التلخيص في أصول الفقه (215) [بَاب النّسخ]
[1188] إِن شَاءَ الله تَعَالَى، قَالُوا: فَلَو خرج
الْمَأْمُور بِهِ عَن كَونه مَأْمُورا بِهِ وَصَارَ مَنْهِيّا
عَنهُ أدّى ذَلِك إِلَى أَن يصيرالحسن قبيحا وَلَو قدر الْأَمر
على الضِّدّ من ذَلِك أدّى ذَلِك إِلَى أَن يصير الْقَبِيح
حسنا إِذا انْقَلب الْمنْهِي عَنهُ مَأْمُورا بِهِ، وَهَذَا
يَقْتَضِي ان يصير المُرَاد مَكْرُوها وَالْمَكْرُوه مرَادا
وَالطَّاعَة عصيانا والعصيان طَاعَة، وَهَذَا محَال مفضى إِلَى
قلب الْأَجْنَاس، فَإِن الْقبْح وَالْحسن من صِفَات
الْأَجْنَاس عِنْدهم، وَتَقْدِير مَا يقلب الْأَجْنَاس محَال،
فالنسخ على تَقْدِير رفع الْأَمر إِثْبَات فِي مَعْلُوم الله
تَعَالَى يُؤذن بقلب الْأَجْنَاس أَو البداء على الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ، وَهَذَا بِعَيْنِه
مَذْهَب الْيَهُود الَّذين يُنكرُونَ النّسخ عقلا.
[1189] فَإِذا وضح ذَلِك من اصلهم قَالُوا: فالنسخ على
التَّحْقِيق لَيْسَ هُوَ رفع لعين مَا ثَبت من الحكم فِي
مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَلَكِن إِنَّمَا هُوَ تَبْيِين أَن
المُرَاد بِالنَّصِّ الأول تثبيت الحكم إِلَى وَقت وُرُود
النَّاسِخ، وَأَنه لم يرد بِهِ تثبيت الحكم الأول تثبيت الحكم
بِالنَّصِّ على التَّأْبِيد، فِي ابْتِدَاء مورده، فَيكون
النّسخ تبيينا لما أُرِيد بِاللَّفْظِ الأول، وَلَا يكون فِي
الْحَقِيقَة رَافعا لحكم ثَابت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى،
وَلذَلِك قيدوا حَدهمْ فَقَالُوا: هُوَ النَّص الدَّال على
(2/450)
أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ
الْمُتَقَدّم زائل وَلم يَقُولُوا هُوَ الدَّال على زَوَال
الحكم الأول، بل قدرُوا الزَّوَال فِي مثل حكمه فِي
الْمُسْتَقْبل، مصيرا مِنْهُم إِلَى أَنه غير مَا ثَبت
بِالنَّصِّ الأول وَمَا عنوا بالإزالة حَقِيقَتهَا، فَذَاك أَن
النّسخ لَا يزِيل حكما ثَابتا عِنْدهم بل عنوا بالزوال انه لم
يثبت أصلا مثل هَذَا الحكم فِي الِاسْتِقْبَال.
[1190] وتورط بعض الْفُقَهَاء فِي هَذَا الأَصْل لما جعلُوا
النّسخ تبيينا نازلا منزلَة تَخْصِيص الْأَزْمَان.
(2/451)
[1191] وَنحن نذْكر ر مَا نرتضيه من الْحَد
الْآن ثمَّ نومىء إِلَى وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ، فَالْأولى
أَن نقُول فِي حد النّسخ وَمَعْنَاهُ: هُوَ الْخطاب الدَّال
على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدّم على
وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ. وَإِنَّمَا
عدلنا عَن لفظ النَّص: فَإِن النَّص فِي تواضع
الْأُصُولِيِّينَ هُوَ
(2/452)
اللَّفْظ الْمُصَرّح بِهِ من غير تضمن،
وَلَا يخْتَص النّسخ بذلك، فَإِنَّهُ قد ثَبت لفحوى الْخطاب
وَإِن كَانَ ضمنا فِي الْكَلَام غير مُصَرح، فَهُوَ
وَأَمْثَاله ينْدَرج تَحت إِطْلَاق الْخطاب، وَإِن كَانَ يبعد
تَسْمِيَته نصا، وَقَيَّدنَا الحكم بالحكم وَلم نخصصه
بِالْأَمر فَإِن من النَّاس من يَقُول: هُوَ " ارْتِفَاع
الْأَمر الأول " وَفِيه اختلال فَإِن النّسخ لَا يتخصص
بالأوامر والنواهي، وَلَكِن يتَحَقَّق فِي جملَة الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة، حظرها وإباحتها وندبها واستحبابها، فَذكر الحكم
أَولا ثمَّ صرحنا فِي الْحَد بِأَن قُلْنَا: هُوَ " الْخطاب
الدَّال على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت ": فأنبأ ذَلِك صريحاعن
اقْتِضَاء النّسخ رفع حكم ثَابت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى،
على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله واحترزنا بقولنَا: " مَعَ
تراخيه " على التقييدات الْمُتَّصِلَة بالْكلَام، نَحْو قَوْله
سُبْحَانَهُ: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى الَّيْلِ} فَلَا
نقُول أَن قَوْله: {إِلَى الَّيْلِ} نَاسخ للصيام، بل هُوَ
كَلَام وَاحِد مُفِيد وتقييده يُبينهُ، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ
رفع حكم بعد ثُبُوته.
وَاعْلَم أَن مَا قيدنَا بِهِ الْحَد من رفع / الحكم بعد
ثُبُوته يُغْنِيك عَن ذَلِك، فَإِن هَذِه التغييرات لَا
تَتَضَمَّن رفعا بعد ثُبُوته، وَلَكِن من حكم النّسخ، أَن يَقع
مُتَأَخِّرًا على مَا سَنذكرُهُ من شَرَائِطه إِن شَاءَ الله
تَعَالَى، وَذكرنَا ذَلِك فِي الْحَد لهَذَا الْمَعْنى،
فَهَذَا هُوَ الْحَد السديد عندنَا.
[1192] ثمَّ اعلموا أَن من أصل أهل الْحق أَنهم لَا يستنكرون
أَن يثبت الحكم ثمَّ يرْتَفع عين مَا ثَبت وَذَلِكَ أَنا لَا
نعلق الشَّرَائِع بالإراده وَلَا نجْعَل
(2/453)
الْأَحْكَام من أَوْصَاف الْأَجْنَاس
حَتَّى يُؤَدِّي تَقْدِير رفع الحكم الثَّابِت إِلَى قلب
المُرَاد مَكْرُوها وَالْحسن قبيحا، وَمن ذَلِك لَا يُفْضِي
هَذَا الأَصْل إِلَى تَجْوِيز البداء على مَا سنصف البداء إِن
شَاءَ الله تَعَالَى، وَلَو خضت فِي أَحْكَام الإرادات والقبح
وَالْحسن لطال عَلَيْك تتبعه، وكنه ترى على شطر الْكَلَام،
وَلَكِن الْمَقْصد تنبيهك على الْقَاعِدَة، فَنَقُول لخصومنا
نَرَاكُمْ تصرحون بِأَن النّسخ لَيْسَ بِرَفْع الحكم الأول
الثَّابِت، وَهَذَا إِنْكَار مِنْكُم لأصل النّسخ، وَذَلِكَ
أَنكُمْ إذازعمتم أَن مِمَّا ثَبت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى
من الْأَحْكَام لَا يجوز تَقْدِير ارتفاعه وزواله وَإِنَّمَا
ثَبت بِمَا سميتموه نَاسِخا حكم مُجَدد، وَلَيْسَ هُوَ بنسخ
إِذا، وَإِنَّمَا هُوَ تثبيت حكمين فِي وَقْتَيْنِ لَا
يُنَافِي أَحدهمَا الثَّانِي وَلَا يناقضه بِحَال، فَلَا فرق
بَين إِثْبَات حكمين لَا يتناقضان فِي وَقت وَاحِد، وَبَين
إِثْبَات حكمين مُخْتَلفين فِي وَقْتَيْنِ، وَحَيْثُ انه لَا
يُنَافِي فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَا يتَضَمَّن وَاحِد من
الْحكمَيْنِ رفع الأول، وَلَكِن يتَبَيَّن أَن الأول لم يترفع
بعد ثُبُوته، وَالثَّانِي لم يثبت نقيضا لَهُ، وَهَذَا
تَصْرِيح بإنكار النّسخ، ثمَّ يُقَال لَهُم لَو كَانَ هَذَا
نسخا لَكَانَ خطاب يتَضَمَّن تثبيت حكم مجددنسخا وَإِن لم
يتَضَمَّن رفع مَا سبق، إِذْ إِذا اقْتضى تثبيت حكم على
ابْتِدَاء.
[1193] وَمِمَّا يُوضح تناقضهم فِي حَدهمْ أَنهم قَالُوا:
النّسخ هُوَ النَّص الدَّال على سُقُوط مثل الحكم االثابت ب
بِالنَّصِّ الأول على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابت.
فَيُقَال لَهُم: هَذَا تنَاقض عَظِيم مِنْكُم، فَإِنَّكُم
تَقولُونَ: تَبْيِين أَن المُرَاد بِاللَّفْظِ الأول الْقدر
الَّذِي ثَبت، وَلم يرد بِهِ إِلَّا هَذَا الْقدر ابْتِدَاء،
فَإِذا كَانَ هَذَا
(2/454)
قَوْلكُم فَأنى يَسْتَقِيم مِنْكُم أَن
تَقولُوا: لَوْلَا الثَّانِي لَكَانَ الحكم مستداما، فَإِن
عنْدكُمْ أَن الحكم فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان لم ينْدَرج تَحت
اللَّفْظ الأول إِرَادَة، فَكيف يسْتَمر أَن تَقولُوا أَنه
تثبيت الحكم لَوْلَا وُرُود النّسخ، فَبَطل مَا قَالُوهُ،
وَتبين تصريحهم بِأَن النَّاسِخ لَا يتَعَرَّض للمنسوخ
بِوَجْه، وَهُوَ مَعَه حكمان ثابتين فِي وَقْتَيْنِ، هَذَا مَا
لَا حِيلَة فِي دَفعه.
[1194] وَيُقَال لمن ذهب من الْفُقَهَاء أَن النّسخ هُوَ
تَبْيِين الْوَقْت: هَذَا تَصْرِيح مِنْكُم بِمثل مَا صرح بِهِ
الْيَهُود والمعتزلة أَن الثَّابِت يَسْتَحِيل رَفعه، وَهَذَا
نفي للسنخ، ثمَّ يُقَال إِن كَانَ ذَلِك تَخْصِيصًا، فَهَلا
جَازَ النّسخ بِمَا يجوز التَّخْصِيص بِهِ ف فَإِن قَالُوا
التَّخْصِيص تَأْوِيل لظَاهِر مُحْتَمل وَأما النَّص الأول فِي
بَاب النّسخ فَإِنَّمَا هُوَ نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل،
فَيُقَال لَهُم هَذِه غَفلَة عَظِيمَة فَإِنَّهُ لَو كَانَ لَا
يحْتَمل التَّأْوِيل وَكَانَ مستوعبا للأوقات نصا، فَكيف يجوز
على بَعْضهَا، فَهَذَا تَكْذِيب للنَّص وَتعرض للتخطئة فِيهِ،
وَإِن قدرتم النّسخ تَبينا
(2/455)
فقد أخرجتم الأول عَن كَونه نصا، فَهَذَا
مَا لَا حِيلَة فِيهِ /.
(216) فصل
[1195] اعْلَم أَن الْكَلَام يَدُور فِي أصُول النّسخ على
أَرْبَعَة من الْأَركان:
النَّاسِخ والنسخ [والمنسوخ] والمنسوخ عَنهُ، فَأَما النَّاسِخ
فيطلق على ثَلَاث معَان أظهرها أَن يُرَاد بِهِ الْقَدِيم
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ النَّاسِخ للشرائع والمثبت
لَهَا، فَيُقَال نسخ الرب تَعَالَى شَرِيعَة بشريعة وَقد يُطلق
النَّاسِخ على الْخطاب نَفسه، فَيُقَال نسخت آيَة آيَة، وَخبر
خَبرا، وَقد يُطلق مجَازًا على المعتقد فَيُقَال: فلَان نسخ
الْكتاب بِالسنةِ، مَعْنَاهُ يعْتَقد ذَلِك.
وَالتَّحْقِيق من ذَلِك كُله: أَن النَّاسِخ هُوَ الرب
تَعَالَى، والنسخ خطابه المنعوت [بالنعت] الَّذِي ذَكرْنَاهُ
فِي حد النّسخ، فَهَذَا بَيَان النَّاسِخ
(2/456)
والنسخ، فَأَما الْمَنْسُوخ: فقد يُطلق على
نفس الْآيَة وَالْخَبَر، فَيُقَال: آيَة مَنْسُوخَة، وَخبر
مَنْسُوخ، وَالظَّاهِر من مَعْنَاهُ الحكم الْمَرْفُوع بالنسخ
فَيرجع حَقِيقَة الْمَنْسُوخ إِلَى الحكم الْمَرْفُوع بالنسخ
الَّذِي سبق تحديده.
[1196] فَإِن قيل: فَهَلا قُلْتُمْ: أَن النّسخ يَنْقَسِم،
فَإِن نسخ حكم الْآيَة دون تلاوتها فالمنسوخ هُوَ الحكم، وَإِن
نسخت تلاوتها فالمنسوخ هُوَ الْآيَة.
قُلْنَا: ارْتِفَاع الْآيَة فِي عينهَا لَا يتَحَقَّق،
وَإِنَّمَا يؤول الِارْتفَاع إِلَى الحكم فِي الْحَالَتَيْنِ،
فَإِذا نهينَا عَن تِلَاوَة آيَة بعد أَن كُنَّا مأمورين
بتلاوتها فَيكون هَذَا النّسخ حكم عَنَّا وَهُوَ التِّلَاوَة.
(2/457)
(217) بَاب يجمع فصولاً مُتَفَرِّقَة
يحْتَاج إِلَيْهَا فِي مُقَدمَات النّسخ
[1197] مِنْهَا أَن تعلم أَن الشَّرَائِع على مَذَاهِب أهل
الْحق لَا تنبني على الابتناء على مصَالح الْعباد. وَلَا يجب
على الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى استصلاح عباده بهَا، فَيجوز
أَن يكون صَلَاحهمْ فِي إِثْبَات فِي معلومه، فينسخه، وَيجوز
أَن يكون صَلَاحهمْ فِي النّسخ [فيثبته] وَلَا ينسخه، يفعل
(2/458)
مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد، حَتَّى
نقُول على طرد ذَلِك لَو رفع التَّكْلِيف عَن كَافَّة
الْبَريَّة، حَتَّى لَا يبْقى فيهم مامور وَلَا مَنْهِيّ فِي
حكم من الْأَحْكَام، جَازَ ذَلِك عقلا، وَمَا من مَحْظُور
إِلَّا وَيجوز تَقْدِير إِبَاحَته وَمَا من مُبَاح إِلَّا
وَيجوز تَقْدِير حظره، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْوَاجِبَات
والمندوبات إِلَّا مَا يُؤَدِّي تَقْدِير تبديله إِلَى
تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وَذَلِكَ مثل أَن نقدر وُرُود
الْأَمر بِالْجَهْلِ بِهِ، وَنحن نعلم أَنه لَا يتَحَقَّق
التَّكْلِيف إِلَّا مَعَ الْعلم بالمكلف، فَمن ضَرُورَة أمره
أيانا بِالْجَهْلِ أَن نَكُون عَالمين بِهِ، فَكَأَنَّهُ
أمرنَا بِأَن نعلمهُ، وَلَا نعلمهُ، وَهَذَا من المستحيلات.
[1198] فَأَما الْقَدَرِيَّة فَإِنَّهَا قسمت الْأَحْكَام
تقسيما بعد أَن اتّفقت على [أَن] ارْتِفَاع التَّكْلِيف لَا
يجوز، وَاتَّفَقُوا على منع ارْتِفَاع التَّكْلِيف على أَنه
يجب على الله تَعَالَى وجوب حكمته أَن يستصلح عباده، وَلم
يَخْتَلِفُوا فِي وجوب طلب الصّلاح وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي
الْإِصْلَاح، ثمَّ قَالُوا الْأَحْكَام منقسمة فَمِنْهَا مَا
يدْرك وُجُوبه وَحسنه عقلا، وَيدْرك خطره وقبحه عقلا، فَمَا
كَانَ هَذَا سَبيله، فَلَا يجوز تَقْدِير النّسخ فِيهِ، حَتَّى
قَالُوا الْكفْر وَترك الشُّكْر لما كَانَ مَحْظُورًا عقلا لَا
يجوز وُرُود الشَّرْع بإباحته / وَكَذَلِكَ الظُّلم والابتلاء
[132 / ب] والاستعلاء على وَجه الاعتداء وَكَذَلِكَ [الزِّنَا]
وَنَحْوه من الْفَوَاحِش.
فَأَما مَا لَا يسْتَدرك فِيهِ الْقبْح وَالْحسن على
التَّعْيِين نَحْو الصَّلَوَات وأمثالها من الْعِبَادَات
فَيجوز تَقْدِير النّسخ فِيهَا.
[1199] وَمن الْفُصُول الَّتِي يجب أَن تحيط علما بهَا مَا
(2/459)
قدمْنَاهُ فِي صدر الْكتاب من أَن الْقبْح
وَالْحسن ليسَا بوصفين رَاجِعين إِلَى ذاتي الْقَبِيح وَالْحسن
وَإِنَّمَا يرجعان إِلَى الْأَمر بالثناء على فَاعل أَحدهمَا
والذم لفاعل الثَّانِي. وأطبقت الْمُعْتَزلَة على أَن الْحسن
وصف لِلْحسنِ وَهُوَ فِي ذَاته وَيدْرك ذَلِك الْوَصْف عقلا
وَكَذَلِكَ الْقبْح وصف للقبيح رَاجع إِلَى ذَاته، ثمَّ
قَالُوا الْقبْح وَالتَّحْرِيم آئلان إِلَى وصف وَاحِد، وَأما
الْحسن وَالْوُجُوب فَلَا يرجعان إِلَى وصف وَاحِد إِذْ قد
ثَبت حسن لَيْسَ بِوَاجِب، ومحصول قَوْلهم يتَضَمَّن أَن
الْحسن وَالْوُجُوب وصفان راجعان إِلَى ذَات الْوَاجِب.
(218) فصل
[1200] اعْلَم أَنه لَا بُد أَن يجْتَمع فِي النَّاسِخ
والمنسوخ أَوْصَاف ليَصِح وصفهَا بالنسخ والمنسوخ. فأحد
الشَّرَائِط أَن يَكُونَا حكمين شرعيين ثابتين بخطابين. فَيخرج
عَن ذَلِك أَن مَا يسْتَدرك عقلا فِي أَوْصَاف الْأَجْنَاس من
الْأَوْصَاف الْجَائِزَة والواجبة رُبمَا يُسمى أحكاما فِي
تواضع الْمُتَكَلِّمين، فَيُقَال من حكم الْجَوَاهِر أَن
يتحيز، وَمن حكم الْعرض أَن يقوم بِالْمحل فَلَا يتَحَقَّق
النّسخ فِي هَذَا وَأَمْثَاله، وَلذَلِك فلسنا نثبت بِالْعقلِ
حكما قبل وُرُود الشَّرَائِع من حظر أَو إِبَاحَة حَتَّى
نجْعَل الشَّرِيعَة بِحكم الْعقل، وَكَذَلِكَ اخْتصَّ بالخطا
بَين المشتملين على الْحكمَيْنِ الشرعيين وَلأَجل هَذَا
الشَّرْط خرج عَن حكم النّسخ سُقُوط التَّكْلِيف عَن الْمَيِّت
وَالْمَجْنُون فَإنَّا قد قيدنَا الْكَلَام بالخطابين.
