامْتِثَال يتَقَيَّد بالإمكان لَا محَالة، فَلَا فَائِدَة فِي ذكره، فَإِن زعمتم أَن الْمَانِع من التَّقْيِيد الْعلم بِاشْتِرَاط الْإِمْكَان قطعا فَوَجَبَ أَن تَقولُوا: لَا يحسن منا تَقْيِيد أَمر بِانْتِفَاء من التَّقْيِيد كَون الرب تَعَالَى عَالما بِمَا يكون فَيلْزم من ذَلِك مَا لَا محيص عَنهُ وَهُوَ أَن لَا يُفِيد وعده ووعيده لعلمه بِمَا يكون كَمَا يفِيدهُ أمره وَلَو تتبعت وعد الْقُرْآن ووعيده ألفيت معظمه مُقَيّدا، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَو اطَّلَعت عَلَيْهِم لَوَلَّيْت مِنْهُم فِرَارًا} فَمَا وَجه الترديد فِي ذَلِك مَعَ علم الرب تَعَالَى بِأَنَّهُ يطلع وَلَا يطلع إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى وَلَا يحصر من موارد الْقُرْآن وَالسّنَن فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
[464] ثمَّ اعْلَم أَن هَذِه المسئلة تبتني على الَّتِي تقدّمت وَهِي أَنا قُلْنَا يقطع الْمُكَلف بِالْتِزَام مَا كلف مَعَ التَّرَدُّد فِي حكم الْعَاقِبَة، فترتب على ذَلِك مقصدنا ونقول: إِذا ورد الْأَمر مُطلقًا فَهَل تَقولُونَ إِنَّه يتَعَلَّق بالمكلف قطعا فِي الْحَال أم تستريبون فِيهِ، فَإِن استربتم فقد سبق وَجه الرَّد عَلَيْكُم، وَإِن قطعْتُمْ مَعَ انطواء حكم الْعَاقِبَة عَن الْمُكَلف فَيلْزم من ذَلِك أَن يكون مُكَلّفا مَعَ ذُهُوله عَمَّا يكون، وَالْأَمر مُتَوَجّه عَلَيْهِ قطعا، فَإِذا تصور ذَلِك الِاعْتِقَاد فِي الْأَمر الْمُطلق فَمَا الْمَانِع من تَقْيِيده بِمَا يعْتَقد فِيهِ عِنْد انطلاقه.

(1/441)


[465] فَإِن قيل: فالامتثال لَا يَقع إِلَّا مَعَ الْإِمْكَان، فَلَا فَائِدَة فِي تَقْيِيد الْخطاب بِهِ، وَهَذَا كَمَا أَن الْفِعْل لَا يَقع إِلَّا عرضا، فَلَا جرم لَا فَائِدَة فِي أَن يَقُول الْآمِر افْعَل إِن فعلك عرضا.
قيل لَهُم: هَذَا الاستشهاد مِنْكُم بَاطِل، وَذَلِكَ أَنا لَا نجوز أَن يثبت الْوُجُوب ثمَّ لَا يَدُوم وَإِذا لم يتَحَقَّق الْإِمْكَان فلسنا نسلم لكم توقف أصل الْوُجُوب على الْإِمْكَان، ثمَّ نقُول لَو صَحَّ مَا قلتموه وَجب أَن لَا تجوزوا من الْوَاحِد منا يُقيد أمره بدوام وصف الْإِمْكَان جَريا على مَا مهدتموه.
[466] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا حسن منا ذَلِك لجهلنا بِمَا يكون.
قُلْنَا: وَإِن جهلنا مَا يكون فَلَا نجهل أَن يكون الِامْتِثَال لَا يَقع إِلَّا مَعَ الْإِمْكَان، فَلَا فَائِدَة فِي ذكره على مُوجب قَوْلكُم ثمَّ نقُول: إِذا ورد القَوْل فِي بَقَاء صِفَات التَّكْلِيف والإمكان فَيمكن أَن يقْصد بذلك ابتلاء الْمُكَلف وامتحانه فِي توطين النَّفس على الِامْتِثَال، والعزم عَلَيْهِ، أَو الاضراب عَنهُ.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا سَبيله حسن تردد القَوْل فِيهِ وَأما كَون الْفِعْل عرضا فَلَيْسَ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ غَرَض فِي امتحان الْمُكَلف بِالطَّاعَةِ والعصيان، فافترق البابان. وَالله الْمُوفق للصَّوَاب.

