التلخيص في أصول الفقه

 (154) بَاب الْكَلَام فِي دَلِيل الْخطاب

[810] اعْلَم وفقك الله، أَن لحن الْخطاب وفحواه مِمَّا قَالَ بِهِ الكافة بِلَا اخْتِلَاف وَذَلِكَ نَحْو قَوْله عز وَجل: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ، ففحوى ذَلِك النَّهْي عَمَّا فَوق التأفيف من ضروب التعنيف، كالضرب والسب وَالْقَتْل وَنَحْوهمَا.
[811] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَنحن نعلم ضَرُورَة مثل هَذَا الفحوى من مثل هَذَا الْكَلَام فِي قصد أهل اللُّغَة، والمستريب فِي ذَلِك مشكك فِي الضَّرُورَة، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تظْلمُونَ فتيلا 77} ، فيفهم من

(2/183)


فحوى ذَلِك نفي الظُّلم فِيمَا فَوق الفتيل، وَقس بذلك أَمْثِلَة.
[812] فَأَما مَا فِيهِ الِاخْتِلَاف من دَلِيل الْخطاب وَمَفْهُومه فنصوره أَولا ثمَّ نذْكر وُجُوه الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَإِذا تخصص الْمَذْكُور بِأحد وَصفيه أَو باحد أَوْصَافه فَهَل يدل تَخْصِيصه بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور فِي الْمنطق بِهِ على نفي الحكم فِيمَا يَنْتَفِي عَنهُ الْوَصْف وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا} ، فالتعمد وصف فِي الْقَتْل خصص بِالذكر، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشها 45} فَهَذَا الْإِنْذَار لمن يخْشَى، وَكَذَلِكَ قيد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّكَاة بالسائمة من الْغنم فَقَالَ: " فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة " فَهَذَا وَجه تَصْوِير تَخْصِيص الْمَذْكُور بِأحد الْأَوْصَاف.
فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَصَارَ الشَّافِعِي ومعظم الْفُقَهَاء من اصحاب

(2/184)


مَالك وَأهل الظَّاهِر إِلَى أَن التَّخْصِيص بِالْوَصْفِ يدل على نفي مَا عداهُ وَعَلِيهِ يدل كَلَام شَيخنَا أبي الْحسن رَضِي الله عَنهُ فِي بعض كتبه فَإِنَّهُ اسْتدلَّ فِي إِثْبَات خبر الْوَاحِد بقوله تَعَالَى: {إِن جَاءَكُم فَاسق بنبإ فَتَبَيَّنُوا 9، فمفهوم ذَلِك يدل على أَن غير الْفَاسِق لَا يتثبت فِي قَوْله وَكَذَلِكَ تمسك فِي مسالة الرُّؤْيَة بقوله تَعَالَى فِي الإنباء عَن أَحْوَال الْكَفَرَة: (كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون 15} ، فاعتصم بِمَفْهُوم الْآيَة فِي تثبيت الرُّؤْيَة فِي حق أهل الْجنَّة، وَذهب أهل الْعرَاق وَطَائِفَة من اصحاب مَالك رَضِي الله عَنهُ إِلَى إبِْطَال دَلِيل الْخطاب وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.

(2/185)


[813] ثمَّ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ انقسموا فَمن حقق مِنْهُم صَار إِلَى أَن دَلِيل الْخطاب إِنَّمَا يتَقَدَّر عِنْد تَقْيِيد الْخطاب بِبَعْض الْأَوْصَاف والنعوت، فَأَما تَخْصِيص أَسمَاء الألفاب بِالذكر فَلَيْسَ لَهَا لدَلِيل فِي نفي مَا سواهَا.
وَعلا بعض الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ فَزعم أَن تَخْصِيص أَسمَاء الألقاب بِالذكر يدل على نفي الحكم فِيمَا عدا المسمين حَتَّى قَالُوا على طرد ذَلِك: لَو خلينا وَظَاهر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " وَفِي الْغنم زَكَاة " لنفينا الزَّكَاة عَمَّا عدا الْغنم من الْمَوَاشِي وسنرمز إِلَى وَجه الرَّد على هَذِه الطَّائِفَة فَإِن خَرجُوا بِهَذَا الْمَذْهَب [93 / أ] عَن حد / الْجِدَال كَمَا نقدر.
[814] ثمَّ اسْتدلَّ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي إبِْطَال القَوْل بِدَلِيل الْخطاب بِمثل مَا استدى بِهِ فِي مَسْأَلَة الْعُمُوم وَالْأَمر فَقَالَ مَا ادعيتموه على أَرْبَاب اللِّسَان لَا تخلون فِيهِ، إِمَّا أَن تسندوه إِلَى عقل أَو نقل فَإِذا بَطل إِسْنَاده إِلَى قَضِيَّة الْعقل فالنقل يَنْقَسِم إِلَى تَوَاتر يَقْتَضِي الضَّرُورَة إِلَى غَيره، واطرد الدّلَالَة على الْمنْهَج السَّابِق فِي الْمسَائِل الْمُتَقَدّمَة واعتصم أَيْضا بِحسن الِاسْتِفْهَام فَإِن من قَالَ لعَبْدِهِ: إِذا ضربك زيد رَاكِبًا فَاضْرِبْهُ، فَيحسن من

(2/186)


الْمُخَاطب أَن يَقُول: فَإِن ضَرَبَنِي رَاجِلا أَفَأَضْرِبهُ؟ وَهَذَا مِمَّا سبق استقصاؤه ايضا، وَأَوْمَأَ إِلَى انقسام الْكَلَام فَمن مُخَصص فِي مجاري الْكَلَام لم ينتف مَا سواهُ، وَمن مُخَصص بِأحد أَوْصَافه انْتَفَى مَا سواهُ وَهَذَا بِعَيْنِه مَا قدمْنَاهُ فِي مسالة الْعُمُوم والأوامر.
[815] وَمِمَّا جدده فِي هَذِه المسالة أَن قَالَ: قد وافقتمونا على أَن أَسمَاء الألقاب لَا دَلِيل لَهَا فِي النَّفْي، وخصصتم الدَّلِيل بالأوصاف وَمَا يضاهيها، وَهَذَا تحكم مِنْكُم على اللُّغَة فَإِن الثَّابِت فِي أصل وَضعهَا أَن الْأَسَامِي إِنَّمَا وضعت لتمييز المسميات وَالْعلم بِأَعْيَانِهَا سَوَاء كَانَت الْأَسَامِي ألقابا أَو أعلاما أَو لم تكن كَذَلِك وَكَانَت مُشْتَقَّة من أَوْصَاف فَمن أَرَادَ أَن يزِيد على مَا ثَبت فِي اصل الْوَضع احْتَاجَ إِلَى دلَالَة.
[816] فَإِن قيل: فقد نفيتم طرق الْقيَاس فِي إِثْبَات اللُّغَات ونراكم تقيسون الْأَسْمَاء المشتقة على أَسمَاء الألقاب.
قُلْنَا: لم يخرج كلامنا مخرج الْقيَاس وَلَكنَّا قُلْنَا: الثَّابِت فِي النَّوْعَيْنِ من الْأَسْمَاء الدَّالَّة على المسميات وَثُبُوت الْعلم بِأَعْيَانِهَا، فَمن أَرَادَ الزِّيَادَة على ذَلِك أَو التحكم بِالْفَصْلِ بَين النَّوْعَيْنِ من الْأَسْمَاء لم يكن بِأولى من يعكس عَلَيْهِ دَعْوَاهُ، وَإِن ركب بعض الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ وَزعم أَن تخصص أَسمَاء الألقاب كتخصص الْأَسْمَاء المشتقة فنبين لهَؤُلَاء انتسابهم إِلَى جحد الضَّرُورَة ثمَّ نقطع الْكَلَام عَنْهُم.
] 817] وَوجه الْإِيضَاح فِيهِ أَن نقُول: نَحن نعلم ضَرُورَة أَن أهل اللُّغَة لم يضعوا قَوْلهم: رَأَيْت زيدا لنفي الرُّؤْيَة عَمَّا عدا زيد من مَكَانَهُ وثيابه

(2/187)


وَغَيرهمَا وَكَذَلِكَ لم يضعوا ق قَوْلهم: زيد عَالم لنفي هَذِه الصّفة عَمَّا سوى زيد على بسيط الأَرْض وَلم يقصدوا بذلك نفي هَذِه التَّسْمِيَة عَن الْمَلَائِكَة، والأنبياء، وَكَذَلِكَ إِذا قَالُوا: عَمْرو عدل رَضِي، لم يضعوا هَذَا اللَّفْظ لنفي الْعَدَالَة عَمَّا سوى عَمْرو وَمن جحد ذَلِك انتسب إِلَى مراغمة الضَّرُورَة، وَيلْزم قطع الْكَلَام عَنْهُم فِي حكم النّظر.
[818] شُبْهَة الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ:
فَإِن قَالُوا: قد نقل القَوْل بِالْمَفْهُومِ من لُغَة الْعَرَب، أَئِمَّة اللُّغَة مِنْهُم الشَّافِعِي وَهُوَ موثوق بِهِ فِيمَا ينْقل، وَكَذَلِكَ نقل أَبُو عُبَيْدَة ذَلِك عَن الْعَرَب حَتَّى قَالَ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لي الْوَاجِد ظلم " هَذَا دَلِيل على أَن غير الْوَاجِد

(2/188)


بِخِلَاف الْوَاجِد وَتكلم على مَا روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لِأَن يمتلى جَوف أحدكُم قَيْحا حَتَّى يرِيه خير من أَن يمتلى شعرًا،، فَقَالَ: فَهَذَا يدل على أَن من أحسن الشّعْر وَغَيره لَا يدْخل تَحت الْوَعيد، وَأما ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُخْتَصّ بِأَن يمتلىء الْجوف شعرًا، وَهَذَا إِنَّمَا يُحَقّق فِي حق من لَا يحسن سواهُ.
فَيُقَال / لَهُم ذَلِك اسْتِدْلَالا، واحتجاجا للإثباته بِأَن تَخْصِيص الشَّيْء [93 / ب] بِأحد أَوْصَافه لَا يُفِيد فَائِدَة سوى نفي مَا عدا الْمَذْكُور، فصدر الْكَلَام مِنْهُمَا مصدر الِاسْتِدْلَال، لَا مصدر النَّقْل، والمستدل يخطىء ويصيب، على أَنا لَو سلمنَا نقلهَا فَهُوَ نقل آحَاد، وَلَا تثبت اللُّغَة بِنَقْل الْآحَاد، على أَنه قد صَار

(2/189)


إِلَى نفي الْمَفْهُوم آخَرُونَ فَإِن سَاغَ لكم أَن تقدروا أَن حجَّة مَذْهَب الشَّافِعِي نقلا مِنْهُ فيسوغ لخصمكم أَن يَجْعَل مَذْهَب غَيره نقلا لإبطال دلل الْخطاب.
[819] فَإِن استدلوا بأخبار، وآيات، وآثار، وَنحن نذْكر جملها، ثمَّ ننفصل عَنْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا.
فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا: قَوْله تَعَالَى: {إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " وَالله لأزيدن على السّبْعين " قَالُوا: فَلَو أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم من التَّقْيِيد بالسبعين أَن الحكم فِي الزِّيَادَة غير الحكم فِي السعبين لما قَالَ ذَلِك.
[820] وَمِنْه قَول يعلى بن أُميَّة لعمر رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى:

(2/190)


{أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ} ، فَقَالَ: كَيفَ نقصر وَقد أمنا؟ فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: تعجبت مِمَّا تعجبت مِنْهُ فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " صَدَقَة تصدق على عباده فاقبلوا صدقته " فدلت الْقَضِيَّة على مصيرهما إِلَى دَلِيل الْخطاب وَعنهُ ينبىء تعجبهما من ثُبُوت الحكم فِي غير الصُّورَة الْمقيدَة.
[821] مِنْهَا: أَن الصَّحَابَة زَعَمُوا أَن قَوْله: " المَاء من المَاء " مَنْسُوخ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا التقى الختانان وَجب

(2/191)


الْغسْل: وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا بِتَقْدِير نفي الْغسْل من غير إِنْزَال، فَلَمَّا فَهموا ذَلِك من قَوْله: المَاء من المَاء عدوا قَوْله: إِذا التقى الختانان، نسخا.
[822] وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ ابْن عَبَّاس فِي نفي رَبًّا التَّقْدِير بقوله: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة: وَهَذَا تمسك بِالْمَفْهُومِ الْمَسْكُوت عَنهُ.
[823] فَيُقَال لَهُم: أما قَوْله تَعَالَى: {استغفرلهم اَوْ لَا تستغفر لَهُم} ، فَلَا حجَّة فِيهِ من أوجه: أحد [هَا] أَن الْخَبَر الَّذِي رويتموه ضَعِيف

(2/192)


غير مدون فِي الصِّحَاح وَكَيف يَصح ذَلِك مِمَّن هُوَ افصح الْعَرَب. وَقد أطلق مثل هَذَا الْكَلَام فهم من شدا طَرِيقا من الْعَرَبيَّة أَن الْمَقْصُود مِنْهُ تَحْقِيق الْبَابَيْنِ، وَقطع موارد الرَّجَاء، وَلَيْسَ الْمَقْصد مِنْهُ تَعْلِيق الحكم بالسبعين، فَإنَّك إِذا قلت وَأَنت وَاجِد على زيد اشفعوا لَهُ أَو لَا تشفعوا لَهُ وَلَو شفعتم سبعين مرّة لم تشفعوا فِيهِ، علم ضَرُورَة أَن مقصدك بِهَذَا قطع الأطماع لَا التَّعْلِيق بالسبعين فَكيف فهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قلتموه.
ثمَّ الَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنا أجمعنا على أَن الرب سُبْحَانَهُ مَا أَرَادَ تَعْلِيق الحكم بالسبعين فَكيف فهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لم يردهُ الرب؟ وأنى يَسْتَقِيم ذَلِك؟ سِيمَا مَعَ نفي الْغَلَط عَن الْأَنْبِيَاء فِي مجاري الْوَحْي.
ثمَّ نقُول: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه لم يفهم نفي الاسْتِغْفَار وَرَاء السّبْعين بالتقييد بالسبعين، وَلَكِن قد استدرك جَوَاز الاسْتِغْفَار للكفرة عقلا، وعد ذَلِك من جائزات الْعُقُول، فَلَمَّا ورد الْخطاب فِي السّبْعين، اعْتقد مَا وَرَاءه على حكم التجويز فِي / الْمُسْتَدْرك بِأَصْل الْعقل. [94 / أ]

(2/193)


[824] فَأَما استدلالهم بِحَدِيث ابْن عَبَّاس، واستدلاله بِالْآيَةِ فِي حجب الْأُم بِالثلَاثِ من الْإِخْوَة فَصَاعِدا قُلْنَا: إِن سَاغَ لكم الِاسْتِدْلَال بقول ابْن عَبَّاس فقد صَار مُعظم الصَّحَابَة إِلَى مُخَالفَته، فلئن كَانَ قَوْله حجَّة فِي إِثْبَات الْمَفْهُوم كَانَ قَول مخالفيه حجَّة فِي نَفْيه على ان ابْن عَبَّاس، وَاحِد لَا يعْصم فَلَا يحْتَج بقوله.
[825] وَأما حَدِيث يعلى بن أُميَّة وَعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُمَا تَعَجبا لِأَن الْإِتْمَام كَانَ قد اسْتَقر قبل نزُول رخصَة الْقصر، ثمَّ لم يتَوَلَّى رخصَة الْقصر إِلَّا فِي حَالَة الْخَوْف، وَاقْتضى الْحَال دوَام الْإِتْمَام الثَّابِت فِي حَالَة الْأَمْن لَا أَنَّهُمَا فهما من نفس اللَّفْظ مَا ادعيتموه وَهَذَا بَين لكل من تَأمل.
[826] وَأما تمسكهم بقوله: " المَاء من المَاء " فلاتحقيق وَرَاءه من أوجه، أَحدهَا: أَنه نقل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " لَا مَاء إِلَّا من المَاء " وَهَذَا صَرِيح فِي النَّفْي.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنه عبر على بَاب رجل من الْأَنْصَار فصاح بِهِ فاحتبس

(2/194)


سَاعَة ثمَّ خرج وراسه يقطر مَاء، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّنَا أعجلناك، لَعَلَّنَا أقحطناك فَإِذا واقعت وَلم تنزل فَلَا تَغْتَسِل فلئن صَحَّ من الصَّحَابَة نسخ ذَلِك فَإِنَّمَا صرفوه إِلَى هَذِه الْأَلْفَاظ المصرحة، وَلم يَصح عَنْهُم أَن نفس قَوْله: " المَاء من المَاء " مَنْسُوخ.
على أَن نقُول: مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين أَن قَوْله: " المَاء من المَاء " من المحتملات على مَا سَنذكرُهُ فِي بَاب المحتملات إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ثمَّ نقُول: أسامي الألقاب لَا مَفْهُوم لَهَا، وَقَوله: " المَاء " من أسامي الألقاب فَكيف تمسكتم بِهِ.
[827] فَإِن قَالُوا: فِي الْخَبَر تَقْدِير هُوَ وصف فَإِن تَقْدِيره وجوب اسْتِعْمَال المَاء من نزُول المَاء.
قُلْنَا: فَأنى يَسْتَقِيم ادِّعَاء الْإِجْمَاع مَعَ هَذِه التقديرات.

(2/195)


[828] فَأَما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة " وزعمتم أَن أبن عَبَّاس تمسك بمفهومه فَنَقُول: إِن كَانَ فِي تمسكه معتصم فَفِي إبِْطَال غَيره لاستدلاله أقوى اعتصام لنا، ونقول: قد روى صَرِيحًا أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة " وَهَذَا تَصْرِيح بِالنَّفْيِ على ان " إِنَّمَا " فِيهِ تمحيق، وَتَحْقِيق، وَنفي، وَإِثْبَات، فَلَا فرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل: إِنَّمَا صديقي زيد، أَو يَقُول: إِنَّمَا عدوي زيد، وَنحن لم نَخْتَلِف فِي أَمْثَال هَذِه الْعبارَات.
على أَنا نقُول: لَعَلَّ ابْن عَبَّاس اسْتدلَّ على غير هَذَا الْوَجْه الَّذِي قلتموه فَقَالَ: ثَبت صِحَة البيع على الْجُمْلَة بِالْآيَاتِ الدَّالَّة عَلَيْهَا، وَثَبت بِهَذَا الْخَبَر اسْتثِْنَاء رَبًّا النَّسِيئَة، فَبَقيَ الْبَاقِي على ظواهر الاية، فَكيف يَسْتَقِيم التَّمَسُّك بِمَا هُوَ عرضة لهَذِهِ الجائزات فِي مسَائِل الْقطع.
[829] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: إِذا قَالَ الْقَائِل لمخاطبه: اشْتَرِ لي عبدا أسود، عقل من التَّقْيِيد " بالأسود " مَنعه من ابتياع الْأَبْيَض وَمَا ذَاك إِلَّا للتَّقْيِيد بالنعت.
فَيُقَال لَهُم: هَذَا لَا معتصم فِيهِ وَذَلِكَ أَنه إِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَى صرف العقد إِلَيْهِ بأدلة وَقد تمهد فِي قَضِيَّة الشَّرْع توقف الْعُقُود المنصرفة إِلَى الموكلين على إذْنهمْ بِالْقدرِ الَّذِي يتَعَلَّق الْإِذْن بِهِ سينسخه الْمُوكل، وَيبقى الْبَاقِي على الافتقار إِلَى الْإِذْن فَخرج من ذَلِك أَن التَّخْصِيص بالأسود لَا يتَضَمَّن نفي

(2/196)


مَا عداهُ وَلَكِن يَسْتَفِيد العقد الْمَأْذُون / فِيهِ بِالْإِذْنِ وَيبقى بَاقِي الْعُقُود على [94 / ب] مَا كَانَت عَلَيْهِ قبل الْإِذْن
[830] وَالَّذِي اعْتمد عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي تثبيت دَلِيل الْخطاب أَن قَالَ: اتّفق أهل الْعَرَبيَّة على أَن مَا قيد بِوَصْف خصص بِهِ فيطلب للتخصيص فَائِدَة فِي قَضِيَّة الْكَلَام، إِن لم ينط بهَا فَائِدَة يعد مُطلقهَا لاغيا، فَإِذا قيدت الْغنم بِكَوْنِهَا " سَائِمَة " وَجب أَن يكون للتَّقْيِيد " بالسوم " فَائِدَة، فَإِذا ساوت المعلوفة السَّائِمَة فِي حكم الزَّكَاة كَانَ ذَلِك إِلْغَاء للتَّقْيِيد والتخصيص، فَهَذِهِ عُمْدَة القَوْل.
[831] وَأول مَا يفاتحون بِهِ أَن يُقَال لَهُم: وضعتم الِاسْتِدْلَال فِي غير مَوْضِعه فَإِن مجاري الْكَلَام تعقل أَولا، ثمَّ يَبْتَغِي فَائِدَة، فالفائدة فرع لما عقل فَلَا يحسن فِي نظم الِاسْتِدْلَال فِي غير تَرْتِيب الأَصْل على الْفَرْع فَإِن الْعلم بفائدة الْكَلَام تبع للْعلم بِهِ فَكيف يَتَرَتَّب الْعلم بِأَصْل الْكَلَام، وَمُقْتَضَاهُ على الْفَائِدَة الْمَطْلُوبَة مِنْهُ.
[832] ثمَّ يُقَال لَهُم: لَو سلم لكم أَن فِي التَّقْيِيد فَائِدَة لم تعثروا عَلَيْهَا، وَأَنْتُم بصدد الزلل. فَإِن قَالُوا: فأظهروها نتكلم عَلَيْهَا.
قيل لَهُم: لَيْسَ على خصمكم إظهارها بل عَلَيْكُم نصب الدّلَالَة القاطعة على نفي كل فَائِدَة سوى مَا ذكرتموها، وأنى لكم ذَلِك وَهَذِه الطّلبَة مِمَّا لَا منجأ مِنْهَا.
[833] ثمَّ نقُول: بِمَ تنكرون على من يُقَابل التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ بالتقييد

(2/197)


بأسماء الْأَعْلَام والألقاب، فلئن لزم طلب فَائِدَة فِي التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ، فَمَا أنكرتم من مثله فِي أسامي الألقاب؟ لَا نستريب أَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لَا يستركب ذَلِك، فَلَو ارْتَكَبهُ مرتكب فقد فرط الْكَلَام عَلَيْهِ.
[834] ثمَّ يُقَال لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن فَائِدَة تَخْصِيص السَّائِمَة بِالذكر أَن لَا تستثنى السَّائِمَة، وَلَا تخصص اللَّفْظَة الْعَامَّة فِيهَا، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ فِي الْغنم زَكَاة كَانَ تَخْصِيص هَذَا اللَّفْظ فِي السَّائِمَة وإخراجها عَن مُوجب اللَّفْظ بالتنصيص على السَّائِمَة لقيد الْمَنْع من إخْرَاجهَا عَن حكم وجوب الزَّكَاة وَهَذِه فَائِدَة وَاضِحَة.
[835] أَو نقُول: إِنَّمَا خصص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " السَّائِمَة ط بِالذكر لتثبيت الحكم فِيهَا نصا، وليسوغ للمجتهدين استنباط الْعلَّة من الْمَنْصُوص عَلَيْهِ، وَالْقِيَاس عَلَيْهِ بلَاء وامتحانا للمجتهدين، ورد الْأَمر إِلَى تحريهم ليجازوا عَلَيْهِ أعظم الْأجر، وَهَذَا كَمَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص فِي الربويات على الْأَشْيَاء السِّتَّة مَعَ الْقُدْرَة على لَفْظَة تعم جملَة أَبْوَاب الرِّبَا، بيد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رام بالاقتصار عَلَيْهَا تسليط الْمُجْتَهدين على سَبِيل الِاجْتِهَاد.
[836] وشبهة أُخْرَى لَهُم: فان قَالُوا: الحكم الْمُعَلق بِالصّفةِ الْخَاصَّة نَازل منزلَة الحكم الْمُعَلق بالعله، وَلَو علق الحكم بِالْعِلَّةِ وجد بوجودها، وَعدم بعدمها، فَيُقَال لَهُم: هَذَا تحكم مِنْكُم، فَلم زعمتم أَن التَّعْلِيق بِالصّفةِ [95 / أ] نَازل منزلَة التَّعْلِيل فَلَا يَجدونَ فِي تَحْقِيق هَذِه الدَّعْوَى ملْجأ، ثمَّ يُقَال لَهُم: / وَلَو خرج الْكَلَام مخرج التَّعْلِيل لم يتَضَمَّن ذَلِك على قَضِيَّة مَذْهَب مخالفيكم

(2/198)


انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الْعِلَل، وَلَكِن يتَضَمَّن ثُبُوته عِنْد ثُبُوت مَا نصب عِلّة فِيهِ، وتبيين ذَلِك بالمثال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ فِي امْرَأَة بِعَينهَا: لَا يحل نِكَاحهَا لِأَنَّهَا مرتدة، فنستفيد من ذَلِك منع نِكَاح الْمُرْتَدَّة، وَلَا نستفيد مِنْهُ حصر التَّحْرِيم فِي الْمُرْتَدَّة، بل يجوز ثُبُوت التَّحْرِيم بعلل سوى مَا ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا وألفاظ صَاحب الشَّرِيعَة بصدد التَّخْصِيص والعلل المستنبطة السمعية لَا تخْتَص، ثمَّ هِيَ تطرد، وَلَيْسَ من شَرطهَا الانعكاس فاضمحل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
(155) فصل

[837] إِذا علق الحكم بِشَيْء تَعْلِيق الْمَشْرُوط شَرطه فالقائلون بِدَلِيل الْخطاب يصيرون إِلَى أَن ذك يَقْتَضِي انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الشُّرُوط.
وَذَلِكَ أقوى عِنْدهم من دَلِيل الْخطاب.
وَأما نفاة دَلِيل الْخطاب فقد اخْتلفُوا:
فَذهب مُعظم أهل الْعرَاق، وَابْن سُرَيج، من أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله إِلَى أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ يدل على انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائه.

(2/199)


[838] وَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن التَّخْصِيص بِالشّرطِ لَا يدل على نفي الحكم عِنْد انْتِفَاء الشَّرْط كَمَا أَن التَّخْصِيص بِالْوَصْفِ لَا يدل على ذَلِك، وتبيين ذَلِك بالمثال، وَذَلِكَ أَن الْقَائِل إِذا قَالَ: زيد فَأكْرمه، وَإِن قَامَ فَأكْرمه، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك نفي إكرامه من غير قيام بل يَقْتَضِي أَن يكرم عِنْد الْقيام.
[839] وَالَّذِي يُحَقّق مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.
كل دَلِيل قدمْنَاهُ فِي مَسْأَلَة الْمَفْهُوم، ثمَّ نفرد هَذِه الْمَسْأَلَة بِكَلَام.
فَنَقُول: إِنَّمَا فَائِدَة الشَّرْط فِي الْكَلَام أَن ينْتَصب عَلامَة لإِثْبَات الحكم، فَإِذا نصب الْمُتَكَلّم سَببا عَلامَة فَمن التحكم على قَضِيَّة الْكَلَام أَن تقدر شرطا لم يفصح بِهِ فِي حكم لم يُصَرح بِهِ، وأصل الصائرين إِلَى انْتِفَاء الشَّرْط يتَضَمَّن انْتِفَاء الحكم ينبىء عَن ذَلِك فَإِن الْمُطلق إِنَّمَا علق ثُبُوت الحكم على ثُبُوت الشَّرْط، [و] من يخالفنا فِي الْمَسْأَلَة يَجْعَل عَدمه شرطا فِي عدم

(2/200)


الحكم، وَهَذَا تثبيت شَرط ومشروط لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل فِي وضع اللُّغَة [و] التَّقْسِيم الَّذِي صورنا بِهِ مَسْأَلَة الْمَفْهُوم من هَذَا الْموضع.
[840] وَالَّذِي يُؤَكد مَا قُلْنَاهُ أَن الشَّرْط لَا يزِيد على الْعلَّة وَمَا نصب عِلّة يجوز أَن يثبت الحكم الْمُعَلق بهَا مَعَ عدمهَا.
(156) فصل

[841] إِذا علق الحكم على حرف من حُرُوف الْغَايَة مثل " حَتَّى " و " إِلَى " وَنَحْوهمَا فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم نفاة دَلِيل الْخطاب أَن التَّقْيِيد بحروف الْغَايَة يدل على انْتِفَاء الحكم وَرَاء الْغَايَة. 3 [842] وَقد ردد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ قَوْله فِي ذَلِك وَقَالَ: وَقد كُنَّا نصرنَا إبِْطَال حكم الْغَايَة فِي كتب وَالأَصَح عندنَا الْآن القَوْل بهَا فَإِذا قَالَ الْقَائِل: اضْرِب عَبدِي حَتَّى يَتُوب اقْتضى ذَلِك فِي وضع الْكَلَام الْكَفّ عَن ضربه إِذا تَابَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} يَقْتَضِي تثبيت الْقَتْل عَلَيْهِم مَا لم يبذلوا الْجِزْيَة، فَإِذا بذلوها كف عَنْهُم، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِأَن قَالَ: أجمع / نقلة اللُّغَات ومدونوها فِي مصنفاتهم على تثبيت هَذِه [95 / ب] الْحُرُوف وتسميتها حُرُوف الْغَايَة.

(2/201)


وَنحن نعلم أَن غَايَة الشَّيْء نهايته، فَلَو كَانَ تثبيت الحكم بعد الْغَايَة، لم يكن لتسميتها غَايَة معنى، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يستبشع فِي نظم الْكَلَام أَن يَقُول: اضْرِب عَبدِي إِلَى أَن يَتُوب أَو حَتَّى يَتُوب فَإِذا تَابَ فَاضْرِبْهُ.
وأوضح ذَلِك بَان قَالَ: إِذا علق الحكم بِحرف من هَذِه الْحُرُوف فَلَا ينْتَظر الْكَلَام إِلَّا بِتَقْدِير إِضْمَار فِيهِ أَو تَقْدِير غَايَة بعد غَايَة، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: اضربه حَتَّى يَتُوب فَمَعْنَى حَتَّى يَتُوب ثمَّ لَا تضربه.
[843] وَالَّذِي عِنْدِي أَن الْكَلَام فِي هَذَا الْفَصْل لَا يَنْتَهِي إِلَى الْقطع بل هُوَ على التَّرَدُّد مَعَ القَوْل بِنَفْي دَلِيل الْخطاب، وَمَا من حرف أَو مينا إِلَيْهِ إِلَّا وللكلام فِيهِ مجَال.
(157) فصل

[844] فَإِن قَالَ الْقَائِل: فَمَا قَوْلكُم فِي " إِنَّمَا "؟ هَل يَقْتَضِي نفيا؟ حَتَّى إِذا قَالَ الْقَائِل: إِنَّمَا الزَّكَاة فِي السَّائِمَة اقْتضى ذَلِك نَفيهَا عَن المعلوفة.

(2/202)


\ قُلْنَا: هَذَا مِمَّا ردد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِيهِ قَوْله، فَقَالَ: قد ترد هَذِه اللَّفْظَة وَالْمرَاد بهَا تَحْقِيق معنى من غير تعرض لنفي حَقِيقِيّ وَذَلِكَ نَحْو قَوْله إِنَّمَا مُحَمَّد نَبِي الله، وَإِنَّمَا زيد عَالم، وَلَا يَعْنِي بذلك نفي النُّبُوَّة وَالْعلم عَن غَيرهمَا، وَلَكِن أظهر مُرَاده اقْتِضَاء النَّفْي فَإِن الْعَرَب لَا تفصل بَين قَول الْقَائِل " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة " وَبَين قَوْله " لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة "، وَقد سمى أهل اللُّغَة ذَلِك تمحيقا وتحقيقا ونفيا وإثباتا.
[845] وَقد حقق بعض النَّاس معنى النَّفْي فِيمَا صدرنا بِهِ الْفَصْل، فَقَالَ: قَول الْقَائِل: إِنَّمَا مُحَمَّد رَسُول الله مَعْنَاهُ: لَيْسَ مُحَمَّد إِلَّا رَسُول الله، وَهَذَا أظهر من حُرُوف الْغَايَة مَعَ أَنه لَا يَنْتَهِي القَوْل فِيهِ إِلَى الْقطع مَعَ نفي دَلِيل الْخطاب.
(158) القَوْل فِي ذكر مائية الْبَيَان ووجوهه

[846] اخْتلف الأصوليون فِي حَقِيقَة الْبَيَان فَذهب أَبُو بكر

(2/203)


الصَّيْرَفِي إِلَى أَن حَقِيقَة الْبَيَان: إِخْرَاج الشَّيْء من حيّز الْإِشْكَال إِلَى التجلي وَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ من خَاضَ فِي الْأُصُول من اصحاب الشَّافِعِي رَحمَه الله، وَذهب بعض الْمُتَكَلِّمين إِلَى أَن حد الْبَيَان: هُوَ الْعلم بالشَّيْء فَكل علم بَيَان، وكل بَيَان علم.
[847] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالْبَيَان لَفْظَة عَرَبِيَّة تَتَرَدَّد بَين معَان يرجع مآل جَمِيعهَا إِلَى الظُّهُور فَنَقُول: بِأَن الْأَمر إِذا انْكَشَفَ، وَبَان الْهلَال وَالْفَجْر، وَبَان مَا فِي ضمير فلَان، والإبانة: الْإِظْهَار، وَكَذَلِكَ التَّبْيِين، وَقد ترد الْإِبَانَة، وَالْمرَاد بهَا الْقطع، والفصل، فَتَقول: أبينت يَد فلَان عَن جسده، إِذا قطعت وفصلت مِنْهُ، وَكَأن ذَلِك يرجع إِلَى معنى الظُّهُور أَيْضا فَإِن مَا كَانَ مُتَّصِلا بجملة كَانَ لَا يعرف على حياده تميزا، فَإِذا فصل وَأبين، فقد ظهر لنَفسِهِ، وَعرف فِي نَفسه دون معرفَة جملَة هُوَ كَائِن مِنْهَا.
[848] فَأَما معنى الْبَيَان فِي اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ: فَهُوَ الدَّلِيل الَّذِي

(2/204)


يتَوَصَّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ إِلَى الْعلم بِمَا هُوَ دَلِيل عَلَيْهِ.
فَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي / رَضِي الله عَنهُ فنبطل مَا سوى ذَلِك ثمَّ [96 / أ] نحققه.
[849] فَأَما من زعم أَن الْبَيَان هُوَ إِخْرَاج الشَّيْء من حيّز الْإِشْكَال، إِلَى حيّز التجلي فَهَذَا مَدْخُول فَإِن الْمَقْصد من الْحَد أَن يكون جَامعا مَانِعا، وَهَذَا شَذَّ عَنهُ ضروب من الْبَيَان، وَذَلِكَ أَن الْإِخْرَاج من حيّز الْإِشْكَال يتخصص بِمَا ثَبت مُشكلا مُجملا ثمَّ يتَبَيَّن. وصريح هَذَا اللَّفْظ منبىء عَن ذَلِك، وَقد ثَبت ضروب من الْبَيَان فِي ذَلِك، فَإِن الرب سُبْحَانَهُ إِذا أثبت

(2/205)


206 - @ شرعا ابْتِدَاء مُبينًا وَلم يسْبق فِيهِ التباس وإشكال فَهَذَا بَيَان وفَاقا، وَلما ورد مُبينًا وَلم يسْبقهُ لبس وإجمال يسْتَحق الْإِخْرَاج من حيّز الْإِشْكَال، وَكَذَلِكَ كل لَفْظَة وَردت بَيِّنَة وَهِي مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا وَلم تكن تَفْسِيرا وكشفا لغَيْرهَا، فَهِيَ بَيَان وَلَيْسَ يتَحَقَّق فِيهَا الْإِخْرَاج عَن حيّز الْإِشْكَال.
[850] وَأما من قَالَ: إِن الْبَيَان هُوَ الْعلم، فقد زل فِيهِ من أوجه، مِنْهَا: أَن أَرْبَاب الْعلم أطبقوا على أَن الله سُبْحَانَهُ حقق فِي حق الْكَفَرَة العندة بَيَان الشَّرْع، كَمَا حقق فِي حق الْمُسلمين مَعَ عدم علم الْكَفَرَة بِالشَّرْعِ، فَدلَّ أَن الْبَيَان لَا يرجع إِلَى الْعلم، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه أَنَّك تَقول: بعد تَقْرِير الْكَلَام مِنْك وَقد صَار مَبْنِيّ بَيَان ذَلِك، وَلَكِنَّك لم تتبين، فَدلَّ ذَلِك أَن [التَّبْيِين] هُوَ الْعلم وَالْبَيَان هُوَ الْإِعْلَام، بِنصب الْأَدِلَّة، وَالْعرب فِي إِطْلَاقهَا تَقول: [بيّنت] الشَّيْء [تتبيينا] وبيانا، فَحمل الْبَيَان مَحل التَّبْيِين وَهَذَا مَا سَبِيل إِلَى جَحده.

(2/206)


وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْبَيَان لَو كَانَ علما وَجب أَن تكون الْعُلُوم الضرورية بَيَانا، حَتَّى يكون علمك بالمحسوسات بَيَانا لَهَا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى إِطْلَاقه.
[851] فالسديد إِذا مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي وَهُوَ: أَن الْبَيَان هُوَ الدَّلِيل على الْقُيُود الَّتِي ذَكرنَاهَا.
[852] ثمَّ أعلم أَن الْأَدِلَّة تَنْقَسِم فَمِنْهَا العقليات، فَهِيَ بَيَان لمدلولاتها، وَمِنْهَا السمعيات، ثمَّ السمعيات قد تكون قولا، وَقد تكون فعلا، وَقد تكون رمزا وَإِشَارَة. والميز بَينهَا وَبَين العقليات أَنَّهَا لَا تدل بأنفسها، وَلَكِن تدل بِنصب ناصب لَهَا أَدِلَّة.
(159) فصل

[853] اعْلَم أَن الْكَلَام على ثَلَاثَة أَقسَام:
فَمِنْهُ المستقل بِنَفسِهِ نصا أَو فحوى، فَهُوَ بَيَان فِي نَفسه، وَلَا حَاجَة لَهُ إِلَى بَيَان.
وَالضَّرْب الثَّانِي: من الْكَلَام مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ من وَجه ويفتقر إِلَى بَيَان وَجه. وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فثبوت إيتَاء الْحق على الْجُمْلَة بَيَان وتفصيل الْحق وَقدره وكيفيته مُجمل مفتقر إِلَى الْبَيَان.

(2/207)


وَالضَّرْب الثَّالِث: من الْكَلَام مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ بِوَجْه أصلا، وَهَذَا نَحْو اللَّفْظَة المستعملة مجَازًا المنقولة عَن أصل الْوَضع فَإِذا وَردت مثل هَذِه اللَّفْظَة وَلم يغلب اسْتِعْمَالهَا مجَازًا فَهِيَ مجملة تفْتَقر إِلَى بَيَان من كل وَجه وَلَيْسَت بِبَيَان فِي نَفسهَا.
(160) القَوْل فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاج إِلَى وَقت الْحَاجة
[854] اعْلَم أَن أَرْبَاب الشَّرَائِع أجمعوإ على ان الْبَيَان لَا يُؤَخر عَن [96 / ب) وَقت الْحَاجة فِي قَضِيَّة التَّكْلِيف ويتبين ذَلِك أَن الْأَمر إِذا / تعلق بالمكلف على التَّضْيِيق من غير فسحة فِي التَّأْخِير وَلَا يسْتَقلّ الْمَأْمُور بِهِ دون بَيَان، لَا يسوغ تَأْخِير الْبَيَان عِنْد تحقق هَذِه الْحَاجة الَّتِي وصفناها إِلَّا على اصل من يجوز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق على مَا نومىء إِلَيْهِ فِي آخر الْكتاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ولسنا نتعلق فِي إِيجَاب ذَلِك بِمَا تنطق بِهِ الْقَدَرِيَّة فِي فَاسد أُصُولهَا فِي التَّعْدِيل والتجوير والتحسين والتقبيح بيد أَنا نقُول يلْتَحق ذَلِك بالمحالات، فَإِن الْأَمر إِذا تعلق بالمكلف على التَّضْيِيق وامتثاله مَشْرُوط بِمَا لم يتَبَيَّن كَانَ ذَلِك محالا نازلا منزلَة تَكْلِيف جمع الضدين، وَسَائِر ضروب المحالات، فَهَذَا فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة.

