التلخيص في أصول الفقه (117) بَاب ينطوي على جمل يدعى الْعُمُوم
وَالْخُصُوص فِيهَا وَفِي بَعْضهَا اخْتِلَاف
[621] قد قدمنَا فِيمَا فرط أَن العمموم لَا يتَحَقَّق ادعاؤه
فِيمَا هُوَ من قبيل الْأَفْعَال وَإِنَّمَا يتَحَقَّق
الْعُمُوم فِي الْأَقْوَال، وأوضحنا فِي ذَلِك مَا فِيهِ غنية،
وحققنا أَن اسْم الْأَفْعَال إِذا كَانَ اسْم جنس فَهُوَ
الَّذِي يعم، فَأَما ذَوَات الْأَفْعَال فَلَا يتَحَقَّق
الْعُمُوم فِيهَا، وكما لَا يتَحَقَّق الْعُمُوم فِي افعال
الْمُكَلّفين فَكَذَلِك لَا يتَحَقَّق ادِّعَاء الْعُمُوم فِي
أَفعَال الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا سنوضح
القَوْل فِي مُوجب أَفعاله بعد ذَلِك.
وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن من اسْتدلَّ فِي أَن أول وَقت
الْعشَاء يدْخل بغيبوبة الشَّفق الْأَحْمَر بِمَا رُوِيَ أَنه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى الْعشَاء بعد مَا غَابَ
(2/48)
الشَّفق، وَاسم الشَّفق على الْأَحْمَر،
فَإِذا تحققت غيبوبة فقد تحقق الِاسْم، وَهَذَا لَا تَحْقِيق
لَهُ فَإِن مرجع الِاسْتِدْلَال إِلَى فعله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم واقامته الصَّلَاة، وَنحن نعلم أَنه أَقَامَ الصَّلَاة
بعد أحد الشفقين أَو بعدهمَا، فادعاء الْعُمُوم فِيمَا
يتَعَلَّق بالأفعال لَا معنى لَهُ، وَلَكِن لَو نقل عَنهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: إِذا غَابَ الشَّفق دخل أول
الْوَقْت، فَرُبمَا كَانَ يجوز التَّمَسُّك بِهِ.
[622] وَمِمَّا لَا يسوغ الْعُمُوم فِيهِ مَا قدمْنَاهُ فِي
صدر الْكتاب من أَلْفَاظ النَّفْي نَحْو قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: " لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي
الْمَسْجِد " وَقَوله: " لَا عمل إِلَّا بِالنِّيَّةِ " فقد
ذهب ذاهبون إِلَى أَن النَّفْي عَام فِي الْوُجُود وَالْحكم
فِي كَلَام طَوِيل قدمْنَاهُ وأبطلناه.
(2/49)
[623] وَمِمَّا يجب تَفْصِيل القَوْل فِيهِ
أقضية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحكومات
وأجوبته فِي الْمسَائِل، فَأَما الْأَقْضِيَة فَاعْلَم أَولا
أَن الْقَضَاء اسْم عَرَبِيّ متناول لجمل من المسميات فقد يرد
وَالْمرَاد بِهِ الْخلق والابتداع وَهُوَ الْمَعْنى بقوله
تَعَالَى: {فقضهن سبع سموات} ، فَمَعْنَاه فطرهن وبدأهن، وَقد
يرد الْقَضَاء وَالْمرَاد بِهِ الْإِعْلَام وَهُوَ المُرَاد
{إِذا قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر} مَعْنَاهُ أعلمناه وآذاناه،
وَقد يرد وَالْمرَاد بِهِ إِرَادَة الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى للمرادات، وَقد يحمل فِي بعض الْمَوَارِد على
صِفَات الْأَفْعَال، واستقصاء هَذِه الْوُجُوه فِي الديانَات.
[624] فَأَما الْقَضَاء فِي حق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فينقسم إِلَى قَول وَفعل فَتَارَة يُسمى أمره لأحد
الْخَصْمَيْنِ أَو نَهْيه قَضَاء، وَتارَة يُسمى الْفِعْل
البادر مِنْهُ [73 / ب] قَضَاء، فَإِذا عرفت وُجُوه
الْأَقْضِيَة فَاعْلَم أننا نتتبع / مواقعها.
فَإِن كَانَ الْقَضَاء فعلا لم يسغْ دَعْوَى الْعُمُوم.
وَإِن كَانَ لفظا مُخْتَصًّا فِي شخص بِعَيْنِه فِي خُصُوص
بِعَينهَا فَلَا يسوغ دَعْوَى الْعُمُوم
(2/50)
وَكَذَلِكَ إِن خصص أَقْوَامًا مُعينين،
إِلَّا أَن تقوم دلَالَة شَرِيعَة على أَن الكافة فِي ذَلِك
الحكم شرع سَوَاء.
وَإِن كَانَت لفظته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامَّة فِي وضع
اللُّغَة تمسكنا بعمومها.
[625] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ قضى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين وَقضى
للْجَار بِالشُّفْعَة فَهَل تعممون ذَلِك؟ قُلْنَا: هَذَا
مِمَّا لَا نعممه فَإِن الرواي اطلق اسْم الْقَضَاء وَهُوَ
يَنْقَسِم إِلَى فعل لَا يتَحَقَّق عُمُومه وَإِلَى قَول قد
يعم وَقد يخص وَلَو نقل النَّاقِل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم من لَفظه أَنه
(2/51)
قَالَ الشُّفْعَة للْجَار كَانَ ذَلِك
عَاما عِنْد الْقَائِلين بِالْعُمُومِ، وَإِذا نقل عَنهُ إِن
الْخراج بِالضَّمَانِ عَم من غير تَخْصِيص.
(2/52)
فَأَما اطلاق الرواي لفظ القضايا فَمَا لَا
نعممه بل نتوقف فِيهِ إِلَّا أَن ينْقل صفة الْقَضَاء. فَهَذَا
فِي أقضيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
[626] فَأَما أجوبته فتضاهي أقضيته فَمَا عَم من لَفظه فِي
جَوَاب الْمسَائِل عممناه وَمَا اخْتصَّ خصصناه إِلَى أَن تقوم
الدّلَالَة فِي التَّعْمِيم على التَّخْصِيص أَو فِي
التَّخْصِيص على التَّعْمِيم فيزال عَن ظَاهره حِينَئِذٍ، وَقد
قدمنَا ذَلِك فِي مَا سبق.
[627] ويليق بِهَذَا الْفَصْل مَسْأَلَة ستأتي إِن شَاءَ الله
وَهِي أَن اللَّفْظَة إِذا صدرت عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَامَّة فِي سَبَب خَاص أَو خَاصَّة فِي سَبَب
عَام فالاعتبار بِمَا ينبىء عَنهُ السَّبَب من الِاخْتِصَاص
أَو الشُّمُول، أم الِاعْتِبَار بِلَفْظ الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم؟
وَجُمْلَة مَا نرتضيه فِي ذَلِك إِلَى ان نستقصي فِي أدلته فِي
بَابه أَن نقُول: الْأَجْوِبَة الصادرة عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم منقسمة، فَمِنْهَا: مَا تستقل بأنفسها من
غير تَقْدِير تقدم الأسئلة، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: " المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء إِلَّا مَا
غير رِيحه أَو طعمه " فِي سُؤال السَّائِل عَن مَاء بِئْر
بضَاعَة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ
(2/53)
مُسْتَقل فتمسكنا بعامة صيغته وَلم نجْعَل
لاخْتِصَاص السُّؤَال أثرا فِي الْخطاب.
فَأَما إِذا كَانَ الْجَواب لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ لَو قدر
مُفردا عَن السُّؤَال فترتيب الْجَواب عَن قَضيته السُّؤَال
فِي مُوجبه وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فَهَل وجدْتُم
مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} ، فمجرد ذَلِك لَا يسْتَقلّ
فَحمل على السُّؤَال أَو عمم لعُمُوم السُّؤَال.
[628] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمن هَذَا الْقَبِيل
مَا لَو قَالَ الْقَائِل لرَسُول الله لَهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَا على المواقع فِي نَهَار رَمَضَان؟ فَقَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: عتق رَقَبَة فَهَذَا خَاص وَلَكِن لَيْسَ
يسْتَعْمل بِنَفسِهِ فِي تَبْيِين حكم الْكَفَّارَة فقدرناه
مَنُوطًا بالسؤال، وَالسُّؤَال عَام فَكَأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " من جَامع فِي نَهَار رَمَضَان فليعتق
رَقَبَة ".
(2/54)
[629] فَإِن قيل: فَقَوله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أعتق رَقَبَة مَفْهُوم فِي نَفسه، قيل: لَيْسَ
يسْتَقلّ بِذَاتِهِ فِي حكم / الْكَفَّارَة وَإِنَّمَا
الْمَسْئُول عَنهُ حكم الْكَفَّارَة، وَلَيْسَ فِي [74 / أ]
كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعريضا لَهَا، فَهَذَا إِذا
تَعْمِيم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جِهَة الْمَعْنى
دون اللَّفْظ، فَإِن نفس لَفظه لَيْسَ ينبىء عَن تَعْمِيم.
(118) فصل
[630] اعْلَم أَن كل مَا قدمْنَاهُ من تتبع الْخُصُوص والعموم
فِي الْأَقْضِيَة والأجوبة فِيمَا إِذا نقل إِلَيْنَا لفظ
مُطلق، فَأَما إِذا اقْترن بشيئي مِنْهَا من قَرَائِن
الْأَحْوَال مَا يضْطَر عِنْدهَا الْمشَاهد وَالسَّامِع إِلَى
معرفَة عُمُوم أَو خُصُوص، فَنقل مَا اضْطر إِلَيْهِ فَيقبل
نَقله إِذا كَانَ موثوقا بِهِ، فَأَما إِذا نقل اللَّفْظَة
بِعَينهَا وَلم يتَعَرَّض للقرائن فيتمسك بقضيتها فِي اصل
وَضعهَا، وَقد ينْقل النَّاقِل لَفظه فَيعلم بقرائن أَحْوَاله
أَنه يروم بِالنَّقْلِ تعميمه أَو تَخْصِيصه، فقرائن أَحْوَال
النَّاقِل فِيمَا ثَبت عِنْده لقرائن أَحْوَال الْمَنْقُول
عَنهُ فِي الأَصْل.
(119) مَسْأَلَة
[631] من الْقَائِلين بِالْعُمُومِ من يَدعِي الْإِجْمَال فِي
بعض الْأَلْفَاظ، ويتمسك فِي ادعائه بِمَا لَا تَحْقِيق
وَرَاءه، وَقد يغلب مثله على أَلْسِنَة الْفُقَهَاء، وَنحن
ننبهك للتحقيق فِيهِ.
وَاعْلَم أَن من الْقَائِلين بِالْعُمُومِ مَعَ الْمصير إِلَى
أَن تَخْصِيص الْعُمُوم لَا يمْنَع الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي
بقيات المسميات من يصير إِلَى ادِّعَاء الْإِجْمَال فِي
(2/55)
مَوَاضِع مِنْهَا قَوْله تَعَالَى:
{وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} قَالُوا: لما
وجدنَا السَّارِق لما دون النّصاب لَا يقطع، وَكَذَلِكَ
الَّذِي سرق من غير حرز وجري 0 إِلَى غير ذَلِك من الْأَوْصَاف
الْمَشْرُوطَة فِي ثُبُوت الْقطع، فقد تبين أَن الْقطع لَا
يتَعَلَّق بِمُجَرَّد اسْم السَّارِق حَتَّى يَنْضَم إِلَيْهِ
جمل من الْأَوْصَاف كالبلوغ، وَالْعقل، وسرقة النّصاب
الْكَامِل من حرز مثله، مَعَ انْتِفَاء الشُّبُهَات، فَيخرج من
ذَلِك أَن إِطْلَاق اسْم السَّارِق لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ.
فَيُقَال لهَؤُلَاء: إِن كُنْتُم من الصائرين إِلَى أَن
الْعُمُوم إِذا خصص لَا يسوغ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي بَقِيَّة
المسميات فقد أَقَمْنَا الْحجَّة عَلَيْكُم، وَإِن أَنْتُم
سلمتم لنا جَوَاز الِاعْتِصَام باللفظة الَّتِي دَخلهَا
التَّخْصِيص فَالَّذِي مثلتم بِهِ من هَذَا الْقَبِيل وَذَلِكَ
أَن اللَّفْظ بِظَاهِرِهِ يدل على ثُبُوت الْقطع فِي حق من
يَتَّصِف بِكَوْنِهِ سَارِقا سَوَاء كَانَ صَغِيرا أَو بَالغا،
وَسَوَاء بلغت سَرقته نِصَابا أَو انحطت عَنهُ فَقَامَتْ
الْأَدِلَّة فِي بعض السارقين وَبَقِي بعض المسميات على
(2/56)
قَضِيَّة الظَّاهِرَة.
[632] وَلَو سَاغَ فتح هَذَا الْبَاب لزم مِنْهُ التَّوَصُّل
إِلَى إبِْطَال جملَة العمومات الَّتِي يتَّصل بهَا
التَّخْصِيص فِي الْكتاب وَالسّنة، وَفِيمَا يتَّصل بالوعد
والوعيد، حَتَّى تَقولُوا أَن قَوْله: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْركين} مُجمل لأَنا عرفنَا بِالدَّلِيلِ أَن ثُبُوت
الْقَتْل لَا يَتَقَرَّر بِمُجَرَّد اسْم [الْمُشرك] فَإِن أهل
الذِّمَّة وَأولُوا الْعَهْد لَا يقتلُون وَقَوله تَعَالَى:
{يُوصِيكُم الله فِي أولدكم} الْتحق بالمجملات على هَذَا
الأَصْل فَإِن التوريث لَا يَقع بِمُجَرَّد اسْم الْوَلَد،
واطرد ذَلِك فِي كل عُمُوم دخله التَّخْصِيص تَجدهُ كَذَلِك،
وَكَذَلِكَ وعد المطيعين على الطَّاعَات فَإِنَّهُ يتخصص
مِنْهُ الْبَقَاء عَلَيْهَا فِي الْعَاقِبَة، ويخصص من
الْوَعيد الْإِصْرَار على الْمعْصِيَة / فَلَنْ يَسْتَقِيم
الْجمع بَين القَوْل بالتمسك بِالْعُمُومِ [74 / ب] الَّذِي
دخله التَّخْصِيص، وَبَين هَذَا الأَصْل.
(120) فصل
[633] فَإِن قَالَ قَائِل: قد ذكرْتُمْ جملا مِمَّا يعم ويخص
فَمَا قَوْلكُم فِي
(2/57)
فحوى الْخطاب هَل يدْخلهُ التَّخْصِيص،
وعنوا بذلك غير الْمَفْهُوم الْمُخْتَلف فِيهِ وأموا إِلَى مثل
ذَلِك قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ
وَلَا تنهرهما} فَهَذَا بفحواه يَقْتَضِي النَّهْي عَن التعنيف
الزَّائِد على التأفيف نَحْو الضَّرْب فَمَا فَوْقه.
وَإِن قَالُوا يسوغ ترك الفحوى بِمَا يسوغ التَّخْصِيص بِهِ،
قُلْنَا: لَا يجوز ذَلِك أصلا، وَسَيَرِدُ فِي الفحوى ومنزلته
من الْكَلَام بَاب مُفْرد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[634] وَالْقدر الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ هُنَا أَن نقُول: قد
ثَبت عندنَا من وضع أصل اللُّغَة قطعا إنباء النَّهْي عَن
التأفيف فِي معرض التحريض على الْبر عَن النَّهْي عَمَّا
فَوْقه فَهَذَا هُوَ الْمَفْهُوم من قَضِيَّة اللُّغَة نصا،
وَلَيْسَ هُوَ عرضة
(2/58)
للتأويل، والنصوص ومقتضياتها لَا يجوز
تَركهَا إِنَّمَا يجوز التَّخْصِيص بِهِ وسنشبع القَوْل فِي
ذَلِك إِن شَاءَ الله عز وَجل. (121) بَاب
(2/59)
الْكَلَام فِي الِاسْتِثْنَاء
فَإِن قَالَ قَائِل مَا حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء؟
قُلْنَا: قد اخْتلفت عِبَارَات أَصْحَابنَا فِي ذَلِك فَذهب
بَعضهم إِلَى أَن الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج بعض مَا يجب دُخُوله
فِي اللَّفْظ بِلَفْظ مُتَّصِل، وَهَذَا مَا أوردهُ
الطَّبَرِيّ. وَهُوَ مَدْخُول من أوجه:
(2/60)
أَحدهَا: أَن الْإِخْرَاج فِي إِطْلَاقه
ينبىء عَن فعل لَا يضاهي الْأَقْوَال فَكَانَ من حَقه أَن
يُقيد كَون الِاسْتِثْنَاء بِلَفْظ، وَأَيْضًا فَإِن حَقِيقَة
الْإِخْرَاج: الْإِزَالَة بعد الثُّبُوت، وَنحن لَا نقُول إِن
اللَّفْظ السَّابِق يثبت على الْجُمْلَة حَقِيقَة، ثمَّ يخرج
الِاسْتِثْنَاء بعض مَا اقْتَضَاهُ، وَلَكنَّا نقُول:
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ مَعَ الِاسْتِثْنَاء لَا يرادان إِلَّا
على المورد الْبَاقِي، وَمَا ذكره يبطل أَيْضا بقول الْقَائِل:
رَأَيْت الْمُؤمنِينَ
(2/61)
وَلم ار زيدا فَكل مَا ذكره يتَحَقَّق فِي
هَذِه الصُّورَة، ثمَّ هَذَا لَا يعد اسْتثِْنَاء اتِّفَاقًا
من أهل اللُّغَة.
[636] فالحد المرضي إِذا أَن نقُول: الِاسْتِثْنَاء كَلَام
دَال على أَن الْمَذْكُور فِيهِ لم يرد بالْقَوْل
الْمُسْتَثْنى.
وصيغته فِي الْعَرَبيَّة " إِلَّا " أَو مَا حل مَحَله وأقيم
مقَامه فَهَذَا هُوَ الِاسْتِثْنَاء وَلَا يدْخل عَلَيْهِ
شَيْء مِمَّا قدمْنَاهُ. [637] فَإِن قيل: أفليس
الِاسْتِثْنَاء مُشْتَقّ من قَوْلهم: " ثنيت عَن رَأْيه " إِذا
صرفته عَن [عزمه] وثنيت الْعود إِذا حنيته، وأثنيت عَمَّا
كُنَّا عَلَيْهِ وَهَذَا الأَصْل مُتَضَمّن حمل الِاسْتِثْنَاء
على معنى الْإِخْرَاج، وَإِزَالَة مُقْتَضى اللَّفْظ.
قُلْنَا: لَا يبعد أَن يكون اشتقاق الِاسْتِثْنَاء مِمَّا
ذكرتموه وَلَكِن الْعَرَب لَا تراعي فِي حَقِيقَة الِاشْتِقَاق
الموازاة فِي الْمَعْنى على التَّحْقِيق على حسب مَا تراعي فِي
الْعِلَل الَّتِي تطرد
(2/62)
وَمن تَأمل فِي أصُول كَلَامهم / عرف ذَلِك
مِنْهَا، فَإِذا اشتققناه من [75 / أ] قَوْلهم: " ثنيت فلَانا
عَن عزمه " فَوجه تَقْدِيره على الْمَعْنى الَّذِي رمناه: أَن
اللَّفْظ الأول لَو قَدرنَا مُجَردا لاقتضى عُمُوما فِيمَا
أُرِيد بِهِ، فَإِذا تعقبه الِاسْتِثْنَاء فَكَأَنَّهُ يثنيه
عَمَّا يُرَاد بِهِ لَو قدر مُطلقًا، فَهَذَا وَجه التَّقْرِيب
من الأَصْل فِي الِاشْتِقَاق، وَهَذَا حَقِيقَة
الِاسْتِثْنَاء.
[638] وَيخرج مِنْهُ أَدِلَّة التَّخْصِيص وَيخرج مِنْهُ قَول
الْقَائِل: رَأَيْت الْمُؤمنِينَ وَلم أَو زيدا فَإنَّا
قُلْنَا فِي تَحْدِيد الِاسْتِثْنَاء إِن صيغته " إِلَّا " أَو
[مَا أقيم] مقَامهَا نَحْو " ير " و " سوى " و " عدا " و " خلا
" وَنَحْوهَا.
(122) فصل
[639] شَرط صِحَة الِاسْتِثْنَاء اتِّصَاله بالمستثنى مِنْهُ
على قرب من الزَّمَان مَعْهُود فِي الْعَهْد، وَهَذَا مَا صَار
إِلَيْهِ أَئِمَّة الشَّرْع واللغة وَلم يُؤثر فِيهِ خلاف أحد
من الْأَئِمَّة إِلَّا شَيْئا بَعيدا يحْكى عَن ابْن
(2/63)
عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يصحح
الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل، وَالظَّن بِهِ أَنه لم يقل ذَلِك
على مَا ظَنّه الجهلة من النقلَة على مَا سنوضح تَأْوِيل
كَلَامه فِي أثْنَاء الْفَصْل.
وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَاهُ: إطباق أهل اللُّغَة على أَن
الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل إِذا تخَلّل بَينه وَبَين
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فصل متطاول، فَإِن الْقَائِل إِذا قَالَ:
رَأَيْت النَّاس
(2/64)
ثمَّ قَالَ بعد شهر أَو حول: إِلَّا زيدا
أَو غير زيد، لم يعد ذَلِك كلَاما مُفِيدا وعد ملغى، وَهَذَا
بَين فِي كَلَامهم لَا يحْتَاج إِلَى إيضاحه.
وَالَّذِي يتَحَقَّق الْمَقْصد فِي ذَلِك مِنْهُ أَن الْعَرَب
مَا زَالَت واثقة وتهيئة [بالعهود] والعقود فِيمَا بَين
أظهرنَا إِذا جزمت وعزمت عَن الشَّرَائِط، وَلَو كَانَت ترقب
صِحَة الِاسْتِثْنَاء مَعَ الِانْفِصَال وتطاول الزَّمَان لما
حصل لَهَا الثِّقَة بِشَيْء من عهودها المجزومة، وَهَذَا بَين
لَا خَفَاء بِهِ.
[640] فَإِن قيل: وَكَيف خَفِي ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس رَضِي
الله عَنهُ وَقد كَانَ حبر الشَّرْع واللغة؟
قُلْنَا: إِمَّا أَن نقُول: لَا تصح الرِّوَايَة عَنهُ
وَإِمَّا أَن نحمله على محمل
(2/65)
قريب، وَهُوَ أَن نقُول: لَعَلَّه رَضِي
الله عَنهُ كَانَ يجوز الِاسْتِثْنَاء من اللَّفْظ مَا يُنكر
فِي الضَّمِير ثمَّ كَانَ يَقُول: من أخبر بعد زمَان أَنِّي
كنت اضمرت اسْتثِْنَاء فنقبل هَذِه الْأَخْبَار ونصدق فِيمَا
ادَّعَاهُ، وَهَذَا لعمرنا أقرب وَإِن كَانَ لَا يرتضيه مُعظم
الْفُقَهَاء.
[641] فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ يجوز تَأْخِير أَدِلَّة
التَّخْصِيص عَن الْكَلَام الْمَخْصُوص وانفصاله عَنهُ، فَبِمَ
أنكرتم من مثل ذَلِك فِي الِاسْتِثْنَاء؟ وَهَذِه عمدتهم.
فَنَقُول: هَذَا من قبيل إثباب اللُّغَات بالمقاييس، وَهَذَا
مَا لَا وَجه لَهُ،
(2/66)
فَلم قُلْتُمْ إِن أَدِلَّة التَّخْصِيص
لما سَاغَ تَأْخِيرهَا، سَاغَ تَأَخّر الِاسْتِثْنَاء، ثمَّ
نقُول: نرى الْعَرَب تطلق عُمُوما ثمَّ تبدي بعد زمَان دلَالَة
تخصصه وَلَا يُنكر ذَلِك فِي كَلَامهَا، فَأَما أَن تَقول طلقت
امْرَأَتي، ثمَّ تَقول بعد زمَان إِن شَاءَ الله، فَلَا تعد
الْعَرَب ذَلِك اسْتثِْنَاء صَحِيحا، فتتبعنا لغتهم فِي
الْأَصْلَيْنِ.
ثمَّ نقُول: إِن جَازَ لكم تَشْبِيه الِاسْتِثْنَاء بأدلة
التَّخْصِيص فَهَلا شبهتموه بِالشُّرُوطِ والقيود والأوصاف
والنعوت فَإِنَّهُ لَا يسوغ / تَأْخِيرهَا وفَاقا إِذْ لَو
قَالَ [75 / ب] الْقَائِل [أضْرب زيدا، ثمَّ قَالَ بعد شهر:
إِن قَامَ، أَو قَالَ بعد حول: إِذا كَانَ قَائِما أَو
رَاكِبًا، عد ذَلِك لَغوا، وَلذَلِك لَو قَالَ: زيد، ثمَّ
قَالَ بعد بُرْهَة من دهره: منطلق، لم يعد ذَلِك خَبرا، وَهُوَ
مجمع عَلَيْهِ، فلئن سَاغَ لَهُم التَّشْبِيه بِمَا ذَكرُوهُ
سَاغَ مقابلتهم، وَإِن كَانَ التَّحْقِيق يَقْتَضِي أَن لَا
يسْلك طَرِيق المقاييس فِي اللُّغَات ومقتضياتها.