(1/442)


تمّ الْجُزْء الأول بحول الله وعونه وَالصَّلَاة على نبيه الْكَرِيم،
يتلوه فِي التَّرْتِيب:
(96) القَوْل فِي أَن الْأَمر بِالْفِعْلِ هَل يتَعَلَّق بِهِ حَال حُدُوثه /
[56 / أ]
[467] اعْلَم - وفقك الله - أَن الْفِعْل مَأْمُور بِهِ فِي حَال حُدُوثه ثمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ من أَصْحَابنَا: الْأَمر قبل حُدُوث الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ أَمر إِيجَاب وإلزام وَلكنه يتَضَمَّن الِاقْتِضَاء وَالتَّرْغِيب وَالدّلَالَة على امْتِثَال الْمَأْمُور بِهِ وَإِذا تحقق الِامْتِثَال فَالْأَمْر يتَعَلَّق بِهِ وَلَكِن لَا يَقْتَضِي ترغيبا مَعَ تحقق الْمَقْصُود، وَلَا يَقْتَضِي دلَالَة بل يَقْتَضِي كَونه طَاعَة بِالْأَمر الْمُتَعَلّق ويتبين أَمر ذَلِك فِي أثْنَاء الْبَاب.
وَذهب بعض من ينتمي إِلَى أهل الْحق [إِلَى] أَن الْأَمر إِنَّمَا يَقْتَضِي

(1/443)


الْإِيجَاب على التَّحْقِيق إِذا [قَارن] حُدُوث الْفِعْل، وَإِذا تقدم عَلَيْهِ فَهُوَ أَمر إنذار وإعلام بِحَقِيقَة الْوُجُوب عِنْد الْوُقُوع، وَهَذَا بَاطِل، وَالَّذِي نختاره تحقق الْوُجُوب قبل الْحُدُوث [و] فِي حَال الْحُدُوث، وَإِنَّمَا [يفْتَرق] الحالتان فِيمَا قدمْنَاهُ من التَّرْغِيب والاقتضاء وَالدّلَالَة، فَإِن ذَلِك يتَحَقَّق قبل الْفِعْل وَلَا يتَحَقَّق مَعَه.
[468] وَزَعَمت الْقَدَرِيَّة بأسرها أَن [الْفِعْل] فِي حَال حُدُوثه يَسْتَحِيل أَن يكون مَأْمُورا بِهِ وَلَا يتَعَلَّق بِهِ الْأَمر إِلَّا قبل وجوده ثمَّ طردوا مَذْهَبهم فِي جملَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَلم يصفوا كَائِنا بحظر وَلَا وجوب وَلَا ندب، وَإِنَّمَا أثبتوا هَذِه الْأَحْكَام قبل تحقق الْحُدُوث ثمَّ افْتَرَقُوا فِيمَا

(1/444)