(2/460)
[1201] على أَنا سنذكر شرطا آخر يتَضَمَّن
إِخْرَاج هَذَا الْقَبِيل عَن حَقِيقَة النّسخ فَنَقُول من
شَرط النَّاسِخ أَن يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمَنْسُوخ فَلَا
يجوز اقترانه على سَبِيل الِاتِّصَال كَمَا يتَّصل
الِاسْتِثْنَاء بالمستثنى عَنهُ، وَلِهَذَا من الْمَعْنى
اسْتِحَالَة أَن يُقَال أَن قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا
الصّيام إِلَى الَّيْلِ} من قبيل النَّاسِخ والمنسوخ، حَتَّى
يُقَال أثبت الصَّوْم أَولا ثمَّ نسخه عَن اللَّيْل آخرا، أَو
يفضيه هَذَا الشَّرْط إِخْرَاج الْمَيِّت عَن كَونه نَاسِخا
فَإِن كل حكم فِي الشَّرِيعَة مُقَيّد لفظا أَو إِجْمَاعًا
بِبَقَاء التَّكْلِيف فَإِن كَانَ الْأَمر على هَذَا الْوَجْه
فَهُوَ مستخرج عَن كل خطاب أَولا، فَلَو كَانَ سَبيله النّسخ
لما جَازَ ثُبُوته على سَبِيل الاقتران.
[1202] وَمن شَرط النّسخ أَن يكون رفعا لحكم ثَابت على مَا
أوضحناه.
[1203] ثمَّ اعْلَم أَنه لَا نَاسخ على الْحَقِيقَة إِلَّا
الله تَعَالَى، وَلَا يتَحَقَّق نسخ إِلَّا بأوامره ونواهيه
وإباحته، وَإِن سميت سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
نسخا فَذَلِك على التَّجَوُّز، فَإِنَّهُ مبلغ مؤد عَن ربه
وَلَيْسَ ينفى حكما وَلَا يثبت من فَقِيه نَفسه، فيؤل كل نفي
وَإِثْبَات إِلَى كَلَام الله تَعَالَى، فَهَذَا مَا نشترط فِي
النَّاسِخ والمنسوخ، وَقد انطوى على جَمِيعهَا / الْحَد
الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
[1204] وَقد انْفَرد أَقوام بِاشْتِرَاط أَوْصَاف سوى مَا
ذَكرْنَاهُ، وَسَيَأْتِي فِي ذكر مذاهبهم أَبْوَاب، وَهَذَا
نَحْو اشتراطهم بِقَضَاء وَقت الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ
(2/461)
أَولا حَتَّى لم يجوزوا تَقْدِير النّسخ
قبل أَن ينقضى من الْوَقْت مَا يسع الْمَأْمُور بِهِ أَولا،
على مَا سنتقصي القَوْل فِي ذَلِك وَأَمْثَاله فِي أَبْوَاب
مبوبة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(219) القَوْل فِي الْفرق بَين النّسخ والبداء وَبَين النّسخ
والتخصيص
[1205] اعْلَم، وفقك الله، وَأحسن إرشادك أَن الْفرق بَين
النّسخ والبداء يتَحَقَّق بِأَن نذْكر حقيقتهما فيتميز
أَحدهمَا على الثَّانِي، أما حَقِيقَة النّسخ فقد سبقت، وَأما
حَقِيقَة البداء وَمَعْنَاهُ فهواستدراك علم مَا كَانَ خفِيا
مَعَ جَوَاز تَقْدِير الْعلم بِهِ فَكل من عثر على علم شَيْء
ابْتِدَاء وَكَانَ يجوز أَن يُعلمهُ قبل ذَلِك فَيُقَال قد بدا
لَهُ، وأصل البداء الظُّهُور بعد الخفاء، وَمِنْه يُقَال بدا
عجز فلَان إِذا ظهر وبدا الطّلع إِذا طلع وبدا لكم فلَان شَره،
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وبدا لَهُم سيئات مَا كسبوا}
وَقَوله تَعَالَى: {يخفون فِي أنفسهم مَا لَا يبدون لَك} وَقد
يُسمى النَّدَم بداء أَيْضا والندم من قبيل
(2/462)
الإرادات، وَهُوَ التلهف والتأسف، فَهَذَا
حَقِيقَة البداء.
[1206] فَإِذا ثَبت الحقيقتان، رتبنا عَلَيْهِمَا، وَقُلْنَا
لمنكري النّسخ من الْيَهُود والقدرية، فَإِنَّهُم وافقوا
الْيَهُود فِي منع رفع الحكم بعد ثُبُوته، إِذا أثبت الله حكما
على عباده، ثمَّ رَفعه، فقد زعمتم أَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى
البداء فَلَا تخلون فِيمَا قلتموه أَن تَقولُوا: إِنَّه
يُؤَدِّي إِلَى أَن يعلم مَا كَانَ خافيا عَلَيْهِ، فَهَذَا
محَال، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل عَالما، وَلَا
يزَال عَالما بِمَا كَانَ، وَبِمَا يكون، وَبِمَا لَا يكون،
لوكان كَيفَ كَانَ يكون، وَلم يثبت الحكم على الْمُكَلّفين
إِلَّا وَقد كَانَ عَالما عِنْد إثْبَاته أَنه سينسخه فَبَطل
أَن يكون النّسخ مقتضيا اسْتِدْرَاك علم أَو توصلا إِلَى
معرفَة مكتتم مستتر، وَإِن عنيتم بالبداء أَنه يصير كَارِهًا
لما كَانَ آمرا بِهِ مرِيدا لَهُ، ومريدا لما كَانَ كَارِهًا
لَهُ فَهَذَا لَا يَسْتَقِيم على أصُول أهل الْحق، فَإِن
تَكْلِيف الْعِبَادَة لَا يَنْبَنِي على الْإِرَادَة
والكراهية، فقد يَأْمر الرب بِمَا لَا يُرِيد وَقد يُنْهِي
عَمَّا يُرِيد، وكل الْحَوَادِث مُرَاد لله تَعَالَى مَعَ
اخْتِلَاف صفاتها، وَهَذَا يستقصي فِي الديانَات، فَبَطل
الاسترواح إِلَى الْعلم والإرادة.
[1207] وَإِنَّمَا عنوا بالبداء أَنه يَجْعَل الْحسن قبيحا
والقبيح حسنا والمصلحة مفْسدَة والمفسدة مصلحَة، وَهَذَا مَا
لَا تَحْقِيق لَهُ أصلا وَذَلِكَ أَن الْقبْح وَالْحسن لَا
يرجعان إِلَى صِفَات الْأَفْعَال على أصُول أهل الْحق كَمَا
قدمْنَاهُ وَإِنَّمَا التقبيح أَمر بالذم والتحسين أَمر بِحسن
الثَّنَاء كَمَا قدمْنَاهُ من أصولنا، على أَنا لَو قَدرنَا
الْحسن والقبح من أَوْصَاف الْأَجْنَاس، وَكَانَ مِمَّا يسوغ
تَقْدِير تَغْيِيره مَا يُوجب البداء، كَمَا لَيْسَ فِي إماتة
الله الأخيار وإحيائه الْمَوْتَى وَسَائِر أَحْكَامه المتعاقبة
فطْرَة وخلفا مَا يُوجب البداء، فَبَطل ادِّعَاء البداء على
أصُول أهل الْحق، وَإِنَّمَا يصور مدرك ذَلِك على قَوَاعِد
الْمُعْتَزلَة
(2/463)
فَإِنَّهُم وافقوا الْيَهُود فِي أصل
التَّعْدِيل والتجوير وَبِنَاء التَّكْلِيف / على \ الْمصَالح.
3 [1208] فَإِن قَالُوا فَمَا وَجه حسن النّسخ عنْدكُمْ.
قُلْنَا إِن طلبتم منا إِيضَاح وَجه فِي الْمصلحَة
الْمُتَعَلّقَة بالنسخ فقد رمتم منا فرعا لَا نقُول
بِأَصْلِهِ، فَإنَّا نجوز أَن لَا تكون لِلْعِبَادَةِ مصلحَة
فِي إِثْبَات الشَّرَائِع ونسخها، على أَن النّسخ
وَالْإِثْبَات، والتحسين والتقبيح، والايجاب وَالتَّحْرِيم،
كلهَا يؤول إِلَى كَلَام الرب تَعَالَى، وَكَلَامه مَوْصُوف
بالقدم على أصُول أهل الْحق، وَمَا اتّصف بالقدم اسْتَحَالَ
وَصفه بالْحسنِ والقبح من الصِّفَات المعتورة على الْحَوَادِث،
على أَنا نقُول: لَو خضنا مَعكُمْ فِي فَاسد أصلكم فِي القَوْل
بالصلاح وَوُجُوب تضمن التَّكْلِيف لَهُ، فقد يكون فِي رفع
الحكم بعد ثُبُوته أعظم الْمصلحَة للعباد بِأَن يعلم
سُبْحَانَهُ أَنه إِذا أَمرهم بِأَمْر ابتدروا إِلَى الْعَزْم
وتوطين النَّفس على امتثاله وَلَو بَقِي عَلَيْهِم الحكم
لامتنعوا وانفضوا وطغوا واستوجبوا عِقَابه، فيأمرهم ليعزموا
على الِامْتِثَال وَلَو أمروا على الْعَزْم ثمَّ ينْسَخ
عَنْهُم مَا اثْبتْ عَلَيْهِم من الحكم حَتَّى لَا يستوجبوا
نقمته بالامتناع عَن الِامْتِثَال، وَهَذَا وَاضح فِي طلب
الْمصلحَة على مُقْتَضى أصولكم مَعَ أَنه تجَاوز منا لأصلنا.
(220) فصل
[1209] فَإِن قَالَ قَائِل قد ذكرْتُمْ الْفرق بَين النّسخ
والبداء فَمَا الْفرق بَين النّسخ والتخصيص؟ قُلْنَا يتَحَقَّق
الْفَصْل بَينهمَا بِذكر حَقِيقَتهَا، وَقد سبق
(2/464)
ذكرهمَا جَمِيعًا على أَنا نعيدها لنوصلك
إِلَى الْمَقْصُود فِي الْبَاب فَنَقُول النّسخ هُوَ رفع الحكم
بعد ثُبُوته على الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي حد النّسخ
وَحَقِيقَته، ولسنا نقُول تبين لنا بِالْخِطَابِ الْمُتَأَخر
المتضمن نسخا أَنه لم يرد بِالْخِطَابِ أَولا إِلَّا مَا مضى،
بل نقُول يتَنَاوَل الْخطاب الأول ثُبُوت الحكم فِي مُسْتَقْبل
الزَّمَان حَقِيقَة وَلَكِن بالنسخ رفع مَا ثَبت حكمه فَأَما
التَّخْصِيص فَإِنَّهُ لَا يتَضَمَّن رفع حكم ثَابت فِي
مَعْلُوم الله وَلكنه يتَضَمَّن تَبْيِين اخْتِصَاص اللَّفْظ
بِبَعْض المسميات.
[1210] وَهَذَا لَا يَسْتَقِيم على أصُول الْقَدَرِيَّة،
فَإِنَّهُم يجْعَلُونَ النّسخ تثبيتا فِي الْأَزْمَان كَمَا
إِن التَّخْصِيص تَبْيِين فِي الْأَعْيَان، فَهَذِهِ قَاعِدَة
الْبَاب.
[1211] ثمَّ اعْلَم أَن النّسخ يُفَارق التَّخْصِيص فِي جمل من
الْأَوْصَاف. مِنْهَا: أَن من شَرط النّسخ استيخاره عَن
الْمَنْصُوص الْمَنْسُوخ، وَلَا يشْتَرط ذَلِك فِي
التَّخْصِيص، فَإِنَّهُ قد يكون مُتَّصِلا، وَقد يكون
مُنْفَصِلا وأقواه أَن يكون مُتَّصِلا.
[1212] وَمِمَّا يُفَارق النّسخ فِيهِ التَّخْصِيص: أَنه يجوز
اعتوار النّسخ
(2/465)
على الحكم الْوَاحِد فِي الشَّخْص
الْوَاحِد، وَلَا يجوز التَّخْصِيص على هَذَا الْوَجْه، فَإِن
الْوَاحِد لَا يدْخلهُ التَّخْصِيص فَإِن التَّخْصِيص ينسخه
التَّعْمِيم وَلذَا لم يتَحَقَّق عُمُوم لم يتَقَدَّر بعده
خُصُوص. [134 / أ]
[1213] وَمن الْفرق بَينهمَا أَن التَّخْصِيص لَا يَنْفِي
التَّمَسُّك / بِأَصْل الْمُخَصّص فِي المسميات كَمَا قدمنَا
فِي بَاب مُفْرد، وَإِذا ثَبت فِي حكم آيَة فَلَا سَبِيل إِلَى
التَّمَسُّك بهَا بعد تحقق النّسخ فِيهَا.
[1214] وَيُفَارق النّسخ التَّخْصِيص على أصُول الْقَائِلين
بِمَنْع تَأْخِير الْبَيَان، فَإِنَّهُم وَإِن منعُوا تَأْخِير
التَّخْصِيص عَن اللَّفْظ الَّذِي صيغته الْعُمُوم، فَلَا
يمنعوا تَأْخِير النّسخ عَن الْمَنْسُوخ، بل أوجبوا ذَلِك
فِيهِ، وَإِن كَانَ النّسخ عِنْدهم بَيَانا فِي الْأَزْمَان
لَا رفعا لحكم ثَابت كَمَا ان التَّخْصِيص بَيَان.
[1215] وَمِمَّا يُفَارق النّسخ فِيهِ التَّخْصِيص أَنه إِذا
ثَبت الحكم بخطاب مَقْطُوع بِهِ فَلَا يجوز نسخه بخطاب مظنون
بِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنا لَا نجوز نسخ حكم الْقرَان بأخبار
الْآحَاد وَلَا نجوز نسخ الْخَبَر الْمُتَوَاتر بِخَبَر
الْآحَاد على مَا سَيَأْتِي تَفْصِيل القَوْل فِي ذَلِك إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
(2/466)
(221) بَاب يجمع اخْتِلَاف النَّاس فِي
جَوَاز النّسخ، وَمنعه، وَذكر مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ
[1216] اعْلَم مَا صَار إِلَيْهِ كَافَّة الْمُسلمين جَوَاز
النّسخ، وَأما الْيَهُود فقد ذهبت إِلَى منع النّسخ وافترقوا
فرْقَتَيْن، فَمنهمْ من منع النّسخ
(2/467)
عقلا وَذهب إِلَى أَن شَيْئا من
الشَّرَائِع لم يدخلهَا نسخ، وَأَن الَّذين قبل مُوسَى من
الْأَنْبِيَاء كَانُوا متعبدين بِمثل مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَام. وَذهب بَعضهم إِلَى جَوَاز النّسخ عقلا وَمنعه سمعا
فزعموا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أخبر بني إِسْرَائِيل
أَن شَرعه لَا يَزُول مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض،
وَذَهَبت فِئَة من المنتمين إِلَى الْإِسْلَام إِلَى منع
النّسخ هربا من
(2/468)
البداء، واعتقادا مِنْهُم أَن النّسخ
يُؤَدِّي إِلَيْهِ، ثمَّ زَعَمُوا أَن لَا نسخ فِي شَيْء من
الشَّرَائِع.
[1217] وَالَّذين جوزوا النّسخ ذهب الْجُمْهُور مِنْهُم إِلَى
منع البداء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ويحكى عَن
الروافض تَجْوِيز البداء على الله سُبْحَانَهُ، وَرُبمَا
يأثرون ذَلِك عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بطرِيق لَا يكَاد
يَصح ويروون عَنهُ أَنه قَالَ: لَوْلَا آيَة من كتاب الله
تَعَالَى قَوْله: {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم
الْكتاب} لأنبأتكم بِمَا يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
قَالُوا: فَمَنعه عَن الْإِخْبَار بالغيوب تجويزه البداء،
وَرووا عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد أَنه قَالَ: مَا بدا لله فِي
شَيْء كَمَا بدا لَهُ فِي ذبح إِسْمَاعِيل
(2/469)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرووا عَن مُوسَى
بن جَعْفَر أَنه قَالَ: " البداء ديننَا وَدين آبَائِنَا
الْأَوَّلين ". وَلَا شكّ أَن هَذِه الرِّوَايَات عَن عَليّ
وَعَن الْأَئِمَّة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ مُخْتَلفَة لَا تكَاد
تصح، فَهَذِهِ جملَة الْمذَاهب.
[1218] فَأَما وَجه الرَّد على من زعم نفي النّسخ فَهُوَ أَن
نقُول لاتخلون إِمَّا أَن تَقولُوا النّسخ مُمْتَنع عقلا أَو
تَقولُوا هُوَ مُمْتَنع سمعا جَائِز عقلا، فَإِن صرتم إِلَى
امْتِنَاعه عقلا فَيُقَال لَهُم لَيْسَ بَين الاستحالة
وَالْجَوَاز رُتْبَة فِي الْعُقُول فَإِذا انحسمت طرق
الاستحالة لم يبْق بعْدهَا إِلَّا الْجَوَاز، فَإِذا أَمر الله
تَعَالَى بِشَيْء ثمَّ نهى عَنهُ فَلَا تَخْلُو اسْتِحَالَة
ذَلِك إِمَّا أَن يكون للتبديل والتغيير، فَهَذَا محَال، فان
من نعت الْمَخْلُوقَات والمبدعات بأسرها أَن تبدل، فَلَو
اسْتَحَالَ السنخ لكَونه تبديلا التحقت الْفطْرَة بِأَبْوَاب
الاستحالات [134 / ب] وَإِن زَعَمُوا أَن ذَلِك مُسْتَحِيل /
لانقلاب المُرَاد مَكْرُوها والمصلحة مفْسدَة، فقد أوضحنا من
أصُول أهل الْحق أَن الشَّرَائِع لَا تتَعَلَّق بقضية
الْإِرَادَة وَلَا
(2/470)
مُعْتَبر فِيهَا بالمصالح، وَهَذَا مَا لَا
مطمع فِي تَقْرِيره هَهُنَا، وَإِن زَعَمُوا أَن النّسخ
يَسْتَحِيل لإفضائه إِلَى البداء قسمنا عَلَيْهِم القَوْل فِي
البداء كَمَا قدمْنَاهُ فِي الْفرق بَين النّسخ والبداء، وَإِن
قَالُوا: فِي تَجْوِيز النّسخ قلب الْأَجْنَاس، فقد أوضحنا
بطلَان ذَلِك بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة فَلَا يبْقى بعد ذَلِك
إِلَّا القَوْل بِالْجَوَازِ.