[642] فَإِن قيل: تسوغون تقدم الِاسْتِثْنَاء على
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ؟
قُلْنَا: نجوز ذَلِك مَعَ الِاتِّصَال فَكَمَا يحسن مِنْك أَن
تَقول: مَا جَاءَنِي أحد غلا أَخَاك، وَيحسن م مِنْك أَن
تَقول: مَا جَاءَنِي إِلَّا أَخَاك أحد، وَالِاسْتِثْنَاء إِذا
تقدم يتَضَمَّن النصب على أصُول النَّحْوِيين وَمن ذَلِك قَول
الْكُمَيْت.
(2/67)
(فَمَا لي إِلَّا آل [أَحْمد] شيعَة ...
وَمَا لي إِلَّا مشعب الْحق مشعب)
فَقدم الِاسْتِثْنَاء على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَيكثر ذَلِك
فِي نظم الْعَرَب ونثرها ثمَّ نشترط فِي ذَلِك من الِاتِّصَال
مَا نشترطه فِي تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء.
(123) فصل
[643] الِاسْتِثْنَاء إِذا انطوى على التَّعْرِيض لما يبنىء
عَنهُ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ جِنْسا فَهُوَ الِاسْتِثْنَاء
الْحَقِيقِيّ، نَحْو قَوْلك رَأَيْت النَّاس إِلَّا زيدا،
وَضربت العبيد إِلَّا نَافِعًا، فَهَذَا يتَضَمَّن تَخْصِيص
اللَّفْظ السَّابِق الْمُسْتَثْنى مِنْهُ بِبَعْض مَا
يتَنَاوَلهُ لَو قدر مُطلقًا.
[644] وَقد ترد صِيغَة الِاسْتِثْنَاء مَعَ اخْتِلَاف الْجِنْس
فِي مَضْمُون الِاسْتِثْنَاء والمستثنى مِنْهُ.
وَنحن نذْكر أَمْثِلَة ذَلِك، ثمَّ نذْكر حَقِيقَته فِي
الْكَلَام ومجازه، فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَسجدَ
الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} إِلَّا إِبْلِيس} ، وَالأَصَح
أَنه
(2/68)
لَيْسَ من الْمَلَائِكَة وَمِنْه قَوْله
تَعَالَى: {فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} ، وَنحن
أَن الرب سُبْحَانَهُ لَا يفهم من القَوْل السَّابِق وَهُوَ
قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُم عَدو لي} ، وَإِن قدر مُجَردا،
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل
مُؤمنا إِلَّا خطأ} ، وَلَا شكّ أَن ذَلِك لم يدْخل تَحت
قَوْله: (وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن
(2/69)
يقتل مُؤمنا إِلَّا خطئاً} لتقدير
إِخْرَاجه مِنْهُ، فَإِن الْخَطَأ لَا ينْدَرج تَحت قَضِيَّة
التَّكْلِيف وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة}
، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا
اتِّبَاع الظَّن} ، وَهُوَ لَيْسَ من جنس الْعلم ونظائر ذَلِك
لَا تحصى فِي الْكتاب وَالسّنة.
وَيكثر ذَلِك فِي نظم الشّعْر، وَمِنْه قَول النَّابِغَة:
(وقفت بهَا أصيلالاً الا أسائلها ... أعيت جَوَابا وَمَا
بِالربعِ من أحد)
(2/70)
(إِلَّا أواري لأيا مَا تكلمنا ... والنؤى
[كالحوض] بالمظلومة الْجلد)
فاستثنى الأواري من أحد، وَلَا يفهم من مُطلق أحد.
وعدوا من ذَلِك قَول الشَّاعِر:
(وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس ... إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس)
وَهَذَا فِيهِ نظر، فَإِن الأنيس رُبمَا يتَحَقَّق بِشَيْء من
ذَلِك.
(2/71)
وعدوا من ذَلِك قَول الْقَائِل:
(وَلَا عيب فِينَا غير ان سُيُوفنَا ... بِهن فلول من قراع
الْكَتَائِب)
[76 / أ] فاستثنى تفلل السيوف من كَثْرَة القراع من الْعُيُوب،
وَإِن لم يكن مِنْهَا /.
[645] فَإِذا عرفت صُورَة ذَلِك فَاعْلَم أَنا نستيقن أَن
هَذِه الْأَلْفَاظ لَا تَتَضَمَّن تَخْصِيص مَا سبق من
اللَّفْظ، وَلَا تَقْتَضِي تَغْيِير مَعَانِيهَا عَن عُمُوم
وخصوص فَإِنَّهَا تنطوي على مَا انطوت عَلَيْهِ الْأَلْفَاظ
الْمُتَقَدّمَة لتجعل مخصصة بهَا على مضادتها نفيا كَانَت أَو
إِثْبَاتًا، فَهَذَا مَعْقُول لَا خَفَاء بِهِ، وَلَا وَجه
لجحده، وَلَكِن اخْتلف االأصوليون فِي أَنَّهَا هَل تسمى
اسْتثِْنَاء على الْحَقِيقَة؟ فَمنهمْ من سَمَّاهَا
اسْتثِْنَاء، وَالأَصَح أَن لَا تسمى اسْتثِْنَاء
(2/72)
اسْتثِْنَاء.
(2/73)
فَإِن تتبعنا طرق الْمعَانِي فَلَيْسَ
فِيهَا معنى الِاسْتِثْنَاء، وَإِن تتبعنا وضع اللُّغَة
فَلَيْسَ فِي وَضعهَا تَسْمِيَة ذَلِك اسْتثِْنَاء.
[646] فَإِن قيل: أَلَيْسَ مَذْهَب الشَّافِعِي أَن
اسْتثِْنَاء الشَّيْء من غير جنسه سَائِغ. قُلْنَا: هَذِه
مَسْأَلَة تتَعَلَّق بالفروع على أَن الشَّافِعِي إِذا صحّح
الِاسْتِثْنَاء فَيصْرف الْمَذْكُور فِي الِاسْتِثْنَاء إِلَى
قِيمَته وَيجْعَل اللَّفْظ وَإِن كَانَ منبئا عَن جنس يُخَالف
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ دلَالَة على قِيمَته المتناولة لَهُ.
(124) فصل
[647] اخْتلف أهل اللِّسَان فِي صِحَة اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر
مِمَّا تقدم ذكره فجوزه مُعظم الْفُقَهَاء، وَمنعه آخَرُونَ.
(2/74)
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَكُنَّا
على تَجْوِيز ذَلِك دهرا، وَالَّذِي صَحَّ عندنَا آنِفا منع
ذَلِك وَذَلِكَ أَن الْعَرَب كَمَا استبعدت الِاسْتِثْنَاء
الْمُنْفَصِل عَن الْكَلَام فِي زمن متطاول، وَفصل متخلل،
فَكَذَلِك استبعدوا واستقبحوا أَن
(2/75)
يَقُول الْقَائِل: لفُلَان عَليّ ألف
دِرْهَم إِلَّا تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين وَنصف دِرْهَم.
فيعدون ذَلِك من مستهجن الْكَلَام، وَلَا ينْطق بِهِ إِلَّا
هازل، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، فبالطريق الَّذِي
أَنْكَرُوا انْفِصَال الِاسْتِثْنَاء أَنْكَرُوا ذَلِك.
[648] فَإِن قيل يجوز أَنهم استقبحوا اسْتِقْلَالا بِقِيَاس
اللُّغَة.
قُلْنَا: نفس هَذَا الِاسْتِثْنَاء يُوجد فِي لغتهم وَلم يقم
فِي نظمهم ونثرهم ليدعى انه من أصل الْوَضع، وَإِذا عرض
عَلَيْهِم أنكروه، وَالْأَصْل انْتِفَاء اللُّغَات إِلَى أَن
تقوم دلالات النَّقْل على ثُبُوتهَا وَلَو سَاغَ هَذَا
الدَّعْوَى فِي مَا قُلْنَاهُ سَاغَ مثله فِي كل مَا أنكروه.
[649] فَأَما الَّذين جوزوا اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر مِمَّا سبق
فَنحْن نذْكر عمدهم ونومىء إِلَى الأولى وَالْأَقْرَب مِنْهَا.
فمما عولوا عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قُم اللَّيْل إِلَّا
قَلِيلا نصفه أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا أَو زد عَلَيْهِ}
قَالُوا: فَجعل النّصْف فزائد اسْتثِْنَاء، وَهَذَا فِيهِ نظر،
فَإِن الِاسْتِثْنَاء الْحَقِيقِيّ هُوَ قَوْله {إِلَّا
قَلِيلا} فَأَما بعده فاستدراكات، وَلَيْسَت باسثتناءات على
الْحَقِيقَة.
[650] وَرُبمَا تمسك نَاصِر ذَلِك بِأَن الْعَرَب قد تَقول
لفُلَان عَليّ عشرَة إِلَّا سِتَّة، وَهَذَا فِيهِ نظر، فَإِن
ذَلِك لم ينْقل عَن الْعَرَب فِي شَيْء من كَلَامهَا، وَلَو
عرض على الفصحاء لأنكروه فَلم تقم بذلك حجَّة.
(2/76)
[651] وَرُبمَا يتمسكون بقول الشَّاعِر:
(أَدّوا الَّتِي نقصت تسعين من مائَة ... ثمَّ ابْعَثُوا حكما
بِالْحَقِّ قوالا)
قَالُوا فَهَذَا اسْتثِْنَاء تسعين من مائَة، وَهَذَا فِيهِ
نظر أَيْضا، فَإِن كلامنا فِيمَا هُوَ فِي صِيغَة
الِاسْتِثْنَاء، وَهَذَا لَيست لَهُ صِيغَة الِاسْتِثْنَاء،
وايضا فَإِنَّهُ من قبيل الْقود والديات / الَّتِي لَا يعول
عَلَيْهَا فِي أصُول اللُّغَات مَعَ أَنه لَا يسند هَذَا [76 /
ب] الْبَيْت إِلَى أَن يقوم بقوله الْحجَّة.
[652] وَرُبمَا استدلوا بقوله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ
لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين} وَقَالَ
فِي آيَة اخرى مُبينًا عَن قَول إِبْلِيس: {فبعزتك لأغوينهم
أَجْمَعِينَ} إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين) ، فاستثنى
(2/77)
الغاوين فِي الْآيَة الأولى، والمخلصين فِي
الْأُخْرَى، فَإِن قدر المخلصين أَكثر الْعباد، فقد صَحَّ
استثناؤهم وَإِن قدر " الْغَاوُونَ " أَكثر الْعباد وَهَذَا
هُوَ الظَّاهِر فقد صَحَّ استثناؤهم وَهَذَا مثل مَا يستدلون
بِهِ مَعَ ان لِلْقَوْلِ فِيهِ مجالا، وَالله اعْلَم.
(125 (القَوْل فِي أَن الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بجمل معطوفة
بعضه على بعض يرجع إِلَى جَمِيع مَا تقدم، وَذكر الْخلاف فِيهِ
[653] وَاعْلَم أَن مَا ذكر بِصِيغَة وَاحِدَة، ثمَّ عقب
باستثناء يَصح رُجُوعه إِلَى آحَاد مَا انطوت عَلَيْهِ
الصِّيغَة الأولى، فالاستثناء ينْصَرف إِلَى
(2/78)
مَضْمُون الصِّيغَة، وَكَذَلِكَ إِذا توالت
اعتبارات كلهَا منبئة عَن معنى وَاحِد، ثمَّ عقبت باستثناء،
وَذَلِكَ نَحْو قَول الْقَائِل لعَبْدِهِ اضْرِب العصاة،
والطغاة، والجناة إِلَّا من تَابَ فَكل هَذِه الْعبارَات آئلة
إِلَى العصاة، وَلَا يَجْعَل لكل عبارَة مَضْمُونا على حياله
لتقدرها جملَة متعاقبة. فَأَما إِذا اشْتَمَل الْكَلَام على
جمل مُنْقَطِعَة تنبىء كل وَاحِدَة عَمَّا لَا تنبىء عَنهُ
الْأُخْرَى، وَلكنهَا جمعت فِي حرف من حُرُوف الْعَطف جَامع
فِي مُقْتَضى الْوَضع ثمَّ عقب باستثناء، فَهَل ينْصَرف إِلَى
الْجَمِيع أَو ينْصَرف إِلَى مَا يلبس الْجمل، دون مَا سبق؟
هَذَا مَوضِع اخْتِلَاف الْعلمَاء فَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى
أَنه ينْصَرف إِلَى الْجُمْلَة الَّتِي تليه، دون الْجُمْلَة
(2/79)
السَّابِقَة وَذهب مُعظم الْعلمَاء
الْقَائِلين بِالْعُمُومِ إِلَى أَن الِاسْتِثْنَاء يرجع إِلَى
جَمِيع الْجمل السَّابِقَة.
[654] ونفرض الْكَلَام فِي أَمْثِلَة، فَمِنْهَا قَوْله
تَعَالَى: {وَالَّذين ير يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم
يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة
وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة ابدا وَأُولَئِكَ هم
الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فَمن صرف
الِاسْتِثْنَاء إِلَى أقرب الْمَذْكُور من الْجمل ل -
وَإِلَيْهِ مَال الْمُتَأَخّرُونَ من أَصْحَاب أبي حنيفَة
وشرذمة من الْقَدَرِيَّة - صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى
الْفَاسِقين دون مَا فرط من الْجمل، وَمن ذَلِك ردوا شَهَادَة
الْمَحْدُود.
(2/80)
وَمن صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجمل
السَّابِقَة أدرج فِي حكم الِاسْتِثْنَاء أَمر الشَّهَادَة.
[655] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمن ارتضى الْوَقْف
كَمَا ارتضيناه فَيلْزمهُ القَوْل بِالْوَقْفِ فِي ذَلِك
فَإنَّا رَأينَا أَقسَام الْكَلَام على الِاخْتِلَاف
(2/81)
والتنوع فِي مواردها وَرُبمَا يرد
الِاسْتِثْنَاء متخصصا بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة، وَرُبمَا
يرد منصرفا إِلَى الْجمل السَّابِقَة، وَرُبمَا يرد منصرفا
إِلَى جملَة متوسطة، وَلم يَصح عَن أحد من أهل اللُّغَة فِي
ذَلِك نقل موثوق بِهِ فَلَزِمَ التَّوَقُّف بالطرق الَّتِي
بهَا يجب التَّوَقُّف فِي صِيغ الْعُمُوم، والأوامر والنواهي،
وَالْأَخْبَار.
[656] وكل دَلِيل طردناه فِيمَا قدمْنَاهُ من الْمسَائِل يطرد
فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
[657] فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا الَّذِي صرتم إِلَيْهِ من
الْوَقْف خرق الْإِجْمَاع [77 / أ] وَذَلِكَ أَن النَّاس /
اخْتلفُوا فِي الِاسْتِثْنَاء المعقب بجمل متعاقبة فَذهب
بَعضهم إِلَى [تَخْصِيصه] بالأخيرة، وَذهب آخَرُونَ إِلَى صرفه
إِلَى كل مَا سبق، وَأما الْوَقْف فَلم يصر إِلَيْهِ صائر.
قيل: هَذِه غَفلَة عَظِيمَة فَإِن مَذْهَب الواقفية فِي هَذِه
الْمسَائِل أوضح من كل وَاضح فَلَا وَجه لادعائكم حصر
الْمذَاهب فِي قَوْلَيْنِ، وَمذهب الواقفية فِي جملَة المصنفات
مقرون بهَا، وَهل أَنْتُم فِي ذَلِك إِلَّا بِمَنْزِلَة من
يَقُول إِن الصائر إِلَى الْوَقْف فِي صِيغ الْعُمُوم خارق
للْإِجْمَاع من حَيْثُ أَن النَّاس انقسموا فِيهَا، فَمن صائر
إِلَى الشُّمُول، وذاهب إِلَى الْخُصُوص، وَكَذَلِكَ لَو قدر
مثل هَذَا الدَّعْوَى فِي الْأَمر وَكَونه على الْوُجُوب
وَالنَّدْب فَبَطل مَا قَالُوهُ، وَتبين بطلَان ادِّعَاء
الْإِجْمَاع.
(2/82)
[658] ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله
عَنهُ: وَإِن نصرنَا القَوْل بِالْعُمُومِ فأوضح المذهبين صرف
الِاسْتِثْنَاء إِلَى جَمِيع ذَلِك، وَذكر القَاضِي مُعْتَمد
كل قوم، وَاعْترض عَلَيْهِ.
[659] فَأَما عُمْدَة الصائرين إِلَى أَن الِاسْتِثْنَاء
ينْصَرف إِلَى جَمِيع الْجمل فَهِيَ أَن أَرْبَاب اللُّغَات
وَأهل الْخِبْرَة بمعانيها صَارُوا إِلَى أَن الْجمل المنعطفة
بِحرف عاطف تنزل منزلَة الْجُمْلَة الْوَاحِدَة، والعطف
يَقْتَضِي لَهَا حكم الِاشْتِرَاك، فَإِذا قَالَ الْقَائِل:
رَأَيْت زيدا وعمرا، كَانَ كَمَا لَو قَالَ: رأيتهما، وَلَو
قَالَ: أعْط زيد بن مُحَمَّد، وَزيد بن بكر، وَزيد بن جَعْفَر
كَانَ ذَلِك كَقَوْلِه أعْط الزيدين. فَإِذا تمهد ذَلِك من أصل
اللُّغَة، تبين أَن الْجمل إِذا انعطف بَعْضهَا على بعض تنزلت
منزلَة جملَة وَاحِدَة مَجْمُوعَة بِصِيغَة جَامِعَة يعقبها
اسْتثِْنَاء، وَهَذَا
(2/83)
[أمثل] مَا يستدلون بِهِ.
[660] وَيرد عَلَيْهِ سُؤال الواقفية فَإِنَّهُم قَالُوا:
هَذَا اسْتِدْلَال فِي إِثْبَات اللُّغَات بِالْقِيَاسِ،
وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنا
لَو قَدرنَا جَوَاز افْتِرَاق أَمر الْجمل المتعاقبة المنعطفة
فِي حكم الِاسْتِثْنَاء، وَالْجُمْلَة الْوَاحِدَة لم يكن
ذَلِك مستبعدا لَا عقلا وَلَا وضعا، فَمَا يُنكر المعتصم
بِهَذِهِ النُّكْتَة على من يَقُول إِن مَا ادعيته فِي
الْجُمْلَة الْوَاحِدَة إِن سلم ذَلِك فَلم تَدعِي مثله فِي
الْجمل المتعاقبة فتضطره طَريقَة الْحجَّاج والطلبات إِلَى
الْقيَاس، وَلَا تثبت اللُّغَات قِيَاسا، وَإِنَّمَا تثبت نقلا
من أَهلهَا.
[661] وَاسْتدلَّ من نصر هَذَا الْمَذْهَب أَيْضا بِأَن قَالَ:
لَا خلاف أَن الْجمل الْمُخْتَلفَة إِذا تعقبها الِاسْتِثْنَاء
بِمَشِيئَة الله تَعَالَى أنصرف إِلَى جَمِيعهَا فَلَو قَالَ:
وَالله لَا أكلت وَلَا دخلت الدَّار وَلَا كلمت زيدا إِن شَاءَ
الله انْصَرف إِلَى كل مَا سبق، وَلم ينْعَقد يَمِينه فِي
شَيْء وَكَذَلِكَ سَائِر ضروب الِاسْتِثْنَاء وَهَذَا يدْخل
عَلَيْهِ مَا قدمْنَاهُ من التَّوَصُّل إِلَى إِثْبَات
اللُّغَات بِالْقِيَاسِ.
[662] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَلم يثبت عِنْدِي مَا
ادعوهُ من انصراف الِاسْتِثْنَاء بِالْمَشِيئَةِ إِلَى الْجمل
فِي حكم اللُّغَة وَلم ينْقل ذَلِك عَن أَهلهَا وَلست أسلم
ذَلِك لُغَة وَلَا يتبع قِيَاس عَلَيْهِ، وَإِن ثَبت حكم بَين
أَرْبَاب
(2/84)
الشَّرَائِع فالشرع مُتبع وَلَا يخرج
الْكَلَام عَن احْتِمَاله فِي أصل وضع اللُّغَة.
[663] وَاسْتدلَّ آخَرُونَ فِي صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى
الْجمل بِاتِّفَاق أهل اللُّغَة على رُجُوع الشَّرْط فِي
صُورَة ذكروها / إِلَى الْجمل وَهِي نَحْو قَول [77 / ب]
الْقَائِل لَا تضرب زيدا إِذا أكل الطَّعَام، وَدخل الدَّار،
وَركب الْحمار، إِلَّا أَن يكون قَائِما، أَو قَالَ: اضْرِب
زيدا إِذا دخل الدَّار، وَأكل، وَركب إِن كَانَ قَائِما،
وَإِذا كَانَ قَائِما، فَيَنْصَرِف ذَلِك إِلَى جملَة مَا
تقدم.
[664] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَهَذَا مَا لَا يقطع
القَوْل بِهِ أَيْضا وَلم يثبت فِيهِ نقل يعول عَلَيْهِ،
وَالْكَلَام على احْتِمَاله.
[665] شُبْهَة الْقَائِلين بِأَن الِاسْتِثْنَاء ينْصَرف إِلَى
الْجُمْلَة الْأَخِيرَة: فَإِن قَالُوا: الِاسْتِثْنَاء لَو
قدر مُفردا لم يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي إِفَادَة الْمَعْنى،
وَإِذا وصل بجملة هُوَ اسْتثِْنَاء عَنْهَا اسْتَقل وافاد
فتظهر فَائِدَة الِاسْتِثْنَاء إِذا بَان يتَّصل بجملة
وَاحِدَة فيكتفي بهَا إِذْ لَا ضَرُورَة إِلَى صرفهَا إِلَى
غَيرهَا.
وَهَذَا لَا تَحْقِيق وَرَاءه وَذَلِكَ ان من خَالف هَذِه
الفئة يَدعِي أَن الِاسْتِثْنَاء فِي وضع اللُّغَة ينْصَرف
إِلَى جَمِيع مَا تقدم، وَلَيْسَ يصرفهُ إِلَيْهَا للضَّرُورَة
(2/85)
لتحَقّق ارْتِفَاع الضَّرُورَة بجملة
وَاحِدَة وَلَكِن يصرفهُ إِلَيْهَا وَضعهَا، فَبَطل التعويل
على الضَّرُورَة.
ثمَّ نقُول: فَإِن كَانَ الْمعول على الضَّرُورَة فَهَلا
صرفتموه إِلَى الْجُمْلَة الأولى أَو إِلَى الْجُمْلَة
المتوسطة فَمَا لكم خصصتموه بالأخير؟
[666] وَالَّذِي يُوضح فَسَاد مَا قَالُوهُ إِن الْجمل إِذا
تعاقبت فَلَو قدرت الْجُمْلَة الْأَخِيرَة مُنْفَرِدَة على صدر
الْكَلَام وسوابقه لم يكن منتظما إِنَّمَا يَنْتَظِم الْكَلَام
بمفتحه، وهلا صرفتم الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجُمْلَة الَّتِي
صدر بهَا الْكَلَام.
ثمَّ نقُول: إِن كُنْتُم من الْقَائِلين بِالْعُمُومِ فبمَا
تنكرون على من يزْعم من أَرْبَاب الْخُصُوص أَن اقل الْجمع
هُوَ الَّذِي يحمل عَلَيْهِ اللَّفْظ، وتنتفي الضَّرُورَة فِي
قَضِيَّة الصِّيغَة بِهِ فَيجب الِاكْتِفَاء بِهِ، فيلزمكم على
طرد مَا قلتموه نفي الْعُمُوم، ثمَّ يبطل مَا قَالُوهُ
بِالِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَة الله، فَإِنَّهُم وافقوا
مخالفيهم فِي انْصِرَافه إِلَى سَائِر الْجمل؟
[667] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: إِذا اشْتَمَل
الْكَلَام على أَحْكَام فِي جمل فقضية الْخطاب استيفاؤها،
وَالِاسْتِثْنَاء لَو قدر ثُبُوته تضمن الْإِزَالَة فِي
بَعْضهَا وَالْجُمْلَة الْأَخِيرَة مستيقنة، وَسَائِر الْجمل
مستصحبة الْأَحْكَام إِلَى أَن يلْحقهَا اسْتثِْنَاء مستيقن.
(2/86)
فَيُقَال لهَؤُلَاء: هَذَا الَّذِي ذكرتموه
لَيْسَ باستدلال وَإِنَّمَا هُوَ إِظْهَار استرابة وَتوقف
لظُهُور دَلِيل، أَو يَقُول خصمكم: قد وضحتم الْأَدِلَّة على
انصراف الِاسْتِثْنَاء إِلَى جَمِيع الْجمل السَّابِقَة فيؤول
محصول كلامكم إِلَى استكشفاف عَن أَدِلَّة الْخصم فَثَبت أَن
مَا قلتموه طلب دَلِيل وَلَيْسَ بِدَلِيل.
ثمَّ يبطل مَا قَالُوهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَة الله
تَعَالَى كَمَا قدمْنَاهُ.