بَين أظهرهم، فَقَالَ بَعضهم: لَا يَصح تقدم الْأَمر على الْمَأْمُور بِهِ بِأَكْثَرَ من وَقت وَاحِد، وَصَارَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم إِلَى جَوَاز تقدمه عَلَيْهِ بأوقات، ثمَّ الَّذين صَارُوا إِلَى هَذَا الْمَذْهَب اخْتلفُوا فِي أَنه هَل يشْتَرط بَقَاء الْمُكَلف فِي الْأَوْقَات الْمُتَقَدّمَة على حُدُوث الْمَأْمُور بِهِ على أَوْصَاف التَّكْلِيف؟ فَمنهمْ من شَرط كَونه مستجمعا لشرائط التَّكْلِيف فِي كل الْأَوْقَات الْمُتَقَدّمَة، وَزعم بَعضهم: أَنا لَا نشترط ذَلِك وَإِنَّمَا نشترط اجْتِمَاع الْأَوْصَاف عِنْد حُدُوث الْفِعْل ونشترط فِي الْأَوْقَات الْمُتَقَدّمَة عَلَيْهِ كَون الْمُخَاطب مِمَّن يفهم الْخطاب. ثمَّ افْتَرَقُوا بعد ذَلِك فِي أصل آخر، وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: هَل يجوز أَن يتَقَدَّم الْأَمر على الْمَأْمُور بِهِ بأوقات من غير أَن يكون فِيهِ لطف ومصلحة زَائِدَة على التَّبْلِيغ من الْمبلغ وَالْقَبُول من الْمُخَاطب فَمنهمْ من شَرط أَن يكون فِي ذَلِك لطف يُعلمهُ الله وَمِنْهُم من لم يشْتَرط ذَلِك.
[469] وَالْكَلَام فِي الرَّد عَلَيْهِم فِي تفاصيل مَذْهَبهم يتَعَلَّق بالصلاح والأصلح، وَأَحْكَام اللطف وَهُوَ مِمَّا يستقصي فِي الديانَات إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَالَّذِي تخصصت هَذِه المسئلة بِهِ طَرِيقَانِ: أَحدهمَا: أَن نقُول هَل تسلمون لنا أَن الْحَادِث فِي حَال حُدُوثه مَقْدُور، أم لَا تسلمون ذَلِك؟ فَإِن سلمتم وَجب تَجْوِيز كَونه مَأْمُورا فَإِن مَا كَانَ مَقْدُورًا وتجمعت فِيهِ الْأَوْصَاف المضبوطة فِي

(1/445)


كَون الْمَأْمُور مَأْمُورا جَازَ أَن يكون مَأْمُورا بِهِ وَإِن منعُوا ذَلِك وَهُوَ أصلهم دللنا عَلَيْهِ بِمَا سَنذكرُهُ بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَهَذِهِ طَرِيقه إِلَيْنَا، وَإِن أَحْبَبْت أَفْرَاد المسئلة بِكَلَام من غَيرنَا، قلت: هَل تسلمون لنا أَن الصَّلَاة مَأْمُورا بهَا فَإِنَّمَا يتَحَقَّق اسْم الصَّلَاة إِذا وجدت فَإِن الْعَدَم لَا يُسمى صَلَاة، [56 / ب] وأعقبه بِمَا يحققه وَقَالَ: الْمَأْمُور لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون عدما / أَو وجودا فَهُوَ مَا نقُول، فَإِن كَانَ عدما كَانَ محالا، فَإِن الْعَدَم هُوَ الانتفاء والفقد، ويستحيل أَن يكون الانتفاء مَأْمُورا بِهِ.
فَإِن قيل: الْمَأْمُور بِهِ: أَن يفعل الْمُكَلف.
قُلْنَا: فقولكم أَن يفعل عبارَة عَن وجود أَو عدم، وَيعود عَلَيْكُم مَا قدمْنَاهُ من التَّفْصِيل وَهَذَا مِمَّا لَا محيص للخصم عَنهُ.
[470] وَمِمَّا يعول عَلَيْهِ وَهُوَ يداني مَا قدمْنَاهُ أَن نقُول إِذا تحقق الْحُدُوث فالحادث الْوَاقِع على مُقْتَضى الْأَمر لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون طَاعَة وَإِمَّا أَن يكون لَا يَتَّصِف بذلك، وَإِن اتّصف بِكَوْنِهِ طَاعَة فيستحيل أَن يكون

(1/446)


طَاعَة وَهُوَ غير مَأْمُور بِهِ وَإِن لم يصفوه بِكَوْن طَاعَة فِي وجوده فَلَا يَتَّصِف الْعَدَم بِكَوْنِهِ طَاعَة، وَلَيْسَ بَين الْوُجُود والعدم رُتْبَة، وَلم يسموا الْوُجُود بِالطَّاعَةِ، واستحال تَسْمِيَة الْعَدَم بهَا فَيلْزم من ذَلِك عدم تصور الطَّاعَة.
[471] وَاعْلَم ان كل شُبْهَة للْقَوْم فِي تقدم الِاسْتِطَاعَة على الْفِعْل تطرد فِي هَذِه المسئلة مَعَ الْجَواب عَنْهَا، ولعلها ستأتي فِي بَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمَا يخصصون هَذِه المسئلة بِهِ من كَلَامهم أَن قَالُوا فَائِدَة الْأَمر اقْتِضَاء الْفِعْل والحث عَلَيْهِ فَإِذا وجد الْفِعْل فَلَا فَائِدَة فِي الْحَث عَلَيْهِ وَقد تحقق وجوده.
قُلْنَا: مَا قدمْنَاهُ فِي شرح مَذْهَبنَا فِي صدر الْبَاب انْفِصَال عَمَّا أوردتموه، فَإِن الْأَمر يُفِيد التَّرْغِيب تَارَة، ويفيد اللُّزُوم، وَكَون الْمَأْمُور طَاعَة أُخْرَى فالترغيب لَا يتَحَقَّق إِلَّا مُتَقَدما كَمَا قُلْتُمْ واقتضاء الْوُجُوب وسمة الطَّاعَة لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي الْوُجُود.