(2/208)


[855] فَأَما تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة فقد اخْتلف النَّاس فِيهِ فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم أهل الْحق من الْفُقَهَاء، والمتكلمين جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة وَإِلَيْهِ صَار الشَّافِعِي، وَابْن سُرَيج، ولطبري، والأقفال، والشاشي، ثمَّ عمموا القَوْل فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن الْمُجْمل والتخصيص عَن اللَّفْظَة الَّتِي ظَاهرهَا الْعُمُوم.
وأطلقوا هَذَا القَوْل فِي الْأَوَامِر والنواهي، والوعد والوعيد، وَسَائِر ضروب الْأَخْبَار، فمهما لم تمس الْحَاجة كَمَا صورناها سَاغَ إِجْمَال اللَّفْظ إِلَى الْوَقْت الَّذِي يتَحَقَّق الْحَاجة فِيهِ، وساغ ترك التَّنْبِيه على التَّخْصِيص فِي اللَّفْظَة الَّتِي ظَاهرهَا الشُّمُول إِلَى وَقت تَحْقِيق الْحَاجة.
وَصَارَت الْمُعْتَزلَة إِلَى منع تَأْخِير الْبَيَان، وأوجبوا أَن لَا ترد لَفْظَة إِلَّا ويقترن بهَا بَيَانهَا إِذا لم تكن مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا وَإِلَيْهِ صَار كثير من اصحاب

(2/209)


أبي حنيفَة وَهُوَ اخْتِيَار ابْن دَاوُد، وَإِلَيْهِ مَال من اصحاب الشَّافِعِي أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي وَأَبُو بكر الصَّيْرَفِي.
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى الْفرق بَين الْعَام والمجمل فَقَالُوا: اللَّفْظَة الَّتِي

(2/210)


ظَاهرهَا الْعُمُوم لَا يسوغ تَأْخِير تخصيصها عَنْهَا، كَمَا لَا يسوغ تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء عَن الْمُسْتَثْنى عَنهُ بِزَمَان يطول، وَأما اللَّفْظ الْمُجْمل فَيجوز أَن يُؤَخر بَيَانه إِلَى وَقت الْحَاجة.
وَذهب بعض النَّاس إِلَى الْفرق بَين الْأَوَامِر، والنواهي، وَبَين الْأَخْبَار فَقَالَ: يجوز تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة فِي الْأَوَامِر والنواهي، وَلَا يجوز ذَلِك فِي الْأَخْبَار كالوعد والوعيد وأنباء الْآخِرَة. فَلَا بُد أَن ترد مفصلة مُسْتَقلَّة.
[856] وَالطَّرِيق أَن نقدم شبه الْمُخَالفين.
شُبْهَة لَهُم: فَإِن قَالُوا: لَو جَوَّزنَا وُرُود المجملة ثمَّ سوغنا تَأْخِير بَيَانهَا عَنْهَا كَانَ ذَلِك نازلا منزلَة مُخَاطبَة الْعَرَب بلغَة الْعَجم فَإِنَّهُم كَمَا لم يفهمومها لَا يفهمون مَا خوطبوا بِهِ من الْمُجْمل فَكَمَا يَسْتَحِيل مخاطبتهم بلغَة لَا يعرفونها وَجب أَن يَسْتَحِيل مخاطبتهم بمجمل.
وأوضحوا ذَلِك بَان قَالُوا: لما لم يسغْ مُخَاطبَة الْمَيِّت والجماد وَمن لَا يعقل لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر أَن يفهم مَا خُوطِبَ بِهِ، فَكَذَلِك شَأْن الْعَرَب إِذا

(2/211)


خوطبت بمجمل. فَيُقَال لَهُم: بنيتم أصل دليلكم على منع مُخَاطبَة الْعَرَب [97 / أ] / بلغَة الْعَجم وَقد زللتم فِيهِ فَإِن هَذَا من المجوزات عندنَا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَبْعُوث إِلَى الْعَرَب والعجم وَكَانَ مَا يبدر من الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة إلزاما للْعَرَب والعجم وفَاقا.
فَإِذا سَاغَ مُخَاطبَة الْعَجم بلغَة الْعَرَب لم يبعد عَكسه.
[857] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا يخاطبون بلغَة الْعَرَب على أَن تترجم لَهُم.
قُلْنَا: فَهَذَا القَوْل فِيمَا الزمتموه، ثمَّ نقُول لَهُم: قد استبعدتم فِي الْخطاب مَا لَا بعد فِيهِ، فَإِن أَرْبَاب الْأَلْسِنَة الْمُخْتَلفَة يتخاطبون بلغاتهم المتباينة وَيقوم بَينهم المترجمون فَلَا يعد ذَلِك متناقضا فِي التخاطب فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا.
[858] وَأما مَا استروحوا إِلَيْهِ من مُخَاطبَة الجماد وَالْمَيِّت فَيُقَال لَهُم: لم زعمتم أَن الَّذِي. . فِيهِ منزل منزلَة مُخَاطبَة الْمَيِّت فَلَا يرجعُونَ إِلَّا إِلَى طرد لَا يثبت بِمثلِهِ الْمَقْصد فِي مسَائِل الْقطع.
ثمَّ يُقَال لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَيِّت لَا يتَصَوَّر مِنْهُ التَّوَصُّل إِلَى معرفَة مَا خُوطِبَ بِهِ بطرِيق من طرق وَلَيْسَ كَذَلِك الْمُخَاطب بالألفاظ المجملة. @ [859] فَإِن قيل: يتَوَقَّع أَن يَجْعَل الله للْمَيت حَيَاة ويوفر عَلَيْهِ أَسبَاب

(2/212)


التفهم كَمَا يقدر نصب أَسبَاب يتَعَلَّق بهَا إفهام المخاطبين بعد إِجْمَال اللَّفْظ فَلَا فصل بَينهمَا.
قيل لَهُم: إِنَّمَا المستبعد تَوْجِيه الْخطاب على الْمَيِّت مَعَ تَقْدِير بَقَاء مَوته فَأَما على تَقْدِير حَيَاته وعقله فَلَا يستبعد توجه الْأَمر عَلَيْهِ، كَيفَ وَقد قدمنَا أَن الأمريتوجه على الْمَعْدُوم بِشُرُوط تَقْدِير الْوُجُود فَإِذا لم يبعد ذَلِك فَهَذَا على الْبعد أبعد.
[860] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: قَالُوا: إِذا وَردت لَفْظَة مَوْضُوعَة للْعُمُوم فَلَو جَوَّزنَا أَن تتبين فِي المَال أَن المُرَاد بهَا خُصُوص أفْضى ذَلِك إِلَى محَال وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة فِي موردها مُجَرّدَة، وَمن حكم مثل هَذِه اللَّفْظَة إِذا تجردت أَن يُرَاد بهَا الشُّمُول فَإِذا جَوَّزنَا إِرَادَة الْخُصُوص بهَا فَينزل ذَلِك منزلَة مَا جَوَّزنَا أَن يُرَاد بالمشركين الْمُؤْمِنُونَ، وبالناس الْبَهَائِم إِلَى غير ذَلِك من قلب الْأَجْنَاس فِي المسميات.
فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بالنسخ فَإِن النّسخ عنْدكُمْ تَخْصِيص زمَان على مَا نقرره فِي أدلتنا، ثمَّ يجوز وُرُود اللَّفْظ الْمُطلق المتناول لكل الْأَزْمَان، وَإِن كَانَ سيبين فِي الْمَآل أَن المُرَاد بهَا بعض الْأَزْمَان، وَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ.
ثمَّ نقُول: الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم لَيست بنصوص فِي اقْتِضَاء

(2/213)


الشُّمُول، وَإِن قَدرنَا القَوْل بِالْعُمُومِ، وَلَكِن الْأَظْهر منا اقْتِضَاء الْعُمُوم، وَقد يرد فِي الْخطاب على خلاف إِرَادَة الشُّمُول فَم هَذَا الْوَجْه لم يبعد إِطْلَاقه أَولا وتخصيصه آخرا.
وَمن تَأمل مجاري الْكَلَام لم يستبعد مثل ذَلِك فِيهَا فَإِن الْعَرَب قد تطلق لفظا ينبىء ظَاهره عَن معنى ثمَّ تفسره عِنْد الْحَاجة بِمَا أَرَادَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك [97 / ب] الْأَسَامِي الَّتِي هِيَ نُصُوص فِي الإنباء عَن مسمياتها فَبَطل مَا قَالُوهُ م.
[861] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: قَالُوا: إِذا وَردت لَفْظَة مَوْضُوعَة للْعُمُوم فَلَو جَوَّزنَا أَن تبين فِي الْمَآل أَن المُرَاد بهَا خُصُوص أفْضى ذَلِك إِلَى محَال، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة فِي موردها مُجَرّدَة وَمن حكم مثل هَذِه اللَّفْظَة إذاتجردت أَن يُرَاد بهَا الشُّمُول، فَإِذا جَوَّزنَا إِرَادَة الْخُصُوص بهَا فَينزل ذَلِك منا منزلَة مَا جَوَّزنَا اللَّفْظَة للْعُمُوم فَيجب بِالشَّرْعِ الْمصير إِلَى اعْتِقَاد الْعُمُوم فِيهَا، فَإِن كَانَ الِامْتِثَال على فسحة وَتَأْخِير فَلَا يتَحَقَّق اعْتِقَاد فِي اللَّفْظ الْوَارِد على أصلكم، وَأَنه إِن اعْتقد خُصُوصا جوز خِلَافه، وَكَذَلِكَ على الضِّدّ من ذَلِك فَهَذَا سد بَاب الِاعْتِقَاد مَعَ الِاتِّفَاق على لُزُوم الِاعْتِقَاد.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تحكم مِنْكُم فَإنَّا لَا نوجب اعْتِقَاد عُمُوم، وَلَا اعْتِقَاد خُصُوص فِي الْمُتَنَازع فِيهِ.
وَلَكِن يتَوَقَّف الْمُخَاطب وَلَا يجْزم اعْتِقَاد ويعتقد أَن يتَمَثَّل مَا سيبين لَهُ فِي وَقت الْحَاجة، فَبَطل مَا قَالُوهُ، على أَنه ينتفض صَرِيحًا بِمَا قدمْنَاهُ من

(2/214)


النّسخ، وَلَا تطرد لَهُم شُبْهَة إِلَّا وينقضها النّسخ بِحَيْثُ لَا يَجدونَ عَنهُ مهربا، فَتنبه لذَلِك واستعن بِهِ على إِيرَاده فِي كل مَوضِع.
[862] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا يَسْتَقِيم الْخُصُوص فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ تَسْلِيم إبِْطَال القَوْل بِالْوَقْفِ والمصير إِلَى تَجْوِيز تَأْخِير الْبَيَان تورط فِي الْوَقْف وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ إِذا ورد مُجَردا وجوزنا أَن يكون المُرَاد بِهِ الْخُصُوص فَهَذَا عين التَّرَدُّد فِي مُقْتَضَاهُ وَهُوَ ذهَاب إِلَى الْوَقْف.
قُلْنَا: الْفَصْل بَين المذهبين أَنا نقُول مَعَ القَوْل بِالْعُمُومِ: إِذا وَردت لَفْظَة من الفاظ الْعُمُوم فِي وَقت الْحَاجة حملت على الْعُمُوم عَن انْتِفَاء الْقَرَائِن لَا محَالة.
والواقفية يَزْعمُونَ أَنه مَعَ الْحَاجة لَا يحمل على الْعُمُوم إِلَّا بِدَلِيل من قرينَة وَنَحْوهَا فقد تبين انْفِصَال أحد المذهبين عَن الآخر.
وَكَذَلِكَ إِذا ورد اللَّفْظ مُتَقَدما على الْحَاجة فَلَا يقطع القَوْل بالمقتضى بهَا فَإِذا ارتبت الْحَاجة وَلم يُقيد بتخصيص عرفنَا أَن المُرَاد بهَا الْعُمُوم، والواقفية يَزْعمُونَ أَنا لَا نَعْرِف ذَلِك إِلَّا بِقَرِينَة دَالَّة عَلَيْهِ.
[863] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: قَالُوا: لَو جَازَ تَأْخِير الْبَيَان عَن الْكَلَام جَازَ تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء.
قُلْنَا: لم قُلْتُمْ ذَلِك؟ وَمَا دليلكم على وجوب الْجمع بَينهمَا؟ وَلنْ يفلح من تمسك بِمثل هَذِه الشُّبْهَة فِي مثل هَذِه الطّلبَة.
ثمَّ نقُول: وجدنَا كَلَام الْعَرَب يَنْقَسِم إِلَى مُبين وعام فِي ظَاهره يبين

(2/215)


خصوصه بعد حِين، وَلَفظ مُشْتَرك بَين معَان يُطلق أَولا ثمَّ يخصص بِأحد احتز الابه بعد زمَان وَمَا وجدنَا فِي كَلَام الْعَرَب إِفْرَاد الِاسْتِثْنَاء عَن الْمُسْتَثْنى فَإِن من قَالَ: رَأَيْت الْقَوْم، ثمَّ قَالَ بعد عصر طَوِيل: إِلَّا زيدا لم يكن ذَلِك منتظما فِي أصل الْكَلَام، وَأما إِطْلَاق الْمُشكل ثمَّ [تبيينه] بعد زمَان، فَأكْثر من أَن يُحْصى.
[864] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: لَو جَازَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأْخِير بَيَان [98 / أ] الْمُجْمل / فَلَا نَأْمَن بعد ذَلِك أَن يخترم قبل التَّأْخِير فَيكون ذَلِك تعديدا بتبليغ الشَّرِيعَة؟
قُلْنَا: فَقَوله لَهُ التَّأْخِير إِذا علم أَنه يتَمَكَّن من بَيَانه قبل ان يخترم وَلَا تَقولُونَ كَذَلِك، ثمَّ نقُول: أما نَحن فَلَا نستبعد ذَلِك فَنَقُول: يجوز أَن يتَوَجَّه الْأَمر حَقِيقَة على الْمُكَلف، وَهُوَ فِي مَعْلُوم الله من المخترمين، فَكَذَلِك إِذا جوز لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأْخِير الْبَيَان فَيجوز أَن تنطوي عَلَيْهِ الْعَاقِبَة ثمَّ إِذا اخترم لَا يؤاخد بِتَأْخِيرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مجوزا.
[865] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي ذَلِك الحكم وَقد اخترم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
قُلْنَا: إِن وحدنا طَرِيقا إِلَى التَّوَصُّل إِلَيْهِ بِسَائِر أَدِلَّة الشَّرْع فَذَلِك وَإِن

(2/216)


لَا الْأُخْرَى فقد بَان لنا سُقُوط الحكم عَنَّا كَمَا تبين سُقُوط الْوُجُوب عَن الْمُكَلف إِذا اخترم قَطعنَا بتوجهه عَلَيْهِ.
[866] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ تَأْخِير الْبَيَان جَازَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُؤَخر ادِّعَاء الرسَالَة.
قيل لَهُ: لَو جوز لَهُ التَّأْخِير وَأمر بِأَن يكتم مَا أرسل فِيهِ مُدَّة فَلَا يستبعد ذَلِك وَإِن أَمر بالتبليغ على الشَّرْع والمبادرة فيتتبع قَضِيَّة الْأَمر على التَّرَاخِي كَانَ أَو على الْفَوْر، فاضمحلت تمويهاتهم وَلَا تغفلن عَن نقض مَا يوردونه بالنسخ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُم عَنهُ منجى.
[867] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: إِذا لم تستقل اللَّفْظَة بِنَفسِهَا فِي إِفَادَة معنى فوجودها كعدمها، وَقد أجمع ارباب الْخطاب على أَن الْعبارَة الَّتِي لَا مزية لوجودها على عدمهَا تعد لَغوا، وحسبكم بذلك فَسَادًا فَبِمَ صرتم إِلَيْهِ؟ فَإِن قصارى مذهبكم قادكم إِلَى تَجْوِيز حمل كَلَام صَاحب الشَّرِيعَة على محمل ملغى إِذا حصل عَلَيْهِ.
قيل لَهُم: إِن عنيتم بقولكم أَن وجوده كَعَدَمِهِ فِي أَنه يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَهَذَا كَمَا قلتموه، وَإِن عنيتم بذلك أَنه لما لم يثر معنى يسْتَقلّ بِذَاتِهِ ينزل منزلَة الْمَعْدُوم فِي كل الْمعَانِي، فَهَذَا مَا فِيهِ تنازعنا، فَلم قلتموه؟ وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ ثمَّ نقُول بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن اللَّفْظَة إِذا وَردت غير مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا فَيعلم المخاطبون عِنْد موردها أَن لله عَلَيْهِم حكما، ويعزمون على امْتِثَال الْخطاب إِذا تبين لَهُم، وَفِيه ابداء الطَّاعَة والإذعان، والانقياد، وَفِيه أعظم الامتحان، فَمن هَذِه الْوُجُوه لَا تنزل اللَّفْظَة منزلَة عدمهَا.

(2/217)


على أَن مَا قَالُوهُ يبطل بالنسخ.
فَهَذِهِ شبههم، وَله طرق من الْكَلَام آئلة إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ.
[868] ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِذا ثَبت بِمَا قدمْنَاهُ بطلَان كل مَا عولوا عَلَيْهِ فِي ادِّعَاء الاستحالة فَلَيْسَ بَين الاستحالة وَالْجَوَاز رَقَبَة فَإِذا بَطل كل شُبْهَة لَهُم فِي ادِّعَاء الاستحالة فَلَا يبْقى بعْدهَا إِلَّا جَوَاز تاخير الْبَيَان.
[869] عُمْدَة الْقَائِلين بِالْجَوَازِ:
وَمِمَّا عول عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَاز تَأْخِير الْبَيَان أَن قَالُوا الْمَقْصُود من الْبَيَان فِي الْخطاب أَن يقدم الْمَأْمُور بِهِ على فعل الْمَأْمُور بِهِ كَمَا أَمر بِهِ فَإِذا كَانَ [98 / ب] الِامْتِثَال مُؤَخرا عَن وُرُود اللَّفْظ، فَلَيْسَ فِي تَأْخِير الْبَيَان اسْتِحَالَة / وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الْقُدْرَة إِنَّمَا شرطت فِي التَّكْلِيف ليتصور من الْمُكَلف الْإِقْدَام على مَا كلف فَلَو كَانَ الْأَمر مُتَقَدما والامتثال مُتَأَخِّرًا فَإِنَّمَا يشْتَرط مُقَارنَة الْقُدْرَة لحَال الِامْتِثَال، فَإِن الْمَقْصُود بِالْقُدْرَةِ الِامْتِثَال، وَكَذَلِكَ سَبِيل الْبَيَان، وَلَا تستقل بك الدّلَالَة إِلَّا بِقَيْد تودعه فِيهَا، فَنَقُول: إِن نَظرنَا إِلَى التخاطب وَمَا يُفِيد مِنْهُ وَمَا يجوز إِطْلَاقه فِيمَا رَأينَا، فَمن التخاطب ألفاظا مشكلة تطلق أَولا ثمَّ تبين بعد حِين، وَمن أنكر ذَلِك فقد راغم نشر اللُّغَة ونظمها، فَلَا استمالة فِي الْإِطْلَاق إِذا، والاستحالة تؤول إِلَى التَّكْلِيف، فَإِن الِامْتِثَال مُتَأَخّر، وَالْبَيَان إِنَّمَا شَرط لَهُ.
[870] وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ أَصْحَابنَا أَن قَالُوا: النّسخ تَخْصِيص فِي الزَّمَان، والتخصيص.

(2/218)


فِي الْأَعْيَان ثمَّ يجوز أَن ترد اللَّفْظَة مُطلقَة فِي الْأَزْمَان، وَالْمرَاد بَعْضهَا فَإِن لم يبعد ذَلِك فِي الْأَزْمَان لم يبعد فِي الْأَعْيَان.
[871 [قَالَ القَاضِي: وَلَا يَسْتَقِيم منا الِاسْتِدْلَال بذلك فَإِن النّسخ لَيْسَ بتخصيص فِي الْأَزْمَان عِنْدِي وَعند مُعظم الْمُحَقِّقين من أَصْحَابِي، وَإِنَّمَا هُوَ رفع حكم بعد ثُبُوته على مَا سنشبع القَوْل فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَلَكِن يصعب هَذَا على الْمُعْتَزلَة ويقوى على مَذْهَب من يوافقهم فِي حكم النّسخ.
[872] وَقد تخبطوا فِي التفصي عَن ذَلِك من أوجه:
مِنْهَا: أَنهم قَالُوا: إِطْلَاق اللَّفْظ فِي الْأَزْمَان لَا يمْنَع من اعْتِقَاد وجوب الِامْتِثَال وَإِطْلَاق الْأَعْيَان يمْنَع من ذَلِك.
قُلْنَا: هَذَا تحكم مِنْكُم فَإِنَّهُ إِذا ورد قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} ، فنعلم أَن أمرنَا بقتل بَعضهم ونعتقد ذَلِك على الْجُمْلَة كَمَا نعتقد ثُبُوت

(2/219)


الْأَحْكَام فِي بعض الْأَزْمَان على الْجُمْلَة، وَلَا سَبِيل إِلَى اعْتِقَاد ثُبُوت الْأَحْكَام فِي كل الْأَزْمَان مَعَ جَوَاز النّسخ الَّذِي حَقِيقَته تَخْصِيص زمَان، فَلَا فرق فِي ذَلِك إِذا بَينهمَا وَهَذَا مَا لَا مخلص مِنْهُ.
[873] فَلَمَّا صَعب مورد السُّؤَال عَلَيْهِم قَالَ من ادّعى التَّحْقِيق مِنْهُم: لَا فرق بَين التَّخْصِيص والنسخ فَكَمَا لَا يجوز تَأْخِير التَّخْصِيص عَن مورد اللَّفْظ فَكَذَلِك لَا يجوز تَأْخِير النّسخ عَن مورد اللَّفْظ، فَإِذا أَرَادَ الله تَعَالَى إِثْبَات حكم دهرا قَالَه مَعَ إثْبَاته فَإِذا انْقَضى فقد رفعته عَنْكُم.
فَاعْلَم أَن هَذَا افتراء من هَذَا الْقَائِل على إِجْمَاع الْمُسلمين وهتك لسخف الْحَقَائِق فَإنَّا نقُول لَهُ: قد ثَبت أَحْكَام فِي صدر الْإِسْلَام وَلم تشعر الصَّحَابَة بِأَنَّهَا ستنسخ، وَجحد ذَلِك يَقُود صَاحبه إِلَى جحد الضَّرُورَة والتواتر.
ثمَّ نقُول لهَؤُلَاء: لَو قدر اللَّفْظ مُقَيّدا بِمَا قلتموه مَا كَانَ ذَلِك نسخا بل كَانَ تأقيتا للْحكم.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الرب تَعَالَى قَالَ: صُومُوا من تفجر الصُّبْح إِلَى غرُوب الشَّمْس فَلَا يُقَال إِن ذَلِك نسخ للصَّوْم بعد غرُوب الشَّمْس، وَهَكَذَا جملَة الْأَحْكَام المؤقتة فِي الشَّرِيعَة فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
[874] فَإِن قَالُوا: لَا نشترط تَبْيِين وَقت النّسخ، وَلَكنَّا نشترط إِعْلَام الْمُكَلّفين أَن الحكم مِمَّا ينْسَخ فِي الْمَآل، وَلَو قدر وُرُود اللَّفْظ مُطلقًا من غير اقتران بِمَا يعلم الْمُكَلف أَن حكمه سينسخ فَلَا يسوغ.

(2/220)


فَيُقَال لهَؤُلَاء: فَهَذَا خرق مِنْكُم للْإِجْمَاع، فَإِن مَا اتّفق عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَاز النّسخ أَن الحكم الْمُطلق الَّذِي اعْتقد أَرْبَاب / الشَّرَائِع أَو غلب على [99 / أ] ظنهم [تأبده] يجوز أَن ينْسَخ، وَاعْلَم أَن هَذَا القَوْل مَا بدر إِلَّا عَن متأخري الْمُعْتَزلَة ومتعسفيهم، فَلَا نراهم يبدونه، بيد أَنا أحببنا أَن نذْكر كل مَا قيل، ثمَّ نقُول لهَؤُلَاء لم يغنكم مَا صرتم إِلَيْهِ عَمَّا أُرِيد بكم فَإِنَّكُم توقيتم الْإِجْمَال، وآثرتم تَصْوِير الْبَيَان فوقعتم فِي أعظم مَا اجتنبتموه، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ إِذا قدر بِأَنَّهُ ينْسَخ فالأوقات بَين ثُبُوت الِامْتِثَال وورود النّسخ غير مضبوطة فَيجوز أَن تمتد أعواما وَيجوز أَن تَنْقَضِي عَمَّا قريب وَلَا يقدم الْمُكَلف على الِامْتِثَال فِي وَقت إِلَّا وَيجوز النّسخ فِيهِ، فقد أعظم الْجَهَالَة، وَلَا فرق بَين أَن يلتزموا الْجَهَالَة فِي كل الْأَوْقَات أَو بَعْضهَا. ثمَّ نقُول لَهُم: ألستم جوزتم تَقْيِيد اللَّفْظ بِمَا قلتموه فلولا أَن النّسخ يجوز عقلا لما جَازَ تَقْيِيد اللَّفْظ بِهِ فَإِذا اثْبتْ أَن النّسخ من مجوزات الْعُقُول وَكَذَلِكَ سَاغَ الإفصاح بِهِ، فَهَلا جوزتم إِطْلَاق اللَّفْظ والاتكال على جَوَاز الْعقل فِي النّسخ فَبَطل مَا قَالُوهُ واضمحل مَا أصلوه.
[875] وَقد اسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا بآي من كتاب الله تَعَالَى.
مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قرأنه فَاتبع قرءانه 18 ثمَّ إِن علينا بَيَانه 19} ، وحرف " ثمَّ " للتأخير، فأنبأ ذَلِك عَن تَأْخِير الْبَيَان.

(2/221)


وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ فصلت من لدن حَكِيم خَبِير} .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بقوله فِي مُخَاطبَة بني إِسْرَائِيل: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} .
ونعلم أَن الله تَعَالَى لم يرد مِنْهُم إِلَّا تِلْكَ الْبَقَرَة المنعوتة بِعَينهَا وَلم يبينها لَهُم أول مرّة حَتَّى تَكَرَّرت مِنْهُم الأسئلة.
وَاسْتدلَّ أَيْضا بقوله تَعَالَى فِي قصَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام: {إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق}
وَوجه الدَّلِيل من ذَلِك أَنه فهم من الْوَعْد السَّابِق مَا يَقْتَضِي تنجية ابْنه الْهَالِك، وَلَوْلَا ذَلِك لما قَالَ مَا قَالَ، ثمَّ بَين لَهُ فَدلَّ ذَلِك على جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان.
[876] وَهَذِه الظَّوَاهِر وَإِن كَانَت رُبمَا تظهر فنتبع أَدِلَّة أولى، فَالْأَحْسَن فِي ذَلِك أَن نقُول: نَحن نعلم أَن الْخطاب بِالْحَجِّ لما ورد لم يبين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جملَة الْمَنَاسِك فِي مجْلِس وَاحِد بل كَانَ يُبينهُ على مر الْأَيَّام وَكَذَلِكَ الصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، وَنحن نعلم أَن مَا بَينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن ابْتِدَاء حكم لم يردهُ إِلَّا لَهُ بِأَصْل الْأَمر بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام،

(2/222)


وَمَا كَانَ ذَلِك أحكاما تتجدد وَلَكِن كَانَ ذَلِك تبيينا مِنْهُ وَلَو اقصصت موارد الشَّرِيعَة وجد ت كلهَا أَو جملها جَارِيا على هَذَا الْمنْهَج، وَهَذَا مِمَّا يقوى الِاعْتِصَام بِهِ وكل مَا تمسكنا بِهِ فِي الْأَوَامِر، والنواهي يطرد فِي الْوَعْد والوعيد بل الْوَعْد والوعيد بالإجمال أولى من حَيْثُ أَنه لم يتَعَلَّق بهما ... وامتثال وإقدام أَو كف، فَإِذا سَاغَ الْإِجْمَال فِي الْأَوَامِر والنواهي، فَلِأَن يسوغ فِي الْوَعْد والوعيد أولى، وَلَيْسَ للْقَوْم شُبْهَة يعجز عَن التفصي عَنْهَا بعد مَا أحطت علما بِمَا قدمْنَاهُ.
(161) فصل

[877] الْخطاب إِذا بَين بعضه فَلَا يدل ثُبُوت الْبَيَان فِي بعضه على قصر الحكم فِيمَا بَين، ويجوزه ثُبُوت بَيَان بعد بَيَان مَعَ تخَلّل / [99 / ب] الْأَزْمَان، كَمَا يجوز تَأْخِير أصل الْبَيَان عَن اللَّفْظ، وَبَيَان ذَلِك بالمثال أَن الرب تَعَالَى لَو قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْركين عِنْد انسلاخ الشَّهْر، ثمَّ قَالَ بعد زمَان: إِذا كَانُوا حربيين ثمَّ اتَّصل بالمخاطبين بعد زمَان التَّقْيِيد بالوثنيين، ثمَّ التَّقْيِيد بِالرِّجَالِ، وكل ذَلِك يسوغ وَلَا يتَضَمَّن ثُبُوت ضرب من الْبَيَان انحسام بَاب توقع الْبَيَان.

(2/223)


وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْعُمُوم الَّذِي يتَّصل بِهِ ضروب من التَّخْصِيص فِي أزمنة متباينة، فَكَذَلِك نقُول فِي الْمُجْمل إِذا بَين بعض المُرَاد بِهِ، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده} .
فَلَو قَالَ إِذا بلغ خَمْسَة أوسق، ثمَّ قَالَ: وَكَانَ مِمَّا يقتات، ويستنبت إِلَى غير ذَلِك من تتَابع ضروب الْبَين [كَانَ] ذَلِك سائغا وكل ذَلِك قبل الْحَاجة كَمَا قدمْنَاهُ.
[878] وَذهب بعض من جوز تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَى أَنه إِذا ثَبت بَيَان بعد تقدم اللَّفْظ فَلَا يجوز ثُبُوت الْبَيَان بعده.
وَمن الْعلمَاء من فصل بَين الْمُجْمل وَالْعَام فَقَالَ: إِذا خص بعض الْعُمُوم لم يرقب بعده تَخْصِيص وَإِذا بَين الْمُجْمل سَاغَ توقع بَيَان آخر.
وَمَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة فِي الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة يعود فِي هَذِه وكل مَا يتمسكون بِهِ، فَوجه التفصي عَنهُ مَا سلف.
[879] وَذهب بعض النَّاس إِلَى مَا بَين من الْأَلْفَاظ إِنَّمَا يرقب بَيَان آخر إِذا علم صَاحب الشَّرِيعَة الْمُكَلّفين أَن فِيهِ بَيَانا متوقعا.
فَأَما إِذا اتَّصل الْبَيَان بالمكلفين من غير إِشْعَار وإعلام فِي توقع الْبَيَان فَلَا يترقب بَيَان آخر وَهَذِه تحكمات تحسمها طرق الْأَدِلَّة.

(2/224)


(162) بَاب الْكَلَام فِي حكم أَفعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

[880] قد قدمنَا فِي صدر الْبَاب مَا يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف فِي أَفعَال الْمُكَلّفين وَمَا لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ مِنْهَا، فَذَكرنَا أَن افعال النَّائِم والساهي، والمغشي عَلَيْهِ وكل مَا لَا يعقل لَا يدْخل تَحت الْخطاب، فَأَما افعال العامدين الْعُقَلَاء فَلَا تَخْلُو عَن وجوب أَو ندب، أَو حظر، أَو إِبَاحَة، وَقد قسمنا القَوْل فِيهَا فِيمَا سبق.
[881] وَأما أَفعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أجل الْمُكَلّفين قدرا، وأرفعهم خطرا فَفِي أَفعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُبَاح الْمَأْذُون فِيهِ، وفيهَا الْوَاجِب المفترض، وفيهَا الْمَنْدُوب إِلَيْهِ الْمُسْتَحبّ.
[882] فَأَما الْمَحْظُور الْمحرم فيبتني على أصل لَا بُد من الْإِيمَاء إِلَيْهِ، وَإِن كَانَ من أصُول الديانَات نستعين بِهِ فِي خلل الْكَلَام.

(2/225)


[883] فَاعْلَم أَن عصمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِبَة فِيمَا يَلِيق بِمَعْرِِفَة الله تَعَالَى، فَلَا يجوز عَلَيْهِ مَا يضاد الْمعرفَة وفَاقا، وَكَذَلِكَ يجب عصمته فِي التَّبْلِيغ، فَلَا يجوز عَلَيْهِ تعمد الْخلاف فِيمَا يبلغهُ وفَاقا، وَأما مَا لَا يتَعَلَّق بالتبليغ، فقد اخْتلف ارباب الْأُصُول فِيهِ، فَذهب بَعضهم إِلَى قطع القَوْل بعصمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّغَائِر والكبائر، ثمَّ افترق هَؤُلَاءِ فرْقَتَيْن: فَذهب بَعضهم إِلَى منع النسْيَان على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يتَعَلَّق بِمَا هُوَ مُتبع فِيهِ، وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَجْوِيز الصَّغَائِر مَعَ وجود الْعِصْمَة عَن الْكَبَائِر، وَادعوا امْتنَاع ذَلِك عقلا مَعَ ثُبُوت النبوه، وَزَعَمُوا أَن النُّبُوَّة كَمَا تنَافِي ثُبُوتهَا تعمد الْخلاف فِي

(2/226)


الْبَلَاغ عقلا، فَكَذَلِك تنَافِي مقارفة الْكَبَائِر.
[884] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره / وجوب عصمَة [100 / أ] رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن تعمد الْخلف فِي التَّبْلِيغ عقلا، وَوُجُوب عصمته عَن الْكَبَائِر إِجْمَاعًا واتفاقا وسمعاً وَقد اتّفقت الْأمة على وجوب عصمَة الرُّسُل عَن الْكَبَائِر الواضعة من أقدارهم نَحْو السّرقَة، وَالزِّنَا وَنَحْوهمَا، وَهَذَا اثْبتْ إِجْمَاعًا، وَلَو رددنا إِلَى الْعقل لم يكن فِيهِ مَا يمْنَع ذَلِك.
[885] فَإِن قيل: فِي الْعقل مَا يمْنَع ذَلِك فَإِن امْتِثَال هَذِه القاذوريات لَو قدر بدورها من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام لاقتضت تنفير الْأَنْفس عَن الِاتِّبَاع.
فَيُقَال: هَذَا مِمَّا لَا يسوغ التعويل عَلَيْهِ، فَإنَّا نجوز على قَضِيَّة ثُبُوت أَحْوَال الْأَنْبِيَاء لَو قَدرنَا إبدالهما كَانَت النُّفُوس إِلَى تَابعهمْ أميل.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك اتِّفَاق ألأصحاب على أَنه كَانَ يجوز أَن يكون

(2/227)


الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاعِرًا يخط بِيَمِينِهِ، وَيقْرَأ وَيكْتب وَلم يكن ذَلِك من العزائم المتحتمة وَإِن كُنَّا نعلم أَنا لَو قَدرنَا ذَلِك رُبمَا ينطوي على ضروب من التنفير.
[886] وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن الْأَنْبِيَاء تميزوا بالمعجزات عَن أغيارهم، والمعجزة تدل على تصدقهم فِي تبليغهم، وَلَيْسَ فِيهَا اقْتِضَاء عصمتهم، فَثَبت بذلك أَنا ثبتنا مَا ثبتنا بقضية الْإِجْمَاع دون دلَالَة الْعقل.
[887] فَإِن قيل: فخبرونا هَل تجب عصمَة الْمَلَائِكَة؟
قُلْنَا: أما الرُّسُل مِنْهُم فَالْقَوْل فيهم كالقول فِي الْأَنْبِيَاء، وهم فِي حق الْأَنْبِيَاء كالأنبياء فِي حُقُوق الْأُمَم، وَأما عدا الرُّسُل فقد اخْتلف الْعلمَاء فَمن صائرين إِلَى ثُبُوت عصمتهم تمسكا بقوله تَعَالَى: {لَا يعصون الله مَا أَمرهم} فقد صدر هَذَا الْخطاب فيصدر التَّعْظِيم لَهُم، ويخصص آخَرُونَ ذَلِك بالمقربين من الْمَلَائِكَة كالحملة

(2/228)


والكروبيين وَنَحْوهم، وَزَعَمُوا أَن طَائِفَة مِنْهُم عصوا فَأَحْرَقَتْهُمْ الصَّوَاعِق والبوارق، فَهَذَا كُله من فن الْكَلَام بيد أَن أَطْرَاف الْكَلَام قد تتصل بِشَيْء، من ذَلِك.
[888] رَجعْنَا إِلَى الْمَقْصُود فَإِذا صدر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل واقترن بِهِ قَول يُوجب اتِّبَاعه فِيهِ فَيلْزم اتِّبَاعه لقَوْله، وَفعله علم لوُجُوب اتِّبَاعه، وَهُوَ مثل صلَاته مَعَ قَوْله: " صلوا كم رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " وحجه مَعَ قَوْله: " خذو عني مَنَاسِككُم " إِلَى غير ذَلِك.
فَأَما مَا بدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرما، على الْمَذْهَب الَّذِي يجوز عَلَيْهِ الصَّغَائِر فَلَا يجوز اتِّبَاعه فِيهِ، وَإِن بدر مِنْهُ الْفِعْل مُبَاحا فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ أَنه لَا يجب اتِّبَاعه فِيهِ وَلَا يسْتَحبّ أَيْضا، وَذهب شرذمة من النَّاس: إِلَى أَن اتِّبَاعه فِيمَا هُوَ مُبَاح فِي حَقه ندب فِي حَقنا.

(2/229)


[889] وَلَو صدر فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي معرض الْقرب، أَو بدر مِنْهُ مُطلقًا، أَو لم يتَقَيَّد بقيود الْقرب وَلَا بقيود الْإِبَاحَة، وتقابلت فِيهِ الجارات فَهَذَا موقع اخْتلَافهمْ فَذهب بَعضهم إِلَى انه يحرم اتِّبَاعه وَهَذَا بِنَاء من هَؤُلَاءِ على أصلهم فِي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع فَإِنَّهُم زَعَمُوا أَنَّهَا على الْحَظْر، وَلم يجْعَلُوا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علما فِي تثبيت حكم فَيبقى [100 / ب] الحكم على مَا كَانَ / عَلَيْهِ فِي قَضِيَّة الْعقل قبل وُرُود الشَّرَائِع.
وَذهب الْعلمَاء إِلَى أَن مَا صدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْإِبَاحَة فِي حَقنا.
وَذهب بَعضهم أَنه مَحْمُول على النّدب فَينْدب إِلَى فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(2/230)


وَإِلَيْهِ صَار أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ.
وَذهب مَالك رَضِي الله عَنهُ وَأكْثر أهل الْعرَاق مِنْهُم الْكَرْخِي وَغَيره إِلَى أَن مَا نقل من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطلقًا فَيجب علينا مثله إِذا لم يمْنَع من الْوُجُوب مَانع، وَبِذَلِك قَالَ ابْن سُرَيج، والأصطخري.

(2/231)


وَابْن خيران.
890 -] ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوب على طَرِيقين فَذهب بَعضهم إِلَى أَنا ندرك الْوُجُوب فِيمَا نقل من افعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطلقًا عقلا، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن تثبيت ذَلِك بأدلة السّمع. وسنومىء إِلَى شُبْهَة الفئتين.
[891] وَذهب الْمُحَقِّقُونَ من أهل كل مَذْهَب إِلَى ان فعل

(2/232)


رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا نقل مُطلقًا فَلَا يثبت بِهِ علينا حكم أصلا لَا وجوب، وَلَا ندب وَلَا إِبَاحَة، وَلَا حظر، وَالْحكم علينا بعد نقل فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَالْحكمِ علينا قبل نَقله وَهَذَا مَا نرتضيه وننصره.
[892] فَأَما وَجه الرَّد على الْقَائِلين بالحظر فنستقصيه فِي آخر الْكتاب عِنْد اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع، وَنَذْكُر هَهُنَا مَا يسْتَقلّ بِهِ فَنَقُول: مصير هَذَا الْمَذْهَب يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُض، فَإِن كل مَا فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنقل مُطلقًا لَو كَانَ مَحْظُورًا فِي حقوقنا لزمنا أَن نقُول: إِذا فعل

(2/233)


فعلا مرّة وَترك مثله ثَانِيًا فَيحرم علينا الْفِعْل وَالتّرْك جَمِيعًا عِنْد صدورهما مِنْهُ، مَعَ اسْتِحَالَة تعرينا عَنْهُمَا وسنوضح وَجه الرَّد على هَذِه الفئة.
[893] فَأَما من زعم أَن افعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَقْتَضِي الْإِبَاحَة فِي حَقنا فَيُقَال لَهُ: مَا المعني بِالْإِبَاحَةِ الَّتِي اطلقتها؟ فَإِن عنيت بهَا أَن فعله يتَضَمَّن إدنا لنا فِي الْإِقْدَام على مثله فَهَذَا محَال فَإِن الْفِعْل لَا يكون إِذْنا فِي مثله لَا عقلا، وَلَا سمعا إِذا لم تتقدم موَاضعه على نصب الْفِعْل علما فِي الْإِذْن، ثمَّ نقُول: الْإِبَاحَة ترجع إِلَى إِذن الله تَعَالَى مَعَ نفي اللوم وَالْأَجْر فِي الْفِعْل وَالتّرْك، وَفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدل على ذَلِك.
وَإِن أَرَادَ الصائر إِلَى هَذَا الْمَذْهَب أَن مَا فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يمْنَع مِنْهُ مَانع فِي الشَّرْع، فَلَو اقدم عَلَيْهِ مقدم لم يسْتَحق لوما فَهَذَا مَا نساعدهم عَلَيْهِ، وَهَذَا سَبِيل نفي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع.
[894] فَأَما من قَالَ، فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْتَضِي النّدب فِي

(2/234)


حقوقنا فَيُقَال لَهُم: هَذَا بَاطِل، فَإِن فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المتبع لَا ينْتَصب علما فِي النّدب على مثله عقلا، إِذا يجوز فِي الْعقل تخصصه بِمَا يحرم على غَيره، وَيجوز تَقْدِير صُدُور الْفِعْل مِنْهُ مُبَاحا وَهُوَ مُبَاح لغيره، وَيجوز تَقْدِير الْوُجُوب أَيْضا، فَإِذا تقابلت هَذِه الجائزات فِي الْعقل وَلَيْسَ فِي فعل الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ينبىء عَن تَبْيِين جِهَة من هَذِه الْجِهَات، فَلَا يرتضي أحد وَاحِدَة مِنْهَا إِلَّا ويقابل بِسَائِر / الْجِهَات فتتساقط الْأَقْوَال عِنْد تعارضها، فَهَذَا لوادعوه [101 / أ] عقلا، وَإِن ادعوهُ سمعا فتخصيص النّدب فِي قَضِيَّة لَا وَجه لَهُ، وَإِن من افعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يجب اتِّبَاعه فِيهِ، وَمِنْه مَا يُبَاح الْإِقْدَام على مثله من غير ندب، فتخصيص النّدب لَا وَجه لَهُ لَا عقلا وَلَا سمعا.
[895] فَإِن قيل: النّدب اقل رُتْبَة من الْوُجُوب، فحملنا الْأَمر على الْأَقَل؟
قيل: هَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن، أَحدهمَا: أَن مَا يتَحَقَّق وَاجِبا فَلَيْسَ فِيهِ معنى النّدب ليقدر النّدب اقل مرتبَة وَأَيْضًا فَإِن الْإِبَاحَة دون النّدب على زعمكم، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
[896] فان قَالُوا: إِنَّمَا الدَّال على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} ، فأنبأ ذَلِك عَن تَحْسِين التأسي بِهِ.