[668] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَلَيْسَ يَتَّضِح
لوَاحِد من الفئتين دَلِيل بل تصادم الْقَوْلَانِ وَلم يبْق
بعدهمَا إِلَّا الْمصير إِلَى الْوَقْف، وآيات الْكتاب منقسمة
الْمَوَارِد فِي ذَلِك أَيْضا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ:
{وَلَا تقبلُوا لَهُم شهدة أبدا وَأُولَئِكَ / هم
الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فقد ذكر حكم الْحَد
وَالشَّهَادَة، [78 / أ] وَالْوَصْف بالفسوق، ثمَّ
الِاسْتِثْنَاء لَا يرجع إِلَى الْحَد وفَاقا وَإنَّك وان
كَانَ من الْجمل السَّابِقَة، وانما الْخلاف فِي صرف
الِاسْتِثْنَاء إِلَى الشَّهَادَة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:
{فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة إِلَى أَهله إِلَّا
أَن يصدقُوا} مَعْنَاهُ يتبرعوا بِالْعَفو، ثمَّ لم ينْصَرف
هَذَا الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْكفَّار فَإِنَّهَا لاتسقط
بالإسقاط وَقد يرد الِاسْتِثْنَاء وَلَا يصرف إِلَى أقرب
الْجمل إِلَيْهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَلَوْلَا فصل
الله وَرَحمته لاتبعتم الشيطن إِلَّا قَلِيلا} فَقَوله:
(2/87)
{إِلَّا قَلِيلا 83} لَا ينْصَرف إِلَى
الشَّيْطَان مَعَ اتِّصَاله بِالِاسْتِثْنَاءِ وَإِنَّمَا
ينْصَرف هَذَا الِاسْتِثْنَاء عِنْد الْمُحَقِّقين إِلَى
قَوْله: {لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} {إِلَّا قَلِيلا
83} فَتبين بِكُل مَا ذَكرْنَاهُ اخْتِلَاف موارد
الِاسْتِثْنَاء فِي الْخطاب، وتكافأت حجج الْفَرِيقَيْنِ فَلم
يسْتَقرّ مِنْهَا وَاحِدَة فَتعين بعْدهَا الْوَقْف.
(126) القَوْل فِي تَخْصِيص [الْعَام] بِالشُّرُوطِ
[669] اعْلَم ان الشُّرُوط تَنْقَسِم إِلَى عَقْلِي وَغَيره،
فَأَما الشُّرُوط
(2/88)
الْعَقْلِيَّة فَكل مَا لَا يَصح ثَبت
مشروطه دوه، وَلَا يجب بحصوله، فَهُوَ شَرط فِيهِ، وَذَلِكَ
نَحْو الْحَيَاة لما كَانَت شرطا فِي الْعُلُوم والإرادات
وَنَحْوهَا لم يَصح ثُبُوتهَا دون الْحَيَاة وَإِذا حصلت
الْحَيَاة لم يُوجب حُصُولهَا وجود الْعلم والإرادات،
وَبِذَلِك تتَمَيَّز الْعِلَل عَن الشُّرُوط فَإِن الْعِلَل
توجب معلولاتها حكما لَا يَتَقَرَّر دون الشُّرُوط وَالشّرط
يَصح ثُبُوته دون الْمَشْرُوط.
[670] ثمَّ اعْلَم أَن كل مَا كَانَ شرطا بِحكم عَقْلِي
فَإِنَّهُ يكون شرطا لنَفسِهِ، وَلَا يجوز تَقْدِير نَفسه
إِلَّا كَذَلِك، كَمَا إِن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تدل
لأنفسها لَا عَن تواضع وَوضع وَاضع فَلم يَتَقَرَّر أَنْفسهَا
إِلَّا دَالَّة، وَالْكَلَام فِي الشَّرَائِط الْعَقْلِيَّة
يستقصى فِي الديانَات.
[671] فَأَما الشَّرَائِط الَّتِي لَيست بعقلية فتنقسم إِلَى
شَرط شَرْعِي غير مُسْتَند إِلَى نطق وَإِلَى شَرط مُصَرح بِهِ
نطقي، فَأَما الشَّرْعِيّ فَكل مَا اقْتضى الشَّرْع توقف حكم
شَرْعِي عَلَيْهِ كَمَا توقفت صِحَة الصَّلَاة على الطَّهَارَة
وَالْإِيمَان، وَالْقَوْل فِي هَذَا الْقَبِيل من الشَّرَائِط
يداني القَوْل فِي الشَّرَائِط الْعَقْلِيَّة، فَإِن الشَّرْع
يَقْتَضِي أَن لَا يَصح الْمَشْرُوط دون الشَّرْط، وَثُبُوت
الشَّرْط بِمُجَرَّدِهِ لَا يتَضَمَّن تثبيت الْمَشْرُوط إِذْ
لَا يتَحَقَّق مصل على الصِّحَّة فِي الرَّفَاهِيَة إِلَّا
وَهُوَ متطهر، ويتقرر متطهر غير مصل.
(2/89)
[672] وتتباين الشَّرَائِط الشَّرْعِيَّة
والشرائط الْعَقْلِيَّة فِي أَنَّهَا لَا تنتصب شَرَائِط
لأنفسها وذواتها، وَلم هِيَ عَلَيْهَا من صِفَات أجناسها.
وَإِنَّمَا تصير شَرَائِط بِنصب صَاحب الشَّرِيعَة، وَيجوز فِي
الْعقل تَقْدِير انْتِفَاء الشَّرَائِط وقلب الْمَشْرُوط شرطا،
وَالشّرط مَشْرُوطًا، وَأما الشَّرَائِط [78 / ب]
الْعَقْلِيَّة فَلَا يجوز تَقْدِير انقلابها عَمَّا هِيَ
عَلَيْهَا من كَونهَا مَشْرُوطًا فَهَذِهِ هِيَ / الشَّرَائِط
الشَّرْعِيَّة.
[673] وَأما الشَّرَائِط النطقية فَهُوَ كل لفظ ينبىء عَن تعلق
شَيْء بِشَيْء على معنى، وَلَا يَصح الْمَشْرُوط دون الْوَصْف
الْمَنْصُوب شرطا، ثمَّ هُوَ بعد ذَلِك صِيغ مُخْتَلفَة فِي
مجاري الْعَادَات.
وَهِي تَنْقَسِم إِلَى نُصُوص غير مُحْتَملَة، وَإِلَى ظواهر
قد تحْتَمل على الْمجَاز والشرائط النطقية مثل قَول الْقَائِل:
لَا أقوم اليك حَتَّى تقوم، وَإِن قُمْت قُمْت، وَإِن جئتي
جئْتُك، وَلنْ أجيئك حَتَّى تَجِيء.
ثمَّ قد تثبت نطقا للشَّيْء الْوَاحِد شُرُوط فَيُقَال: إِذا
مطرَت السَّمَاء وَقَامَ زيد جئْتُك، وَهَذِه الشُّرُوط تنزل
منزلَة الِاسْتِثْنَاء فِي تَخْصِيص اللَّفْظ الَّذِي كَانَ
يعم لَو قدر مُجَردا عَنهُ، إِذْ لَا فرق بَين ان يَقُول:
اقْتُلُوا الْمُشْركين إِن لم يَكُونُوا معاهدين، وَبَين أَن
يَقُول: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا المعاهدين.
[674] ثمَّ اعْلَم أَن مَا نصب شرطا إِمَّا شرعا وَإِمَّا نطقا
وَلم يثبت فِيهِ
(2/90)
إِلَّا كَونه شرطا فَذَلِك ينبىء عَن توقف
الْمَشْرُوط عَلَيْهِ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِك وجود الْمَشْرُوط
لَا محَالة إِذا وجد الشَّرْط إِلَيْهِم وَأَن يُصَرح فِي
اللَّفْظ بذلك، وإيضاح ذَلِك أَنه إِذا جعل انْقِطَاع الْحيض
شرطا فِي استحلال الوطىء دلّ ذَلِك على أَن حل الوطىء لَا يثبت
من غير انْقِطَاع، وَلَا يدل ذَلِك على أَن الْحل يثبت لَا
محَالة عِنْد الِانْقِطَاع، وَقد ذهب من لَا تَحْقِيق لَهُ
إِلَى انه إِذا ثَبت كَون الشَّيْء شرطا شرعا فَنَفْس كَونه
شرطا يَقْتَضِي أَن يثبت الحكم بِثُبُوتِهِ وينتفي بانتفائه،
وَهَذَا سَاقِط من القَوْل، وَشبه الْمَشْرُوط بالعلل
الْعَقْلِيَّة، وَالشّرط الشَّرْعِيّ لَا يزِيد على الْعقلِيّ،
ثمَّ لَا يَقْتَضِي الشَّرْط الْعقلِيّ ثُبُوت مَشْرُوطَة لَا
محَالة ".
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الحكم قد ثَبت بجملة من
الشَّرَائِط، وَذَلِكَ نَحْو الصَّلَاة يشْتَرط فِي صِحَّتهَا
طَهَارَة الْحَدث والخبث وَستر الْعَوْرَة وَالْإِيمَان
وَيُسمى كل وَاحِد من ذَلِك شرطا، وَإِن كَانَ لَو وجد وَحده
مَا اقْتضى صِحَة الصَّلَاة فَدلَّ ذَلِك على أَن كَون
الشَّيْء مَشْرُوطًا لَا يَقْتَضِي حُصُول مشروطه عِنْد
حُصُوله، غير أَنا إِذا قُلْنَا فِي تضاعيف الْكَلَام: إِن
اللَّفْظ إِذا دلّ على وجود الْمَشْرُوط عِنْد وجود مَا علق
بِهِ فَيتبع ظَاهر اللَّفْظ، وَهُوَ نَحْو أَن يَقُول إِن
جئتني جئْتُك فَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوت مَجِيء الْمَشْرُوط
عِنْد ثُبُوت شَرطه، فَافْهَم ذَلِك، وتتبع بصيغ الْأَلْفَاظ،
وَلَو [ورد] اللَّفْظ بِأَن وطىء الْحَائِض لَا يحل مَا دَامَت
حَائِضًا، فَلَا يفهم من ذَلِك حلّه إِذا انْقَطَعت
حَيْضَتهَا، فَإِنَّهُ لم يُصَرح بذلك، وَلَا يتضمنه أَيْضا
كَونه شرطا.
(2/91)
((127) فصل)
[675] اعْلَم أَن مَا جعل مَشْرُوطًا وَقَضِيَّة الْكَلَام،
فَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِيهِ إِذا كَانَ متوقع الْكَوْن
من قرب الْوُجُود فِي الِاسْتِقْبَال، وَلَا يتَحَقَّق ثُبُوته
إِثْبَات [79 - أ] شَرط متوقع فِي الِاسْتِقْبَال فَلَا يحسن
مِنْك أَن تَقول: لَا أضْرب زيدا / بالْأَمْس حَتَّى يقوم
عَمْرو، فَإِن الشَّرْط المتوقع لَا يسْتَند إِلَى مَاض،
وَكَذَلِكَ لَا يحسن من الْقَائِم فِي قِيَامه الْكَائِن فِي
الْحَال، وإيضاح ذَلِك بالمثال، أَن تَقول لَا أضْرب زيدا
حَتَّى يقوم عَمْرو، إِنَّمَا أردْت نفي الضَّرْب فِي
الِاسْتِقْبَال، وَلَا يحسن مِنْك أَن تَقول: لَا أضْرب زيدا
بالْأَمْس حَتَّى يقوم عَمْرو، فَإِن الشَّرْط المتوقع لَا
يسْتَند إِلَى مَاض وَكَذَلِكَ لَا يحسن من الْقَائِم فِي
قِيَامه أَن يَقُول: لَا أقوم حَتَّى يقوم زيد، وَهُوَ قَائِم
فِي حَال صُدُور القَوْل مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَلِك لِأَن مَا
جعل مَشْرُوطًا لَا يتَحَقَّق ثُبُوته إِلَّا مَعَ شَرطه،
فَإِذا علق على مَا انْقَضى مَشْرُوط سَيكون فقد أحَال، فَإِن
مَا مضى كَانَ عَارِيا عَن الشَّرْط فَكيف يحسن الْجمع بَين
ذَلِك وَبَين نِسْبَة الشَّرْط إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنى
الْكَائِن فِي الْحَال كَيفَ يجوز أَن يشْتَرط فِيهِ مَا
سَيكون، وَلَو كَانَ شرطا فِيهِ لقارنه. فَهَذَا فِي
الْمَشْرُوط.
[676] فَأَما الشَّرْط فقد زعم قوم أَنه لَا يجوز أَن يكون
شرطا إِلَّا بعد أَن يكون متوقعا فِي الِاسْتِقْبَال كَمَا لَا
يكون الْمَشْرُوط إِلَّا مُسْتَقْبلا.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَهَذَا فِيهِ نظر، فقد يَقع
الشَّرْط كَائِنا فِي
(2/92)
الْحَال وَذَلِكَ أَنه يحسن مِنْك أَن
تَقول: إِن كَانَ زيد الْيَوْم رَاكِبًا قُمْت غَدا فيوافق
وجود الشَّرْط لفظك ويتقدم على الْمَشْرُوط.
[677] وأغلب الشُّرُوط تقع مُسْتَقْبلَة كالمشروط وَقد تقع
مُقَارنَة اللَّفْظ مُتَقَدّمَة على الْمَشْرُوط كَمَا صورنا
فِي قَوْله: إِن كَانَ زيد السَّاعَة قَائِما قُمْت غَدا
وَلَكِن فِي هَذَا الْقسم شَرط وَهُوَ أَن يكون فِي الْكَلَام
إنباء عَن إِضَافَة إِلَى انطواء عَاقِبَة أَو عدم علم إِمَّا
فِي الْمُخَاطب وَإِمَّا فِي الْمُخَاطب وَإِن لم يكن كَذَلِك
كَانَ تَحْقِيقا، وَلم يكن شرطا. وَبَيَان ذَلِك أَن زيدا لَو
كَانَ قَائِما بِمحضر من خَالِد، وَبكر، فَقَالَ خَالِد لبكر:
إِن كَانَ زيد قَائِما فسأقوم غَدا فَهَذَا لَا يُسمى شرطا بل
هُوَ تَحْقِيق، فَكَأَنَّهُ يَقُول: فَكَمَا تحقق لَك قِيَامه
فسيتحقق لَك قيامي.
وَأما إِذا كَانَ قيام زيد مغيبا عَن الْمُخَاطب مجوزا فِي
حَقه أَو فِي حق الْمُخَاطب فَيجوز أَن يكون ذَلِك شرطا.
((128) فصل)
[678] الشَّرَائِط الْعَقْلِيَّة والشرعية والنطقية لَا تخْتَص
بِوُجُود، فقد يكون الْعَدَم شرطا لحكم لحكم عقلا وَشرعا
ونطقا، ويتبين ذَلِك فِي الْعقل أَنا كَمَا نشترط فِي وجود
السوَاد وجود مَحَله فَكَذَلِك نشترط عدم ضِدّه لتصور قِيَامه
بِالْمحل، وتصوير ذَلِك فِي الشرعيات والنطقيات مِمَّا لَا
ينْحَصر لكثرته وَهُوَ كَمَا أَنا نشترط عدم الْقُدْرَة فِي
اسْتِعْمَال المَاء فِي جَوَاز التَّيَمُّم، وَعدم الْقُدْرَة
على الرَّقَبَة فِي الْمصير إِلَى الصَّوْم، إِلَى غير ذَلِك.
(2/93)
(129) فصل
[679] اعْلَم أَن الشَّرْط قد يكون زمانيا، رب وَقد يكون
مكانيا، وَقد يكون فعلا، [79] وَقد يكون وَصفا / ونعتا، وَقد
يكون دَاخِلا تَحت مَقْدُور الْمُخَاطب، وَقد يكون خَارِجا عَن
مقدوره.
وَبَيَان ذَلِك بالأمثلة:
فَأَما الشَّرْط بِالزَّمَانِ فنحو قَوْله تَعَالَى: {أقِم
الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} ، فقد جعل دلوك الشَّمْس شرطا فِي
إِقَامَة الصَّلَاة.
وَأما الشَّرْط الْمُتَعَلّق بِالْمَكَانِ فنحو قَول
الْقَائِل: إِذا رَأَيْت فلَانا بالعراق فَأكْرمه، وَنَحْو
شَرط الْمَسْجِد فِي صِحَة الِاعْتِكَاف.
وَأما كَون الصُّوف شرطا فنحو قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ
مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} .
(2/94)
وَقد يكون الْوَصْف فِي الْمُخَاطب، وَقد
يكون فِي غَيره، نَحْو قَوْلك: اشرب المَاء إِن كَانَ عذبا،
وتجنبه إِن كَانَ أجاجا.
وَقد يكون الشَّرْط مُتَعَلقا بِغَيْر الْمُكَلف خَارِجا عَن
مقدوره وَهُوَ نَحْو شرطنا فِي وجوب الْجُمُعَة حُضُور
أَرْبَعِينَ فِي أَوْصَاف مضبوطة وحضورهم لَا يتَعَلَّق
باقتدار كل مُكَلّف.
(130) فصل
[680] اعْلَم أَن كل مَا ثَبت شرطا فِي كَون الشَّيْء
مَأْمُورا بِهِ لَا يدل بِنَفسِهِ على إجزائه، وَكَذَلِكَ
الشَّرْط فِيهِ لَا ينبىء عَن الْإِجْزَاء فِيهِ أَيْضا،
وَهَذَا مِمَّا قدمْنَاهُ.
(131) فصل
(681] اعْلَم أَن الْخطاب إِذا اشْتَمَل على جمل تستقل كل
وَاحِدَة مِنْهَا لَو قدرت مُفْردَة وَقد نيطت وَاحِدَة
مِنْهَا بِشَرْط فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك تعلق الشَّرْط
(2/95)
بِالْكُلِّ وَكَذَلِكَ إِذا تَتَابَعَت
أَلْفَاظ عَامَّة ثمَّ ثَبت التَّخْصِيص فِي بَعْضهَا فَلَا
يُوجب تَخْصِيصه تَخْصِيص مَا عداهُ إِذا اسْتَقَلت كل جملَة
بِنَفسِهَا، وَكَذَلِكَ قد يتوالى أَمْرَانِ، وَأَحَدهمَا
عِنْد الْقَائِلين بِالْوُجُوب مَحْمُول على حَقِيقَته فِي
اقْتِضَاء الْإِيجَاب، وَالثَّانِي مَصْرُوف عَن حَقِيقَته،
وأمثلة ذَلِك.
فَأَما إِذا قُلْنَا أَن بعض الْخطاب قد يخْتَص مَعَ تَعْمِيم
بعضه فَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثلثة قُرُوء} إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك} .
فالمطلقات فِي صدر الْآيَة تعم الباينات والرجعيات. وَقَوله:
{وبعولتهن أَحَق بردهن} مُخْتَصّ بالرجعيات وَكَذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى: {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم
لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرشتم} فَهَذَا يعم الصَّغَائِر
والكبائر والمحجورات والمطلقات، ثمَّ قَالَ فِي آخر الْآيَة:
{إِلَّا أَن يعفون} ، فاختص ذَلِك بالمطلقات العاقلات.
[682] وَأما تتَابع الْأَوَامِر فِي سِيَاق من الْكَلَام مَعَ
اخْتِلَاف الْمَقَاصِد فنحو قَوْله تَعَالَى: {كلوا منثمره
إِذا أثمر وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده}
(2/96)
فَقَوله تَعَالَى:: {كلوا من ثمره} على
الْإِبَاحَة أَو النّدب دون الْإِيجَاب، وَقَوله تَعَالَى:
{وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده} مَحْمُول على الْوُجُوب،
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا
واءتوهم} .
فَمن زعم من الْفُقَهَاء أَن الإيتاء وَاجِب حمل قَوْله:
{فكاتبوهم} . على النّدب وَقَوله: {وءاتوهم} على الْإِيجَاب،
وَكَذَلِكَ قَوْله: (فطلقوهن
(2/97)
[80 / أ] لعدتهن / وأحصوا وَالْعدة) وتكثر
نَظَائِر ذَلِك فِي السّنة، مِنْهَا: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: " أَلا فزوروها وَلَا تَقولُوا هجرا " وَمِنْهَا:
قَوْله: " انتبذوا فِي الظروف " وَاجْتَنبُوا كل مُسكر " وتكثر
نَظَائِر ذَلِك.
(2/98)
(132) بَاب
ذكر جمل مَا يخصص بِهِ مَعَ تَبْيِين أقسامها
[683] اعْلَم أَن مَا يَقع بِهِ تَخْصِيص الْأَلْفَاظ
الْعَامَّة على مَذَاهِب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ يَنْقَسِم
إِلَى أَدِلَّة يقطع بهَا، وتفضي إِلَى الْعلم، وَإِلَى مَالا
تُفْضِي إِلَى الْقطع، وَلَا يُفْضِي إِلَى الْعلم.
فَأَما الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْقطع فَمِنْهُ أَدِلَّة
الْعقل، وَمِنْه النُّصُوص الْمَقْطُوع بهَا الَّتِي لَا تقبل
التَّأْوِيل وَالصرْف عَن مقتضاها وفحواها، لَا حَقِيقَة وَلَا
مجَازًا، وَمِنْهَا الْإِجْمَاع.
وَأما الإمارات المنصوبة على اقْتِضَاء الْأَفْعَال دون
الْعُلُوم فَهِيَ كأخبار الْآحَاد الَّتِي مِنْهَا
الْأَقْوَال.
وَمِنْهَا أَفعَال الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْقَائِمَة مقَام الْأَقْوَال، على مَا سنفصل القَوْل فِيهَا
إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِنْهَا: المقاييس مَعَ اخْتِلَاف رتبها.
وَمِنْهَا: آثَار الصَّحَابَة على مَذْهَب من يَرَاهَا حجَّة.
وَنحن نتكلم أَولا فِي الْأَدِلَّة القاطعة، ثمَّ ننعطف على
الإمارات الدَّالَّة على الْأَفْعَال دون الْعُلُوم
(2/99)
[684] ونبدأ بِدلَالَة الْعقل.
فَاعْلَم أَن الْعقل مِمَّا يخصص بِهِ الْعُمُوم وَالْمعْنَى
بقولنَا أَنه يخصص بِهِ الْعُمُوم، أَن الصِّيغَة الْعَامَّة
فِي مَذَاهِب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ إِذا وَردت وَاقْتضى
الْعُقَلَاء امْتنَاع تعميمها فنعلم من جِهَة الْعقل أَن
المُرَاد خُصُوص فِيمَا لَا يحيله الْعقل، فَهَذَا هُوَ
الْمَعْنى بالتخصيص، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ أَن الْعقل صلَة
(2/100)
للصيغة نازلة منزلَة الِاسْتِثْنَاء
الْمُتَّصِل بالْكلَام، وَلَكِن المُرَاد بِهِ مَا قدمْنَاهُ
من أَنا نعلم بِالْعقلِ أَن مُطلق الصِّيغَة لم يرد تعميمها.
[685] وَقد أنكر بعض النَّاس تَخْصِيص الْعُمُوم بِدلَالَة
الْعقل وَلَو ورد
(2/101)
ذَلِك الِاخْتِلَاف إِلَى التَّحْصِيل آل
الِاخْتِلَاف إِلَى التناقش فِي عبارَة لَا طائل تحتهَا.
[686] وَالْأولَى فِي مفاتحة من يخالفك أَن تستدل بأتي من
الْكتاب منطوية على صِيغ الْعُمُوم، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى:
{الله خلق كل شَيْء} ، وَقَوله: {أَن الله على كل شَيْء قدير}
. فَظَاهر الشَّيْء ينْطَلق على الْقَدِيم والحادث، ثمَّ
عرفنَا بِدلَالَة الْعقل أَن الْقُدْرَة لَا تتَعَلَّق
بِذَاتِهِ وَإِن كَانَ شَيْئا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:
{يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء رزقا} . عرفنَا بقضية
الْعُقُول فِي مجاري الْعَادَات أَن ثَمَرَات جملَة الاشياء
لَا تجبى إِلَيْهَا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على
النَّاس حج الْبَيْت} فَظَاهر اسْم النَّاس مَحْمُول على
الْعُقَلَاء والمجانين، وَعلمنَا بِالْعقلِ حمله على
الْعُقَلَاء دون المجانين إِلَى
(2/102)
غير ذَلِك من ظواهر الْكتاب وَالسّنة
فَلَيْسَ فِيهَا صلات من حَيْثُ اللَّفْظ تحملهَا على بعض
مسمياتها، وَلَكنَّا عرفنَا بقضية الْعقل فِي معتصمنا هَذَا
أَن المُرَاد بهَا خُصُوص، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى
جَحده.
[687] وأمثال ذَلِك متقرر فِيمَا يتفاوض بِهِ أهل اللُّغَات
فَإِن من قَالَ: رَأَيْت النَّاس عرفنَا بقضية الْعُقُول أَنه
يَسْتَحِيل أَن يرى هُوَ جملَة النَّاس فِي [80 / ب] مجاري
الْعَادَات، فنعلم / أَنه مَا أَرَادَ كلهم.