[1219] وَإِن قَالُوا إِن النّسخ جَائِز عقلا مُمْتَنع سمعا
وذهبوا فِي ذَلِك إِلَى إِخْبَار مُوسَى بني إِسْرَائِيل
بتأبيد شَرِيعَته، فَهَذَا كذب صراح مِنْهُم، وَأول مَا
يقابلون بِهِ أَن يدعى عَلَيْهِم مثل ذَلِك فِي تأبد شَرِيعَة
من قبل مُوسَى، ثمَّ نقُول لَو صَحَّ مَا قلتموه لَكَانَ صدقا
قطعا حَقًا لوُجُوب عصمَة الْأَنْبِيَاء عَن الْخلف، ثمَّ
يمْنَع ظُهُور المعجزات على يَدي من يَدعِي نسخ شَرِيعَة
مُوسَى، وَقد وضحت معجزات نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بالطرق الَّتِي وضحت معجزات مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ،
فَلَو كَانَ مَا قلتموه صَحِيحا لما ثبتَتْ المعجزات مصدقة لمن
يَدعِي خِلَافه، أَو نقُول هَذَا شَيْء أحدثه فِيكُم بعض
الجهلة وَقد قيل إِن أول من لقنهم ذَلِك ابْن الراوندي لَعنه
الله، {ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره
الْكَافِرُونَ} فَنَقُول لَو كَانَ مَا ذكرتموه صَحِيحا
لَكَانَ أولى الاعصار والأوقات بِإِظْهَار ذَلِك فِي عصر
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد كَانَت الْيَهُود
بوقته يحاجونه ويجادلونه، وَمَا قَالَ قَائِل مِنْهُم مَا
قلتموه وَلَو كَانَ صَحِيحا لَكَانَ أولى مقالاتهم ذَلِك بل
كَانُوا يُنكرُونَ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ويزعمون أَنه
(2/471)
لَيْسَ هُوَ النَّبِي الْمَبْعُوث عِنْدهم
فِي التوارة، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
[1220] وَأما الْكَلَام على مجوزي البداء فَيتَعَلَّق بأصول
الديانَات، وعَلى أَنا نقسم الْكَلَام عَلَيْهِم فَنَقُول مَا
الَّذِي عنيتم بالبداء؟ اسْتِدْرَاك الرب تَعَالَى علما لم يكن
منعوتا بِهِ؟ فقد وصفتموه بالحوادث، والرب يجل عَن قبُول
الْحَوَادِث، وَلَو قبلهَا لم يَنْفَكّ مِنْهَا، وَمَا لَا
يَنْفَكّ عَنْهَا لم يسبقها، وَمَا لَا يسبقها حَادث مثلهَا،
فَإِن طَرِيق الِاسْتِدْلَال على حُدُوث الْعَالم اعتوار
الْحَوَادِث عَلَيْهَا، وَفِي الْمصير إِلَى تَجْوِيز
الْحَوَادِث على الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - تَعَالَى الله
علوا كَبِيرا - مصير إِلَى حُدُوثه أَو إِلَى سد بَاب
التَّوَصُّل إِلَى حدث الْعَالم.
[1221] وَأما من قَالَ من الإسلاميين بِمَنْع النّسخ فَلَقَد
أبدى عَظِيمَة لَا يشْعر بغيتها، ونكلم على الْمنْهَج الَّذِي
كلمنا الْيَهُود، ونبين لَهُ كَون النَّاسِخ من الجائزات،
وَإِن قَالُوا: هُوَ جَائِز عقلا مُمْتَنع شرعا، سئلوا عَن
الدَّلِيل الدَّال على منع النّسخ سمعا فَلَا يَجدونَ فِي
ذَلِك معتصما، على أَنا نقُول لَهُم،: فِيمَا قلتموه جحدا
وسلفا فَإِنَّهُم مَا زَالُوا فِي الصَّدْر الأول وَبعده من
الْأَعْصَار يعتنون بِذكر النَّاسِخ ولمنسوخ، ويذكرون
تفاصيلهما وَمن جحد ذَلِك من قَول الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ فقد
تسبب إِلَى جحد التَّوَاتُر والاستفاضات، فَمَا زَالُوا
يعلمُونَ أَن التَّرَبُّص فِي حق المتوفي عَنْهَا زَوجهَا [835
/ أ] سنة، مسنوخا بالتربص أَرْبَعَة اشهر وَعشرا وَكَانُوا
يذكرُونَ / الْآيَتَيْنِ والمنسوخ، وَكَذَلِكَ مَا زَالُوا
يتفاوضون بنسخ فرض تَقْدِيم الصَّدَقَة على
(2/472)
مُنَاجَاة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَكَذَلِكَ نسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس،
وَكَذَلِكَ نسخ تَحْلِيل الْخمر إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول
تتبعه.
[1222] على أَنا نقُول: أَجمعت الْأمة على أَن دين مُحَمَّد
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وملته لَيْسَ هِيَ مِلَّة مُوسَى
وَعِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِم، وَأَن مِلَّته تَضَمَّنت نسخا
لما قبلهَا من الْملَل، فَمن جوز هَذَا الْإِجْمَاع فَلَا
يبْقى لَهُ عصمَة يعتصم بهَا فِي تثبيت ظُهُور رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَظُهُور معجزاته بطرق التَّوَاتُر، على
أَن فِي كتاب الله تَعَالَى آيَات دَالَّة على أَن النّسخ،
نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة وَالله
أعلم بِمَا ينزل} وَقَوله تَعَالَى: {فبظلم من الَّذين هادوا
حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات أحلّت لَهُم} وَقَوله تَعَالَى: {مَا
ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أومثلها} وَقد بَطل
ادعاؤهم امْتنَاع النّسخ شرعا، وَلَهُم على هَذِه الْآيَات
أسئلة وتمويهات يسهل مدركها على انه لَيْسَ لَهُم معتصم
(2/473)
يتمسكون بِهِ فِي منع النّسخ شرعا.
(222) القَوْل فِي جَوَاز دُخُول النّسخ فِي الْأَخْبَار،
وَوجه الْخلاف
(2/474)
[1223] اعْلَم، وفقك الله، ان هَذَا بَاب
يعظم خطره فِي أصُول النّسخ وَنحن الْآن ننبهك على اخْتِلَاف
النَّاس فِيهِ، ونبين الصَّحِيح مِنْهُ إِن شَاءَ الله
تَعَالَى فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا جوزتم أَن مَا أَمر الرب
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِشَيْء، ثمَّ يُنْهِي عَن عين مَا
أَمر بِهِ، وَيكون الْمنْهِي الْمُتَأَخر نَاسِخا لوُجُوب
الْأَمر الْمُتَقَدّم بأفضاله فَهَل تجوزون أَن يخبر الرب
سُبْحَانَهُ من الغايات نصا، ثمَّ يخبر بعده أَن الْأَمر
لَيْسَ كَذَلِك وَأَن مَا أخْبرت عَن وُقُوعه لَا يَقع وَمَا
أخْبرت عَن عدم وُقُوعه يَقع.
قُلْنَا: قد بَينا أَن حَقِيقَة النّسخ رفع الحكم بعد ثُبُوته
وأوضحنا أَن من الإسلاميين من يصير إِلَى أَن النّسخ تبين
انْقِطَاع مُدَّة الْعِبَادَة وَهُوَ نَازل منزلَة التَّخْصِيص
الْمُبين لاخْتِصَاص اللَّفْظ بِبَعْض المسميات، فَإِن مَا
ثَبت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى فَلَا يرْتَفع، وَلَا ينْسَخ،
وَلَكِن يبين النَّاسِخ أَنه كَانَ المُرَاد بهَا سبق ثُبُوت
الحكم إِلَى هَذَا الْوَقْت.
[1224] وللاختلاف فِي هَذِه الْقَاعِدَة ينشأ خلاف فِي جَوَاز
نسخ الْأَخْبَار، فَذهب كل من صَار إِلَى أَن النّسخ تَبْيِين،
وَلَيْسَ بِرَفْع حَقِيقِيّ لِثَابِت إِلَى جَوَاز النّسخ فِي
الْأَخْبَار على هَذَا التَّأْوِيل فَقَالُوا: إِذا أخبر الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن ثُبُوت شَرِيعَة فَيجوز أَن يخبر
بعْدهَا فَيَقُول: أردْت ثُبُوتهَا بإخباري
(2/475)
الأول إِلَى هَذَا الْوَقْت وَلم أرد أَولا
إِلَّا ذَلِك بنسأ وَلَا يُفْضِي إِلَى تَجْوِيز خلف وَوُقُوع
خبر بِخِلَاف مخبر.
وَأما نَحن إِذا صرنا إِلَى أَن النّسخ رفع لِثَابِت حَقِيقِيّ
وَأَن التَّبْيِين لَيْسَ [135 / ب] بنسخ أصلا فننكر على هَذِه
الْقَاعِدَة نسخ الْأَخْبَار، ثمَّ / نقُول: فِي تجويزه على
قِيَاس الْقَاعِدَة تَجْوِيز الْخلف - تَعَالَى الله مِنْهُ -
فَإِنَّهُ كَانَ أَحدهمَا خلفا لأَصْحَابه، وَهَذَا مِمَّا
يدْرك ببديهة الْعقل، فَإِذا جَوَّزنَا حَقِيقَة النّسخ فِي
الْأَوَامِر والنواهي لم يؤد إِلَى ذَلِك، فَإِن الْأَمر
والنواهي لَا يدخلهَا الصدْق ولكذب، اوإنما يَتَّصِف بهما
الْأَخْبَار.
[1225] أَلَيْسَ من أصلكم أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
مخبر عَن كل مخبر بِكَلَامِهِ الْقَدِيم كَمَا أَنه عَالم
بِكُل مَعْلُوم؟ فَإِذا قيل: أجل! قَالُوا وَإِذا وَجب شَيْء
بِأَمْر من الْأَوَامِر تأبيدا فوجوبه على هَذَا الْوَجْه مخبر
عَنهُ، وَيجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى مخبرا عَنهُ،
وَالْأَمر إِن لم يكن خَبرا من الرب سُبْحَانَهُ فَهُوَ دَلِيل
على خَبره، فَيجب على طرد ذَلِك أَن يكون سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى مخبرا عَن وجوب الْعِبَادَات أبدا ثمَّ إِذا نسخهَا
فَيكون مخبرا عَن سُقُوط وُجُوبهَا، وَهَذَانِ الخبران
متناقضان.
وَهَذَا من اعظم تخييلات الْيَهُود، وَمن نفى النّسخ.
[1226] فَأَما من صَار إِلَى أَن النّسخ سَبيله وَلَا يرْتَفع
بِهِ ثَابت فِي
(2/476)
مَعْلُوم الله تَعَالَى فَدفع هَذَا
السُّؤَال سهل المرام عِنْده، فيطرد التَّبْيِين فِي
الْأَخْبَار، كَمَا يطرده فِي الْأَحْكَام، فَلَا يتَصَوَّر
عِنْده إِذا أَن ينْسَخ نصا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل،
فَإِنَّهُ إِذا نزل النّسخ منزلَة الْبَيَان كالتخصيص لم
يَجْعَل الْمَنْسُوخ نصا مقتضيا استغراق مُسْتَقْبل الزَّمَان،
بِحَيْثُ يقبل التَّأْوِيل، وَهَذَا على الْحَقِيقَة إِنْكَار
للنسخ، وَذَلِكَ أَن الَّذِي ثَبت بالناسخ مُنْفَصِل عَن
الْمَنْسُوخ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَا يتَعَرَّض لَهُ بِوَجْه،
وَلَو جَازَ تَسْمِيَة ذَلِك نسخا مَعَ أَن كل وَاحِد حكم على
الِابْتِدَاء وَلَا يتَضَمَّن أَحدهمَا رفع الثَّانِي
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك لَو قدر التَّصْرِيح أَولا لما تصور
بِهِ تَحْقِيق نسخ على هَذِه الْقَاعِدَة، فَإِذا تبين بِهِ
المُرَاد آخرا، بعد أَن كَانَ مكتتما مستترا عَنَّا، فَلَا
يَقْتَضِي ذَلِك قلبه عَن حَقِيقَته، وَإِنَّمَا يتَبَيَّن
إِجْزَاء من مُقْتَضى الْخطاب يخلفه بِمَا لَو تبين أَولا،
وَهَذَا أحد من الْجَهَالَة لَا يُنكره ذوتحقيق.
[1227] فَإِن قيل: فَمَا وَجه دفعكم لسؤال الْقَوْم؟
قُلْنَا: فِي وجوب كَون الْكَلَام الْقَدِيم خَبرا عَن كل مخبر
كَلَام يطول ويغمض الْخَوْض فِيهِ، على أَنا نؤثر مَا
قَالُوهُ، ونختاره، وَالسُّؤَال مَعَه مَدْفُوع، وَالْحَمْد
لله، وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِذا أخبر الرب سُبْحَانَهُ عَن
وجوب وَاجِب، ومعاقبة على تَركه، فَيكون خَبره مَشْرُوطًا بَان
لَا ننسخ، فَكَأَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول:
الْعِبَادَة الموصوفة وَاجِبَة عَلَيْكُم وَأَنْتُم معاقبون
على تَركهَا إِلَّا ان أنسخها عَنْكُم فَلَا يُؤَدِّي إِذا قدر
النّسخ إِلَى خلاف فِي الْخَبَرَيْنِ،
(2/477)
وَهَذَا أبين، كَمَا أَن الْقَائِل إِذا
قَالَ: لست أَتكَلّم إِذا كنت رَاكِبًا، فَإِذا تكلم فِي غير
حَال الرّكُوب لم يكن ذَلِك خلفا مِنْهُ، فَإِن خَبره الأول
مَشْرُوط بِشَرْط وَهَذَا وَاضح لاخفاء بِهِ.
[1228] فَإِن قَالَ قَائِل: فقد رووا الْخَبَر عَن الشَّيْء
على مَا هُوَ بِهِ، وَإِذا علم الرب سُبْحَانَهُ أَن شَرِيعَته
سينسخها وَيرْفَع وُجُوبهَا فَمَا وَجه الْأَخْبَار بِنَصّ
النّسخ قبل ثُبُوته، قُلْنَا: وَجه التَّقْدِير فِيهِ أَن
يَقُول أَنْتُم متعبدون يَا معشر [136 / أ] الْمُكَلّفين
بِهَذِهِ الشَّرِيعَة معاقبون على تَركهَا / وَهِي وَاجِبَة
عَلَيْكُم إِلَى أَن أرفع عَنْكُم وُجُوبهَا وسأرفع وُجُوبهَا
عَنْكُم.
وَلَو جَازَ اتِّصَال النَّاس بالمنسوخ لجَاز ذكرهمَا مَعًا
على التَّفْصِيل، فوضح الْحق من غير احْتِيَاج إِلَى رفع أصل
النّسخ وحقيقتة فِي حمله على الْبَيَان.
(223) القَوْل فِي جَوَاز نسخ الْعِبَادَة لَا إِلَى بدل،
وَفِي جَوَاز نسخهَا بِمَا هُوَ أشق مِنْهَا
[1229] اعْلَم ان مَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق جَوَاز نسخ
الْعِبَادَة لَا إِلَى بدل وَقد منع
(2/478)
الْمُعْتَزلَة ذَلِك وَالْمَسْأَلَة
بِأَصْل قدمْنَاهُ وَهُوَ أَنا [نجوز ارْتِفَاع التَّكْلِيف
عَن المخاطبين جملَة، فَلِأَن] يجوز ارْتِفَاع عبَادَة
بِعَينهَا لَا إِلَى بدل أولى.
(2/479)
[1230] فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ
يتَصَوَّر ذَلِك وَلَو وَجَبت عبَادَة فَمن ضَرُورَة نسخ
وُجُوبهَا إِبَاحَة تَركهَا وَالْإِبَاحَة حكم من الْأَحْكَام
وهوب بدل من الحكم الثَّابِت أَولا، وَهُوَ الْوُجُوب.
قُلْنَا: من مَذْهَب من يخالفنا إِن الْعِبَادَة لَا تنسخ
إِلَّا بِعبَادة وَلَا يجوزون نسخهَا بِإِبَاحَة، على أَن مَا
طالبتموه بِهِ يتَصَوَّر بِأَن يَقُول الرب: نسخت عَنْكُم
الْعِبَادَة، وَعَاد الْأَمر إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل
وُرُود الشَّرَائِع، فَهَذَا مِمَّا يعقل وَلَا يُنكر.
[1231] وَإِن استروحوا فِي منع ذَلِك بقوله: {مَا ننسخ من ءاية
أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} .
قَالُوا: فهاذا تَصْرِيح بِإِثْبَات التبديل.
قُلْنَا: هَذَا إِخْبَار على أَن النّسخ يَقع على هَذَا
الْوَجْه وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَنه لَا يجوز وُقُوع
النّسخ على غير هَذَا الْوَجْه وَهَذَا وَاضح عِنْد
التَّأَمُّل، أَو نقُول قَوْله: (مَا ننسخ من آيَة) يحمل على
بعض الْأَحْكَام دون بعض، ويقوى ذَلِك على منع صِيغَة
الْعُمُوم.
(2/480)
(224) فصل
[1232] يجوز نسخ الْعِبَادَة بِعبَادة أشق مِنْهَا وَقد أنكر
ذَلِك شرذمة من الْمُعْتَزلَة وكل مَا يدل على اصل النّسخ
فَهُوَ دَال على ذَلِك وَلَيْسَ لَهُم
(2/481)
فِي الْمَسْأَلَة عصمَة يتمسكون بهَا
إِلَّا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ من الْمصَالح فَيَقُولُونَ لَيْسَ
من مصَالح الْعباد تَعْظِيم الْمَشَقَّة عَلَيْهِم، بل
الْأَصْلَح لِعِبَادِهِ فِي بعض الزَّمَان تَكْلِيف الأشق، على
أَن مَا قَالُوهُ يتَوَجَّه عَلَيْكُم فِي بَدْء الشَّرِيعَة
فَيُقَال لَهُم: كَانَ يجوز ان يقدر أخف مِنْهَا فَمَا بالها
وَقعت شاقة. وَرُبمَا يستدلون بظواهر من الْكتاب، مِنْهَا
قَوْله تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يرد بكم
الْعسر} .
فَيُقَال ورد هَذَا فِي مُخَاطبَة المرضى من الْمُسلمين لما
خفف الصّيام عَنْهُم، على أَن المُرَاد بِالْآيَةِ يُرِيد الله
بكم مَا ستنالون من الْيُسْر فِي العقبى وَلَا يُرِيد مُجَردا
عتابكم فِي الدُّنْيَا. وعَلى هَذَا الْوَجْه يستدلون بظواهر
وَوجه الْجَواب مَا قدمنَا.
[1233] وَمِنْهُم من يَقُول: يجوز النّسخ بالأشق عقلا
وَيمْتَنع سمعا لهَذِهِ الْآيَات. ثمَّ نقُول: وَكم من حكم
ينْسَخ بأشق مِنْهُ، وَهَذَا كَمَا أَن الصُّلْح [136 / ب] عَن
الْكفَّار نسخ بمقاتلتهم / وبذل المهج وَالْأَمْوَال فِي
مجاهدتهم، وَجَوَاز ترك الصَّوْم من غير عذر بِشَرْط
الْفِدْيَة، وَنسخ حليل الختمر، وَهَذَا شَأْن كل تَحْرِيم
يعقب تحليلا فَبَطل مَا قَالُوهُ عقلا وسمعا.
(2/482)
(225) القَوْل فِي نسخ حكم الْآيَة
وتلاوتها، وَوجه الْخلاف فِيهِ
[1234] اعْلَم أَنه يجوز أَن تشْتَمل الاية على ثُبُوت حكم من
الْأَحْكَام وَيُوجب الله تَعَالَى علينا تلاوتها ثمَّ ينْسَخ
الله عَنَّا حكمهَا وَوُجُوب تلاوتها وَيجوز أَن ينْسَخ عَنَّا
حكم الْآيَة ويديم علينا وجوب تلاوتها، وَهَذَا مَا صَار
إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين. وَذهب بعض النَّاس إِلَى انه
لَا يجوز نسخ تِلَاوَة الْآيَة مَعَ بَقَاء حكمهَا، وَذهب
الْآخرُونَ على الْعَكْس من ذَلِك فَقَالُوا لَا يجوز نسخ حكم
الْآيَة مَعَ بَقَاء تلاوتها.
(2/483)
[1235] وَالدّلَالَة الَّتِي قررناها من
نفي الاستحالة وَإِثْبَات الْجَوَاز يطرد على
الطَّائِفَتَيْنِ، فَلَا فَائِدَة فِي إِعَادَتهَا،
وَالْجُمْلَة فِي مَضْمُون الْبَاب أَن تِلَاوَة الْآيَة وَمَا
يطوي عَلَيْهِ الْآيَة حكمان متباينان يجوز فِي الْعقل
تَقْدِير أَحدهمَا مَعَ انْتِفَاء الثَّانِي، فَمن هَذَا
الْوَجْه لم يبعد النّسخ فيهمَا أَو فِي أَحدهمَا.