(2/235)


قيل لَهُم: الْوُجُوب ينعَت بالْحسنِ، كَمَا ينعَت النّدب، فَلم كُنْتُم بِالْحملِ على النّدب أولى من غَيْركُمْ إِذا حملوه على الْوُجُوب؟
[897] فَأَما وَجه الرَّد على الْقَائِلين بِالْوُجُوب فيداني وَجه الرَّد على الَّذين سبقوا، فَإنَّا نقُول فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَنْقَسِم، فَمِنْهُ الْوَاجِب، وَمِنْه الْمُبَاح، ولندب، وَلَيْسَ فِيمَا يصدر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يتَضَمَّن إِيجَابا علينا عقلا، فَإِن الْعقل لَا يَقْتَضِي تعين جِهَة على التَّخْصِيص مَعَ تقَابل الجائزات وتماثل الِاحْتِمَالَات، وَلَيْسَ فِي نفس الْفِعْل الصَّادِر مِنْهُ مَا يُوجب الْإِقْدَام على مثله عقلا، وكل مَا يتمسكون بِهِ من الْأَدِلَّة السمعية فَلَا مستروح فِي شَيْء على مَا سنقرر وُجُوه التفصي عَمَّا يعتصمون.
[898] شُبْهَة الْقَائِلين بِالْوُجُوب. فَإِن قَالُوا: كل مَا يصدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنعلم أَنه مصلحَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ متعبد بِهِ، وَمَا كَانَ مصلحَة لغيره، وَيجب على الْمَرْء تتبع مَصَالِحه.
وَهَذَا واه جدا من أوجه: مِنْهَا: أَن نقُول: من سوغ الصَّغَائِر على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لم يسلم مَا ادعيتموه، وَوجه الْمَنْع فِيهِ بَين.

(2/236)


ثمَّ نقُول: لم زعمتم أَن مَا كَانَ مصلحَة فِي حَقه كَانَ مصلحَة فِي حق غَيره؟ ألم تعلمُوا أَن الرتب تتباين، والمصلحة تخْتَلف باخْتلَاف الدَّرَجَات؟
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الصَّلَاة مصلحَة فِي حق الطَّاهِر، مفْسدَة فِي حق الْحَائِض، وَلَو تتبعنا تفَاوت الْأَفْعَال فِي حق الْمُكَلّفين من الْأَحْرَار وَالْعَبِيد لطال، وَفِي التَّنْبِيه عَلَيْهَا غنية.
ثمَّ نقُول: لَو كَانَ العَبْد يتَمَثَّل أوَامِر سَيّده، ويتجنب مُخَالفَته، فَلَيْسَ من شَرط تَحْقِيق مُوَافقَة ومحاشاة مُخَالفَته أَن يفعل كل مَا يَفْعَله سَيّده، فَبَطل مَا قَالُوهُ وَتبين أَن إِظْهَار الْخلاف إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْأَوَامِر دون الْأَفْعَال.
[899] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم - وَهِي عمدتهم - قَالُوا: لَو سَاغَ القَوْل بِأَن اتِّبَاعه فِي أَفعاله لَا يجب سَاغَ مثله فِي أَقْوَاله فَإِنَّهُ لَا فصل بَينهمَا.
قيل لَهُم: هَذِه دَعْوَى مُجَرّدَة، فَلم جمعتم بَينهمَا؟ فَلَا يرجعُونَ عِنْد التَّحْقِيق إِلَى طائل وَتَحْصِيل. ثمَّ نقُول: بِمَا تنكرون على من يَقُول أَن المعجزات دَالَّة على صدق الرَّسُول عَلَيْهِم السَّلَام، وَقبُول أَقْوَالهم، وَمَا يصدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَوَامِر فَإِنَّمَا هُوَ فِيهَا مبلغ وَالْأَمر لله / تَعَالَى. فَفِي رد [101 / ب] أَقْوَاله تسبب إِلَى رد قَضِيَّة المعجزة، وإفصاح برد النُّبُوَّة، وَلَا يتَحَقَّق مثل ذَلِك فِي الْأَفْعَال، فَإِن المعجزة لَا تدل على وجوب اتِّبَاعه فِي جملَة أَفعاله، إِذْ المعجزة لَا تدل إِلَّا على الصدْق، وَالْأَفْعَال لَا صِيغ لَهَا، وايضا فَإِن فعله مُخْتَصّ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء تثبيت مثله فِي حق غَيره، وَأما أَقْوَاله فمتعلقة فِي مقتضاها بالمكلفين، فافترق البابان ثمَّ نقُول: قد بَينا أَن فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على

(2/237)


التَّرَدُّد فنظيره من القَوْل مَا هُوَ على التَّرَدُّد، وَلَو [و] ردَّتْ لَفْظَة مترددة بَين احتمالات لَا سَبِيل إِلَى الْجمع بَينهمَا، واللفظة حَقِيقَة فِي كل وَاحِدَة مِنْهَا فَلَا سَبِيل إِلَى حمل اللَّفْظَة على بَعْضهَا بل يتَوَقَّف فِيهَا إِلَى الْبَيَان، فَهَذِهِ سَبِيل الْأَفْعَال، فَهَذِهِ عمدهم إِذا زَعَمُوا أَن الْوُجُوب الِاتِّبَاع مُسْتَدْرك عقلا.
[900] وَأما من ذهب مِنْهُم إِلَى أَن ذَلِك يثبت سمعا فقد اسْتدلَّ بآي من الْكتاب مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّبعُوهُ} ، قَالُوا: وَهَذَا أَمر، وَالْأَمر على الْوُجُوب.
قُلْنَا: لَا نسلم أَن الْأَمر على الْوُجُوب، وَقد قدمنَا فِي ذَلِك صَدرا من الْكَلَام مغنيا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ثمَّ لَا نسلم لكم الْعُمُوم لتعمموا ذَلِك فِي افعاله واقواله، على أَنا نقُول: ظَاهر الِاتِّبَاع ينبو عَن الطَّاعَة وَلَا تحقق الطَّاعَة إِلَّا فِي امْتِثَال الْأَوَامِر.
وَالَّذِي يحققه مَا قدمْنَاهُ من قَول الْقَائِلين أَن يمْنَع الْأمة وَهُوَ من اتِّبَاعه، وَلَا يعنون بِهِ أَنه يتصدر إذاتصدر وَيفْعل كل مَا يفعل الْآمِر، فَإِنَّمَا يؤول الِاتِّبَاع والامتثال والانقياد إِلَى امْتِثَال الْأَوَامِر.
[901] وَمِمَّا استدلوا بِهِ قَوْله تَعَالَى: (لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة

(2/238)


حَسَنَة 9، وَهَذَا لَا معتصم فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَة مَا يتَضَمَّن تثبيت الْوُجُوب على الْخُصُوص، بل فحوى الْآيَة إِلَى اقْتِضَاء النّدب اقْربْ.
[902] وَمِمَّا يستدلون بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ءاتكم الرَّسُول فَخُذُوهُ} 6، وَقَوله: {وأطبعوا الله واطيعوا الرَّسُول} .
فَأَما قَوْله: {وَمَا ءاتكم الرَّسُول} فَلَيْسَ فِيهِ مُصَرح بالإفعال فَلم حملتموه عَلَيْهَا؟ وَظَاهر الإيتاء: الْإِعْطَاء دون مَا رمتوه، على أَنه سُبْحَانَهُ قابله بِالنَّهْي فَقَالَ: {وَمَا نهكم عَنهُ فَانْتَهوا} فَدلَّ أَنه عَنى بالإيتاء: الأومر.
وَأما قَوْله: {وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} ، فَلَا حجَّة فِيهِ، وَأَن الطَّاعَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا فِي امْتِثَال الْأَمر، وَالْفِعْل لَا يكون أمرا.
[903] وَرُبمَا يستدلون بأخبار أَعْتَصِم فِيهَا الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم بِأَفْعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهَا مَا روى أَنه وَاصل الصّيام فواصله بعض الصَّحَابَة فنهاهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاعْتذر بَان قَالَ: واصلنا لما واصلت.

(2/239)


904 -] وَمِنْهَا ماروي انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلع نَعله فَخلع الصحاب نعَالهمْ فَهَذَا يدل على اعْتِقَادهم وجوب الِاتِّبَاع.
وَمِنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حلق عَام الْحُدَيْبِيَة فازدحم النَّاس على الحلاق اتبَاعا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
[905] وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قبل الْحجر

(2/240)


ثمَّ قَالَ: " أما أَنِّي أعلم أَنَّك حجر لَا تضر، وَلَا تَنْفَع، وَلَوْلَا أَنِّي رايت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبلك لما استلمتك فاعتصم بِفِعْلِهِ.
[906] وَمِنْهَا: مَا رُوِيَ أَن سَائِلًا سَأَلَ أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا عَن قبْلَة الصَّائِم فَسَأَلت رَسُول الله / صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أخبرتيه أَنِّي اقبل وَأَنا [102 / أ] صَائِم.
وسئلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن وجوب الْغسْل بالتقاء الختانين فأفتت بِالْوُجُوب وَقَالَت: فعلته أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا إِلَى غير ذَلِك من الْأَخْبَار.

(2/241)


[907] وَالْجَوَاب عَنْهَا من أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول الْأَفْعَال الَّتِي نقلت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خَصَائِصه وَمَا لم يُتَابع عَلَيْهِ أَكثر مِمَّا نقلتموه، ثمَّ نقُول: لم زعمتم أَنهم اتَّبعُوهُ فِي مُوجب هَذِه الْأَخْبَار التزاما واستحبابا، وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم استباحوا، وَبِمَ تنكرون على من يزْعم انهم استباحوا بَعْضهَا وَرَأَوا بَعْضهَا ندبا.
[908] ثمَّ نجيب عَن كل مَا تمسكوا بِهِ وَاحِدًا وَاحِدًا فَأَما حَدِيث الْوِصَال فنهيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتوبيخه لَهُم على اتِّبَاعه أدل الْأَدِلَّة عَلَيْكُم، إِذْ رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أيقوى أحدكُم على مَا أقوى؟ الحَدِيث.
وَأما خلع النِّعَال فقد كَانَ فِي الصَّلَاة، وَقد كَانَ سبق مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الصَّحَابَة باتباعه فِي الصَّلَاة لما قَالَ: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ".
وَأما الْحلق وتقبيل الْحجر فَلَقَد كَانَ من جملَة الْمَنَاسِك، وَكَانُوا قد سمعُوا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم ".
وَأما حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، وَأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا فلعلهما

(2/242)


أَيْضا اقتديا بقوله، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْمَنْقُول فِي حَدِيثهمَا لَيْسَ من الْأَفْعَال المختصة برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَيْهَا وَلذَلِك قايسا النَّاس بحكمهما، على أَنا نقُول كَمَا تمسكتم بِهِ آحَاد لَا يسوغ الِاعْتِصَام بِهِ فِي مسَائِل الْقطع، وَالله اعْلَم.
(163) القَوْل فِي ذكر الْوُجُوه الَّتِي يَقع عَلَيْهَا افعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
[909] إِذا صدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل مُطلق، وَلم يعلم بطرِيق من الطّرق أَنه أَرَادَ بِفِعْلِهِ تَبْيِين مُجمل، أوتنبيها على حكم شَرْعِي، فَالْحكم فِيهِ مَا قدمْنَاهُ من الْوَقْف، فَأَما إِذا صدر مِنْهُ الْفِعْل بَيَانا لحكم على [الِابْتِدَاء] ، اَوْ تَخْصِيصًا لعُمُوم أوتبيينا لمجمل فَيجب التَّمَسُّك بِهِ.
[910] وَنحن الْآن نجمع الطّرق الَّتِي إِذا وَقعت الْأَفْعَال عَلَيْهَا كَانَت بَيَانا، فأقوى الْوُجُوه فِي وَقع الْأَفْعَال بَيَانا وَاجِب الْإِيقَاع فِيهَا وَجْهَان: أَن يُصَرح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْأَمر بالاتباع فِيمَا يصدر مِنْهُ من الْأَفْعَال وَذَلِكَ نَحْو قَوْله: " صلوا كَمَا أيتموني اصلي ".
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يجمع الْعلمَاء على أَن الْمَقْصد من الْفِعْل الصَّادِر مِنْهُ بَيَان، فَيعلم أَن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد بَاطِلا، وَلَيْسَ علينا تتبع مَا انْعَقَد الْإِجْمَاع مِنْهُ.

(2/243)


[911] وَمن الطّرق فِي وُقُوع الْفِعْل بَيَانا أَن يثبت ويستقر على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أمته حكم، ثمَّ يصدر مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل يُخَالف ذَلِك الحكم وَيعلم أَنه لَيْسَ بساه ويتحقق عندنَا أَنه لَيْسَ بِمحرم، وَأما على منع الصَّغَائِر أَو بِأَن يتَحَقَّق بقرائن الْحَال ذَلِك، فَإِذا ثَبت الْفِعْل على هَذَا / الْوَجْه فيتبين لنا أَن الحكم قد نسخ فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَكِن لَا يتَبَيَّن نسخ الحكم فِي حَقنا بِمُجَرَّد صُدُور الْفِعْل مِنْهُ حَتَّى يتَبَيَّن لنا ذَلِك بِأحد أَمريْن، إِمَّا بالْقَوْل، وَإِمَّا أَن يصدر منا مثل مَا صدر مِنْهُ فيقررنا عَلَيْهِ، فيتبين حِينَئِذٍ النّسخ فِي حَقه وَفِي حق من قَرَّرَهُ على مثل فعله.
[912] وَمن الْوُجُوه فِي الْبَيَان أَن ترد لَفْظَة عَامَّة مُتَعَلقَة فِي مقتضاها بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِغَيْرِهِ، ثمَّ يبدر مِنْهُ فعل كَمَا نعتناه وَظَاهر الْعُمُوم لَا يَقْتَضِيهِ فيتبين لنا تَخْصِيص الْعُمُوم وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} .
فَهَذَا عَام فِي كل من ينْطَلق اسْم السَّارِق عَلَيْهِ، فَإِذا رَأينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقطع فِيمَا دون الرّبع دِينَار، مَعَ صُدُور الْفِعْل عَنهُ على غير وَجه النسْيَان، فنعلم أَن ذَلِك غير دَاخل تَحت قَضِيَّة اللَّفْظ، وَإِذا رَأَيْنَاهُ لَا يقطع فِي الثَّمر والكنز فَكَذَلِك.

(2/244)


[913] وَلَو تقدم لفظ مُجمل مثل قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} ثمَّ أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحَصاد قدرا فَلَا نعلم أَن فعله بَيَانا لقَوْله سُبْحَانَهُ: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فَإنَّا نجوز أَن يكون هَذَا الْفِعْل ثَابتا عَن قَضِيَّة أَمر آخر، ونجوز أَن يكون الْمَأْخُوذ غير الْمَنْطُوق بِهِ مُجملا فِي الْآيَة، فَلَا نقطع القَوْل بِأَن فعله بَيَان فِي هَذِه الصُّورَة حَتَّى ينبهنا عَلَيْهِ بطرِيق من طرق التَّنْبِيه، وَقد يتَصَوَّر أَن يَجْعَل فعله فِي مثل هَذِه الصُّورَة الَّتِي قدمناها بَيَانا، وَذَلِكَ نَحْو مثل أَن يفعل مَا صورناه ويخترم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ونعلم أَنه لَا يخترم مَعَ بَقَاء الالتباس فِي اللَّفْظَة المجملة فأظهر الْأَحْوَال كَون فعله بَيَانا، فقد أَجمعت الْأمة على حمل فعله على [الْبَيَان] فِي مثل هَذِه الصُّورَة، فتتبعنا الْإِجْمَاع وألحقنا ذَلِك بِمَا قدمْنَاهُ فِي صدر الْبَاب، وَلَوْلَا الْإِجْمَاع، فَلَو رددنا إِلَى تَحْقِيق الْبَيَان لما جَعَلْنَاهُ بَيَانا مَعَ مَا فِيهِ من الِاحْتِمَال بيد أَن الْإِجْمَاع يحسم الِاحْتِمَال.

(2/245)


[914] وَمن طرق الْبَيَان أَن بتمهد لنا فِي أصُول الشَّرِيعَة أَن يُكَرر فعلا من الْأَفْعَال فِي بعض الْعِبَادَات على قصد الشَّرْع بِمَا يبطل الْعِبَادَة، فَإِذا كرر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد سبق من تمهيد الأَصْل مَا أومأنا إِلَيْهِ فنعلم أَن مَا كَرَّرَه شَرط الصِّحَّة فِي تِلْكَ الْعِبَادَة، وَبَيَان ذَلِك أَنه ثَبت فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من ركع فِي رَكْعَة وَاحِدَة ركوعين بطلت صلَاته، ثمَّ رَآهُ يرْكَع ركوعين فِي صَلَاة الخسوف، فَعَلمُوا من ذَلِك أَنه مَشْرُوط فِي صِحَة صَلَاة الْكُسُوف.
(164) فصل

[915] اتّفق الأصوليون على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قرر إنْسَانا على فعل فتقريره إِيَّاه يدل على أَنه غير مَحْظُور، وَلَو كَانَ مَحْظُورًا لأنكره، ثمَّ لَا يُمكن بعد ذَلِك قطع القَوْل بِكَوْنِهِ مُبَاحا أَو وَاجِبا أوندبا بل تَجْتَمِع فِيهِ هَذِه الِاحْتِمَالَات، وَلَا يتَبَيَّن من [103 / أ] التَّقْرِير الْمُطلق إِلَّا نفي الْحَظْر، ثمَّ انْتِفَاء الْحَظْر يتخصص بِمن

(2/246)


قَرَّرَهُ وَلَا نقُول أَن ذَلِك يعم فِي كَافَّة الْمُكَلّفين، فَإِن التَّقْرِير لَهُ صِيغَة تعم وتشمل جملَة الْمُكَلّفين، وَلَو كَانَ قد صدر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنْكَار، وتنصيص على تَحْرِيم فِي ضروب من الْفِعْل ثمَّ قرر عَلَيْهِ أحدا فتقريره ينبىء عَن نفي التَّحْرِيم وارتفاعه فِي حق من قَرَّرَهُ، وَلكنه لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره كَمَا قدمْنَاهُ إِلَّا أَن ينْعَقد الْإِجْمَاع على أَن التَّحْرِيم إِذا ارْتَفع فِي حق وَاحِد فقد ارْتَفع فِي حق الكافة بِأَن يعلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل الْإِجْمَاع أَن هَذَا الحكم فِي ثُبُوته ونفيه يعمكم وَلَا يتخصص بِوَاحِد منم، فَإِذا [قرر] مَعَ ذَلِك وَاحِدًا على مثل الْفِعْل الَّذِي حرمه فَيَقَع هَذَا التَّقْرِير بَيَانا فِي رفع الحكم ونسخه فِي حق الكافة.
[916] وَمن طَرِيق الْبَيَان أَن يسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بَيَان مُجمل، فيعقب السُّؤَال بِفعل يقْتَرن بِهِ من الْقَرَائِن مَا يضْطَر إِلَى انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رام جَوَاب السَّائِل بِفِعْلِهِ فَهَذَا يَقع بَيَانا لَا محَالة وبتنزيل لَا محَالة فعله منزلَة القَوْل.
(165) فصل

[917] إِذا صدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل وَاقع موقع الْبَيَان كَمَا قدمْنَاهُ فِي مَكَان أَو زمَان فَلَا يتَقَيَّد مُوجب الْبَيَان بِالْمَكَانِ وَلَا بِالزَّمَانِ عِنْد كَافَّة

(2/247)


الْمُحَقِّقين وَذهب شرذمة من المنتمين إِلَى الْأُصُول إِلَى أَن الْفِعْل الْوَاقِع موقع الْبَيَان يتخصص بِالْمَكَانِ وَلَا يتخصص بِالزَّمَانِ. وَأبْعد بَعضهم فَقَالَ: يتخصص بِالزَّمَانِ ايضا فَيُقَال لهَؤُلَاء لَا خلاف أَن القَوْل الصَّادِر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المتضمن تَبْيِين الحكم لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الِامْتِثَال بِالْمَكَانِ الَّذِي صدر القَوْل فِيهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا وَقع الْفِعْل موقع الْبَيَان فِي تَحْقِيق نسخ أَو تَخْصِيص، اَوْ جَوَاب سُؤال، وَهُوَ فِي الإنباء عَن الحكم نَازل منزلَة القَوْل.
[918] فَإِن قيل: الْفِعْل متخصص بِالْمَكَانِ؟
قُلْنَا: فَيلْزم مثل ذَلِك فِي القَوْل، على أَنا لَو رددنا إِلَى نفس الْفِعْل لما فهمنا مِنْهُ اقْتِضَاء حكم وَإِنَّمَا الْمُقْتَضى للْحكم وُقُوعه على وَجه الْبَيَان، وَهُوَ مِمَّا لَا ينعَت بالتخصيص بِالْمَكَانِ، وَالَّذِي يُوضح مَا قُلْنَاهُ إِنَّا نعلم اضطررا أَن من قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين لي التوضىء فَتَوَضَّأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا يعقل السَّائِل أَن يُوقع الْوضُوء فِي الْمَكَان الَّذِي تَوَضَّأ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن أنكر ذَلِك فِي التخاطب ومجاري كَلَام الْبَيَان قطع الْكَلَام عَنهُ.
[919] ثمَّ نقُول: الْأَمَاكِن والأزمان مِمَّا لَا يدْخل تَحت مقدورات الْمُكَلّفين، وَإِذا ورد فعل وَاقع موقع الْبَيَان مُطلقًا فَيحمل على اقْتِضَاء مَا

(2/248)


يدْخل تَحت الْمَقْدُور، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو فعل فعلا فِي تغيم السَّمَاء أَو إصحائها، أَو فعل وَزيد قَائِم، فَلَا يتخصص الجري على مُقْتَضى الْفِعْل بِمَا قَارن فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَسْبَاب وفَاقا، فَإِن أَشْيَاء مِمَّا أومأنا إِلَيْهِ لَا تدخل تَحت قبيل المقدورات.
[920] ثمَّ نقُول للقائل بتخصيص الْأَزْمِنَة هَذَا الَّذِي ذكرته تنَاقض فَإِنَّهُ لَا يتَحَقَّق العثور على الْمَقْصُود من الْفِعْل لَا بعد الْفَرَاغ مِنْهُ فقد انْقَضى وقته الْمُقَارن لَهُ / فَكيف يتَحَقَّق وُقُوع الِامْتِثَال فِي وَقت الْفِعْل، فَإِن قيل: فِي مثل [103 / ب] ذَلِك الْوَقْت، قُلْنَا: فَقولُوا يُوقع الْفِعْل فِي مثل ذَلِك الْمَكَان على أَن الْأَوْقَات كلهَا تؤول إِلَى حركات الْفلك، وَهِي مُخْتَلفَة لَا يتَحَقَّق التَّمَاثُل فِيهَا، وَإِن تحقق لَا يَتَقَرَّر التَّمَكُّن من تمكن تماثلها، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
(166) فصل

[921] اعْلَم أَنه يجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبْيِين مَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الشَّرَائِع وَلَا يجوز لَهُ الْإِخْلَال بِمَا كلف من الْبَيَان، وكما يجب عَلَيْهِ تَبْيِين الْوَاجِبَات والمفترضات فَكَذَلِك يجب تَبْيِين الْمُبَاحَات والمندوبات، والمحظورات، وتمهيد السَّبِيل إِلَى دَرك أَحْكَام الوقائع الَّتِي لَا تنضبط بِنصب الأمارات، والتفسح للمكلفين فِي طرق الِاعْتِبَار.
[922] وَقد نقل بعض الْمُتَكَلِّمين أَنه قَالَ: مَا كَانَ وَاجِبا وَجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَانه، وَمَا كَانَ مَنْدُوبًا كَانَ بَيَانه فِي حق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْدُوبًا، وَمَا كَانَ مُبَاحا كَانَ بَيَانه مُبَاحا.

(2/249)


وَهَذَا مَذْهَب أطلق حكايته، وَلم ينْسب إِلَى أحد من أهل الْمذَاهب، وَهُوَ تَصْرِيح بخرق الْإِجْمَاع من وَجْهَيْن اثْنَيْنِ، أَحدهمَا أَن الْأمة أَجمعت أَنه وَجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبْيِين أَحْكَام الشَّرِيعَة، ثمَّ أَجمعُوا على أَن الشَّرِيعَة لَا تَنْحَصِر فِي الْوَاجِبَات وَلَكِن مِنْهَا: الْإِبَاحَة، وَمِنْهَا النّدب، فَإِن زعمتم أَن الْوَاجِب تَبْيِين الْوَاجِبَات فقد خرقتم الْإِجْمَاع.
وَالْوَجْه الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يُقَوي ذَلِك أَن الْمُكَلّفين لَو لم ينبهوا على مَا يحل لَهُم من مكاسبهم ومطالبهم مَا يتعيشون بِهِ أفْضى ذَلِك إِلَى انْقِطَاع الخليقة عَن أَسبَاب المعاش، فقد أجمع الْمُسلمُونَ فِي الْعَصْر الخالية على وجوب الْإِرْشَاد على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل هَذِه الْحَالة.
[923] فَإِن قيل: فَإِذا بَين الْمَحْظُورَات فقد تبين أَن مَا عد هَذَا مُبَاح؟
قُلْنَا: فقد صرحتم أَن تَبْيِين الْمُبَاح حتم من الْوَجْه الَّذِي ذكرتموه، وَبَطل قَوْلكُم أَن تَبْيِين الْمُبَاح مُبَاح، على أَن فِيمَا عدا الْمَحْظُورَات فَردا ينْدب الْمُكَلّفين إِلَيْهَا وَلَا تتصف بِالْإِبَاحَةِ فَلَا يَصح إِطْلَاق القَوْل بِأَن مَا عدا الْمَحْظُورَات مُبَاح، فَبَطل ذَلِك جملَة وتفصيلا.
[924] فَإِن قيل: فَإِذا أوجبتم على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَان النَّوَافِل وَالسّنَن فَلَو بَينهَا بِفِعْلِهِ وَجب أَن تحكموا بِأَن فعله يَقع وَاجِبا.
قُلْنَا: هَذَا مقصودنا بِعقد هَذَا الْفَصْل وَهُوَ مَا نقُول بِهِ مَعَ كَافَّة الْمُحَقِّقين. فَيجب عَلَيْهِ الْبَيَان باحد وَجْهَيْن، إِمَّا بالْقَوْل، وَإِمَّا بِالْفِعْلِ، فَإِذا آثر التَّبْيِين بِالْفِعْلِ وَقع الْفِعْل بَيَانا وَاجِبا وَإِن كَانَ لَوْلَا قصد الْبَيَان لَكَانَ

(2/250)


ذَلِك الْفِعْل تَطَوّعا فِي حَقه وَهَذَا كَمَا أَن من لَزِمته كَفَّارَة الْيَمين يتَخَيَّر من خلال ثلَاثه، ثمَّ مَا يصدر عَنهُ مِنْهَا على قصد التَّكْفِير يَقع وَاجِبا، فأحط علما بذلك.
(167) القَوْل فِي تعَارض الْأَفْعَال بَعْضهَا مَعَ بعض، وتعارض الْأَفْعَال مَعَ الْأَقْوَال

[925] اعْلَم، وفقك الله، أَن التَّعَارُض بَين القوليين إِنَّمَا يتَحَقَّق إِذا تنافت مقتضياتهما فِي كل الْوُجُوه، بِأَن يتعلقا بحكمين متنافيين فِي شخص وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة على وَجه يَسْتَحِيل فِي الْمَعْقُول تَقْدِير ثبوتهما جمعا وَلَا يتَحَقَّق التَّعَارُض فِي خبرين مُتَعَلقين بحكمين فِي شَخْصَيْنِ، أَو شخص وَاحِد / فِي وَقْتَيْنِ وحالين. [104 / أ]
[926] فَإِن قيل: ألستم قُلْتُمْ فِي تعَارض العمومين إنَّهُمَا إِذا تقابلا وَأمكن حملهما على وَجه يجمع فِيهِ بَينهمَا فهما متعارضين.
قُلْنَا: إِنَّمَا ذَلِك لِأَن الْوَجْه الَّذِي نقدره لَيْسَ بِأولى من وَجه يُقَابله وَلم يدل على ذَلِك الْوَجْه دَلِيل يرشدنا إِلَيْهِ، فتوقفنا على قَضِيَّة الدَّلِيل، وَلَيْسَ هَذَا من التَّعَارُض الْحَقِيقِيّ فاعلمه، وَلكنه يجوز تَقْدِير التَّعَارُض فِيهِ وَيجوز تَقْدِير حملهَا على وَجه يستعملان فِيهِ غير أَنا لم نجد معتصما فِي ذَلِك توقفنا على تتبع الْأَدِلَّة، فَهَذَا إِذا توقف منان وَلَيْسَ يقطع على التَّعَارُض الْحَقِيقِيّ، وَإِنَّمَا التَّعَارُض الْحَقِيقِيّ الَّذِي يقطع بِهِ فِي لفظين نصين فِي حكمين متنافيين على وَجه يَسْتَحِيل الْجمع بَينهمَا.

(2/251)


[927] ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نجوز وُرُود مثل ذَلِك فِي الشَّرْع من غير تَقْدِيم وَتَأْخِير، وناسخ ومنسوخ، فَإِن تَجْوِيز ذَلِك إفصاح بتجويز تَكْلِيف الْمحَال، وَنحن نعتد هَذِه الْأَبْوَاب على منع ذَلِك، فَإِذا اتَّصَلت بِنَا كَمَا نعتناها فَعلم أَن أَحدهمَا نَاسخ وَالثَّانِي مَنْسُوخ، وَإِن نقل آحادا فنعلم إِمَّا النّسخ، وَإِمَّا وُقُوع الْغَلَط فِي أَحدهمَا وَلَا يتَعَيَّن الْعلم بِوَاحِد مِنْهُمَا إِلَّا بِدلَالَة عَلَيْهِ.
[928] فَإذْ عرفت ذَلِك رَجعْنَا إِلَى مقصودنا فِي الْأَفْعَال، فَأَما الْأَفْعَال الْمُطلقَة الَّتِي لم تقع موقع الْبَيَان من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي الَّتِي نتوقف فِيهَا فَلَا يتَحَقَّق فِيهَا تعَارض، وَلِأَن الْأَفْعَال لَا صِيغ لَهَا، فَلَا يتَصَوَّر تعَارض الذوات، وَالْأَفْعَال المتغايرة الْوَاقِعَة فِي الْأَوْقَات وَلم تقع موقع الْبَيَان، فَيَنْصَرِف التَّعَارُض إِلَى مُوجبَات الْأَحْكَام، وَأما الْأَفْعَال الْوَاقِعَة موقع

(2/252)


الْبَيَان فَإِذا اخْتلف وَاقْتضى كل فعل بَيَان حكم يُخَالف مَا يَقْتَضِيهِ الْفِعْل الآخر، وتنافيا على الْوَجْه الَّذِي صورناه فِي الْقَوْلَيْنِ [فالتعارض] فِي مُوجب الْفِعْلَيْنِ كالتعارض فِي مُقْتَضى [الْقَوْلَيْنِ] وَلَا يرجع التَّعَارُض إِلَى ذاتي الْفِعْلَيْنِ، بل يرجع إِلَى المتلقى من الْبَيَان المنوط بهما، وَكَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق التَّعَارُض فِي نَفسِي الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق التَّعَارُض فِي الحكم الْمُسْتَفَاد من ظاهرهما، فَاعْلَم ذَلِك فِي تعَارض الْفِعْلَيْنِ.

(2/253)


[929] فَأَما تعَارض الْفِعْل وَالْقَوْل فَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن تعَارض الْفِعْل الْوَاقِع موقع الْبَيَان وَالْقَوْل ينزل منزلَة تعَارض الْقَوْلَيْنِ.
وَذهب بعض أهل الْأُصُول إِلَى ان القَوْل وَالْفِعْل إِذا اجْتمعَا فِي قضيتين متنافيتين فيعتصم بالْقَوْل دون الْفِعْل وَاعْتَلُّوا لذَلِك

(2/254)


جشمة مِنْهَا أَنهم قَالُوا لَو أَخذنَا بِفِعْلِهِ كَانَ ذَلِك إِسْقَاطًا منا لقَوْله، وَلَو تمسكنا بقوله فيتخصص الْفِعْل بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يكون ذَلِك إِسْقَاطًا للْفِعْل والتمسك بِمَا لَا يتَضَمَّن إسقاطهما وَلَا إِسْقَاط وَاحِد مِنْهُمَا أصلا اأولى من التَّمَسُّك بِمَا يُوجب إِسْقَاط أَحدهمَا من كل وَجه.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل فَإِن الْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِي فعل وَاقع موقع الْبَيَان كَمَا أَن القَوْل وَاقع موقع الْبَيَان فَإِذا خصصتم الْفِعْل بِهِ فقد أسقطتم اقْتِضَاء بَيَانه ونزلتموه منزلَة الْفِعْل الْمُطلق، وَإِنَّمَا كلامنا فِي الَّذِي يَقع مُبينًا، فَتبين أَن استرواحهم إِلَى مَا لَا تَحْقِيق لَهُ.
[930] فَإِن قَالُوا: القَوْل أولى من الْفِعْل لِأَنَّهُ بَيَانا لنَفسِهِ /

(2/255)


وموضوعه، وَالْفِعْل إِنَّمَا يصير بَيَانا بالْقَوْل أَو بِسَبَب واقتضاء حَال، وَالَّذِي هُوَ بَيَان لنَفسِهِ أولى.
قُلْنَا: هَذَا سَاقِط من الْكَلَام فَإِن الْفِعْل وَإِن كَانَ إِنَّمَا يصير بَيَانا بِغَيْرِهِ فَإِذا صَار بَيَانا بِمَا يَقْتَضِي لَهُ ذَلِك، ينزل فِي الإنباء عَن الْبَيَان منزلَة م ابين بِنَفسِهِ، وَلم يبْق بَينهمَا تزايد فِي هَذِه الرُّتْبَة، وَهَذَا مِمَّا لَا يستريب فِيهِ مُحَقّق، ثمَّ نقُول رب لفظ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ حَتَّى تقترن بِهِ قَرَائِن دَالَّة فَهَلا قُلْتُمْ إِن القَوْل الَّذِي هُوَ وَصفه لَا يعتصم بِهِ إِذا عَارضه فعل، وَلَا يَقُولُونَ بِهَذَا التَّفْصِيل، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
[931] وَلَا يتمسكون بِشُبْهَة إِلَّا وَهِي تداني مَا أومينا إِلَيْهِ، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ إِيضَاح طَرِيق الدَّلِيل فِي الرَّد عَلَيْهِم، إِنَّا نقُول: إِذا وَقع الْفِعْل موقع الْبَيَان فيستقل بِنَفسِهِ وَلَو قدر مُفردا كالقول، فَإِذا اجْتمعَا وَلَا ترجح لأَحَدهمَا على الثَّانِي فِي حكم الْبَيَان الَّذِي فِيهِ التَّعَارُض فَلَا وَجه للتحكم بالتمسك بِأَحَدِهِمَا وَترك الآخر

(2/256)


(168) بَاب الْكَلَام فِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل كَانَ متعبدا بشريعة من قبله من الْأَنْبِيَاء قبل مبعثه؟ وَهل كَانَ متعبدا بشرائعهم بعد المبعث؟
[932] اعْلَم، أسعدك الله، أَن الْبَاب يشْتَمل على طرفين، أحدهم: الْكَلَام فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يبْعَث وَالثَّانِي: الْكَلَام فِي أَنه بعد مَا ابتعثه الله هَل كَانَ متعبدا بشرائع الْأَنْبِيَاء الَّذين درجوا قبله.
[933] فَأَما الْكَلَام فِي الْفَصْل الأول فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه كَانَ على مِلَّة إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه

(2/257)


كَانَ على مِلَّة مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِمَا، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه على آخر الْملَل فِي زَمَنه وَهِي مِلَّة عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِمَا أَجْمَعِينَ.
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى التَّوَقُّف، ثمَّ الواقفية انقسموا فَمنهمْ من قَالَ: يعلم أَنه كَانَ متعبداً وَيجوز أَنه لم يكن قبل المبعث متعبدا بِشَيْء قطعا من الشَّرَائِع قبل المبعث.

(2/258)


[934] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمَا صَار إِلَيْهِ جَمَاهِير الْمُتَكَلِّمين أَنه لم يكن قبل المبعث متعبدا بِشَيْء قطعا، ثمَّ انقسموا فِي ذَلِك فَذهب طوائف الْمُعْتَزلَة إِلَى أَنا نستدرك ذَلِك عقلا ونحيل تعبده قبل الشَّرْع.
وَذهب عصبَة أهل الْحق إِلَى أَنه لَو تعبد قبل المبعث [لجَاز] بيد أَنه لم ينْعَقد وَثَبت عَنهُ ذَلِك سمعا، وَهَذَا مَا نرتضيه وننصره.
[935] شُبْهَة الْمُخَالفين: فمما استدلوا بِهِ أَن قَالُوا كَانَت دَعْوَة عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ عَامَّة مُخْتَصَّة بِزَمَان دون زمَان، وكل شَرِيعَة ثبتَتْ كَذَلِك متعبد بِهِ إِلَى زمَان والأشخاص،، وَلَا يسوغ ادِّعَاء رفضها عَن شخص بِعَيْنِه قبل ثُبُوت نَاسخ الشَّرْع الْمُتَقَدّم وَلم يكن ثَبت قبل مبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاسِخا لملة عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ، فَيجب دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الابتعاث فِي الدعْوَة الْعَامَّة وَهَذَا أقوى شبه الْمُخَالفين

(2/259)


[105 / أ] قُلْنَا: لقد عظمتم الظينة وأطنبتم فِيمَا قُلْتُمْ / وَمَا نطقتم إِلَّا بِمَا تنازعون فِيهِ، فَمن أَيْن لكم أَن دَعْوَة عِيسَى كَانَت عَامَّة؟ وَبِمَ تنكرون على من يَقُول أَن دَعوته كَانَت متخصصة بدهور مضبوطة؟ وَمَا الَّذِي أطْلعكُم على مَا قلتموه؟
فَإِن قيل: ظواهر الشَّرَائِع الْعُمُوم، قُلْنَا: فَبِمَ تنكرون على من يَقُول لَا بل ظواهرها الِاخْتِصَاص بالمخاطبين المعاصرين للرسل، وَإِنَّمَا نعدى عَنْهُم بِالدَّلِيلِ فتقابل الدعوتان، وَلزِمَ التَّوَقُّف إِلَى مورد الْبَيَان.
[936] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لم يثبت عندنَا أَن عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيع ولد آدم صلوَات الله عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا ثَبت الْبعْثَة إِلَى الثقلَيْن فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نقُول نَحن

(2/260)


نجوز أَن تندرس فِي سُقُوط تِلْكَ الشَّرِيعَة، وَهَكَذَا كَانَ الدّين فِي وَقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَت الْأَدْيَان مبدلة، والكتب مُغيرَة، وَلم يبْق من يوثق بهم، حَتَّى قَالَ أهل التواريخ: لم يبْق من يقوم بِالتَّوْرَاةِ بعد عُزَيْر، وَلم يبْق من يقوم بالإنجيل بعد مرخيا.
فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الشَّرِيعَة مُرْتَفعَة فِي زمن الفترة لانحسام أَبْوَاب التَّوَصُّل إِلَى دركها، و: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} .
[937] فَإِن قيل: افتجوزون مثل ذَلِك فِي شَرِيعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
قيل: لَا نجوز ذَلِك لإِجْمَاع الْأمة على بَقَاء الدّين إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّور، وَلَوْلَا الْإِجْمَاع لجوزناه، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
[938] وَمن عمدهم أَن قَالُوا: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل المبعث محافظا على الْعِبَادَات، متسرعا إِلَى القربات، فَكَانَ يحجّ مَعَ الحجيج ويحضر المشاعر والمشاهد ويتجنب الْمُحرمَات ويستبيح من المحللات مَا لم يدْرك حلّه إِلَّا بِالشَّرْعِ كذبح الْبَهَائِم وإتعابها بالركوب ونحوهان وكل مَا ذَكرْنَاهُ دلَالَة قَاطِعَة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعبد الله على بعض الْأَدْيَان والشرائع.