[688]] فَإِن قيل: فَكيف تكون دلَالَة الْعقل مخصصة وَهِي قد
تسبق على الْعُمُوم الْوَارِد، وَمن شَرط الْمُخَصّص أَن يكون
مُتَّصِلا بالْكلَام الْمُخَصّص إِمَّا مُتَأَخِّرًا عَنهُ،
وَإِمَّا مُتَقَدما عَلَيْهِ على الِاتِّصَال كالاستثناء.
فَيُقَال لَهُم: تصور الْمَسْأَلَة يغنيكم عَن هَذَا
التَّأْوِيل، فَإنَّا قدمنَا أَنا لَا نعني بالتخصيص بِدلَالَة
الْعقل كَون الْعقل صلَة للْكَلَام فَيلْزم ذَلِك مَا
ألزمتموه، وَإِنَّمَا [نعني] بذلك أَنا نعلم بقضية الْعقل أَن
المُرَاد بالصيغة خُصُوص.
[689] فَإِن قيل: فَنحْن نقُول بذلك، وَلَا نسمي ذَلِك
تَخْصِيصًا.
(2/103)
قُلْنَا: فالمقصد الِاتِّفَاق فِي
الْمعَانِي وَلَا معنى للمناقشة فِي الْعبارَة
[690] فَإِن قيل: إِنَّمَا يخصص من اللَّفْظ مَا يُمكن دُخُوله
تَحْتَهُ وَالَّذِي يحيله الْعقل يَسْتَحِيل دُخُوله تَحت
اللَّفْظ ليقدر تخصصه فِيهِ.
قيل لَهُم: هَذَا من النمط الَّذِي قدرتموه، وَهَذَا اعْتِرَاف
مِنْكُم بِالْمَقْصُودِ فَإِن محصول كلامنا يؤول إِلَى أَنا
نعلم عقلا أَن الصِّيغَة غير عَامَّة، فقولكم مَا يحيله الْعقل
لَا يدْخل تحتاللفظ تَأْكِيد مِنْكُم لمرامنا، فَإِن مقصدنا
أَن نبين أَنه تبين فِي الْعقل أَن الصِّيغَة غير عَامَّة،
وَلَيْسَ يقْصد أَن يثبت عُمُوما أَولا ثمَّ يعقبه باستخراج
بعض المسميات من قَضِيَّة اللَّفْظ، لَا فَإِنَّهُ لَو ثَبت
ذَلِك كَانَ ذَلِك نسخا وَلم يكن تَخْصِيصًا فَإِن التَّخْصِيص
تَبْيِين المُرَاد بِاللَّفْظِ، لَا رَفعه بعد ثُبُوته، فَتبين
الْمَقْصُود، ووضح أَن قصارى الْكَلَام يعود إِلَى عبارَة
تنَازع فِيهَا.
(133 (فصل
\
[691] إِذا وَردت صِيغَة يعم مثلهَا عِنْد أَهلهَا وَلَكِن
أَجمعت الْأمة على أَنَّهَا لاتجري على شمولها فالإجماع مُخَصص
(2/104)
لَهَا وَالْمعْنَى بِكَوْنِهِ مُخَصّصا
أَنا نتبين بِهِ المُرَاد، من الصِّيغَة كَمَا [قَررنَا] فِي
دلَالَة الْعقل، ولسنا نعني بذلك نصف الْإِجْمَاع صلَة فِي
اللَّفْظ، وَقد خَالف فِي ذَلِك من خَالف فِي دلَالَة الْعقل.
(134) فصل
[692 -] اعْلَم، وفقك الله، أَن التَّخْصِيص إِنَّمَا
يتَحَقَّق فِي الصِّيَغ الدَّالَّة على الْكَلَام الْقَائِم
بِالنَّفسِ، فَأَما الْكَلَام الْحَقِيقِيّ الْقَائِم
بِالنَّفسِ فَلَا يتَصَوَّر التَّخْصِيص فِيهِ فَإِنَّهُ وصف
ثَبت لنَفسِهِ على مَا هُوَ عَلَيْهِ من وَصفه وَلَا يسوغ
تَقْدِير وَصفه وجنسه، فَإِذا قَامَ بِالنَّفسِ كَلَام
مُتَعَلق بالمسميات عُمُوما فَلَا يتَصَوَّر تخصيصها فَإِن
تخصيصها قلب جِنْسهَا، وَكَذَلِكَ الْكَلَام الْخَاص الْقَائِم
بِالنَّفسِ لَا يتَصَوَّر تعميمه فَإِنَّهُ فِيهِ قلب جنسه،
وَهَذَا كَمَا لَا يتَصَوَّر قلب الْإِرَادَة علما وَالْعلم
حَرَكَة، إِلَى غير ذَلِك من الْأَجْنَاس.
(2/105)
فَيخرج لَك من هَذِه الْجُمْلَة أَن
الْخُصُوص بعد تخيل الْعُمُوم وتوقعه إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي
الصِّيَغ وَهِي الْعبارَات دون حَقِيقَة الْكَلَام.
[693] وَيَتَرَتَّب على هَذِه الْجُمْلَة أَن كَلَام الرب
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسْتَحِيل تَخْصِيص عَامَّة وتعميم
خَاصَّة، فَإِن كَلَامه معنى قائ بِنَفسِهِ [81 / أ] متصفا /
بالاتحاد مُتَعَلق بمتعلقاته، يجل ويتقدس عَن التَّغْيِير
والتبديل، وَهَذَا وَإِن كَانَ يتَعَلَّق بالديانات فَلَا يَد
أَن تحيط علما بِهِ.
فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِي التَّخْصِيص بِدلَالَة الْعقل
وَالْإِجْمَاع، وَأما النُّصُوص فَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهَا
فِي أَبْوَاب الْبَيَان إِن شَاءَ الله.
(135) القَوْل فِي تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب وَالسّنة
الْمَقْطُوع بهَا باخبار الْآحَاد
[694] اعْلَم وفقك الله أَن هَذَا بَاب عظم اخْتِلَاف
الْعلمَاء فِيهِ فَذهب ذاهبون إِلَى نفي أَخْبَار الْآحَاد
جملَة، فَلَا تفِيد مكالمتهم فِي الْبَاب قبل إِثْبَات
أَخْبَار الآحادعليهم وَسَيَأْتِي فِي ذَلِك أَبْوَاب مقنعة
إِن شَاءَ الله.
[695] وَأما الْقَائِلُونَ بِقبُول أَخْبَار الْآحَاد الصائرون
إِلَى أَنَّهَا توجب الْعَمَل افْتَرَقُوا فرقا فَذهب بَعضهم
إِلَى أَن الْعُمُوم يخصص بأخبار الْآحَاد
(2/106)
وَزعم هَؤُلَاءِ: أَن الْأَدِلَّة قد دلّت
عَلَيْهِ.
وَقد ذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يجوز تَخْصِيص الْعُمُوم
بأخبار الْآحَاد وَقَالَ هَؤُلَاءِ قد دلّت الدّلَالَة على منع
التَّخْصِيص بأخبار الْآحَاد.
(2/107)
وَذَهَبت طَائِفَة مِنْهُم عِيسَى بن أبان
إِلَى أَن الْعُمُوم إِن دخله التَّخْصِيص بطرِيق يقطع بِهِ
جَازَ [تَخْصِيصه] بِخَبَر الْوَاحِد وَإِن لم يدْخلهُ
التَّخْصِيص أصلا فَلَا يجوز افْتِتَاح تَخْصِيصه بِخَبَر
الْوَاحِد وَهَذَا مَبْنِيّ على
(2/108)
أصل لَهُ قد قدمْنَاهُ، وَهُوَ أَن
الْعُمُوم إِذا خص بعضه صَار مُجملا فِي بَقِيَّة المسميات،
لَا يسوغ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِيهَا، فَيجْعَل الْخَبَر على
التَّحْقِيق مثبتا حكما ابْتِدَاء، وَلَيْسَ سَبيله سَبِيل
التَّخْصِيص إِذا حققته، فَإِنَّهُ لَا يجوز الِاسْتِدْلَال
بِاللَّفْظِ الْمُجْمل فِي عُمُوم وَلَا خُصُوص قبل وُرُود
الْخَبَر وَبعده، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه يجوز أَن يتعبد
بتخصيص الْعُمُوم بِخَبَر الْوَاحِد، وَيجوز أَن يتعبد بالتمسك
بِالْعُمُومِ وَترك خبر الْوَاحِد، وَكِلَاهُمَا جَائِز عقلا،
وَلم تدل دلَالَة على أحد الْقسمَيْنِ.
[696] وَمَا اخْتَارَهُ القَاضِي - رَضِي الله عَنهُ - مَعَ
تَقْرِير القَوْل بِالْعُمُومِ أَن الْخَبَر الْمَنْقُول
بطرِيق لَا يُوجب الْقطع مَعَ الْعُمُوم الثَّابِت أَصله
بطرِيق يُوجب الْقطع إِذا اجْتَمَعنَا ولوقدرنا التَّمَسُّك
بالْخبر لزم تَخْصِيص صِيغَة الْعُمُوم، وَلَو قَدرنَا
إِجْرَاء الصِّيغَة على ظَاهرهَا فِي اقْتِضَاء الْعُمُوم لزم
ترك الْخَبَر فَإِذا تقابلا فيتعارضان فِي الْقدر الَّذِي
يَخْتَلِفَانِ فِيهِ وَلَا يتَمَسَّك بِوَاحِد مِنْهُمَا
ويتمسك بالصيغة الْعَامَّة فِي بَقِيَّة المسميات الَّتِي لم
يَتَنَاوَلهَا
(2/109)
الْخَبَر الْخَاص فَينزل الْخَبَر مَعَ
الْعُمُوم فِيمَا يخْتَلف فِيهِ ظاهرهما منزلَة خبرين [مختلفي]
الظَّاهِر نقلا مطلقين.
وعول فِيمَا صَار إِلَيْهِ على أَن القَوْل: إِذا قَررنَا
القَوْل بِالْعُمُومِ فَلَا يمكننا ادِّعَاء الْقطع فِيهَا،
فَإِنَّهَا عرضة التَّأْوِيل وَجوز مَعَ القَوْل بالشمول أَن
المُرَاد بِهِ الْخُصُوص وَقد اقترنت بِهِ قرينَة اقْتَضَت
تَخْصِيصًا، بيد أَنا كلفنا أَن نعمل بقضية الشُّمُول.
وَكَذَلِكَ أصل نقل خبر الْوَاحِد مِمَّا لَا يثبت قطعا فَإِن
نقلته غير [81 / ب] معصومين / عَن الزلل، وَلَكنَّا كلفنا
الْعَمَل بِهِ على مَا نُقِيم الدّلَالَة عَلَيْهِ إِن شَاءَ
الله تَعَالَى. فقد سَاوَى الْخَبَر ظَاهر الْعُمُوم فِي أَن
وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يُفْضِي إِلَى الْعلم الْمَقْطُوع بِهِ
وَلَيْسَ أَحدهمَا بالتمسك بِهِ أولى بِهِ من الآخر فَلَزِمَ
الْمصير إِلَى التَّعَارُض.
وأوثق مَا اعْتصمَ بِهِ أَن قَالَ: إِذا أبطلنا شُبْهَة
المتمسكين بظاهرالعموم التاركين للْخَبَر، وأبطلنا شُبْهَة
المتمسكين بالْخبر الصائرين إِلَى ترك ظَاهر الْعُمُوم فَلَا
يبْقى بعد بطلَان شُبْهَة الطَّائِفَتَيْنِ إِلَّا
التَّعَارُض.
(2/110)
[697] شُبْهَة الْقَائِلين بِأَن
التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ أولى إِذا ثَبت اصله مَقْطُوعًا
بِهِ: فَإِن قَالُوا: أصل عُمُوم الْكتاب ثَبت قطعا، وَأما خبر
الْوَاحِد فَلم يثبت قطعا والتمسك بِمَا ثَبت أَصله قطعا أولى.
فَالْجَوَاب على ذَلِك من أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول: لَو كَانَ
على مَا قلتموه لزمكم على منع التَّمَسُّك بِخَبَر الْوَاحِد
لَو قدر مُجَردا عَن مُعَارضَة عُمُوم.
ثمَّ نقُول: لَو كُنَّا نتشبث بالْخبر إِلَى رفع أصل الْعُمُوم
لَكَانَ مَا ذكرتموه يتَحَقَّق، وَنحن لَا نصير إِلَى ذَلِك
اصلا، فَإِن القَوْل بِهِ ذهَاب إِلَى النّسخ، وَقد ثَبت أَن
مَا ثَبت قطعا لَا ينْسَخ بِمَا لم يثبت قطعا فَإِنَّمَا يؤول
الْكَلَام إِلَى اقْتِضَاء الشُّمُول، وَكَون اللَّفْظ مقتضيا
للشمول لَيْسَ بثبات قطعان وَمَا هُوَ ثَابت قطعا، لَا يرفض
بِخَبَر الْوَاحِد فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، وَتبين أَن
اقْتِضَاء اللَّفْظ للْعُمُوم مِمَّا لَا يقطع بِهِ وَلكنه
يَقْتَضِي الْعَمَل، وَكَذَلِكَ خبر الْوَاحِد لَا يَقْتَضِي
الْعلم وَيُوجب لعمل.
[698] فَإِن قيل: فَنحْن نعلم أَن اللَّفْظ الْعَام يَقْتَضِي
الْعَمَل بِالْعُمُومِ؟
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ نعلم أَن خبر الْوَاحِد مَعَ كَونه مشكوكا
فِي أَصله يَقْتَضِي
(2/111)
الْعَمَل كَمَا تَقْتَضِي شَهَادَة
الشُّهُود على القَاضِي إبرام الحكم مَعَ انه لَا يستيقن
صدقهم.
[699] فَإِن قيل: إِنَّمَا يجب الْعَمَل بالْخبر إِذا لم
يُعَارض عُمُوما.
قُلْنَا: وَإِنَّمَا يجب الْعَمَل بِالْعُمُومِ إِذا لم
يُعَارض خَبرا فتصادم الْقَوْلَانِ.
[700] شُبْهَة أُخْرَى للمتمسكين بِالْعُمُومِ، فَإِن قَالُوا:
لَو جَازَ تَخْصِيص الْعُمُوم بِخَبَر الْوَاحِد جَازَ نسخ
النُّصُوص بأخبار الْآحَاد.
قُلْنَا: هَذِه دَعْوَى، فَلم زعمتم ذَلِك وَمَا الْجَامِع
بَين الْأَصْلَيْنِ؟
ثمَّ نقُول: نسخ حكم النَّص بِخَبَر الْوَاحِد مِمَّا لَا
يستبعد عقلا، حَتَّى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَو كلفنا صَاحب
الشَّرِيعَة الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد قطعا وَلَكِن قَامَت
الْإِجْمَاع على منع نسخ النُّصُوص الثَّابِتَة قطعا
بأخبارالآحاد وَمَا انْقَطع إِجْمَاع مثله فِي منع
التَّخْصِيص.
(2/112)
ثمَّ يُقَال: النّسخ: رفع الحكم الثَّابِت
قطعا، والتخصيص سَبيله سَبِيل الْبَيَان إِذا نقصد بالتخصيص
تَبْيِين أَن المُرَاد بالصيغة الإختصاص بِبَعْض المسميات.
فَلم يسغْ اعْتِبَار أَحدهمَا بِالثَّانِي. فَهَذَا مَا عولت
إِلَيْهِ الفئة.
[701] فَأَما من قطع القَوْل بتخصيص الْعُمُوم بالْخبر الْخَاص
فقد اسْتدلَّ بَان الْعُمُوم عرضة للتأويل، واللفظة المنقولة
عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة لَا تقبل
التَّأْوِيل فالتمسك بهَا وتنزيل الْمُحْتَمل عَن قضيتها تها
أولى وَأَحْرَى.
فَيُقَال لهَؤُلَاء: مَا قررتمونا من الِاحْتِمَال فِي
اقْتِضَاء اللَّفْظ للْعُمُوم يَتَقَرَّر مثله فِي اصل نَقله
الْآحَاد، فَإنَّا كَمَا لَا نقطع / باقتضاء الْعُمُوم،
فَكَذَلِك [82 / أ] لَا نقطع بِثُبُوت أصل الْخَبَر، فالاحتمال
فِي أحدهم كالاحتمال فِي الثَّانِي، وَلَو قدر كل وَاحِد
مِنْهُمَا مُجَردا لزم التَّمَسُّك بِهِ، فَإِذا تقاومت
الْبَيِّنَة لزم الْمصير إِلَى التَّعَارُض.
[702] وَرُبمَا يسْتَدلّ بعض الطوائف الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ
بقصص فِي زمَان أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَرَضي عَنْهُم، وَلَا بُد من ذكرهَا ومعارضتها بأمثالها.
حَتَّى تتقاوم طرق التَّمَسُّك بهَا.
فَإِن قَالَ المتمسكون بِالْعُمُومِ: قد رُوِيَ أَن فَاطِمَة -
رَضِي الله
(2/113)
عَنْهَا - بنت قيس رَوَت أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَجْعَل للمبتوتة نَفَقَة وَلَا
سُكْنى، فَقَالَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ -: لَا
نَدع كتاب رَبنَا بقول امْرَأَة لَعَلَّهَا وهمت، أونسيت
(2/114)
وتلا قَوْله تَعَالَى: {أسكنوهن من حَيْثُ
سكنتم من وجدكم} وَوجه التَّمَسُّك بِهَذِهِ الْقِصَّة أَن عمر
رَضِي الله عَنهُ رأى التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ أولى من قبُول
الْخَبَر الَّذِي روته فَاطِمَة.
قيل: قد قابلكم مخالفكم بقصص ترك أَصْحَاب رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الْعُمُوم فِيهَا بالأخبار.
مِنْهَا: أَنهم تركُوا ظَاهر قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحرمَات
بِمَا روى أَبُو هُرَيْرَة فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَأحل
لكم مَا وَرَاء ذَلِك} ، فَاقْتضى ذَلِك تَحْلِيل سوى
الْمَذْكُورَات فِي آيَة الْمُحرمَات، وروى أَبُو هُرَيْرَة
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَا تنْكح
الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا ".
(2/115)
وخصوا عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم
الله فِي أولدكم} مَعَ أَوْلَادكُم مَعَ تنَاوله للْقَاتِل من
الْأَوْلَاد، بِمَا رَوَاهُ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَيْسَ للْقَاتِل من
الْمِيرَاث شَيْء ".
وَكَذَلِكَ خصصوا ظَاهر تَوْرِيث الْأَوْلَاد فِي حق فَاطِمَة
رَضِي الله عَنْهَا بِمَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: " إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث " إِلَى
غير ذَلِك.
(2/116)
ثمَّ زعم هَؤُلَاءِ أَن حَدِيث فَاطِمَة
بنت قيس إِنَّمَا ترك لعِلَّة فِي نقلهَا فَلَمَّا استرابوا
فِيهَا لم يقبلُوا حَدِيثهَا فتقابلت الدعاوي إِذا، وَتعين بعد
ذَلِك الْمصير إِلَى التَّعَارُض.
وَأما الرَّد على من قَالَ: إِن الْخَبَر يقبل فِي عُمُوم دخله
التَّخْصِيص بِدَلِيل قَاطع.
فَيُقَال: هَل تجوزون اسْتِعْمَال الصِّيغَة المحتملة من غير
وُرُود خبر فِي بَقِيَّة المسميات على التَّحْقِيق أم لَا
تجوزون ذَلِك؟ فَإِن حكمتم بالصيغة بِأَن بالتخصيص تصير مجملة
فقد سبق الْكَلَام عَلَيْكُم وَإِن زعمتم أَنَّهَا حَقِيقَة
فِي بَقِيَّة المسميات فَوجه الْكَلَام فِي بَقِيَّة المسميات
كوجه الْكَلَام فِي كلهَا.
(136) القَوْل فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ
[704] اخْتلف فِي هَذَا الْبَاب، وتميز من هَذَا الْبَاب
مَذْهَب نفاة الْعُمُوم، ونفاة الْقيَاس. فَإِن مَضْمُون
الْبَاب مترتب على القَوْل بهما عِنْد الِانْفِرَاد، فَمن
قَالَ [بهما] افْتَرَقُوا فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْعُمُوم
أولى من الْقيَاس وَإِلَيْهِ صَار طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين
وَإِلَيْهِ صَار ابْن مُجَاهِد من
(2/117)
اصحابنا، والجبائي وَابْنه، من
الْمُعْتَزلَة ثمَّ رَجَعَ ابْن الجبائي عَن هَذَا الْمَذْهَب،
وَصَارَ الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء من أَصْحَاب مَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة إِلَى وجوب تَخْصِيص الْعُمُوم
بِالْقِيَاسِ جليا كَانَ أَو خفِيا، [82 / ب] وَإِلَيْهِ صَار
شَيخنَا أَبُو الْحسن رَضِي الله عَنهُ، وَذهب شرذمة من
الْفُقَهَاء /
(2/118)
إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بالجلي من
الْقيَاس دون الْخَفي.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى التَّفْصِيل الَّذِي قدمْنَاهُ] فِي
الْبَاب السَّابِق فَقَالَ: إِن ثَبت بِدلَالَة قَاطِعَة فَلَا
يسوغ تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ.
[705] وكل مَا ذَكرْنَاهُ فِي الأقيسة الشَّرْعِيَّة، وَأما
الْعَقْلِيَّة فَإِنَّهَا قواطع، وَقد سبق الْكَلَام فِي
أَدِلَّة الْعقل.
[706] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره أَن
الْقيَاس إِذا عَارض الْعُمُوم لم يكن أَحدهمَا أولى من الآخر
فيتعارضان، وَيجب الِاشْتِغَال بِغَيْرِهِمَا من الْأَدِلَّة،
وَاسْتدلَّ على مَا صَار بِأَن قَالَ: قد ثَبت أَن اقْتِضَاء
الشُّمُول غير مَقْطُوع بِهِ، وَثُبُوت الْقيَاس على
[التَّعْيِين] فِي الصُّورَة الَّتِي
(2/119)
يجْتَمع فِيهَا والعموم غيرمقطوع بِهِ،
وَلم تثبت دلَالَة عقلية بتسليط أحدهم على الاخر، فَإِن الْعقل
يجوز كل وَاحِد مِنْهُمَا وَلَيْسَ فِي أَدِلَّة السّمع مَا
يُوجب ذَلِك الْمَعْنى فَإِن الْأَدِلَّة القاطعة السمعية
مضبوطة فَمِنْهَا النُّصُوص الثَّابِتَة قطعا، وَمِنْهَا
الْإِجْمَاع، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَة وَاحِد مِنْهُمَا.
ثمَّ أرْدف الدَّلِيل بِأَن قَالَ: أذكر شبه الْمُخْتَلِفين
فِي الْبَاب وأتتبعها بِالنَّقْضِ حَتَّى إِذا انتقضت وتقابلت
الْأَقْوَال فَلَا يبْقى إِلَّا مَا ارتضيت.
[707] شبه السائرين إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ.
فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: الْقيَاس إِذا ثَبت فَلَا يَصح
نَقله وَلَا التَّجَوُّز بِهِ وَلَا تَخْصِيصه، وَلَيْسَ
كالعموم فَإِنَّهُ يقبل التَّخْصِيص والتجوز، وللتوسع مجَال
فِي الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة، فَمَا لَا يقبل ذَلِك أولى
بالثبوت.
فَيُقَال لهَؤُلَاء: كل مَا قررتموه من الِاحْتِمَال فِي
الْعُمُوم يَتَقَرَّر اضعافه فِي الْقيَاس، فَإنَّا نجوز أَن
يكون الْقيَاس الَّذِي تمسك بِهِ الْمُخَصّص غير صَحِيح على
الشَّرَائِط، وَرُبمَا لم يستكمل الْمُجْتَهد أَوْصَاف
الِاجْتِهَاد، وَرُبمَا قصر فِي الِاجْتِهَاد، عَامِدًا اَوْ
مخطئا، وَرُبمَا قصر فِي استنباط وَجه الشّبَه فَلم يلْحق
الشَّيْء بمشابهه وَرُبمَا زل فِي الطّرق الَّتِي تثبت بهَا
الْعِلَل، فَتبين بذلك تقَابل الجائزات فِي أصل الْقيَاس.
(2/120)
[708] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا قَوْلنَا
فِي قِيَاس يَصح.
قُلْنَا: فلانتصور فِي المجتهدات قِيَاسا يقطع بِصِحَّتِهِ،
ثمَّ إِن صورتم قِيَاسا قَاطعا فصوروا صِيغَة يقطع بعمومها
فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا
[709] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، قَالُوا: فِي تَخْصِيص الْعُمُوم
بِالْقِيَاسِ اسْتِعْمَال إبِْطَال أَحدهمَا، واستعمالهما أولى
وعنوا بذلك أَن الْقيَاس الْمُخَصّص يتسلط على بعض مُقْتَضى
الْعُمُوم فَيبقى بَقِيَّة المقتضيات.
فَيُقَال: هَذَا محَال، فَإِن التَّعَارُض إِنَّمَا يتَحَقَّق
بَين الْقيَاس وَالْقدر الَّذِي يخصص من الْعُمُوم، فَأَما مَا
لَا يتَنَاوَلهُ الْقيَاس من قَضِيَّة الْعُمُوم فَلَا
يتَحَقَّق اجْتِمَاع الدَّلِيلَيْنِ فِيهِ.