[1236] فَإِن قَالَ من منع نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة:
الاية وَردت دَالَّة على الحكم وَمن المستحيل أَن تبقى
الدّلَالَة ويرتفع مدلولها. وَهَذَا لَا تَحْقِيق لَهُ،
وَذَلِكَ أَن الْآيَة إِنَّمَا نصبت دلَالَة بِشَرْط أَن لَا
ينْسَخ حكمهَا فإذانسخ حكمهَا فقد خرجت عَن أَن تكون دلَالَة
فَإِنَّهَا مادلت على الحكم دلَالَة العقليات على مدلولها.
[1237] فَإِن قَالَ من أحَال نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء
الحكم: إِذا ثَبت الحكم بمورد الْآيَة فَيَنْبَغِي أَن لَا
يَنْتَفِي بِوُقُوع تلاوتها، كَمَا أَن الحكم إِذا علق بعلة
ثَبت بثبوتها وانتفى بنفيها، فَيُقَال: هَذَا سَاقِط من
وَجْهَيْن أَحدهمَا: إِن وجوب تِلَاوَة الْآيَة لم يكن دَلِيلا
على ثُبُوت الحكم وَإِنَّمَا الدَّلِيل على ثُبُوته مَضْمُون
الْآيَة وَوُجُوب تلاوتها حكم يغاير مَضْمُون الْآيَة، على
أَنا نقُول: لَا يبعد أَن يثبت حكم عَقْلِي وتدل عَلَيْهِ
دلَالَة عقلية ثمَّ ترْتَفع الْأَدِلَّة وَلَا يرْتَفع
مدلولها. فَإِذا جَازَ فِي الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تَقْدِير
الِارْتفَاع مَعَ وجود ثُبُوت الْمَدْلُول، فَلِأَن يجوز ذَلِك
مَعَ الْأَدِلَّة السمعية أولى.
وَبَيَان ذَلِك أَن الْعَالم دَال على صانعه، فَلَو قَدرنَا
عدمهَا لم تقتض ذَلِك انْتِفَاء مدلولها.
[1238] ثمَّ نقُول لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا: قد اشْتَمَل
الْقُرْآن، على مَا يُخَالف
(2/484)
مذهبكم فَأَما نسخ الحكم مَعَ بَقَاء
التِّلَاوَة فمتحقق فِي آي من كتاب الله، مِنْهَا أَن النّسخ
فِي حق المطيق بَين الصّيام والفدية مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة
فِي قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة}
وَكَذَلِكَ نسخ الْوَصِيَّة للأقربين مَعَ ثُبُوت التِّلَاوَة
فِي آيَة الْوَصِيَّة، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: (كتب
عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة
للْوَالِدين
(2/485)
والأقربين} .
وَكَذَلِكَ نسخ الله تَعَالَى تَحْرِيم الْمُبَاشرَة فِي
ليَالِي الصّيام مَعَ ثُبُوت تِلَاوَة الْآيَة وَهُوَ قَوْله
تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى
نِسَائِكُم. .} الْآيَة بِمَا فِيهَا.
(2/486)
وَهَكَذَا نسخ تربص المتوفي عَنْهَا
زَوجهَا / مَعَ ثُبُوت الْآيَة الدَّالَّة على [137 / أ] ذَلِك
وَيكثر نَظَائِر ذَلِك فِي الْقُرْآن.
[1239] فَأَما نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم فكثير
أَيْضا، مِنْهَا: الرَّجْم كَمَا قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي
الله عَنهُ لَوْلَا أَن يُقَال زَاد عمر فِي كتاب الله
تَعَالَى لأثبتها على حَاشِيَة الْمُصحف، وَهِي " الشَّيْخ
وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ ".
(2/487)
(226) القَوْل فِي حكم النّسخ بعد
انْقِضَاء وَقت الْفِعْل وَوجه الْخلاف فِيهِ
[1240] اعْلَم: لَا يَسْتَحِيل على أصلنَا أَن يتَعَلَّق
الْخطاب بالمكلف فِي حكم وَلَا يتَّفق لَهُ الْإِقْدَام على
الِامْتِثَال فَينْسَخ عَنهُ الْفِعْل ووجوبه، وَلَيْسَ
الْمَعْنى بنسخه عَنهُ مَعَ مُضِيّ وَقت إِمْكَان أَدَائِهِ
أَن ينْسَخ عَنهُ إِيقَاعه فِي الزَّمَان الْمَاضِي، أَو يُؤمر
بإيقاع تَركه فِي الزَّمَان الْمَاضِي، فَإِن ذَلِك من
المستحيلات.
وَالَّذِي نَحن فِيهِ الْآن منع تَكْلِيف الْمحَال، فَأَما
الْأَمر بترك الْفِعْل فِي الِاسْتِقْبَال، وَنسخ وُجُوبه
فشائع.
[1241] ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نستبعد أَن يُؤمر بترك [عين]
الْفِعْل الَّذِي كَانَ يَقع فِي ي الزَّمَان الأول لَو قدر
وجوده وَإِن كَانَ التّرْك فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان. وَقد
أنْكرت الْمُعْتَزلَة ذَلِك أَشد الْإِنْكَار فَقَالُوا
يَسْتَحِيل تَقْدِير وُقُوع ترك الْفِعْل فِي الزَّمَان
الْمُسْتَقْبل فَإِن زمَان الْفِعْل إِذا انْقَضى فقد انْقَضى
زمَان تَركه أَيْضا وَإِذ لم يتَصَوَّر فِي مُسْتَقْبل
الزَّمَان الْفِعْل الَّذِي كَانَ يَقع فِي الزَّمَان الأول
فَكَذَلِك لَا يتَصَوَّر وُقُوع تَركه فِي الِاسْتِقْبَال
فَإِن التّرْك إِنَّمَا يتَصَوَّر بَدَلا من الْفِعْل.
[1242] وَاعْلَم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يَتَّضِح إِلَّا
بعد الْإِيمَاء إِلَى مُقَدّمَة، فَمن اصل أهل الْحق أَن مَا
وجد من افعال الْعباد وَعدم، فيتصور إِعَادَته بِعَيْنِه،
وَهُوَ من مَقْدُور الله تَعَالَى، وكما يتَصَوَّر إِعَادَة
عين الْفِعْل فَكَذَلِك
(2/488)
يتَصَوَّر إِعَادَة الْقُدْرَة عَلَيْهِ،
فَلَا يبعد إِذا أَن يصدر من الْمُكَلف فعل مكتسب لَهُ، ويعدم
فعله وَقدرته، ثمَّ يعيدهما الله تَعَالَى فِي مُسْتَقْبل
الزَّمَان.
وَأنْكرت الْمُعْتَزلَة فِي اصول الديانَات إِعَادَة أَفعَال
الْعباد، فعلى هَذَا القَوْل على قَضِيَّة اصلنا إِذا
يتَصَوَّر فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان عود الْأَفْعَال فَلَا
يبعد عود تَركهَا أَو تصور تَركهَا، فَخرج من ذَلِك أَنه يجوز
أَن يُؤمر بِعَين الْفِعْل الْمَاضِي على إِعَادَته وَيجوز أَن
يُؤمر بِعَين ترك الْفِعْل الْمَاضِي على تَقْدِير
الْإِعَادَة.
[1243] وَقد ذهب بعض أَصْحَابنَا إِلَى مُوَافقَة
الْمُعْتَزلَة اغْتِرَارًا مِنْهُم بتمويهاتهم ومصيرا مِنْهُم
إِن الْفِعْل بعد مَا مضى وقته لَا يتَحَقَّق هُوَ وَلَا تَركه
فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان. وَلَا نظن بهؤلاء مُوَافقَة
الْمُعْتَزلَة فِي فَاسد أصلهم، فالطريق أَن نقرر لَهُم أَن
الْمُعْتَزلَة بنت أَصْلهَا على منع الاعادة فِي مُعظم
الْأَعْرَاض، وَيقدر لَهُم منع الْإِعَادَة، وَلم يصف الرب
تَعَالَى بالإقتدار عَلَيْهَا، فيلزمهم من ذَلِك نفي
الْإِعَادَة فِي جملَة أَجنَاس الْحَوَادِث [و] ذَلِك تسبب
إِلَى منع ابْتِدَاء الْخلق فَإِن إِنْكَاره الْإِعَادَة
يُفْضِي إِلَى إِنْكَار أصل الْأَحْدَاث فَإِذا قَررنَا
للفقهاء من / أَصْحَابنَا هَذَا من اصحاب الْمُعْتَزلَة
فيرغبون عَن موافقتهم [137 / ب] لَا محَالة.
[1244] فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِن أُعِيد الْفِعْل فِي
الثَّانِي مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ فَبِمَ يعرف المكتسب أَن
مَا أعَاد عين فعله، وَكَيف يتَحَقَّق التَّكْلِيف بِهِ على
التَّعْيِين والتخصيص؟
(2/489)
قُلْنَا يتَصَوَّر ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن يُعلمهُ الله ضَرُورَة أَنه عين فعله
الْمُقْتَضى، وَقد عَاد.
وَالثَّانِي أَن يُخبرهُ من تجب عصمته بَان مَا يُوجد مِنْهُ
إِذا أقدم على امْتِثَال فَهُوَ عين فعله.
(227) القَوْل فِي جَوَاز نسخ الْفِعْل قبل دُخُول وقته وَذكر
الْخلاف فِيهِ
[1245] اعْلَم: هَذَا الْبَاب مِمَّا ظهر فِيهِ اخْتِلَاف
الْأُصُولِيِّينَ فَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُعظم من
الْمُحَقِّقين من أَصْحَابنَا تَجْوِيز النّسخ قبل دُخُول وَقت
الْفِعْل وجوزوا ايضا ثُبُوت النّسخ قبل انْقِضَاء وَقت
الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ.
(2/490)
وَالْأولَى بِنَا تَصْوِير مَضْمُون
الْبَاب أَولا، ثمَّ نرتب ذكر الْمذَاهب عَلَيْهِ فلمضمون
الْبَاب ثَلَاث صور، وَاحِد مِنْهَا مُتَّفق عَلَيْهِ
وَاثْنَانِ مُخْتَلف فيهمَا.
فَأَما الْمُتَّفق عَلَيْهَا فَهُوَ أَنه إِذا انْقَضى على
الْمُكَلف وَقت إِمْكَان الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ وأقدم
فِيهِ على الِامْتِثَال أَو لم يقدم عَلَيْهِ فَيجوز أَن
ينْسَخ عَنهُ الْفِعْل فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان وَالْحَالة
هَذِه، وَيكون ذَلِك النّسخ على التَّحْقِيق وَاقعا قبل
الْفِعْل، فَإِن الَّذِي مضى لَا يقدر نسخه على تَقْدِير
ارْتِفَاع التّرْك فِي الزَّمَان الْمَاضِي، فَكل نسخ إِذا قبل
الْفِعْل أَو لَا يتَحَقَّق النّسخ فِي عين الْفِعْل الْمَاضِي
مَعَ تَقْدِيره لإيقاع التّرْك فِي الزَّمَان الْمَاضِي
وَإِنَّمَا يتَصَوَّر النّسخ فِي الْفِعْل الْمَاضِي على
تَقْدِير الْإِعَادَة كَمَا قدمْنَاهُ.
[1246] فَأَما الصورتان اللَّتَان فيهمَا الِاخْتِلَاف فأحدهما
أَن نقُول إِذا قَالَ الرب جلت قدرته إِذا زَالَت الشَّمْس
فصلوا، ثمَّ يَقُول قبل زَوَال الشَّمْس: قد نسخت عَنْكُم مَا
أوجبت عَلَيْكُم، ويتصل النّسخ بالمخاطبين قبل الزَّوَال
أَيْضا، فَهَذَا مِمَّا يجوز على مَذْهَب أهل الْحق ومنعته
الْمُعْتَزلَة
(2/491)
بأسرها وَكَذَلِكَ إِذا أوجب الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فعلا على الْعباد لَا يَسعهُ إِلَّا
وَقت ممتد فانقضى وَقت الْفِعْل الَّذِي يسع الْعِبَادَة
الْمَأْمُور بهَا، فنسخ الله وجوب تِلْكَ الْعِبَادَة عَن
عبَادَة قبل مُضِيّ وَقت الْفِعْل بعد تَكْلِيفه، فَهَذَا
مِمَّا يجوز أَيْضا وأطبقت الْمُعْتَزلَة على إِنْكَاره،
فَهَذَا وَجه تَصْوِير الْخلاف.
[1247] ثمَّ اخْتلف أَصْحَابنَا فِي وَجه تَصْوِير النّسخ،
وَذَلِكَ السُّؤَال يُوَجه عَلَيْهِم، فَقيل لَهُم إِذا أَمر
الله تَعَالَى بِشَيْء، ثمَّ نهى عَنهُ قبل تحقق وَقت يُمكن
إِيقَاع الْفِعْل فِيهِ فقد صَار عين الْمَأْمُور مَنْهِيّا من
غير تغاير بَينهمَا، ويستحيل ان يكون الشَّيْء الْوَاحِد
مَأْمُورا بِهِ مَنْهِيّا عَنهُ من وَجه وَاحِد.
[1248] وَاخْتلف من لم يعظم حَظه بالأصول، فَقَالَ بَعضهم قد
وَقع النَّهْي على خلاف الْوَجْه الَّذِي وَقع عَلَيْهِ
الْأَمر، وَإِنَّمَا المستبعد تعلق الْأَمر [138 / أ]
وَالنَّهْي بالشَّيْء الْوَاحِد على الْوَجْه وأوضحوا / ذَلِك
بِأَن قَالُوا إِذا أَمر الله سُبْحَانَهُ العَبْد بِفعل
فَإِنَّمَا يُوَجه عَلَيْهِ التَّكْلِيف بِشَرْط بَقَاء
الْأَمر عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أوجبت عَلَيْك الْفِعْل
بِشَرْط أَن يبْقى الْأَمر مُتَّصِلا بك وَبقيت مَأْمُورا،
فَإِذا نَهَاهُ فقد زَالَ عَنهُ تعلق الْأَمر، وَتعلق النَّهْي
بِهِ على وَجه يُوَافق شَرط تعلق الْأَمر، فَلَا يضاده، وَلَا
تنَاقض فِي تَصْوِير تعلق الْأَمر وَالنَّهْي جَمِيعًا على
هَذَا الْوَجْه وَرجع محصول هَذَا القَوْل أَنه فِي كَونه
مَأْمُورا شَرط عَلَيْهِ دوَام [اتِّصَال] الْأَمر بِهِ.
[1249] وَقد أَشَارَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى طريقتين:
إِحْدَاهمَا إِن
(2/492)
قَالَ: لَا حَاجَة بِنَا إِلَى تَصْوِير
هَذَا الشَّرْط وَلَكنَّا نفصح بِالْمَقْصُودِ فَنَقُول: تعلق
الْأَمر على اقْتِضَاء الْإِيجَاب بالشَّيْء الْوَاحِد، ثمَّ
ارْتَفع الْوُجُوب فِي عينه فَتعلق النَّهْي بِهِ من غير
حَاجَة إِلَى فرض شَرط وَتَقْدِير مَشْرُوط، وَمن صَار إِلَى
غير ذَلِك فقد ذهل عَن الْمَذْهَب وَجبن عَن حَقِيقَته،
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن مَا ذكره الْقَائِل الأول غير
مُسْتَقِيم فَإِنَّهُ قَالَ تعلق الْأَمر بِهِ مَشْرُوط
بِبَقَاء اتِّصَال الْأَمر بِهِ، وَهَذَا لَا يتَحَقَّق لَهُ
وَذَلِكَ إِنَّه لَا يتَصَوَّر كَونه مَأْمُورا إِلَّا باتصال
الْأَمر بِهِ فَلَا معنى لقَوْل الْقَائِل إِنَّه إِنَّمَا
يكون مَأْمُورا مَا دَامَ الْأَمر مُتَّصِلا بِهِ، وَلَا
فَائِدَة فِي جعل ذَلِك شرطا، فَإِن كَونه مَأْمُورا عين
اتِّصَال الْأَمر بِهِ، فَلَا فرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل
هُوَ فِي كَونه مَأْمُورا مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ مَأْمُورا
وَبَين ان يَقُول هُوَ فِي كَونه مَأْمُورا مَشْرُوطًا باتصال
الْأَمر بِهِ.
فَهَذَا إِذا من قبيل شَرط الشَّيْء فِي نَفسه وَهُوَ محَال
غير مَعْقُول.
[1250] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه إِنَّمَا يجوز أَن يقدر
الشَّيْء شرطا فِي الشرعيات إِذا تقدر وُقُوع الْمَشْرُوط دون
الشَّرْط، وَذَلِكَ نَحْو الطَّهَارَة، فَلَمَّا شرطت فِي
الصَّلَاة تصور تَقْدِير وُقُوع الصَّلَاة فِي صورتهَا من غير
طَهَارَة وَلَا يتَصَوَّر كَونه مَأْمُورا من غير اتِّصَال
الْأَمر بِهِ فَلَا وَجه لتقدير الِاتِّصَال شرطا.
[1251] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك إِنَّه لما لم يتَصَوَّر وُقُوع
الِاكْتِسَاب من العَبْد إِلَّا ان يكون قَادِرًا لم يسع لَا
جرم وَأَن يُقَال للْعَبد اكْتسب الْفِعْل بِشَرْط أَن تكون
قَادِرًا أَو بِشَرْط أَن تكون مَوْجُودا أَو بِشَرْط أَن
يُوجد فعلك فِي مَحل قدرتك، فَكل ذَلِك من لَغْو الْكَلَام،
فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر وُقُوع الْكسْب إِلَّا على هَذَا
الْوَجْه.
(2/493)
[1252] ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله
عَنهُ: وَإِن لم يكن من تَقْدِير شَرط بُد دَفعهَا للسؤال
فَالْأولى أَن نقُول: كَانَ الرب تَعَالَى قَالَ: افْعَل
الْفِعْل الْفُلَانِيّ تقربا مِنْك إِلَيّ مَا دَامَ الْأَمر
مُتَّصِلا بك، فَإِذا نهيتك عَنهُ فَلَا تَفْعَلهُ تقربا
إِلَيّ وَلَا تقربا إِلَى غَيْرِي، ليتبين للْعَبد أَنه
[عِنْد] النَّهْي مَنْهِيّ عَن قصد التَّقَرُّب بِمَا أَمر
بِهِ أَولا إِلَى الله، وَهُوَ مَنْهِيّ عَن اصل فعله أَيْضا
من غير قصد التَّقَرُّب فَهَذَا وَجه تَفْصِيل الْمذَاهب.
[1265] وَالدَّلِيل على مَا صرنا إِلَيْهِ مَا قدمْنَاهُ فِي
اصل النّسخ [من [138 / ب] نفي] طرق الاستحالة وتبيين ثُبُوت
الجوازعند انْتِفَاء الأسئلة / على مَا سبق طرد الدّلَالَة.