(2/261)


قُلْنَا: حمله على مَا أوميتم إِلَيْهِ آحَاد لَا يثبت بِمِثْلِهَا الْقطع، وَنحن فِي مَسْأَلَة قَطْعِيَّة على أَن مَا استروحتم إِلَيْهِ من ذبح الْبَهَائِم وَنَحْوهَا فلسنا نسلم أَنَّهَا محظورة عقلا، وَإِنَّمَا بنيتم مَا قلتموه تَقْديرا مِنْكُم أَنَّهَا على الْحَظْر إِلَى أَن تُبَاح بِدلَالَة الشَّرْع، وَأما مَا نقلتموه من حجَّة فَلَيْسَ فِيهِ معتصم إِن صَحَّ، فَإِن الَّذين كَانُوا لَا يَقُولُونَ بِشَيْء من الْملَل، وَلَا يعتصمون بشريعة من الْأَنْبِيَاء من الْعَرَب العاربة مازالوا يتيممون ويتبركون بِالْبَيْتِ الْمحرم لَا عَن مِلَّة اتبعوها وَلَكِن توارثوها صاغرا عَن كَابر، وَهَذَا مَالا سَبِيل إِلَى جَحده فِي درب الْعَرَب.
[939] وكل مَا ذَكرْنَاهُ نقدمه لحد النّظر، وَأَن كل مَا قَالُوهُ يَنْقَسِم إِلَى مَالا يَصح وَإِلَى مَا نقل آحادا، وَلَا يسوغ التشبث بِمثلِهِ فِي العقليات.
[940] فَإِن قَالُوا: مَا زَالَ واصلا للرحم فِي الْكَلم، متجنبا عَن الْكَبَائِر واللمم، وكل ذَلِك من مخاديل اتِّبَاع شرائع الْأُمَم.
قُلْنَا: هَذَا تحكم مِنْكُم وتوصيل إِلَى مَا يطْلب فِيهِ الْقطع بالمخيل والحسبان فَأَما صلَة الرَّحِم فالطبائع مجبولة عَلَيْهَا. ومنكرو الصَّانِع يغلب ذَلِك فيهم، وَأما توقي الْفَوَاحِش فَلَا يدل على اتِّبَاع الْملَل أَيْضا، فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا.
[941] وَالدَّلِيل / على مَا ارتضيناه أَن نقُول: قد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخالط أَصْحَابه ويمازح عثرته وَلم يُؤثر عَنهُ الانتماء إِلَى مَذْهَب والاعتزاء إِلَى مطلبه فِي الشَّرَائِع، وَمثله مِمَّن لَا يخفى فِي الْعَاد ة ذَلِك مِنْهُ مَعَ ظُهُور شَأْنه، ووضوح أمره، وَلَا يبديها، وَلَا يسايل عَنْهَا، وَلما ابتعثه الله لم يُؤثر

(2/262)


عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل التنبي، وَكَانَ ينبىء عَن أنبائه قبل الْبعْثَة وَصمت على مِلَّة كَانَ يتبعهَا، وَشَرِيعَة كَانَ يعتقدها، وَكَانَ لَا يسوغ الكتمان، وَيعلم فِي مجاري الْعَادَات أَن مثل ذَلِك لَا يسوغ تَقْدِير خفائه، وَلَو كَانَ مَعَ اسْتِمْرَار الْعَادة وَعدم انخراقها، وجاحد ذَلِك ينزل منزلَة جَاحد لسبيل الضروريات، ومصدق الْمخبر عَن تصور التُّجَّار وغيض الْأَنْهَار، وتقلب الحجار عَن صفاتها إِلَى نعوت التبر والجواهر.
[942] وَالَّذِي يعتضد الدّلَالَة بِهِ أَن الشَّرَائِع لَا تثبت عقلا، وَإِنَّمَا تثبت سمعا فَلَا سَبِيل إِلَى تثبيت شرع فِي حَقه عقلا، وَلَو ثَبت سمعا لنقل فِي اطراد الْعَادة، وَلَا يعقل فِي مجاري الْعَادَات انْقِرَاض الدهور والأعصار على مثله وَهُوَ يعْتَقد مِلَّة من الْملَل.
[943] فَأَما من زعم أَنه لَا يسوغ أَن يكون متعبدا بِملَّة من الْملَل قبل المبعث عقلا فقد استروح إِلَى مَا لَا طائل تَحْتَهُ، فَقَالَ: لَو قدر ذَلِك لأفضى إِلَى التنفير عَنهُ والحط من قدره وانطلاق أَلْسِنَة العندة من ذَوي الْملَل فِيهِ، فَلَو كَانَ على دين مُوسَى لقالت الْيَهُود: كَانَ مُتَابعًا لنا، فِي هذيان طَوِيل، وَهَذَا واه لَا تَحْقِيق وَرَاءه فَإنَّا لَا نستبعد أَن تثبت فِي زمن النُّبُوَّة صِفَات يناط بهَا نفور الجاحدين، وَإِنَّمَا بدر هَذَا الْكَلَام بِنَاء على الصّلاح والأصلح، وسنستقصي الْكَلَام فِيهِ فِي الديانَات إِن شَاءَ الله فَهَذَا هوالكلام فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ قبل المبعث.

(2/263)


[944] فَأَما الْكَلَام فِيمَا كَانَ بعد المبعث فَاعْلَم أَن أحدا لَا يستبعد أَن يثبت فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحقّ مبتعثه مثل الْأَحْكَام الثَّابِتَة فِي الْملَل السَّابِقَة بأوامر تتجدد عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فَلَا يستبعد فِي الْعقل أَن يجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتِّبَاع الْملَل فِي بعض الْأَحْكَام عقلا، وَقد استبعد ذَلِك بعد المبعث من استبعده قبله، وَبينا أَن بِنَاء هَذَا الْكَلَام على اصل فَاسد فِي التَّعْدِيل والتجوير فَإِذا أحطت علما بِجَوَاز ذَلِك عقلا عرفت جَوَاز ثُبُوت مثل تِلْكَ الْأَحْكَام عقلا وسمعا.
[945] فَلَو قَالَ: قَائِل فَإِذا جوزتم إِيجَاب الِاتِّبَاع عَلَيْهِ فَمَا قَضِيَّة الشَّرْع فخبرونا عَنْهَا، قُلْنَا: هَذَا موقع الْخلاف، فَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى انه مُخَاطب مَعَ أمته بِاتِّبَاع الشَّرَائِع السَّابِقَة، وَزَعَمُوا أَن كل مَا نسخ مِنْهَا فقد

(2/264)


ارتفض الحكم فِيهِ وَمَا لم يثبت فِيهِ نسخ فَعَلَيهِ وعَلى أمته الِاتِّبَاع فِيهِ.
[946] وَأما الَّذِي نرتضيه أَنه مَا أوجب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتَاعَ الْأَوَّلين وَإِنَّمَا أوجب عَلَيْهِ مَا أوجب بأوامر متجددة ثمَّ مِمَّا أوجب عَلَيْهِ مَا وَقع مماثلا لأحكام الشَّرَائِع السَّابِقَة، وَمِنْهَا مَا وَقع مُخَالفا لَهَا.
[947] وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى التَّوَقُّف.

(2/265)


[948] فاستدل من صَار إِلَى انه مَأْمُور بِاتِّبَاع السالفين بآي من [106 / أ] كتاب الله تَعَالَى مِنْهَا / قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} .
وَقَوله تَعَالَى: {شرع لكم من الدّين مَا وَحَتَّى بِهِ نوحًا} .
وَقَوله تَعَالَى: {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النبنوت} وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زمرتهم، فَدلَّ ظَاهر الْآيَة على حكمه بِالتَّوْرَاةِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا من سفه نَفسه}
وَمِمَّا استروحوا إِلَيْهِ قَوْله: {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ} الْآيَة، قَالُوا: حكم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمضمون الْآيَة، وَإِن لم تكن مصرحة بتخصيص ذَلِك

(2/266)


الحكم بشريعة بل هِيَ مَبْنِيَّة عَن أَحْكَام الْكتب السَّابِقَة، وَمِمَّا استدلوا بِهِ قصَّة الْيَهُودِيين الَّذين رجمهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وراجع فِي أَمرهمَا التَّوْرَاة.
وَمِمَّا يستدلون بِهِ أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {فبهداهم اقتده}
فَنَقُول: لَا معتصم لكم فِي شَيْء مِمَّا ذكرتموه أما قَوْله تَعَالَى: {أَن ابتع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا}
فَهَذَا حد الْأَدِلَّة عَلَيْكُم، فَإِنَّهُ جدد عَلَيْهِ الْأَمر، وَنحن لَا نستبعد أَن يثبت فِي حَقه بِأَمْر مُجَدد مثل مَا ثَبت فِي حق من تقدمه.
[949] فَإِن قيل: فَلم سَمَّاهُ اتبَاعا؟
قُلْنَا: لم نأمل الفعلان وتشاكلا أَتْبَاعه بالاتباع وَهَذَا كَمَا يُقَال: فلَان يتبع فلَانا فِي سجيته، وَالْمرَاد بِهِ أَنه يفعل مثل فعله، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه

(2/267)


لم ينْقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يتبع شرائع إِبْرَاهِيم، ويتحسس عَن أَحْكَامه وموجبات مِلَّته، وَلَو كَانَ الْمُضِيّ بالاتباع فِي الْآيَة مَا قلتموه لبذل كنه مجهوده فِي العثور على مِلَّة جده صلوَات الله عَلَيْهِمَا.
ثمَّ نقُول: إِنَّمَا الْمُضِيّ بالاتباع مَا صَار إِلَيْهِ اهل التَّفْسِير وأئمة التَّأْوِيل، وَهُوَ تجنب الْإِشْرَاك وإيثار التَّوْحِيد وَهُوَ الْمُضِيّ بقوله تَعَالَى: {وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا سفه تنفسه} .
[950] فَإِن قَالُوا: الستم تَقولُونَ أَن معرفَة الرب جلت قدرته لَا تجب عقلا؟ وَإِنَّمَا تجب سمعا؟ فَإِذا ثَبت وجوب الِاتِّبَاع فِي معرفَة الله تَعَالَى فَهُوَ الْمَقْصد.
قُلْنَا: مَا أوجب الله تَعَالَى على نبيه التَّوْحِيد إِلَّا ابْتِدَاء، ثمَّ نبه على أَنه كلفه مثل مَا كلف من قبله وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي الِاتِّبَاع، وبقريب من ذَلِك نتكلم عَن قَوْله: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا}

(2/268)


[951] وَأقوى مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي إبِْطَال استدلالاتهم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بحث عَن دين نوح قطّ، وَلَو كَانَ مَأْمُورا بأتباع شَرِيعَته لبحث عنهاه ثمَّ الْمَعْنى بِالْوَصِيَّةِ النَّهْي عَن الْإِشْرَاك كَمَا قدمْنَاهُ.
[952] وَأما قَوْله تَعَالَى: {فبهداهم اقتده} ، فَالْمُرَاد بِهِ افْعَل مثل فعلهم واعتقد فِي التَّوْحِيد مثل مَا اعتقدوه، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ هِيَ أَنه جمع الْأَنْبِيَاء فِي هَذِه الْجُمْلَة، وَنحن نعلم جَمِيعًا أَنهم لَا يَجْتَمعُونَ فِي قَضِيَّة الشَّرِيعَة، وَالَّذِي اجْتَمعُوا عَلَيْهِ هُوَ التَّوْحِيد وَمَعْرِفَة الله تَعَالَى.
[953] فَإِن قيل: فلئن استقام لكم ذَلِك فِي هَذِه الْآيَة الَّتِي صيغتها تَعْمِيم فِي أَحْوَال الْأَنْبِيَاء، فَلَا يَسْتَقِيم فِي الْآيَة المنطوية على

(2/269)


تَخْصِيص إِبْرَاهِيم بالاتباع وَنحن نعلم أَن التَّوْحِيد لَا يتخصص بِهِ، فَتعين حمل هَذِه الْآيَة على الشَّرِيعَة الَّتِي اخْتصّت بإبراهيم صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه كَمَا خصص إِبْرَاهِيم فَكَذَلِك خصص نوحًا وَنحن نعلم [106 / ب] اخْتِلَاف ملتيهما، واستحالة الْجمع بَينهمَا جملَة، فَدلَّ ذَلِك على أَنه لم / يرد اتِّبَاع الشَّرِيعَة على أَنه إِنَّمَا يخصص من خصص بِالذكر تكريما لَهُ وتعظيما وتشريفا، وَهَذَا كَقَوْلِه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثقهم ومنك وَمن نوح} مَعَ اندارجهما فِي اسْم النَّبِيين، ونظائر ذَلِك يكثر فِي الْكتاب الْعَزِيز.
[954] وَأما قَوْله تَعَالَى: {يحكم بهَا النَّبِيُّونَ} ، فَلم يستتب الِاسْتِدْلَال بهَا إِلَّا مَعَ تَسْلِيم القَوْل بِالْعُمُومِ، وَإِذا نازعناهم فِي ذَلِك سقط استدلالهم على أَنه بصدد التَّخْصِيص بالأدلة القاطعة.
[955] وَأما قَوْلهم: أَن الْقصاص فِي الْأَطْرَاف مَنْصُوص فِي قَوْله:

(2/270)


{وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا} ، وَهُوَ إِخْبَار عَن كتب الْأَوَّلين، قُلْنَا: فِي الْقرَان ظواهر دَالَّة على ثُبُوت الْقصاص على الْجُمْلَة.
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص}
وَقَوله: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ} ، {وجزؤا سَيِّئَة سَيِّئَة} .
فَلَعَلَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا قَالَ عَن بعض هَذِه الظَّوَاهِر، أَو دلَالَة تثبت لَدَيْهِ من اجْتِهَاد أَو وَحي خصص بِهِ وإلهام، وطرق مدارك الْحُكَّام شَتَّى.
[956] وَأما قصَّة الْيَهُودِيين فَمَا رجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بِدِينِهِ، وَأما بَحثه عَن التَّوْرَاة فَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْيَهُود زعمت أَن التَّوْرَاة لَيْسَ فِيهَا رجم، وَلذَلِك فضحهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتبين لضعفاءهم تلبيس أَحْبَارهم عَلَيْهِم فِي تَغْيِير لقب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَذَا وَجه الِانْفِصَال عَمَّا استروحوا إِلَيْهِ.
[957] وَالدَّلِيل على صِحَة مَا صرنا إِلَيْهِ أَن نقُول: إِجْمَاع الْمُسلمين حجَّة قَاطِعَة وسنثبته على منكريه، وَقد تتبعنا الْأَعْصَار فَلم نجد أهل الْعَصْر الأول يراجعون أَحْكَام الْيَهُود وَالنَّصَارَى وقضايا التَّوْرَاة، وَكَذَلِكَ لم نجد التَّابِعين، وتابعي التَّابِعين يفزعون فِي المعضلات وَلَا المشكدات إِلَى التَّوْرَاة وَغَيرهَا من الْكتب مَعَ تقَابل الأمارات، وَثُبُوت الْإِشْكَال، حَتَّى كَانُوا يجتزون بِقِيَاس الشّبَه وطرق التَّرْجِيح والتلويح، فَلَو كُنَّا مخاطبين بشرائع من قبلنَا

(2/271)


لبحث الْعلمَاء عَنْهَا كَمَا بحثوا عَن سَائِر مصَادر الشَّرِيعَة ومواردها.
[958] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا لم يبحثوا عَن الْكتب السالفة لِأَنَّهُ لم يكن إِلَيْهَا سَبِيل مُسْتَقِيم فَإِنَّهَا كَانَت مبدلة مُغيرَة، وَلم يبْق من نقلتها من يوثق بهم.
قيل: الْجمع بَين هَذَا السُّؤَال وَبَين الْمصير إِلَى الْأَخْذ بشرع من قبلنَا تَصْرِيح بالتناقض فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يُكَلف شرعا ويحسم السَّبِيل إِلَى إِدْرَاكه، فَإِن ذَلِك يلْتَحق بتكليف الْمحَال.
[959] فَإِن قيل: مَا كلفنا من شرع من قبلنَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُوحى إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويتبين لَهُ مَضْمُون الْكتب السالفة، وَلم يبْق لنا مرجع إِلَى الْكتب بعد أَن اسْتَأْثر الله بِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَانْقِطَاع طرق الْإِعْلَام بِالْوَحْي والإلهام.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه إِحَالَة جَهَالَة على جَهَالَة، وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أسْند حكما من الْأَحْكَام إِلَى الشَّرَائِع السالفة، على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعتصم عَن الكتمان وخائنة الْأَعْين، فَلَو كَانَ مَا قَالُوهُ سديدا لأشبه أَن يعلمنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أوجب عَلَيْهِ اتِّبَاع الْكتب والشرائع السالفة، فَلَمَّا نقل الْأَوَامِر [107 / أ] الْمُجَرَّدَة وَلم يسندها إِلَى سَائِر الْملَل ثَبت أَن الشَّرِيعَة تقررت بتجدد اتِّصَال الْأَوَامِر بالمكلفين على أَنا نقُول للخصوم وَقد سلمتم مُعظم الْمَسْأَلَة لما قُلْتُمْ إننا لَا نكلف إِلَّا التَّوَصُّل إِلَى حكم من قبلنَا، وَمَا نقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَحْكَام غير مُسندَة إِلَى الشَّرَائِع الْمُتَقَدّمَة، فَلَا نقُول من أَحْكَام الْأَوَائِل مَا نقلت فِي حَادِثَة بأننا مخاطبون فِيهَا بشرع من قبلنَا، ثمَّ نقُول من أَحْكَام الْأَوَائِل مَا نقلت إِلَيْنَا تواترا نقلا يَقع بِهِ الْعلم، فَهَلا أَخذ أهل الْأَعْصَار بِهِ؟ أَو نقُول من أهل

(2/272)


الْكتاب من أسلم وَحسن إِسْلَامه وَبلغ من الْأَمَانَة والثقة أَعلَى الرُّتْبَة كَعبد الله بن سَلام وَكَعب وَغَيرهمَا، فَهَلا رَجَعَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قَوْلهمَا فِي الْأَخْبَار عَن التَّوْرَاة؟
فَإِن قيل: لِأَنَّهَا كَانَت مُغيرَة.
قُلْنَا: فَهَلا وثقوا بقوله فِي نقل مَا لَيْسَ بمبدل؟
ثمَّ الْأَخْبَار تَنْقَسِم إِلَى الصَّحِيح والسقيم، وَلَا يُوجب انقسامها رد أَخْبَار الثِّقَات، وَإِن كُنَّا نعلم أَن مَا يقدر من التَّدْلِيس، والتلبيس، وضروب التحريف، وضروب الْمُتُون بَعْضهَا بِبَعْض، وَوضع الْأَخْبَار على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من التحريف فِي الْكتب، ثمَّ لم يُوجب رد أَخْبَار الثِّقَات، وَإِن كُنَّا نعلم، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
[960] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ أَن يبْنى هَذَا الطّرف على الطّرف الأول وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن متعبدا بشرائع من قبله قبل المبعث، ثمَّ إِذا ثَبت ذَلِك فيترتب عَلَيْهِ لَا محَالة أَن الْأَحْكَام لم تثبت بعد المبعث إِلَّا باتصال الْأَوَامِر على التَّجْدِيد.

(2/273)


[961] وَقد أَوْمَأ الْعلمَاء إِلَى طرق فِي الِاسْتِدْلَال لَا تقوى، وَنحن نؤمي إِلَيْهَا. مِنْهَا: التَّمَسُّك بِمَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ: بِمَ تحكم يَا معَاذ؟ فَقَالَ: بِكِتَاب الله، ثمَّ قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: أجتهد رَأْيِي، فصوبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأثْنى عَلَيْهِ خيرا، وَلم يذكر معَاذ فِي ذكر كتب الْأَوَّلين، وَهَذَا من أَخْبَار الْآحَاد وَفِي التَّمَسُّك بِهِ نظر.
[962] وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَن قَالُوا: اتّفق الْأمة على أَن جملَة الْأَحْكَام الثَّابِتَة بعد مبعث الرَّسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضَافَة إِلَى شَرِيعَته، وَكلهَا تقدم مِنْهَا. فَلَو كَانَ مِنْهَا مَا يتبع فِيهِ من سبق لوَجَبَ إِضَافَة ذَلِك الْقدر إِلَى شرع من قبلنَا وَهَذَا فِيهِ نظر، وللخصم أَن يَقُول: إِنَّمَا أضيف الْكل إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أَحْيَاهَا وَبَينهَا على فَتْرَة، ودروس من الْحق، والتمسك بِالْإِضَافَة تمسك بِمُجَرَّد اسْم هُوَ عرضة التَّأْوِيل.
[963] وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} ، وَزَعَمُوا أَن هَذَا يدل على أختصاصه بجملة الشَّرِيعَة، وَفِي هَذَا نظر أَيْضا فَإِن اخْتِصَاصه بِبَعْض الْأَحْكَام يتَحَقَّق فِيهِ مَضْمُون الْآيَة، وَلَيْسَ من شَرط انطلاق اسْم الشَّرِيعَة أَن يتَنَاوَل كل الْأَحْكَام وَالْأَخْبَار.

(2/274)


(169) القَوْل فِي حد الْخَبَر وَحَقِيقَته

[964] اعْلَم، وفقك الله، أَن الْأَخْبَار من أعظم أصُول الشَّرَائِع، وينتمي إِلَيْهَا مُعظم الْكَلَام فِي الْملَل، وتصرفات الْخلق، فَأول مَا نبدأ بِذكرِهِ فِيهَا الإنباء عَن حد الْخَبَر وَحَقِيقَته.
فَإِن قَالَ قَائِل: [مَا] حَقِيقَة الْخَبَر.؟
قيل: هُوَ الَّذِي يَتَّصِف / بِكَوْنِهِ صدقا أَو كذبا. أَو هُوَ الَّذِي يدْخلهُ [107 / ب] الصدْق أَو الْكَذِب.
وأرباب اللُّغَات، وَكثير من طوائف الْأُصُولِيِّينَ يطلقون مَا ذَكرْنَاهُ

(2/275)


مَعَ إخلال فِيهِ، فَيَقُولُونَ: الْخَبَر مَا يدْخلهُ الصدْق، وَالْكذب، وَهَذَا مَدْخُول، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ اجْتِمَاع الوصفين فِي كل خبر، وَهَذَا محَال، فَإِن كَانَ صدقا لَا يتَصَوَّر أَن يكون كذبا على الْوَجْه الَّذِي وَقع صدقا، وَكَذَلِكَ على الضِّدّ فِيهِ.
وَيبين ذَلِك أَن خبر الله لَا يجوز أَن يكون كذبا، وخبرك عَن الوحدانية

(2/276)


والمعلومات الثَّابِتَة ضَرُورَة أَو دَلِيلا لَا يجوز أَن يَقع كذبا، وَكَذَلِكَ إخبارك عَن الْإِشْرَاك بِاللَّه وانقلاب الْحَقَائِق، وضروب المستحيلات لَا يتَصَوَّر أَن يَقع صدقا.
فَالْأَحْسَن أَن تَقول الْخَبَر مَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ صدقا أَو كذبا. 3 [965] فَإِن قيل: فقد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْخَبَر، فَلم كَانَ الْخَبَر خَبرا؟
قُلْنَا: هَذَا مَا لَا يُعلل، كَمَا لَا يُعلل سَائِر أَوْصَاف الْأَجْنَاس، فَلَا يُقَال لم كَانَ الْعلم علما، والسواد سواداً والجوهر جوهرا.
وَطَرِيق جوابك إِذا سَأَلت عَن مثل هَذَا أَن تَقول: إِنَّمَا كَانَ الْخَبَر خَبرا لنَفسِهِ، وتعني بذلك أَن نَفسه خَبرا، لَا لعِلَّة، وَلَا تَعْنِي بِهِ تَعْلِيل كَونه خَبرا لنَفسِهِ.
[966] ثمَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَن تحيط بِهِ علما أَن تعلم أَن الْخَبَر من أَقسَام الْكَلَام، وَهُوَ معنى قَائِم بِالنَّفسِ كَمَا قدمنَا فِي الْأَوَامِر وَالنَّهْي، والعبارات دلالات عَلَيْهِ، كَمَا تدل عَلَيْهِ الرموز والإشارات والكتبة وضروب الأمارات الَّتِي وَقع فِيهَا التَّوَاضُع على نصبها أَمَارَات، ثمَّ رُبمَا يُطلق بعض أَصْحَابنَا اسْم الْكَلَام حَقِيقَة على الْعبارَات، وَمِنْهُم من لم يُطلق اسْم الْكَلَام حَقِيقَة عَلَيْهَا، وَهَذَا يستقصي فِي الْكَلَام.
(170) فصل

[967] جَمِيع أَقسَام الْخَبَر لَا يخرج عَن الصدْق وَالْكذب، فَكل خبر

(2/277)


تعلق بالمخبر على غير مَا هُوَ بِهِ فَهُوَ كذب، وَلَا يتَصَوَّر خبر خَارج عَن الْقسمَيْنِ، وَهَذِه قسْمَة بديهة لَا سَبِيل إِلَى جَحدهَا.

(2/278)


ثمَّ كل خبر تعلق بمخبره على مَا هُوَ بِهِ فَهُوَ صدق، سَوَاء قارنه علم من الْمخبر أَو لم يقارنه، فَمن أطلق القَوْل بِكَوْن زيد فِي الدَّار وَكَانَ عِنْد [الْإِطْلَاق] مُقَدرا ظَانّا، ثمَّ تبين أَن الْأَمر على مَا قَالَه وفَاقا. فَالْكَلَام البادر مِنْهُ صدق، وَكَذَلِكَ من أخبر بِكَوْن زيد فِي الدَّار ظَانّا أَن الْأَمر كَذَلِك، ثمَّ تبين خِلَافه، فَالَّذِي بدر مِنْهُ كذب، وَإِن لم يقْصد تعمد الْخلف، فَإنَّا لَو لم نقل ذَلِك اسْتَحَالَ أَن نصفه بِالصّدقِ.
وكل خبر لم ينعَت بِالصّدقِ يجب نَعته بِالْكَذِبِ إِذا اتَّحد مُتَعَلّقه، وَفِيه احْتِرَاز عَن مَسْأَلَة تَأتي إِن شَاءَ الله.
[968] وَمِمَّا يَلِيق بذلك إِنَّه لَو بدر من الْإِنْسَان رمز أَو إِشَارَة رام بهَا إِخْبَارًا، فالإشارة لَا تُوصَف بِالصّدقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، فَإِنَّهَا لَيست بِكَلَام، وَمن حكم الْخَبَر أَن يكون من أَقسَام الْكَلَام، وَإِذا لم يُطلق اسْم الْكَلَام حَقِيقَة على

(2/279)


الْعبارَة لم نصفهَا بِالصّدقِ وَالْكذب تَحْقِيقا، وَلَو وصفهَا واصف بِأَحَدِهِمَا كَانَ متجوزا، فَأَما الرامز والمشير الَّذِي دلّت إِشَارَته على خَبره الْقَائِم بِهِ، فَلَا يَخْلُو عَن كَونه صدقا أَو كذبا، وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ.
(171) فصل

[969] فَإِن قيل: فقد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْخَبَر، فبينوا أقسامه فِي الصدْق [108 / أ] وَالْكذب.
قُلْنَا: الْأَخْبَار تَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام. أَحدهَا خبر عَن وَاجِب، وَالثَّانِي خبر عَن محَال، وَالثَّالِث خبر عَن جَائِز مُمكن.
فَأَما الْخَبَر عَن الْوَاجِب فَلَا يَقع إِلَّا صدقا، ثمَّ قد يعلم صَدَقَة ضَرُورَة، وَقد يعلم صَدَقَة بِدَلِيل، فَكل خبر عَن وَاجِب يدْرك وُجُوبه وثبوته ببداهة الْعقل فنعلم صدقه ضَرُورَة، وَذَلِكَ نَحْو الْخَبَر عَن كَون الْألف أَكثر من مائَة، وَنَحْو الْخَبَر عَن الْمَوْجُود لَا يَنْفَكّ من قدم أَو حدث، إِلَى غير ذَلِك.
فَأَما الْخَبَر الَّذِي يدْرك صدقه بِدَلِيل فَهُوَ الْخَبَر عَن ثُبُوت الصَّانِع، واتصافه بصفاته، فَهُوَ صدق يدْرك هَذَا الْوَصْف فِيهِ بِالدَّلِيلِ.
[970] وَأما الْخَبَر عَن الْمحَال فَلَا يكون إِلَّا كذبا، ثمَّ يَنْقَسِم، فَرُبمَا يدْرك كَونه بضرورة الْعقل، وَرُبمَا يدْرك بالأدلة.
فَأَما الَّذِي يدْرك بضرورة الْعقل كَونه كذبا فَهُوَ نَحْو الْخَبَر عَن اجْتِمَاع

(2/280)


الضدين، واجتماع الْجَوْهَر فِي الحيز الْوَاحِد، وَمن ذَلِك انخراق الْعَادَات المستمرة، نَحْو الإنباء عَن تفطر السَّمَاء، وتقلب الْأَحْجَار تبرا، إِلَى غير ذَلِك.
وَأما الَّذِي يدْرك استحالته بِدَلِيل، فَهُوَ نَحْو الْخَبَر عَن ثُبُوت حَادث لَا مُحدث لَهُ، وعالم لَا علم لَهُ، إِلَى غير ذَلِك [971] وَأما الْخَبَر عَن الجائزات فَهُوَ نَحْو الْخَبَر عَن وجود مَا يَصح عَدمه أَو عدم مَا يَصح وجوده.
ثمَّ هَذَا الْقَبِيل يَنْقَسِم، فَمِنْهُ يدْرك صدقه ضَرُورَة، وَهُوَ الْخَبَر الْمُتَوَاتر المواثر المستجمع للشرائط الَّتِي سنذكرها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِنْه مَا لَا يدْرك صدقه قطعاه وتفصيل القَوْل فِيهِ - فِي هَذَا الْقَبِيل - يَأْتِي فِي ي أَبْوَاب مبوبة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(172) القَوْل فِي الرَّد على السمنية

[972] ذهب الْفَرِيق من الْأَوَائِل إِلَى أَن اشياء من الْأَخْبَار لَا تُفْضِي

(2/281)


إِلَى الْعلم، وَلَا فرق بَين الْمُتَوَاتر والمستفيض وَمَا نَقله الْآحَاد.
ومقصدنا الرَّد عَلَيْهِم فِي الْمُتَوَاتر من الْأَخْبَار فَنَقُول: نَحن نعلم ضَرُورَة أَن من تَوَاتَرَتْ لَدَيْهِ الْأَخْبَار عَن مَكَّة وبغداد وَسَائِر الْأَمْصَار الَّذِي يطرقها العابرون ويخبرون عَمَّا شاهدوه فَلَا يستريب الْعَاقِل فِيمَا هَذَا سَبيله، كَمَا لَا يستريب فِي المحسوسات.
وَإِذا تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار عِنْد الْمَرْء بِأَن فُلَانَة وَلدته لم يسترب فِي ذَلِك، وَإِن لم يُشَاهد الْولادَة، على سَلامَة الْحسن.
ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نقصد بِمَا نطرد من الْكَلَام نصب الْأَدِلَّة، فَإِن الْمَسْأَلَة ضَرُورِيَّة.
وَإِنَّمَا مقصدنا الْإِيضَاح وكشف الْمَذْهَب ثمَّ من يجْحَد الضَّرُورَة قطع الْكَلَام، ثمَّ نقُول لَهُم: إِنَّمَا يتَمَيَّز الْعلم الضَّرُورِيّ عَن غَيره بِأَنَّهُ يَقع

(2/282)


اضطرارا، وَلَا يجد الْإِنْسَان عَنهُ انفكاكا، وَقد يُحَقّق ذَلِك فِيمَا تَوَاتَرَتْ فِيهِ الْأَخْبَار، وَلَو جَازَ جَحده جَازَ جحد المحسوسات.
[973] فان قيل: المحسوسات لما كَانَت مَعْلُومَة ضَرُورَة لم يجحدها جَاحد، وَأما مَا تَوَاتَرَتْ عَنهُ الْأَخْبَار فقد جحدناها.
قُلْنَا: وَقد جحد المحسوسات السفسطائية، وَزَعَمُوا أَن كل مَا يُسمى محسوسا فَلَا حَقِيقَة لَهُ، وَإِنَّمَا رؤيتنا لَهُ تخيل كحلم النَّائِم.
فَإِن قيل: هَذَا الْمَذْهَب يُؤثر عَنْهُم وَلم نر مِنْهُم طَائِفَة تقوم بهم حجَّة.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَا نزال ننقل مَذْهَب السمنية، وَلم نر حزبا وَفِئَة تكترث /. [808 ب]

(2/283)


(173) فصل

[974] مَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق ومعظم الْمُعْتَزلَة إِن الْعلم بِصدق الْخَبَر الْمُتَوَاتر على الشَّرَائِط الَّتِي نصفهَا اضطرار، وَلَيْسَ سَبيله الْعُلُوم المستدركة بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال، وَزعم الكعبي من معتزلة الْعرَاق وَطَائِفَة من أَتْبَاعه أَن الْعلم بِصدق الْخَبَر الْمُتَوَاتر اسْتِدْلَال، وَمن أَتْبَاعه من يَقُول أَنه لَا يَقع إِلَّا عَن اسْتِدْلَال وَإِذا وَقع لم يتَقَدَّر التشكك فِيهِ والانفكاك مِنْهُ بِخِلَاف سَائِر الْعُلُوم النظرية، فَوجه الرَّد على الكعبي أَن نقُول: من النَّاس

(2/284)


من يعلم صدق الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَإِن لم يتَقَدَّر مِنْهُ إقدام على نظر واستدلال، فَإِن الصّبيان وَمن يحل محلهم من الَّذين لَا يعتنون بِالنّظرِ وسبر طرق الِاسْتِدْلَال يعلمُونَ أَن فِي الدُّنْيَا بقْعَة يُقَال لَهَا مَكَّة، ويعلمون أمهاتهم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا ثَبت تواترا.
كَمَا يعلمُونَ المحسوسات من غير أَن ينظرا ويسبروا، وكما يعلمُونَ اسْتِحَالَة اجْتِمَاع المتضادات عِنْد اتصافهم بِالْعقلِ، فَلَو سَاغَ ادِّعَاء صُدُور الْعلم فِي الْمُتَوَاتر عَن النّظر سَاغَ مثله فِي المحسوسات، وَهَذَا مَا لَا فصل فِيهِ.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن الْعلم الَّذِي ندركه بِالنّظرِ يخْتَلف الْعُقَلَاء وارباب النّظر فِيهِ على حسب اخْتِلَاف درجاتهم فِي الفطنة والذكاء، وَاسْتِيفَاء الْأَدِلَّة، والإضراب عَنْهَا بالملال والضجر قبل انتهائها، وَهَكَذَا ألفينا أَرْبَاب النّظر فِي الْعُلُوم النظرية.
فَأَما الْعُلُوم الواقفة على التَّوَاتُر فمما لَا يخْتَلف فِيهِ أَرْبَاب الْأَلْبَاب، كَمَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي المحسوسات، وَسَائِر الْعُلُوم البديهية.
[975] فَإِن قيل: لَو كَانَ الْعلم بالتواتر ضَرُورَة، لَكَانَ الكعبي يعرف كَونه ضَرُورَة، مَعَ كَثْرَة أَتْبَاعه والمعتزين إِلَيْهِ.

(2/285)


قُلْنَا: شَرط الْعلم الضَّرُورِيّ أَن يَسْتَوِي فِي دركه أَرْبَاب الْعُقُول مَعَ اسْتِوَاء أَحْوَالهم فِي السَّلامَة وَانْتِفَاء الْآفَات، وَإِن شَذَّ شرذمة بعناد فَلَا يبلغون عددا تقوم بمثلم حجَّة.
وَلَيْسَ من شَرط الْعلم الضَّرُورِيّ اتِّفَاق أَرْبَاب الْأَلْبَاب على كَونه ضَرُورِيًّا بل لَا يمْتَنع أَن يعْتَقد بعض المعتقدين كَون الْعلم الضَّرُورِيّ كسبيا وَكَون الكسبي ضَرُورِيًّا، وَكَون غَلَبَة الظَّن الصادرة عَن التَّقْلِيد علما، فَهَذَا مِمَّا لَا بعد فِيهِ، فاحفظه.
(174) فصل

[976] فان قَالَ قَائِل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْأَخْبَار إِذا تَوَاتَرَتْ فيولد عِنْدهَا تواترها الْعلم بالمخبر عَنهُ؟
قُلْنَا: هَذَا بَاطِل من أوجه: مِنْهَا: أَن القَوْل بِأَصْل التولد بَاطِل على مَذَاهِب أهل الْحق ويستقصى الْكَلَام فِيهِ فِي الديانَات.
وَمِنْهَا: أَنا وَإِن قُلْنَا بالتولد فَالْقَوْل بِهِ هَهُنَا محَال لِأَن الْقَائِلين بالتولد أَجمعُوا على اسْتِحَالَة توليد الْوَاحِد منا علما منا فِي غَيره.
فَلَو كَانَت الْأَخْبَار مولدة للَزِمَ أَن يكون الْعلم الْمُتَوَلد عَنْهَا من فعل

(2/286)


المخبرين فَإِن الْمُسَبّب يكون فعلا لمن السَّبَب فعلا لَهُ، فَلَمَّا اسْتَحَالَ كَون الْعلم الْوَاقِع للْإنْسَان من فعل المخبرين انحسم الْبَاب.
[977] فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْعلم يَقع عَن النّظر فِي الْأَخْبَار المتواترة.
قُلْنَا: قد ذكرنَا فِي صدر الْكتاب ان النّظر لَا يُولد الْعلم ثمَّ ذكرنَا آنِفا إِن الْعلم بالمتواتر لَيْسَ بمظنون فِيهِ، وَلَا مستدل
عَلَيْهِ فَبَطل مَا قَالُوهُ. [109 / أَنا نلزمها
[978] وَمِمَّا نلزمم على القَوْل بالتولد أَن نقُول: إِن الْعلم يَقع فعلا للمخبرين فَيُؤَدِّي إِلَى أَن يكون الْفِعْل الْوَاحِد وَاقعا على افعلين، وَهَذَا مَا اتّفق الْقَائِلُونَ بالتولد على استحالته، وَالْأولَى لَك إِحَالَة ذَلِك على إبِْطَال القَوْل بالتولد.
(175) القَوْل فِي ذكر صِفَات اهل التَّوَاتُر الَّذين يعلم صدقهم اضطرارا

[979] اعْلَم، وفقك الله، أَن لأهل التَّوَاتُر الَّذين يَقع الْعلم بصدقهم ضَرُورَة أَوْصَاف إِذا اجْتمعت ثَبت الْعلم الضَّرُورِيّ، وَإِن اخْتَلَّ وَاحِد مِنْهُمَا لم يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ فِي مجْرى الْعَادة، فأحد الْأَوْصَاف: أَن يكون المخبرون عَالمين بِمَا أخبروا عَنهُ.

(2/287)


وَالثَّانِي: أَن يَكُونُوا مضطرين إِلَى الْعلم الْحَاصِل لَهُم، مخبرين عَن علمهمْ الضَّرُورِيّ. وَالثَّالِث: أَن يزِيد عَددهمْ على الْأَرْبَع، فَلَو كَانُوا أَرْبعا فَمَا دونه لم يَقع الْعلم الضَّرُورِيّ بأخبارهم.
فَهَذِهِ هِيَ الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة.
[980] ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك أَن مَا نقل من الْأَخْبَار المتواترة، وتوالت فِي نقلهَا الْأَعْصَار، ونقلها الْخلف عَن السّلف فَيَنْبَغِي أَن يكون حَال من نقل عَن الْأَوَّلين فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الْأَوْصَاف كَحال الْأَوَّلين فِيمَا علموه ضَرُورَة، وَكَذَلِكَ النقلَة فِي الرُّتْبَة التالية، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى بقول الْأُصُولِيِّينَ: [إِنَّا] نشترط فِي عدد التَّوَاتُر اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ والواسطة.

(2/288)


[981] فان قيل: فأثبتوا مَا ذكرتموه من الْأَوْصَاف.
قُلْنَا: أما الدَّلِيل على اشْتِرَاط كَون النقلَة عَالمين، أَنهم لَو نقلوا عَن ظن وحدس أوشك [لم يثبت] الْعلم، وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن أهل بَغْدَاد لَو أَنهم رَأَوْا طللا عَن بعيد ظنوه إنْسَانا، فَلَا يتَحَقَّق مِنْهُم فِي مُسْتَقر الْعَادة الْقطع بِكَوْنِهِ إنْسَانا مَعَ التشكيك فِيهِ.
وَلَو قدر ذَلِك على بعد لم يعقب الْعلم، وَكَيف يتَحَقَّق الْعلم بِمَا هُوَ مظنون عِنْد النقلَة.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك مَا ثَبت من الْعُلُوم نظرا واستدلالا فإطباق الْمَلأ الْعَظِيم عَلَيْهِ لَا يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ [فَمَا] كَانَ مظنونا مشكوكا فِيهِ فَذَلِك أولى.
وَأما الدَّلِيل على اشْتِرَاط أَن المخبرين عَالمين اضطرارا فَمَا أومأنا إِلَيْهِ آنِفا، وَذَلِكَ أَن أهل الْإِسْلَام يزِيد عَددهمْ على عدد التَّوَاتُر فِي الْأَقَل قطعا وَإِن كُنَّا لَا نحد أَقَله على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ثمَّ أخبارهم عَن المعارف واصول التَّوْحِيد لَا توجب الْعلم الضَّرُورِيّ، وَإِن كَانُوا عَالمين بِمَا اخبروا عَنهُ اسْتِدْلَالا، وكما لَا يثبت الْعلم ضَرُورَة فِي هَذِه الْمنزلَة، فَكَذَلِك لَا يثبت نظرا فِي الْخَبَر على مَا سنقرره بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله لَهُ تَعَالَى وَأما الدَّلِيل على اشْتِرَاط عدد زَائِد على الْأَرْبَعَة فَهُوَ أَن نقُول: وجدنَا الْأَرْبَعَة فَمَا

(2/289)


دونهم يشْهدُونَ فِي الْخُصُومَات ومفاصل الْقَضَاء وَلَا يثبت للْمَشْهُود لَدَيْهِ الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم مَعَ أخبارهم عَمَّا شاهدوه وعاينوه، وكونهم عَالمين فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى بِمَا أخبروا عَنهُ، وصادفنا الْعَادة مستمرة فِي ذَلِك فَكَذَلِك استمرت الْعَادة فِي انْقِضَاء الْعُلُوم عِنْد ادِّعَاء المدعين حُقُوقهم مَعَ [109 / ب] انقسامهم فِي علم الله تَعَالَى إِلَى الصَّادِقين
والكاذبين، وَلم يبْق فِي اسْتِمْرَار الْعَادة ثُبُوت الْعلم على عقب دعاوي المدعين.
فَلَو سَاغَ فِي حكم الْعَادة ثُبُوت الْعلم بأخبار الْأَرْبَعَة فَمَا دونهم لَو جد ذَلِك فِي البدور أَو على الظُّهُور فِي بعض الحكومات ولاستمر ذَلِك فِي دَعْوَى المدعين.
[982] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك كُله أَن الْعلم الضَّرُورِيّ لَو كَانَ يحصل بقول وَاحِد فَمَا فَوْقه لَكَانَ أولى الاحاد بذلك الْأَنْبِيَاء و [مَا] أفْضى إِخْبَار وَاحِد مِنْهُم صلوَات الله عَلَيْهِم إِلَى الضَّرُورَة مَعَ تعلق أخبارهم بِبَعْض المشاهدات والمحسوسات.

(2/290)


[983] ويعتضد هَذِه الْفُصُول بِأَن نقُول الْعدَد الْكثير والجم الْغَفِير الَّذِي يَقع الْعلم بنقلهم كَأَهل جَانِبي بَغْدَاد لما اقْتضى نقلهم الْعلم على الْوَصْف الَّذِي ذَكرْنَاهُ لم تخْتَلف الْعَادة فِي ذَلِك، فَلَا يجوز أَن ينقلوا مرّة مَا علموه اضطراراً فنعلم مَا نقلوه ضَرُورَة، وينقلوا مرّة أُخْرَى فيستراب فِي نقلهم.
فَلَو كَانَ الْعلم يحصل بِنَقْل الْأَرْبَع لما استمرت الْعَادة فِي الصُّور الَّتِي ذَكرنَاهَا على انْتِفَاء الْعلم.

