التلخيص في أصول الفقه (342) بَاب الْإِجْمَاع
(وَذكر فصوله وَوجه الِاخْتِلَاف فِيهِ)
[1328] اعْلَم، أَنه لَا بُد من تمهيد أصل وَتَقْدِيم فُصُول،
قبل الْخَوْض فِي الْمَقْصد من الْإِجْمَاع.
أَولهَا: ذكر حَقِيقَة الْإِجْمَاع فِي اللُّغَة والاصطلاح.
وَالْإِجْمَاع فِي اللُّغَة يرد على مَعْنيين:
يرد وَالْمرَاد بِهِ إبرام الْعَزْم وتوطين النَّفس فَتَقول:
أجمع فلَان الْمسير، إِذا عزم عَلَيْهِ.
وَيرد الْإِجْمَاع، [وَيُرَاد بِهِ] اتِّفَاق طَائِفَة على
أَمر، فعلا كَانَ أَو قولا. وَلَا يخص ذَلِك فِي وضع اللُّغَة
بِقوم دون قوم. فيستعمل فِي الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقهمَا،
فَيُقَال: أجمع الرّجلَانِ، وَأجْمع الثَّلَاثَة على فصل وعَلى
قَول.
وَهَذَا أَيْضا فِي التَّحْقِيق رَاجع إِلَى الْمَعْنى الأول.
وَذَلِكَ أَنهم إِذا اتَّفقُوا على شَيْء، فقد أبرموا الْعَزْم
عَلَيْهِ.
(3/5)
[1329] وَأما الْإِجْمَاع فِي الِاصْطِلَاح
فِي أَحْكَام الشَّرِيعَة: فَهُوَ اتِّفَاق الْأمة " أَو "
اتِّفَاق علمائها على حكم من أَحْكَام الشَّرِيعَة، على مَا
سنفصل القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله.
وَذهب النظام من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْإِجْمَاع، كل قَول
يجب اتِّبَاعه سَوَاء صدر من جمع أَو من وَاحِد. وَسمي لذَلِك
خبر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِجْمَاعًا.
(3/6)
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ من تَخْصِيص
الْإِجْمَاع بالْقَوْل الَّذِي يجب اتِّبَاعه، لَا محصول لَهُ.
فَإِن القَوْل الْوَاحِد لَا يُسمى إِجْمَاعًا شَرْعِيًّا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن أهل الْملَل إِذا اتَّفقُوا على
شَيْء، فَيُقَال فِي أَلْفَاظ الشَّرِيعَة: أَجمعُوا. وَلَا
منع من إِطْلَاق ذَلِك، وَإِن لم يسغْ الِاحْتِجَاج بإجماعهم.
ومقصد النظام " مِمَّا " قَالَه أَن اتِّفَاق عُلَمَاء الْأمة
لَا يُسمى إِجْمَاعًا. فَإِنَّهُ لَا حجَّة فِيهِ عِنْده. وَقد
وضح تحكمه على اللُّغَة والوضع وَالشَّرْع فِيمَا قَالَه.
(ذكر الْمذَاهب فِي ثُبُوت الْإِجْمَاع وحجيته)
1330 - فَإِذا أحطت علما، فَاعْلَم أَن النَّاس اخْتلفُوا على
مَذَاهِب فِي الْإِجْمَاع فَالَّذِي صَار اليه النظام أَنه لَا
حجَّة فِي اتِّفَاق الْأمة. وَلم يسْبق هُوَ إِلَى هَذَا
الْخلاف. فَأول من أنكر الْإِجْمَاع النظام.
ثمَّ اخْتلف أَيْضا عَنهُ على دَرَجَات:
فَمنهمْ من صَار إِلَى أَن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر
انْعِقَاده، فضلا عَن أَن يتَصَوَّر ثمَّ لَا تقوم بِهِ
الْحجَّة.
(3/7)
وَمِنْهُم من قَالَ: يتَصَوَّر انْعِقَاده،
وَلَكِن لَا يتَصَوَّر نَقله على وَجه.
وَمِنْهُم من قَالَ: يتَصَوَّر ذَلِك، وَلَا حجَّة فِيهِ،
وَهَذَا مَذْهَب النظام. وَالَّذين صَارُوا إِلَى أَن إِجْمَاع
الْمُسلمين حجَّة يقطع بهَا، افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن: فَمنهمْ
من رأى أَنه " يسْتَدرك " بقضية الْعقل، ويتأكد بِدلَالَة
السّمع.
