التلخيص في أصول الفقه بَاب
يشْتَمل على أصُول مُتَفَرِّقَة
شذت عَنَّا فِي أَحْكَام الْأَوَامِر
(101) فصل
[491] فَإِن قيل: إِذا أوجب الله تَعَالَى على رَسُوله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] فعلا لَا يَتَأَتَّى ذَلِك إِلَّا
بِغَيْرِهِ فَهَل يكون ذَلِك إِيجَابا مِنْهُ على الْغَيْر،
نَحْو أَن يُوجب على نبيه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَخذ
الزَّكَاة فَهَل تضمن هَذَا الْأَمر إِيجَاب إِعْطَاء
الزَّكَاة على أَرْبَاب الْأَمْوَال؟ .
قيل: قد ثَبت بِاتِّفَاق الْأمة وإجماعهم أَن كل أَمر اتَّصل
بالرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على وَجه الْإِيجَاب فِي
فعل مُتَعَلق بِالْغَيْر فَيجب على الْغَيْر [الابتدار] لتحقيق
الِامْتِثَال فِيهِ، فَإِذا وَجب على الرَّسُول [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] أَخذ الزَّكَاة لوَجَبَ على أَرْبَاب
الْأَمْوَال بذل الزَّكَاة.
[492] فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه من مُوجب الْأَمر؟
قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِك من مُوجب الْأَمر فَإنَّا لَو رددنا
إِلَى مُجَرّد مُقْتَضى الْأَمر
(1/459)
لم يكن فِي إِيجَاب الْأَخْذ على الرَّسُول
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِيجَاب الْإِعْطَاء على أَرْبَاب
الْأَمْوَال.
[493] وَقد ذهب شرذمة من الْفُقَهَاء إِلَى أَنا بِمُقْتَضى
الْأَمر نَعْرِف وجوب الْإِعْطَاء على أَرْبَاب الْأَمْوَال
وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام فَإِن الْأَمر بِالْأَخْذِ يجوز
تَقْدِير ثُبُوته مَعَ نهي الْمُعْطِي عَن الْإِعْطَاء، وَلَا
يلْزم من ذَلِك تنَافِي وتناقض، وَلذَلِك أَمْثِلَة فِي
الشَّرِيعَة، مِنْهَا: أَن الزَّوْج إِذا بدر مِنْهُ مَا
يعْتَقد أَنه لَا يبت النِّكَاح فَلهُ الْإِقْدَام على الوطئ،
وَإِذا كَانَت الْمَرْأَة تعتقد ابتتات النِّكَاح فلهَا
الْمَنْع، وَالشُّهُود إِذا تحملوا الشَّهَادَة فَعَلَيْهِم
أَدَاؤُهَا، فَإِذا اعْتقد القَاضِي رد شَهَادَتهم فَعَلَيهِ
مُخَالفَة شَهَادَتهم، وَإِذا اعْتقد أَبُو الطِّفْل ثُبُوت حق
لطفله فِي مَال طِفْل آخر فَعَلَيهِ الطّلب، وعَلى أبي
الطِّفْل الآخر الْمَنْع، وَلَيْسَ ذَلِك من المتناقضات.
[494] فَإِن قيل: فَبِمَ عَرَفْتُمْ وجوب امْتِثَال الْأَمر
فِي الصُّورَة الَّتِي قدمتموها؟ .
قيل: لِأَنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا أَمر
بِالْأَخْذِ على الْإِيجَاب فيطلب بِمَا أَمر بِأَخْذِهِ
فَأمره متحتم وَقد أَجمعت الْأمة على وجوب الْإِعْطَاء عِنْد
وجوب الْأَخْذ عَلَيْهِ [59 / أ] السَّلَام فتبينا بذلك
الْإِجْمَاع وَغَيره، وَلم نتبينه بِنَفس / الْأَمر المتوجه
بِالْأَخْذِ عَلَيْهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
(1/460)
(102) فصل
[495] فَإِن قيل: نرى الْفُقَهَاء يفصلون القَوْل فِي
الْفُرُوض ويزعمون أَن مِنْهَا مَا هُوَ من فروض الْأَعْيَان،
وَمِنْهَا: مَا هُوَ من فروض الكفايات فالتوجه على الْأَعْيَان
كدفن الْمَوْتَى وتجهيزهم وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ،
وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَغَيرهمَا فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟ .
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: كلما نعت بِالْفَرْضِ من
هَذَا الْقَبِيل فَيجب على عين كل وَاحِد وَمن صَار إِلَى أَن
هَذَا الْقَبِيل من الْفَرَائِض لَا يتَعَلَّق بالأعيان فقد
تَأَول وَتوسع فِي اللَّفْظ فَإِنَّهُ لَا معنى لكَون الشَّيْء
مفترضا على
(1/461)
عين إِلَّا أَن يُخَاطب بِهِ على سَبِيل
الْإِيجَاب، وَهَذَا الْمَعْنى مُتَحَقق فِيمَا سموهُ فروض
الكفايات وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَو تعطل فرض مِنْهُ حرج
(1/462)
المخاطبون.
[496] فَإِن قيل: فَإِذا قَامَ بِهِ جمَاعَة فلماذا سقط
الْفَرْض؟ .
قُلْنَا: لَا معترض على الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا
يلْزم وَيسْقط، فَإِذا قَامَ طَائِفَة بِالْفَرْضِ سقط
الْفَرْض عَن البَاقِينَ وَكَانَ قبل قيام من قَامَ بِهِ
مُتَعَيّنا على أعيانهم وَكم من فرض سلم الْفُقَهَاء كَونه
مُتَعَلقا بِالْعينِ فَيحدث سَبَب يتَضَمَّن سُقُوطه ونظائر
ذَلِك لَا تَنْحَصِر فِي الشَّرِيعَة.
(103) فصل
[497] فَإِن قيل: الْأَمر الْمُطلق هَل يتَعَلَّق بالمكروه؟ .
[قيل: مَا ثَبت بعد وُرُود الْأَمر كَونه مَكْرُوها فَلَا
يتَعَلَّق الْأَمر الْمُطلق بِهِ.
(1/463)
وَزعم بعض المنتمين إِلَى أبي حنيفَة أَن
الْأَمر يتَعَلَّق بالمكروه.
فأفرض الْكَلَام عَلَيْهِم فِي صُورَة مَخْصُوصَة، فَقَالَ:
إِذا ورد الْأَمر بِالطّوافِ مُطلقًا، وَطواف الْمُحدث مَعَ
وُرُود الْأَمر مُطلقًا مَنْهِيّ عَنهُ وَهُوَ محرم عِنْدهم،
أَو مَكْرُوه عِنْد بعض متعسفيهم ويزعمون أَن مُطلق الْأَمر
يتَنَاوَل طواف الْمُحدث وَنحن ننكر ذَلِك أَشد الْإِنْكَار،
وَوجه الْإِيضَاح فِيهِ أَن نقُول: الْأَمر يتَضَمَّن
الِاقْتِضَاء وَالدُّعَاء إِلَى الِامْتِثَال والحث عَلَيْهِ،
(1/464)
والكراهية تَقْتَضِي النَّهْي عَن
الْمَكْرُوه، وَكَيف يتَحَقَّق كَون مَا نهى عَنهُ مَأْمُورا
بِهِ.
[498] فَإِن قَالُوا: لَيْسَ الطّواف بمنهي عَنهُ، وَإِنَّمَا
النَّهْي عَن ترك الطَّهَارَة.