(2/291)


[984] ومقصدنا بِمَا ذَكرْنَاهُ الرَّد على النظام فَإِنَّهُ صَار إِلَى أَن خبر الْوَاحِد قد يقْتَرن فِي بعض الْأَحْوَال بقرائن فيفضي مَعهَا إِلَى الْعلم الضَّرُورِيّ.
فَنَقُول لَهُ: لَو كَانَ كَمَا قلته لوجد ذَلِك فِي شَهَادَة الشُّهُود وأقوال الْأَنْبِيَاء أَو دَعْوَى المدعين وَهَذَا لَا محيص لَهُ عَنهُ، وَلَا يغرنك تمويهه وتصويره فِي الْوَاحِد الْمخبر مَعَ قَرَائِن تقترن بِهِ فَإِن كل مَا يصوره قد يَتَقَرَّر فِي الْعَادة تصور مثله مَعَ تعمد الْخلف أَو تصور الْغَلَط فَكل صُورَة فَرضهَا عَلَيْك فارتكبها وَلَا يرد عَنْك تَصْوِيره فِيهَا.
[985] فَإِن قيل: معولكم على الشُّهُود فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم مَا نقلوا حَقِيقَة مَا رَأَوْا وَلَو نقلوا ذَلِك لأفضى إِلَى الْعلم.
قُلْنَا: فَهَذَا هُوَ النَّاقِص الْمَحْض، وأنى يَسْتَقِيم ادِّعَاء الضَّرُورَة عِنْد أَخْبَار الْآحَاد تمسكا بتخيل فِي الْعَادة، مَعَ الْمصير إِلَى أَن كَافَّة الشُّهُود فِي

(2/292)


الْعَادة يجوز أَن يتواطؤا أَو يتواضعوا على التحريف، وَترك الْأَنْبِيَاء عَن حَقِيقَة مَا علموه، وَنحن نعلم ضَرُورَة أَن مَا ادعا ذَلِك على كَافَّة الشُّهُود، وَقد يفضى إِلَى الْعلم الضَّرُورِيّ فِي بعض الْأَحَايِين قُلْنَا: هَذَا اجتراء مِنْكُم على صَاحب الشَّرِيعَة وَإِطْلَاق القَوْل على مجازفة، فَإنَّا نعلم أَن أحدا من الْقُضَاة لَا يقطع بِصدق الشُّهُود وَانْتِفَاء الزلل وتعمد الْخلف.
[986] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن نقُول شَهَادَة الشُّهُود لَو اقْتضى علما فِي حَال [و] لم يقتضه فِي حَال أوجب التَّوَقُّف فِي شَهَادَة من لم تقتض شَهَادَته علما، وَهَذَا مَا قَالَ بِهِ قَائِل، وَلَئِن سَاغَ ادِّعَاء مَا قَالُوهُ فِي الشَّهَادَة مَعَ اتِّفَاق الْأمة على أَن كل حكم مترتب على الشَّهَادَة مُجْتَهد فِيهِ مَبْنِيّ على غَالب الظَّن وَلَيْسَ بمقطوع بِهِ بديهة فَأنى يَسْتَقِيم مثل هَذِه المباهتة فِي دَعْوَى المدعين؟ فاضمحل مَا قَالُوهُ، وَتبين عنادهم فِيمَا سَأَلُوهُ.
[987] فَهَذِهِ جملَة الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي أهل التَّوَاتُر / وَقد اندرج [110 - أ] تحتهَا مَا قدمْنَاهُ من اسْتِوَاء طرفِي النقلَة وواسطتهم إِذا نقل الْخَبَر خلف عَن سلف، فَإنَّا أوضحنا فِيمَا قدمْنَاهُ أَن من شَرط إفضاء التَّوَاتُر إِلَى الْعلم الضَّرُورِيّ علم النقلَة وواسطتهم إِذا نقل الْخَبَر خلف عَن سلف ضَرُورَة فِي

(2/293)


زيادتهم على الْأَرْبَع، فَلَو اتّصف بذلك النقلَة أَولا، واختل وصف فِي الْوَاسِطَة، بِأَن يكون الْمَنْقُول إِلَيْهِم عددا لَا تقوم بهم الْحجَّة، فَهُوَ وَإِن علمُوا مَا نقل إِلَيْهِم ضَرُورَة، فَإِذا نقلوا فَلَا نعلم من نقلهم مَا علموه لاختلال بعض الْأَوْصَاف الَّتِي قدمناها، وَلذَلِك نقُول أَن مَا نقلته النَّصَارَى من صلب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يثبت، وَإِن كَانَ عَددهمْ زَائِدا على أقل عدد التَّوَاتُر، لأَنهم إِنَّمَا نقلوه عَن عدد لَا تقوم بهم الْحجَّة، وَلَو نقلوا خلفا عَن سلف مَعَ اسْتِوَاء جملَة النقلَة فِي الْأَوْصَاف الْمُقدمَة لما تصور مِنْهُم نقل بَاطِل، وَكَذَلِكَ مَا يَنْقُلهُ الروافض من التَّنْصِيص على

(2/294)


عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الْإِمَامَة فَهَذَا مخرجه فَإِنَّهُم وَإِن بلغُوا مبلغا فِي الْعدَد فَلم يشاهدوا مَا نقلوه، وَلم يثبت مثل عَددهمْ فِي جملَة النقلَة خلفا وسلفا، فأحط علما بذلك. [988] فَإِذا اسْتَقَرَّتْ الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا بِالدّلَالَةِ، فَاعْلَم أَن طَائِفَة من الْجُهَّال المنتمين إِلَى أهل النّظر شرطُوا فِي أهل التَّوَاتُر سوى مَا ذَكرنَاهَا، وَنحن نذْكر جملَة وَاحِدَة ثمَّ نبطلها وَاحِدًا وَاحِدًا.
فمما شَرطه بَعضهم أَن قَالَ يَنْبَغِي أَن يكون النقلَة بِحَيْثُ لَا يحصرهم عدد، وَلَا يحويهم بلد وَمِنْهَا أَن تخْتَلف أنسابهم وتتغاير آباؤهم وتفترق أوطانهم وَمِمَّا اشترطوا أَن لَا يحملوا بالقهر، فَلَو كَانُوا مجبرين لم يقتض

(2/295)


خبرهم الْعلم وَمِنْهَا: ان لَا يضموا إِلَى مَا نَقله شَيْئا يحيله الْعقل فَلَو جمعُوا بَين جَائِز ومستحيل فَلَا يَقْتَضِي خبرهم الْعلم بالجائز، لضمهم المستحيل إِلَيْهِ.
وَمِمَّا شرطُوا: أَن يجْتَمع فِي النقلَة أهل الْأَدْيَان الْمُخْتَلفَة.
وَشرط بَعضهم أَن يَكُونُوا مُؤمنين منزهين عَمَّا يشينهم.
وَشرط طَائِفَة من الْيَهُود أَن يكون النقلَة فِي دَار ذلة تحث بذل جِزْيَة، وَأما أهل الِاخْتِيَار فِي دَار فاهية فَلَا تقوم الْحجَّة بنقلهم.
[989] وَطَرِيق إبِْطَال هَذِه الشَّرَائِط أَن نفرض فِي كل صُورَة على خلاف الشَّرَائِط الْمَشْرُوطَة خَبرا مقتضيا علما مَعَ انْتِفَاء مَا شرطوه، وَإِن اعْتَرَفُوا بِهِ فقد أبطلوا مَا شرطوه، وَإِن جحدوه انتسبوا إِلَى جحد الضَّرُورَة، ولزمهم جحد أصل التَّوَاتُر.
فَأَما من شَرط أَن يكون أهل التَّوَاتُر بِحَيْثُ لَا يحصرهم عدد وَلَا يحويهم بلد، فَيُقَال لَهُ: لَو اجْتمع أهل بَغْدَاد على نقل فِيمَا اضطروا إِلَى علمه فَهَل يَقْتَضِي نقلهم علما؟
فَإِن قَالُوا يَقْتَضِيهِ وَلَا بُد مِنْهُ، كَيفَ؟ ويلزمهم القَوْل بِهِ فِي اصل محلّة

(2/296)


من محَال بَغْدَاد، فَإِذا تمهد ذَلِك فَأهل بَغْدَاد يحصرهم عددنا وَيدخل فِي الْمَقْدُور عَددهمْ ويحويهم بلد، وَإِن جَحَدُوا ذَاك وَزَعَمُوا أَن إخبارهم لَا يَقْتَضِي الْعلم، فقد باهتوا وَلَا يخرجُون مَعَ هَذِه المباهتة من قَول من يُنكر اصل التَّوَاتُر.
[990] وَأما اشْتِرَاط اخْتِلَاف الْأَنْسَاب فَلَا معنى لَهُ، فَإنَّا لَو قَدرنَا عددا لسكان بَغْدَاد / وهم ينتمون إِلَى نسب وَاحِد، ثمَّ أخبروا عَمَّا علموه مُشَاهدَة [110 - ب] فيتضمن خبرهم ثُبُوت الْعلم لَا محَالة، وجاحد ذَلِك ينجذب إِلَى جحد أهل التَّوَاتُر.
[991] وَكَذَلِكَ اخْتِلَاف الأوطان لَا معنى لاشتراطه فَإِن الْبَلدة الْعَظِيمَة لَو شغرت عَن الغرباء فَيكون نقلهم فِي مجْرى الْعَادة كنقلهم إِذا خالطهم الغرباء وَأما اشتراطهم أَن لَا يَكُونُوا مقهورين [فيفضل] القَوْل عَلَيْهِم فِي ذَلِك، فَيُقَال: إِن صورتم ذَلِك فِيهِ إِذا لم يعلمُوا [مَا] أخبروا عَن نَقله، فَلَا يَقْتَضِي نقلهم الْعلم، لعدم علمهمْ بِمَا نقلوه [لَا] لكَوْنهم [مجبرين] وَقد بَيْننَا أَن ذَلِك فِيمَا قُلْنَاهُ بِهِ من الشَّرَائِط، وَإِن نقلوا مَا علمُوا ضَرُورَة فَيَقْتَضِي نقلهم الْعلم وَإِن كَانُوا مجبرين خَائِفين لَو تركُوا النَّقْل.
[992] على أَن نقُول: مَا ذكرتموه من الْأَخْبَار فِي حق أهل التَّوَاتُر

(2/297)


يصعب تصَوره، فَإِن أهل بَغْدَاد وَمن دونهم لَو رَأَوْا شَيْئا أَو سَمِعُوهُ فَلَا يتَحَقَّق فِي مجْرى الْعَادة أَن يمْتَنع كلهم عَن التفاوض بِمَا رَأَوْهُ حَتَّى يجبروا عَلَيْهِ، بل لَو أجبروا بِالسَّيْفِ على الْكَفّ عَن نقل مَا رَأَوْهُ، فالعادة أَن بَعضهم ينْطق بِمَا رأى وَلَا ينكتم الْأَمر، فَتبين أَن مَا صوروه من الْقَهْر فِي حق الكافة، لَا معنى لَهُ، وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن كل مَا ذَكرُوهُ مِمَّا لَا يحد بِحُصُول الْعلم تعلقا بِهِ فِي مجْرى الْعَادة فَتعين القَوْل بإبطاله.
[993] وَأما اشْتِرَاط تَحْدِيد الْخَبَر عَن الْجَائِز، وَترك ضم المستحيل إِلَيْهِ فَلَا معنى لَهُ.
فَإِن الْمُعْتَزلَة مَعَ جمعهم وَكَثْرَة عَددهمْ لَو رَأَوْا شَيْئا فنقلوا مَا رَأَوْهُ وقربوه بِذكر اعْتِقَادهم الْفَاسِد فِي بعض الْأُصُول لم يقْدَح ذَلِك فِي الْعلم سَوَاء جردوا خبرهم، وقربوا بِخُرُوج الْأمين وَالَّذِي لَا علم لَهُ، وَكَذَلِكَ أهل بلد الرّوم إِذا أخبروا عَن مُشَاهدَة [اضطررنا] إِلَى الْعلم بهَا، وَإِن كَانُوا يقرنون نقلهم بكفرهم.
[993] وَأما اشْتِرَاط اخْتِلَاف الْأَدْيَان، فَلَا معنى لَهُ، فَإنَّا نعلم أَن أهل الْإِسْلَام باجمعهم لَو رَأَوْا شَيْئا [و] نقلوا مَا رَأَوْا اضطرارا إِلَى مَا نقلوه، وَإِن أنكر الْخصم ذَلِك أَنْكَرْنَا فِي مُقَابلَة أصل التَّوَاتُر.

(2/298)


[995] فَأَما من شَرط أَن يَكُونُوا فِي ذَلِك من الْيَهُود، فَهَذَا الحكم مِنْهُم يُبطلهُ مَا قدمْنَاهُ من الصُّور، على أَن نقُول لَهُم: فَأنْتم معاشر بني إِسْرَائِيل قبل ان ضربت عَلَيْكُم الْجِزْيَة ونالتكم الذلة لَو نقلتم عَن دينكُمْ شَيْئا هَل كَانَ يَقع بِهِ الْعلم؟ فان قَالُوا: أجل فقد أبطلوا شَرط الذلة، وَإِن قَالُوا لَا تقع الْعلم، فقد أبطلوا دينهم، فَإِن الذلة مَا كَانَت متأبدة عَلَيْهِم مذ كَانُوا، وَإِنَّمَا هِيَ طارئة وَلَهُم إِن نقلوا أديانهم عَن اقوام لم يَكُونُوا فِيمَا هم فِيهِ من الذلة والجزية.
[996] وَأما من شَرط أَن يكون أهل النَّقْل مُؤمنين أَو عدلا، فقد أحَال فِيمَا قَالَ، فَإنَّا نعلم أَن بِلَاد الْكَفَرَة الَّتِي تنطوي على النواحي والأمصار، وشغر عَن الْمُسلمين، وَمن نَشأ مِنْهُم بِبَلَد، وَالْأَخْبَار تتواتر عَلَيْهِ من الْكَفَرَة بِأَن فِي الْموضع الْفُلَانِيّ مصرا، فيضطر إِلَى علم ذَلِك، كَمَا يضْطَر الْمُسلمُونَ إِلَى الْعلم بِمَكَّة وبغداد، وَغَيرهمَا من الْأَمْصَار، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، وَمن جَحده انتسب إِلَى جحد الْحَقَائِق، فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ.
[997] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ / فِيمَا شرطتموه أَن عدد التَّوَاتُر يزِيد على [111 / أ] الْأَرْبَع، وَلَا شكّ فِي أهل التَّوَاتُر إِذا بلغُوا الْمبلغ الَّذِي ذكرتموه فَلَا يُوجب خبرهم الْعلم إِيجَاب الْعلَّة معلولها، فَهَل تجوزون فِي المقدورات أَن يثبت الْخَبَر، وَلَا يعقبه الْعلم؟ أم هَل تجوزون أَن ينْقل الْوَاحِد فيعقب نَقله الْعلم الضَّرُورِيّ ظ
قُلْنَا: إِن كَانَت الْمَسْأَلَة فِي حكم الْمَقْدُور فَكل مَا ذكرتموه سَائِغ فِي الْمَقْدُور.

(2/299)


وَلَكنَّا نعلم ضَرُورَة أَن الْعَادَات لَا تنخرق فِي زَمَاننَا، كَمَا نقطع أَن الْبحار مَا فجرت ونضبت، وَالسَّمَوَات مَا انفطرت وكل مَا ذَكرْنَاهُ من طرق الْأَدِلَّة إِخْبَار منا عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ الْعَادَات المستمرة، ثمَّ بضرورة الْعقل نعلم أَن الْعَادَات لَا تنْقَلب فِي زَمَاننَا، وَمن كَمَال الْعقل معرفَة ذَلِك، كَمَا قدمنَا فِي صدر الْكتاب.
(176) فصل

[998] فَإِن قَالَ قَائِل: قد ذكرْتُمْ أَن عدد التَّوَاتُر يزِيد على أَربع، فَمَا اقله؟ وَهل يتحدد بِعَدَد؟
قيل: قد اخْتلف ارباب الْأُصُول فِي ذَلِك على مَذَاهِب مُخْتَلفَة، وَنحن نومىء إِلَيْهَا، ثمَّ نذْكر مَا نختاره.
فَذهب العلاف وَهِشَام بن عَمْرو الفوطي إِلَى أَن، الْحجَّة لَا تقوم بالْخبر حَتَّى يَنْقُلهُ عشرُون من الْمُؤمنِينَ الَّذين هم أَوْلِيَاء الله تَعَالَى، واعتصما

(2/300)


فِي ذَلِك بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} .
وَذهب بعض أتباعهم إِلَى أَن الْحجَّة لَا تقوم إِلَّا بِنَقْل سبعين رجلا، تمسكا بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا} .
وَذهب بعض الْمُتَقَدِّمين إِلَى أَن الْحجَّة إِنَّمَا تقوم بِنَقْل ثَلَاثمِائَة وَثَلَاث عشر، مصيرا مِنْهُم إِلَى ان هَذَا عدد الْمُسلمين يَوْم بدر.
وَذهب مُعظم الروافض الإمامية إِلَى أَن الْحجَّة إِنَّمَا تقع بقول الإِمَام الْمَعْصُوم فَإِن قَالَ وَحده قَامَت الْحجَّة بقوله، وان قَالَه أنَاس هُوَ فيهم، وهم غير مقيمين عَنْهُم قَامَت الْحجَّة بِهِ.
وَذهب ضرار بن عَمْرو إِلَى ان الْحجَّة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقوم إِلَّا بِإِجْمَاع الْأمة.

(2/301)


وَذَهَبت الأباضية من الْخَوَارِج إِلَى أَن الْحجَّة إِنَّمَا تقوم إِذا كَانَ الْخَبَر عَن حق فتقوم الْحجَّة، وسواءته اتَّحد الْقَائِل اَوْ تعدد النقلَة، وَذهب صَاحب أبي الْهُذيْل الْمَعْرُوف بِأبي عبد الرَّحْمَن إِلَى مَذْهَب خَالف فِيهِ سَائِر الْمذَاهب فَقَالَ: مهما أخبر خَمْسَة من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى من الْمُؤمنِينَ قَامَت الْحجَّة بإخبارهم بِشَرْط أَن يَكُونُوا فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى معصومين عَن الْكَذِب، ثمَّ قَالَ لَا يجوز ان يخبروا بِحَيْثُ ينعتون فِي كَونهم أَوْلِيَاء، بل يجب أَن يَنْضَم إِلَيْهَا سادس لَيْسَ من الْأَوْلِيَاء لتلتبس أعيانهم، فَلَا نشِير إِلَى وَاحِد مِنْهُم إِلَّا وَيجوز أَن يكون هُوَ السَّادِس الَّذِي لَيْسَ بولِي، ثمَّ إِذا ثبتَتْ هَذِه الْأَوْصَاف فَيثبت الْعلم بنقلهم ضَرُورَة، ثمَّ من أعجب مَا نقل مِنْهُ أَن قَالَ: تثبت الْحجَّة بالخمسة إِلَى عشْرين، وسنفصل عَلَيْهِ القَوْل فِي ذَلِك، ثمَّ اعْلَم استقصاء الْكَلَام على هَؤُلَاءِ يَلِيق بفن الْكَلَام فِي أَحْكَام الْإِمَامَة وَغَيرهَا،

(2/302)


بيد أَنا نذْكر مِمَّا يسْتَقلّ بِهِ فِي الرَّد على كل وَاحِد مِنْهُم.
[999] فَأَما قَالَه العلاف من التَّقْيِيد بالعشرين من الْمُؤمنِينَ / فتقابل [111 / ب] بِالْعشرَةِ اَوْ بِالْمِائَةِ فتقابل الْمذَاهب، وَلَا مستروح فِي ظَاهر قَوْله تَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} فَإِن الْمَقْصد من الْآيَة إِيجَاب المصابرة على هَذَا الْوَجْه فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن حكم الْخَبَر فِيمَا شرطوه لَا ينْسَخ، وَهَذَا الحكم مَنْسُوخ فِي كتاب الله تَعَالَى لقَوْله: {الئن خفف الله عَنْكُم} الْآيَة.
وَأما اشْتِرَاط الْإِيمَان فقد سبق وَجه الرَّد عَلَيْهِ، وبقريب من ذَلِك يرد

(2/303)


على من قرب بالسبعين وَغَيره من الْأَعْدَاد المحصورة وَلَا معتصم من شَيْء مِمَّا عولوا عَلَيْهِ، وَلَيْسَت غَزْوَة بدر أولى من بعض الْغَزَوَات، وَهَذَا مَا لَا يُسَاوِي تسويد الْبيَاض بِالْجَوَابِ عَنهُ.
[1000] وَأما مَا صَار إِلَيْهِ الإمامية فحقيقة الرَّد عَلَيْهِم ينبىء عَن إبِْطَال أصلهم فِي القَوْل بِالْإِمَامِ الْمَعْصُوم، وَلَا سَبِيل إِلَى الخوص فِيهِ، على أَنا نقُول إِذا اتّفق أهل بَغْدَاد على نقل مَا شاهدوه فَهَل يُوجب ذَلِك الْعلم الضَّرُورِيّ؟ فَذَلِك لأَنا نجوز كَون الإِمَام فيهم.
قُلْنَا: فَهَل تقطعون بِكَوْن الإِمَام فيهم، فَإِن قَالُوا: لَا نقطع بذلك، فقد تبين بطلَان مَذْهَبهم، فَإِن الْعلم الضَّرُورِيّ قد حصل قطعا، ومقتضيه مَشْكُوك فِيهِ على أصلهم، وَإِن باهتوا وَقَالُوا نقطع بِكَوْن الإِمَام فيهم.
فَيُقَال مَا من نَاحيَة مثل بَغْدَاد إِلَّا وَينزل أَخْبَار أَهلهَا عَن المشاهدات فِي [الْإِفْضَاء] إِلَى الضروريات منزلَة بَغْدَاد، وَنحن نعلم أَن أهل كل بَلْدَة عَظِيمَة إِذا أخبروا فِي كل يَوْم عَن مُشَاهدَة يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ، لَا يخْتَص بِنَاحِيَة من نواحي الْعَالم، وَإِن أنكرو شَيْئا من ذَلِك كَانَ جحدا مِنْهُم لأصل التَّوَاتُر وَالْكَلَام عَلَيْهِم كَالْكَلَامِ على السمنية.
[1001] وَأما مَا ذكرته الأباضية من أَن الْخَبَر إِذا كَانَ صدقا اقْتضى الْعلم سَوَاء اتَّحد ناقله أَو تعدد نقلته، فَهَذَا بَاطِل، فَإنَّا نعلم أَن إخبارنا عَن ثبوبت الصَّانِع لَا يُوجب الْعلم لمنكر الصَّانِع وَكَذَلِكَ قد يُشَاهد الْوَاحِد منا الشَّيْء ويخبر عَنهُ، ثمَّ يضْطَر إِلَى ان الَّذين أخْبرهُم لم يصدقوه وَلم يعلمُوا مَا أخبر عَنهُ فَبَطل مَا قَالُوهُ.

(2/304)


[1002] وَأما مَا قَالَه صَاحب أبي الْهُذيْل من أَن الْخَمْسَة الْمُؤمنِينَ المعصومين إِذا كَانَ مَعَهم سادس لَيْسَ بمعصوم وأخبروا عَن مُشَاهدَة فيضطر إِلَى صدقهم.
فَيُقَال لَهُ لم قيدت أقل الْعدَد فِي ذَلِك بالخمس؟
فَإِن قيل: إِنَّمَا قيد الْخمس لثُبُوت الدَّلِيل على أَن الْأَرْبَع لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر، ثمَّ لم يُنكر عددا فَوق ذَلِك، فَأول عدد بعد الْأَرْبَعَة الْخَمْسَة.
فَيُقَال: أما خُرُوج الْأَرْبَع عَن كَونهم عدد التَّوَاتُر مُسلم، فَلم قُلْتُمْ إِن الْأَرْبَع إِذا لم يَكُونُوا عدد التَّوَاتُر فَيكون الْخمس عدد التَّوَاتُر فَمَا وَجه التَّوَصُّل إِلَى ذَلِك؟
وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْأَرْبَع لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر وَلَا يثبت بعده عدد مَحْصُور يقطع بِأَنَّهُ اقل عدد التَّوَاتُر، ثمَّ يُقَال لَهُم لَهُم شرطتم الْعِصْمَة وَقد أوضحنا فِيمَا قدمنَا بِأَن أَخْبَار الْكَفَرَة إِذا بلغُوا مبلغ التَّوَاتُر يَقْتَضِي الْعلم الضَّرُورِيّ، ثمَّ يُقَال لَهُ: فَإِذا ثَبت الْعِصْمَة فَهَلا اكتفيت بالأربع فَمَا دونهَا، ثمَّ يُقَال لَهُ: فَمَا معنى قَوْلك من الْخمس إِلَى الْعشْرين فَمَا وَجه التَّحْدِيد بالعشرين؟ وَلَيْسَ هَذَا بِالْأَكْثَرِ، وَلَا بالأوسط، وَلَا بِالْأَقَلِّ، وَلم كَانَ ذكر الْعشْرين مَعَ خُرُوجه عَن هَذِه الصِّفَات أولى من ذكر / الْمِائَة فَمَا فَوْقهَا، [112 - أ] فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، فَإِذا بطلت هَذِه الْمذَاهب بَقِي علينا بعد إِبْطَالهَا أَن نذْكر مَا نرتضيه فِي أقل عدد التَّوَاتُر.

(2/305)


(177) فصل

[1003] مَا ارْتَضَاهُ أهل الْحق أَن أقل عدد التَّوَاتُر مِمَّا لَا سَبِيل لنا إِلَى مَعْرفَته وَضَبطه، وَإِنَّمَا الَّذِي نضبطه مَا قدمنَا ذكره أَن الْأَرْبَع فَمَا دونه لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر، فَأَما فَوق الْأَرْبَع فَلَا نشِير إِلَى عدد فنفى عَنهُ كَونه اقل التَّوَاتُر، وَكَذَلِكَ لَا نشِير إِلَى عدد مَحْصُور فنزعم أَنه الْأَقَل.
[1004] فَإِن قيل: فَلَو اتّفق أَن يخبرنا خَمْسَة عَن مُشَاهدَة فيضطر إِلَى الْعلم بِمَا اخبروه، فَهَل يقطع عِنْد اتِّفَاق ذَلِك أَن أقل عدد التَّوَاتُر خَمْسَة؟
قيل: لَو اتّفق ذَلِك كَمَا وصفتموه لقطعنا القَوْل بِمَا ذكرتموه بيد أَن ذَلِك لم يتَّفق على اسْتِمْرَار الْعَادة
[1005] فَإِن قيل: إِذا أخبرونا خَمْسَة فَلم يَقع الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم وَوَجَب الْقطع بِأَنَّهُم لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر؟
قُلْنَا: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فَإنَّا نقطع بِأَن عدم حُصُول الْعلم مُرَتّب على نُقْصَان الْعدَد غير أَنا نجوز أَن يكون ذَلِك لَكَاذِب فيهم أَو مقلد مخمن، فَإِذا كُنَّا نجوز أَيْضا مَا قلتموه وَإِذا أخبرنَا عشرَة مثلا واضطررنا إِلَى صدقهم

(2/306)


وَجب أَن يقطع بكونهم أقل الْعدَد. قُلْنَا: لَا سَبِيل إِلَى ذَلِك، فَإنَّا نجوز أَن يحصل الْعلم بأخبار عدد دونهم. فَخرج مِمَّا قدمْنَاهُ أَن أقل عدد التَّوَاتُر مِمَّا لَا يَنْضَبِط، وَلَا يدل على عدد بِعَيْنِه دلَالَة عقلية وَلَا دلَالَة سمعية وَقد أوضحنا فَسَاد كل تَقْدِير قَالَ بِهِ أحد الْعلمَاء، فَلم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ.
(178) فصل

[1006] قد ذهب فريق من الْمُتَكَلِّمين إِلَى أَن صدق أهل التَّوَاتُر قد [يعرف] ضَرُورَة، وَقد [يعرف] اسْتِدْلَالا، فَأَما مَا يعرف ضَرُورَة فنحو أَخْبَار المخبرين عَن كَون بَغْدَاد فِي الدُّنْيَا وَغَيرهَا من الْأَمْصَار وَالسير والدول وَأَيَّام الماضين.
وَأما مَا يعرف صدق المخبرين فِيهِ اسْتِدْلَالا فَهُوَ مثل أَن يخبر عدد يعلم بمستقر الْعَادة أَنهم لَا يتَّفق مِنْهُم الْأَخْبَار عَن مخبر وَاحِد وفَاقا من غير رَغْبَة عَنهُ وَرَهْبَة وداعية وتواطىء، وتواضع وَخير يَقع وَدفع ضرّ، فَإِذا بدرت مِنْهُم الْأَخْبَار ونعلم باستمرار الْعَادة أَنهم لَا يتفقون من غير سَبَب، وعرفنا باطراد الْعَادة أَنه لَو تحقق سَبَب مَا ذَكرْنَاهُ لما أتكتم ويتحدثوا بِهِ على مر الزَّمَان فَإِن من قَضِيَّة الْعَادة أَن شَيْئا من الْأَسْبَاب الَّذِي قدمْنَاهُ لَا يعلم الْجمع الْكثير والجم الْغَفِير ثمَّ ينكتم، فَإِذا لم يظْهر عرف عدمهَا، فعلى هَذَا الْوَجْه يسْتَدلّ على صدقهم.
[1007] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ هَذَا ذُهُول عَن التَّحْقِيق وَذَهَاب عَن تَحْصِيل مَقْصُود الْبَاب وَذَلِكَ أَنا نقُول: عدد التَّوَاتُر إِذا أخبروا عَن

(2/307)


مُشَاهدَة وَكَانُوا صَادِقين لم يكن فيهم مقلد وَلَا مخمن فنعلم اضطرار صدقهم، وَلَا سَبِيل إِلَى دَرك صدقهم دَلِيلا، وَقد أوضحنا وَجه الرَّد على من زعم من الكعبي وَأَتْبَاعه أَن الْعلم بِصدق الْمُتَوَاتر علم اكْتِسَاب واستدلال، فَإِذا وَجب حُصُول هَذَا الْعلم اضطرارا فَإِذا لم يضْطَر إِلَى صدقهم فنعلم أَنهم كذبة أَو فِئَة مِنْهُم كذبة فِي الْأَخْبَار عَن الْمُشَاهدَة، وَلَوْلَا ذَلِك [112 / ب) لعرفنا صدقهم ضَرُورَة / فَإِن الَّذين نَعْرِف صدقهم ضَرُورَة لَا يجوز أَن تخْتَلف الْعَادة فيهم، فَإِن الْمعول فِي دَرك صدقهم على اسْتِمْرَار الْعَادة، فَلَو حرزنا اخْتِلَاف الْعَادة فِي ذَلِك لزمنا أَن نجوز أَن يخبر أهل بَغْدَاد عَن مُشَاهدَة صدقا فنعلم صدقهم تَارَة ضَرُورَة ويخبرون أُخْرَى فنتشكك فِي إخبارهم، وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ وَفِيه خلط الْبَاب، والخبط الْعَظِيم فِيهِ، فَخرج مِمَّا ذَكرْنَاهُ أَن أهل التَّوَاتُر إِذا لم يعرف صدقهم ضَرُورَة فَذَاك بِأَن فيهم مُقَلدًا أَو كذابا أَو مقلدين، وَكَذَلِكَ بِحَيْثُ ينقص الصادقون عَن أقل الْعدَد الْمُتَوَاتر فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، فَإِذا كُنَّا نصير إِلَى الَّذين لَا نَعْرِف صدقهم ضَرُورَة فنعلم أَن فيهم كذبة فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك وَطَلَبه عَن صدقهم.
وَالْوَجْه الَّذِي نفى الْعلم الضَّرُورِيّ أثبت الْقطع بِالْكَذِبِ فَتَأمل ذَلِك فَإِنَّهُ مزلة الْبَاب والذاهب عَنهُ سر التَّوَاتُر.
[1008] فَإِن قيل: فَلَو أَن أهل التَّوَاتُر أخبروا عَن مُشَاهدَة وَلم

(2/308)


يضطروا إِلَى صدقهم فَأخْبر نَبِي أَنهم غير صَادِقين افيجوز ذَلِك؟
قُلْنَا: حاشا وكلا أَن نجوز ذَلِك فَإنَّا قَطعنَا بالطريقة الَّتِي مهدنا أَنا إِذا لم نعلم صدقهم ضَرُورَة فنعلم كذبهمْ أَو كذب بَعضهم، فَكيف يجوز وُرُود الْخَبَر عَن النَّبِي على خلاف الدَّلِيل الْمَبْنِيّ على الْعَادة مَعَ استمرارها.
[1009] فَإِن قيل: فَلَو صدق اربعة فِي خبرهم فَمَا قَوْلكُم فِيهَا؟
قُلْنَا: نعلم صدقكُم بتصديقه فَإِنَّهُم لَيْسُوا مِمَّا يجب صدقهم ضَرُورَة حَتَّى إِذا لم يحصل الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم فيستدل بذلك على كذبهمْ وَلَيْسوا كعدد أهل التَّوَاتُر، فَتَأمل ذَلِك وتجنب هَذِه الشُّبْهَة الطارئة على هَؤُلَاءِ.
[1010] فَإِن قيل: فَإِذا أخبرنَا الْعدَد الَّذِي اقْتضى إخبارهم مرَارًا الْعلم الضَّرُورِيّ وَلم يقتض إخبارهم فِي هَذِه الْكَثْرَة الْعلم الضَّرُورِيّ، أفتقطعون بكذبهم أَو كذب بَعضهم من غير تواطىء وشاغر أَو من غير سَبَب جَامع من رَغْبَة وَرَهْبَة.
قُلْنَا: لَا بُد فِي مُسْتَقر الْعَادة من سَبَب فِي ذَلِك.
فَإِن قَالُوا: أفتجوزون أَن يكون شَيْء من ذَلِك وينكتم وَلَا يظْهر.
قُلْنَا: لَا بُد وَأَن يظْهر ذَلِك فِي مُسْتَقر الْعَادة، فَخرج من ذَلِك أَن أهل التَّوَاتُر إِذا لم تقتض أخبارهم عَن الْمُشَاهدَة الْعلم الضَّرُورِيّ فَيقطع أَن فيهم كذبة، وَيقطع أَن ذَلِك اتّفق على تواطىء وَنَحْوه، وَلَا بُد أَن يظْهر ذَلِك إِذا تصور الْحَال فِي هَذِه الصُّورَة، وَقد يتَصَوَّر أَن يخبرنا جمع فِيهِ كذبة لَو تميزوا لقصر عدد الصَّادِقين فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى عَن أقل عدد التَّوَاتُر، وَكَانَ الكذبة بِحَيْثُ قد يتَّفق فِي مُسْتَقر الْعَادة الْكَذِب من مثلهم من غير سَبَب جَامع، وَإِذا

(2/309)


كَانَت الْحَالة كَذَلِك فَلَا نحتاج إِلَى تَصْوِير الْأَسْبَاب وظهورها فَاعْلَم هَذِه الْجُمْلَة وتتبع حقائقها.
[1011] فَإِن قيل: فالشيعة بأسرها ينْقل نَص الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَلَا شكّ أَنهم عدد التَّوَاتُر وَكَذَلِكَ الْيَهُود ينْقل تَوْقِيف مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على تأبيد شَرِيعَته وَلَا يحصل بهَا الْعلم الضَّرُورِيّ.
قُلْنَا: أما الشِّيعَة فَمَا نقلوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفاها وَلَكِن نقلوا مَا [113 / أ] ادعوهُ عَمَّن تقدمهم / وَنحن نضطر إِلَى الْعلم بانهم سمعُوا مَا نقلوه وَلَا نستريب فِي ذَلِك، بيد أَنه لم يتَحَقَّق فِي جملَة النقلَة من الْأَوْصَاف مَا يتَحَقَّق فيهم فِي زمننا، وَهَذَا هُوَ المعني بِمَا قدمْنَاهُ من اشْتِرَاط اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ والواسطة، وَكَذَلِكَ الْيَهُود صَادِقَة فِي سماعهَا الْمقَالة الَّتِي نقلهَا عَن من تقدمها وَلَكِن لم يستو طرف النقلَة وأوساطهم إِلَى مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ، وَقد قَالَ بعض الْعلمَاء: ان أول من لقنهم ذَلِك ابْن الراوندي لَعنه الله بأصبهان، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنهم فِي زمن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أبدوا هَذِه

(2/310)


الْمقَالة مَعَ اشتداد جدالهم وخصامهم، فَدلَّ أَنه قَول مُحدث، وَمثل هَذِه الدَّعْوَى لَو كَانَت فِي زمن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنقلت فِي خصامهم، وَمَا كَانَت مِمَّا تخفى وَتذهب عَنْهَا النقلَة فِي اسْتِقْرَار الْعَادة.
(179) القَوْل فِي الْخَبَر الَّذِي يعلم صدقه بِدَلِيل، والإيماء إِلَى وُجُوه الْأَدِلَّة على الصدْق

[1012] اعْلَم وفقك الله: أَن صدق الْخَبَر يعرف بأوجه، يجمعها قِسْمَانِ: أَحدهمَا: الضَّرُورِيّ وَالثَّانِي: الدَّلِيل، فَأَما الضَّرُورِيّ فقد سبق القَوْل فِيهِ، وَذكرنَا مَا يعرف صدقه اضطرارا، والمقصد من هَذَا الْبَاب تَبْيِين مَا يعرف صدقه اسْتِدْلَالا، وطرق الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار منقسمة.
فَمِنْهَا: دلالات الْعُقُول، فَكل خبر أنبأ عَن تثبيت شَيْء اَوْ نَفْيه وَدَلِيل الْعقل يَقْتَضِي ذَلِك الْمخبر على حسب مَا يَقْتَضِيهِ الْخَبَر وَهُوَ دَلِيل على صدقه. وَمن الْأَدِلَّة على الصدْق: أَن يصدق الرب مخبرا فِي خَبره، أَو يصدق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي ثَبت وجوب صدقه، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّر أَمْثَال ذَلِك فِي زمن النُّبُوَّة.

(2/311)


وَمن الْأَدِلَّة على الصدْق: إِجْمَاع الْأمة فمهما أَجمعت الْأمة على صدق مخبر فِي خَبره علمنَا صدقه وَكَانَ الْإِجْمَاع دَلِيله عَلَيْهِ.
وَمن الْأَدِلَّة على الصدْق: أَن يخبر الْمخبر بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الشَّرْع فيقرره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أخباره وَلَا يُبْدِي عَلَيْهِ نكيرا مَعَ دلَالَة الْحَال على انْتِفَاء السَّهْو وَالنِّسْيَان عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمن الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار: أَن يخبر الْمخبر بَين أظهر جمَاعَة لَا يجوز عَلَيْهِم فِي مُسْتَقر الْعَادة التواطؤ على الْكَذِب من غير أَن يظْهر ذَلِك مِنْهُم، فَإِذا قَالَ الْمخبر لقد شَاهد هَؤُلَاءِ فلَانا يفعل كَذَا، أَو شاهدوه يَقُول كَذَا، فَإِذا صمت الْجَمِيع وسكتوا وَلم يبدوا عَلَيْهِ نكيرا، وَلم يظْهر مِنْهُ سَبَب تواطىء، فنعلم باستمرار الْعَادة أَن سكوتهم وَعدم ظُهُور الْأَسْبَاب الحاملة على الْكَذِب تدل على صدق الْمخبر.
[1013] فَإِن قيل: فَلَو أخبر الْجَمِيع الَّذين وصفتهم عَن أنفسهم فَمَا كَانَ قَوْلكُم فِي أخبارهم؟
قُلْنَا: لَو أخبروا بِأَنْفسِهِم عَمَّا شاهدوه وَكَانُوا عدد التَّوَاتُر وتجمعت فيهم جملَة الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فَيحصل لنا الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم.
فَأَما صمتهم وتقريرهم الْمخبر عَنْهُم فَلَا يَقْتَضِي الْعلم الضَّرُورِيّ بيد أَنا نستدل على الصدْق عِنْد اسْتِمْرَار الْعَادة.
وَاعْلَم أَن ذَلِك مِمَّا لَا يسوغ تَعْلِيله، فَإِن الْعَادَات يجوز تَقْدِير انقلابها [113 / ب] عقلا، فَإِذا استمرت على مَنْهَج مَعْلُوم وَلم يُعلل استمرارها / فَلَو أجْرى الله تَعَالَى الْعَادة بِحُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ عِنْد سكوتهم وتقريرهم الْمخبر يحصل ذَلِك كَمَا يحصل عِنْد أخبارهم بِأَنْفسِهِم.