وَمِنْهُم من زعم أَن مدركه السّمع، وَلَا يدْرك بقضية الْعقل،
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي نرتضيه وندين الله تَعَالَى
بِهِ.
(إِثْبَات تصور انْعِقَاد الْإِجْمَاع)
وَذَلِكَ نوضح الرَّد على غَيره من الْمذَاهب.
1331 - فَأَما الَّذين قَالُوا من منكري الْإِجْمَاع، إِنَّه
لَا يتَصَوَّر انْعِقَاده، فقد ذَهَبُوا فِي ذَلِك الى ضرب من
الحسبان فِيمَا بَينهم وفنون من التُّهْمَة وَجحد الضَّرُورَة.
وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: لقد صَحَّ من أصلكم - معاشر
الْقَائِلين بِالْإِجْمَاع - أَن أهل الْإِجْمَاع لَا يتفقون
على فعل وَلَا قَول إِلَّا عَن
(3/8)
دلَالَة. ثمَّ جوزتم أَن تِلْكَ الدّلَالَة
خبر من أَخْبَار الْآحَاد، أَو " قِيَاس مستنبط " يخفى مدركه!
وَنحن نعلم أَن عُلَمَاء الأقطار يَسْتَحِيل مِنْهُم العثور
فِي مجاري الْعَادَات على قِيَاس وَاحِد أَو خبر وَاحِد.
فَيُقَال / لهَؤُلَاء: " الَّذِي ذكرتموه تحكم على الْعَادة.
وَذَلِكَ أَن عُلَمَاء الشَّرْع متعبدون بِشدَّة الفحص و "
التنقير " عَن الْأَدِلَّة، وتتبع الأمارات المنصوبة على
الْأَحْكَام. وهم " دائبون " فِيهِ فِي مُعظم الْأَوْقَات فِي
غلبات ظنونهم، وتطلب مِنْهُم فِيمَا تعبدوا بِهِ. وَهَذَا
الْمَعْنى فيهم أَشد الدَّوَاعِي على العثور على الْمَقَاصِد.
فَلَا يبعد فِي مجاري الْعَادَات عثورهم جَمِيعًا على خبر أَو
قِيَاس.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الَّذين يزِيد عَددهمْ على عدد
الْمُسلمين، تراهم فِي شَرق الأَرْض وغربها. فقد اتّفقت كلمتهم
واتفقت " دَارهم " على شُبْهَة وَاحِدَة تَقْتَضِي فِي مجْرى
الْعَادة قودهم إِلَى الْكفْر وحيدهم عَن الْحق، نَحْو
اجْتِمَاع " الملحدة " على الدَّهْر، واجتماع النَّصَارَى على
التَّثْلِيث مَعَ اتِّحَاد الأقنومية.
(3/9)
فَإِذا كَانَ يتَصَوَّر فِي مجاري
الْعَادَات اجْتِمَاع الْمَلأ الْعَظِيم على الشُّبْهَة
الْوَاحِدَة، فَلَا وَجه يمْنَع لما تصور اجْتِمَاع الْمُسلمين
على أَمارَة من الأمارات.
(إِثْبَات صِحَة نقل الْإِجْمَاع، وَالرَّدّ على الإيرادات)
1332 - فَإِن قيل: إِذا سلم لكم تصور انْعِقَاد الْإِجْمَاع،
فَلَا نسلم لكم صِحَة نَقله فِي حق آحَاد الْأمة. وَذَلِكَ
أَنا نعلم كَثْرَة عُلَمَاء الْإِسْلَام فِي أقطار الدُّنْيَا،
نَحْو أقاصي الشرق والغرب وجزائر وَسَائِر الأقطار.
فَكيف يتَحَقَّق للْوَاحِد الطّواف على كَافَّة الْعلمَاء،
وَأخذ أَقْوَالهم متفقة فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة؟ وَإِن " تصور
" ذَلِك " فَمَا " يومن وَأَن لم ينْتَه إِلَى الثَّانِي
إِلَّا رَجَعَ الأول عَن قَوْله؟ وَإِذا لم يتَصَوَّر من هَذَا
الْوَجْه، فَلَا يتَصَوَّر أَيْضا نقل. فَإِن طرق النَّقْل
تبدأ من الْآحَاد، وَإِذا لم يتَصَوَّر ذَلِك فيهم، لم
يتَصَوَّر نَقله أصلا.