(1/447)


(97) فصل

[472] اعْلَم أَن الْأَمر يتَقَدَّم على وجود الْمَأْمُور بِهِ بِمَا لَا نِهَايَة لَهُ فَإِنَّهُ وَاجِب الْقدَم، وَأما الْأَمر الصَّادِر منا فَهُوَ مِمَّا يَسْتَحِيل بَقَاؤُهُ فَإِذا تقدم أمرنَا على الْمَأْمُور بِهِ ثمَّ يعقبه الْمَأْمُور بِهِ فِي الْحَالة الثَّانِيَة، فَالْأَمْر الأول لَا يبْقى إِلَى الْحَالة الثَّانِيَة، فَإِن تحقق أَمر مُقَارن لَهُ فَهُوَ أَمر آخر متماثل للْأولِ، وَلَا يتَصَوَّر إِعَادَة الْأَمر الأول فِي الْحَالة الثَّانِيَة، فَإِنَّهَا حَالَة عَدمه، وَإِنَّمَا يتَصَوَّر الْإِعَادَة عِنْد تَقْدِير ثَلَاثَة أَحْوَال يُوجد الشَّيْء فِي الْحَالة الأولى، ويعدم فِي الْحَالة الثَّانِيَة، ويعاد فِي الثَّالِثَة، وَإِن تقدم أمرنَا بِالْفِعْلِ وَعدم، ثمَّ تحقق الْمَأْمُور بِهِ وَلم يقارنه أَمر آخر مُجَدد فَالْأَمْر الَّذِي سبق هَل يُقَال إِنَّه كَانَ أمرا فِي وجوده وَهُوَ مُتَعَلق بالمأمور فِي حُدُوثه؟ هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا فَذهب بَعضهم إِلَى أَن ذَلِك الْأَمر بِعَيْنِه وَإِن عدم مُتَعَلق لهَذَا بالمأمور بِهِ إِذا حدث، وَهَذَا الْقَائِل يَقُول: إِذا جَازَ تعلق الْأَمر بالمعدوم جَازَ تعلق الْأَمر بِهِ وَمَا عدم بالحادث.
وَهَذَا بَاطِل لَا تَحْقِيق وَرَاءه فيستحيل كَون الْفِعْل مَأْمُورا بِهِ مَعَ انْتِفَاء الْأَمر، وَالْأَمر مَعْدُوم فِي الْحَالة الثَّانِيَة فَإِن أردنَا أَن [نتصور] كَون الْفِعْل مَأْمُورا على التَّحْقِيق فِي حَال حُدُوثه فلابد أَن يتَصَوَّر أَمر مُقَارن لَهُ وَلَيْسَ [57 / أ] ذَلِك كالأمر الْمُتَعَلّق بالمعدوم، فَإِنَّهُ أَمر على / شَرط الْوُجُود ويستحيل أَن يُقَال: إِن الْأَمر الَّذِي عدم أَمر بعد عَدمه على شَرط وجوده، فتفهم ذَلِك، وافصل بَين الْبَابَيْنِ، وسنشبع القَوْل فِي أَمر الْمَعْدُوم إِن شَاءَ الله.