(2/312)


[1014] فَإِن قيل: فَهَل تَقولُونَ على طرد ذَلِك أَن الْمخبر لَو أخبر عَمَّا يدْرك مُشَاهدَة وحسا وَلَكِن يعلم بطرِيق النّظر، فَإِذا نطق بذلك بَين أظهر جمع كَمَا وصفتموه فَلم يبدر مِنْهُم [نَكِير] فَهَل يسْتَدلّ بسكوتهم على مَا أخبر عَنهُ اعْتِقَادهم حَتَّى ينزل ذَلِك تصريحهم بالحكم؟
قُلْنَا: لَا نقُول ذَلِك، وَالسُّكُوت فِيمَا يدْرك بالاستدلال لَا ينزل منزلَة التَّصْرِيح، وَمَا قدمْنَاهُ فِيهِ إِذا اسند الْمخبر مَا أخبر عَنهُ إِلَى مُشَاهدَة الْجَمَاعَة وإحساسهم فَأَما إِذا كَانَ الْمخبر عَنهُ مدرك النّظر [فَلَا] يكون الْأَمر كَذَلِك وَهَذِه الْمَسْأَلَة تستقصى فِي مسَائِل الْإِجْمَاع إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[1015] فَهَذِهِ الْأَدِلَّة على صدق خبر الْمخبر، وَلَيْسَ من جملَة الْأَدِلَّة أَن تتواتر الْأَخْبَار عَن جمع عدد التَّوَاتُر وَلَا يضْطَر إِلَى صدقهم، فَإِنَّهُ لَا يسوغ الِاسْتِدْلَال على صدقهم لَا يعلم صدقهم ضَرُورَة، وَقد استقصينا القَوْل فِي ذَلِك.
[1016] وَمِمَّا لَا يدل على صدق الْخَبَر أَن ينْقل خبر [فَيعْمل] أهل الْحل وَالْعقد بِمُوجبِه، فَلَا يدل عمله بِمُوجبِه على صدق الْخَبَر. وَهَذَا

(2/313)


يَنْقَسِم قسمَيْنِ، أَحدهمَا أَن يتَّفق عَمَلهم بِمُوجب الْخَبَر وَيجوز أَنهم أطبقوا على الْعَمَل بِدلَالَة أُخْرَى سوى الْخَبَر الْمَنْقُول، أَو يجوز أَن يكون عمِلُوا بالْخبر فَلَا يقطع بِصدق الْخَبَر عِنْد تقَابل هذَيْن الجائزين. \ وَالْقسم الثَّانِي: أَن يعملوا بِمُوجب الْخَبَر وَيعلم بِصَرِيح قَوْلهم أَنهم إِنَّمَا أطبقوا على الْعَمَل بالْخبر فَلَا يقطع أَيْضا فِي هَذِه الصُّورَة بِصدق الْخَبَر، وَذَلِكَ أَنا نقُول إِجْمَاعهم على الْعَمَل لَا يتَضَمَّن بِصدق الْخَبَر فَإِن العاملين بِخَبَر الْآحَاد يعْملُونَ بِهِ وَلَا يقطعون بصدقه فَلَيْسَ فِي عَمَلهم بِهِ مصير إِلَى تَصْدِيق الْخَبَر، وَهَذَا كَمَا أَن الْأمة مجمعة على الحكم بِشَهَادَة الشُّهُود على الْجُمْلَة مَعَ إِجْمَاعهم على اسْتِحَالَة الْقطع بِصدق بعض الشُّهُود فِي الحكومات.
فَإِن قيل: قدمتم فِي صدر الْبَاب أَن إِجْمَاع الْأمة من الْأَدِلَّة على صدق الْخَبَر.
قُلْنَا: ذَلِك لَو أَجمعُوا على صدقه، وَالْإِجْمَاع على الْعَمَل بِهِ لَيْسَ بِإِجْمَاع على صدقه.

(2/314)


(180) فصل

[1017] قد ذكرنَا وُجُوه الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار، وَنحن نشِير آنِفا إِلَى الطّرق الَّتِي يعلم بهَا كذب الْأَخْبَار.
فَاعْلَم أَن الطّرق الَّتِي أومينا إِلَيْهَا فِي الصدْق لَو تصورت على الضِّدّ لدلت على الْكَذِب، فَكَمَا دلّ تَصْدِيق الرب الْمخبر على صدقه فَكَذَلِك تَصْدِيق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتصديق الْأمة فَكَذَلِك تَكْذِيب الله الْمخبر وَتَكْذيب رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِجْمَاع الْأمة على كَونه كذبا يدل على ثُبُوت صفة الْكَذِب، وكما تدل الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة على صدق الْخَبَر فقد تدل على الْكَذِب فَمن أخبر عَن قدم الْعَالم دلّت دلالات حدوثها على كذبه.
[1018] وَمن الدلالات على الْكَذِب: أَن يخبر الْمَرْء عَن مُشَاهدَة فيكذبه فِي خَبره عدد لَا يجوز فِي مُسْتَقر الْعَادة اتِّفَاق كذبهمْ عَن غير تواطىء وَسبب جَامع حَامِل مَحل الْكَذِب، وَلَو كَانَ قد تحقق شَيْء من هَذِه الْأَسْبَاب لظهر، فَإِذا لم يظْهر عرفنَا صدقهم فِي تكذيبهم وَكذب من كذبوه.
[1019] وَمن الْأَدِلَّة على كذب الْمخبر: أَن يعلم / من أخبر عَن أَمر [114 / أ] لَو كَانَ على مَا أخبرهُ لشاع وذاع وتواترت نقلته، وَمَا اسْتَقل بنقله الْآحَاد والأفراد، وَهَذَا بَين فِي اسْتِمْرَار الْعَادة واطرادها، فَإنَّا نعلم أَن من أخبر عَن

(2/315)


قتل [خَليفَة] على مَلأ من النَّاس فَمثل ذَلِك مَا يتواتر نَقله وَكَذَلِكَ لَو تقدرت فتْنَة صد لأَجلهَا الحجيج عَن الْمَنَاسِك فَمثل ذَلِك مَا يشيع فَإِذا نَقله الاحاد وَلم ينْقل تَوَاتر علم كذب النقلَة قطعا.
وبهذه الطَّرِيقَة نرد على من قَالَ: إِن الْقُرْآن قوبل وَلم ينْقل، فَإِنَّهُ لَو صَحَّ ذَلِك مَعَ توفر دواعي العندة الْكَفَرَة على الْقدح فِي الْإِسْلَام لَا نبث وانتشر فِي النَّاس ولتواتر نَقله وإظهاره واللهج بِذكرِهِ ونشره، وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة نرد على من زعم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على إِمَامَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي مَلأ من أَصْحَابه، فَإِن مثل هَذَا الْأَمر الْعَظِيم لَا يغْفل عَن نَقله أهل التَّوَاتُر، فَلَمَّا لم ينْقل يَوْم السَّقِيفَة وَالْأَيْدِي ممتدة إِلَى بيعَة الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَلم يذكر فِي زمن عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا دلّ ذَلِك على أَنه لم يكن، إِذْ لَو يقدر كَونه لأفضى إِلَى انخراق الْعَادة.
[1020] فَإِن قيل: فقد نقل الْآحَاد أَشْيَاء يجب أَن تشتهر وَلم يقطع بكذبهم، مِنْهُ صفة حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قرانه وإفراده، وَقد

(2/316)


كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أظهر أَصْحَابه وَمَا نقل ذَلِك تواترا، وَكَذَلِكَ نقل نِكَاحه مَيْمُونَة آحَاد وَإِن كَانَ ذَلِك على مَلأ، وَنقل انْشِقَاق الْقَمَر

(2/317)


آحادا مَعَ عظم شَأْنه وَوُجُوب شيوعه فِي اسْتِمْرَار الْعَادة الَّتِي ادعيتموها.
وَكَذَلِكَ لم ينْقل النَّصَارَى تكليم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أمه فِي المهد صَبيا، وَإِن كَانَ من الْآيَات الْعَظِيمَة، وَلم ينْقل سَائِر آيَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا نقل الْقُرْآن،، وَكَذَلِكَ اخْتلف النقلَة فِي دُخُوله مَكَّة عنْوَة أَو صلحا مَعَ أَن

(2/318)


ذَلِك يَتَّضِح فِي الْعَادة.
فَيُقَال لَهُم: لَيْسَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرتموه مَا يقْدَح فِي الأَصْل الَّذِي اصلناه، فَإِن قرَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإفراده فَلَيْسَ مِمَّا يظْهر للخاص وَالْعَام فَإِن الْقرَان لَا يتَمَيَّز عَن الْإِفْرَاد إِلَّا فِي حق من أحَاط علما باوفر حَظّ من الْفِقْه ثمَّ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يجب عَلَيْهِ أَن يظْهر مَا يخْتَص بِهِ بل كَانَ يظْهر مَا فِيهِ تَعْلِيم الكافة، وَالْقرَان فِي التَّحْقِيق يؤول إِلَى عِنْد ذِي نِيَّة وَكَانَ مُخْتَصًّا بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلذَلِك لم يظهره إِظْهَارًا ينْقل تواترا.
وَأما نِكَاح مَيْمُونَة فَكَذَلِك فَإِنَّهُ لَيْسَ من الْأُمُور الْعِظَام، وَلم ينْقل أَنه نَكَحَهَا على الْمَلأ، فَلَعَلَّهُ خلا بِبَعْض أَصْحَابه ونكحها على وَجه لَا يشيع.
وَأما انشتقاق الْقَمَر فَلَقَد كَانَ آيَة ليلية، وَمَا كَانَ قد فرط من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مواضعة الْكَفَرَة ومواعدتهم، بل كَانَ تكلم فِي الْمَسْجِد الْحَرَام شرذمة من الْكفَّار فاقترحوا عَلَيْهِ شقّ الْقَمَر وَلم يكن ذَلِك على مَلأ بل كَانَ ومعظم النَّاس نيام وَإِنَّمَا يدْرك مثل ذَلِك من يراقبه، فَكَأَن النَّاس كَانُوا على انقسام واكثرهم نيام، وَمن كَانَ يتَّفق لَهُ رُؤْيَة ذَلِك من غير تقدم بمعاهدة

(2/319)


[814 ب] ومواعدة كَانَ يحمل على تحرّك غيم أَو تخَلّل سَحَابَة شَيْئا من الْقَمَر / أَو كَانَ يخيل إِلَيْهِ أَن ذَلِك اتّفق تخيلا لعَارض عرض فِي بَصَره وَمَا كَانَ ذَلِك أَكثر من فلقَة انفصلت ثمَّ عَادَتْ فِي ألطف زمَان.
وَأما دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة فمما نقل تواترا، وَنقل أَيْضا دُخُوله مَعَ أَصْحَابه معتدين شاكين فِي الأسلحة وَإِنَّمَا اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيمَا يؤول إِلَى قَصده الْحَرْب أَو قصد السّلم وَالصُّلْح وَذَلِكَ مِمَّا لَا يظْهر.
وَأما تكليم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي المهد فَلم يكن أَيْضا على الْمَلأ بل كَانَ بَين أظهر شرذمة قَليلَة. [1021] فَإِن قيل: مَا تَقولُونَ فِيمَن قَالَ: المعوذتين لم تنقلا نقل سَائِر السُّور؟
قُلْنَا: حاشى لله أَن نقُول ذَلِك، فَإِنَّهُمَا تواترا كَمَا نقل سَائِر السُّور، فقد أكد وَتعرض لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآن، فَثَبت بذلك أَن شَيْئا مِمَّا ذَكرُوهُ لم يكن يقْدَح فِيمَا اسْتَثْنَاهُ، وَتبين فِي قَضِيَّة الْعَادة المستمرة أَن كل أَمر ذِي خطر يَبْدُو على مَلأ لَا يسوغ فِي الْعَادة أَن ينْقل آحَاد وَلَو سَاغَ انخراق الْعَادة لساغ فِي جملَة الْعَادَات وقضاياها، إِذْ الْعلم باستمرار الْعَادة من كَمَال الْعقل.

(2/320)


(181) فصل

[1022] قد ذكرنَا فِيمَا قدمنَا طرق الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار وَهِي الَّتِي لَا تدل على صدقه وَلَا على كذبه دَلِيل فَمَا كَانَ هَكَذَا لم يقطع بصدقه وَلَا بكذبه.
[1023] فَإِن قيل: فمثلوا لنا هَذَا النَّوْع.
قُلْنَا: إِنَّمَا يتَصَوَّر ذَلِك فِي الْأَخْبَار عَن الجائزات فَإِن الْمخبر عَنهُ لَو كَانَ مستحيلا عرف قطعا كذب الْمخبر، وَلَو كَانَ وَاجِبا عرف صدق الْمخبر، فَإِذا كَانَ جَائِزا يقدر وُقُوعه وَيقدر فَقده وَلم تدل دلَالَة من الطّرق الي ذَكرنَاهَا على الصدْق، وَلم تدل أَيْضا دلَالَة من السبل الَّتِي أومينا على الْكَذِب، والمخبر عَنهُ جَائِز فِي نَفسه، وَلَيْسَ النقلَة أهل التَّوَاتُر، فَإِذا اجْتمعت هَذِه الأصاف لم يمكنا أَن نقطع بِالصّدقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، وَجُمْلَة أَخْبَار الْآحَاد فِي أَحْكَام الشَّرَائِع يحل هَذَا الْمحل.
[1024] فَإِن قَالَ قَائِل: مَا أنكرتم على من يَقُول لكم أَن الْخَبَر الَّذِي وصفتموه كذب قطعا.

(2/321)


قُلْنَا: أتعرفون كذبه ضَرُورَة أَو دلَالَة فَإِن ادعيتم معرفَة كذبه ضَرُورَة كُنْتُم مباهتين، على أَنكُمْ تقابلون بِمثل دعواكم على ضدها، وَإِن زعمتم أَنا عرفنَا ذَلِك بِدَلِيل فَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟
فَإِن قَالُوا: الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَو كَانَ صدقا لنصب الرب على صدقه دَلِيلا لاتصافه بالاقتدار عَلَيْهِ، فَلَمَّا لم ينصب عَلَيْهِ دَلِيلا قَطعنَا بصدقه، فَإِذا تقَابل الْقَوْلَانِ تساقطا، وَلزِمَ الْمصير إِلَى الْوَقْف، وَترك قطع القَوْل بِأَحَدِهِمَا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك إِجْمَاع الْأمة على الحكم بِشَهَادَة الشُّهُود مَعَ اتِّفَاقهم على اسْتِحَالَة الْقطع بكذبهم، فَإِن من يقطع بكذبهم يَسْتَحِيل إبرام الحكم بِشَهَادَتِهِم فِي مُوجب الشَّرْع، وَمَعَ ذَلِك فَلَا سَبِيل إِلَى الْقطع بِصدق الشُّهُود مَعَ أَنهم لَا يعتصمون.
[1025] فَإِن قيل: ألستم وافقتمونا على أَن من ادّعى النُّبُوَّة وَلم تدل على صدقه دلَالَة قَاطِعَة فتقطع بكذبه، فَمَا أنكرتم مثل ذَلِك فِي كل مخبر عَن الرَّسُول؟
قُلْنَا: قبل أَن نجيب عَمَّا ذكرتموه يلزمكم على قوده جحد الضَّرُورَة فَإنَّا [115 / أ] نعلم / أَن من قطع بِأَن جملَة المخبرين آحَاد عَن الشَّرَائِع وَالديَّان والمعاملات الدائرة كاذبون فقد جحد الضَّرُورَة، فَإنَّا نعلم بضرورة الْعقل أَن فيهم صَادِقين، وَإِن كُنَّا نعلم أَنه لَيْسَ مَعَ كل وَاحِد من المخبرين دلَالَة قَاطِعَة

(2/322)


على صدقه، وطرد مَا ذَكرُوهُ يُوجب عَلَيْهِم تَكْذِيب الشُّهُود لعروهم عَن الدلالات الدَّالَّة على الصدْق.
ثمَّ نقُول لَهُم: إِنَّمَا قُلْنَا: فِي المتنبىء مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّهُ ثَبت بالأدلة القاطعة أَنا مكلفون بِمَعْرِِفَة نبوة كل نَبِي يظْهر، مخاطبون بِالْقطعِ على عصمته وطهارته وتنزهه فِي سَرِيرَته وَحسن سيرته فِي نوبَته.
ثمَّ عرفنَا أَن الْقطع لَا سَبِيل إِلَيْهِ إِلَّا بِدلَالَة تُفْضِي إِلَيْهِ فَمن ادّعى النُّبُوَّة بِلَا دَلِيل وَمن حكمهَا أَن يعلم فَيعلم قطعا كذبه، فانفصل مَا اسْتشْهدُوا بِهِ عَمَّا نَحن فِيهِ.
[1026] فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن من لَا سَبِيل إِلَى الْقطع بصدقه لَا تقوم الْحجَّة بنقله وَإِذا لم تقم الْحجَّة بنقله اسْتَحَالَ تَعْلِيق الْعَمَل بِهِ.
قُلْنَا: هَذَا خلط بَاب بِبَاب، فَإِن مقصدنا من هَذَا الْفَصْل أَن نبين امْتنَاع الْقطع بِالصّدقِ أَو الْكَذِب فِي النَّوْع الَّذِي وصفناه من الْأَخْبَار فَأَما مُوجب الْعَمَل بهَا، وَصِحَّة وُرُود التَّعَبُّد بِوُجُوب الْعَمَل، فمما نستقصيه بعد ذَلِك فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَسَلمُوا لنا ترك الْقطع بِالْكَذِبِ، ثمَّ كلمونا بعد ذَلِك فِي الْعَمَل كَيفَ يجب، وَلَا تنكر إِلَّا وَيجب الْعَمَل بِإِخْبَار مخبر مَعَ امْتنَاع الْقطع بكذبه.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الشَّاهِد الْوَاحِد لَا يقطع بكذبه إِذْ لَو قطع بكذبه لردت شَهَادَته وَإِن شهد بعده غَيره، ثمَّ مَعَ أَنا لَا نقطع بكذبه لَا نحكم

(2/323)


بِشَهَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي العبيد الثِّقَات وَغَيرهم من الَّذين لَا تثبت شَهَادَتهم، فَدلَّ أَن الْعَمَل بالأخبار بمعزل عَن الْقطع بالتصديق أَو التَّكْذِيب كَيفَ وَقد يقطع بِصدق الْخَبَر وَلَا يعْمل بِهِ.
فَإِن الْخَبَر الَّذِي نقل عَن صَاحب الشَّرِيعَة تواترا مَقْطُوعًا بِهِ مستيقن الصدْق، فَإِذا ثَبت بِدلَالَة قَاطِعَة نسخ حكمه فَلَا يقلب النّسخ الْخَبَر عَن سمة الصدْق.
فقد تبين أَن الحكم بالتصديق والتكذيب مِمَّا لَا تعلق لَهُ بِوُجُوب الْعَمَل وَنفي وُجُوبه.

(2/324)


(182) بَاب
فِي الْخَبَر الْوَاحِد وَمَعْنَاهُ وَصِحَّة التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِهِ، وَذكر اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ

[1027] اعْلَم، وفقك الله، أَن أول مَا نصدر الْبَاب بِهِ معنى خبر الْوَاحِد، فَاعْلَم أَن أَرْبَاب الْأُصُول لَا يعنون بإطلاقهم خبر الْوَاحِد الْخَبَر الَّذِي يَنْقُلهُ الْوَاحِد أَو خبر الْآحَاد فِي الِاصْطِلَاح، وَلَكِن كل خبر عَن خابر مُمكن لَا سَبِيل إِلَى الْقطع بصدقه، وَلَا سَبِيل بكذبه، لَا اضطرارا وَلَا اسْتِدْلَالا، فَهُوَ خبر الْوَاحِد، أَو خبر الْآحَاد فِي اصْطِلَاح أَرْبَاب الْأُصُول،

(2/325)


سَوَاء نَقله وَاحِد أَو جمع منحصرون.
وَقد يخبر الْوَاحِد فَيعلم صدقه كالنبي يخبرنا عَن الغائبات فنعلم صدقه قطعا، وَلَا يعد ذَلِك من أَخْبَار الْآحَاد، فَتبين لَك مَقْصُود الْقَوْم فِي [115 / ب] الِاصْطِلَاح، والمعاني هِيَ / المتبعة دون الْعبارَات.
[1028] فَإِذا أحطت علما بذلك فَاعْلَم بعده أَن من النَّاس من زعم أَن الْخَبَر الَّذِي يَنْقُلهُ الثِّقَات عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوجب الْعلم ثمَّ فصلوا القَوْل فِيهِ فَقَالُوا يُوجب الْعلم الظَّاهِر دون الْعلم الْبَاطِن.
وَذهب مُعظم الروافض وَمن تَبِعَهُمْ من أهل الْمذَاهب إِلَى أَن خبر الْوَاحِد لَا يَقْتَضِي الْعلم وَلَا يُوجب الْعَمَل، ثمَّ افْتَرَقُوا فرقتان فَزعم جُمْهُور

(2/326)


الْقَدَرِيَّة وَمن تَابعهمْ من أهل الظَّاهِر كالقاساني وَغَيره أَن التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد محَال عقلا وَزعم بَعضهم أَن وُرُود التَّعَبُّد فِي ذَلِك من جائزات الْعُقُول وَلَكِن لم ترد دلَالَة سمعية صَحِيحَة فِي التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بأخبار الْآحَاد وَزعم الجبائي من الْقَدَرِيَّة أَن التَّعَبُّد لَا يَقع إِلَّا إِذا أخبر اثْنَان عَدْلَانِ ضابطان. وَصَارَ الدهماء من الْعلمَاء وجماهير الْفُقَهَاء إِلَى جَوَاز التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْوَاحِد، ثمَّ قَالُوا قد دلّت الْأَدِلَّة على التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بهَا وافترقوا فِي الْأَدِلَّة، فَزعم بعض من غلا فِي ذَلِك أَن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة لَا تدل على

(2/327)


وجوب، وَإِنَّمَا الْوُجُوب يتلَقَّى من الْأَدِلَّة السمعية فنعلم عِنْدهَا جَوَاز التَّعَبُّد ويتوصل إِلَى وُجُوبه بدلالات السّمع، ثمَّ الْقَائِلُونَ بِخَبَر الْوَاحِد صَارُوا إِلَى أَن الثِّقَة الْوَاحِد يقبل خَبره وَيعْمل بِهِ وَلَا يشْتَرط عدد مَحْصُور فِي الروَاة وَهَذَا مَذْهَب ابْن الجبائي وَأَتْبَاعه.
[1029] فَهَذِهِ جمل الْمذَاهب وَهَا نَحن نرد على الْبَاطِل مِنْهَا، ونختار الصَّحِيح، فَالصَّحِيح جَوَاز التَّعَبُّد عقلا وَثُبُوت وُجُوبه بالأدلة السمعية الَّتِي سنذكرها، ثمَّ لَا نصير إِلَى أَن خبر الْوَاحِد مِمَّا يعلم بِهِ صدقه، فَهَذَا مِمَّا ننصره ونذب عَنهُ، ونرد على كل مَذْهَب سواهُ.
[1030] فَأَما وَجه الرَّد على من زعم أَن خبر الْوَاحِد يعلم صدقه ظَاهرا فَيُقَال لَهُ: أَنْت لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تَقول أَن من أخبرنَا نقطع بصدقه وَلَا يجوز أَن يغلط وَلَا يزل، أَو يسوغ أَن يتَعَمَّد الْكَذِب، أَو لَا يجوز أَن يكون مَاجِنًا فَاسِقًا بَاطِنا، وزيه زِيّ الْعدْل، فَإِن لم تقرروا هَذِه الْأَوْجه فقد صرفتم عَن الْمَعْقُول، فَإنَّا نعلم قطعا أَن تَجْوِيز مَا ذَكرْنَاهُ لَيْسَ من المستحيلات، فَإِذا لم يكن مستحيلا لم يبْق إِلَّا أَن يكون جَائِزا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَين الاستحالة وَالْجَوَاز رُتْبَة، وأنى يسوغ الْمصير إِلَى اسْتِحَالَة تَجْوِيز الْكَذِب مَعَ أَنا نعلم ظُهُور كثير من ذَلِك فِي الْعَادَات فكم من شخص ظن عَن أَعلَى رُتْبَة الْعَدَالَة وَصدق

(2/328)


القَوْل ثمَّ تبين [خبث] دَخلته وَفَسَاد سَرِيرَته، فَمَا من أحد يخبر مِمَّن لَا تجب عصمته إِلَّا وَهَذَا وَصفه فِي الْجَوَاز.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك اتِّفَاق الكافة على أَنا لَا نعلم صدق الشُّهُود فِيمَا يشْهدُونَ فِيهِ مَعَ ظَاهر عدالتهم، فَالْخَبَر يحل هَذَا الْمحل.
فَإِذا ثَبت تَجْوِيز الْكَذِب فَكيف يتَحَقَّق مَعَه الْعلم بِالصّدقِ.
[1031] فَإِن قيل: فَالَّذِي أطلقتموه وَهُوَ الْعلم الْبَاطِن، وَالَّذِي أطلقناه هُوَ الْعلم الظَّاهِر.
قُلْنَا: هَذَا الْكَلَام خلو عَن التَّحْقِيق فَإِن الْعلم مهما تحقق اسْتَحَالَ أَن يُجَامع الريب سَوَاء كَانَ علما بِظَاهِر أَو بَاطِن، فَإِن الْعلم يتَعَلَّق بالشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ، وَلَا يَسْتَقِيم إِطْلَاق الْعلم مَعَ جَوَاز ضِدّه، اللَّهُمَّ، وَأَن يعنوا بِالْعلمِ الظَّاهِر سماعهم الْخَبَر، فَسلم لَهُم / ذَلِك فَإِنَّهُ يعلم ضَرُورَة، فَأَما الصدْق فَلَا [116 / أ] سَبِيل إِلَى علمه، وَإِن حملُوا الْعلم بِالظَّاهِرِ على غَلَبَة الظَّن فيرتفع الْخلاف فِي الْمَعْنى، فيؤول الْكَلَام إِلَى المناقشة فِي الْعبارَة.
[1032] فَإِن قَالُوا يسوغ إِطْلَاق الْعلم فِي مثل هَذِه الْمنزلَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} ، مَعَ أَن نعلم أَنا لَا نتوصل إِلَى الْقطع بالسرائر وَمَا تكنه الْقَرَائِن من الضمائر.
قُلْنَا: الْآن بَعْدَمَا ارْتَفع الْخلاف فِي الْمَعْنى فَلَا نحجزكم من التَّجَوُّز بالعبارات وَالْعرب قد تسْتَعْمل الظَّن م مَوضِع الْعلم، وَقد تضع الْعلم مَوضِع

(2/329)


الظَّن والحسبان، وَفِي الْمجَاز متسع، على أَنا نقُول: الْمَعْنى بقوله تَعَالَى: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} . أَي فَإِن علمتموهن متلفظات بِالْإِيمَان فَهَذَا مِمَّا نعلم قطعا وَيبقى بعد ذَلِك الْكَلَام فِي تَجْوِيز القَوْل إِيمَانًا وَهُوَ خَارج عَن مسئلتنا، فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ، مَعَ أَن كل مَا يذكرُونَهُ يبطل عَلَيْهِم بِشَهَادَة الشُّهُود إِذْ لَا خلاف فِيهَا.
[1033] وَأما وَجه الردعلى من أنكر جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْوَاحِد فَهُوَ أَن نقُول: الْجَوَاز والاستحالة معلومان بقضية الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، فَكل مَا انحسمت فِيهِ طرق الاستحالة وَجب الْقطع بِجَوَازِهِ، والتعبد بِخَبَر الْوَاحِد مِمَّا لَا يَسْتَحِيل عقلا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَو أسمعنا عَزِيز كَلَامه، أَو أخبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ وَقَالَ: اعلموا أَن ربكُم يَقُول لكم. مهما نقل موثوق بِهِ ظَاهرا مَعَ انطواء الْبَاطِن عَنْكُم خَبرا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاعملوا بِمُوجبِه، وَإِن جوزتم كذبه وَغلب على ظنكم صدقه، فاعلموا أَن أَخْبَار من هَذَا وَصفه وغلبه ظنونكم آتٍ فِي إِثْبَات وجوب الْعَمَل عَلَيْكُم، فَمثل هَذَا لَو قدر لم يكن مستحيلا، وَلم يكن كَمَا لَو قدر مُقَدّر تَكْلِيف الْمحَال وَجمع المتضادات إِلَى غير ذَلِك من ضروب المستحيلات.
وَالَّذِي يعضد الْأَدِلَّة بِهِ اتِّفَاق الكافة على ثُبُوت التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بقضية شَهَادَة الشُّهُود فِي الحكومات والخصومات مَعَ الاسترابة فِي الصدْق وَالْكذب، وَكَذَلِكَ أَجمعُوا على صِحَة الْمصير إِلَى قَول الْمُفْتِي فِي الْحَوَادِث مَعَ تقَابل الجائزات فِي حَقه، فَكَذَلِك من أخبر عَن نَفسه بِإِيمَان أَو كفر فقد ثَبت التَّعَبُّد بالجري على مُوجب قَوْله مَعَ جَوَاز كذبه، فَتبين التحاق ذَلِك بالجائزات.

(2/330)


[1034] وللمخالفين فُصُول يتمسكون بهَا بَين الشَّهَادَات وَالْأَخْبَار، وَنحن نومىء إِلَى معظمها ونبين فَسَادهَا.
فَإِن قَالُوا: لَا يسوغ الاستشهاد بالشهادات وَذَلِكَ أَن التَّعَبُّد بهَا ثَابت بالأدلة، وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَخْبَار.
قُلْنَا: لاتضربوا بِإِثْبَات وَلَا تتخبطوا، فان الْمَقْصد من ذَلِك ثبيت الْجَوَاز الْعقلِيّ، فَهَلا جوزتم أَن يثبت على الْأَخْبَار وَالْقَصْد بهَا من الْأَدِلَّة السمعية مَا ثَبت على الشَّهَادَات، وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ، فتدبره، ثمَّ نقُول قد ثَبت أَخْبَار الْآحَاد بالأدلة السمعية القاطعة للمقادير على مَا سنذكرها بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَلَا فصل.
] 1035] فَإِن قَالُوا: الْفرق بَين الشَّهَادَة وَالْأَخْبَار أَن الشَّهَادَة نازلة منزلَة إِقْرَار الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَلَو أقرّ حكم عَلَيْهِ بِهِ مَعَ ترداد إِقْرَاره م بَين الصدْق وَالْكذب فَنزلت الشَّهَادَة منزلَة الْإِقْرَار فَينزل الْخَبَر منزلَة إِخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإخبار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم صدقه قطعا، [116 / 5] فَكل خبر علم صدقه أقيم مقَام أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا ينجيكم عَمَّا أُرِيد بكم فَإِن مقصدنا تثبيت جَوَاز التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِمَا لم يعلم صدقه، وَمَا ذكرتموه من نزُول الشَّهَادَة منزلَة الْإِقْرَار لَا يغنيكم، فَإِن الْإِقْرَار الَّذِي إِلَيْهِ مستروحكم أقوى الْحجَج عَلَيْكُم، فَإِنَّهُ يحكم بِهِ مَعَ تردد، فَإِذا انْقَلب مَا قدروه انفصالا اسْتِدْلَالا عَلَيْهِم فقد بَطل مَا راموه، على أَن نقُول قد ثبتَتْ الشَّهَادَة فِي مَوضِع لَا يَصح فِيهِ الْإِقْرَار، وَهُوَ الشَّهَادَات على الْأَطْفَال والمجانين وَالْعَبِيد فِي بعض أحكامهم، فاضمحل مَا قَالُوهُ على أَنا نقُول ذكر الشَّهَادَة لَيْسَ من أَرْكَان الدّلَالَة الَّتِي عولنا عَلَيْهَا فَإِن

(2/331)


الدّلَالَة مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا دون ذكر الشواهد وَلَو قدرناكم مِمَّا يعين فِي الشَّهَادَات لاطرحت الدّلَالَة عَلَيْكُم فِي الْأَخْبَار والشهادات مَعًا، فَإنَّا بَينا أَن تَقْدِير وُرُود التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ لَيْسَ من المستحيلات الَّتِي لَا يتَصَوَّر التَّوَصُّل إِلَيْهَا.
وَقد ذكرنَا فِيمَا قدمنَا أَن كل مَا يَصح اكتسابه صَحَّ وُرُود التَّكْلِيف بِهِ، وَلَو تتبعنا الْأُصُول الْفَاسِدَة للمعتزلة فِي بِنَاء التَّكْلِيف على مصَالح الْخلق وَطلب اللطف لم يبعد اسْتِمْرَار الدّلَالَة على هَذَا الأَصْل، وَأَنا نقُول: يجوز أَن يعلم الرب تَعَالَى أَنه لَو تعبد عبيده بِالْعَمَلِ بأخبار الْآحَاد لأطاعوا وتحسسوا عَن صِفَات الْعَدَالَة، واستوجبوا بالبحث عَنْهَا الْأجر الجزيل، وَلَو نصب الْأَدِلَّة القاطعة لعلم أَن ذَلِك كَانَ يُؤَدِّي إِلَى الْمفْسدَة، فَلم يسْتَحل مَا قُلْنَاهُ على وَاحِد من الْأُصُولِيِّينَ.
[1936] فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ، فَلم يبْق لَهُم معتصم سوى أَن يَقُولُوا فجوزوا وُرُود التَّكْلِيف بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْفَاسِق، قُلْنَا: وَهَذَا مَا نقُول بِهِ، وَلَا نتحاشى مِنْهُ، وَهُوَ من مجوزات الْعُقُول وَلَكِن وَردت الْأَدِلَّة السمعية بِمَنْع ذَلِك.
[1037] وَأما وَجه الرَّد على من زعم أَن خبر الْوَاحِد يجب التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِهِ عقلا وسمعا فَوَاضِح الْبطلَان، فَإنَّا قدمنَا فِي صدر

(2/332)


الْكتاب، وسنشبع فِي إثْبَاته القَوْل باستحالة أَوْصَاف الْوُجُوب إِلَى مدارك الْعُقُول، وَحصر دَرك الْأَحْكَام فِي السمعيات، وَلَيْسَ للْقَوْم عصمَة يعتصمون بهَا مِمَّا يُسَاوِي الْحِكَايَة، فَرَأَيْنَا الإضراب عَن شبههم.
[1038] وَأما وَجه الرَّد على من زعم أَن التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بالْخبر الْوَاحِد من الجائزات عقلا وَلَكِن لم تدل دلَالَة سمعية على ثُبُوت التَّعَبُّد إِذْ دلّت الْأَدِلَّة السمعية على منع التَّعَبُّد فوضح على هَؤُلَاءِ أَن الدّلَالَة السمعية القاطعة فِي التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ، ثمَّ ننعطف على شبههم ونتفصى عَنْهَا بعون الله تَعَالَى.
فَمن أوضح الْأَدِلَّة إِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعي التَّابِعين إِلَى أَن تبع المخالفون، وَوجه الْإِيضَاح فِي ادِّعَاء الْإِجْمَاع أَن نقُول: رَأَيْت الصَّحَابَة فِي الصَّدْر الأول تلم بهم الْحَوَادِث ومشكلات الْأَحْكَام فِي الْحَلَال وَالْحرَام فَكَانُوا يَلْتَمِسُونَ فِيهَا أَخْبَارًا عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم / وَإِذا روى لَهُم تسرعوا إِلَى [117 / 1] الْعَمَل بِهِ، فَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، وَلَا سَبِيل أَيْضا إِلَى حصر الْأَمر فِيهِ، فَإِنَّهُ لَو انحصرت الْأَخْبَار الَّتِي استروحوا إِلَيْهَا مستفيضة لقارنت الْآحَاد ووهاها ادِّعَاء الْإِجْمَاع، على أَنا نومئ إِلَى قصَص مستفيضة، مِنْهَا: أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أشكل عَلَيْهِ خبر الْجَنِين فاستفتى فِيهِ الْأَصْحَاب مستشيرا لَهُم مسترشدا حَتَّى روى حمل بن مَالك بن النَّابِغَة

(2/333)


حَدِيث الْجَنِين فِي قصَّة تطول، وَرجع الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيث الْجدّة وَرجع عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي السُّكْنَى إِلَى حَدِيث فريعة بنت مَالك وَرجع عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى جمل من الْأَحَادِيث بيد

(2/334)


أَنه رُبمَا كَانَ يحْتَاط فَيحلف الرَّاوِي إِن استراب فِي رِوَايَته ثمَّ كَانَ يعْمل بِخَبَرِهِ.
وَمن ذَلِك أَن زيد بن ثَابت كَانَ يروي أَن الْحَائِض الناسكة لاتصدر

(2/335)


عَن مَكَّة حَتَّى تطهر وتودع الْبَيْت فروت لَهُ أنصارية أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص لَهَا فِي الصَّدْر دون وداع وَمن ذَلِك مَا روى أَن مُعَاوِيَة بَاعَ آنِية من فضَّة بِأَكْثَرَ من وَزنهَا فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء قد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ مُعَاوِيَة لَا أرى بذلك بَأْسا فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء من يعذرني من مُعَاوِيَة أخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويخبرني عَن رَأْيه وَالله لَا أساكنه بِأَرْض أبدا.

(2/336)


وَمن الْقَصَص الْمَشْهُورَة مَا لَا تحصى كَثْرَة من مراجعاتهم زَوْجَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأُمُور الْبَاطِنَة من الْغسْل، وَنَحْوه، وجاحد رُجُوع الصَّحَابَة إِلَى الْأَخْبَار فِي المشكلات يقرب من جحد التَّوَاتُر.
وَكَذَلِكَ التابعون كَانُوا من أحرص النَّاس على جمع أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْعَمَل بهَا، وَكَانُوا يوبخون الْجَامِع الَّذِي لَا يعْمل بِمَا جمع.
[1039] فان قَالُوا لَا سَبِيل إِلَى جحد عَمَلهم على وفْق وَمُوجب الْأَخْبَار فَمن أَيْن لكم أَنهم عمِلُوا بهَا وَمَا أنكرتم على من يَقُول لكم أَنهم عمِلُوا بأدلة غير الْأَخْبَار فَوَافَقت أَعْمَالهم مُوجبَات الْأَخْبَار.
قُلْنَا: هَذَا أَخذ مِنْكُم بيد، وَإِعْطَاء بيد أُخْرَى، فَكَمَا عرفنَا علمهمْ مَا

(2/337)


نفيتموه فَكَذَلِك عرفنَا تسرعهم إِلَى الْعَمَل بالأخبار والجري على مُوجبهَا وَترك الآراء بهَا وَالْخُرُوج عَن حيّز اللّبْس إِلَى حيّز التجلي، كَانُوا يطْلبُونَ الْأَخْبَار يتوقفون فِي الْحَوَادِث على رِوَايَتهَا حَتَّى إِذا رويت لَهَا ركنوا إِلَيْهَا وَعمِلُوا بهَا فِيمَا عرفنَا مُوَافقَة أَعْمَالهم فِي الْحَوَادِث لأخبار الْآحَاد استفاضة، فَكَذَلِك عرفنَا بطرِيق الاستفاضة تسرعهم إِلَى الْعَمَل بمقضى الْأَخْبَار، وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ.
وَالَّذِي يعضد الدّلَالَة أَن نقُول كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعرف فِي زَمَانه بالأخبار المستفيضة وَاعْلَم بمواقعها فَإِنَّهُم كَانُوا أهل الْعَصْر وَقد شهدُوا وَغَابَ غَيرهم، وَلَو كَانُوا مَا يعْملُونَ بِهِ من الْأَخْبَار مستفيضة لما تحقق فِي مجاري الْعَادة التصلب لَهَا والبحث عَنْهَا والمناشدة فِيهَا والتربص فِي تَنْفِيذ الْأَحْكَام حَتَّى يروي لَهُم الْوَاحِد خَبرا فيعملون بِهِ.
[1040] فان قَالُوا لَئِن ثَبت عَنْهُم ردهَا، فَأول من ردهَا [117 / 5] رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم / فَإِنَّهُ لما سلم من اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أقصرت الصَّلَاة أم نسبت فَلم يعول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله، وَسَأَلَ أَبَا بكر

(2/338)


وَعمر، وَصَحَّ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ رد خبر الْمُغيرَة بن شُعْبَة فِيمَا رَوَاهُ من مِيرَاث الْجدّة ورد عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ خبر عُثْمَان فِيمَا رَوَاهُ من اسْتِئْذَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رد الحكم بن أبي العَاصِي

(2/339)


وَكَذَلِكَ رد على خبر ابْن أبي سِنَان الْأَشْجَعِيّ فِي قصَّة بروع بنت واشق ورد عمر حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس ورد أَيْضا

(2/340)


أبي مُوسَى لما انْصَرف عَن بَابه ثمَّ رد عَلَيْهِ فَقَالَ معتذرا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الاسْتِئْذَان ثَلَاث فَإِن أذن لكم وَإِلَّا فانصرفوا قَالُوا فقد صَحَّ مِنْهُم رد الْأَحَادِيث.
[1041] فَنَقُول لَيْسَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرتموه معتصم فَأَما قصَّة ذِي الْيَدَيْنِ فدليل عَلَيْكُم فَإِنَّهُ قبل فِيهَا خبر أَبَا بكر عمر وَأَنْتُم إِذا أنكرتم ثمَّ خبر الْآحَاد تنكرون خبر الثَّلَاثَة كَمَا تنكرون خبر الْوَاحِد، أما حَدِيث الْأَشْجَعِيّ فَإِنَّمَا رده عَليّ رَضِي الله عَنهُ لِأَنَّهُ لم يكن

(2/341)


عدلا موثوقا بِهِ على شَرَائِط الروَاة، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي تهجينه مَا كنت لأقبل قَول أَعْرَابِي بوال على عَقِبَيْهِ، وأقصى مَا روى عَنهُ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا اتهمَ بعض الروَاة حلفه على رِوَايَته وَلَيْسَ هَذَا رد مِنْهُ لأخبار الثِّقَات.
وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان فَإِنَّهُ من قبيل مَا سبق فَإِن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مَا رد خَبره بل طلب من شهد لَهُ، وَأما حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فقد اتهمها عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ولعمرنا كَانَت هِيَ متهمة فَإِنَّهَا نقلت خَبرا يَقْتَضِي نفس السُّكْنَى وَلم تنقل سَببه وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك إخْرَاجهَا من مسكن النِّكَاح بذاءة لسانها واستطالتها على أحمائها فنقلت

(2/342)


إخْرَاجهَا من مسكن النِّكَاح وَلم تتعرض لنقل الْمُقْتَضى لذَلِك فَتبين بطلَان مَا قَالُوهُ من كل وَجه، على أَن مَا استروحوا من طرق الرَّد لَا تبلغ أَنْت تكون استفاضة وَلكنهَا آحَاد، وَمَا استروحنا إِلَيْهِ ثَبت استفاضة.
[1042] وَمن اوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ فِي الْمَسْأَلَة مَا ظهر عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بعثة الرَّسُول والحكام والولاة والسعاة فِي الأقطار جماعات ووحدانا، كتأميره أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَوْسِم وتوليته عمر رَضِي الله عَنهُ على الصَّدقَات وَبَعثه معَاذًا إِلَى الْيمن، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى وَلَا يحصر.