[1264] فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن فِي
تَقْدِير النّسخ على الْوَجْه الَّذِي قلتموه أعظم الاستحالة
وَذَلِكَ انه إِذا أَمر بامر ثمَّ نهى عَنهُ قبل تصور
التَّمَكُّن من فعله وَقبل تصورعين فعله، وَهُوَ مفضي إِلَى
عين البداء، فَكَأَنَّهُ أوجب شَيْئا فَبَدَا لَهُ فَرفع
وُجُوبه تَعَالَى الله عَن كل نقص وَهَذَا مِمَّا يعظمون الظنة
فِيهِ، وينسبونه لأَجله إِلَى تَجْوِيز البداء على الله.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه اقْتِصَار مِنْكُم على مُجَرّد
الدَّعْوَى، وَقد أوضحنا اندفاع القَوْل بالبداء وَهَا نَحن
نريده إيضاحا، فَنَقُول: البداء إِمَّا أَن يرجع إِلَى
اسْتِدْرَاك علم، أَو إِلَى تبدل إِرَادَة، فَأَما تجدّد
الْعلم فاستدراكه فَإِنَّمَا يلْزم إِن لَو كَانَ
(2/494)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غير عَالم بِمَا
سينسخ مَا أوجبه فَأَما إِذا أوجب وَصفه بِكَوْنِهِ عَالما
بِمَا سَيكون فَلَا يلْزم من قبيل الْعلم البداء وَلَا يلْزم
أَيْضا من قبيل الْإِرَادَة، لما أوضحنا أَولا من عدم تعلق
الشَّرَائِع بالإرادة، وَلما قَرَّرْنَاهُ فِي الديانَات من
جَوَاز الْأَمر بِمَا لَيْسَ بِمُرَاد لله وَجَوَاز تعلق
النَّهْي بِمَا هُوَ مُرَاد لله، فقد بَطل ادِّعَاء البداء من
كل وَجه.
[1255] فَإِن قَالُوا: إِذا أوجب الله سُبْحَانَهُ شَيْئا مَعَ
علمه بِأَنَّهُ سينهي عَن عين مَا أوجبه قبل إِمْكَان فعله،
فَهَذَا مِمَّا لَا يتَصَوَّر فِي الْمَعْقُول، وَكَأَنَّهُ
أوجب عين مَا علم إِنَّه لَا يجب.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا:
أَنا نقُول: إِذا أوجب الله شَيْئا فقد ثَبت وُجُوبه فَإِذا
رفع وُجُوبه بالنسخ فقد ارْتَفع وُجُوبه، وَثَبت أَنه أوجب
وَاجِبا ثمَّ رفع وُجُوبه، وَهَذَا مَا لَا اسْتِحَالَة فِيهِ
بِوَجْه، ثمَّ نقُول النّسخ حَيْثُ سننق وَعَلِيهِ هَكَذَا
يَقع أَن يُحَقّق فَإِنَّهُ رفع للْحكم بعد ثُبُوته فيتقرر
فِيمَا ذكرتموه.
[1256] فَإِن قَالُوا لَا يتَحَقَّق بالنسخ رفع ثَابت وَلَكِن
يتَبَيَّن بِهِ انْقِطَاع مُدَّة الْوُجُوب فقد قدمنَا
عَلَيْهِم فِي ذَلِك أوضح الرَّد وَبينا أَن هَذَا إِنْكَار
مِنْهُم لأصل النّسخ وَفصل النّسخ عَن الْمَنْسُوخ وَقطع
لأَحَدهمَا عَن الثَّانِي.
[1257] فان قَالُوا: لَو كَانَ فِي إِيجَابه مصلحَة فَلَا يجوز
رفع الْمصلحَة
(2/495)
قبل [تقررها] قيل: هَذَا لِأَنَّهُ [خوض]
مِنْكُم فِي فَاسد أصلكم وَنحن لَا نراعي فِي مَوَانِع
الشَّرِيعَة الْمصَالح، على أَنا نقُول رُبمَا تكون الْمصلحَة
فِي أَن يُوجب الله تَعَالَى الشَّيْء على الْمُكَلف ليعتقد
وُجُوبه والعزم على امتثاله، ثمَّ يعلم أَن مصْلحَته بَان
ينْسَخ عَنهُ الْفِعْل ويثاب على الْعَزْم فَإِنَّهُ لَو دَامَ
عَلَيْهِ التَّكْلِيف لعصى وأثم واستوجب النَّار، فَبَطل كل
مَا ادعوهُ من وُجُوه الإحالة.
[1258] وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ قَوْله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ
وَابْنه الذَّبِيح لما امْرَهْ بذَبْحه ثمَّ نسخ عَنهُ قبل
اتِّفَاق الذّبْح، فَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أسلما وتله
للجبين، ونديناه أَن بإبراهيم، قد صدقت الرُّؤْيَا}
فَهَذَا هُوَ النّسخ بِعَيْنِه قبل إِمْكَان الْفِعْل
الْمَأْمُور بِهِ.
[1259] وَلَهُم على الْآيَة أسئلة مِنْهَا أَن قَالُوا: مَا
أمره الله تَعَالَى: الذّبْح بِعَيْنِه وَمَا أَرَادَ مِنْهُ
ذَلِك وَإِنَّمَا أَرَادَ اختباره وابتلاء سره وامتحان صدقه
[139 / أ] .
وَهَذَا بهت عَظِيم وَقرب من هدم الْأُصُول فِي / العقائد
فَإنَّا نقُول:
(2/496)
ابتلاء السِّرّ وامتحانه لَا يتحق من
الْعَالم بالسر وأخفى.
ثمَّ هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ مُخَالفَة مِنْهُم لموجب الْآيَة
ايضا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي المر بِالذبْحِ وَقَول الذَّبِيح
يَقْتَضِي الاستسلام لما قَالَ: {ستجدني إِن شَاءَ الله من
الصابرين}
ون المستحيل أَن يعْتَقد الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ فِي
الْأَمر غير مَا أُرِيد بِهِ، ثمَّ فداؤه بِالذبْحِ الْعَظِيم
من أدل الدَّلِيل على أَنه كَانَ مَأْمُورا بِالذبْحِ.
[1260] فَإِن قَالُوا: كَانَ مَأْمُورا بالعزم على الذّبْح،
واعتقاد وُجُوبه، وَلم يكن مَأْمُورا بِنَفس الذّبْح، قُلْنَا:
من المستحيل أَن يُؤمر الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ
بِالْجَهْلِ، واعتقاد الشَّيْء على غير مَا هُوَ بِهِ جهل،
وَإِن كَانَ مَأْمُورا باعتقاد الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ،
فَهُوَ علم مِنْهُ إِذا [بِوُجُوب] الذّبْح، ويستحيل الْعلم
بِوُجُوبِهِ مَعَ أَنه فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى غير وَاجِب،
ثمَّ كل مَا ذَكرْنَاهُ من الْقَرَائِن تبطل مَا قَالُوهُ من
التَّأْوِيل.
[1261] فَإِن قَالُوا: لم يكن قد اتَّصل بِهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمر على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا
(2/497)
كَانَ رُؤْيا ومناما مُجَردا.
قُلْنَا: فَهَذَا الْآن إزراء على الْأَنْبِيَاء صلوَات الله
عَلَيْهِم وتنقيص لرتبهم فَإِن أهل التَّأْوِيل أَجمعُوا على
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعْتَقد كَونه مَأْمُورا
بِالذبْحِ، وَمن المستحيل فِي حَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَن يعْتَقد كَونه مَأْمُورا فِي هَذِه الْحَالة الْعَظِيمَة
وتل ابْنه للجبين على هَذَا الِاعْتِقَاد ويعتقد الابْن
حَقِيقَة الْأَمر حَتَّى يَقُول: {يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر
ستجدني} .
وَمَعَ ذَلِك كُله كَانَا جَمِيعًا مخطئين فِي اعْتِقَاد
كَونهمَا مأمورين وَقد استدركتهم من مُوجب الْقِصَّة مَا لم
يفهمهُ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فَهَذَا هُوَ البهت
الْعَظِيم، لَو كَانَ الْأَمر على مَا ذكرتموه لَكَانَ الرب
يبين فِي الْقُرْآن أَنه لم يكن مَأْمُورا فَلَمَّا أنزل على
نبيه مَا دلّ نصا على كَون الذّبْح مَأْمُورا بِهِ ثمَّ لم
يقرنه بِمَا بَين أَن الْأَمر بِخِلَاف مَا اعتقده الْخَلِيل
عَلَيْهِ السَّلَام دلّ ذَلِك على بطلَان مَا قلتموه، ثمَّ
الْفِدَاء بِالذبْحِ مَعَ قَوْله: {إِن هَذَا لَهو البلؤا
الْمُبين} ، يُوضح مَا قلتموه.
[1262] فَإِن قَالُوا: كَانَ مَأْمُورا بِالذبْحِ وَلَكِن
كَانَ مَمْنُوعًا عَنهُ وَكَانَ قد خلق الله بَين شفرة السكين
وأوداج إِسْمَاعِيل صفحة من حَدِيد أَو نُحَاس.
(2/498)
قُلْنَا: هَذَا بَاطِل سِيمَا على أصلكم
فَإِن من أعظم المحالات عنْدكُمْ تَكْلِيف مَا لَا يطيقه
الْمُكَلف، وَمَا ذكرتموه تَصْرِيح بذلك، فَإِنَّكُم زعمتم
أَنه كَانَ مَأْمُورا بِالذبْحِ مَمْنُوعًا عَنهُ، وَلَو جَازَ
ذَلِك لجَاز أَمر الْمُقَيد المكبل بِالْمَشْيِ والترداد مَعَ
الْمَانِع الَّذِي بِهِ.
[1263] فَإِن قَالُوا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُورا
بإضجاعه وَشد يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ رِبَاطًا وتله للجبين وَلم
يكن مَأْمُورا بِنَفس الذّبْح بل كَانَ مَأْمُورا بمقدماته.
قُلْنَا: هَذَا خلاف قَوْله: {إِلَى أرى فِي الْمَنَام أَنِّي
أذبحك}
فَإِن مَا ذكرتموه م مُقَدمَات الذّبْح لَا يُسمى ذبحا، على
أَن الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ مُعْتَقدًا
وجوب الذّبْح وَكَذَا ابْنه، وَإِلَّا فَلَو علمنَا أَن
الْمَأْمُور بِهِ مَا ذكرتموه كَانَ لأمر سهل المرام، وَكَانَ
الصُّورَة الَّتِي ذكرتموها من / قبيل الْعَبَث واللعب وَمَا
عظم الِابْتِلَاء فِيهِ، كَمَا قَالَ: {إِن [139 / ب] هَذَا
لَهو البلؤا الْمُبين}
ثمَّ افتداؤه بِالذبْحِ يبطل مَا قلتموه بطلانا صَرِيحًا
فَإِنَّهُ لَو كَانَ أقدم على مَا أَمر بِهِ لم يكن فِي
افتدائه معنى، وَقد يعم الْمَأْمُور بِهِ، فَتبين أَن مَا
قَالُوهُ تعسف واجتراء على إبِْطَال ظَاهر الْآيَة.
[1264] فَإِن قَالُوا فِي الْآيَة مَا يدل على ذَلِك فَإِنَّهُ
تَعَالَى قَالَ: (صدقت
(2/499)
الرُّؤْيَا} ، فَدلَّ أَنه امتثل مَا أَمر
بِهِ.
قُلْنَا: التَّصْدِيق من افعال الْقُلُوب وَلَيْسَ المُرَاد
بِهِ االأفعال الظَّاهِرَة فَمَعْنَى قَوْله: {قد صدقت
الرُّؤْيَا} ، أَي: قد آمَنت بِوُجُوبِهَا فِيمَا يعظم خطره
فَهَذِهِ حَقِيقَة التَّصْدِيق لَا مَا يخيل إِلَيْكُم.
[1265] فَإِن قَالُوا: كَانَ الْخَلِيل يمر السكين وَهِي تفرى
وتقطع وَلَا تقطع جُزْء إِلَّا ويلتحم مَا يَلِيهِ فَمَا فرغ
تَمام الذّبْح حَتَّى تمّ الالتحام.
قيل لَهُم: هَذَا جهل مِنْكُم عَظِيم فَإِنَّهُ لَو كَانَ
الْأَمر على مَا ذكرتموه لَكَانَ ذَلِك من أعظم الْآيَات وأوضح
الْبَينَات، وَكَانَ أول مَا ينْقل فِي حجج إِبْرَاهِيم وآياته
كَمَا نقلهم سَائِر آيَاته فَلَمَّا لم ينْقل بَطل مَا قلتموه
على أَن الْآيَة نَص فِي إِنَّه لما تله للجبين وهم بذَبْحه
نسخ عَنهُ الْأَمر فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وتله للجبين} .
ثمَّ قَالَ: {وندين} ، ثمَّ نقُول لَو كَانَ الْأَمر على مَا
ذكرتموه لما
(2/500)
استقام الافتداء بِالذبْحِ مَعَ تَحْقِيق
الذّبْح، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، وَصحت الْآيَة
عَلَيْهِم نصا.
(228) القَوْل فِي حكم الزِّيَادَة على النَّص، وَذكر الْخلاف
فِيهِ
ل [1266] اعْلَم - وفقك الله - أَن ارباب الْأُصُول نقلوا عَن
أهل الْعرَاق مُطلقًا أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ، وَلم
يفضلوا القَوْل فِي ذَلِك حق التَّفْصِيل، وَهَا نَحن نذْكر
تَفْصِيل الْمذَاهب، ونوضح الصَّحِيح من الْمذَاهب، إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
اعْلَم أَن الزِّيَادَة إِذا لم يكن لَهَا تعلق بِالنَّصِّ
السَّابِق بِوَجْه فَلَا يكون نسخا إِجْمَاعًا وَذَلِكَ نَحْو
أَن يثبت فِي الشَّرِيعَة إِيجَاب الصَّلَاة ثمَّ يثبت بعد
(2/501)
ذَلِك وجوب الصَّوْم فلاخلاف أَن ثَبت
الصَّوْم لَا يتَضَمَّن نسخا لحكم الصَّلَاة، فَإِن هَذِه
زِيَادَة فِي الشَّرِيعَة وَلَا تعلق لَهَا بِالصَّلَاةِ،
وَلَا يعد زِيَادَة فِي الصَّلَاة وَحكمهَا، فَبَطل بذلك
إِطْلَاق الْحِكَايَة فِي أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ،
فَأَما إِذا كَانَت الزِّيَادَة مُتَعَلقَة فيتضمن تثبيت
زِيَادَة فِي الحكم الْمَنْصُوص على وَجه التَّعَلُّق بِهِ
والاختصاص فقد أطلق أَصْحَاب أبي حنيفَة القَوْل فِي امثال
هَذِه الصُّورَتَيْنِ أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ حَتَّى
قَالُوا: إِثْبَات التَّغْرِيب سنة فِي حد الزِّنَا زِيَادَة
فِي حكم الْحَد الثَّابِت فِي قَوْله: {فاجلدوا كل وَاحِد
مِنْهُمَا مائَة جلدَة} .
(2/502)
ثمَّ أطلق أَصْحَابنَا القَوْل بِأَن
الزِّيَادَة على النَّص لَا تكون نسخا اصلا من غير تَفْصِيل.
(2/503)
[1267] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ
وَالصَّحِيح فِي ذَلِك أَن نقُول إِن تَضَمَّنت الزِّيَادَة
رفع حكم فِي الْمَزِيد عَلَيْهِ فَهُوَ نسخ لما تَضَمَّنت
رَفعه، وَإِن لم تَتَضَمَّن رفع حكم فِي الْمَزِيد عَلَيْهِ
لَا يعد نسخا وتبيين ذَلِك بالمثال أَنه
(2/504)
لما ثَبت أَن الصَّلَاة فِي ابْتِدَاء
الْإِسْلَام كَانَت رَكْعَتَيْنِ / رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ
الظّهْر [140 / أ] تُقَام رَكْعَتَيْنِ ثمَّ زيد عَلَيْهِمَا
أخريان فَصَارَت أَرْبعا فَهَذَا يتَضَمَّن نسخا وَذَلِكَ أَنه
تضمن رفعا للْحكم وَذَلِكَ أَن مَا ثَبت فِي ابْتِدَاء
الْإِسْلَام اقْتضى صِحَة الرَّكْعَتَيْنِ المفردتين وكونهما
عبَادَة تَامَّة ثمَّ اقْتَضَت الزِّيَادَة رفع ذَلِك الحكم
وَهُوَ جَوَاز الِاقْتِصَار على رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ ذَلِك ر
رفعا لهَذَا، وَقد أنكر مُعظم الْفُقَهَاء من أَصْحَاب
الشَّافِعِي وَغَيرهم كَون ذَلِك نسخا.
[1268] وَالدَّلِيل على النّسخ أَن حَقِيقَة النّسخ رفع الحكم
الثَّابِت على الْحَد الَّذِي شرطناه فِي حَقِيقَة النّسخ،
وَهَذَا معنى مُتَحَقق فِي الصُّورَة الَّتِي استشهدنا بهَا
فَإِنَّهُ ثَبت بِمَا سبق جَوَاز الِاقْتِصَار على
رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ ذَلِك رفعا لهَذَا الحكم وصحتها عِنْد
الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا، ثمَّ ثَبت أَنه لَو اقْتصر
الْمُكَلف عَلَيْهِمَا كَانَ بَاطِلا وَلم تكن عبَادَة، فقد
تضمن ذَلِك صَرِيحًا رفع حكم ثَابت، وَلَو لم يكن ذَلِك نسخا
لما تصور النّسخ أصلا.
(2/505)
[1269] وَاعْلَم أَن الْمَقْصُود من هَذِه
المسالة لَا يتهذب إِلَّا بالْكلَام فِي أَمْثِلَة [مِنْهَا]
مَا ذَكرْنَاهُ فِي الصَّلَاة وأوضحنا فِيهِ وَجه الصَّوَاب.
[1270] فَإِن قَالَ قَائِل لَو كَانَت الزِّيَادَة على
الرَّكْعَتَيْنِ نسخا لَكَانَ لَا يَأْتِي الْمُكَلف بهما
وَمَعْلُوم أَنه يَأْتِي بالركعتين وَيضم إِلَيْهِمَا آخريين
فَبَطل ادِّعَاء النّسخ. [قُلْنَا] : نَحن لم نَدع النّسخ فِي
صُورَة الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَكنَّا قُلْنَا: إِنَّمَا نسخ
جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا وَالْحكم بصحتهما لَو انْفَرد
فَإِنَّهُ لَا يجوز إِلَّا أَن الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا
وإفرادهما من غير عذر، وَهَذَا بَين لَا كَلَام عَلَيْهِ.
[1271] فَإِن قيل: فَيجب على طرد مَا قلتموه أَن تكون
الزِّيَادَة فِي الطَّهَارَة بِإِثْبَات التَّرْتِيب
وَالنِّيَّة نسخا لمضمون قَوْله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم
وَأَيْدِيكُمْ} الْآيَة، فَإِن ذَلِك زِيَادَة على الْمَنْصُوص
عَلَيْهِ.
قُلْنَا: هَذَا غير مُسْتَقِيم من أوجه: مِنْهَا أَن من
الْعلمَاء من استنبط النِّيَّة وَالتَّرْتِيب من نفس الْآيَة
وَيطول ذكره. ثمَّ نقو لَيْسَ فِي الْآيَة مَا يدل على صِحَة
الطَّهَارَة دون النِّيَّة وَالتَّرْتِيب بل فيهمَا الْأَمر
بِالْغسْلِ فِي المغسول وَالْمسح فِي الْمَمْسُوح وَلم يثبت
أَن الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا مِمَّا يَقع الِاكْتِفَاء بِهِ
وَلَكِن تَضَمَّنت الْآيَة إِثْبَات مَا أنبأت عَنهُ، وأنبأت
سَائِر الْأَدِلَّة عَن إِثْبَات غَيرهَا، وَالَّذِي يُوضح
ذَلِك أَن ستر الْعَوْرَة وَمَا عداهُ من شَرَائِط الصَّلَاة
لَيْسَ بمنصوص عَلَيْهِ فِي الْآيَة وَإِن لم يكن مِنْهَا بُد
فِي صِحَة الصَّلَاة، على أَنا
(2/506)
نقُول إِنَّمَا يسْتَمر مَا ادعيتم لَو
ثَبت جَوَاز الِاقْتِصَار على الْغسْل وَالْمسح، وتمهد الحكم
فِيهِ، وَلَا يُغير نِيَّة وَلَا تَرْتِيب ثمَّ، وَثَبت وجوب
التَّرْتِيب وَالنِّيَّة بعد ذَلِك، فَكَانَ يقدر نسخا،
فَإِنَّهُ ثبتَتْ صِحَة الطَّهَارَة دون النِّيَّة، ثمَّ
ارْتَفَعت صِحَّتهَا دونهَا فَأَما والخصم يَقُول مَا ثَبت
جَوَاز الِاقْتِصَار على مَا ذكرتموه اصلا، وَمَا ثبتَتْ
الطَّهَارَة فِي ابْتِدَاء ثوبتها إِلَّا وَالنِّيَّة
مَشْرُوطَة فِيهَا، فَكيف يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك تَجْوِيز
النّسخ.