وَالْمَقْصُود من ذَلِك أَن الْقدر الَّذِي تحقق اجْتِمَاع
اللَّفْظ وَالْقِيَاس فِيهِ تركْتُم فِيهِ قَضِيَّة اللَّفْظ،
وَالْقدر الَّذِي بَقِي من اللَّفْظ لم يمانعه الْقيَاس فَنزل
اللَّفْظ فِي بَاقِي المسميات منزلَة اللَّفْظ الْأُخْرَى
فَبَطل / ادِّعَاء اسْتِعْمَال [83 / أ] الدَّلِيلَيْنِ فِي
مَحل الِاجْتِمَاع فِي الدَّلِيلَيْنِ. 3 ب 710] شُبْهَة
الْقَائِلين بِتَقْدِيم الْعُمُوم على الْقيَاس.
فَإِن قَالُوا: الدَّلِيل على ذَلِك أَن الْعُمُوم من لفظ
صَاحب الشَّرِيعَة يجوز
(2/121)
أَن يكون أصلا للمقاييس وَهِي تتفرع عَنهُ
وتستنبط مِنْهُ فَإِنَّهُ إِذا ثَبت حكم بقضية عُمُوم سَاغَ
استنباط علته وإلحاق غَيره بِهِ وَإِذا ثَبت كَون الْعُمُوم
اصلا وَالْقِيَاس فرعا لم يستقم ترك الأَصْل بفرعه.
وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من أوجه أقربها أَن نقُول
لَيست كل المقاييس مستنبطة من المعلومات وَلَكِن مِنْهَا مَا
يستنبط من مواقع الْإِجْمَاع وَمن موارد النُّصُوص، وَإِطْلَاق
القَوْل بِأَن الْقيَاس والعبر فروع للعمومات غير مُسْتَقِيم،
وَإِن تصور أَن يكون فرعا لبَعض الْعُمُوم، فَإِن مَا يكون
للفظ لم يُقَابله قِيَاس يناقضه وَثَبت عُمُومه وَإِنَّمَا
نَحن فِي صِيغَة قابلها قِيَاس. ثمَّ التَّحْقِيق فِي ذَلِك
أَن نقُول: إِذا استنبطنا فِي ذَلِك قِيَاسا من مورد عُمُوم
تثبيت عُمُومه، وانتفى تَخْصِيصه فَإِن أردنَا أَن نخصص بِهِ
عُمُوما هُوَ عرضة التَّخْصِيص فَهَذَا الْقيَاس لَيْسَ بفرع
لهَذَا الْعُمُوم الَّذِي فِيهِ الْكَلَام وَإِنَّمَا فرع
لعُمُوم غَيره وَكَونه فرعا لغيره لَا يُوجب كَونه فرعا لَهُ.
[711] فَإِن قيل: فالعمومان مثلان؟
قُلْنَا: هَيْهَات فَإِن الْعُمُوم الَّذِي استنبط الْقيَاس من
موارده اسْتَقر عُمُومه وَلم يُعَارضهُ مَا يمْنَع تعميمه
وإجراءه على شُمُوله.
[712] فَإِن قيل: أجيزوا النّسخ بِالْقِيَاسِ، قُلْنَا: قد سبق
الْجَواب عَن مثل هَذَا السُّؤَال فِي الْمَسْأَلَة الأولى.
(2/122)
[713] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن
قَالُوا: الأقيسة الشَّرْعِيَّة تستند إِلَى عِلّة غير
مَنْطُوق بهَا وَلكنهَا مستنبط [تحريا] واجتهاداً والعموم
مَنْطُوق بِهِ والمنطوق بِهِ أولى.
قيل لَهُم: فَظَاهر مَا قلتموه يبطل عَلَيْكُم بِدلَالَة
الْعقل فَإِنَّهَا رُبمَا تكون عشير مَنْطُوق بهَا فِي دلالات
الشَّرِيعَة ثمَّ تخصص الصِّيَغ الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم، ثمَّ
نقُول من سلط الْقيَاس على التَّخْصِيص لَا يسلم لكم أَن
الشُّمُول مَنْطُوق بِهِ فَإِنَّهُ لَو سلم ذَلِك ثمَّ أدّعى
رفع مَا هُوَ مَنْطُوق بِهِ كَانَ نَاسِخا وَلكنه يَقُول
إِنَّمَا الْمَنْطُوق بِهِ مَا أُرِيد بِاللَّفْظِ، وَإِنَّمَا
اريد بِاللَّفْظِ الْقدر الَّذِي لم يُعَارضهُ فِيهِ قِيَاس.
[714] فَإِن قَالُوا: أَلَيْسَ قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ بن جبل: بِمَ تحكم يَا معَاذ؟ قَالَ:
بِكِتَاب الله، قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فان لم تَجِد؟ قَالَ:
اجْتهد رَأْيِي فأقره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
مَا قَالَه.
(2/123)
صفحة فارغة
(2/124)
يُقَال لَهُم: هَذِه اللَّفْظَة بِعَينهَا
من أَخْبَار الْآحَاد، وَإِن كَانَت قصَّة بعثة معَاذ مِمَّا
ثَبت تواترا، ثمَّ نقُول: فيلزمكم أَن لَا تخصصوا عُمُوم
الْكتاب بالْخبر الْمَنْقُول عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
تواترا فَإِن ظَاهر مَا قَالَه تَقْدِيم الْكتاب [على] جنس
السّنة. ثمَّ نقُول: لم يذكر فِيمَا ذَكرْنَاهُ حكم الْعقل
وَإِن كَانَ ينزل عَلَيْهِ جملَة ذكر المعلومات أولى.
[715] فَأَما وَجه الرَّد على الْفَاصِل بَين خَفِي الأقيسة
وجليها، فَإِنَّمَا يسْتَمر بَان نذْكر لَك فِي أَبْوَاب /
المقاييس مَرَاتِب الأقيسة على أَنا نقُول: [83 / ب] قِيَاس
الشّبَه يُوجب الْعَمَل مَعَ كَونه مظنونا فِي أَصله،
وَكَذَلِكَ الْعُمُوم فَإِذا
(2/125)
لم يتَحَقَّق فِي وَاحِد مِنْهُمَا قطع لم
يكن أَحدهمَا بالإسقاط بِأولى من الثَّانِي.
[716] فَإِن قَالَ قَائِل: فأقيسة الشّبَه اضعف، والعموم أظهر،
كَانَ ذَلِك قَول لَا يتَحَصَّل مِنْهُ طائل عِنْد الرَّد
إِلَى التَّحْقِيق فَإِن الْعلم لَا يطْلب من وَاحِد مِنْهُمَا
وَالْعَمَل يثبت بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا.
[717] ثمَّ إِن القَاضِي رَضِي الله عَنهُ لما أبطل شبه
الْقَوْم على وَجه يرشدك إِلَى إبِْطَال كل مَا يوردونه وَجه
فِي على نَفسه سؤالا وجده من أهم الأسئلة وَذَلِكَ أَنه قَالَ:
إِن قَالَ قَائِل: من صَار إِلَى التَّعَارُض فقد خرق
الْإِجْمَاع فَإِن من النَّاس من يقدم الْعُمُوم على الْقيَاس،
وَمِنْهُم من يقدم الْقيَاس، فَأَما الْمصير إِلَى التَّعَارُض
فَمَا صَار إِلَيْهِ أحد.
ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَنه قَالَ
مصيرنا إِلَى التَّعَارُض مصير إِلَى رد الْقيَاس فِي صُورَة
التَّعَارُض، ورد الْعُمُوم، وَقد قَالَ برد الْعُمُوم على
الْجُمْلَة قَائِلُونَ، وَقَالَ برد الْقيَاس آخَرُونَ، فَإِذا
جَمعنَا بَين المذهبين فِي صُورَة التَّنَازُع لَا ننتسب إِلَى
الْمُخَالفَة.
[718] فَإِن قيل: فَمن قَالَ بِالرَّدِّ عمم القَوْل فِيهِ،
فتخصيص هَذِه الصُّورَة بِالرَّدِّ مِمَّا لم يسْبقُوا
إِلَيْهِ.
قُلْنَا: هَذَا كَلَام لَا طائل تَحْتَهُ فَإنَّا قد ثبتنا أَن
عين مَا قُلْنَاهُ مَنْقُول فِي الْمذَاهب، وَمَا ذكرتموه من
التَّخْصِيص لَا يلْزمنَا مِمَّا فِيهِ كلامنا خرق
الْإِجْمَاع. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن طَائِفَة من الْعلمَاء
لَو صَارُوا إِلَى تَحْلِيل فِي صُورَة متباينة،، وَصَارَ
آخَرُونَ إِلَى التَّحْرِيم فِيهَا، فَلَو اجْتهد مُجْتَهد
فَأخذ
(2/126)
بقول المحللين فِي صُورَة، وَبقول المحرمين
فِي صُورَة أُخْرَى فَلَا يعد خارقا للْإِجْمَاع، فَإِن خرق
الْإِجْمَاع لَا يَتَقَرَّر فِي صُورَتَيْنِ مختلفتين وَهَذَا
مِثَال مَا ألزمونا.
[719] وَالْجَوَاب الآخر أَن الَّذين صَارُوا إِلَى رد
الْعُمُوم أَو الْقيَاس لَيْسُوا كل الْعلمَاء الَّذين ينْعَقد
بهم الْإِجْمَاع، فَإِن فِي النَّاس من نفى المقاييس فَلَا
يقوم الْحجَّة إِذا بالذين ردوا الْعُمُوم أَو الْقيَاس عِنْد
التَّعَارُض.
[720] فَإِن قيل: قد خالفتم نفاة الْقيَاس أَيْضا.
(2/127)
قُلْنَا: مَا خالفناهم فِي صُورَة
التَّنَازُع فَانْدفع السُّؤَال وانجلى الْإِشْكَال.
(137) القَوْل فِي يخصص الْعُمُوم
بقول الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ
[721] اخْتلف أَولا فِي أَن قَول الصَّحَابِيّ هَل ينْتَصب
حجَّة وسنقرر ذَلِك فِي آخر الْكتاب إِن شَاءَ الله عز وَجل.
فَمن لم يَجعله حجَّة و [هُوَ] مَا نختاره لم يتخصص بِهِ،
وَهُوَ كَمَا لَا يتخصص بقول وَاحِد من مجتهدي الْعَصْر.
وَمن رَآهُ حجَّة افْتَرَقُوا فِي ذَلِك فَمنهمْ من صَار إِلَى
تَخْصِيص الْعُمُوم بقول الصَّحَابِيّ وَقد [ينْسب] ذَلِك
إِلَى الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله الَّذِي
يُقَلّد الصَّحَابِيّ فِيهِ، وَنقل عَنهُ أَنه لَا يخصص بِهِ
إِلَّا إِذا انْتَشَر فِي
(2/128)
أهل الْعَصْر وَلم ينكروه، وَجعل / ذَلِك
نَازل منزلَة الْإِجْمَاع وَالَّذِي [84 / أ] يَصح أَن ذَلِك
لَا يكون إِجْمَاعًا لما سنقرره إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي
أَبْوَاب الْإِجْمَاع فَيخرج لَك من مَضْمُون مَا نختاره، أَن
قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة على الْمُجْتَهدين وَلَو
انْتَشَر فَلَا يكون إِجْمَاعًا، وَإِن اتّفق الْإِجْمَاع فقد
سبق القَوْل فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْإِجْمَاع.
[722] فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا قُلْتُمْ بتخصيص
الصَّحَابِيّ، فَإِن الظَّن بِهِ أَنه لَا [يخصصه] إِلَّا
بِمَا يُوجب تَخْصِيصه.
قُلْنَا: هَذَا بِعَيْنِه سُؤال من لم يلْزم قبُول قَوْله
وَيثبت ابْتِدَاء الْأَحْكَام. ثمَّ نقُول إِذا كَانَ بصدد
الزلل وَقد ثَبت عندنَا أَن من كَانَ هَذَا نَعته فَلَا يحْتَج
بقوله: فَكَمَا يجوز ترقب زلته فِي الإنباء عَن أصل
الْأَحْكَام فَكَذَلِك فِي الْإِخْبَار عَن التَّخْصِيص
والتعميم.
(138) القَوْل فِي أَنه هَل يجب تَخْصِيص الْعُمُوم بقول
الرَّاوِي أَو بمذهبه؟
[723] أما الْكَلَام فِي التَّخْصِيص بقول الصَّحَابِيّ وهم
الروَاة الناقلون
(2/129)
فقد سبق وَبينا أَن قَول الصَّحَابِيّ فِي
التَّخْصِيص لَا يلْزم قبُوله ويتنزل منزلَة قَوْله فِي سَائِر
الْأَحْكَام.
[724] فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِن نقل الصِّيغَة [الْعَامَّة]
وَذكر مَعَ ذَلِك أَنِّي اضطررت إِلَى برأة الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم التَّخْصِيص بقرائن الْأَحْوَال فَهَل يقبل
ذَلِك مِنْهُ؟
قُلْنَا: أجل، فَإِن هَذَا لَيْسَ من قبيل الإجتهاد،
وَإِنَّمَا هُوَ نقل مَا علمه اضطرارا وَنَقله مَقْبُول
وفَاقا، فَإِن كَانَ مَا يبْدَأ بِهِ اجتجاجا فَرُبمَا لَا
يقبل.
[725] فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِذا روى الصَّحَابِيّ خَبرا
ومذهبه بِخِلَاف ظَاهر عُمُوم اللَّفْظ الَّذِي نَقله، فَمَا
قَوْلكُم فِيهِ؟
قُلْنَا: مَسْأَلَتنَا عَن ذَلِك لَغْو مَعَ تصريحنا بِأَنَّهُ
لَو خصصه وَصرح بتخصيصه لم يلْزم قبُوله.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب بَعضهم إِلَى أَن
مَذْهَب الرَّاوِي إِذا اقْتضى نفي التَّعْمِيم خصص اللَّفْظ
الَّذِي نَقله وَذهب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ
(2/130)
إِلَى أَن مُجَرّد مذْهبه لَا يُوجب ذَلِك
وَلَكِن إِن صدر ذَلِك الْمَذْهَب ومصدره التَّأْوِيل والتخصيص
فَيقبل وتخصيصه أولى.
[726] وَأما الَّذِي ارتضيناه فَهُوَ أَن تَخْصِيصه كتخصيص أحد
مجتهدي الزَّمَان وَقد دللنا عَلَيْهِ بأوضح طَرِيق.
[727] فَإِن قيل: أَفَرَأَيْتُم لَو أظهر دَلِيلا؟
قُلْنَا: إِن كَانَ قَاطعا فالتخصيص بِهِ لَا بقول
الصَّحَابِيّ، وَإِن كَانَ من أَخْبَار الْآحَاد أَو من
المقاييس فقد يبْقى القَوْل فِي الْعُمُوم إِذا قابله خبر، أَو
قِيَاس، وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن الصَّحَابِيّ رَضِي الله
عَنهُ فِي ذَلِك لَا أثر لَهُ وَقَوله كَقَوْل غَيره. 3 [728]
فَإِن قيل: فَبِمَ تنكرون على من يَقُول إِذا أطلق
الصَّحَابِيّ التَّخْصِيص وَلم يسْندهُ إِلَى قِيَاس وَطَرِيق
اجْتِهَاد، فدلالته ثَبت عَنهُ نَص قَاطع؟
قيل: هَذَا محَال وَلَا يسوغ تثبيت النُّصُوص بِمثل هَذَا
وَلَيْسَ هَذَا الْقَائِل بأسعدحالا مِمَّن يقلب عَلَيْهِ
وَيَقُول لَو قَالَه عَن نَص لنقله، فانحسمت هَذِه الْأَبْوَاب
وَوَجَب قصر التَّخْصِيص / على الدّلَالَة. [84 / []
(2/131)
(139) القَوْل فِي الصَّحَابِيّ إِذا قدر
مَالا يدْرك تَقْدِيره بِالْقِيَاسِ هَل يحمل ذَلِك على أَنه
قدره توقيفا؟
[729] هَذَا الْبَاب يشْتَمل على فُصُول مُتَفَرِّقَة فِي
الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَنحن نجمع جملها فِي فُصُول إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
فصل
[730] ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ غير مُتَعَلق
بالخصوص والعموم مِمَّا شابهت أَدِلَّة الْمَسْأَلَة
السَّابِقَة، وَهِي التَّخْصِيص بقول الرَّاوِي، ذكره هَهُنَا.
فَإِذا نقل عَن الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ تَقْدِير فِي حد
اَوْ كَفَّارَة أَو نَحْوهَا فقد صَار أَصْحَاب أبي حنيفَة
إِلَى أَن نقل ذَلِك يدل على ثُبُوت خبر عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الصَّحَابِيّ إِذا نقل عَنهُ
التَّقْدِير وَهُوَ مِمَّا لَا يدْرك فِي المقاييس وَلَا نظن
بِهِ إبداع الحكم من تِلْقَاء نَفسه من غير دَلِيل فنعلم [أَنه
مَا] قَالَه إِلَّا عَن تَوْقِيف وَذهب بعض أهل الْعرَاق إِلَى
أَن ذَلِك القَوْل
(2/132)
الصَّادِر إِن صدر من مُجْتَهد فَلَا
يمكننا أَن نسنده إِلَى خبر، لجَوَاز أَن يكون قَالَه عَمَّا
ظَنّه اجْتِهَادًا صَحِيحا، وَإِن صدر عَمَّن لَيْسَ بمجتهد
وَهُوَ موثوق بِهِ فنعلم أَنه مَا قَالَه إِلَّا عَن غبر.
[31] وَالَّذِي يَصح عَن كَافَّة الْمُتَكَلِّمين وَأَصْحَاب
الشَّافِعِي أَنا لَا نقدر فِي هَذَا الْمِثَال خَبرا مَا لم
ينْقل صَرِيحًا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه رُبمَا يقدر بِاجْتِهَادِهِ ظَانّا
أَن التَّقْدِير بِالِاجْتِهَادِ جَائِزا، وَيجوز أَن لَا يكون
مُجْتَهدا ويظن نَفسه مُجْتَهدا أَو يكون مُجْتَهدا [فيزل] فِي
اجْتِهَاده أَو يُقَلّد صحابيا ويعتقد جَوَاز التَّقْلِيد
فَإِذا تقابلت هَذِه الجائزات استمال تثبيت خبر استنباطا.
[732] وَأما مَا عولوا عَلَيْهِ فِي صدر كَلَامهم فمبناه على
منع الْقيَاس فِي الْمَقَادِير وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك فانا
نستدل إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي تثببيت المقاييس فِي
المقدرات فِي أَبْوَاب الْقيَاس إِن شَاءَ الله تَعَالَى على
أَن نقُول وَإِن سلمنَا فِي منع الْقيَاس فوجوه الْغَلَط لَا
تنحسم فِي حق من لَا يعْصم وَلَا سَبِيل إِلَى تَقْدِير
الْأَخْبَار مَعَ تقَابل وُجُوه الْإِمْكَان.
[733] فَإِن قيل: فَلَو صدر مثل هَذَا القَوْل عَن صَحَابِيّ
ابْتَدَأَ ثمَّ اجمعت الْأمة على تصويبه فَمَا قَوْلكُم فِي
هَذِه الصُّورَة؟ هَل تَقولُونَ: إِن إِجْمَاعهم على تصويبه
دَال على تثبيت خبر.
قُلْنَا: هَذَا لَا يَنْقَسِم القَوْل فِيهِ فَإِن أَجمعُوا
على تصويبه وَلم يجمعوا على منع دركه بِالْقِيَاسِ
وَالِاجْتِهَاد فَيثبت الحكم قطعا، وَيبقى مَا يسْتَند
إِلَيْهِ
(2/133)
الْإِجْمَاع على التّرْك، فَيجوز أَن يكون
خَبرا، وَيجوز أَن يكون ضربا من الِاجْتِهَاد، وَإِن أَجمعُوا
على الحكم وعَلى منع الْقيَاس فِي مثله فيستند لحكم حِينَئِذٍ
إِلَى تَوْقِيف، فَإِن أَدِلَّة الشَّرْع الَّتِي يسْتَند
الْإِجْمَاع إِلَيْهَا لَا تخرج عَن لَفْظَة شَرْعِي مَعَ مَا
يَلِيق بِهِ من مُقْتَضَاهُ أَو عَن مستنبط من ثَابت بِلَفْظ
شَرْعِي، فَإِذا ثَبت الْإِجْمَاع انسد إِذا اُحْدُ
الْبَابَيْنِ [و] ثَبت الثَّانِي لَا محَالة.
(140) فصل [734] ذهب عِيسَى بن أبان إِلَى أَن إِمَامًا من
الْأَئِمَّة فِي الصَّحَابَة إِذا [85 / أ] بلغه خبر ثمَّ
رَأَيْنَاهُ يعْمل بِخِلَافِهِ فعمله / بِخِلَاف الْخَبَر
الَّذِي لَا يقبل التَّأْوِيل دَلِيل على أَنه مَنْسُوخ
وَاسْتشْهدَ بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَنه قَالَ " الْبكر بالبكر جلد مئة وتغريب عَام ". ثمَّ
رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب رَضِي
(2/134)
الله عَنهُ أَنه قَالَ: " لَا أغرب بعد
هَذَا أبدا ".
وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ كفى بِالنَّفْيِ فتْنَة
فعملهما مَعَ بُلُوغ الْخَبَر إيَّاهُمَا دَلِيل على نسخه،
فَإنَّا لَا نظن بِمن فِي مثل حَالهمَا الانحراف والحيد عَن
سنَن الْحق، وَلَا محمل فِي فعلهمَا سوى أَن نقُول عرفا نسخ
الحَدِيث فَلم يعملا بِهِ.
[735] وَهَذَا بَاطِل وَقد بَينا فِيمَا قدمنَا منع
التَّخْصِيص بِمُجَرَّد قَول الصَّحَابِيّ، والنسخ أرفع مِنْهُ
فَإِذا امْتنع التَّخْصِيص فالنسخ بذلك أولى، على أَنا نقُول:
فِي الِانْفِصَال عَمَّا خيل إِلَى عِيسَى بن أبان، لَعَلَّه
اعْتقد نسخه بِخَبَر مُرْسل نَقله إِلَيْهِ تَابِعِيّ،
والمراسيل لَيست بِحجَّة عندنَا، أَو لَعَلَّه اعْتقد تَخْصِيص
الْخَبَر بِحَال، أَو شخص، أَو وصف، أَو رِعَايَة مصلحَة
متخصصة بِزَمَان، وَالْأَمر على خلاف مَا قدر فَإِنَّهُ بصدد
الزلل فَمَعَ إِمْكَان ذَلِك كُله كَيفَ
(2/135)
يسوغ ادِّعَاء النّسخ ثمَّ نقُول لَهُم مَا
استشهدتم بِهِ من حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ من أوضح
الْأَدِلَّة على أَنه لَا نسخ فِيهِ فَإِنَّهُ غرب فِي زَمَانه
فَافْتتنَ الْمغرب فَقَالَ بعد ذَلِك: لَا أغرب بعده أبدان
فَلَو كَانَ سَبيله سَبِيل النّسخ لما غرب أصلا فَإِن النّسخ
لَا يَتَجَدَّد بعد مَا اسْتَأْثر الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
[736] إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ: امْر رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَذَا فَهَل يَجْعَل ذَلِك
كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَمرتكُم "، أَو
كَقَوْلِه: " افعلوا:؟
اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك فَذهب بَعضهم إِلَى أَن
ذَلِك فَنزل منزلَة لفظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَلَا فرق بَين أَن يَقُول الرَّاوِي أَمر رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّلَاةِ، وَبَين أَن يَقُول قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلوا، وَذهب بَعضهم إِلَى
أَن النَّاقِل إِن كَانَ من العارفين باللغة فَيجْعَل قَوْله
أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنقله لفظ الْأَمر
مِنْهُ وَإِن لم يكن عَالما باللغة فَلَا يَجْعَل كَذَلِك.
[737] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح عندنَا]
فِي ذَلِك وَأَمْثَاله أَن نقُول: إِن كَانَ الْمَعْنى الَّذِي
نَقله بِحَيْثُ تعتور عَلَيْهِ الْعبارَات المحتملة ويسوغ فِي
فحواها ومقتضاها الِاجْتِهَاد فَإِذا نقل على الْوَجْه الَّذِي
صورناه فَلَا يَجْعَل نَقله فِي ذَلِك كَقَوْلِه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي رَوَاهُ
بِحَيْثُ لَا تخْتَلف عَلَيْهِ الْعبارَات وَلَا يسوغ فِيهِ
الِاجْتِهَاد فَهُوَ كنقل قَوْله.
(2/136)
وإيضاح ذَلِك أَنه إِذا قَالَ أَمر رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالصيغ فِي هَذَا السَّبَب
تخْتَلف و [للِاجْتِهَاد] فِيهَا أعظم المجال فَإِن من النَّاس
من توقف فِي الْأَمر، وَمِنْهُم من رَآهُ على الْوُجُوب أَو
على النّدب، اَوْ على الْإِبَاحَة، فَلَا نَأْمَن فِي مثل
هَذِه الْحَالة أَن يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَى جِهَة أُخْرَى
من الْجِهَات، فينقل على قَضِيَّة الِاجْتِهَاد، فَإِذا الْتبس
الْحَال كلفنا النَّاقِل أَن ينْقل [عين] لفظ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. بِالشُّفْعَة / للْجَار
[85 / ب] فَنَقُول: الحكم يَنْقَسِم فَرُبمَا يكون فعلا لَا
صِيغَة لَهُ، وَرُبمَا يكون لفظا مَخْصُوصًا بِحَال اَوْ شخص،
فَلَا يثبت الْعُمُوم بقول الرواي إِلَّا أَن يَقُول: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشُّفْعَة للْجَار.