قيل لَهُم: وَإِنَّمَا نهى عَن ترك الطَّهَارَة لأجل الطّواف،
وَلَوْلَا الطّواف مَا نهى عَن ترك الطَّهَارَة فَهُوَ إِذا
مُتَعَلق بِالطّوافِ.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الطّواف للمحدث مَكْرُوه وفَاقا أَو
محرم عِنْد الْأَكْثَرين مِنْكُم. وَالَّذِي يكْشف الغطاء
ويحقق الْمَقْصد أَن نقُول صَلَاة الْمُحدث بَاطِلَة مَنْهِيّ
عَنْهَا وفَاقا فَهَلا قُلْتُمْ أَن النَّهْي إِنَّمَا
يتَعَلَّق بترك الطهار دون الصَّلَاة وَكَذَلِكَ السُّجُود لله
تَعَالَى عبَادَة وَالسُّجُود للأصنام والأوثان كفر محرم
فَهَلا قُلْتُمْ أَن نفس السُّجُود لَيْسَ بِمحرم، وَإِنَّمَا
الْمحرم قصد عبَادَة الصَّنَم بِهِ؟ وَهَذَا لَا محيص لَهُم
عَنهُ.
ثمَّ نقُول: قد بَينا فِيمَا تقدم من الْأَبْوَاب أَن إِيجَاب
الشَّيْء لَا يتَضَمَّن ثُبُوت جَوَازه فَكيف ينطوي على
مَكْرُوه. وَهَذَا بَين إِن شَاءَ الله عز وَجل.
(1/465)
[499] فَإِن قيل: أَلَيْسَ الصَّلَاة فِي
الأَرْض الْمَغْصُوبَة تندرج الْأَمر بِالصَّلَاةِ وَإِن
كَانَت مَكْرُوهَة؟ .
قُلْنَا: سنشبع القَوْل فِيهِ فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله
عز وَجل.
(104) فصل
[59 / ب] [500] فَإِن قيل: إِذا كَانَ السُّجُود لله مَأْمُورا
/ بِهِ، وَالسُّجُود لغيره مَنْهِيّ عَنهُ فَهَل تطلقون
القَوْل بِأَن الشَّيْء الْوَاحِد مَأْمُور بِهِ على وَجه،
مَنْهِيّ عَنهُ على وَجه؟ .
قيل: اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب الْجُمْهُور من
الْفُقَهَاء إِلَى جَوَاز ذَلِك
(1/466)
وبينوه بِالسُّجُود أَمر بإحداثه فَلَو
قَدرنَا النَّهْي عَنهُ لَكَانَ نهيا عَن إحداثه، وحدوث
السُّجُود لَا يخْتَلف بِأَن يكون الْمَقْصُود بِهِ عبَادَة
لله تَعَالَى أَو عبَادَة الصَّنَم فيستحيل أَن يكون الشَّيْء
مَأْمُورا بِهِ وَهُوَ بِعَيْنِه مَنْهِيّ عَنهُ، فيؤول
النَّهْي إِلَى قصد عبَادَة غير الله دون نفس السُّجُود،
وَهَذَا بَاطِل فَإِن الْأمة أَجمعت على أَن السُّجُود لغير
الله تَعَالَى محرم، وَلَو قَالَ قَائِل: السُّجُود مُبَاح
وَالْقَصْد محرم، كَانَ خرقا للْإِجْمَاع.
[501] فَإِن قيل: فَمَا الَّذِي ترتضونه من ذَلِك؟ .
قُلْنَا: السُّجُود الَّذِي يَقع مَأْمُورا بِهِ لَا يتَصَوَّر
أَن يكون مَنْهِيّا عَنهُ، فَإِن السُّجُود الْوَاقِع عبَادَة
لله لَا يتَصَوَّر أَن يَقع عبَادَة لغيره بعد مَا وَقع
عبَادَة لَهُ وَالسُّجُود الْمنْهِي عَنهُ لَا يكون مَأْمُورا
بِهِ، فَإِن الَّذِي وَقع على قصد عبَادَة الْغَيْر لَا يَقع
عبَادَة لله فهما إِذا غيران يتَعَلَّق الْأَمر بِأَحَدِهِمَا
وَالنَّهْي بِالثَّانِي وَهَذَا الْمَذْهَب مُطَابق لما
عَلَيْهِ الْأمة وموافق للتحقيق.
[502] فَإِن قيل: فالسجودان مثلان، وَمن حكم المثلين أَن لَا
يثبت لأَحَدهمَا وصف، إِلَّا وَيجوز ثُبُوته لمماثله.