[1272] فَإِن قَالُوا فِيمَا تمثلتم بِهِ أَولا من الصَّلَاة
وَالزِّيَادَة فِي ركعتيها تحل هَذَا الْمحل. قُلْنَا: قد ثَبت
أَنَّهَا رَكْعَتَانِ أَولا حَتَّى لَو أنكر مُنكر ذَلِك
وَقَالَ لم تكن رَكْعَتَيْنِ أَولا فَلَا يَسْتَقِيم مَعَ
هَذَا / الْإِنْكَار ادِّعَاء النّسخ. فَلَو [140 / ب] ناقشنا
مناقش وَزعم أَنه لم يثبت الِاقْتِصَار على رَكْعَتَيْنِ قطّ
كَمَا نازعناكم، وَقُلْنَا: لم يثبت الِاقْتِصَار على الْغسْل
وَالْمسح، لما تصور ادِّعَاء النّسخ، ثمَّ نقُول هَذَا الَّذِي
ذكرتموه وألحقتموه بِالزِّيَادَةِ على النَّص هُوَ نُقْصَان من
النَّص لَو تأملتموه. وَوجه التَّحْقِيق فِيهِ أَن ظَاهر
الْآيَة يدل على صِحَة الطَّهَارَة مَعَ النِّيَّة وَالْقَصْد،
وَمن غير نِيَّة وَقصد، فَمن قَالَ: لَا تصح إِلَّا عِنْد
الْقَصْد فقد خصص صِحَّتهَا بِحَالَة، فَهَذَا إِذا نُقْصَان
لَا شكّ فِيهِ، فَيجب أَن يكون تَخْصِيصًا على مُقْتَضى أصُول
الْخصم.
(2/507)
[1273] فَإِن قَالُوا فَمَا قَوْلكُم
فِيمَا ظَاهره النُّقْصَان هَل تجعلونه نسخا؟
قُلْنَا: إِن ثَبت قطعا عُمُوم الحكم أَولا ثمَّ ثَبت
الِاخْتِصَاص مُتَأَخِّرًا عَنهُ فَهُوَ نسخ لَا شكّ فِيهِ
فَإِنَّهُ تضمن رفع الحكم فِي مَا ثَبت الْعُمُوم فِيهِ وَإِن
لم يثبت الْعُمُوم قطعا وَكَانَ الْخطاب على الِاحْتِمَال
وَتبين أَن المُرَاد بهَا خُصُوص فَلَا يكون نسخا حِينَئِذٍ،
فالغير إِذا يرفع الحكم بعد ثُبُوته على قطع سَوَاء تحقق ذَلِك
فِي زِيَادَة أَو نُقْصَان. 3 [1274] فَإِن قَالُوا يجب ان
يكون الشَّاهِد وَالْيَمِين إِذا قدر ثُبُوته نسخا لقَوْله
تَعَالَى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فَإِن لم يَكُونَا
رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} وَذَلِكَ أَن هَذِه الْآيَة
تَضَمَّنت منع الحكم عِنْد عدم الشَّاهِدين. وَالشَّاهِد
والمرأتين.
(2/508)
قُلْنَا: لَا نسخ فِي ذَلِك، فَإِن الْآيَة
تَتَضَمَّن إِثْبَات الحكم بِالشَّاهِدِ والمرأتين وَلَا
تَتَضَمَّن نفي الشَّاهِد وَالْيَمِين، وَلَيْسَ فِي إِثْبَات
الشَّاهِد وَالْيَمِين إِخْرَاج الشَّاهِدين عَن حكم
الشَّهَادَة وَمَا ادعوهُ من أَن الْآيَة تَضَمَّنت منع الحكم
عِنْد عدم الشَّاهِدين فَلَيْسَ كَمَا قَالُوا بل تَضَمَّنت
ثُبُوت الحكم عِنْد عدم الشَّاهِدين وَمن يخالفنا فِي المسالة
يوافقنا فِي منع القَوْل بِدَلِيل الْخطاب، وَلَا يَسْتَقِيم
ادِّعَاء مَا عدا الشَّاهِدين إِلَّا من قبيل الْمَفْهُوم
وَدَلِيل الْخطاب، وَهَذَا وَاضح بطلَان مَا ذَكرُوهُ، ثمَّ
نقُول إِنَّمَا يَسْتَقِيم مَا قلتموه لَو ثَبت أَولا حكم
الشَّاهِدين وَمنع مَا عداهما، ثمَّ تَأَخّر عَنْهَا ثُبُوت
الشَّاهِد وَالْيَمِين، فَأَما والخصم يَقُول: لَا نسلم
تَأْخِير الشَّاهِد وَالْيَمِين بل لَعَلَّه ثَبت مَعَ ثُبُوت
الشَّاهِدين فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك النّسخ.
[1285] وَمِمَّا يَدعِي النّسخ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي
كَفَّارَة الظِّهَار: (فَتَحْرِير رَقَبَة 9، قَالُوا: فاقتضت
الْآيَة إِجْزَاء الرَّقَبَة الْمُطلقَة فَمن صَار إِلَى
اشْتِرَاط الْإِيمَان فقد زَاد على مُطلق الرَّقَبَة،
وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ فَيُقَال لَهُم هَذَا
(2/509)
الَّذِي ذكرتموه من قبيل النُّقْصَان فَإِن
الْآيَة على زعمكم اقْتَضَت اجزاء كل رَقَبَة عُمُوما، مُؤمنَة
كَانَت أَو كَافِرَة، فَإِذا قيل: لَا تجزي إِلَّا المؤمنة،
فَهَذَا تنقيص لمقْتَضى الْخطاب.
[1276] فَإِن قيل: فَهَل تَقولُونَ إِن ذَلِك نسخ؟
قُلْنَا: لَو ثَبت قطعا أَولا أَن كل رَقَبَة تُجزئ، ثمَّ ثَبت
بعد ذَلِك انه لَا تُجزئ إِلَّا رَقَبَة مُؤمنَة، كَانَ ذَلِك
نسخا الا شكّ فِيهِ، فَأَما إِذا كَانَت الْآيَة [141 / أ]
مُحْتَملَة مترددة، وَلم / يثبت عُمُوم قطعان فَلَا يكون ذَلِك
من قبيل النّسخ، ثمَّ نقُول إِنَّمَا يَسْتَقِيم ادِّعَاء
النّسخ لَو سلم لكم خصمكم أَن ثُبُوت الْإِيمَان مُتَأَخّر عَن
وجوب الْآيَة، فَأَما وَهُوَ يَقُول مَا ثبتَتْ الرَّقَبَة
أصلا إِلَّا وَالْإِيمَان مَشْرُوط فِيهَا، فَلَا يتَحَقَّق
مَعَ ذَلِك نسخ. وَمن هَذَا الْقَبِيل ادعاؤهم كَون
التَّغْرِيب نسخا فِي حد الزِّنَا فَإِن التَّغْرِيب لَا
يتَضَمَّن نفي الْجلد.
[1277] فَإِن قيل: فقد ثَبت جَوَاز الِاقْتِصَار على مائَة
جلدَة، وتقرر أَنه الْحَد الْكَامِل فَإِذا زيد التَّغْرِيب
كَانَ ذَلِك رفعا للْحكم السَّابِق الثَّابِت.
قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَة إِلَّا إِثْبَات الْجلد فَأَما
الْمصير إِلَى جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَيْهِ فَهُوَ دَعْوَى
لَا يسوغ إِثْبَاتهَا إِلَّا بَان تدعوا أتخنصيص الْجلد
بِالذكر يدل على نفي مَا عداهُ، وَهَذَا من قبيل مَفْهُوم
الْخطاب وَقد اتفقنا على ترك القَوْل بِهِ.
(2/510)
[1278] فَإِن قَالُوا: افرأيتم لَو ثَبت
نفي وجوب مَا عدا الْجلد ثمَّ ثَبت التَّغْرِيب.
قُلْنَا: لَو كَانَ كَمَا قلتموه لَكَانَ ثُبُوت التَّغْرِيب
نسخا لنفي وجوب مَا زَاد على الْجلد، لَو تقرر انْتِفَاء مَا
سواهُ على مَا ادعيتموه.
[1279] فَخرج لَك من كلامنا فِي هَذِه الْأَمْثِلَة أَنه مهما
تصور فِي زِيَادَة أَو نُقْصَان يُوصل إِلَى رفع حكم ثَابت
تحقق ثُبُوته فَهُوَ مَنْسُوخ، وَإِن لم يتَحَقَّق رفع حكم
فَلَيْسَ بنسخ وَلَا وَجه فِي ادِّعَاء النّسخ مَعَ احْتِمَال
غَيره.
وَقد أدرجنا فِي خلل الْكَلَام شبه الْقَوْم والتفصي عها وَلَا
فَائِدَة فِي إِعَادَتهَا.
[1280] فَإِن قَالُوا: الزِّيَادَة على النَّص لَا تثبت بأخبار
الاحاد وَالْقِيَاس [فتتضمن] نسخا وَلَو أَنَّهَا [لَا]
تَتَضَمَّن نسخا لجَاز إِثْبَاتهَا بِخَبَر الْوَاحِد
وَالْقِيَاس. \ قُلْنَا إِن كَانَ مَا قلتموه فِي صُورَة
نوافقكم فِيهِ على تضمن الزِّيَادَة للنسخ فَالْأَمْر على مَا
قلتموه، وَإِن كَانَ فِي صُورَة نوافقكم فِيهَا على ثُبُوت
النّسخ، فَيجوز ثُبُوت الزِّيَادَة بِخَبَر الْوَاحِد
وَالْقِيَاس، فبكم حَاجَة إِلَى أَن تثبتوا الزِّيَادَة نسخا،
ثمَّ ترتبوا على ذَلِك مَا قلتموه من أَنه إِذا ثَبت كَونهَا
نسخا فَلَا تثبت
(2/511)
بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس. ثمَّ نقُول
إِذا قُلْتُمْ إِنَّمَا نَعْرِف امْتنَاع كَونه نسخا بامتناع
ثُبُوته بِخَبَر الْوَاحِد، وَإِنَّمَا عرفنَا امْتنَاع
ثُبُوته بِخَبَر الْوَاحِد لَكَانَ نسخا لِلْقُرْآنِ فقد علقتم
كل وَاحِد مِنْهُمَا. وَهَذَا وَاضح عِنْد التَّأَمُّل.
[1281] ثمَّ قد نَاقض أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي مسَائِل جمة،
واثبتوا فِيهَا الزِّيَادَة على النَّص بطرِيق لَا يثبت
النّسخ، وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما
غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خَمْسَة وَلِلرَّسُولِ لذِي
الْقُرْبَى. .} فَأطلق ذَا الْقُرْبَى.
وَشرط أَبُو حنيفَة الْحَاجة فِي ذِي الْقُرْبَى فَكَانَ ذَلِك
على قَوْلهم زِيَادَة على النَّص، كَمَا أَن اشْتِرَاط
الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة زِيَادَة على قَوْله: {فَتَحْرِير
رَقَبَة} وَلَو تتبعت ذَلِك لوجدت مِنْهُ الْكثير.
(2/512)
(229) بَاب ذكر مَا يَقع بِهِ النّسخ
وَالْقَوْل فِي مواقع الْوِفَاق / وَالْخلاف
3 - ب 1282] اعْلَم، وفقك الله، إِن الْقَائِلين بالنسخ
أَجمعُوا على جَوَاز نسخ الحكم الثَّابِت بِالْقُرْآنِ بِآيَة
من الْقُرْآن، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَعَ الْإِجْمَاع مَا
قدمْنَاهُ فِي إِثْبَات أصل النّسخ، وكل دلَالَة دلّت على
إِثْبَات أصل النّسخ [تدل] فِي هَذِه الصُّورَة.
ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نخصص ذَلِك بِلَفْظ دون لفظ فَإِذا ثَبت
حكم من الْأَحْكَام مُصَرحًا بِهِ فِي الْكتاب جَازَ نسخه
وَإِذا ثَبت حكم من الْأَحْكَام بفحوى
(2/513)
الْخطاب فَيجوز نسخه مَعَ الأَصْل الَّذِي
يَقْتَضِيهِ وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن كل حكم يُسْتَفَاد
ثُبُوته بِالْقُرْآنِ نصا أَو فحوى أَو بِدَلِيل الْخطاب على
مَذْهَب من يَقُول بِهِ فَيجوز نسخه بعد تَقْدِير ثُبُوته.
[1283] وَمِمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ نسخ السّنة بِالسنةِ مَعَ
تساويهما فِي اقْتِضَاء الْعلم أَو الْخُرُوج عَن ذَلِك حَتَّى
لَو ثَبت الحكم بِسنة متواترة تثبت قطعا فَيجوز نسخهَا
بِالسنةِ المستفيضة مثلهَا، وَالدَّلِيل على ذَلِك كالدليل على
نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ.
[1284] وَمِمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ نسخ خبر الْوَاحِد بِمثلِهِ
فَهَذِهِ صور الْوِفَاق.
(230) مَسْأَلَة
[1285] اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز ذَلِك عقلا وسمعا إِلَيْهِ
صَار مُعظم الْمُتَكَلِّمين وَابْن سُرَيج من اصحاب
الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ثمَّ
(2/514)
اخْتلف هَؤُلَاءِ فِي أَنه هَل ورد فِي
مواقع الشَّرِيعَة نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ؟ فَالْأَصَحّ
القَوْل بورود ذَلِك، وَذهب ابْن سُرَيج إِلَى أَن ذَلِك
جَائِز وَلَكِن لم يرد بِهِ الشَّرْع وَلَيْسَ فِي الشَّرْع
مَنعه مِنْهُ.
وَذهب كثير من الْفُقَهَاء مِنْهُم الشَّافِعِي وَغَيره أَنه
لَا يجوز نسخ الْقُرْآن، بِالسنةِ ثمَّ اخْتلفُوا بِالسنةِ
هَؤُلَاءِ فَمنهمْ من قَالَ إِنَّمَا امْتنع نسخ الْقرَان
بِالسنةِ عقلا وَمِنْه من قَالَ يجوز ذَلِك عقلا وَإِنَّمَا
امْتنع بأدلة السّمع، قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا
هُوَ الظَّن بالشافعي مَعَ علو رتبته فِي هَذَا الْفَنّ.
(2/515)
[1286] وَالدَّلِيل على جَوَاز نسخ
الْقرَان [بِالسنةِ] كل مَا قدمْنَاهُ فِي الدَّلِيل فِي اصل
النّسخ فَإِنَّهُ يدل على تَجْوِيز النّسخ فِي الْمُخْتَلف
فِيهِ وَالَّذِي يجب التعويل عَلَيْهِ أَن نقُول قد ثَبت
عندنَا قطعا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحكم
بِحكم من تِلْقَاء نَفسه فِيهِ بِرَأْيهِ، وَإِنَّمَا يَقُول
مَا يَقُول عَنهُ ربه وَحيا وإلهاما، وَمن جوز الِاجْتِهَاد
على الرُّسُل فَإِنَّمَا يؤديهم اجتهادهم إِلَى الْعلم بِأَمْر
الله بِلَا استرابة، بِخِلَاف اجتهادنا فِي المجتهدات، فَخرج
من ذَلِك أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مبلغ عَن ربه،
وَأَن الْأَمر على الْحَقِيقَة لله سُبْحَانَهُ، فَإِذا ثَبت
حكم بِآيَة تتلى من كتاب الله تَعَالَى، ثمَّ أخبر رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بارتفاع ذَلِك الحكم، فَإِنَّمَا يخبر
عَن الله، كَمَا أَن الْعبارَات عَن الْقُرْآن تنبيىء عَن
كَلَام الله تَعَالَى فيؤول محصول الْكَلَام إِلَى أَن ذَلِك
نسخ حكم ثَبت بِكَلَام الله غير ان توصلنا إِلَى معرفَة كَلَام
الله تَعَالَى فِي أحد الْحكمَيْنِ متلو بِهِ وتوصلنا إِلَيْهِ
فِي النَّاسِخ بِلَفْظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَهَذِهِ دلَالَة قَاطِعَة.
[1287] شُبْهَة المانعين بنسخ الْقرَان / بِالسنةِ عقلا.
مِمَّا استروحوا إِلَيْهِ أَن قَالُوا لَو نسخ الرَّسُول صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم حكما ثَابتا بالقران أفْضى ذَلِك إِلَى
أَن ينْسب إِلَى الافتراء وتبديل كَلَام الله تَعَالَى،
وَهَذَا يفضى إِلَى مَا يجب تَنْزِيه الرُّسُل عَنهُ.
(2/516)
وَهَذَا كَلَام رَكِيك جدا وَذَلِكَ أَن من
قَامَت عِنْده الدّلَالَة من معْجزَة الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على وجوب عصمته عَن الْخلف فِيمَا يبلغهُ فَلَا
يتَحَقَّق من هَذَا المعتقد نسبته إِلَى الْخلف والافتراء،
وَمن كَانَ مشككا فِي صدقه فينسبه إِلَى الافتراء فِي نفس مَا
يَنْقُلهُ من كَلَام الله تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{إِنَّمَا أَنْت مفتر}
[1288] فَإِن قَالُوا: الاسترابة بِهِ فِي نسخ الْقُرْآن
بِالسنةِ اكثر.
قُلْنَا: هَذَا لَا محصول لَهُ وَلَا معنى للتمسك بالتزايد فِي
الريب بعد تحقق اصله، ثمَّ نقُول: لَا يجب عندنَا فِي قَضِيَّة
التَّكْلِيف أَن يتوقى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْأَسْبَاب الَّتِي تورث الريب للزائغين فِي مجاري الْعَادة.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصص
الْإِمَامَة ثمَّ هله حَتَّى أفْضى ذَلِك أعظم ريب فِي قُلُوب
أهل الزيغ، وَتَوَلَّى قبض الصَّدقَات وَولى فِي ذَلِك السعاة
إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تعداده.
[1289] وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا أَن قَالُوا: لَو
جَوَّزنَا نسخ الْقرَان بِالسنةِ لَكَانَ ذَلِك رفعا من رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمعجزته ومحال أَن ينتسب
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى رفع مَا يدل على
صدقه. وَهَذَا بَاطِل من أوجه: أظهرها مَا قدمْنَاهُ من أَنا
إِذا
(2/517)
بحثنا عَن هَذِه المسالة فنعلم أَن النّسخ
إِنَّمَا وَقع بِكَلَام الله تَعَالَى، وَرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مبلغ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك سقط مَا
قَالُوهُ وَتبين أَن كَلَام الله تَعَالَى نسخ كَلَامه، ثمَّ
نقُول إِنَّمَا الإعجاز فِي نظم الْقُرْآن لَا فِي الحكم
الثَّابِت فجوزوا أَن ينْسَخ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حكم الْآيَة مَعَ بَقَاء تلاوتها.
[1290] فَإِن قَالُوا فَلَا أحد يفصل بَين نسخ حكم الْقُرْآن
وَبَين نسخ تِلَاوَته، فَمن جوز النّسخ بِالسنةِ جوز ذَلِك فِي
الْمَوْضِعَيْنِ.