(1/448)


(98) فصل

[473] إِذا ورد الْأَمر واتصل بالمكلف فيستحيل صُدُور الِامْتِثَال مِنْهُ مَعَ الْأَمر من غير ترقب وفَاقا ثمَّ إِذا اتَّصل بِهِ الْأَمر فَلَا يتَعَذَّر مِنْهُ أَن يعقبه اتِّصَال الْأَمر بالامتثال فَلَا بُد إِذا من ثَلَاثَة أَحْوَال، وَاحِدَة يَقع فِيهَا اتِّصَال الْأَمر، وَوَاحِدَة يقْصد الْمَأْمُور فِيهَا إنْشَاء الِامْتِثَال، والإيقاع، وَيفهم فِيهَا قَضِيَّة الْأَمر وَمن فكر عرف أَن الْأَمر على هَذَا الْوَجْه، ثمَّ نقُول لَهُم: أَلَيْسَ الْأَمر عنْدكُمْ هَذِه الْأَصْوَات الْمَخْصُوصَة بِالصِّفَاتِ الَّتِي تذكرونها؟ والأصوات الَّتِي تكون أمرا لَا يَقع إِلَّا فِي الْحَالين فَصَاعِدا فَمَا من لَفْظَة وضعت لِلْأَمْرِ على زعمكم إِلَّا وَهِي تنطوي على حُرُوف وأقلها حرفان.
فَهَذَا لَو كَانَ الْأَمر مُوَاجهَة، فَأَما إِذا كَانَ أَمر الله فآل أَن يتلقفه الرُّسُل ويفهمه ثمَّ يبلغهُ، وَيفهم مِنْهُ بمرحلة من الْأَوْقَات، فَبَطل الْمصير إِلَى أَن الْأَمر يتَقَدَّم على المأمورعلى وَقت وَاحِد.
وَأما تفاصيلهم فِي التَّقْدِيم بالأوقات فيليق بمحض الْكَلَام فِي الصّلاح والأصلح فَلَا وَجه للخصوم فِيهِ.

(1/449)


(99) القَوْل فِي أَن الْمَعْدُوم مَأْمُور

[474] اعْلَم - وفقك الله - أَن أَرْبَاب الْأُصُول اخْتلفُوا فِي صَار فَمَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق وَمن تَابعهمْ من الْفُقَهَاء أَن أَمر الْمَعْدُوم على شَرط الْوُجُود واستجماع شَرَائِط التَّكْلِيف جَائِز غير مُسْتَحِيل.
[475] ثمَّ الَّذِي سلكوا هَذِه الطَّرِيقَة افْتَرَقُوا فَذهب بعض الْفُقَهَاء إِلَى أَن الْأَمر قبل وجود الْمَأْمُور أَمر إنذار وإعلام وَلَيْسَ بِأَمْر إِيجَاب على التَّحْقِيق.

(1/450)


وَذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنه أَمر إِيجَاب على شَرَائِط الْوُجُود، وَإِبْطَال قَول من قَالَ إِنَّه إِعْلَام، وَقَالُوا: مَا تحاشيتموه من الْإِيجَاب يلزمكم مثله فِي الْإِعْلَام فَإِنَّهُ كَمَا يستبعد إِلْزَام الْمَعْدُوم شَيْئا فَكَذَلِك يستبعد إِعْلَامه، وَذهب بعض إِلَى منع أَمر الْمَعْدُوم.
[476] وعَلى قَضِيَّة هَذَا الِاخْتِلَاف اخْتلف الصائرون إِلَى قدم كَلَام الرب تَعَالَى وَأَن كَلَامه - عزت قدرته - هَل يَتَّصِف فِي أزله بِكَوْنِهِ أمرا نهيا. أم يتَوَقَّف ثُبُوت هَذَا الْوَصْف على وجود الْمُكَلّفين، وتوفر شَرَائِط التَّكْلِيف عَلَيْهِم؟ فَمن جوز أَمر الْمَعْدُوم صَار إِلَى أَن كَلَام الرب تَعَالَى لم يزل أمرا، وَمن أنكر ذَلِك جعل كَونه أمرا من الصِّفَات الآئلة إِلَى الْفِعْل، وَهَذَا كَمَا أَن الرب لم يَتَّصِف فِي أزله بِكَوْن خَالِقًا، فَلَمَّا خلق وصف بِكَوْنِهِ ((خَالِقًا)) .
وَالَّذِي نرتضيه جَوَاز أَمر الْمَعْدُوم على التَّحْقِيق بِشَرْط الْوُجُود

(1/451)