(2/343)


وَكَذَلِكَ سعاته، وخارصوه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَأبي عُبَيْدَة وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعَمْرو بن حزم، وَقيس بن عَاصِم، وَمَالك بن نُوَيْرَة، وَغَيرهم، فَهَذَا من أوضح الْأَدِلَّة

(2/344)


على أَنه كلف الْمَبْعُوث إِلَيْهِم الْعَمَل بالْخبر الْوَاحِد وتلقيه بِالْقبُولِ وَهَذَا مَا لَا منجا عَنهُ للخصم.
[1043] فان قَالُوا: إِن كَانَ يَبْعَثهُم فِي أُمُور سبق من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إعلامهم إِيَّاهَا واتفاقهم عَلَيْهَا فَمَا كَانُوا / ينقلون الْأَحْكَام من الْأَخْبَار. [118 / 1]
قُلْنَا: الْآن قد أبديتم صفحة العناد فَإنَّا نعلم قطعا أَن رسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا يخبرون عَن أَحْكَام لَا تتتلقى إلامنهم، وأنى يسوغ مِنْهُم أَن يدعوا أَن سكان إقليم الْيمن جبالها وسهلها كَانُوا قد سبقوا إِلَى معرفَة كل مَا أخْبرهُم معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ، وَكَذَلِكَ وَجه التَّقْرِير عَلَيْهِم فِي الرُّسُل حَتَّى يصل الرُّسُل يخبرون عَمَّا حملُوا، وَهَذَا مَالا سَبِيل إِلَى جَحده.
[1044] وَقد اسْتدلَّ أَصْحَابنَا بفصلين، أَحدهمَا: قبُول الشَّهَادَات وَالْحكم بهَا مَعَ الاسترابة فِيمَا تشهد بِهِ الشُّهُود، وَقد قدمنَا فِي ذَلِك كلَاما مغنيا.
والفصل الثَّانِي: الْمصير إِلَى قَول الْمُفْتِي فِي المجتهدات فَإِن هَذَا مجمع عَلَيْهِ لم يُنكره السّلف وَالْخلف مَعَ علمنَا بَان الَّذِي يُفْتِي بصدد الزلل.

(2/345)


وَلست أخْتَار لَك التَّمَسُّك بِهَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ ابْتِدَاء، فَإنَّك تكون فِي ذَلِك طاردا وَلَا تستمر دلالتك على سير الْأُصُولِيِّينَ، وقصاراه أَن يَقُول لَك الْخصم: قد ثَبت الشَّهَادَة وَالْفَتْوَى بِدلَالَة قَاطِعَة لم يثبت الْخَبَر بِمِثْلِهَا، [فتلجئك] الضَّرُورَة إِلَى ذكر الْأَدِلَّة على وجوب الْعَمَل بأخبار الْآحَاد فاكتف بِمَا سبق، وَأعد هذَيْن الْفَصْلَيْنِ لنقض شبه الْمُخَالفين.
[1045] فَإِن تمسك من أنكر الْعَمَل باخبار الْآحَاد بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} . الْآيَة. [فقد] قدمنَا وَجه الْكَلَام على هَذِه الْآيَة فِيمَا سبق وَإِن استروحوا إِلَى رد الصَّحَابَة أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي نقلهَا الْآحَاد فقد قدمنَا فِيهِ كلَاما شافيا، وَإِن انعطفوا على شُبْهَة من منع التَّمَسُّك بأخبار الْآحَاد عقلا، فقد أوضحنا وَجه الرَّد عَلَيْهِم وتقصينا كل شُبْهَة لَهُم، على أَن كل مَا يتمسكون يبطل عَلَيْهِم بالشهادات وَالْفَتْوَى.
[1046] فَإِن اسْتدلَّ من شَرط الْعدَد فِي الرِّوَايَة بِبَعْض مَا قدمْنَاهُ من الْقَصَص فِي اشْتِرَاط الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم رِوَايَتَيْنِ فِي جمل من الْأَحْكَام، فَأول مَا نفاتح بِهِ هَؤُلَاءِ أَن نقُول لَئِن سَاغَ لكم التَّمَسُّك بِمَا أشرتم إِلَيْهِ فَمَا

(2/346)


قَوْلكُم فِيمَا استفاض فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد كَمَا قبلوا خبر الصّديق فِي أَحْكَام، وقبلوا حَدِيث عَائِشَة فِي جمل من أَحْكَام الشَّرَائِع وَرجع عمر رَضِي الله عَنهُ إِلَى مَا روى عَليّ فِي قصَص لَا تحصى وَلَا تحصر، وَرَجَعُوا إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، وعول أهل الْعَصْر على رِوَايَة رَافع بن خديج فِي النَّهْي عَن المخابرة وَهَذَا مِمَّا يطول تتبعه وَكَذَلِكَ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرادا من رسله كمعاذ وَعمر وَغَيرهمَا وَبعث عليا وَحده إِلَى مَكَّة ليبين لَهُم بَرَاءَة الله من الْمُشْركين، فِي غير ذَلِك. وَأما الْقَصَص الَّتِي استروحوا إِلَيْهَا فَفِي كل وَاحِد مِنْهَا عذر بَين.
وَأما حَدِيث الْمُغيرَة فِي مِيرَاث الْجدّة فانما توقف الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَن الْمُغيرَة لم ينْقل لَفْظَة عَامَّة عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلكنه نقل قَضَاء فجوز الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَن يكون ذَلِك خَاصّا غير عَام فتوقف حَتَّى نقل

(2/347)


[118 - ب] مُحَمَّد بن مسلمة لَفْظَة عَامَّة، وَأما حَدِيث عُثْمَان / رَضِي الله عَنهُ فقد قيل أَن الحكم ادّعى إِذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقَام عُثْمَان مقَام الشُّهُود وَكَانَ مفصل حكم، فَاشْتَرَطُوا فِي ذَلِك عددا، على أَن من الصَّحَابَة من كَانَ يرد شَهَادَة الْقَرِيب للقريب، وَكَانَ الحكم قريب عُثْمَان، وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ مَشْهُورا بِأَنَّهُ كلف بأقاربه وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان فَإِنَّمَا كَانَ لِأَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ هم بتأديبه، فَلَمَّا روى الْخَبَر كَانَ كالدافع عَن نَفسه، فَاشْترط رِوَايَة غَيره فَبَطل مَا قَالُوهُ، وَقَامَت الْحجَّة عَلَيْهِم بعادات أَصْحَاب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبعثته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَفْرَاد الرُّسُل فِي الأقطار.
[1047] ثمَّ نقُول للجبائي: لقد ابتدعت قولا لم تسبق إِلَيْهِ، وَمَا نرَاك إلاتوصلت إِلَى دَرك الْأَخْبَار، وَذَلِكَ أَنَّك قلت إِذا نقل عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا بِدَم، اثْنَتَيْنِ ثمَّ إِذا نقل عَن الناقلين فَلَا بُد فِي كل نقل من ناقلين هَكَذَا إِلَى أَن تَنْتَهِي النّوبَة إِلَيْنَا، وَنحن نعلم أَن هَذَا الْعدَد لَو جمع وَقد توالت الْأَعْصَار وَبلغ النقلَة عشرَة فَصَاعِدا فيبلغون عدد التَّوَاتُر، وَيزِيدُونَ، وَلَو تتبعنا الْأَخْبَار لم نجد فِيهَا على شرطك إِلَّا الْقَلِيل، فَهَذَا تَصْرِيح مِنْكُم برد أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

(2/348)


فأوضح بالمذاهب وانتمى إِلَى الروافض وَإِلَى أدمن الْأَخْبَار.
(183) القَوْل فِي صِفَات الروَاة

[1048] اعْلَم، وفقك الله، أَن الْعلمَاء أَجمعُوا على أَن الْخَبَر لَا يقبل من كل أحد وَاتَّفَقُوا على إِن الَّذين يقبل خبرهم وَيجب الْعَمَل بِهِ يتميزون عَن الَّذين يرد خبرهم بأوصاف، اخْتلفُوا فِي بَعْضهَا، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضهَا، وَنحن نذْكر الْآن مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَأول مَا نبدأ بِهِ أَن نقُول: الشَّرْط ان يحْتَمل الْخَبَر مُمَيّز ضَابِط فَلَو قَرَأت مسامع الصَّبِي الَّذِي لَا يُمَيّز الْأَخْبَار لم يجز لَهُ رِوَايَتهَا إِذا بلغ مبلغ الرِّوَايَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَعَ الِاتِّفَاق أَن الرِّوَايَة فِي التَّحْقِيق إِنَّمَا هُوَ نقل مَا سَمعه، وَلنْ يتَحَقَّق نقل مَا سَمعه إِلَّا بعد أَن يُعلمهُ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْمَجْنُون لَو سمع فِي جُنُونه ثمَّ أَفَاق لم يسع رِوَايَة لَهُ.
[1049] فَإِن قيل: أفتشترطون أَن يعلم مَعَاني الْأَخْبَار؟
قُلْنَا: لَا نشترط ذَلِك، كَيفَ وَلَا نشترطه فِي الرِّوَايَة فَإنَّا نصحح رِوَايَة الشي ءمع أَن الرَّاوِي لَا يعلم مَعْنَاهُ فَإِذا لم نشترطه فِي الرِّوَايَة فَكيف

(2/349)


نشترطه فِي التَّحَمُّل، فَهَذَا مَا لَا نشترط فِي التَّحَمُّل.
[1050] فَأَما مَا عداهُ من الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فِي الأدار أَو الرِّوَايَة فَلَا نشترط فِي التَّحَمُّل، [فَلَو] تحمل وَهُوَ فَاسق أَو كَافِر ثمَّ استجمع شَرَائِط الروَاة فروى مَا علم هُوَ لصَحَّ ذَلِك فَهَذَا فِي التَّحَمُّل عَنهُ.
[1051] فَأَما فِي الرِّوَايَة فَلَا بُد من أَوْصَاف. أَحدهمَا: كَمَال الْعقل، وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ وَهُوَ وَاضح بطرِيق الْحجَّاج.
وَمِنْه: الْإِسْلَام، فَإِن الْكَافِر لَا تقبل رِوَايَته لإِجْمَاع الْأمة، وَمِنْهَا: الْبلُوغ، فَإِن الصَّبِي لَا تقبل رِوَايَته للْأَخْبَار، وَقد ادّعى القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك الْإِجْمَاع، وَهَذَا مَا الفيته فِي كتب الْأُصُول، وَكَانَ

(2/350)


الإِمَام رَضِي الله عَنهُ / يَحْكِي وَجها بَعيدا فِي صِحَة رِوَايَة الصَّبِي وَلَعَلَّه [119 / 1] قد كَانَ أسْقطه، وَالله أعلم، ثمَّ أعتلوا من اشْتِرَاط الْبلُوغ فَقَالُوا: رددنا رِوَايَة الْفَاسِق لقلَّة مبالاته واكتراثه بالديانة وَالْأَمَانَة واجترائه على الْكَبَائِر وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق فِي الصَّبِي إِذا علم بِأَنَّهُ لَا يُكَلف وَلَا يُؤَاخذ بِمَا يبدر مِنْهُ، فَهَذَا أولى بِأَن يجريه على الْكَذِب من الْفسق، فَإِن الْفَاسِق من اجترائه رُبمَا يتداخله فِي الْأَحَايِين الْمُؤَاخَذَة فِي الْعَاقِبَة، وَالصَّبِيّ لَيْسَ كَذَلِك، وَاعْتَلُّوا ايضا بِأَن إِقْرَاره على نَفسه لَا يقبل فَلِأَن لايقبل خَبره فِي حق غَيره أولى وَهَذَا فِيهِ دخل فان العَبْد رُبمَا لَا يقبل إِقْرَاره على نَفسه فِي حكم وَلَو نقل فِيهِ خَبرا عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل مِنْهُ.
وَالَّذِي عول القَاضِي عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْإِجْمَاع، فاعلمه.
[1052] وَمن الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فِي الرِّوَايَة: الْعَدَالَة، فَاعْلَم أَن الْفسق مهما ظهر اقْتضى ذَلِك رد الرِّوَايَة إِجْمَاعًا. ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء بعد

(2/351)


ذَلِك فَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله إِلَى أَن من ثَبت إِسْلَامه ظَاهرا وَلم نعلم مِنْهُ فسقا فَهُوَ فِي حكم الرِّوَايَة عدل، قَالُوا كَذَلِك فِي الشَّهَادَة على الْأَمْوَال، وَأَجْمعُوا اشْتِرَاط ثُبُوت الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَة على الْحُدُود وَمَا يتَعَلَّق بالأبضاع، وسنفرد الْكَلَام عَلَيْهِم بعد الْفَرَاغ من تَفْصِيل الْمذَاهب.
وَمَا اخْتَارَهُ الدهماء من الْعلمَاء الْقَائِلين بأخبار الْآحَاد أَنا لَا نكتفي بِمَا اكتفوه بِهِ وَلَكنَّا نشرط ثُبُوت أَوْصَاف الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَة وَالْعلم بهَا أَو غَلَبَة الظَّن.
[1053] فَإِن قيل: فَمَا الْعَدَالَة الَّتِي ذكرتموها؟
قيل: قد أَكْثرُوا فِي ذَلِك وَلم يُحَقّق أحد فِي ذَلِك قولا جَامعا مَانِعا، وَأكْثر مَا قَالَه الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن قَالَ: لَيْسَ فِي النَّاس من يمحض الطَّاعَة فَلَا يمزجها بِمَعْصِيَة وَلَا فِي الْمُسلمين من يمحض الْمعْصِيَة

(2/352)


فَلَا يمزجها بِطَاعَة، وَلَا سَبِيل إِلَى رد الْكل وَلَا إِلَى قبُول الْكل وَإِذا كَانَ الْأَغْلَب على الرجل من أمره الطَّاعَة والمروءة قبلت شَهَادَته، وَإِذا كَانَ الْأَغْلَب من أمره الْمعْصِيَة وَخلاف الْمُرُوءَة ردَّتْ شَهَادَته وَرِوَايَته.
قَالَ أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِيمَن قارف كَبِيرَة ردَّتْ شَهَادَته وَمن قارف صَغِيرَة لم ترد شَهَادَته وَلَا رِوَايَته، وتتابع الصَّغَائِر كمقارفة الْكَبَائِر وَقَالَ هُوَ أَيْضا: لَو ثَبت كذب الرَّاوِي لردت شَهَادَته إِذا تَعَمّده، وَإِن كَانَ لَا يعد الْكَذِب فِيهِ من الْكَبَائِر، لِأَنَّهُ قَادِح فِي نفس الْمَقْصُود بالرواية.
وَقد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ عبارَة جَامِعَة فِي الْعَدَالَة فَقَالَ: الْعَدَالَة اتِّبَاع أَمر الله على الْجُمْلَة، وَمُخَالفَة أَمر الله تَعَالَى تضَاد الْعَدَالَة، ثمَّ تثبت الْعَدَالَة فِي شَيْء بِاتِّبَاع أَمر الله فِيهِ، وَلَا يمْنَع من تحَققه ثُبُوت الْمُخَالفَة فِي غَيره.
[1054] فَإِن قيل: فَهَذَا ذكر على الْجُمْلَة فَمَا عَدَالَة الرَّاوِي.
قُلْنَا: لَا نشترط تحقق الْعَدَالَة فِيهِ من كل وَجه لما قدمْنَاهُ. وَلَكِن إِجْمَاع القَوْل فِيهِ أَن يُقَال: الْعدْل المشتهر بأَدَاء الْفَرَائِض وامتثال الْأَوَامِر وتوقي المزاجر وَاجْتنَاب مَا / مرض الْقُلُوب وَيُورث التهم فِيمَا جلّ وَقل فَيخرج لنا من مَضْمُون ذَلِك عبارَة وحيدة وَهِي أَنا نشترط أَن لَا يقدم الرَّاوِي على مَا إِذا أقدم عَلَيْهِ أورث ذَلِك تُهْمَة ظَاهِرَة فِي رِوَايَته، وَلَا فرق بَين أَن يكون من الصَّغَائِر أَو من الْكَبَائِر.

(2/353)


وَأما الْكَبَائِر فَلَا شكّ أَن الْإِقْدَام عَلَيْهَا يُورث التهم، والصغائر على الانقسام، فَرب صَغِيرَة تورث ذَلِك، فَإنَّك إِذا رَأَيْت الرجل سرق بصلَة أَو باذنجانة أَو مَا أشبههما أَو يطفف الْمِكْيَال وَالْمِيزَان فِي حَبَّة فَهَذَا لَا [يقطع] أَن يكون كَبِيرَة وَرُبمَا كُنَّا بمجاري الْعَادَات نعلم أَن من أقدم على مثل ذَلِك فَيُؤَدِّي بقلة نزاهته ورقة أَمَانَته، فاضبط ذَلِك ايأس من ضبط أَوْصَاف محصورة يُقَال أَنَّهَا الْعَدَالَة الْمَشْرُوطَة وَإِنَّمَا عظم الِاجْتِهَاد فِي التَّعْدِيل وَالْجرْح لخُرُوج صفاتهما عَن الضَّبْط والحصر.
[1055] فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل تشترطون مَعَ مَا ذكرتموه التوقي عَن الْمُبَاحَات القادحات فِي المروءات نَحْو الْجُلُوس على قوارع الطّرق وَالْأكل فِي الاسواق ومصاحبة الْعَوام الأرذال والإكثار من المداعبة.
فَقَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: من عُلَمَائِنَا من صَار إِلَى أَن ذَلِك يقْدَح فِي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة. ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي فِي ذَلِك ان لَا يقطع القَوْل بذلك بل نفوض الْأَمر إِلَى اجْتِهَاد القَاضِي فَرب شخص فِي نِهَايَة التورع والتدين يبدر مثل ذَلِك مِنْهُ فَلَا يتهم وَيعلم أَن قَصده ترك الرِّيَاء وتجنب التَّكَلُّف وَرب شخص يُؤذن صُدُور ذَلِك مِنْهُ بقلة مبالاته، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى ضَبطه وَيخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات والاحوال والأشخاص فَلَا وَجه للْقطع فِيهِ وَلَكِن

(2/354)


تَفْوِيض الْأَمر فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَاد.
(184) مَسْأَلَة

[1056] ذكرنَا من أصلنَا أَن لَا نجتزي فِي قبُول رِوَايَة الرَّاوِي بِظُهُور الْإِسْلَام وَعدم الْعلم بِالْفِسْقِ بل نبحث عَن حَاله سرا وعلنا لنعلم أَو يغلب على ظننا اتصافه بِمَا قدمْنَاهُ من الْأَوْصَاف.
وَذهب بعض الْعلمَاء من أهل الْعرَاق إِلَى الِاكْتِفَاء بِالظَّاهِرِ فِي الرِّوَايَة، نستدل عَلَيْهِم بِالشَّهَادَةِ فِي الْحُدُود فَنَقُول: ألستم شرطتم الْعَدَالَة

(2/355)


فِيهِ وسبيله سَبِيل الْأَخْبَار، فَهَلا شرطتم مثل ذَلِك فِي الروايه؟
فَإِن قيل: قد افترق البابان فَإِن الْأَمر فِي الشَّهَادَة أغْلظ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اعْتِبَار الْعدَد فِيهِ.
قُلْنَا: فَهَذَا الَّذِي ذكرتموه بِالْعَكْسِ أولى فَإِن الَّذِي لم يشْتَرط فِيهِ الْعدَد لَو لم يُبَالغ فِي تطلب الْعَدَالَة كَانَ ذَلِك نِهَايَة التَّفْرِيط، فَهَذَا بِالِاحْتِيَاطِ أولى، على أَن مَا ذَكرُوهُ يبطل بالمفتي فَإِنَّهُ يشْتَرط ظُهُور عَدَالَته واستجماعه لشرائط الْفَتْوَى مَعَ أَنه لَا يشْتَرط عدد.
[1058] وعَلى هَذَا الْوَجْه اسْتدلَّ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بالشهادات من طَرِيق آخر فَقَالَ: إِذا شهِدت طَائِفَة من الشُّهُود على شَهَادَة أُخْرَى فَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَنا نبحث عَن عَدَالَة الْأُصُول وَلَا نكتفي بِشَهَادَة هَؤُلَاءِ الْعُدُول على شَهَادَتهم وَإِن كَانَ ظَاهرا شَهَادَة الْعُدُول تنبىء عَن مَنْهَج الْعُلُوم السمعية فِي الْمسَائِل المجتهدة فَإِنَّمَا الَّذِي يُقَوي ذَلِك شَيْئَانِ اثْنَان أَحدهمَا أَن نقُول: [120 / 1] نَحن نعلم أَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانُوا يقبلُونَ إِلَّا مِمَّن ظَهرت عَدَالَته ووضحت أَمَانَته وَكَانُوا يتخيرون فِي ذَلِك ويبحثون أَشد الْبَحْث حَتَّى كَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يزِيد على ذَلِك فَيحلف بعض الروَاة.
وَهَذَا فِيهِ نظر أَيْضا، فَإِن آكِد مَا يعتصم بِهِ أَن نقُول: الْعَمَل بأخبار الْآحَاد مِمَّا لَا يسْتَدرك وُجُوبه عقلا وَقد قدمنَا فِي ذَلِك مَا فِيهِ كِفَايَة فَإِذا وضح ذَلِك تبين أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد إِنَّمَا ثَبت بِدلَالَة سمعية قَاطِعَة وَقد قَامَت

(2/356)


الْأَدِلَّة القاطعة على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْعدْل المستجمع للأوصاف الَّتِي قدمناها، وَبَقِي تنازعنا فِي الَّذِي لم تظهر عَدَالَته فَإِن أبدوا شَيْئا من أدلتهم وَزَعَمُوا أَنه قَاطع تفصينا عَنهُ بأوضح وَجه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[1059] فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: لقد قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة أَعْرَابِي فِي رُؤْيَة الْهلَال وَهَذَا اكْتِفَاء مِنْهُ بِالظَّاهِرِ.
قيل لَهُم: هَذَا إِثْبَات مِنْكُم لنَوْع من أَخْبَار الْآحَاد بِخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ فَإِن طَرِيق إِثْبَات أصل أَدِلَّة الشَّرْع القواطع، على أَنا نقُول وَكَونه أَعْرَابِيًا لَا يمْنَع أَن يكون عدلا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ لكم فِي الحَدِيث معتصم فَكَمَا لم ينْقل فِي الْخَبَر عَدَالَته فَكَذَلِك لم ينْقل إِسْلَامه وَقد اتفقنا على اشْتِرَاطه.
فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: لَا مَعْصِيّة قبل الْبلُوغ وَمن بلغ أَوَان حلمه بَرِيئًا فَالْأَصْل بَقَاء هَذِه الْحَالة حَتَّى يرفعها رَافع.

(2/357)


قُلْنَا: هَذَا من أعظم الْكَلَام فَأول مَا يلْزم عَلَيْهِ الشَّهَادَات فِي صُورَة الِاتِّفَاق وَكَذَلِكَ حَال الْمُفْتِي فِي ورعه، ثمَّ نقُول: رُبمَا يبلغ ويقارف أول بُلُوغه مَعْصِيّة فَلم أدعيتم بَرَاءَته عِنْد بُلُوغه؟ ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ينعكس عَلَيْكُم فِيمَا لَا مدفع لَهُ فَإنَّا نقُول: ألستم قُلْتُمْ أَن انْتِفَاء الْمعْصِيَة فِي بَدْء الْأَمر مستيقن ثمَّ إِذا استصحبنا الْحَال لم يدم لنا الْيَقِين فِي ذَلِك، فَكَمَا لَا يَقْتَضِي الِاسْتِصْحَاب دوَام الْيَقِين فَكَذَلِك مَا نَحن فِيهِ، وسنتكلم فِي الِاسْتِصْحَاب بأوضح وَجه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[1060] فَإِن قَالُوا: فَإِن أخبرنَا مخبر عَن نَجَاسَة مَاء أَو طَهَارَته فَلَا يشْتَرط أَن يكون على وصف الْعُدُول، فَالْجَوَاب السديد فِي هَذَا وَأَمْثَاله أَن يُقَال: مَا ثَبت فِيهِ إِجْمَاع قُلْنَا فِيهِ من ظَاهر الْعَدَالَة للاتفاق، وَمَا لم يقم فِيهِ إِجْمَاع لم نعمل بِهِ حَتَّى تكون دلَالَة قَاطِعَة، فَمَا اسْتشْهدُوا بِهِ مِمَّا لايدعى الْإِجْمَاع فِيهِ.
فَإِن قُلْنَا: لَا يشْتَرط فِيهِ الْعَدَالَة لم يبعد، هَذَا مَا قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.
[1061] وَمِمَّا يشْتَرط فِي الشَّهَادَة والراوي أَن لَا يكون مغفلا، فانه وَإِن استجمع جملَة مَا قدمْنَاهُ من الْأَوْصَاف فَإِذا غلب عَلَيْهِ النسْيَان والغفلة فَلَا نَأْمَن تحريفه كَمَا لَا نَأْمَن اجتراء الْفَاسِق على تعمد الْكَذِب.
(185) فصل

[1062] قد قدمنَا فِيمَا سبق رِوَايَة الصَّبِي لَا تصح، وَيصِح تحمله،

(2/358)


ثمَّ يُؤَدِّي مَا تحمله فِي بُلُوغه وَذهب بعض المنتمين إِلَى الْأُصُول أَن التَّحَمُّل لَا يَصح إِلَّا من بَالغ عَاقل وَمَا سَمعه الصَّبِي فِي صباه لم يَصح مِنْهُ رِوَايَته وَهَذَا أقرب من خرق الْإِجْمَاع فانا نعلم أَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَابْن عمر والنعمان بن بشير وَغَيرهم رووا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَا

(2/359)


بلغُوا مَا رَوَوْهُ فِي صباهم وَلم يُنكر عَلَيْهِم. [1063] فَإِن قَالُوا: هَؤُلَاءِ الَّذين عددتموهم بلغُوا فِي عصر [120 / 5] الرَّسُول / صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَا: فنعلم قطعا أَنهم لم يقتصروا على رِوَايَة مَا شاهدوه بعد الْبلُوغ وَتَقْدِير هَذَا تكلّف، فَإِنَّهُ بَين إِن شَاءَ الله ثمَّ ابْن عَبَّاس كَانَ ابْن سبع لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا بلغ ابْن الزبير حلمه أَيْضا فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

(2/360)


(186) بَاب يجمع القَوْل فِي التَّعْدِيل وَالْجرْح وَعدد الْمعدل والجارح وَصفَة التَّعْدِيل وَالْجرْح

[1064] اخْتلف الْعلمَاء فِي أَنا هَل نجتزئ فِي تَعْدِيل الرَّاوِي وتزكيته بمعدل وَاحِد، فَمَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْهُم أَنا نكتفي بِعدْل وَاحِد وَكَذَلِكَ نكتفي بجارح وَاحِد وَذهب بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَن تَعْدِيل الرَّاوِي لَا يثبت إِلَّا بعدلين.
[105] وَأما تَعْدِيل الشُّهُود فَالْمَشْهُور من الْمذَاهب أَنه لَا يثبت إِلَّا

(2/361)


بمزكيين، وَالْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ يُشِير فِي تضاعيف الْكَلَام إِلَى الِاكْتِفَاء بمزك وَاحِد فِي الشُّهُود على مَا نشِير إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[1066] وَالدَّلِيل على الِاكْتِفَاء بمعدل وَاحِد فِي الرِّوَايَة مَا قدمنَا من أوضح الْحجَج فِي قبُول خبر الْوَاحِد وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ، وأخبار الْمعدل عَن عَدَالَة الرَّاوِي من قبيل الْأَخْبَار فَوَجَبَ الْعَمَل بِمُوجبِه مَعَ اتحاده، وَالدَّلِيل على أَنه أَخْبَار أَنه غير مُتَّصِل بفصل الْقَضَاء وَغير مُرْتَبِط بِالدَّعْوَى وَلَا يشْتَرط فِيهِ لفظ الشَّهَادَة، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك وجوب الِاكْتِفَاء بالمفتي الْوَاحِد لما لم يكن سَبيله سَبِيل الشُّهُود، وَمن مُوجب ذَلِك ارْتكب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ اتِّحَاد الْمُزَكي للشُّهُود من حَيْثُ أَن تزكيته لم تجر مجْرى الشَّهَادَات، على أَن قَارنا لَو قرن بَين معدل الشُّهُود ومعدل الروَاة بِأَن الشُّهُود لما اشْترط فيهم الْعدَد جَازَ أَن يشْتَرط فِي معدليهم الْعدَد وَلما لم يشْتَرط الْعدَد فِي الرِّوَايَة لم يشْتَرط فِي تزكيتهم.
[1067] فَإِن قيل: فَقولُوا على طرد ذَلِك أَن التَّزْكِيَة تقبل من الْعَاميّ كَمَا تقبل رِوَايَته؟

(2/362)


قيل: هَذَا فرق وَحَقِيقَته الْجمع فَإنَّا نشترط أَن يكون الرَّاوِي على صفة من يعلم الْمَرْوِيّ وَالْمَنْقُول على وَجه م نَقله، فَلَو تصور أَن يعلم الْعَاميّ صِفَات الْعَدَالَة حَتَّى ينقلها على علم وَضبط لصَحَّ ذَلِك مِنْهُ، فَلَمَّا لم يتَصَوَّر مِنْهُ مَعَ الْخُلُو عَن ضروب من الْعُلُوم الْعلم بِالْعَدَالَةِ لم يَصح مِنْهُ التَّعْدِيل، وَلما صَحَّ مِنْهُ نقل عين مَا سَمعه قبلت رِوَايَته فِيهِ، فَكل مِنْهُمَا يقبل مِنْهُ بالغلبة على الْقلب إِلَى نَقله على الْعلم فالمعاني تتبع دون الصُّور.
(187) فصل

[1068] فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا اللَّفْظ الَّذِي إِذا صدر من الْعدْل للشَّاهِد أَو الرَّاوِي يَكْتَفِي بِهِ؟ قُلْنَا: ذهب مَالك رَحمَه الله وَأهل الْمَدِينَة إِلَى أَنا نكتفي بِأَن يَقُول الْمعدل فلَان عدل رَضِي.
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: يَنْبَغِي أَن يَقُول فلَان عدل مَقْبُول [القَوْل] عَليّ ولي، وَإِن كَانَ شَاهدا قَالَ هُوَ مَقْبُول الشَّهَادَة عَليّ ولي.
[1069] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالظَّن بهؤلاء الْأَئِمَّة أَنهم مَا قصدُوا حصر التَّعْدِيل فِي عبارَة مَخْصُوصَة وَلَكِن ابتدر كل وَاحِد إِلَى عبارَة وفَاقا تنبىء عَن الْمَقْصُود. والسديد أَن يُقَال: بنبغي أَن يبدر الْمعدل لَفْظَة تَقْتَضِي تَعْدِيل الرَّاوِي وَالشَّاهِد بِحَيْثُ تَنْتفِي عَنهُ الِاحْتِمَالَات والتجويزات.

(2/363)


(188) فصل [121 / 1]
[1070] اعْلَم، أَن صِفَات الْعَدَالَة تخْتَلف فَمِنْهَا مَا يشْتَرك / فِي دركها الْعَام الْخَاص
وَمِنْهَا: لَا يُحِيط بهَا إِلَّا أولُوا الْعلم. .
فَالَّذِي يشْتَرك فِيهَا الْعَام وَالْخَاص فنحو إِقَامَة الْفَرَائِض الظَّاهِرَة وتجنب الْفَوَاحِش الموبقة.
وَالَّذِي يخْتَص بِهِ الْخَواص فَهُوَ نَحْو الْعلم بالضبط والتيقظ ووجوه تَحْصِيل الْعلم.
[1071] ثمَّ اعْلَم مَا ذَكرْنَاهُ من التَّعْدِيل والتزكية إِنَّمَا هُوَ فِي حق من يخفى حَاله، وَأما الَّذِي اشْتهر من النَّاس بالديانة وَالْأَمَانَة وَشهِدت لَهُ بِهِ النُّفُوس بِصِفَات الْمَدْح فَلَا حَاجَة فِي تَعْدِيل مثله، واستفاضة الْأَخْبَار على مر الْأَعْصَار أقوى من تَعْدِيل وَاحِد أَو اثْنَيْنِ.

(2/364)


(189) فصل

[1072] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا عدل الْمعدل الرَّاوِي أَو الشَّاهِد فَهَل تشترطون أَن يُفَسر وَجه التَّعْدِيل والنعوت الَّتِي عدله لأَجلهَا؟
قُلْنَا: مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْعلمَاء أَن ذَلِك لَا يشْتَرط فِي الْمعدل أصلا.
وَذهب شرذمة إِلَى اشْتِرَاط الشَّرْح فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف الظَّاهِر فِي الْجرْح فَمَا صَار إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَن من جرح رَاوِيا وَشَاهدا فَلَا يقبل جرحه حَتَّى يبين سَببه، هَكَذَا قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَغَيره من الْأَئِمَّة.

(2/365)


[1073] وَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن ذَلِك لَا يشْتَرط فِي الْعدْل إِذا عدل وَلَا إِذا جرح.
ثمَّ قسم الْكَلَام على وَجه ينطوي على تَفْصِيل الْمذَاهب وتثبيته فَقَالَ: إِن كَانَ الْمخبر عَن الْعَدَالَة وَالْجرْح مِمَّن يوثق بِهِ فِي علم مَا يجرح بِهِ وَعلم مَا يعدل بِهِ فَيقبل مِنْهُ الْجرْح الْمُطلق وَالتَّعْدِيل الْمُطلق، وَلَا يتجسس كَمَا أَن الْعدْل لَو شهد على بيع أَو نِكَاح أَو مَا شابههما من الْعُقُود والفسوخ وَنَحْوهمَا بِالصِّحَّةِ فَيحكم بِظَاهِر شَهَادَته وَلَا نسائله عَن لفظ العقد وَصفته وَإِن كنت تعلم أَن الِاجْتِهَاد لَهُ أعظم المجال فِي مَوَاضِع الْعُقُود وصحتها

(2/366)


وفسادها، وَكَذَلِكَ يقبل مِنْهُ التَّعْدِيل الْمُطلق. وَإِن كَانَ من يخبر عَن الْجرْح وَالتَّعْدِيل غير عَالم بِمَا يَقع بِهِ التَّعْدِيل وَالْجرْح فَلَا يقبل مِنْهُ مَا يُطلقهُ وَلَكِن لَو أخبر عَن أَوْصَاف ضَبطهَا من الرَّاوِي وَالشَّاهِد وَكَانَ موثوقا بِهِ قبلناها ثمَّ نَظرنَا فِيهَا فعدلنا أَو جرحنا.
[1074 فَإِن فصل فاصل بَين التَّعْدِيل وَالْجرْح أَن الْخلاف يكثر فِي الْجرْح فَلَا نَأْمَن أَن يجرح بِمَا يَعْتَقِدهُ جرحا وَالْقَاضِي لَا يَعْتَقِدهُ كَذَلِك فَلذَلِك استسفرناه.
قُلْنَا: فَهَذَا يبطل بالتعديل فَإِن فِيهِ الِاخْتِلَاف أَيْضا ثمَّ لم يشْتَرط فِيهِ الْكَشْف وَيبْطل بِالشَّهَادَةِ على مُطلق الْعُقُود فَإنَّا لَا نشترط فِيهَا الاستكشاف مَعَ علمنَا بِوُقُوع الْخلاف فِيهَا.
[1075] فَإِن قَالُوا: السَّبَب الَّذِي يَقع بِهِ الْجرْح لَا يطول ذكره

(2/367)


وأوصاف الْعَدَالَة يطول ذكرهَا قُلْنَا: لَيْسَ يطول ذكر أَوْصَاف الْعَدَالَة وَيُمكن حصرها فِي أسطر، ثمَّ الْوَاجِبَات لَا يسْقط بالطول وَالْقصر، فَبَطل مَا قَالُوهُ، فَلَا يظهرون فِي الْجرْح عِلّة إِلَّا وَهِي تنعكس فِي التَّعْدِيل.
[190] فصل

[1076] الرَّاوِي إِذا عدله معدل يقبل تعديله وجرحه جارح يقبل جرحه لَو قدر مُفردا وَالْجرْح أولى من التَّعْدِيل، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الشَّاهِد إِذا عدل وجرح، وَهَذَا إِجْمَاع الْعلمَاء وَهُوَ أقوى الْحجَج، فاكتف بِهِ، على

(2/368)


أَنَّك تعضده فَتَقول الْجرْح ينبىء عَن زِيَادَة خلا عَنْهَا التَّعْدِيل، فَكَأَن الْجَارِح يصدق الْمعدل فِي الْأَوْصَاف الَّتِي أخبر عَنْهَا ويخبر عَن صفة كامنة ذهل عَنْهَا الْمعدل، فَيَقُول صدق الْمعدل / بيد أَنه لم يطلع على مَا اطَّلَعت عَلَيْهِ، وَلَو [121 / ب] أَرَادَ الْمعدل نفي مَا أثْبته الْجَارِح كَانَ مخبرا عَن نفي والإخبار عَن النَّفْي يضعف وَلذَلِك ردَّتْ الشَّهَادَة على النَّفْي.
[1077] وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِيهِ إِذا اتَّحد الْمعدل والجارح أَو اسْتَويَا فِي الْعدَد. فَأَما إِن كثر عدد المعدلين وَقل عدد الجارحين فقد صَار بعض الْعلمَاء إِلَى ان الْعَدَالَة فِي مثل هَذِه الصُّورَة أولى وَهَذَا غير سديد فَإِن كل وَاحِد من الْجرْح وَالتَّعْدِيل يسْتَقلّ بِنَفسِهِ لَو قدر مُفردا فَالزِّيَادَة لَا تَقْتَضِي تَغْيِير ذَلِك، وَالَّذِي يُوضحهُ أَن عشرَة من

(2/369)


الْعُدُول لَو شهدُوا على ثُبُوت دين وَشهد عَدْلَانِ على إِبْرَاء مُسْتَحقَّة عَنهُ فتقضي بِالْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُمَا أخبرا عَمَّا أخبر الشُّهُود عَنهُ وانفردا بِزِيَادَة علم وَهَذَا شَأْن الْجَارِح مَعَ المعدلين على مَا قدمْنَاهُ.
(191) فصل

[1078] الْعدْل الثِّقَة إِذا روى عَن إِنْسَان خَبرا فروايته لَا تكون تعديلا مِنْهُ للَّذي روى عَنهُ، هَذَا مَا صَار إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَذهب بعض من لَا يحصل علم هَذَا الْبَاب إِلَى أَن الرِّوَايَة عَنهُ تَعْدِيل وَهَذَا بَاطِل من

(2/370)


وَجْهَيْن، أَحدهمَا أَنا نرى الْأَئِمَّة يروون الضَّعِيف من الْأَخْبَار كَمَا يروون الصَّحِيح مِنْهَا لأغراض لَهُم فِي علم الصَّنْعَة، فَلَا سَبِيل إِلَى الِاسْتِدْلَال بروايتهم على تَعْدِيل الَّذين رووا عَنْهُم. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْعدْل قد يروي عَمَّن لم يعرفهُ بعدالة وَلَا جرح فيصمت عَن وَصفه بهما جَمِيعًا فَمن هَذَا الْوَجْه بَطل الِاسْتِدْلَال بروايته، اللَّهُمَّ أَن يَقُول الْعدْل اعلموا أَنِّي لَا أروي إِلَّا عَن موثوق بِهِ فَإِذا صدر مِنْهُ مثل هَذَا القَوْل فَتكون رِوَايَته تعديلا.
(192) فصل

[1079] إِذا روى الرَّاوِي خَبرا وَعمل بِهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يجوز أَنه عمل بِدلَالَة أُخْرَى من خبر أَو قِيَاس أَو غَيرهمَا، وَوَافَقَ عمله مُوجب الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَا يكون عمله بِهِ تعديلا، وَإِن تحقق عندنَا أما بقوله وَإِمَّا بقرائن الْأَحْوَال أَنه لم يعْمل إِلَّا بالْخبر الَّذِي رَوَاهُ فَيكون عمله بِهِ تعديلا لَا محَالة وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى ان عمله بِهِ لَا يكون

(2/371)


تعديلا.
[1080] وَالَّذِي يُوضح مَا قُلْنَاهُ أَن نقُول: إِذا تحقق عندنَا كَون الْمعدل عدلا موثوقا بِهِ فِي دينه وأمانته، وتقرر مَعَ ذَلِك علمه بِمَا يَقع بِهِ التَّعْدِيل وَالْجرْح، فَإِذا استجمعت هَذِه الْأَوْصَاف فالظن بِظَاهِر فعله مَعَ اعتقادنا فِيهِ اجْتِنَاب الزلل وَالْخَطَأ على تعمد فينبىء ظَاهر فعله عَن التَّعْدِيل كَمَا ينبى قَوْله عَن ذَلِك وَلَو سَاغَ حمل فعله على غير وَجه الصِّحَّة سَاغَ ذَلِك فِي قَوْله. 3 [1081] فَإِن قيل: فيلزمكم على اطراد ذَلِك أَن تَقولُوا إِذا روى الْعدْل عَن إِنْسَان وَترك الْعَمَل بِمَا رَوَاهُ فَيكون ذَلِك جرحا مِنْهُ، قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِن تحقق تَركه الْعَمَل للْخَبَر مَعَ ارْتِفَاع الدوافع والموانع وتقرر عندنَا تَركه مُوجب الْخَبَر على انه لَو كَانَ ثَابتا للَزِمَ الْعَمَل بِهِ فَيكون ذَلِك جرحا نازلا

(2/372)


منزلَة القَوْل وَإِن كَانَ مَضْمُون الْخَبَر مِمَّا سوغ تَركه وَلم يتَبَيَّن قَصده إِلَى مُخَالفَة الْخَبَر فَلَا يكون ذَلِك جرحا حِينَئِذٍ، وَنَظِيره مَا لَو عمل بِمَا يُوَافق مُوجب الْخَبَر وجوزنا أَن يكون عمله بِمُقْتَضى غير الْخَبَر فَلَا يكون ذَلِك تعديلا.
[1082] فَإِن قيل: فيلزمكم أَن تَقولُوا أَن / القَاضِي إِذا حكم بِشَهَادَة [22 / 1] الشُّهُود فَيكون ذَلِك حكما مِنْهُ بِعَدَالَتِهِمْ حَتَّى لَا يبْقى لقاض آخر فيهم اجْتِهَاد.
قُلْنَا: القَوْل فِي ذَلِك على تَفْصِيل، فَإِن عول القَاضِي على المزكى وَلم يعدل الشُّهُود بِنَفسِهِ فَلَا يكون إبرامه الحكم تعديلا مِنْهُ بل يكون اتبَاعا على قَول المزكى، وَإِن صدر مِمَّا القَاضِي مِمَّا يدل على أَنه عدل الشُّهُود بِأَن تولى بِنَفسِهِ الْبَحْث عَنْهُم ثمَّ تبين فِي مقَالَة أَو حَالَة قصدا لتعديل فَيكون ذَلِك تعديلا مِنْهُ، حَتَّى قَالَ المخلصون بِعلم هَذَا الْبَاب: لَو فرض القَاضِي تَنْفِيذ حُكُومَة مُشْتَمِلَة على الشَّهَادَة إِلَى من رشح لتزكية الشُّهُود فنفذها بِشَهَادَتِهِم، فَيكون ذَلِك تعديلا مِنْهُ إيَّاهُم، فَإِنَّهُ منتصب لتعديل الشُّهُود، فَيحمل إبرامه الحكم على التَّعْدِيل، فَافْهَم.
(193) فصل