قيل لَهُم: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، فَإِن من النَّاس من يفصل
بَينهمَا، وَقَالَ يجوز نسخ حكم الْقُرْآن بِالسنةِ، وَلَا
يجوز تِلَاوَة الْقُرْآن بِالسنةِ وَهَذَا لَيْسَ بمرضي عندنَا
فَإِن تِلَاوَة الْقُرْآن من الْأَحْكَام أَيْضا كَمَا
قدمْنَاهُ فعلى هَذَا نقُول: قصدنا بتفصل القَوْل عَلَيْكُم
ليتبين بطلَان استدلالكم صَرِيحًا فِي صُورَة من صور الْخلاف.
وعَلى أَنا نقُول: الْآيَة الْوَاحِدَة إِذا قصرت فَلَا يَقع
بهَا الإعجاز، فجوزوا نسخهَا بِالسنةِ مَا لم يبلغ الْمَنْسُوخ
حدا يَقع بِهِ الإعجاز، وَلَا قَائِل بذلك مِنْكُم، على أَنا
نقُول إِذا دلّ الْقُرْآن على صدق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَلَو قدر بعد اسْتِمْرَار الْأَدِلَّة ارْتِفَاع
الْقُلُوب والألسن فَلَا يقْدَح ذَلِك فِي النُّبُوَّة بعد مَا
ثبتَتْ، وَهَذَا كَمَا أَنا نقطع الْآن بِصدق مُوسَى وَعِيسَى
وَغَيرهمَا من الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم للمعجزات
الَّتِي أظهرها الله على أَيْديهم، وَإِن كُنَّا نعلم أَن
شَيْئا مِنْهَا غير مُتَحَقق مِنْهَا وجود الان.
[1291] وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا أَن قَالُوا: لَيْسَ من
الْأَصْلَح تَجْوِيز نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ، وَلَا يرد فِي
الشَّرِيعَة إِلَّا مَا هُوَ / الْأَصْلَح.
قُلْنَا: هَذَا بِنَاء مِنْكُم على أصل فَاسد لَا تساعدون
عَلَيْهِ، فَإنَّا لانراعي
(2/518)
فِي اصل الشَّرِيعَة الصّلاح والأصلح، غير
أَنا لَا نسلم مَا قلتموه، وَإِن سلمنَا لكم جدلا برعاية
الصّلاح، وأنى لكم إِثْبَات ذَلِك. فَهَذَا كَلَام من أحَال
النّسخ عقلا.
[1292] فَأَما من أحَال النّسخ سمعا فقد اسْتدلَّ بآي من كتاب
الله تَعَالَى، مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين لَا
يرجون لقاءنا أئت بقرءان غيرهذا أَو بدله قل مَا يكون لي ي أَن
أبدله من تلقائ نَفسِي إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} .
قَالُوا: وَهَذَا نَص فِي إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا
ينْسَخ الْقُرْآن، فَإِن النّسخ من أعظم وُجُوه التَّنْزِيل.
قيل لَهُم: هَذِه الْآيَة بِأَن تكون دَلِيلا عَلَيْكُم أولى
فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أَنه لَا ينْسَخ
الْقرَان من تِلْقَاء نَفسه، وَإِنَّمَا مُتبع الْوَحْي،
فَدلَّ ذَلِك على غير مَا تعتقده نفيا وإثباتا، فَإنَّا نقُول
لَا يَقُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِثْبَات الشَّرَائِع
شَيْئا من تِلْقَاء نَفسه، وَإِنَّمَا يَقُول مَا يَقُول عَن
الله مبلغا مَا ثَبت من أوَامِر لَدَيْهِ وَحيا، فَبَطل
استراواحهم إِلَى هَذِه الْآيَة.
[1293] وَمِمَّا يستدلوا بِهِ قَوْله تَعَالَى: (مَا ننسخ من
ءآية أَو ننسها
(2/519)
نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} .
قَالُوا: ويقوى الدَّلِيل عَلَيْكُم من هَذِه الْآيَة إِذا
قُلْتُمْ إِن النّسخ وَإِن صدر عَن الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ على الْحَقِيقَة بِكَلَام الله،
فَكَلَامه النَّاسِخ عنْدكُمْ، وَحكم كَلَامه الْمَنْسُوخ،
وَالْآيَة دلّت على أَن الرب تَعَالَى لَا ينْسَخ آيَة من
الْقُرْآن، إِلَّا أَتَى بِمِثْلِهَا، وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك
فِي صُورَة الْخلاف، فَإِن لفظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لَا يكون مثل الْقُرْآن، الْجَواب عَن ذَلِك ان نقُول:
معنى قَوْله تَعَالَى: {مَا ننسخ من ءاية أَو ننسها} مَا ننسخ
من حكم آيَة، لما قدرناه من أَن النّسخ إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي
الْأَحْكَام دون نفس الْقُرْآن، وَكَأن الرب تَعَالَى قَالَ:
مَا ننسخ من حكم آيَة إلانأت بِحكم خير مِنْهُ للمكلفين، أَو
مثله فِي الصّلاح والإفضاء إِلَى الثَّوَاب، وَهَذَا إِذا
حققته كَفاك مُؤنَة الْقَوْم.
(231) فصل
[1294] قد ذكرنَا جَوَاز نسخ الْقرَان بِالسنةِ ثمَّ ذكرنَا
أَن الْأَصَح وُرُود ذَلِك، وَقَالَ ابْن سُرَيج يَصح ذَلِك
عقلا، وَلَا يمْنَع شَيْء مِنْهُ سمعا وَلَكِن لم يتَّفق
وُقُوعه.
(2/520)
فَيُقَال لَهُ إِذا وَافَقت فِي جَوَاز
ذَلِك عقلا وسمعا وَأورد عَلَيْك مَا ظَاهره نسخ الْقُرْآن
بِالسنةِ فَيَنْبَغِي أَن لَا تحمله على الْوُجُوه
الْبَعِيدَة، وتجري على ظَاهره من غير تَأْوِيل وتحريف على
الظَّاهِر وَقد ورد ذَلِك فِي أَحْكَام.
مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله أعْطى كل
ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث " فنسخ بلك حكم الْوَصِيَّة
ووجوبها للأقربين فِي قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا
حضر أحدكُم الْمَوْت} الْآيَة.
وَلَيْسَ فِي الْقرَان نَص صَرِيح يَقْتَضِي نس الْوَصِيَّة
للأقربين وَيكثر نَظَائِر ذَلِك.
(232) مَسْأَلَة
[1295] يجوز نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء
ويحكى عَن
(2/521)
الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيهِ قَولَانِ
فِي أَحدهمَا بموافقة الْجُمْهُور وَجوز / نسخ السّنة
بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي الثَّانِي لَا يجوز ذَلِك.
[1296] وَالدَّلِيل على جَوَازه النُّكْتَة الَّتِي عولنا
عَلَيْهَا فِي الْمَسْأَلَة الأولى، حَيْثُ قُلْنَا: إِن
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا ينبىء عَن كَلَام
الله تَعَالَى، وَلَا يَقُول من تِلْقَاء نَفسه شَيْئا، فيؤل
النَّاسِخ والمنسوخ جَمِيعًا إِلَى كَلَام الله تَعَالَى كَمَا
أوضحناه فِي الْمَسْأَلَة الأولى ثمَّ نقُول إِذا سنّ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة فَلَا خلاف بَين الْأمة فِي
جَوَاز وُرُود نَص من الْقُرْآن على خِلَافه وَهَذَا هُوَ
النّسخ الصَّرِيح.
[1297] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا ورد نَص هَذِه صفته يسن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة أُخْرَى ينْسَخ بهَا
السّنة الأولى.
فَنَقُول هَذَا مَا لَا طائل تَحْتَهُ، فَإِن النَّص إِذا ورد
على مُخَالفَة السّنة الْمَاضِيَة فَلَا تخلون إِمَّا أَن ن
تَقولُوا يبْقى حكم السّنة إِلَى أَن يسن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
(2/522)
سنة أُخْرَى ينْسَخ بهَا السّنة الأولى،
وَإِمَّا أَن تَقولُوا لَا يبْقى حكم السّنة مَعَ وُرُود
النَّص.
فَإِن قُلْتُمْ بِهَذَا الْقسم الْأَخير فقد صرحتم بنسخ السّنة
بِالْقُرْآنِ، وَلَا معنى مَعَ ذَلِك لتقدير سنة أُخْرَى تنسخ
السّنة.
وَإِن زعمتم أَن حكم السّنة الأولى يبْقى بعد وُرُود النَّص
إِلَى أَن يسن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة
أُخْرَى على ابْتِدَاء أَو استئخار، فَهَذَا محَال مفض إِلَى
جَوَاز ثُبُوت حكمين متناقضين، وَيُؤَدِّي إِلَى نفي النَّص من
الْقُرْآن،، وكل ذَلِك محَال.
[1298] فَإِن قيل: فَهَل ورد فِي الشَّرِيعَة نسخ السّنة
بِالْقُرْآنِ. قيل: اجل، قد ثَبت ذَلِك فِي أَحْكَام جمة،
مِنْهَا: أَمر الْقبْلَة فَإِن التَّوَجُّه إِلَى بَيت
الْمُقَدّس إِنَّمَا ثَبت بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَلذَا لم يثبت فِي الْقُرْآن لذَلِك ذكر، ثمَّ نسخ
ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام}
(2/523)
وَمن ذَلِك ايضا عهد الْحُدَيْبِيَة
فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرط للْكفَّار أَن يرد
عَلَيْهِم من يَأْتِيهِ مِنْهُم، [وَعم] القَوْل فِي الرِّجَال
وَالنِّسَاء، ثمَّ ورد النَّص فِي منع النِّسَاء، قَالَ الله
تَعَالَى: {فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} .
ثمَّ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغرم لِأَزْوَاج
المهارجات مهورهن، وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد ثَبت لَهُم رد
النِّسَاء فَلَمَّا امْتنع ذَلِك بِنَصّ الْكتاب عوضهم عَنْهُن
بمهورهن.
[233) فصل
[1299] فَإِن قَالَ قَائِل هَل يجوزنسخ الحكم الثَّابِت بِنَصّ
الْكتاب وَالسّنة المتواترة بِخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد.
(2/524)
\ قُلْنَا: قد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك،
نعني الَّذين قَالُوا بِخَبَر الْوَاحِد، فَذهب بَعضهم إِلَى
منع ذَلِك عقلا وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَجْوِيز ذَلِك عقلا.
قَالَا القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح عندنَا تجويزه
عقلا. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه إِذا جَازَ ثُبُوت ابْتِدَاء
حكم بِهِ فِي الشَّرْع فَيجوز النّسخ بِهِ أَيْضا وتمثيل
جَوَازه فِي الْعقل: أَن يَقُول الله مثلا أَو رَسُوله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: مهما ثَبت عَلَيْكُم عمل بِنَصّ مَقْطُوع
بِهِ، ثمَّ نقل ثِقَة خِلَافه بتاريخ مُتَأَخّر فاعملوا
بالمتأخر، فَهَذَا مَا لَا اسْتِحَالَة فِيهِ أصلا عقلا.
[1300] فَإِن [قَالُوا] هَذَا يُؤَدِّي إِلَى النّسخ
الْمَقْطُوع بِهِ [بالمظنون] الَّذِي نستريب فِي ثُبُوته.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن: احدهما أَن نقُول: وجوب
الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَقْطُوع بِهِ فَمَا يضرنا
التَّرَدُّد فِي اصل الحَدِيث، مَعَ أَنا نعلم قطعا وجوب
الْعَمَل بِهِ، فَكَأَن صَاحب الشَّرِيعَة قَالَ: إِذا نقل من
ظَاهره الْعَدَالَة
(2/525)
فَاقْطَعُوا بَان حكم الله تَعَالَى
عَلَيْكُم الْعَمَل بِظَاهِرِهِ، وَصدق النَّاقِل وَكذب، فوضح
بذلك مَا قُلْنَاهُ. على أَنا نقُول انْتِفَاء الْأَحْكَام قبل
وُرُود الشَّرَائِع مَقْطُوع بِهِ عندنَا، وَثُبُوت الْحَظْر
أَو الْإِبَاحَة مَقْطُوع بِهِ عِنْد آخَرين، ثمَّ إِذا نقل
خبر عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آحادا فَيثبت
الْعَمَل بِهِ وَيرْفَع مَا تقرر قبل وُرُود الشَّرَائِع من
نفي الْأَحْكَام أَو ثُبُوت الْحَظْر أَو الْإِبَاحَة، فَبَطل
مَا قَالُوهُ ثمَّ نقُول: مهما جَوَّزنَا نسخ النَّص بِخَبَر
الْوَاحِد فَلَا نسلم لكم مَعَ وُرُود الْخَبَر الْوَاحِد كَون
النَّص مَقْطُوعًا بِهِ، فَإنَّا لَو قُلْنَا ذَلِك لزمنا
الْقطع بكذب الرَّاوِي وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
[1301] فَإِن قيل: فَهَذَا كلامكم فِي جائزات الْعُقُول، فَهَل
تجوزون ذَلِك سمعا أم هَل فِي السّمع مَا يمْنَع مِنْهُ؟
قُلْنَا: الَّذِي صَحَّ فِي ذَلِك عندنَا أَن نسخ الْمَقْطُوع
بِخَبَر وَالْوَاحد كَانَ يجْرِي فِي زمن الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَالدَّلِيل عَلَيْهِ إِن أهل مَسْجِد قبَاء
افتتحوا الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس فاجتاز بهم مجتاز،
وهم فِي خلال الصَّلَاة،
(2/526)
فَأخْبرهُم أَن الْقبْلَة قد حولت
فاستداروا قبل أَن يتَحَقَّق ذَلِك عِنْدهم تواترا، وَلم يُنكر
عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ
رُبمَا كَانَ يثبت الْأَحْكَام وَيسْتَمر بتواتر الْأَخْبَار
فِي الأقطار، ثمَّ ينْسَخ ذَلِك فيبعث الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْوَاحِد إِلَى كل قطر ليعلمهم نسخ الحكم
وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده فِي عاداته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَهَذَا هُوَ القَوْل فِيمَا يجْرِي فِي عصره.
[1302] فَأَما بعد أَن اسْتَأْثر الله بِهِ فَلَا يجوز نسخ
مَقْطُوع بِهِ بمظنون، وَهَذَا من جائزات الْعُقُول، وَلَكِن
أَجمعت الْأمة على مَنعه بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَلَا مُخَالف فيهم وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي تجوزه فِي
زمَان
(2/527)
صفحة فارغة
(2/528)
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقُلْنَا لدلَالَة الْإِجْمَاع لَا يسوغ نسخ الْمَقْطُوع بِهِ
بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمظنون الْمَشْكُوك
فِيهِ.
(234) فصل
[1303] فَإِن قَالَ قَائِل هَل يجوز نسخ النَّص الثَّابِت
بِالْقِيَاسِ عقلا وسمعا.
قُلْنَا: أما تَجْوِيز ذَلِك فَلَا مَانع مِنْهُ على تَفْصِيل
نذكرهُ الْآن، فَنَقُول إِذا ثَبت الحكم بِنَصّ مُتَقَدم، ثمَّ
ثَبت آخر بِنَصّ آخر مثلا وَنَفس ذَلِك الحكم لَا يُنَافِي حكم
النَّص الأول، وَلَكِن استنبط المستنبطون مِنْهُ قِيَاسا
يُخَالف حكم النَّص الاول فَيجوز فِي الْعقل تَقْدِير نسخه
بِهِ على الْوَجْه الَّذِي قدرناه فِي الْخَبَر الْوَاحِد،
وتمثيله أَن نقُول: لَا يستبعد فِي الْعقل أَن يُكَلف الله
تَعَالَى وَيَقُول: مهما ثَبت عَلَيْكُم حكم بِنَصّ مُتَقَدم
ثمَّ عَن لكم قِيَاس مستنبط من مورد نَص مُتَأَخّر فاعملوا
بِمُوجب الْقيَاس وأعرضوا عَن الحكم بِالنَّصِّ الأول، وَهَذَا
مَا لَا بعد فِيهِ عقلا.
[1304] فَإِن قَالَ قَائِل: افتجوزون أَن يكون نَص فَيثبت
ذَلِك الْقيَاس مَعَ ثُبُوت النَّص فَلَو جَازَ النّسخ
بِقِيَاس مستنبط من نَص سَابق فَيكون ذَلِك نسخ الْمُتَأَخر
بالمتقدم.
(2/529)
قُلْنَا: هَذَا مَا لَا وَجه لَهُ فِي
الْعقل مَعَ وجود اعْتِقَاد الصدْق فِي النصين فَإِن الأول
إِذا كَانَ نافيا لحكم الثَّانِي فَلَا يتَصَوَّر وُرُود
الثَّانِي على وَجه الصدْق وَالتَّحْقِيق، فَهَذَا وَجه
الْكَلَام عقلا.
[1305] فَإِن قيل: فَهَل / تجوزون ذَلِك سمعا عُمُوما أَو فِي
عصر من الْأَعْصَار كَمَا قد ثبتموه فِي خبر الْوَاحِد.
قُلْنَا: الصَّحِيح من الْمذَاهب أَن ذَلِك لَا يجوز سمعا،
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى تَجْوِيز النّسخ بِالْقِيَاسِ
الْجَلِيّ شرعا وَالدَّلِيل على بطلَان ذَلِك
(2/530)
من جِهَة السّمع أَن القائسين أَجمعُوا أَن
من شَرط الْقيَاس أَن لَا يُخَالف نصا من النُّصُوص،
وَالْعُلَمَاء على طريقتين فَمنهمْ من لم ير الْقيَاس حجَّة،
وَمِنْهُم من رَآهُ حجَّة وَشرط أَن لَا يُخَالف النَّص
فَهَذَا من أوضح الْأَدِلَّة المسعية على منع النّسخ
بِالْقِيَاسِ.
وَمِمَّا يدل عَلَيْهِ أَيْضا: أَن اصحاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا يتركون الأقيسة فِي المجتهدات بِمَا
يرْوى لَهُم من الْأَخْبَار فَمَا رُوِيَ عَن أحد مِنْهُم انه
تمسك بِقِيَاس مَعَ نقل نَص عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، بل كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْأَحَايِين لَوْلَا النَّص
لَكَانَ كَذَا وَكَذَا. فَثَبت من جملَة السّمع أَن الْقيَاس
لَا ينْسَخ بِهِ.
(235) فصل
[1306] الْإِجْمَاع المنعقد لَا ينْسَخ وَلَا ينْسَخ بِهِ
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن
(2/531)
الْإِجْمَاع إِنَّمَا يكون حجَّة بعد
وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا سَنذكرُهُ
فِي مسَائِل الْإِجْمَاع وَلَا ايتصور بعد أَن اسْتَأْثر الله
برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ينْسَخ شَيْئا أَو
ينْسَخ شَيْء، فَإِن الشَّرْع اسْتَقر بوفاته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَلَو قَدرنَا الْإِجْمَاع حجَّة فِي زمن
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أجمع الْعلمَاء على
حكم يُخَالف النَّص فَالْوَجْه فِيهِ أَن نقُول تقرر
الْإِجْمَاع أَن لَا يجمع الْعلمَاء على حكم إِلَّا عَن
دَلِيل، وَلَا يُوجد مِنْهُم الِاتِّفَاق شهيا من غير حجَّة،
فَلَا يكون نفس قَوْلهم إذاناسخا، وَلَكِن يجوز أَن يُقَال مَا
أَجمعُوا عَلَيْهِ ولسببه دَلِيل فَيجوز النّسخ بِهِ عقلا
وإجماعهم ينبىء عَنهُ وَهَذَا تكلّف منا وَفرض الْكَلَام فِي
صُورَة مِنْهُ غير ثَابِتَة وَهِي كَون الْإِجْمَاع حجَّة فِي
عصر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(236) فصل
[1307] لَا يجوز النّسخ بقول الصَّحَابِيّ وَهَذَا ينبىء على
أصل سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ أَن قَوْله
لَيْسَ بِحجَّة، وَقَوله كَقَوْل التَّابِعِيّ وكقول آحَاد
الْعلمَاء فِي الْأَعْصَار.