وَأنْكرت الْمُعْتَزلَة قاطبة ذَلِك.
[477] وَمن أوضح مَا نستدل بِهِ أَن نقُول: اتّفق الْمُسلمُونَ على أَنا فِي عصرنا مأمورون بِأَمْر الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَقد اسْتَأْثر الله تَعَالَى بِهِ وَلم نعاصره، وَلم يتَعَلَّق بِنَا خطابه وجاها وَكَذَلِكَ نقُول: أَمر الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَادث [57 / ب] عنْدكُمْ معاشر الْقَدَرِيَّة، ثمَّ نَحن مأمورون بِالْأَمر المتوجه / على أهل عصر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَإِن كَانَ من وصف الْأَمر عنْدكُمْ أَنه لَا يبْقى زمانين فَإِنَّهُ من قبيل الْكَلَام، وَالْكَلَام منصرف إِلَى الْأَصْوَات وَهِي مِمَّا لَا تبقى عِنْدهم وفَاقا، فَإِن قَالُوا: تبقى مُعظم الْأَعْرَاض؟

(1/452)


[478] فَإِن قيل: أَمر الرب يَتَجَدَّد علينا فِي عصرنا؟
قيل لَهُم: إِذا انْقَضى زمَان الْوَحْي واستأثر الله نَبِي الْأمة فقد أجمع الْمُسلمُونَ قاطبة على اسْتِحَالَة ثُبُوت أَمر مُجَدد من الله تَعَالَى من غير تَبْلِيغ مبلغ ورسالة مُرْسل، فَمن أَيْن قُلْتُمْ أَن الْأَمر يَتَجَدَّد، وَلَو تجدّد فَمن أَيْن نعلم ذَلِك؟ فَإِن قَالُوا: تتجدد أوَامِر الله تَعَالَى مَعَ قِرَاءَة الْقُرَّاء، فِي خبط طَوِيل لَهُم فِي خلق الْكَلَام، وَلَا وَجه للخصوم فِيهِ، وَلَكِن نقُول لَو صمت الْقُرَّاء عَن أَمرهم وشغر الزَّمَان عَن قِرَاءَة قَارِئ أفتنقطع الْأَوَامِر عَنَّا؟
فَإِن قَالُوا بانقطاعها، امتثلوا عَن الدّين، فَإِن بَقَاء الشَّرَائِع لَا تتَوَقَّف على قِرَاءَة الْقُرَّاء.
[479] وَالَّذِي نختاره لَك فرض الْكَلَام فِي أَمر الله فَإنَّا قدمنَا فِي الْبَاب السالف أَن الْأَمر بعد مَا عدم مُسْتَحِيل تعلقه بمأمور فَإِذا فرضت الْكَلَام فِي أَمر الله فَهُوَ مِمَّا لَا يعْدم عنْدك.
[480] وَمِمَّا نستدل بِهِ أَن نقُول يَصح منا تَوْجِيه الْأَمر على الحاجز بِشَرْط أَن يقدر وَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ فَافْهَم، وَإِن أَنْكَرُوا تَقْيِيد أَمر الله بِمَا يكون فِي الْمَآل لم ينكروا ذَلِك فِي أوامرنا عجز الْمَأْمُور يُنَافِي الِامْتِثَال كَمَا أَن عَدمه يُنَافِيهِ، ثمَّ لم يستبعد تعلق الْأَمر بِهِ على شَرط الاقتدار فَكَذَلِك تَقول فِي الْمَعْدُوم.
[481] فَإِن فصلوا بَينهمَا بِأَن الْعَاجِز عقل الْأَمر وفهمه فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك

(1/453)