[378] وَذهب بعض من لَا تَحْقِيق وَرَاءه إِلَى الْفَصْل بَين
أَن يَقُول الرَّاوِي: قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم للْجَار وَبَين أَن يَقُول: قضى بِأَن الشُّفْعَة
للْجَار. وَلَا فصل بَينهمَا عندنَا وَلَو تأملتها ألفيتهما
على الِاحْتِمَال.
(2/137)
[739] وَالْجُمْلَة فِيمَا نختاره أَنا لَا
نثبت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَبرا من غير نقل
وَلَا نثبت فِي خَبره صفة تَقْتَضِي تعميما أَو تَخْصِيصًا من
غير نقل.
(142) فصل
[740] ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ رمزا، وأحاله على
أَبْوَاب الْقيَاس وَهَذَا انه قَالَ: إِذا نقل عَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم مُعَلّق على عِلّة لزم
تَعْمِيم الحكم مَعَ اطراد الْعلَّة، وَذَلِكَ مثل أَن يرْوى
عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رجم ماعزا لِأَنَّهُ زنى.
[741] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَقد اخْتلف الأصوليون
فِي أَن علل صَاحب الشَّرِيعَة هَل يدخلهَا التَّخْصِيص
وسنستقصي القَوْل فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 3 [742]
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمن الْعِلَل مَا هِيَ
خَاصَّة، وَقد حسبتها بعض الْفُقَهَاء عَامَّة، وَذَلِكَ نَحْو
مَا رُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا وقصته نَاقَته فِي أخاقيق جرذان
فَمَاتَ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كفنوه وَلَا
تقربوه طيبا وَلَا تخمروا رَأسه فَإِنَّهُ يحْشر يَوْم
الْقِيَامَة ملبيا " فعمم بعض
(2/138)
الْفُقَهَاء ذَلِك فِي كل محرم، وَفِي
الْخَبَر مَا يُوجب تَخْصِيصه فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم علل الحكم بِأَنَّهُ يبْعَث ملبيا وَهَذَا مِمَّا
لانعلمه فِي حق كل محرم فَاقْتضى ظَاهر التَّخْصِيص.
وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شُهَدَاء
اُحْدُ: زملوهم بكلومهم ودماءهم فَإِنَّهُم يحشرون يَوْم
الْقِيَامَة واوداجهم تشخب دَمًا اللَّوْن لون دم، وَالرِّيح
ريح الْمسك فَثَبت فيهم هَذَا الحكم وَعلل بِأَنَّهُم يبعثون
كَذَلِك، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته فِي غَيرهم
من الشُّهَدَاء.
(143) فصل
[743] فَإِن قَالَ قَائِل: هَل يجوز التَّخْصِيص بِفعل رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
(2/139)
قُلْنَا: كل فعل حل مَحل القَوْل فِي
الْبَيَان نزل مَنْزِلَته فِي حكم التَّخْصِيص وسنتقصى القَوْل
فِي أَفعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونبين مَا
ينزل مِنْهَا منزلَة القَوْل وَمَا لَا يتَعَلَّق فِيهِ فِي
قَضِيَّة الشَّرْع. [744] ويتصل بِهَذَا الْفَصْل تَقْرِيره
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رَآهُ على من اقتدر مِنْهُ
(2/140)
فَإِنَّهُ ينزل منزلَة القَوْل وفَاقا.
وَإِذا نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيْء
عُمُوما ثمَّ رأى شخصا مقدما مَا عَلَيْهِ، وَلم يَنْهَهُ دلّ
ذَلِك على عدم دُخُوله تَحت النَّهْي وَلَكِن ينزل التَّقْرِير
فِي حَقه منزلَة [إِبَاحَته] بِلَفْظ [مُخَصص] لَهُ فَلَا
نقُول أَن نفس التَّقْرِير يسوغ لغيره الْإِقْدَام على مثله
فَإِن التَّقْرِير لَيْسَ لَهُ صِيغَة الْعُمُوم كَمَا لَيْسَ
للفظة المختصة بخطاب الْوَاحِد صِيغَة التَّعْمِيم، وسياتيك
حكم تَقْرِير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن شَاءَ
الله.
(144) فصل
[745] فَإِن قَالَ قَائِل: قَول الله تَعَالَى: {خلق كل شَيْء}
، هَل يعد مُخَصّصا إِذا حمل بِدلَالَة الْعقل / على غير
الْقَدِيم تَعَالَى؟ [86 / أ]
قُلْنَا: ذهب بعض النَّاس إِلَى أَن ذَلِك لَا يعد من
التَّخْصِيص وَإِنَّمَا التَّخْصِيص إِخْرَاج بعض مُقْتَضى
اللَّفْظ مَه مَعَ جَوَاز دُخُوله تَحْتَهُ وَهَذَا مَا لَا
يتَحَقَّق فِي هَذِه الْآيَة وأمثالها.
[746] وَهَذَا لَيْسَ بسديد، وَالصَّحِيح أَن اللَّفْظَة
مخصصة، وَهَذَا
(2/141)
الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قدمْنَاهُ فِي
تَخْصِيص الْأَلْفَاظ بأدلة الْعُقُول غير أَنا نزيده إيضاحا
فَنَقُول: اسْتثِْنَاء الْقَدِيم سَائِغ تَقْديرا، وم سَاغَ
تَقْدِير استثنائه مُتَّصِلا بالمستثنى مِنْهُ فَإِذا خرج من
اللَّفْظ بِدلَالَة كَانَ تَخْصِيصًا، وَبَيَان ذَلِك: أَنه
لَو قَالَ تَعَالَى: الله خَالق كل شَيْء إِلَّا ذَاته لَكَانَ
الْكَلَام متنظماً، وقصارى هَذَا الْفَصْل تناقش فِي
الْعبارَة.
(145) فصل
[747] إِذا وَردت لَفْظَة شَرْعِيَّة فَيحْتَمل على قَضِيَّة
اللُّغَة وَمُوجب وَضعهَا وَلَا تخْتَلف قضيتها بعادات
المخاطبين اطردت أَو تناقضت، وَبَيَان
(2/142)
ذَلِك أَنه لَو عَم فِي النَّاس طَعَام
وشراب وَكَانُوا لَا يعتادون دون تنَاول غَيرهمَا حَتَّى
صَارُوا لَا يتفاهمون من الطَّعَام إلاما يعهدونه فَإِذا ورد
نهى مُطلق عَن تنَاول الطَّعَام لم يخصص بِمَا يعتادون
تنَاوله، وَكَذَلِكَ لَو اعتادوا ضربا من البيع مَخْصُوصًا
فَإِذا ورد النَّهْي عَن البيع مُطلقًا فِي وَقت لم يتخصص
بِمَا يتعودنه من البيع، بل يتَنَاوَلهُ هُوَ وَغَيره مِمَّا
ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم البيع فِي أصل الْوَضع، وَإِنَّمَا
قُلْنَا ذَلِك لِأَن الشَّرَائِع فِي أَنفسهمَا لَا تبتني على
عادات الْخلق وَاللَّفْظ الْوَارِد فِي الشَّرْع لَيْسَ
يتَقَيَّد بقرائن ذَوي الغايات فَإِن عَادَتهم لَا توجب
تَقْيِيد كَلَام صَاحب الشَّرْع.
[748] فَإِن قَالَ قَائِل: أليست الدَّابَّة مَوْضُوعَة فِي
أصل اللُّغَة لكل مَا دب ثمَّ لَا يفهم الْعَرَب مِنْهُ إِلَّا
بَهِيمَة مَخْصُوصَة.
قُلْنَا: تعودوا إِطْلَاق هَذِه اللَّفْظَة على التّكْرَار على
بَهِيمَة مَخْصُوصَة فترتب عَادَتهم، وقرائن أَحْوَالهم
بإطلاقاتهم فَاقْتضى ذَلِك حملهَا على مَا يُرِيدُونَ، وَلَفظ
صَاحب الشَّرِيعَة غير مقترن بقرائنهم وعاداتهم حَتَّى يعمم
(2/143)
عَنهُ مَا يفهم من ألفاظهم المقترنة
وَهَذَا كَمَا أَن الْأَمر إِذا بدر من شخص ودلت قرائنه على
الْإِلْزَام لم يجب حمل كل صِيغَة مثلهَا على مثل مَعْنَاهَا
فَإِنَّهُ لم يُوجد فِي كل الصِّيَغ من الْعَادَات مَا وجد
فِيهَا، فأحط علما بذلك.
(146) فصل فِي تعَارض العمومين
[749] اعْلَم، وفقك الله، إِلَى أَن أول مَا نحتاج إِلَى
تَقْدِيمه أَن نبين أَن الصيغتين إِذا وردتا، وَدلَالَة الْعقل
تَقْتَضِي تَعْمِيم أَحدهمَا وَنفي تَعْمِيم الْأُخْرَى أَو
سلب قضيتها فَلَا يعد ذَلِك من تعَارض العمومين بل الَّذِي
يُوَافق دلَالَة الْعقل يقر على عُمُومه وَالَّذِي يُخَالف
دلَالَة الْعقل يخصص بهَا أَو يحمل على الْمجَاز بهَا،
وَمِثَال ذَلِك فِي موارد الشَّرِيعَة مِنْهَا قَوْله
تَعَالَى: {وَالله بِكُل شَيْء عليم 282} ، فَهَذَا ظَاهر
ومتقتصد فِي عُمُومه بِدلَالَة الْعقل فَلَو عَارض معَارض
ذَلِك لقَوْله تَعَالَى: {قل أتنبئون الله بِمَا لَا يعلم} .
(2/144)
قيل: هَذَا مزال الظَّاهِر بِدلَالَة
الْعقل، فيستقل بِدلَالَة الْعقل عَن مُعَارضَة الْعُمُوم
الَّذِي وَافق / ظَاهره دلَالَة الْعقل، وَكَذَلِكَ قَوْله:
{الله خلق كل [86 / ب] شَيْء} ، لَا يُعَارضهُ: {احسن
الْخَالِقِينَ 14} ، فَإِنَّهُ مزال الظَّاهِر بِدلَالَة
الْعقل.
[750] وَالْغَرَض من الْفَصْل الَّذِي عقدناه تَصْوِير صيغتين
لَا تَقْتَضِي دلَالَة عقلية إِزَالَة ظَاهر أَحدهمَا، فَإِذا
تعَارض ظَاهر لفظين وَلم تقتض دلَالَة قَاطِعَة إِزَالَة
أَحدهمَا فالتعارض فِي الظَّاهِر من ثَلَاثَة أوجه:
[أَحدهَا] : أَن [تثبت] لَفْظَة ظَاهرهَا الْعُمُوم و [تثبت]
أُخْرَى ظَاهرهَا تَخْصِيص الْعُمُوم، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر "
مَعَ قَوْله لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة
(2/145)
أوسق صَدَقَة وَكَذَلِكَ قَوْله: " فِي
الرقة ربع الْعشْر " مَعَ قَوْله: " وَلَيْسَ فِيمَا دون
خَمْسَة أواقي من الْوَرق صَدَقَة " ويلتحق بذلك أَيْضا قَوْله
(2/146)
تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة
فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} ، مَعَ سَائِر الْأَلْفَاظ المخصصة
[للسرقة] بالاحراز، والنصاب، فَمَا هَذَا سَبيله لَا يتَحَقَّق
فيهمَا التَّعَارُض من كل وَجه، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة
المخصصة إِنَّمَا يُخَالف ظَاهرهَا بعض مقتضيات الْعُمُوم
وَلَا يتَضَمَّن نفي جملَة مقتضياته، فَيتَحَقَّق التَّعَارُض
بَين اللَّفْظَيْنِ فِي قدر التَّخْصِيص فَالْكَلَام فِيهِ
نحوما قدمْنَاهُ من التَّعَارُض فِي اقْتِضَاء الْعُمُوم
وَالْخَبَر أَو يتَحَقَّق فِي كل وَاحِد مِنْهَا ضروب من
الظنون.
[751] فَأَما إِذا ثَبت لفظ الْعُمُوم قطعا وَثَبت لفظ
الْخُصُوص أَيْضا قطعا فَظَاهر مَا صَار إِلَيْهِ القَاضِي
رَضِي الله عَنهُ الْمصير إِلَى التَّعَارُض، وَأَن احْتِمَال
اللّبْس وَإِن كَانَ لَا يتَحَقَّق فِي اصل اللَّفْظَيْنِ
فَيتَحَقَّق فِي [تأويلهما] فَإِن الْخُصُوص رُبمَا يقبل
التَّأْوِيل، وَالْحمل على [حَال] دون حَال، وَيبقى مَعَ ذَلِك
كُله اللّبْس فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، فَيجوز أَن
يتَقَدَّم الْخَاص ويعقبه الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ
حَقِيقَة الْعُمُوم فينسخه، وَقد يتَقَدَّر تَأَخّر الْخَاص
فَإِذا تقابلت الِاحْتِمَالَات لم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى
التَّعَارُض.
[752] الْوَجْه الثَّانِي: من التَّعَارُض أَن يتعارض ظَاهر
اللَّفْظَيْنِ من كل وَجه وللتأويل مساغ فِي حملهَا على وَجه
التَّعَارُض وَذَلِكَ نَحْو حَدِيث عبَادَة ابْن الصَّامِت فِي
الربويات وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا
تَبِيعُوا الْوَرق بالورق "
(2/147)
الحَدِيث مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: " لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة " فَالظَّاهِر من
هَذَا اللَّفْظ يَنْفِي جِهَات رَبًّا النَّقْد وَظَاهر حَدِيث
عبَادَة يثبت الرِّبَا، وَلَكِن يجوز تَقْدِير حمل
اللَّفْظَيْنِ على محملين لَا يتَحَقَّق تنافيهما بِأَن يحمل
حَدِيث عبَادَة على اتِّحَاد الْجِنْس، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس
على اخْتِلَاف الْجِنْس، وَيجوز أَن لَا يكون كَذَلِك، وَيكون
أَحدهمَا نَاسِخا، وَالثَّانِي مَنْسُوخا فَلَا يسوغ الْقطع
بنسخ أَحدهمَا للْآخر تعيينا، وَكَذَلِكَ لَا يسوغ الْقطع
بالتخصيص وَحمل اللفظفين على التَّبْيِين، فَإِذا تقابلت
الِاحْتِمَالَات وَجب القَوْل بتعارضهما والإضراب عَنْهُمَا،
والتمسك بِسَائِر أَدِلَّة الشَّرِيعَة سواهُمَا، هَذَا مَا
اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، وَقد دلّ عَلَيْهِ
فِيمَا سبق، وَمَا صَار إيه مُعظم الْعلمَاء إبِْطَال القَوْل
[87 / أ] بالتعارض، وَوُجُوب الْمصير إِلَى الْجمع بَين
اللَّفْظَيْنِ / على وَجه يُمكن.
[753] وَالْوَجْه الثَّالِث: من وُجُوه التَّعَارُض ان يتعارض
اللفظان نصا، وَلَا نجد إِلَى حملهما على غير التَّعَارُض
سَبِيلا، لكل وَاحِد مِنْهُمَا نصا فِي مُقْتَضَاهُ، فَإِذا
تَعَارضا على هَذَا الْوَجْه وانسد طَرِيق التَّأْوِيل وَلم
يتأرخ وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ بتأريخ يتَوَصَّل بِهِ إِلَى
نسخ الْمُتَقَدّم بالمتأخر، وَلم يثبت إِجْمَاع فِي
اسْتِعْمَال أحد اللَّفْظَيْنِ، فَلَا يسوغ التَّمَسُّك
بِوَاحِدَة مِنْهُمَا.
(2/148)
[754] فَإِن قَالَ قَائِل: لم تَذكرُوا فِي
اقسام التَّعَارُض أَن ترجح أَحدهمَا على الاخر قُلْنَا:
إِنَّمَا غفلنا ذكر ذَلِك لأَنا على عَزِيمَة اسْتِقْصَائِهِ
فِي أَبْوَاب التَّرْجِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[755] فَإِن قيل: فَلَو قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع على أَن
الحكم لَا يعدو مُوجب أحد اللَّفْظَيْنِ وَلم يتَرَجَّح
أَحدهمَا على الثَّانِي على مَا نوضح دَرَجَات التَّرْجِيح إِن
شَاءَ الله تَعَالَى فَلَا طَرِيق إِلَّا الْمصير إِلَى
التَّخْيِير، فَإنَّا نعلم أَنا لم نكلف جمع الضدين وَثَبت
بِدلَالَة الْإِجْمَاع تعلق التَّكْلِيف بقضية أحد
اللَّفْظَيْنِ فَلَا وَجه فِي الابتدار لَهُ إِلَّا
التَّخْيِير.
فَإِن قيل: فَإِذا ورد اللفظان على مَا صورتموه فَهَلا
قطعْتُمْ بِأَنَّهُمَا وردا مَعًا كَمَا أَن طَائِفَة لَو عمي
مَوْتهمْ فَلم يعلم من سبق وَمن تَأَخّر فنجعلهم كَمَا لَو
مَاتُوا مَعًا.
قُلْنَا: لِأَن مَوْتهمْ مَعًا مُتَصَوّر لَا استحاله فِيهِ،
وَلَا اسْتِحَالَة فِي الحكم الْمُرَتّب عَلَيْهِ، وَأما
تَقْدِير كَون الْخَبَرَيْنِ واردين مَعًا يُفْضِي إِلَى
التَّنَاقُض فِي الشَّرْع فَإِن ظَاهر كل وَاحِد مِنْهُمَا
يُخَالف ظَاهر الثَّانِي واستحال أَن نقدرهما على وَجه
يَسْتَحِيل بقضية التَّكْلِيف.
(2/149)
(147) فصل القَوْل فِي الْأَلْفَاظ
الْعَامَّة الْوَارِدَة على أسئلة خَاصَّة
[756] اعْلَم، وفقك الله، أَن أول مَا صدر بِهِ القَاضِي رَضِي
الله عَنهُ بِهِ الْبَاب تَهْذِيب اللَّفْظ فِي الانباء عَن
مَقْصُود الْبَاب فَإِن من الخائضين فِيهِ من يترجم الْبَاب
فَيَقُول: إِذا ورد الْخطاب الْعَام ظَاهره عِنْد سَبَب خَاص،
وَهَذَا فِيهِ دخل، فَالْأَحْسَن أَن نقُول: إِذا ورد على
سَبَب خَاص، والفصل بَين قَوْلك: " عِنْد سَبَب " و " على
سَبَب " بَين فِي فحوى الْكَلَام، فَإنَّك إِذا قلت: " على
سَبَب " انبأ ذَلِك على تعلق اللَّفْظ بِهِ، وَإِذا قلت: "
عِنْد سَبَب " لم ينْسب ذَلِك على التَّعْلِيق.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنَّك إِذا قلت: ضربت العَبْد على
قِيَامه، وأكرمته على كَلَامه، فَإنَّك قلت: ضَربته لأجل
قِيَامه وأكرمته لأجل كَلَامه، وَإِذا قلت: ضَربته عِنْد
قِيَامه لم ينبىء ذَلِك عَن تعلق الضَّرْب بِالْقيامِ.
[757] فَإِذا ورد اللَّفْظ على سَبَب خَاص، وَورد الْجَواب على
سُؤال خَاص فَإِن كَانَ اللَّفْظ خَاصّا فِي لَفْظَة لَو قدر
مُجَردا فَلَا ريب فِي خصوصه، وَإِن [كَانَ] اللَّفْظ لَا
يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي اقْتِضَاء الْخُصُوص، وَالسُّؤَال
الَّذِي اللَّفْظ جَوَاب عَنهُ خَاص فَلَا يَخْلُو من أَمريْن
إِمَّا أَن يكون الْجَواب مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ لَو قدر مُفردا
عَن السُّؤَال وَإِمَّا أَن لَا يكون، فَإِن لم يكن مُسْتقِلّا
بِنَفسِهِ لَو جرد عَن السُّؤَال فَيحمل على قَضِيَّة
السُّؤَال فِي الْخُصُوص وفَاقا وَمِثَال
(2/150)
ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَهَل وجدْتُم مَا
وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} . فَالْجَوَاب الصَّادِر مِنْهُم
لَو قدر مُفردا لم يثر معنى، فَنزل على مُقْتَضى السُّؤَال
عَاما كَانَ أَو خَاصّا وَكَذَلِكَ لما سُئِلَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن مَاء الْبَحْر / فَقَالَ: " هُوَ الطّهُور
مَاءَهُ " [87 / ب]
(2/151)
فَهَذَا مَا لَا يسْتَقلّ لَو جرد على
السُّؤَال فَإِن قَوْله: " هُوَ الطّهُور " كياية محملة،
فَقُلْنَا: هَذِه اللَّفْظَة تَقْتَضِي الْجَواب عَن مَاء
الْبَحْر المسؤول عَنهُ دون الْمِيَاه الَّتِي لَيست مياه
الْبَحْر، وَكَذَلِكَ لما سُئِلَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ
فَقَالَ: " أينقص الرطب إِذا يبس؟ فَقيل لَهُ: نعم، فَقَالَ:
فَلَا إِذا " فَلَمَّا لم يكن هَذَا الْجَواب مُسْتقِلّا لَو
جرد حمل " لَهُ " على قَضِيَّة السُّؤَال.
[758] فَأَما الْجَواب الْعَام المستقل بِنَفسِهِ لَو قدر
مُجَردا فَهُوَ نَحْو جَوَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
السَّائِل عَن بِئْر بضَاعَة حَيْثُ قَالَ: " خلق الله المَاء
طهُورا " الحَدِيث فَمَا هَذَا وَصفه مِمَّا يسْتَقلّ
بِنَفسِهِ يَنْقَسِم ثَلَاثَة اقسام، فَمِنْهُ مَا لَا
تَقْتَضِي صيغته المفردة الزِّيَادَة على مَضْمُون السُّؤَال
وَذَلِكَ مثل أَن
(2/152)
سَأَلَ السَّائِل عَن جملَة الْمِيَاه
فَيَقُول الْمُجيب: خلق الله المَاء طهُورا فَمَا هَذَا نَعته
لَا اخْتِلَاف فِيهِ.
[759 ي وَالضَّرْب الثَّانِي أَن تقصر صِيغَة الْجَواب عَن
مَضْمُون السُّؤَال لَو قدر مُفردا عَنهُ وَذَلِكَ نَحْو أَن
يسْأَل سَائل عَن أَحْكَام الْمِيَاه فَيَقُول فِي جَوَابه:
مَاء الْبَحْر طهُور. فَيخْتَص الْجَواب بِمَا ينبىء عَنهُ
وَلَا يعم بِعُمُوم السُّؤَال وفَاقا.
[860] فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يجوز أَن يصدر مثل ذَلِك عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
قُلْنَا: إِن علم أَن الْحَاجة إِنَّمَا تمس إِلَى بَيَان مَا
خصصه بِالذكر فيسوغ ذَلِك، وَإِن علم أَن الْحَاجة عَامَّة فِي
جملَة الْمِيَاه فَلَا يُؤَخر الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة
وسنستقصي القَوْل فِيهِ فِي ابواب الْبَيَان إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
(2/153)
[761] وَالْمَقْصُود بِالْبَابِ الْكَلَام
فِي جَوَاب مُسْتَقل بِنَفسِهِ عَام الصِّيغَة لَو قدرت
مُفْردَة على السُّؤَال، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك،
فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ دون
خُصُوص السُّؤَال، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن اللَّفْظَة محمل
على الْخُصُوص، وَالَّذِي اقْتَضَاهُ السُّؤَال. وَقد نقل
المذهبان جَمِيعًا عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ.
(2/154)
[762] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ:
وَإِن قُلْنَا بِالْعُمُومِ فَالصَّحِيح عندنَا التَّمَسُّك
بِعُمُوم اللَّفْظ دون خُصُوص السُّؤَال.
[763] وَمِمَّا يجب أَن تحيط علما بِهِ أَن تعلم أَنا إِنَّمَا
نقصد بالْكلَام مَا لم نعلم خصوصه اضطراراً لقرائن
الْأَحْوَال.
فَإِن علم بهَا إِرَادَة مُطلق الْجَواب بِخُصُوص فَهُوَ على
مَا علم، وَذَلِكَ نَحْو أَن تَقول لمخاطبك: كلم زيدا أَو: كل
الطَّعَام، فَيَقُول فِي جوابك: وَالله لَا تَكَلَّمت وَلَا
أكلت، فَرُبمَا يعلم بِقَرِينَة الْحَال أَنه لَا يُرِيد نفي
الْأكل جملَة، وَلَا نفي الْكَلَام جملَة، وَإِنَّمَا يُرِيد
نفي مَا سَأَلته.