قيل: الْأَحْكَام الآئلة إِلَى الْأَنْفس والذوات تَسَاوِي
فِيهَا المماثلات،
(1/467)
وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لَا ترجع على
أصُول أهل الْحق إِلَى الذوات والأنفس وَلكنهَا ترجع إِلَى نفس
الْأَمر على مَا عَقدنَا فِيهِ بَابا، فَنحْن نجوز تَحْرِيم
الشَّيْء وَإِيجَاب مثله وتحسين الشَّيْء وتقبيح مثله،
وَإِنَّمَا يصعب موقع السُّؤَال على الْمُعْتَزلَة لما صرفُوا
الْأَحْكَام إِلَى الذوات.
(105) فصل
[503] فَإِن قيل: نرى الْفُقَهَاء يطلقون فِيمَا يتفاوضون بِهِ
لفظ الآكد فِي السنتين فَيَقُولُونَ: هما مؤكدتان، وإحداهما
آكِد من الْأُخْرَى فَهَل تطلقون مثل ذَلِك فِي الواجبين
حَتَّى تَقولُوا أَحدهمَا أوجب من الآخر؟ .
قيل: هَذَا مِمَّا نطلقه وَلَا نتحاشى مِنْهُ.
[504] فَإِن قَالُوا: فَمَا معنى قَوْلكُم أَحدهمَا أوجب؟ .
قيل: الْوُجُوب رَاجع إِلَى وعد اللوم على التّرْك وَالثنَاء
على الِامْتِثَال فَكل مَا كَانَ اللوم الْمَوْعُود على تَركه
أَكثر كَانَ أوجب، فَنَقُول: على هَذِه الْقَضِيَّة:
الْإِيمَان بِاللَّه أوجب من الطَّهَارَة، وَالْمعْنَى بِهِ
أَن الْمَوْعُود على تَركه من اللوم والإقدام عَلَيْهِ من
الثَّوَاب وَحسن الثَّنَاء أَكثر وَهَذَا هُوَ المعني بِذكر
الآكد فِي السنتين، وَلَا يَسْتَقِيم ذَلِك على مَذَاهِب
الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم يصرفون الْوُجُوب إِلَى صفة الذَّات،
فَلَا يسْتَمر لَهُم مَا ذَكرْنَاهُ.
(1/468)
[505] فَإِن قيل: فَقولُوا على طرد ذَلِك
فِي الصدقين كَانَ أَحدهمَا أصدق من الثَّانِي وَفِي الْكَذِب
مثل ذَلِك.
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا يَقُولُونَ فَإِن كَون الْخَبَر
صدقا يرجع إِلَى ذَاته فَإِذا تعلق خبران بمخبران على مَا هما
عَلَيْهِ تَحْقِيقا فيستحيل أَن يكون أَحدهمَا أصدق من الآخر
وَأما الْوُجُوب فَلَا يرجع إِلَى ذَات الْوَاجِب، وَإِنَّمَا
يرجع إِلَى الْمَوْعُود عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا يتَفَاوَت.
[506] فَإِن قيل: أَلَيْسَ / يحسن فِي الْإِطْلَاق أَن يُقَال
فلَان أصدق من [60 / أ] فلَان؟ .
قُلْنَا: قد يُطلق ذَلِك وَلَكِن المُرَاد بِهِ أَن مَا يبدر
مِنْهُ من الصدْق أَكثر مِمَّا يبدر من صَاحبه وَقد يُطلق لفظ
الأصدق بَين اثْنَيْنِ، وَالْمرَاد بِهِ نعت أَحدهمَا
بِالصّدقِ ونعت الثَّانِي بِالْكَذِبِ، كَمَا يُقَال: النَّبِي
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أصدق من مُسَيْلمَة وَالْمَالِك
أَحَق من الظَّالِم إِلَى غير ذَلِك، فَأَما أَن تصور صدقان
صادرين من صَادِقين وَأَحَدهمَا أصدق فِي صلَاته من صَاحبه
فَلَا معنى لَهُ فَاعْلَم إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(1/469)
|