فِي الْمَعْدُوم.
قيل: فَمَا ينفعكم ذَلِك وَمُجَرَّد عقله لَا يُوجب توجه الِامْتِثَال عَلَيْهِ فِي على التَّضْيِيق، فَإِذا امْتنع الِامْتِثَال فوجود الْعقل وَعَدَمه بِمَثَابَة وَاحِدَة فكأننا نغير عدم تصور الِامْتِثَال بتحقق الْعَدَم، لعدم تصور لتحَقّق الْعَجز.
[482] وَمن أول مَا نستدل بِهِ أَن نقُول الْأَمر بالمعدوم جَائِز على تَقْدِير الإيجاد، وَكَذَلِكَ أَمر الْمَعْدُوم على تَقْدِير الْوُجُود.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنا لَو قَدرنَا الْمَأْمُور بِهِ منتفيا لَا يتَصَوَّر وجوده لم يَصح الْأَمر بِهِ، وَإِنَّمَا يَصح الْأَمر بِمَا يقدر وجوده فَكَذَلِك الْمَأْمُور.
[483] فَإِن قيل: الْفَاصِل بَينهمَا أَن الْمَأْمُور بِهِ لَا يجوز أَن يكون مَوْجُودا بِخِلَاف الْمَأْمُور.
قيل لَهُم: قد سبق الْكَلَام عَلَيْكُم فِي ذَلِك، وَبينا أَن الْحَادِث فِي حَال حُدُوثه مَأْمُور بِهِ على التَّحْقِيق فَلَا ينفعكم استرواحكم إِلَى أصلكم ثمَّ كل مَا تستعبدوه من مصدرنا إِلَى كَون الْمَعْدُوم مَأْمُورا منعكس عَلَيْكُم فِي الْمَأْمُور بِهِ.
[484] وَتمسك بعض الْأَصْحَاب فِي المسئلة بِالْوَصِيَّةِ، وَالْوَقْف

(1/454)


فَإِنَّهُمَا يتناولان من سيوجد إِذا وجد، وَلَا نرى لَك التَّمَسُّك بذلك فَإِن من ضَرُورَة الِاعْتِصَام بِهِ فرض الْكَلَام فِي أَمر سبق وَتقدم، ثمَّ يُوجد من يُوجد، وَقد قدمنَا لَك أَن الْأَمر بعد مَا عدم يَسْتَحِيل تعلقه بالمأمور. وللخصوم أَن يَقُولُوا إِنَّمَا ثَبت الْوَصِيَّة وَالْوَقْف بِأَمْر الله تَعَالَى، وَكَانَ سبق أَمر الْمُوصي / [58 / أ] والواقف أَنه فِي تجدّد أَمر الله على اعتوار الْبُطُون، فَالْأولى الاجتزاء، بِمَا قدمْنَاهُ من فرض الْكَلَام فِي أَمر الله، وَمن الِاعْتِصَام بالمأمور بِهِ.
[485] شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا من تكلم بِالْأَمر، وَلَا مَأْمُور وَلَا مُخَاطب وَلَا مستمع إِلَى كَلَامه عد هاذيا، سَفِيها خَارِجا من قَضِيَّة الْحِكْمَة.
وَهَذِه شُبْهَة الْقَوْم فِي نفي قدم الْكَلَام واستقصاء الْجَواب عَنْهَا فِي الديانَات غير أَنا نقُول: مَا ذكرتموه من الْقبْح وَالْحسن والهذيان والسفه والانتظام والاتساق كلهَا من نعوت المحدثات، وَالْقَدِيم يتقدس عَنهُ، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن من تتبع الْعلم بالمنكرات وتكلف اكْتِسَاب الْمعرفَة بالقاذورات وَأحب أَن يُحِيط علما بقطر الْبحار وأوراق الْأَشْجَار عد سَفِيها، وعد ذَلِك قبيحا مِنْهُ، والرب تَعَالَى يعلم ذَلِك كُله إِمَّا بِعلم قديم عندنَا أَو لنَفسِهِ عنْدكُمْ، وَلَا ينتسب إِلَى السَّفه فَإِن هَذَا الْوَصْف ثَبت قَدِيما لَازِما، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الْحسن والقبح فِيمَا يُوقع على وَجه، يقدر وُقُوعه على وَجه آخر، ويستقصي الْكَلَام فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الديانَات.