[1083] اعْلَم أَن مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من أَصْحَابنَا أَن الروَاة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار معدلون بِنَصّ الْكتاب وهم

(2/373)


مقرون على الْعَدَالَة إِلَى ان يتَحَقَّق قطعا مَا يقْدَح فِي وَاحِد مِنْهُم.
[1084] فَإِن قيل: فَأَي آيَة تعنون اشتمالها على تعديلهم؟
قُلْنَا: هِيَ أَكثر من وَاحِدَة فَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى فِي مُخَاطبَة الصَّحَابَة {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} .
وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى فِي مخاطبتهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي أهل بيعَة الرضْوَان: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة}
وَمِنْهَا: الْآيَات الْمُشْتَملَة على حسن الثَّنَاء على الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار} إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه من الْكتاب وَالسّنة، ثمَّ لَا تَظنن أَنه مندرج تَحت هَذِه هـ الْجُمْلَة كل

(2/374)


من لَقِي رَسُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا ذَلِك فِي صُحْبَة الَّذين امتثلوا أمره وبذلوا عَلَيْهِ الْأَمْوَال والمهج وهم المعرفون الْمُسلمُونَ.
[1085] وَقد اضْطَرَبَتْ الْمُعْتَزلَة اضطرابا عَظِيما، فَذهب الْجُمْهُور مِنْهُم إِلَى تفسيق عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَجُمْلَة الَّذين قَاتلُوا الفئة

(2/375)


العادلة وَمِنْهُم من يَقُول لَو اجْتمع عَليّ وَطَلْحَة فِي شَهَادَة لم تقبل شَهَادَتهمَا وَهَذَا يبْنى على أصُول تقررت فِي الْإِمَامَة.
(194) فصل

[1086] من كَانَ من أهل الْقبْلَة وَلَكِن بدر مِنْهُ فسق، بِاتِّفَاق الْأمة يَقْتَضِي رد شَهَادَته، وَإِن أقدم عَلَيْهِ متأولا ظَانّا أَنه مستحل غير مَحْظُور

(2/376)


وَكَذَلِكَ من كفر من أهل الْقبْلَة وَصدر مِنْهُ مَا يُوجب تفكيره فَهُوَ مَرْدُود الشَّهَادَة وَإِن كَانَ من المتأولين المنتمين إِلَى أهل الْقبْلَة

(2/377)


وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى ان من بدر مِنْهُ الْفسق وَهُوَ متأول ظان أَنه مُبَاح فَذَلِك لَا يُوجب رد شَهَادَته إِذا كَانَ مشهرا بِالصّدقِ وتوقي الْخلف، وَذَلِكَ نَحْو قتل الْخَوَارِج النَّاس واستحلالهم الْأَمْوَال والدماء على اعْتِقَاد الْإِبَاحَة مَعَ استشهادهم بتوقي الْخلف ومصيرهم إِلَى أَنه كفر.
[1087] وَالْمُخْتَار عندنَا رد شَهَادَتهم لكفرهم وَمَا يبدر مِنْهُم من فسقهم وَإِن اعتقدوه حسنا، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك اتِّفَاق الْأمة على أَن تأويلهم وظنهم وحسابهم لَا يعذرهم فِيمَا يبدر مِنْهُم وَلَكِن اعْتِقَاد الْحسن فِيمَا أجمع الْمُسلمُونَ على قبحه إِذا انْضَمَّ إِلَى الْقَبِيح كَانَا قبيحين / منضمين لَا يقدر انْفِصَال أَحدهمَا من الآخر إِجْمَاعًا واتفاقا، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْكفْر وتأويله وَلَو سَاغَ أَن يعْذر المأولون سَاغَ أَن يعْذر أهل الْملَل وَتقبل شَهَادَة من يشْتَهر مِنْهُم بِالصّدقِ كالرهبان وَغَيرهم.
] 1088] فَإِن قيل: من اسْتحْسنَ مَا يبدر مِنْهُ مِمَّا أقدم عَلَيْهِ قَاصِدا إِلَى الْفسق هُوَ متأول.
قيل لَهُم: فَكَذَلِك القَوْل فِي الْكَفَرَة ومنكري الشَّرِيعَة فَإِنَّهُم مَا اقدموا على مَا اقدموا عَلَيْهِ إِلَّا واعتقادهم أَنه الْحق وَالصَّوَاب وَمَا عداهُ ضلال ثمَّ

(2/378)


انتصب ذَلِك شَيْئا مفضيا إِلَى قبُول الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة فَلَا يعذرُونَ فِي الْفَاسِق المتأول وَالْكفَّار شَيْئا إِلَّا انعكس عَلَيْهِم فِي أهل الْملَل.
وَالَّذِي نرتضي لَك التعويل عَلَيْهِ أَن تعد الْكَافِر الْأَصْلِيّ نقضا لما يتمسكون بِهِ، فَإِن رمت احتجاجا قلت: قد ثَبت رد شَهَادَة الْكفَّار وَالَّذِي نَحن فِيهِ كَافِر، وَثَبت رد شَهَادَة الْفَاسِق، وَالَّذِي نَحن فِيهِ فَاسق، وَإِنَّمَا قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع فِي قبُول أَخْبَار الثِّقَات فَلَا يقبل خبر غَيرهم إِلَّا بِدلَالَة تدل، فَإِن الْأَمر بأخبار الْآحَاد لاتضبط عقلا.
[1090] وَمِمَّا عول عَلَيْهِ من يقبل أَخْبَار هَذَا الصِّنْف - وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ من المائلين إِلَى ذَلِك - إِجْمَاع الصَّحَابَة على قبُول أَخْبَار الْفَاسِقين بالتأويل فَإِن الَّذين فسقوا بمحاصرة عُثْمَان وَقَتله من الْمَذْكُورين والمشاهير وارادوا ذَلِك حَقًا لم ترد شَهَادَتهم وروايتهم، وَكَذَلِكَ الْخَوَارِج مَا زَالُوا يتلقون ويروون وَتقبل روايتهم. فَيُقَال: دَعْوَى الْإِجْمَاع فِي ذَلِك مِمَّا لَا يكَاد يسْتَمر من أوجه، أَحدهَا: أَنه [إِن] صَحَّ قبُول رِوَايَة بَعضهم فَلم يتَحَقَّق ذَلِك من كَافَّة الصَّحَابَة حَتَّى يدعى إِجْمَاعهم فِي قبُول خبر من هَذَا وَصفه، وَالْأُخْرَى أَن من الصَّحَابَة من كَانَ يعْتَقد

(2/379)


اسْتِحْبَاب عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لما جرى عَلَيْهِ، وَهَذَا بَين فِي كَلَامهم نظما ونثرا فَلم يثبت الْإِجْمَاع على فسقهم فِيمَا صدر مِنْهُم، ثمَّ الِاتِّفَاق على قبُول خبرهم. فَبَطل ادِّعَاء الْإِجْمَاع من كل وَجه، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن عمار بن يَاسر وعدي بن حَاتِم وسودان بن حمْرَان وَالْأَشْتَر وَغَيره من المصرحين بالاعتزاء إِلَى قتل عُثْمَان واعتقاد كَون ذَلِك صَوَابا فَسقط دَعْوَى الْإِجْمَاع وَاسْتمرّ مَا قدمْنَاهُ.

(2/380)


(195) فصل

[1091] اعْلَم أَن الشَّاهِد يُخَالف الرَّاوِي فِي جمل من الْأَوْصَاف تشْتَرط فِي الشَّاهِد وَلَا تشْتَرط فِي الرَّاوِي. فَمن ذَلِك الْحُرِّيَّة فَإِنَّهَا غير مَشْرُوطَة فِي الرِّوَايَة وَالْعَبْد الموثوق بِهِ كَالْحرِّ، وَمن ذَلِك الْأُنُوثَة فَإِنَّهَا تمنع قبُول الشَّهَادَة فِي بعض الْمَوَاضِع وَلَا تمنع قبُول الرِّوَايَة فِي شَيْء من الْأَحْكَام، وَمِنْهَا الْعَدَاوَة وَأَسْبَاب التهم فِي الْخَيْر وَالدَّفْع فانها تَتَضَمَّن رد الشَّهَادَة على تَفْصِيل، وَشَيْء من ذَلِك لَا يمْنَع رد الْخَبَر، فَتقبل رِوَايَة الْعَدو على عدوه، وَإِنَّمَا ذَلِك لِأَن الرِّوَايَة لَا تخصه بل الرَّاوِي يساهمه فِيهِ، واكتف بِالْإِجْمَاع فِي ذَلِك، ودع عَنْك التَّمَسُّك بالتلويحات.
[1092] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الرَّاوِي الْمَجْهُول؟

(2/381)


صفحة فارغة

(2/382)


قُلْنَا: إِن جهلت عَدَالَته فَلَا تقبل رِوَايَته وَإِن علمت عَدَالَته قبلت [123 / 1 أ] رِوَايَته وَلَا يضر أَن يكون مَجْهُول النّسَب فَإِن الْمعول على الْعَدَالَة مَعَ مَا ذَكرْنَاهُ مَعهَا من الْأَوْصَاف.
(196) فصل

[1093] من سمع كتابا وَتحقّق عِنْده سَمَاعه وَلَكِن أشكل عَلَيْهِ عين مَا سمع مِنْهُ فَلَا تحل لَهُ رِوَايَته حَتَّى يعلم على قطع من بلغه. وَذهب

(2/383)


[بعض] الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنه إِذا علم سَماع الْكتاب من ثِقَة فَلهُ رِوَايَته إِذا كَانَ حَافِظًا وضابطا وَقد أومى الشَّافِعِي رَحمَه الله إِلَيْهِ فِي الرسَالَة، وَهَذَا لَا يَصح، فَإِن الرِّوَايَة لَا تستقل إِلَّا بالمروي عَنهُ، فَإِذا لم يعرف عَنهُ لم تخل، إِمَّا أَن يطبق رِوَايَته وَلَا يسندها إِلَى مَرْوِيّ عَنهُ وَإِمَّا أَن يسندها إِلَى شخص بِعَيْنِه، فَإِذا لم يسندها إِلَى شخص فقد أرسل، وَلَا حجَّة فِي الْمَرَاسِيل على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِن اسنده إِلَى شخص بِعَيْنِه مَعَ الاسترابة فقد أقدم على رِوَايَة مَا يستريب فِيهِ وَهَذَا من أعظم التهم فِي التساهل فِي الرِّوَايَة، وَلَو جَازَ ذَلِك جَازَ فِي أصل الرِّوَايَة مَعَ التشكيك فِيهِ حَتَّى يروي خَبرا مَعَ تشككه فِي أَنه هَل سَمعه أم لَا. فَإِذا لم يجز ذَلِك لم يجز إِسْنَاده إِلَى شخص مَعَ التشكيك وَإِن استيقن اصل السماع.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَيْضا من أصل الشَّافِعِي أَن من تحمل شَهَادَة استيقن تحملهَا، وأشكل عَلَيْهِ عين من تحمل الشَّهَادَة عَنهُ [فَلَا] يجوز لَهُ إِقَامَة الشَّهَادَة على من يغلب على ظَنّه أَن الْمَشْهُود عَلَيْهِ هُوَ.
[1094] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِيهِ إِذا تشكك فِي حَدِيث من جملَة الْأَحَادِيث والتبس عَلَيْهِ شَيْخه.
قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِك حَتَّى يتَذَكَّر على قطع سَمَاعه وَلَيْسَ لَهُ الِاعْتِمَاد

(2/384)


على مُجَرّد الْخط، وعَلى هَذَا الْقيَاس نجري فِي الشَّهَادَة.
[1095] فَإِن قيل: فَهَلا جوزتم للراوي ابْتِدَاء أَن يروي عَمَّن غلب على ظَنّه السماع فِيهِ، كَمَا جوزتم الْعَمَل بِخَبَرِهِ وَإِن كَانَ ذَلِك آحادا لغَلَبَة الظَّن فَإِنَّمَا لَا يستيقن صدقه.
قُلْنَا: هَذَا لِأَن يعرض لما يُؤَدِّي إِلَى خرق الْإِجْمَاع، فَإنَّا نعلم أَن من سبق فِي عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مَا كَانُوا يستجيزون النَّقْل على غَلَبَة الظَّن بل إِنَّمَا كَانُوا يرَوْنَ مَا يقطعون بِهِ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الرَّاوِي إِذا قَالَ: غلب على ظَنِّي سَمَاعه وَكَانُوا لَا يقطعون بذلك وَلَا يقدرونه خَبرا، يُوضحهُ اتِّفَاق الْأمة على أَن من أَرَادَ أَن يشْهد على إِقْرَار بِغَلَبَة الظَّن من غير أَن يستيقن صدوره من شخص معِين فَلَا يجد إِلَى ذَلِك طَرِيقا، وَلذَلِك مَا رووا شَهَادَة العميان على

(2/385)


الأقارير وَإِن كَانَ مِمَّن تحقق مِنْهُم غلبات الظنون.
[1096] فَإِن قَالَ قَائِل: ألستم جوزتم للَّذي شَاهد الشَّيْء فِي يَد غَيره بُرْهَة وَهُوَ يتَصَرَّف فِيهِ تصرف الْملاك أَن يشْهد لَهُ بِالْملكِ.
قُلْنَا: هَذَا موقع اخْتِلَاف الْفُقَهَاء فَمنهمْ من لايجوزه فَإِن جوزناه فَنَقُول على قَضيته: لَو نقل الشَّاهِد مَا علمه من ثُبُوت الْيَد فِي زمن ممتد لَكَانَ للْقَاضِي أَن يحكم بِالْملكِ لأَجله، فَهَذِهِ جملَة كَافِيَة فِيمَا ذَكرْنَاهُ.

(2/386)


(197) بَاب يجمع فصولا فِي كَيْفيَّة السماع، وَلَفظ الرِّوَايَة، وَوجه الِاخْتِلَاف وتبيين الْأَصَح

[1097] اعْلَم أَن أقوى الطّرق فِي النَّقْل أَن يسمعك شيخك الحَدِيث فَتحدث عَنهُ مَا سمعته شفاها، ثمَّ الَّذِي يَلِيهِ أَن تقرا عَلَيْهِ وَهُوَ صَامت، ثمَّ إِذا تنجزت قراءتك فيقررك عَلَيْك تَصْرِيحًا وَيَقُول: كَمَا / قَرَأت، أوتقول [123 / ب] لَهُ أَنْت: كَمَا قَرَأت؟ فَيَقُول: نعم

(2/387)


[1098 ي ثمَّ أجَاز مُعظم الْمُحدثين أَن تطلق فَتَقول أَخْبرنِي فلَان وَإِن كَانَ ساكتا إِذا قررك، قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَأولى عندنَا غير ذَلِك، فَإِن التقى من الشَّيْخ يَنْقَسِم طَرِيقه فَرُبمَا يكون بِأَن يسمعك من قِرَاءَة نَفسه، وَرُبمَا يقررك على قراءتك، فَإِذا أطلقت الْأَخْبَار والتبس النوعان، فَالَّذِي تَقْتَضِيه النزاهة فِي الرِّوَايَة وتوقي الْإِبْهَام أَن تميز فَتَقول: أَخْبرنِي قِرَاءَة عَلَيْهِ، أَو قَرَأت عَلَيْهِ وَهُوَ سَاكِت فقررني.
[1099] فَإِن قيل: فَإِذا لم يبدر مِنْهُ تَقْرِير لفظ فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟
قُلْنَا: مَا اخْتَار مُعظم أهل الحَدِيث أَن سُكُوته مَعَ سَلامَة الْأَحْوَال نَازل منزلَة صَرِيحَة بالتقرير وعنينا بسلامة الْحَال أَن يَنْتَفِي عَنْهَا إلجاء اَوْ إِكْرَاه

(2/388)


أَو غَفلَة مُقَارنَة للسكوت، فَإِذا انْتَفَت هَذِه الْمَوَانِع وأمثالها فالسكت يكْتَفى بِهِ، فَإِن الَّذِي ينْقل عَنهُ إِذا كَانَ ثِقَة وَعلم أَن الَّذِي يقْرَأ عَلَيْهِ لَا بُد أَن يُؤثر عَنهُ، وَهُوَ مُخْتَار مقتدر على رد مَا يقْرَأ عَلَيْهِ، فَلَو سكت غير مُقَرر كَانَ ذَلِك مُؤذنًا بِفِسْقِهِ فالطريق الَّذِي يَقْتَضِي حمل لَفظه على الصدْق - وَهُوَ الثِّقَة وَالْعَدَالَة - فَذَلِك بِعَيْنِه يَقْتَضِي تنزل سكته منزلَة تَقْرِيره.
وَقد ذهب بعض أهل الظَّاهِر إِلَى أَنه لَا بُد من التَّصْرِيح بالتقرير، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ أوضح الرَّد عَلَيْهِم.
(198) فصل

[1100] اعْلَم أَن الشَّيْخ إِذا أجَاز أَن يرْوى عَنهُ حَدِيثا بِعَيْنِه أَو كتابا بِعَيْنِه وَقَالَ أجزت لَك أَن تحدث عني بِمَا فِي هَذَا الْكتاب، فَتجوز الرِّوَايَة

(2/389)


على هَذَا الْوَجْه، وَرُبمَا تعتضد الْإِجَازَة بالمناولة، وَهُوَ أَن يُجِيز الشَّيْخ رِوَايَة كتاب ويناول الْكتاب من أجَاز لَهُ رِوَايَته، وَلَيْسَت المناولة من الشَّرَائِط بل هُوَ مُؤَكد، ثمَّ لَا يَنْبَغِي للناقل أَن يُطلق فَيَقُول: حَدثنِي فلَان، فَإِن فِيهِ إيهاما وتدليسا وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يفصح بِالْإِجَازَةِ، ويتوقى اللّبْس. وَقد أَجمعُوا على جَوَاز النَّقْل على هَذَا الْوَجْه، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك مَعَ الْإِجْمَاع أَنه إِذا

(2/390)


صرح بِالْإِجَازَةِ فقد نقل مَا سمع من غير استرابة، وَمن نقل مَا لَا يستريب فِيهِ وَلَا منع من الإنباء عَنهُ فَلَا شكّ فِي جَوَاز إخْبَاره.
[1101] فَإِن قَالَ قَائِل: قد ثبتمْ جَوَاز النَّقْل على وَجه الْإِجَازَة، فَهَل تَقولُونَ إِنَّه يجب الْعَمَل بِهِ كَمَا يجب الْعَمَل بِالَّذِي سَمعه الرَّاوِي؟
قُلْنَا: هَذَا موقع االاختلاف فَذهب أهل الظَّاهِر وَمن تَابعهمْ من الْمُتَأَخِّرين إِلَى أَنه لَا يجب الْعَمَل بِهِ، وَيجْرِي مجْرى الْمُرْسل من الْأَخْبَار وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْعلمَاء أَنه يجب الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ الَّذِي نختاره وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن نقُول: لَا خلاف أَنا لَا نشترط سَماع الحَدِيث من لفظ الشَّيْخ، فَإِنَّهُ لَو أقرّ عَلَيْهِ وَقع الاجتزاء بِهِ، فَدلَّ أَنا إِنَّمَا نشترط أَن يصدر من الشَّيْخ عَلامَة دَالَّة على أَن الَّذِي ينْقل مِمَّا يَصح عِنْده، وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق بِالسُّكُوتِ، ويتحقق بِأَن يَقُول: انقل عني هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ صَحِيح عِنْدِي.
[1102] فَإِن قيل: فَنحْن لَا نكتفي بِالسُّكُوتِ، بل نشترط أَن يُقرر الشَّيْخ للقارئ كَمَا قَرَأت.
قُلْنَا: قد سبق الرَّد منا عَلَيْكُم فِي ذَلِك، على أَن تَقْرِيره إِيَّاه لَيْسَ هُوَ

(2/391)


نطق مِنْهُ بِنَفس الْخَبَر وَإِنَّمَا هُوَ لفظ دَال على أَن مَا قرئَ عَلَيْهِ صَحِيح عِنْده، وَهَذَا يتَحَقَّق فِي الْإِجَازَة لَا محَالة [124 / أ] .
[1103] فَإِن / قيل: الْإِجَازَة تنزل منزلَة الْمُرْسل من الْأَخْبَار.
قُلْنَا: هَذَا تحكم مِنْكُم، فَلم قُلْتُمْ ذَلِك، وَلَو جَازَ تَنْزِيله هَذِه الْمنزلَة [جَازَ] تَنْزِيل الْقِرَاءَة مَعَ سكُوت الشَّيْخ منزلَة الْمُرْسل، سنشبع القَوْل فِي الْمَرَاسِيل إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(199) فصل

[1104] إِذا نقل الْمعدل عَن الْعدْل حَدِيثا، ثمَّ أَن الْمَرْوِيّ عَنهُ أنكر الْخَبَر، فَهَل تصح رِوَايَة النَّاقِل عَنهُ؟
قُلْنَا: لَا يَخْلُو إِنْكَاره إِمَّا أَن يكون [إِنْكَار] مستريب وَإِمَّا أَن يكون إِنْكَار مصمم، فَإِن كَانَ إِنْكَار مستريب مثل أَن يَقُول الشَّيْخ الْمَنْقُول عَنهُ: لست أذكر مَا رويته، وَأَنا مشكك فِيهِ، فَهَذَا لَا يُوجب رد الرِّوَايَة عِنْد مُعظم أهل الحَدِيث، وَهُوَ الَّذِي نختاره فَأَما إِذا صمم على تَكْذِيب النَّاقِل

(2/392)


فَقَالَ: مَا سَمِعت مني أصلا، فَلَا يعْمل بِهَذَا الحَدِيث، ويتوقف فِيهِ، فَإِنَّهُ تعَارض فِيهِ قطع الْمَنْقُول عَنهُ بِالنَّفْيِ وَقطع النَّاقِل بِالنَّقْلِ، وَلَيْسَ أَحدهمَا أولى من الثَّانِي.
[1105] فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا جعلتم النَّاقِل أولى فَإِنَّهُ تثبيت زِيَادَة؟

(2/393)


قُلْنَا: فَإِن كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَفِي مُقَابلَته أصل آخر، وَهُوَ أَن القَوْل قَول الْمَنْقُول عَنهُ، فَإِنَّهُ الأَصْل وَمِنْه النَّقْل، فَلَمَّا تعَارض الأصلان أعرضنا عَن الحَدِيث.
[1106] فَإِن قيل: فَهَلا يكون تَكْذِيب الشَّيْخ للناقل جرحا مِنْهُ لَهُ؟
قُلْنَا: لَا فَإِنَّهُ لَو جَازَ ذَلِك جَازَ أَن يُقَال: تَكْذِيب النَّاقِل شَيْخه فِي إِنْكَاره يكون جرحا لَهُ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل اليه، فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا لم يُصَرح بِالْجرْحِ، بل يجوز أَن يقدر فِي قَول كل وَاحِد مَا لَا يَقْتَضِي الْجرْح، وَهُوَ ان يَقُول الشَّيْخ: أقطع بِأَنَّهُ لم يسمعهُ مني، وَلكنه لَعَلَّه غلط فَظن أَنه سمع، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الطّرف الآخر، فَهَذَا مَا نختاره، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء، وَزعم الْكَرْخِي وَمن تَابعه من متأخري أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه لَا يجب الْعَمَل بالْخبر إِذا تشكك فِيهِ الشَّيْخ وَلذَلِك لم يجوزوا الِاحْتِجَاج بِخَبَر الزُّهْرِيّ مُسْندًا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن

(2/394)


وَليهَا فنكاحها بَاطِل " لن ذَلِك ذكر لِلزهْرِيِّ رَحمَه الله وَلم يذكرهُ وَكَذَلِكَ ردوا خبر سُهَيْل بن ابي صَالح فِي الشَّاهِد وَالْيَمِين لِأَنَّهُ عرض عَلَيْهِ فَلم يذكرهُ وَرُبمَا كَانَ يَقُول: حَدثنِي بن ربيعَة عني.
[1107] وَالدَّلِيل على مَا صرنا إِلَيْهِ أَن نقُول: من نقل الحَدِيث وَهُوَ موثوق بِهِ وَلم يُصَرح شَيْخه بإنكاره فَلَيْسَ من شَرط اسْتِدَامَة الرِّوَايَة وَالنَّقْل دوَام الْعلم. فَإِن الْمَنْقُول عَنهُ لَو جن أَو مَاتَ أَو صَار مغفلا فَلَا تَنْقَطِع الرِّوَايَة عَنهُ إِذا تحملهَا الرَّاوِي بسلامة الْحَال، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اتِّفَاق الكافة على أَن الْمَنْقُول عَنهُ لَو شكّ بعد زمَان فِي لفظ من الحَدِيث أَو إِعْرَاب فَلَا يَقْتَضِي

(2/395)


ذَلِك رد الرِّوَايَة، وَكَذَلِكَ إِذا نسي أصل الْخَبَر.
فَإِن قَالُوا: تردده فِي الحَدِيث يوهنه ويضعفه، فَإِنَّهُ يبعد أَن يروي حَدِيثا ويدوم لَهُ السَّلامَة عَن الْآفَات والعاهات ثمَّ ينساه فِي مجاري الْعَادَات.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل، فَإِن الْإِنْسَان قد ينسى فِي اطراد الْعَادة أَكثر من ذَلِك، وَمن ادّعى على الْعَادة أَن الشَّيْخ الَّذِي نقل مائَة ألف حَدِيث لَا يجوز فِي الْعَادة أَن ينسى مِنْهَا وَاحِدًا فقد قرب من خرق الْعَادَات، وادعاء [124 / ب] المحالات، كَيفَ وَقد ينسى الْإِنْسَان قصَّة من الْقَصَص يعْذر اقتصاؤهاايام فِي فَكيف الظَّن بِحَدِيث لفظ بِهِ فِي سَاعَة.
[1108] فَإِن قَالُوا: إِذا نسي الرَّاوِي الحَدِيث فَلَا يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ، فَكيف يجب على الْغَيْر الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْمَنْقُول عَنهُ وَلَا يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ وَهُوَ الأَصْل.
قُلْنَا: هَذَا تلبيس مِنْكُم فانا نوجب عَلَيْهِ الْعَمَل كَمَا نوجب على غَيره مهما حدث عَنهُ عدل ثِقَة، وَهَكَذَا كَانَ يَأْخُذ سُهَيْل بن أبي صَالح بِمَا يرويهِ ربيعَة عَنهُ، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
(200) القَوْل فِي حكم الْعدْل إِذا انْفَرد بِنَقْل زِيَادَة لم يساعده عَلَيْهَا غَيره

[1109] مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث أَن الزِّيَادَة

(2/396)


من الثِّقَة مَقْبُولَة، وَإِن انْفَرد بهَا من بَين نقلة شَيْخه وَرُوَاته.
وَذهب بعض أهل الحَدِيث إِلَى أَنَّهَا لَا تقبل وَإِلَيْهِ مَال مُعظم أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله.
وَالَّذين قَالُوا بِقبُول الزِّيَادَة افْتَرَقُوا فرقا:

(2/397)


فَمنهمْ من قَالَ: إِنَّمَا تقبل الزِّيَادَة إِذا رجعت إِلَى لَفْظَة أَو حَالَة لَا تَقْتَضِي حكما زَائِدا. وَمِنْهُم من عكس ذَلِك فَقَالَ: إِنَّمَا نقبلها إِذا اقْتَضَت فَائِدَة جَدِيدَة، فَأَما إِذا كَانَت شاغرة عَن اقْتِضَاء فَائِدَة فَلَا نقبل.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَن من روى خَبرا مرّة ثمَّ نَقله أُخْرَى وَزَاد فِيهِ فَلَا تقبل زِيَادَته إِذا سمع ذَلِك الحَدِيث مِنْهُ دون الزِّيَادَة مرّة، فَأَما إِذا استبدل الْعدْل بِنَقْل الزِّيَادَة وَإِن لم ينقلها غَيره فَيقبل مِنْهُ.
[1110] وَالَّذِي يَصح فِي ذَلِك عندنَا قبُول الزِّيَادَة من الثِّقَة فِي كل هَذِه الْأَحْوَال من غير فصل.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اتفاقالكافة على أَن وَاحِدًا من أَصْحَاب الشَّيْخ الْمَنْقُول عَنهُ لَو انْفَرد بِرِوَايَة خبر تَامّ لم يساعده عَلَيْهِ سَائِر النقلَة فَيقبل مِنْهُ فَإِذا قبل مِنْهُ خبر انْفَرد بِهِ لكَونه ثِقَة مَأْمُونا فَكَذَلِك الزِّيَادَة، فَإِن المراعي فِي اصل الْخَبَر وزيادته ثِقَة الرَّاوِي، وَهُوَ فِي الأَصْل كَهُوَ فِي [الزِّيَادَة] .
[1111] فَإِن قيل: الْفرق بَين الخ خبر وَالزِّيَادَة أَنه غير مُمْتَنع أَن يسمع

(2/398)


الْوَاحِد الحَدِيث وَحده من شَيْخه أَو من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيمْتَنع أَن يحضر جمَاعَة وَيذكر لَهُم شيخهم خَبرا فيشذ عَن جَمِيعهم زِيَادَة ويستقل بهَا وَاحِد.
قُلْنَا: هَذَا بَاطِل من أوجه، أَحدهَا: أَنه لَا يبعد أَن يُعِيد الشَّيْخ أوالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث الْوَاحِد مرَارًا أَو يزِيد فِيهِ مرّة زِيَادَة، وَيكون ذَلِك بمشهد الَّذِي انْفَرد بنقلها دون غَيره، وَكَذَلِكَ فَلَا يبعد أَن يحضر طَائِفَة مَجْلِسا فيخص وَاحِدًا مِنْهُم بِنَقْل زِيَادَة والاتفاق عثوره عَلَيْهَا واشتغال البَاقِينَ عَنْهَا، وَيكثر تصور ذَلِك فِي الْعَادَات.
وَالَّذِي يُوضح مَا قُلْنَاهُ أَن نقُول: الثِّقَة يقطع بِسَمَاع الزِّيَادَة الَّتِي نقلهَا، وَغَيره من الثِّقَات لَا يكذبونه فِي ذَلِك.
بل يَقُولُونَ: لم يبلغنَا. فَإِذا لم يكذبوه وَهُوَ قَاطع بنقله فَلَا شكّ أَن الْأَخْذ بِمَا قطع بِهِ الثِّقَة أولى من الْأَخْذ بِمَا يشكك فِيهِ آخَرُونَ، فَإِذا أحكمت ذَلِك هان عَلَيْك إبِْطَال التفصيلات الَّتِي ذَكرنَاهَا.
[1112] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا روى الرَّاوِي حَدِيثا فجوده، ثمَّ رَوَاهُ مرّة أُخْرَى وَزَاد فِيهِ فَهَذَا يُوجب اتهامه فِي مجاري االعادات.
قُلْنَا: هَذِه / دَعْوَى مُجَرّدَة ويسبب إِلَى المطاعن فِي الثِّقَات من غير [125 / أ] تَحْقِيق، وَذَلِكَ أَن الْعدْل قد يروي الحَدِيث وَهُوَ جَاهِل عَن الزِّيَادَة، ثمَّ يتذكرها ويرويها، كَذَلِك لَيْسَ عَلَيْهِ أَن ينْقل جملَة الْقِصَّة فَرُبمَا نقل بَعْضهَا لِأَن الْحَاجة مست إِلَيْهِ فَلَمَّا تحققت الْحَاجة إِلَى الْبَقِيَّة نقلهَا.

(2/399)


[1113] وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن من ثبتَتْ عَدَالَته وامتحنت أَمَانَته فَمَا يبدر مِنْهُ مَا يقْدَح فِي الْعَدَالَة تَحْقِيقا لَا يحكم بالقدح بِسَبَبِهِ وَمَا أمكن حمله على مَا لَا يُنَافِي الْعَدَالَة، وَظهر وَجه قبُوله.
وَهَذَا الأَصْل هُوَ الْعُمْدَة فِي نفي المطاعن عَن الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ قد تقررت لنا عدالتهم، وكل مَا يوردونه من المطاعن فيهم، أَو فِي بَعضهم لَيْسَ يتحد وَجهه فِي اقْتِضَاء الطعْن فَكَانَ اسْتِصْحَاب الأَصْل أولى من رفضه بِمَا تقَابل فِيهِ الْجَوَاز.
(201) فصل

[1114] فَإِن قَالَ قَائِل: هَل يجوز للراوي أَن يروي بعض الحَدِيث، وَيتْرك بعضه فَلَا يرويهِ، ثمَّ يرويهِ بعد حِين؟
قُلْنَا: تَفْصِيل القَوْل فِيهِ عندنَا أَن مَا تَركه إِن كَانَ من تَمام مَا نَقله بِأَن يكون مُشْتَمِلًا على مَا هُوَ شَرط فِي مَضْمُون مَا وَرَاءه، فَلَا يجوز لَهُ ترك رِوَايَته اصلا، فَإِن الَّذِي رَوَاهُ لَا يسْتَقلّ دونه، وتمس الْحَاجة إِلَيْهِ، فينسب إِلَى الْإِخْلَال، أَو نقص الْمَنْقُول فِي هَذَا الْحَال.
فَأَما إِذا لم يكن مَا تَركه شَرط مَا قدمه، وَلم يكن مِنْهُ تسبب، بل اسْتَقل كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ بِنَفسِهِ، فَلهُ رِوَايَة الْبَعْض والإضراب عَن الْبَعْض.

(2/400)


وَهَذَا كَمَا يشْتَمل الْخَبَر الْوَاحِد على بَيَان الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَلَا تعلق لأَحَدهمَا بِالْآخرِ. وَذهب بعض أهل الحَدِيث إِلَى أَن التَّبْعِيض لَا يجوز فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا.
وَذهب بَعضهم إِلَى جَوَازه فِي الْحَالَتَيْنِ.
[1115] فَأَما وَجه الرَّد على من لم يجزه فِي الْحَالَتَيْنِ فَهُوَ أَن نقُول: إِذا اسْتَقل كل كَلَام بِنَفسِهِ وَلم يتَعَلَّق تَمام أَحدهمَا بِالثَّانِي، فينزلان منزله خبرين.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن تفرق الْمجَالِس لَا يُغير حكم النَّقْل، فَلَا فرق

(2/401)


بَين أَن يسمع الرَّاوِي أحكاما فِي مجْلِس وَاحِد سردا أَو بَين أَن يسْمعهَا نكرات ودفعات، وَهَذَا وَاضح.
[1116] وَأما وَجه الرَّد على من جوز فِي الْحَالَتَيْنِ التَّبْعِيض وَهُوَ أَن نقُول إِذا كَانَ الْمَنْقُول يفْتَقر فِي تَمَامه إِلَى بَيَان مَا سكت عَنهُ وَلم يَنْقُلهُ فَهَذَا إخلال بَين، وَأَقل مَا فِيهِ أَن يتسلط المجتهدون على اسْتِدْرَاك بَقِيَّة الْأَحْكَام بالمقاييس، فَرُبمَا يُخَالف مجاريها مَا لم يَنْقُلهُ ويقتصرون على رُوَاة من غير شَرط صِحَّته فَيَقَع ذَلِك مِنْهُم بَاطِلا.
(202) فصل

[1117] اعْلَم أَن الأولى بالشيخ أَن يتَجَنَّب التهم وموجبات الظنة فَإِذا علم أَنه لَو بعض خَبرا رَوَاهُ مرّة نَاقِصا وَمرَّة تَاما فيستوطن النقلَة بِهِ إِلَى تهمته ويعرفونه بِسوء الْحِفْظ لاعتقادهم منع ذَلِك وَإِذا تساوى الظَّن بِهِ أعلوه وَتركُوا مَا رَوَوْهُ وعطلوه فَإِذا علم ذَلِك مِنْهُم فَلَا يَنْبَغِي أَن يبعض الحَدِيث عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ لَو فعله كَانَ لبسا إِلَى مَا يكَاد يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل أَخْبَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَما إِذا علم أَنه وَإِن بعض الْخَبَر فَلَا جرح عَلَيْهِ لَو بعض.
(203) فصل

[1118] اخْتلف النَّاس فِي أَن الرَّاوِي لَو [اراد] نقل الحَدِيث

(2/402)


بِالْمَعْنَى، وَترك لفظ / الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظ شَيْخه، فَهَل يجوز لَهُ ذَلِك؟
فَمنهمْ من منع ذَلِك، وَأوجب نقل أَلْفَاظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرفا حرفا من غير إخلال وتبديل.
وَمِنْهُم من جوز النَّقْل على الْمَعْنى

(2/403)


و [إِلَيْهِ] صَار مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي كتاب الرسَالَة.
وَلَكِن فِيهِ تَفْصِيل، وَهُوَ أَن نقُول: إِن بدل اللَّفْظ فِيمَا يقطع عَن الله تَعَالَى فَإِن التبديل لَا يُغير الْمَعْنى فَلَا حرج عَلَيْهِ فِي هَذَا النَّوْع من التبديل.

(2/404)


وَذَلِكَ مثل أَن يُبدل قَوْله: " قَامَ " بقوله: " انتصب ناهضا "، وَقَوله " قعد " بقوله " جلس "، وَقَوله " علم " بقوله " عرف " إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يعلم قطعا أَنه لم يُبدل تَبْدِيل اللَّفْظ معنى.
وَأما إِذا جوز أَن الْمَعْنى يتبدل بتبديل اللَّفْظ، أَو علم أَنه لَا يتبدل بِاجْتِهَاد واستدلال وَهُوَ يجوز أَن يُؤَدِّي اجْتِهَاد غَيره إِلَى خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، فَلَا يسوغ هَذَا الضَّرْب من التبديل.
وَكَذَلِكَ من كَانَ جَاهِلا بمواقع الْخطاب، وَيجوز أَن يفضى بتبديله إِلَى تَغْيِير فَلَا نجد إِلَى ذَلِك سَبِيلا.
[1119] وَالدَّلِيل على جَوَاز التبديل عِنْد الْأَمْن من تَحْويل الْمَعْنى اتِّفَاقهم على جَوَاز تَرْجَمَة أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل اللُّغَات الْمُخْتَلفَة، وَهَذَا تَغْيِير اللَّفْظ، وَهُوَ أعظم من تَبْدِيل الْكَلِمَة الْعَرَبيَّة بِمِثْلِهَا.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك مَا قُلْنَاهُ: أَن الْمَقْصُود بِنَقْل أَلْفَاظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَانِيهَا وَمَا فِيهَا من قَضِيَّة التَّكْلِيف، وَلَيْسَ الْمَقْصُود أَعْيَان الْأَلْفَاظ، فَإِذا

(2/405)


علم قطعا أَدَاء الْمَعْنى مَعَ تجنبه الريب فِي مواقع الْخلاف، فقد أدّى الْمَقْصد.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الشَّاهِد إِذا أدّى مَا يحمل الشَّهَادَة عَلَيْهِ، فَلَا يُكَلف فِيهِ أَدَاء صور الْأَلْفَاظ، وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذ، عَلَيْهِ أَدَاء الْمَعْنى الْمَقْطُوع بهَا.
[1120] فَأَما الدَّلِيل على منع الْجَاهِل بمواقع الْخطاب والمستريب من التبديل فالإجماع على أَنه يعتضد أَن شَرط النَّقْل أَن يكون النَّاقِل قَاطعا بِمَا نقل، فَهَذَا يقْدَح فِي الْقطع بِالنَّقْلِ.
[1121] فَإِن اسْتدلَّ من أوجب نقل الْأَلْفَاظ بِأَعْيَانِهَا وَإِلَيْهِ صَار مُعظم أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله وَإِن كَانَ الَّذِي يدل عَلَيْهِ كَلَامه فِي " الرسَالَة " يجوز التبديل على الشَّرْط الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
فَإِنَّهُ قَالَ رَضِي الله عَنهُ: يجب أَن يروي الْمُحدث بِحُرُوفِهِ كَمَا سَمعه وَلَا يحدث بِهِ على الْمَعْنى وَهُوَ غير عَالم بِمَا يحِيل مَعْنَاهُ لما روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ رحم الله امراء سمع مَقَالَتي فوعاها فأداها كَمَا سَمعهَا فَرب مبلغ أوعى من سامع وَرب حَامِل الْفِقْه وَلَيْسَ بفقيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ.

(2/406)


[فَهَذَا] لَا حجَّة لَهُم فِيهِ فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوْمَأ إِلَى الْعِلَل الْمَانِعَة من التبديل، لما ذكر من اخْتِلَاف الْأَحْوَال وتباين النَّاقِل وَالْمَنْقُول إِلَيْهِ فِي الصِّفَات، فَدلَّ سِيَاق الْخطاب على ان التبديل إِذا كَانَ يَقْتَضِي قطعا أَو توقعا أحَال الْمَعْنى فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ، وَهَذَا مَا نقُول بِهِ، على أَن هَذَا الحَدِيث قد قوبل بِمَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " إِذا أصبت الْمَعْنى فَلَا بَأْس " وَهَذَا عَام فِي الْبَلَاغ عَنهُ وَعَن غَيره، على أَنه لَا يبلغ مبلغ الْخَبَر الأول فِي الصِّحَّة.
[1122] فَإِن قَالُوا من الْأَحْكَام مَا يُرَاعى فِيهَا أَعْيَان الْأَلْفَاظ

(2/407)


[26 / أ] كالتكبيرات فِي الصَّلَوَات وَنَحْوهَا من / الدَّعْوَات فَلَا سَبِيل إِلَى تَغْيِير الْأَلْفَاظ.
قُلْنَا: هَذَا تلبيس، وَذَلِكَ أَن مَا أشرتم إِلَيْهِ مَتى أوجب قولا ولفظا فَيتَعَيَّن نقل الْأَلْفَاظ وَلَيْسَ إِذا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " صلوا " فَإنَّا نعلم أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود لفظ يذكر، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود امْتِثَال مَعْنَاهُ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده فافترق الْأَمْرَانِ.

(2/408)