ومسئلتنا لَيست بمفروضة فِي امْتِثَال ذَلِك، وَلَكِن إِذا
فقدت الْقَرَائِن، وَنقل إِلَيْنَا سُؤال خَاص، وَجَوَابه
لَفْظَة الْعُمُوم، فَحمل الْجَواب على الْعُمُوم أولى،
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْجَواب مُسْتَقل بِنَفسِهِ يسوغ
تَقْدِير الِابْتِدَاء فِيهِ من غير تَقْدِيم سُؤال وكل
لَفْظَة هَذِه صفتهَا فَلَا يسوغ ادِّعَاء تخصيصها إِلَّا
بِدلَالَة، وَلَيْسَ فِيمَا نَحن فِيهِ دلَالَة عقل تَقْتَضِي
قصر الْجَواب على السُّؤَال، وَلَا دلَالَة سمعية يقطع بهَا،
فَإِنَّهُ إِذا ثَبت عقلا وَشرعا جَوَاز تَبْيِين السُّؤَال
وَالزِّيَادَة، فَإِذا استدت طرق الْأَدِلَّة فِي التَّخْصِيص
واللفظة فِي نَفسهَا مَوْضُوعَة لاقْتِضَاء الشُّمُول [فقد]
ثَبت / بِاتِّفَاق الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أَن الصِّيغَة
الْمَوْضُوعَة لَهُ [88 / أ]
(2/155)
تعمم مَا لم تمنع مِنْهُ دلَالَة.
[764] فَإِن تمسك الْخصم بقصر الْجَواب فِي بعض موارده على
السُّؤَال فَلَا يستتب لَهُ ذَلِك إِلَّا بعد أَن يُقيم
الدّلَالَة على أَنه إِنَّمَا خصص لخُصُوص بَيِّنَة، على أَنا
نقابل الصُّور الَّتِي يتمسكون بهَا بمعظم ظواهر الْقُرْآن
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يظهرون مِنْكُم} ،
فَإِنَّهُ عَام مَعَ وُرُوده فِي حق امْرَأَة على الْخُصُوص،
وَقَوله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} ، نزل فِي
شَأْن أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ معمم. وَآيَة
اللّعان نزلت فِي شَأْن هِلَال بن أُميَّة من عمومها، وَقَوله:
(2/156)
{وَالسَّارِق والسارقة} نَازل فِي قصَّة
سَرقَة المحجن وَهُوَ معمم فِي الَّذين يستوجبون الْقطع
بِالسَّرقَةِ، ومعظم الْأَحْكَام لَو تتبعناها نزلت فِي
أَسبَاب خَاصَّة واشخاص مُعينين، وَكَانَ الْمَقْصد تَبْيِين
الْأَحْكَام فِيهَا وَفِي أغيارها فَلَو تمسكوا بأمثلة
قابلناهم بِمَا ذَكرْنَاهُ فتسلم لنا الدّلَالَة.
[765] ثمَّ الدّلَالَة تعتضد بنكتة أَوْمَأ إِلَيْهَا القَاضِي
رَضِي الله عَنهُ، وَهِي أَنه قَالَ: قد وافقتنا الْخُصُوم على
أَن الْجَواب الَّذِي فِيهِ اختلافنا لَو عدى عَن السُّؤَال
أَو عمم بِدلَالَة، لم يكن ذَلِك مقتضيا إِلَى حمل الْجَواب
على الْمجَاز، فَلَو كَانَ الْجَواب مَعَ السُّؤَال الْخَاص
مقتضيا خُصُوصا لَكَانَ فِي
(2/157)
تَعْمِيم حمله على الْمجَاز، وَقد أَوْمَأ
إِلَى طرق من الْأَدِلَّة تنطوي عَلَيْهَا الطَّرِيقَة الَّتِي
ذَكرنَاهَا.
[766] شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ
اللَّفْظ الْخَارِج مخرج الْجَواب عَن السُّؤَال الْخَاص عَاما
فِي مَحل السُّؤَال وَغَيره لساغ تَخْصِيص مَحل السُّؤَال
مِنْهُ كَمَا لَو كَانَ اللَّفْظ مُطلقًا فَلَمَّا أجمعنا على
أَنه لَا يسوغ تَخْصِيص مَحل السُّؤَال دلّ أَن الْجَواب
مُخْتَصّ بِهِ.
قُلْنَا: إِنَّمَا لم يسغْ إِخْرَاج مَحل السُّؤَال لكَون
كَلَام الْمُجيب جَوَابا عَنهُ، وَهَذَا ثَابت اضطرارا،
ويستحيل كَون الْكَلَام جَوَابا عَن كلا مُهِمّ مَعَ أَنه لَا
يتَضَمَّن التَّعْلِيق بِهِ، وَاللَّفْظ الْمُطلق لَا تعلق
لَهُ بِسَبَب، فَافْتَرقَا من هَذَا الْوَجْه، وَلزِمَ
تَعْمِيم الْمُطلق الْمُجَرّد مَعَ تجوز تَخْصِيصه فِي
الْآحَاد، وَيلْزم تَعْمِيم الْجَواب مَعَ نفي التَّخْصِيص فِي
مَحل السُّؤَال، فافتراقهما من هَذَا الْوَجْه لَا يُوجب
افتراقهما فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو صرح الْمُجيب بتعميم جَوَابه
فِي غير المسؤول عَنهُ كَانَ عَاما وفَاقا، مَعَ أَنه يسوغ
تَخْصِيص مَحل السُّؤَال، ويتبين ذَلِك بالمثال أَن السَّائِل
لَو سَأَلَ عَن مَاء بِئْر بضَاعَة فَقَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: " الْمِيَاه كلهَا - مَا سَأَلت عَنهُ،
وَمَا لم تسئل عَنهُ - طهُور ط [فَمحل] السُّؤَال لَا يتخصص
مَعَ عُمُوم اللَّفْظ.
(2/158)
[767] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن
قَالُوا: لَو كَانَ الْجَواب لَا يتخصص بالسؤال لم تنكرون فِي
نقل السُّؤَال لم يكن فِي نقل السُّؤَال فَائِدَة فَلَمَّا نعت
النقلَة وجدوا فِي نقل الأسئلة كَمَا اجتهدوا فِي نقل أَلْفَاظ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دلّ ذَلِك على تَخْصِيص
الْأَجْوِبَة بالأسئلة، إِذْ لَا فَائِدَة فِي نقلهَا سوى
ذَلِك. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه دَعْوَى، فَلم قُلْتُمْ
لَا فَائِدَة فِي نقل الْأَسْبَاب سوى مَا ذكرتموه؟ فَإِن
قَالُوا: إِنَّا لَا نَعْرِف غير مَا ذَكرْنَاهُ. [88 / ب]
قُلْنَا: فَعدم معرفتكم لَا ينْتَصب دَلِيلا، فَلَا تَجِدُونَ
عَن هَذِه الْمُطَالبَة مهربا ثمَّ لَو اتستعنا فِي الْكَلَام
قُلْنَا راموا بنقلها نقل مَا شهدوه على وَجهه، وَهَذَا كَمَا
أَنهم نقلوا الْأَمَاكِن الَّتِي قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا مَا قَالَ، ونقلوا االأزمان أَيْضا مَعَ
الْعلم بِأَن الْأَحْكَام لم تتَعَلَّق بالأماكن وَلَا
بالأزمان، ثمَّ نقُول: كثير من المنقولات مِمَّا يعرف نقلهَا
فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بهَا حكم، كالمراسيل عِنْد من يَنْفِي
التَّمَسُّك بهَا، وَالْأَخْبَار السقيمة، وَغَيرهَا، ثمَّ
نقُول: فَائِدَة نقل السُّؤَال لَا يخصص مُجمل السُّؤَال فَإِن
اللَّفْظَة لَو نقلت مُطلقَة رُبمَا كَانَ يخصص مَحل السُّؤَال
وَلَا يسوغ تَخْصِيصه، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
[768] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: لَا فَائِدَة فِي
تَأْخِير تثبيت هَذَا الحكم إِلَى سُؤال السَّائِل إِلَّا حصر
الحكم فِيهِ وَعَلِيهِ، إِذْ لَو كَانَ لَا ينْحَصر الحكم على
السُّؤَال لَكَانَ يتَبَيَّن قبله. قيل لَهُم: هَذَا تحكم
مِنْكُم فَلم قُلْتُمْ؟
(2/159)
وَتوجه عَلَيْهِم من الطّلبَة مَا
ذَكرْنَاهُ فِي الَّتِي قبل هَذِه، ثمَّ نقُول: هَذَا يبْنى
على أصُول الْمُعْتَزلَة فِي تَعْلِيل موارد الشَّرِيعَة بِمَا
يهذون لَهُ من الحكم، وَنحن لَا نقُول بِشَيْء مِنْهَا، وَلَا
نعلل موارد الشَّرْع مَا تقدم مِنْهَا وَمَا تَأَخّر.
[769] وَلَو قَالَ قَائِل: لم اخْتصَّ شرع مُحَمَّد صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بآخر الزَّمَان أَبينَا تَعْلِيل ذَلِك، على
أَنا نقُول لخصومنا لَو قَدرنَا مساعدتكم جدلا فِيمَا ذكرتموه
فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الحكم إِنَّمَا لم يبين قبل
السُّؤَال للطف علمه الله، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى علم أَنه لَو
بَين من غير سُؤال عصى المكلفون وابوا، وَلَو بَين عِنْد سُؤال
أَسْوَأ، وَهَذَا مِمَّا لَا نستبعد تَقْدِيره فِي الْعُلُوم
فَبَطل مَا قَالُوهُ على كل اصل، على أَنا نقُول مَا ذكرتموه
يبطل بِآيَة الظِّهَار وَاللّعان وَالْقَذْف وَالسَّرِقَة
فَإِنَّهَا عَامَّة لم ترد إلآ عِنْد الْأَسْبَاب الْخَاصَّة.
[770] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم فَإِن قَالُوا قَضِيَّة اللُّغَة
توجب خُرُوج الْجَواب على حسب السُّؤَال فَكَمَا ترَوْنَ تعلق
بعض الْكَلَام بِبَعْضِه فَكَذَلِك ترَوْنَ تعلق الْجَواب
بالسؤال.
قيل لَهُم: إِن عنيتم بالتعلق أَن الْجَواب يتَضَمَّن
السُّؤَال فلعمرنا هَكَذَا نقُول، وَإِن عنيتم أَن قَضِيَّة
الْخطاب توجب على الْمُجيب أَن يقْتَصر على جَوَابه وَلَا
يزِيد على مَحل سُؤَاله فَهَذِهِ دَعْوَى، فعلى الْمُجيب
بَيَان السُّؤَال وَلَا حرج فِي الزِّيَادَة.
[771] فَإِن قيل: فالقدر الَّذِي لَا يتَعَلَّق بالسؤال لَا
يكون جَوَابا عَنهُ.
قُلْنَا: صَدقْتُمْ، وَإِنَّمَا الْجَواب هُوَ الَّذِي بَين
السُّؤَال، وَلَكِن للمجيب الاجتزاء بتبيين السُّؤَال، وَله
الزِّيَادَة عَلَيْهِ، سِيمَا صَاحب الشَّرِيعَة فَإِنَّهُ
يشرع ويشرح فِي أَي وَقت شَاءَ ابْتِدَاء، وعَلى عقب الأسئلة،
كَمَا مثلنَا بِهِ من الْآيَات.
(2/160)
(148) القَوْل فِي أَنه هَل يجوز أَن يسمع
اللَّفْظ الْعَام فِي الْوَضع من لَا يسمع مخصصة؟
[772] اخْتلف ارباب الْأُصُول على ذَلِك، فَصَارَ مُعظم
الْقَائِلين بِالْعُمُومِ إِلَى أَنه يجوز أَن يسمع الْمُكَلف
لَفظه مَوْضُوعَة للْعُمُوم فِي اللُّغَة وَلَا يسمع مَعهَا
مُخَصّصا وَلها مُخَصص فِي أَدِلَّة الشَّرِيعَة.
وَصَارَ بعض الْمُتَكَلِّمين إِلَى منع ذَلِك، فَقَالُوا: م كل
لَفْظَة شَرْعِيَّة [89 / كَانَت مخصصة بِدلَالَة شَرْعِيَّة
فَلَا يجوز أَن يسْمعهَا الله عبدا مُكَلّفا من غير أَن يسمعهُ
مُخَصّصا.
وَلَا خلاف فِي جَوَاز وُرُود اللَّفْظَة الْمَوْضُوعَة
للْعُمُوم إذاكانت مخصصة بِدلَالَة الْعقل من غير تَنْبِيه
عَلَيْهَا، وَإِن كَانَت الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة لَا تستدرك
إِلَّا بدقيقالنظر فَهَذَا أَمر وَاضح [مِمَّا] يسْتَدلّ بِهِ،
فَإنَّا نقُول إِذا جَازَ أَن تقع اللَّفْظَة فِي مسامعه وَهِي
مَوْضُوعَة للْعُمُوم فِي اللُّغَة مَعَ كَونهَا مَخْصُوصَة
بِدلَالَة عقلية لم نتدبرها بعد فَيَنْبَغِي أَن يسوغ مثل
ذَلِك فِي الْأَدِلَّة السمعية فَإِن كل مَا يتَحَقَّق فِي
التَّخْصِيص بالأدلة الْعَقْلِيَّة يتَحَقَّق مثله فِي
الْأَدِلَّة السمعية، وَإِذا سبرت وَقسمت وجدت المجوز فِي
الْمُتَّفق عَلَيْهِ متحققا فِي الْمُخْتَلف فِيهِ، وَهَذَا
تحريرالأدلة فِي مسَائِل الْقطع.
(2/161)
[773] فَإِن قيل: إِنَّمَا سَاغَ ذَلِك فِي
العقليات لاقتداره على التَّوَصُّل إِلَيْهَا. قيل: وَكَذَلِكَ
يقتدر على التَّوَصُّل إِلَى الْأَدِلَّة السمعية فَلَا حاجز
فِي الْبَابَيْنِ.
[774] فَإِن قيل فقد أعلمهُ الله تَعَالَى أَن الْعَام يبْنى
على دلالات الْعُقُول.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ أعلمهُ أَن الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة تبنى
على أَدِلَّة الشَّرْع، ويسلط بَعْضهَا بالتخصيص على بعض فَلَا
فرق فِي ذَلِك.
[775] فَإِن قَالُوا: فَيجوز أَن يبلغهُ الْمَنْسُوخ، وَلَا
يبلغهُ النَّاسِخ.
قُلْنَا: هَكَذَا القَوْل وَلَا استبعاد فِيهِ.
[776] فَإِن قيل: فَمَا حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِ إِذا بلغه
الْمَنْسُوخ؟
قُلْنَا: ذَلِك مِمَّا يستقصى فِي تصويب الْمُجْتَهدين إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
[777] فَإِن قَالُوا: فجوزوا على طرد مذهبكم أَن يسمع
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ دون الِاسْتِثْنَاء.
قُلْنَا: إِن عنيتم بِالِاسْتِثْنَاءِ مَا يتَّصل بالْكلَام،
فَيُقَال لكم: إِن استوفى الْكَلَام وسَمعه كُله فَمن
ضَرُورَته أَن يسمع الِاسْتِثْنَاء.
وَإِن قُلْتُمْ: هَل يتَصَوَّر أَن يسمع أصل الْكَلَام ثمَّ
يَعْتَرِيه آفَة تحجزه سَماع الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بِهِ؟
وَهَذَا مِمَّا نجوزه وَلَا ننكره فَبَطل مَا قَالُوهُ.
[778] وَاعْلَم أَنا اسْتَوْفَيْنَا فِي الأسئلة أدلتهم وأجبنا
عَنْهَا، وَالدّلَالَة الْعَقْلِيَّة تنقض كل شُبْهَة لَهُم.
(149) فصل
[779] اخْتلف أَئِمَّة الْفُقَهَاء فِي الْأُصُول فِي أَن
اللَّفْظَة الْمَوْضُوعَة
(2/162)
للْعُمُوم إِذا اتَّصَلت بالمخاطب فَهَل
يعْتَقد الْعُمُوم فِي حَال اتصالها بِهِ أم يرقب ويتوقف إِلَى
أَن تيَسّر الْأَدِلَّة فَإِن رَآهَا مخصصة اعْتقد الْخُصُوص
وَإِن لم ير فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَخْصِيص اللَّفْظَة اعْتقد
فِيهَا الْعُمُوم حِينَئِذٍ؟
فَذهب أَبُو بكر الصَّيْرَفِي إِلَى أَنه يعْتَقد الْعُمُوم
كَمَا اتَّصل اللَّفْظ بِهِ. وَذهب ابْن سُرَيج فِي مُعظم
الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا يسوغ اعْتِقَاد
(2/163)
الْعُمُوم إِلَّا بعد النّظر فِي
الْأَدِلَّة ثمَّ إِذا نظر فِيهَا جرى على قضيتها.
[780ٍ
وَالَّذِي ذكره ابْن سُرَيج هُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ القَاضِي
رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ الصَّحِيح، ونقول للصيرفي فِي هَذَا
هَل يجوز أَن يبلغ الْمُكَلف الْعُمُوم وَلَا يبلغهُ مخصصه؟
فَإِن لم يجوز ذَلِك كَانَ الْكَلَام عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ
على الَّذين سبقوا، وَإِن جوز ذَلِك وَهُوَ الظَّن بِهِ
فَإِنَّهُ لاينتحي نَحْو الْمُعْتَزلَة فِي الصّلاح [89 / ب]
والأصلح واللطف، فَيُقَال لَهُ: فَإِذا جوزت أَن لَا يبلغهُ
الْمُخَصّص فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن تعتقد انه لَيْسَ بعام
وَلَا خَاص، وَهَذَا محَال. أَو تعتقد أَنه عَام خَاص من وَجه
وَاحِد، وَهَذَا محَال. وتعتقد أَنه عَام كَمَا قلته، وَلَا
يَسْتَقِيم هَذَا مَعَ تَجْوِيز الذهول أَن يكون مُخَصّصا
فَأنى يَسْتَقِيم اعْتِقَاد الْعُمُوم وَالْقطع مَعَ تَجْوِيز
الذهول عَن الْمُخَصّص، وَإِن اعْتقد الْخُصُوص مَعَ جَوَاز
أَن لَا يكون للفظ مُخَصص كَانَ محالا لما ذَكرْنَاهُ فِي
الْقسم قبله فَلَا يبْقى إِلَّا تَجْوِيز كِلَاهُمَا، وَإِذا
جوز كِلَاهُمَا لم يتَصَوَّر قطع الِاعْتِقَاد باحدهما وَهَذَا
مِمَّا لَا خَفَاء بِهِ.
[781] فان قَالَ الصَّيْرَفِي فِي معنى قَول يعْتَقد الْعُمُوم
أَنه يعْمل بِالْعُمُومِ [وَإِن] كَانَ يجوز خصوصه فَهَذَا
مُخَالفَة مِنْهُ لقَوْله الْمَنْقُول عَنهُ فِي الِاعْتِقَاد
مَعَ أَنا نعلم أَنه لَا يَكْتَفِي بِمَا قُلْنَاهُ من
الْعَمَل، وَالْقَصْد إبِْطَال اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَقد
اسْتمرّ ذَلِك كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
(2/164)
ثمَّ نقُول: لَو جَازَ الْعَمَل
بِالْعُمُومِ مَعَ تردد الِاعْتِقَاد فِيهِ جَازَ أَن يعْمل
الْمُجْتَهد إِذا عَن لَهُ قِيَاس من غير أَن يسبره حق سبره،
وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ، وسنقرره فِي أَوْصَاف
الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[782] فَإِن اسْتدلَّ الصَّيْرَفِي فَقَالَ: هَذِه اللَّفْظَة
دلَالَة على الْعُمُوم وَشرط الدّلَالَة أَن تدل على مدلولها
فَيجب لذَلِك اعْتِقَاد الْعُمُوم فِيهَا.
قيل لَهُ: إِنَّمَا تدل لَو جردت عَن مُخَصص، وَإِنَّمَا
نَعْرِف تجردها أَو يغلب ذَلِك على ظَنّه إِذا نظر فِي
الْأَدِلَّة.
[783] فَإِن قَالَ: وَإِن نظر فِي الْأَدِلَّة فَرُبمَا لَا
يتَوَصَّل إِلَى الْقطع، فَقولُوا: لَا يتَحَقَّق مِنْهُ
الِاعْتِقَاد فِي الْعُمُوم وَإِن نظر.
قُلْنَا: إِذا نظر وَلم يعثر على دلَالَة قَاطِعَة تَقْتَضِي
تَخْصِيص اللَّفْظَة فَلَا يعْتَقد فِيهَا عُمُوما بل يغلب
ذَلِك على ظَنّه فَيعْمل بِهِ كَمَا يعْمل بخبرالواحد،
وَالْقِيَاس السمعي وَإِن لم يقطع بهما، فَهَذَا قَوْلنَا،
ثمَّ لم يدل ذَلِك على قطع النّظر فِي الْأَخْبَار وَوُجُوب
الْعَمَل بهَا، كَمَا نقلت قبل النّظر فِي صِفَات الرب.
[784] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: لَو توقف فِي
اللَّفْظَة حَالَة وَاحِدَة سَاغَ أَن يتَوَقَّف حالتين
وَثَلَاثَة، وَيلْزم مِنْهُ التَّبْلِيغ إِلَى الْوَقْف أبدا
كَمَا صَارَت إِلَيْهِ الواقفية.
(2/165)
فَيُقَال: إِنَّمَا يتَوَقَّف بِقدر مَا
ينظر فِي الْأَدِلَّة على حسب جهده من غير تَفْرِيط وَهَذَا
مِمَّا لَا يَنْضَبِط زَمَانه، وَهَذَا كَمَا أَن الْمُجْتَهد
يفكر فِي حكم الْحَادِثَة ويجتهد فَرُبمَا يبْقى فِي
اجْتِهَاده سَاعَات ثمَّ لَا يلْزم من ذَلِك ان يتَوَقَّف
أبدا، وَكَذَلِكَ من نقل إِلَيْهِ الْخَبَر يتَوَقَّف فِي
الْعَمَل بِهِ ريثما يسير أَحْوَال الروَاة ثمَّ لَا يلْزمه
مِنْهُ ترك القَوْل بهَا، وَكَذَلِكَ القَاضِي يتَوَقَّف فِي
إبرام الْقَضَاء إِلَى التفحص عَن أَحْوَال الشُّهُود.
[785] فَإِن قيل: فَهَل يتحدد النّظر فِي مُخَصص الْعُمُوم
بِحَدّ؟
قيل لَهُم: فَهَل يتحدد نظر الْمُجْتَهد، وَمن نقل إِلَيْهِ
الْخَبَر، وَنظر القَاضِي فِي أَحْوَال الشُّهُود بِحَدّ؟
فَإِن قَالَ: لَا ينْحَصر فِيهِ زمَان، وَيخْتَلف ذَلِك
بِسُرْعَة الخاطر وبطئه والمقصد أَن لَا يقصر النَّاظر فِيهِ،
وَلَا يألو جهده. [90 / أ] قيل لَهُ: فَهَذَا فِي الْمُتَنَازع
فِيهِ /.
(150) القَوْل فِي الْمُطلق والمقيد
[786] اعْلَم وفقك الله، أَن أَرْبَاب الْأُصُول اخْتلفُوا فِي
حمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي بعض الصُّور، وَاتَّفَقُوا فِي
بَعْضهَا، فَإِن تقيد حكم بِشَيْء، وَورد ذَلِك الحكم
بِعَيْنِه مُطلقًا فَهُوَ مَحْمُول على الْمُقَيد وَهُوَ أَنه
قد ورد بِقَيْد الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل
بِالْإِيمَان فَلَو أَنه وَردت الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة
الْقَتْل فِي آيَة أُخْرَى مُطلقَة فَتحمل على الْمقيدَة،
وَلَو ورد حكمان مُخْتَلِفَانِ فِي أَنفسهمَا واسبابهما،
وَأَحَدهمَا مُطلق والاخر مُقَيّد فَلَا يحمل الْمُطلق على
الْمُقَيد وفَاقا، وَذَلِكَ فِي مثل ان يرد فِي صفة الشَّاهِد
اشْتِرَاط الْإِيمَان، وَيرد ذكر
(2/166)
الرَّقَبَة فِي الْكَفَّارَة مُطلقًا فَلَا
يحمل الْمُطلق فِي الْكَفَّارَة على الْمُقَيد فِي الشَّهَادَة
لاخْتِلَاف الحكم وتباين سببهما.
[787] فَإِذا تماثل الحكمان وَاخْتلف سببهما وموجبهما،
وَأَحَدهمَا مُطلق وَالْآخر مُقَيّد فَهَذَا مَوضِع
الِاخْتِلَاف، وتصوره أَن الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل
مُقَيّدَة بِالْإِيمَان وَهِي مُطلقَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار
وَالْحكم فِي الْحَالين الاعتاق، وَلَكِن اخْتلف سَببه
وَاخْتلف الْعلمَاء على ثَلَاث مَذَاهِب، فمذهب الْعِرَاقِيّين
أَن الْمُطلق لَا يحمل على الْمُقَيد إِلَّا بِمَا يجوز نسخه
فَإِنَّهُم زَعَمُوا أَن تَقْيِيد الْمُطلق زِيَادَة فِيهِ
وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ، من الْمُطلق زِيَادَة فِيهِ
وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ، وسنفرد الْكَلَام على هَؤُلَاءِ
فِي أَبْوَاب النّسخ، وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْمُطلق
يحمل على الْمُقَيد فِي قَضِيَّة اللَّفْظ من غير دلَالَة تقوم
وَإِلَيْهِ مَال بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ.