قُلْنَا: هَذَا عناد مِنْكُم ومراغمة لما عهد فِي مجاري
الْعَادَات ضَرُورَة وبديهة. فَإنَّا نعلم أَنه قد تتواصل
الْأَخْبَار على امتداد الْأَعْصَار من أقْصَى الْأَمْصَار
والأقطار باتحاد أقاويل الْعلمَاء فِي مَسْأَلَة من
الْمسَائِل. وَهَذَا كَمَا أَنه قد تحقق عندنَا اتِّفَاق
الْعلمَاء على عدد الصَّلَوَات وركعاتها وسجداتها، إِلَى غير
[ذَلِك] من أَحْكَامهَا. والمستريب فِي ذَلِك متعرض لجحد
الضَّرُورَة.
وَكَذَلِكَ نعلم قطعا اتِّفَاق النَّصَارَى على التَّثْلِيث
وَجحد نبوة مُحَمَّد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ،
(3/10)
وَمَا " قدره " من الاستحالة يتَحَقَّق فِي
كل مَا تمثلنا بِهِ.
وَكَذَلِكَ نعلم أَن الْمُعْتَزلَة قَائِلُونَ بِخلق
الْقُرْآن. فَلَا أحد مِنْهُم إِلَّا يَقُول بذلك فَبَطل مَا
قَالُوهُ.
1333 - فَإِن قَالُوا: كَمَا يبعد فِي مُسْتَقر الْعَادة
اتِّفَاق الْعلمَاء المتبددين فِي الْأَمْصَار مَعَ اخْتِلَاف
أغراضهم وتباين آرائهم، أَن يجتمعوا على اخْتِلَاف من القَوْل،
وزور وَكذب، على تواضع وتواطئ، أَو وفَاقا من غير سَبَب،
فَهَذَا مستنكر فِي الْعَادة. كَمَا يستنكر أَن يتَّفق فِي
الْوَقْت الْوَاحِد لكافة الْبَريَّة قعُود على صفة وَاحِدَة
أَو قيام، أَو نَحْوهمَا من الْأَوْصَاف. وكما يَسْتَحِيل
ذَلِك، فَكَذَلِك يَسْتَحِيل اتِّفَاقهم على حكم وَاحِد، قولا
أَو فعلا.
وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه، تحكم، على الْعَادَات، واقتراب من
المطاعن فِي الضروريات. وَذَلِكَ أَن نقُول لَهُم: أَلَيْسَ قد
ثَبت جَوَاز اتِّفَاق أهل التَّوَاتُر على نقل شَيْء عاينوه
وشاهدوه؟ ثمَّ نعلم مَا نقلوه صدقا ضَرُورَة. على مَا
قدمْنَاهُ فِي كتاب الْأَخْبَار.
فَلَو قَالَ الْقَائِل: إِذا تصور اجْتِمَاعهم على نقل صدق /
فَيَنْبَغِي أَن يتَصَوَّر اتِّفَاقهم على نقل كذب! فَإِن كل
وَاحِد مِنْهُم لَو قدر مُفردا، بصدد أَن يتَصَوَّر مِنْهُ
ذَلِك. فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك، لِأَن النُّفُوس
مجبولة على نقل الصدْق، مَحْمُولَة على خلاف طباعها إِذا نقلت
الْكَذِب.
قُلْنَا هَذَا تحكم. فَرب متطبع بِالْكَذِبِ لَا يصدق، إِلَّا
بعد كدَ مِنْهُ
(3/11)
لطباعه، ثمَّ مَا أنكرتم من مثل ذَلِك فِي
الْمُتَنَازع فِيهِ، فَنَقُول: يتَصَوَّر اجْتِمَاعهم على
صَوَاب لكَوْنهم متعبدين بِطَلَبِهِ واتصاف الدعاوي فِيهِ،
فوضحت هَذِه الْأُصُول، واستندت فِي وضوحها الى الضروريات.
(الرَّد على من زعم أَن يكون أَن حجية الْإِجْمَاع يدْرك بقضية
الْعقل)
1334 - وَأما وَجه الرَّد على من زعم أَن كَون الْإِجْمَاع
يدْرك بقضية الْعقل، فَهُوَ أَن نقُول: الْعُقُول لَا تَفْضِيل
فِي قضاياها بَين فِئَة وَفِئَة، وَأهل مِلَّة وملة. " فَكَمَا
" يجوز فِي الْمَعْقُول اتِّفَاق النَّصَارَى وَسَائِر
الْكَفَرَة على جحد نبوة مُحَمَّد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
مَعَ خطئهم فِي إنكارهم وجحدهم. فَكَذَلِك لَيْسَ من
الْمَعْقُول منع من تَجْوِيز مثل ذَلِك فِي أمة مُحَمَّد [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] .