[1308] فَإِن قَالَ قَائِل: فَلَو قَالَ الصَّحَابِيّ: نسخ
الحكم الْفُلَانِيّ، فَهَل يثبت بذلك النّسخ؟
قُلْنَا: هَذَا موقع اخْتِلَاف الْعلمَاء فَذهب بَعضهم إِلَى
أَن النّسخ يثبت بذلك رِوَايَة ونقلان فَإنَّا نحمل مَا
يَنْقُلهُ الصَّحَابِيّ على الصِّحَّة والسداد، فحملنا لذَلِك
قَوْله: نسخ الحكم على الْحَقِيقَة.
(2/532)
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ:
وَالصَّحِيح أَن النّسخ لَا يثبت بذلك فَإِن مَا ثَبت النّسخ
بِهِ مُخْتَلف فِيهِ فَرُبمَا يعْتَقد الصَّحَابِيّ فِي
الشَّيْء نسخا وَهُوَ لَيْسَ بنسخ فَإِذا كَانَ الْأَمر
كَذَلِك فَلَا بُد أَن يظْهر سَبَب النّسخ لنرى فِيهِ رَأينَا،
ونجتهد فِيهِ.
[1309] وَلَو قَالَ الصَّحَابِيّ حكم رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَو قضى بِكَذَا فَلَا يحمل ظَاهر مَا
يَنْقُلهُ على صِحَة حَتَّى ينْقل صُورَة الْقَضِيَّة لانقسام
الْقَضَاء فَكَذَلِك القَوْل فِيمَا نَحن فِيهِ.
(2/533)
[1310] وَإِن نقل الصَّحَابِيّ عَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَرِيحًا أَنه قَالَ نسخت
عَنْكُم الحكم الْمَعْلُوم الَّذِي يَنْقُلهُ فَيقبل مثل
ذَلِك.
[1311] وَالْجُمْلَة أَن مَا يكون نَاقِلا فِيهِ فَهُوَ مُصدق
فِي نَقله وَمَا يخْشَى أَن يكون مُجْتَهدا فِيهِ فَلَا نقطع
بِظَاهِرِهِ حَتَّى يتَبَيَّن حَقِيقَة الْأَمر.
(237) فصل
[1312] قد قدمنَا جَوَاز نسخ السّنة بِالسنةِ وحققنا أَن
الْمَقْطُوع بِهِ ينْسَخ بالمقطوع / بِهِ والمظنون ينْسَخ
بالمظنون.
ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله يجوز أَن ينْسَخ بِفِعْلِهِ إِذا صدر
مصدر الْبَيَان، على مَا فصلنا مواقع الْأَفْعَال فِيمَا سبق،
وَكَذَلِكَ يجوز نسخ فعله الْوَاقِع موقع الْبَيَان بقوله،
وَهَذَا القَوْل فِي تَقْرِيره الْمُبين نَاسِخا ومنسوخا
وَهَذَا مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء. وَذهب شرذمة من المنتمين
إِلَى الْأُصُول إِلَى انه لَا ينْسَخ قَوْله بِفِعْلِهِ،
وَلَا فعله بقوله، لاختلافهما وَهَذَا سَاقِط من الْمَذْهَب،
وَذَلِكَ
(2/534)
أَن الْفِعْل فِي وُقُوعه موقع الْبَيَان
نَازل منزلَة القَوْل، وَإِن قدرُوا أفعالا على خُرُوجه
الْبَيَان فَلَا يحْتَج بِهِ اصلا، فقد نزل فعل رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اقتضائه الْبَيَان منزلَة قَوْله،
وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ، فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِيمَا
ينْسَخ وينسخ بِهِ.
(238) القَوْل فِي أَن نسخ بعض الْعِبَادَة أَو شَرط من
شرائطها هَل يكون نسخا لِلْعِبَادَةِ
[1313] هَذَا مِمَّا اخْتلف الْعلمَاء فَذهب بَعضهم إِلَى أَن
نسخ بعض الْعِبَادَة أَو شَرط من شرائطها يكون نسخا
لِلْعِبَادَةِ وَلم يفصل هَؤُلَاءِ بَين الشَّرْط الْمُنْفَصِل
عَنْهَا كالطهارة مَعَ الصَّلَاة، وَبَين أَن ينْسَخ بعض من
الْعِبَادَة، كَمَا لَو قدر بعض رَكْعَات الصَّلَاة، وَذهب
بَعضهم إِلَى أَن النّسخ فِي بعض الْعِبَادَة لجميعها، فَأَما
النّسخ فِي شرائطها الْمُنْفَصِل عَنْهَا فَلَيْسَ بنسخ، وَمَا
صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء
أَن ذَلِك لَا يكون نسخا
(2/535)
لَهَا لما قرر بَقَاؤُهُ وَإِذا نسخ بعض
الْعِبَادَة أَو شَرط من شرائطها فَلَا يُقرر ذَلِك نسخا فِي
بَقِيَّة الْعِبَادَة، فَإِذا نسخ بَعْضهَا أَولا فِي
الْعِبَادَة الْمَشْرُوطَة إِذا نسخ شَرطهَا.
[1314] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي يَصح فِي
ذَلِك عندنَا أَن مَا ينْسَخ من الْعِبَادَة فَلَا شكّ أَن
النّسخ تحقق فِي الْمَرْفُوع بالنسخ وفَاقا فَأَما فِي
بَقِيَّة الْعِبَادَة أَو الْعِبَادَة الْمَشْرُوطَة فَإِن
ثَبت أَنَّهَا كَانَت لَا تصح دون شَرطهَا أَو لَا يَصح
الِاقْتِصَار على بَعْضهَا لَو قدر بَعْضهَا مُفردا أَو
جَمِيعًا من غ غير شَرط لَكَانَ أَن يفْسد وَيخرج من حيّز
الْعِبَادَات فَإِذا ثَبت الْآن أَنه يَصح الِاقْتِصَار على
بَعْضهَا أَو يَصح من غير مَا كَانَ شرطا فِيهَا فَهَذَا نسخ
عَن الْحَقِيقَة سَوَاء كَانَ الشَّرْط مُتَّصِلا أَو
مُنْفَصِلا.
(2/536)
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن النّسخ
هُوَ رفع الحكم بعد ثُبُوته على الْحَد الَّذِي رسمناه فِي
حَقِيقَة النّسخ، وَقد تحقق ذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا، فان
الَّذِي رفع لَا شكّ فِي تحقق النّسخ فِيهِ، وَالَّذِي لم يرفع
صورته فقد رفع حكمه، فَإِن مَا كَانَ فَاسِدا خَارِجا عَن
قَضِيَّة الْعِبَادَات وَهُوَ الْبَعْض اَوْ الْعِبَادَة دون
الشَّرْط، فقد ثَبت أَنه جَائِز بعد أَن لم يكن جَائِزا
فَهَذَا هُوَ النّسخ بِعَيْنِه، وَهُوَ أَن يثبت جَوَاز مَا
كَانَ لَا يجوز، أَو عدم جَوَاز مَا كَانَ يجوز، وَلَا
مُعْتَبر بِنَفْي بعض من الصُّورَة، فَإِنَّمَا الْمُعْتَبر
بِالْأَحْكَامِ فِي تَحْقِيق النّسخ. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك
أَن الْفِعْل وَالْوَاحد قد يثبت وُجُوبه شرعا ثمَّ يثبت كَونه
مَنْدُوبًا وارتفاع وُجُوبه، وَيكون بِهِ نسخا فِي
الْحَالَتَيْنِ إِن بَقِي الْفِعْل م فيهمَا، فَهَذِهِ
الطَّرِيقَة الَّتِي [145 / أ] طردناها، فَبَطل الْفَصْل بَين
الْمُنْفَصِل والمتصل، وَهُوَ بَين عِنْد التَّأَمُّل.
[1315] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَت الصَّلَاة أَرْبعا
فَردَّتْ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فهاتان الركعتان كَانَتَا ثابتتين
مَعَ أخرتين وبقيتا ثابتين فَلَا معنى للنسخ فيهمَا، وأوضحوا
ذَلِك فِي الشَّرْط الْمُنْفَصِل أَيْضا فَقَالُوا إِذا كَانَت
الصَّلَاة مَشْرُوطَة بِالطَّهَارَةِ وهما فعلان متغيران
وعبادتان متغايران والنسخ فِي
(2/537)
أَحدهمَا لَا يكون رفعا فِي الثَّانِي،
وَمَا قدمْنَاهُ من الدَّلِيل انْفِصَال عَن ذَلِك إِذْ قد
بَينا أَن بَقَاء الصُّورَة لَا معول عَلَيْهِ فِي نفي وَلَا
إِثْبَات، وَإِنَّمَا الْمعول على ارْتِفَاع الْأَحْكَام
وبقائها، وَقد حققنا ذَلِك وَبينا أَن مَا لم يكن جَائِزا صَار
جَائِزا وَهَذَا هُوَ النّسخ عينه.
(239) القَوْل فِي أَنه هَل يتَحَقَّق النّسخ فِي حق من لم
يبلغهُ النَّاسِخ
[1316] إِذا ثَبت حكم مُسْتَمر على الْأمة ثمَّ ورد لَهُ نَاسخ
فَمن بلغه النَّاسِخ فقد تحقق النّسخ فِي حَقه، وَمن لم يبلغهُ
النَّاسِخ إقدام على الحكم
(2/538)
الأول فَيكون ذَلِك زللا وَخطأ مِنْهُ، بيد
أَنه لَا يؤاخذه بِهِ وبعذره وجهله، وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى
أَن إِلْحَاق هَذِه الْمَسْأَلَة بالمجتهدات، حَتَّى نقلوا
فِيهَا قَوْلَيْنِ فَقَوْل من الْقَوْلَيْنِ فِي أَن الْوَكِيل
إِذا عزل وَلم يبلغهُ الْعَزْل فَهَل يَتَقَرَّر تصرفه إِلَى
أَن يبلغهُ الْعَزْل.
[1317] وَهَذَا ظن من قَائِله، فَإِن الصَّحِيح الَّذِي يجب
الْقطع بِهِ أَن التَّكْلِيف لَا يَنْقَطِع عَمَّن لم يبلغهُ
النَّاسِخ، بل يبْقى عَلَيْهِ الحكم الأول، وَلَا يثبت
عَلَيْهِ الحكم الثَّانِي مَعَ الْجَهْل بِالدَّال عَلَيْهِ،
إِذْ لَا يسوغ ثُبُوت التَّكْلِيف مَعَ الْجَهْل بِسَبَبِهِ
ومقتضيه، وَهَذَا مِمَّا يقطع بِهِ، وَلَو سَاغَ تثبيت
التَّكْلِيف مَعَ الْجَهْل لساغ مَعَ كل مِمَّا يضاد الْعلم،
حَتَّى يلْزم من ذَلِك تَجْوِيز التَّكْلِيف للسكران والنائم،
وَقد استقصينا فِي ذَلِك قولا مقنعا فِي أول
(2/539)
الْكتاب، ومحصوله أَنه إِذا ثَبت أَن الحكم
لَا يثبت دون دَلِيل عَلَيْهِ وَلم يتَمَكَّن الْمُكَلف مِم
التَّوَصُّل إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ كلف الْعَمَل على وَجه
يَسْتَحِيل، فَإِن حَالَة الْجَهْل بالناسخ تنَافِي الْعلم
بالتكليف فَلَا يتَحَقَّق مَعَ الْجَهْل الْعلم لتناقضهما
وتضادهما، فَلَا مخرج لتجويز ذَلِك إِلَّا تَكْلِيف الْمحَال.
[1318] وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن الَّذِي لم
يبلغهُ النَّاسِخ مُخَاطب بِحكمِهِ الأول إِلَى ان يبلغهُ
النّسخ.
ثمَّ اخْتلف بعد ذَلِك فِيمَا يؤول إِلَى عبَادَة عِنْد
التَّحْقِيق فَذهب بَعضهم إِلَى أَن النَّاسِخ إِنَّا هُوَ
نَاسخ فِي حق من بلغه وَلَيْسَ بناسخ فِي حق من لم يبلغهُ
فَإِذا بلغه اتّصف حِينَئِذٍ بِكَوْنِهِ نَاسِخا فِي حَقه،
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه نَاسخ فِي حَقه قبل أَن يبلغهُ على
شَرط أَن يبلغهُ كَمَا أَن الْأَمر أَمر للمعدوم على شَرط
الْوُجُود.
[1319] وَهَذَا رَاجع إِلَى اخْتِلَاف فِي الْعبارَة فَإِن
الْفَرِيقَيْنِ صَارُوا إِلَى أَنه مُخَاطب بِحكمِهِ الأول
وَمَا يبدر مِنْهُ على الْقَضِيَّة الأولى فَهُوَ حكم الله
تَعَالَى.
فَإِذا قد اتفقنا على ذَلِك ثمَّ اتفقنا على أَنه إِذا بلغه
النَّاسِخ يتبدل عِنْد بُلُوغه التَّكْلِيف عَلَيْهِ فقد تقرر
رُجُوع الِاخْتِلَاف إِلَى عبارَة، وَإِنَّمَا الْخلاف
الْحَقِيقِيّ مَعَ الَّذين قدمنَا ذكرهم حَيْثُ قَالُوا: إِن
الحكم يرْتَفع عَمَّن لم [145 / ب] يبلغهُ النَّاسِخ وَقد /
أَشَرنَا إِلَى وَجه الرَّد عَلَيْهِم.
(2/540)
(240) فصل
[1320] لم يُورِدهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَلَكنَّا نتكلم
فِيهِ على قِيَاسه، فَإِذا ثَبت حكم من الْأَحْكَام بِخَبَر
مثلا، ثمَّ استنبطنا مِنْهُ عِلّة، وألحقنا بالمنصوص مَا
لَيْسَ بمنصوص عَلَيْهِ بطرق الْقيَاس، ثمَّ نسخ الأَصْل
الَّذِي مِنْهُ استنبطنا الْقيَاس فيتداعى ذَلِك إِلَى
ارْتِفَاع الْقيَاس المستنبط عَنهُ ويحكى، عَن ابي حنيفَة أَنه
قَالَ: يبْقى الْقيَاس مقتضيا فِي الْفَرْع وَإِن ارْتَفع
أَصله. وفرضوا الْكَلَام فِي خبرين: أَحدهمَا: أَنهم قَالُوا:
لَا يجوز عندنَا التوضي
(2/541)
بالنبيذ الْمُسكر النيء وَإِنَّمَا يجوز
التوضي بِهِ إِذا كَانَ مطبوخا وَقد تَوَضَّأ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بالنبيذ النيء، وَبَقِي التوضي بالمطبوخ.
وَكَذَلِكَ قَالُوا: كَانَ صَوْم عَاشُورَاء مَفْرُوضًا فِي
ابْتِدَاء الْإِسْلَام وَثَبت فِيهِ جَوَاز ارْتِفَاع
النِّيَّة نَهَارا والتحق بِهِ [صَوْم] رَمَضَان من حَيْثُ
إِنَّه صَوْم عين، ثمَّ نسخ صَوْم عاشرواء وَبَقِي الْقيَاس
مستمرا فِي الْفَرْع الملحق بِهِ.
(2/542)
[1321] وَهَذَا غلط ظَاهر مِنْهُ، وَذَلِكَ
انه إِذا نسخ الأَصْل الَّذِي مِنْهُ الاستنباط فيرتفع مَعَ
ارتفاعه اعْتِبَار علته الَّتِي هِيَ أم الْقيَاس إِذْ من
المستحيل أَن ينْسَخ حكم وَتبقى علته الدَّالَّة وإمارته
المقررة المنصوصة على الحكم، ثمَّ إِذا ارْتَفَعت عِلّة الحكم
لَا محَالة فيستحيل اعْتِبَارهَا فرعا واصلا ولعلنا نوضح ذَلِك
فِي أَحْكَام الأقيسة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(241) القَوْل فِي تَارِيخ النَّاسِخ والمنسوخ
[1322] أمع الْعلمَاء على أَن من شَرط النَّاسِخ أَن يتَأَخَّر
عَن الْمَنْسُوخ وَإِنَّمَا يتَبَيَّن ذَلِك بِأَن يتأرخ
النَّاسِخ والمنسوخ جَمِيعًا، فَلَو لم يثبت التَّارِيخ فِي
وَاحِد مِنْهُمَا أَو ثَبت التَّارِيخ فِي أَحدهمَا فَلَا
يتَبَيَّن النَّاسِخ مِنْهُمَا مَعَ جَوَاز أَن يكون غير
المؤرخ مُؤَخرا عَن المؤرخ أَو مقدما عَلَيْهِ.
[1323] ثمَّ فِي معرفَة التَّارِيخ طَرِيقَانِ: أَحدهمَا أَن
ينْقل صَرِيحًا تَارِيخ النَّاسِخ والمنسوخ، وَالثَّانِي أَن
يثبت خبران لَا وَجه للْجمع بَينهمَا، وَالْأمة
(2/543)
مجمعة على الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا والتمسك
بِهِ وَالِاسْتِدْلَال بِهِ، فنعلم أَن الْأمة مَا اجمعت على
ذَلِك مَعَ اعترافهم بِصِحَّة الْحَدِيثين إِلَّا مَعَ علمهمْ
بِكَوْن مَا تمسكوا بِهِ نَاسِخا مُتَأَخِّرًا.
[1324] والتاريخ يثبت نقلا، وَمِنْهَا أَن يُضَاف خبران إِلَى
زمانين نصا وَتَصْرِيحًا، وَالثَّانِي أَن يُضَاف إِلَى قضيتين
ثَبت تقدم أَحدهمَا على الآخر كالحديثين إِلَى غزوتين، وكل ذَا
يؤول إِلَى شَيْء وَاحِد، وَهُوَ النَّقْل المنبىء عَن
التَّارِيخ.
[1325] وَأما كل نقل لَا ينبىء عَن التَّارِيخ فَيجوز ذَلِك
فِيهِ، وَلَا يَقْتَضِي نسخا، وَذَلِكَ نَحْو أَن يكون اُحْدُ
الرِّوَايَتَيْنِ للمحدثين من مُتَقَدِّمي الصَّحَابَة
وَالثَّانِي من أحداثهم فَلَا يجوز حمل حَدِيث الْحَدث على
التَّأْخِير وَحمل حَدِيث الطاعن فِي السن على التَّقَدُّم،
فَإِن هَذَا مِمَّا لَا يُفْضِي إِلَى التَّارِيخ على
تَحْقِيق.
(2/544)
(242) فصل
[1326] إِذا ثَبت حديثان مَقْطُوع بهما وَلَكِن ثَبت
التَّارِيخ فيهمَا تقدما وتأخرا بِنَقْل الْآحَاد فقد اخْتلف
عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِك فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنه
[يجوز] التَّعْدِيل على نقل الْآحَاد فِي التَّارِيخ وَإِن ان
اصل الحَدِيث مَقْطُوعًا بِهِ وَهَذَا كَمَا يقبل خبر
الْوَاحِد فِي تَفْسِير مجملات الْقرَان وَإِن كَانَ
(2/545)
أَصْلهَا مَقْطُوع بِهِ. [146 / ب]
[1327] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ / وَالْقَوْل فِي أَنا
نشرط أَن يثبت التَّارِيخ قطعا إِذا كَانَ اصل الحَدِيث
مَقْطُوعًا بِهِ أولى عِنْدِي وَأظْهر، وَالله أعلم
انْتهى الْجُزْء الثَّانِي ويليه الْجُزْء الثَّالِث وأوله:
(243) بَاب الاجماع وَذكر فصوله وَوجه الِاخْتِلَاف فِيهِ
(2/546)
|