[788] وَذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَن الْمُطلق يقر على
إِطْلَاقه ويقر الْمُقَيد على تَقْيِيده فَإِن قَامَت دلَالَة
على تَقْيِيد الْمُطلق كَانَ ذَلِك تَخْصِيصًا وَهُوَ مجري على
عُمُومه إِلَى أَن يقوم الدَّلِيل على تَخْصِيصه فَإِن قَالَ
الرب تَعَالَى
(2/167)
فِي كَفَّارَة الْقَتْل: {فَتَحْرِير
رَقَبَة مُؤمنَة} . وَقَالَ فِي كَفَّارَة الظِّهَار:
{فَتَحْرِير رَقَبَة} ، فَهَذِهِ لَفْظَة مُقَيّدَة فِي
كَفَّارَة الْقَتْل، عَامَّة فِي كَفَّارَة الظِّهَار
تَنْطَلِق على الرَّقَبَة الْكَافِرَة والمؤمنة فثبوت
التَّخْصِيص فِي كَفَّارَة الْقَتْل لَا يُوجب تَخْصِيص
اللَّفْظ فِي كَفَّارَة الظِّهَار فَإِنَّهُمَا حكمان
متغايران، وَلَكِن وَإِن قَامَت دلَالَة تَقْتَضِي التَّخْصِيص
بِآيَة الظِّهَار خصصناها حِينَئِذٍ فَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ
القَاضِي ز
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن قَوْله تَعَالَى فِي آيَة الظِّهَار
{فَتَحْرِير رَقَبَة} عَامَّة فِي صيغتها وَمن مَذْهَب
الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أَن الصِّيغَة الْمَوْضُوعَة
للْعُمُوم تحمل على الشُّمُول مَا لم تدل دلَالَة على منع
التَّعْمِيم، وَتَخْصِيص آيَة الْقَتْل لَيْسَ بِدَلِيل فِي
تَخْصِيص آيَة الظِّهَار فَإِنَّهُ لَا تنَافِي بَين تَخْصِيص
تِلْكَ وتعميم هَذِه، وَشرط التَّخْصِيص أَن يُنَافِي
التَّعْمِيم حَتَّى لَا يقدر فِي الْعُقُول تصور التَّعْمِيم
مَعَ التَّخْصِيص، وَلَا استبعاد فِي تَخْصِيص آيَة الْقَتْل
وتعميم آيَة الظِّهَار، فَإِذا بَطل أَن تكون آيَة الْقَتْل
دلَالَة فِي تَخْصِيص آيَة الظِّهَار لزم التَّمَسُّك بِعُمُوم
آيَة الظِّهَار، فَإِن دلّت دلَالَة خصصناها.
[789] ثمَّ أرْدف ذَلِك بِأَن قَالُوا: لَو سَاغَ تَقْيِيد
الْمُطلق لتقييد الْمُقَيد سَاغَ اطلاق الْمُقَيد لإِطْلَاق
الْمُطلق.
فَإِن قيل: لَو أطلقنا كُنَّا / قد حذفنا الْقَيْد وألغيناه.
(2/168)
قُلْنَا: وَلَو قيدنَا الْمُطلق كُنَّا
أبطلنا مَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاق من الْعُمُوم والشمول،
فَلَا فصل بَينهمَا. وَقد أَوْمَأ إِلَى طَرِيق يؤول إِلَى مَا
ذَكرْنَاهُ.
[790] شُبْهَة الْقَائِلين بِأَن الْمُطلق مَحْمُول على
الْمُقَيد من حَيْثُ اللَّفْظ واللغة فَإِن قَالُوا: مُوجب
اللِّسَان يَقْتَضِي ذَلِك وَالْعرب تطلق فِي كَلَامهَا [مَا]
قيدت مثله وتروم بِالْإِطْلَاقِ التَّقْيِيد وَلكنهَا لَا
تكَرر اجتزاء مِنْهَا بِمَا فرط من التَّقْيِيد وإيثار
الِاخْتِصَار والحذف وَلكَون التَّقْيِيد الْمُتَقَدّم مِنْهَا
دَالا على التَّقْيِيد، واستشهدوا بأمثلة أوضحُوا فِيهَا
الْحَذف لإِرَادَة الإيجاز مِنْهَا قَوْله تَعَالَى:
{ولنبلونكم بشيءمن الْخَوْف والجوع وَنقص من الْأَمْوَال
والأنفس والثمرات} مَعْنَاهُ: وَنقص من الْأَمْوَال وَنقص من
الْأَنْفس، وَنقص من الثمرات، فَوَقع الِاكْتِفَاء بِالنَّقْصِ
الْمَذْكُور فِي صدر الْكَلَام وابتنى بَاقِي الْكَلَام
عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {عَن الْيَمين وَعَن
الشمَال قعيد 17} مَعْنَاهُ عَن الْيَمين قعيد، وَعَن الشمَال
قعيد، واستشهدوا بقوله تَعَالَى: {والذاكرين الله كثيرا
وَالذَّاكِرَات} مَعْنَاهُ [والذكرات] لله.
(2/169)
[791] وَاحْتَجُّوا لتمهيد ذَلِك بأبيا [ت]
مِنْهَا قَول الشَّاعِر:
(يَا من يرى عارضا [أسر] بِهِ ... بَين ذراعي وجبهة الْأسد)
مَعْنَاهُ بَين ذراعي الْأسد جبهة الْأسد. وَمِنْه قَول
الْقَائِل:
(وَمَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ... اريد الير أَيهمَا يليني)
( [الْخَيْر] الَّذِي أَنا أبتغيه ... أم [الشَّرّ] الَّذِي
هُوَ يبتغيني)
فاقتصر فِي الْبَيْت الأول على ذكر الْخَيْر وَهُوَ يُرِيد
الْخَيْر وَالشَّر.
[792] واعتضدوا بآيَات من الْكتاب فِي الْمُطلق والمقيد،
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} ،
فالشهادة مُقَيّدَة مِنْهَا بِالْعَدَالَةِ وَكَذَلِكَ أطلق
الله تَعَالَى آي الْمَوَارِيث وقيدها بِتَقْدِيم الْوَصِيَّة
عَلَيْهَا فِي آيَة فَحملت آيَات الْمَوَارِيث عَلَيْهَا إِلَى
غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه، والأبيات وَهَذَا اطناب مِنْكُم
لَا يُفِيد مَحل التَّنَازُع فَإنَّا لَا ننكر ضروب الْحَذف
فِي مجاري الْكَلَام
(2/170)
وَلَكِن لم قُلْتُمْ أَن الْكَلَام المتسق
إِذا قيد بعضه وأنبأ فحواه عَن التَّنْبِيه عَن الْمُتَّصِل
بِهِ وَجب أَن ينبىء التقيد فِي آيَة الْقَتْل عَن التَّقْيِيد
فِي آيَة الظِّهَار ألم تعلمُوا أَن الْحَذف والإيجاز فِي
الْكَلَام مِمَّا لَا ينقاس وَلَا ينْحَصر وَلَا يَنْضَبِط
الِاعْتِبَار فَأحْسن طَرِيق تسلكونه اعْتِبَار الْمُتَنَازع
فِيهِ بِمَا استشهدتم بِهِ وقصارى ذَلِك تثبيت اللُّغَات
بِالْقِيَاسِ.
[793] ثمَّ نقُول لَهُم مَا قلتموه أجمع فرض مِنْكُم فِي
كَلَام مُتَّصِل لَو جرد بعضه لم يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَإِن
مِمَّا استدللتم بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَنقص من الْأَمْوَال
والأنفس} فَلَو قَدرنَا ذكر الْأَنْفس، والثمرات لم يفد
ذكرهمَا على حيالهما معنى فَدلَّ أَنَّهُمَا منوطان بِمَا سبق
وَهُوَ قَوْله: (وَنقص) فأنبأ فحوى الْخطاب عَن تعلق النَّقْص
بِالْكُلِّ، وكلك كل مَا اسْتشْهدُوا بِهِ ينخرط فِي هَذَا
السلك، وَلَيْسَ كَذَلِك آيتان تستقل كل وَاحِدَة / بحكمها
وَيجوز تَقْدِير كل [91 / أ] وَاحِدَة على قَضِيَّة. 3 [794]
وَأما استدلالهم بِآيَة الشَّهَادَة فَلَا مستروح فِيهِ
فَإنَّا مَا شرطنا الْعَدَالَة فِي سَائِر الشَّهَادَات حملا
على الْمُقَيد، وَلَكِن صرنا إِلَى ذَلِك بدلالات أُخْرَى،
كَيفَ وَقد صَار بعض الْعلمَاء إِلَى أَن من الشَّهَادَات مَا
لَا يتَقَيَّد بِالْعَدَالَةِ كَالشَّهَادَةِ على النِّكَاح،
وَالشَّهَادَة فِي الْأَمْوَال فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فِيهَا
تثبيت الْعَدَالَة بل يَكْتَفِي بِظَاهِر الْحَال، فَبَطل مَا
قَالُوهُ من كل وَجه.
(2/171)
[795] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن
قَالُوا: الْقُرْآن كالكلمة الْوَاحِدَة فتقييد بعضه كتقييد
كُله وَلَوْلَا أَن هَذَا اورده بعض الْأَئِمَّة وَإِلَّا
اقْتضى الْحَال الاضراب عَنهُ لضَعْفه فَإِنَّهُ إِن عني بِمَا
ذكره الْكَلَام الْقَدِيم فَلَا يسوغ فِيهِ تَقْيِيد وَلَا
اطلاق، وَلَا حَامِل وَلَا مَحْمُول فَإِنَّهُ معنى مُتحد
يتقدس عَن كل هَذِه الصِّفَات، وَإِن كَانَ الْكَلَام فِي
متعلقات الْكَلَام وَلَا يحمل بعضه على بعض ليَكُون الْمحرم
محللا، والمحلل محرما، فاضمحل مَا قَالُوهُ، ثمَّ كَانَ
الْمُطلق بِالْحملِ على الْمُقَيد أولى من عكس ذَلِك فَبِمَ
يُنكر الْخصم على من يَقُول أَن الْمُقَيد مَحْمُول على
الْمُطلق لِأَن الْقَرَائِن كالكلمة الْوَاحِدَة.
(151) القَوْل فِي اقل الْجمع
[796] الْمَقْصد من هَذَا الْبَاب أَن لفظ الْجمع إِذا اطلق
فَمَا أقل محامله لله؟
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب الشَّافِعِي وَأَبُو
حنيفَة وَطَائِفَة من أهل اللُّغَة إِلَى أَن أقل الْجمع
ثَلَاثَة وَإِلَيْهِ مَال ابْن
(2/172)
عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ، وَذهب مَالك
رَضِي الله عَنهُ وَكثير من أهل اللُّغَة وَبَعض أَصْحَاب
الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن أقل الْجمع اثْنَان
وَإِلَيْهِ مَال عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ.
[797] وَإِنَّمَا يظْهر أثر الْخلاف فِي مَوضِع يحْتَاج فِيهِ
إِلَى أقل الْجمع وَذَلِكَ مثل أَن يُوصي للْمَسَاكِين، أَو
لأَقل من يتَنَاوَل هَذَا الِاسْم فَمن حمل الْجمع فِي أَقَله
على الثَّلَاث ألزم صرف الْوَصِيَّة إِلَى الثَّلَاثَة وَمن
قَالَ: أقل الْجمع اثْنَان صرف ذَلِك إِلَى الِاثْنَيْنِ.
[798] وَقد ارتضى القَاضِي رَضِي الله عَنهُ مَذْهَب مَالك
رَضِي الله عَنهُ وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بأَشْيَاء مِنْهَا: أَن
الْكِنَايَة فِي الِاسْتِقْبَال عَن الِاثْنَيْنِ كالكناية عَن
الثَّلَاث إِذا كَانَ الْمُسْتَقْبل مِمَّا يتَقَدَّم عَلَيْهِ
النُّون فَتَقول: " فعلنَا " " نَفْعل " فتريد
(2/173)
بِهِ الِاثْنَيْنِ نَفسك وَصَاحِبك، وَتطلق
ذَلِك وتريد جمعا كثيرا، وَذَلِكَ مجْرى نَحن فَيقدر بذلك أَن
اقل الْجمع يشْتَمل على الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَصَاعِدا.
وأوضح ذَلِك بِآيَة من كتاب الله تَعَالَى، مِنْهَا قَوْله عز
وَجل: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا} ، فَأطلق
اسْم الْقُلُوب على القلبين. وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي
قصَّة مُوسَى وَهَارُون: {إِنَّا مَعكُمْ مستمعون 15} ، فكنى
عَنْهَا بِالْمِيم وَالْكَاف وَهُوَ كِنَايَة الْجمع، وَقَالَ
تَعَالَى فِي قصَّة يَعْقُوب فِي الْأَخْبَار: {عَسى الله أَن
يأتيني بهم جَمِيعًا} وَهُوَ يَعْنِي يُوسُف وبنيامين، وَقَالَ
تَعَالَى: {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا}
فكنى عَن الطَّائِفَتَيْنِ من الْمُؤمنِينَ بواو
(2/174)
الْجمع ثمَّ عَاد اللَّفْظ إِلَى /
التَّثْنِيَة فِي قَوْله: {فأصلحوا بَينهمَا} . وَقَالَ [91 /
ب] تَعَالَى: فِي قصَّة سُلَيْمَان: {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ
يحكمان فِي الْحَرْث} إِلَى قَوْله: {وَكُنَّا لحكمهم شهدين
78} . وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب 21} ،
وَكَانَا خصمين كنى عَنْهُمَا بواو الْجمع وَالدَّلِيل على
أَنَّهُمَا كَانَا خصمين قَوْله: {خصمان بغى بَعْضنَا على بعض}
. إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه وكل مَا ثَبت فِي كتاب
الله تَعَالَى فِي آيَات فَمن ادّعى كَونه م مجَازًا فِيمَا
اسْتعْمل فِيهِ افْتقر إِلَى دَلِيل، وَرُبمَا يَتَكَلَّمُونَ
فِي بعض هَذِه الْآيَات بطرق من التَّأْوِيل وَلَا إِلَى
إِزَالَة الظَّوَاهِر دون إِقَامَة الْأَدِلَّة، وَأقوى
الْآيَات عَلَيْهِم قَوْله تَعَالَى: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} .
[799] وَإِن اسْتدلَّ من صرف الْأَقَل إِلَى الثَّلَاث بِمَا
روى عَن ابْن
(2/175)
عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: " كَانَ لَا
يحجب الْأُم بأخوين فَقَالَ لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لما
حجبها بأخوين من الثُّلُث إِلَى السُّدس: الأخوان ليسَا بإخوة
فِي لِسَان قَوْمك، وَلم يُنكر عَلَيْهِ عُثْمَان رَضِي الله
عَنهُ ذَلِك فِي اللُّغَة قيل لَهُم: تمسكتم ببعضهم الحَدِيث
وَتَمَامه مَا رُوِيَ أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ
لَهُ: إِن قَوْمك حجبوها "
وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ
يَقُول كَيفَ تَدعِي لِسَان قَوْمك وهم حجبوها وَهَذَا إفصاح
مِنْهُ بالإنكار.
[800] فَإِن استدلوا بِأَن أهل اللُّغَة قسموا الْأَسْمَاء
ثَلَاثَة اضْرِب.
فَمِنْهُ اسْم الْوَاحِد، وَهُوَ قَوْلك رجل، وَمِنْه اسْم
التَّثْنِيَة وَهُوَ قَوْلك رجلَانِ، وَمِنْه اسْم الثَّلَاث
فَصَاعِدا وَهُوَ قَوْلك رجال، فَحمل رجال على رجلَيْنِ كحمل
رجلَيْنِ على رجال. فَيُقَال لَهُم: لَيْسَ فِي وضعهم أَن
الِاثْنَيْنِ
(2/176)
لَيْسَ بِجمع، وَإِنَّمَا مُرَادهم فِي
التَّفْصِيل الَّذِي ذكرتموه أَن الرجلَيْن ينبىء على
عددمحصور، وَالرِّجَال ينبىء عَن الرجلَيْن وَعَن عدد لَا
ينْحَصر، وَهَذَا كَمَا أَنهم قَالُوا لعدد مَخْصُوص عشرَة
رجال وَقَالُوا للَّذين لَا يحصرون رجال، وَإِن كَانَ هَذَا
ينْطَلق على الْعشْرَة انطلاقه على مَا فَوْقهَا.
فَإِن قَالُوا: لم قُلْتُمْ أَن مقصدهم ذَلِك؟
قُلْنَا: وَأَنْتُم لم قُلْتُمْ أَن مقصدهم نفي الْجمع عَن
الِاثْنَيْنِ فتقابل الدعوتان وَسقط.
[801] فَإِن قَالُوا: لَو قَالَ الْقَائِل رَأَيْت الرِّجَال،
وَرَأَيْت النَّاس، وَكَانَ قد رأى اثْنَيْنِ حسن تَكْذِيبه،
فَيُقَال لَهُ: إِنَّمَا رَأَيْت رجلَيْنِ وَمَا رَأَيْت
الرِّجَال. .
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه مَمْنُوع فانا إِذا صرفنَا أقل
الْجمع إِلَى اثْنَيْنِ فَلَا نسلم تَجْوِيز تَكْذِيبه، بل
يحسن أَن يَقُول رَأَيْت الرِّجَال، وَقد رأى رجلَيْنِ.
[802] فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الرِّجَال ينْطَلق على
الرجلَيْن يحسن أَن يَقُول رَأَيْت اثْنَيْنِ رجال كَمَا يحسن
أَن يَقُول رَأَيْت ثَلَاثَة رجال.
قُلْنَا: أَلْفَاظ الْجمع يتخصص فِي اللُّغَة بمواردها فَرب
جمع يسْتَعْمل فِي مَوضِع وَلَا يسْتَعْمل فِي غَيره، وَهَذَا
كَمَا أَنَّك تَقول عشرَة دَرَاهِم، وَلَا تَقول: ألف دَرَاهِم
ثمَّ هَذَا لَا يدل على أَن الْألف لَيست بِجمع.
ولسنا نرى الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب يُفْضِي إِلَى الْقطع
فَهُوَ وَالله أعلم من مسَائِل الِاجْتِهَاد.
(2/177)
(152) القَوْل فِي الرَّد على الْقَائِلين
بالخصوص
[803] قد سبق الْكَلَام على الْقَائِلين بِالْعُمُومِ وَذكرنَا
أَن الصَّحِيح [92 / أ] الْمصير إِلَى الْوَقْف / وأوضحنا وَجه
الرج على من قطع قَوْله بِالْعُمُومِ، وحكينا أَن من الْعلمَاء
من صَار إِلَى حمل الجموع على الْأَقَل، فَوجه الرَّد
عَلَيْهِم أَن نقُول: انتم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا أَن
لفظ الْجمع إِذا ورد فِي المعرض الَّذِي يعممه أهل الْعُمُوم
فَهُوَ مَوْضُوع للثَّلَاثَة مجَاز فِيمَا فَوْقهَا، وَأما أَن
تَقولُوا أَنه مُسْتَعْمل فِي الثَّلَاثَة ومستعمل فِيمَا
فَوْقهَا حَقِيقَة، وَلَكِن إِذا ورد مُطلقًا فههنا مِنْهُ
الْأَقَل واستربنا فِي الْبَاقِي فَإِن صرتم إِلَى الْقسم
الأول وَهُوَ أَنه حَقِيقَة فِي الأول وَهُوَ مَوْضُوع لَهُ
فِي وضع اللُّغَة فننصب عَلَيْكُم فِي ادعائكم ذَلِك على
اللُّغَة من الدّلَالَة كَمَا نصباه على الْقَائِلين
بِالْعُمُومِ.
فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ادعيتموه لَا تخلون إِمَّا أَن تسندوا
دعواكم إِلَى عقل أَو نقل واطراد الدَّلِيل كَمَا سبق.
وَإِن هم قَالُوا إِن هَذَا اللَّفْظ يرد على مَا فَوق
الثَّلَاث كَمَا يرد للثلاث فقد انْطلق القَوْل بالخصوص، فَإِن
من مَذْهَب الْقَائِلين بِهِ أَن مُقْتَضى اللَّفْظ الْخُصُوص
لَا غير، فَإِذا اخْتَارُوا هَذَا الْقسم الْأَخير فَهُوَ
تَصْرِيح بِالْوَقْفِ فَإِن الْقَائِلين بِالْوَقْفِ رُبمَا
يَقُولُونَ إِنَّا نفهم من لفظ الْجمع بعض المسميات وَإِنَّمَا
الاسترابة فِي الشُّمُول، قبُول الِاخْتِلَاف أدّى إِلَى أقل
الْجمع فقد قدمنَا فِيهِ صَدرا من الْكَلَام فَهَذِهِ
الطَّرِيقَة الَّتِي ذَكرنَاهَا تنبهك على مَقْصُود الْبَاب
اسْتِدْلَالا وانفصالا.
(2/178)
[804] فَإِن قَالُوا الْأَقَل مستيقن،
وَالْبَاقِي مَشْكُوك فِيهِ فَمَا قدمْنَاهُ من التَّفْصِيل
يُغني إِعَادَة الْجَواب، على أَنا نقُول: من صَار إِلَى
الْعُمُوم لم يسلم لكم التَّمَسُّك فَمَا يزِيد على الثَّلَاث
عِنْد تحقق تجرد اللَّفْظ عَن الْقَرَائِن، ثمَّ الَّذِي
يُحَقّق مَا قُلْنَاهُ أَن نقُول لَو سمي مُسَمّى الْأَرْبَعَة
رجَالًا فَهَذِهِ التَّسْمِيَة مجَازًا أَو حَقِيقَة؟
فَإِن قُلْتُمْ: إِنَّهَا تجوز، كَانَ ذَلِك بهتا مِنْكُم
وجحدا لإِجْمَاع أهل اللُّغَة وَإِن زعمتم أَن ذَلِك حَقِيقَة
فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك الْمصير إِلَى أَن مُقْتَضى
اللَّفْظ الْخُصُوص.
(153) فصل
[805] إِذا قُلْنَا بِالْعُمُومِ وجوزنا تَخْصِيصه فَإلَى أَي
حد يجوز التَّخْصِيص؟
اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء، فَذهب الْقفال الشَّاشِي إِلَى أَن
تَخْصِيص
(2/179)
الْجمع يجوز بِشَرْط اسْتِبْقَاء اقل
الْجمع حَتَّى لَو لم يبْق من اللَّفْظ إِلَّا ثَلَاثَة من
المسميات لم يسغْ التَّخْصِيص بعد ذَلِك، وَإِنَّمَا يتَصَوَّر
النّسخ، وَذهب مُعظم أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ
إِلَى جَوَاز التَّخْصِيص مَا بَقِي فِي قَضِيَّة اللَّفْظ
(2/180)
[806] وَلم نر هَذَا الْفَصْل مَنْصُوصا
للْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ فنومىء إِلَى مَا ذكر فِيهِ لترى
فِيهِ رَأْيك.
[807] فَأَما االقفال فقد تمسك باللغة فَإِن أَرْبَاب
اللِّسَان جعلُوا الرِّجَال مثلا اسْما لثَلَاثَة فَصَاعِدا
فَمن اراد التنقيص عَن هَذَا الْمبلغ كَانَ تَارِكًا لقضية
اللُّغَة.
[808] وَالَّذين جوزوا التَّخْصِيص من الثَّلَاث أَيْضا
احْتَجُّوا بحروف مِنْهَا: أَن التَّخْصِيص ينزل منزلَة
الِاسْتِثْنَاء، ثمَّ الِاسْتِثْنَاء يسوغ مَا بَقِي من
الْمُسْتَثْنى عَنهُ وَاحِد فَكَذَلِك التَّخْصِيص، وَقد قدمت
من أصل القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن الِاسْتِثْنَاء على
هَذَا الْوَجْه لَا يَصح فَمَا أرى ذَلِك يَسْتَقِيم على
أَصله. وَمِمَّا تمسكوا بِهِ هَؤُلَاءِ أَن قَالُوا: لفظ " من
" و " مَا " ينبىء عَن التَّعْمِيم ثمَّ يجوز التَّخْصِيص
مِنْهُ دون / الثَّلَاثَة وَكَذَلِكَ الْجمع. [92 / ب] وَهَذَا
الَّذِي قَالُوهُ مُسلم، وَلَكِن إِنَّمَا الْخلاف فِي
أَلْفَاظ الجموع وَمَا
(2/181)
ذَكرُوهُ تمسك بِقِيَاس.
[809] ثمَّ انْفَصل هَؤُلَاءِ عَمَّا قَالَه الْقفال
فَقَالُوا: يجوز ترك حقائق الْأَلْفَاظ إِلَى التَّجَوُّز
بِمَا يجوز التَّخْصِيص بِهِ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ حملنَا
قَوْله: {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} على مَوضِع
الصَّلَاة، ومحمله، وَإِن كَانَ ذَلِك مجَازًا، فَهَذَا مَا
قَالُوهُ فِي الْمَسْأَلَة نظر، لَعَلَّنَا نشبعه إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
(2/182)
|