(1/455)


[486] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: أَجمعت الْأمة على أَن الْمَجْنُون غير مُخَاطب، وَلَا مَأْمُور. وَبِه نطقت سنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَهُوَ أولى بتوجه الْأَمر إِلَيْهِ من الْمَعْدُوم فَإِذا امْتنع ذَلِك فِي الَّذِي لَا يعقل فَلِأَن يمْتَنع فِي الْمَعْدُوم أولى.
قيل لَهُم: هَذَا تلبيس مِنْكُم فَإنَّا على الْوَجْه الَّذِي لَا نجوز تَوْجِيه الْأَمر على الْمَجْنُون لَا نجوز توجه الْأَمر للمعدوم إِذا تحقق تَوْجِيه الْأَمر عَلَيْهِ وَلَكنَّا نقُول: الْمَعْدُوم مَأْمُور على شَرط الْوُجُود فَكَذَلِك الْمَجْنُون مَأْمُور على الْعقل.
[487] فَإِن قَالُوا: الْمَعْدُوم هُوَ المنتفي فقولكم إِنَّه مَأْمُور يؤول عِنْد التَّحْصِيل إِلَى أَن الْمَأْمُور مُنْتَفٍ، قَالُوا: وَهَذَا أوضح على أصلكم فَإِن الْمَعْدُوم لَيْسَ بِشَيْء عنْدكُمْ فكأنكم قُلْتُمْ الْمَأْمُور لَيْسَ بِشَيْء وَلَا فرق بَين ذَوي التَّحْقِيق بَين قَول الْقَائِل: لَا مَأْمُور أصلا، وَبَين قَوْله: لَا شَيْء أصلا هُوَ مَأْمُور، ويعد ذَلِك من متناقض الْكَلَام.
قيل لَهُم: كل مَا ذكرتموه ينعكس عَلَيْكُم فِي الْمَأْمُور بِهِ فَإنَّا نقُول لَيْسَ الْمَقْصُود من الْأَمر التَّسَبُّب إِلَى انْتِفَاء الشَّيْء فَإِنَّمَا الْمَقْصد مِنْهُ التَّرْغِيب والحث وَالدُّعَاء إِلَى الِامْتِثَال، ويستحيل الدُّعَاء إِلَى الانتفاء وَالْمَوْجُود عنْدكُمْ لَيْسَ بمأمور فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا.
[488] ثمَّ نقُول لَا خلاف أَن الْمَعْدُوم مَقْدُور وَلَيْسَ المُرَاد بِكَوْنِهِ

(1/456)


مَقْدُورًا أَن عَدمه بِالْقُدْرَةِ، وَلَكِن المعني بِهِ أَن الْقُدْرَة تُؤثر فِي قلب الْعَدَم وجودا وَكَانَت قدرَة عَلَيْهِ قبل الْوُجُود وَإِذا وجد بِالْقُدْرَةِ لم تَتَغَيَّر الْقُدْرَة فَكَذَلِك الْأَمر أَمر بالمعدوم على شَرط الْوُجُود وَالشّرط فِي الْمَأْمُور فَإِذا وجد إِلَى الله بعد الْحُدُوث دون الْأَمر وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.
(100) فصل

[489] ذهب بعض من لَا تَحْقِيق لَهُ إِلَى أَن الْأَمر إِنَّمَا يتَعَلَّق بالمعدوم بِشَرْط أَن يتَعَلَّق بموجود وَاحِد فَصَاعِدا ثمَّ يتبعهُ المعدومون / على [58 / ب] شَرط الْوُجُود وَهَذَا سَاقِط، وَذَلِكَ أَن وجود الْمُخَاطب الْمَوْجُود يَسْتَحِيل أَن يُؤثر فِي عدم الْمَعْدُوم، ووجوده الْمُخْتَص بِهِ فِي حق من سيوجد وَلم يُوجد بعد وَعَدَمه بِمَثَابَة وَاحِدَة، وَلَو جَازَ الْمصير إِلَى ذَلِك جَازَ أَن يُقَال: إِذا تعلق الْخطاب بموجود تجمعت لَهُ شَرَائِط التَّكْلِيف، وكل من يسْتَوْجب الثَّوَاب وَالْعِقَاب والمعدومون يتبعونه فِي اسْتِحْقَاق الثَّوَاب مَعَ الْعَدَم قبل تَقْدِير الْوُجُود وَهَذَا محَال.

(1/457)


[490] فَإِن قيل: يَسْتَحِيل اسْتِحْقَاق الثَّوَاب وَالْعِقَاب مَعَ الْعَدَم.
قُلْنَا: فَهَلا تبع الْمَوْجُود الْمُخَاطب كل مَعْدُوم.
فَإِن قَالُوا: لِأَن وجوده لَا يثبت لَهُم حكما وَهَذَا القَوْل يلزمكم فِي أصل المسئلة.

(1/458)