(3/12)
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَيْضا، أَنه لما
اسْتَحَالَ فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن ينْقل أهل التَّوَاتُر
مَا شاهدوه، وَلَا يُوجب نقلهم الْعلم الضَّرُورِيّ. مَعَ
الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فِي أَخْبَار التَّوَاتُر. فَلم
يفصل فِي ذَلِك بَين أمة وَأمة. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء
بِهِ.
فَإِن قَالُوا: الْعقل يحِيل اجْتِمَاع الْعلمَاء على بَاطِل
وافتعال وكتمان حق وَوضع كذب. وَهَذَا مُسْتَدْرك فِي مجْرى
الْعَادة.
قُلْنَا: فَأهل الْملَل [إِذا] قيسوا بعلماء الْإِسْلَام
[فَإِنَّهُم] يزِيدُونَ عَلَيْهِم أضعافا مضاعفة. ثمَّ نراهم
قد اتّحدت كلمتهم فِي ضروب من الْخَطَأ والضلال وَالْكفْر
والمحال. والعادات لَا تخْتَلف باخْتلَاف الْأَدْيَان. فَمَا
ذَكرُوهُ من رَكِيك من القَوْل.
1335 - وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ أَيْضا، أَن قَالُوا: قد ثَبت
اسْتِمْرَار شرع رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى
أَن ينْفخ فِي الصُّور، وَلَا تقوم الشَّرِيعَة إِلَّا بِحجَّة
قَاطِعَة. وَلما كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
بَين أظهر أَصْحَابه كَانَ قَوْله مَقْطُوعًا بِهِ. فَلَمَّا
اسْتَأْثر الله بِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى رَحمته،
فَيجب تَقْدِير حجَّة يقطع بهَا فِي التباس المشكلات وإتمام
المعضلات. وَمَا هُوَ [إِلَّا] الْإِجْمَاع.
قُلْنَا: هَذَا أوضح فَسَادًا من كل فَاسد، والإطناب فِيهِ بعد
عَن الْمَقْصد، وَالَّذِي يُبطلهُ على قرب، أَن النَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] قد خلف فِينَا الْكتاب وَالسّنة
المتواترة المستفيضة، وَيقوم الْقطع بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا.
فَهَلا وَقع الاجتزاء بهما؟ وَكَذَلِكَ أَخْبَار الْآحَاد وطرق
المقايس يقطع بهَا فِي إِيجَاب الْعَمَل. فَوَقع بهَا
الاجتزاء.
(3/13)
فَإِن قَالُوا: فنصوص الْكتاب وَالسّنة لَا
تعم كل صُورَة!
قُلْنَا: فَكَانَ الْإِجْمَاع يعم كل صُورَة أم يخْتَص
بِبَعْضِهَا؟ فَإِن زَعَمُوا أَنه يعمها، بهتُوا. وَإِن
زَعَمُوا أَنه يخص بعض الصُّور، بَطل اعتلالهم.
(3/14)
(الْأَدِلَّة على ثُبُوت الْإِجْمَاع سمعا
وَشرعا)
1336 - فَإِن قَالَ قَائِل: قد أنكرتم إِثْبَات الْإِجْمَاع
عقلا. فَمَا الَّذِي تعتصمون بِهِ فِي إثْبَاته سمعا وَشرعا؟
وَلَا مطمع فِي مدارك الْعُقُول. ويستحيل إِثْبَات الْإِجْمَاع
بِالْإِجْمَاع، وَلَيْسَ مَعكُمْ نَص كتاب وَلَا نَص سنة!
قُلْنَا: الَّذِي نعول عَلَيْهِ فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع، نَص
الْكتاب وَالسّنة المستفيضة من الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] .
1337 - فَأَما نَص الْكتاب /، فَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
{وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع
غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم
وَسَاءَتْ مصيرا} .
وَوجه الدَّلِيل من الْآيَة: أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
زجر عَن اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، وتوعد عَلَيْهِ
بأعظم الْوَعيد، وقرنه بمشاقة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] .
1338 - فَإِن قيل: هَذَا تمسك مِنْكُم " بِالْمَفْهُومِ " من
الْآيَة أَولا، فَإِن مَضْمُون الْآيَة: النَّهْي عَن اتِّبَاع
غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَلم زعمتم أَنه يجب اتِّبَاع سَبِيل
الْمُؤمنِينَ؟
قُلْنَا: هَذَا سِيَاقه من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه سُبْحَانَهُ أخرج هَذَا الْكَلَام مخرج
التَّقْسِيم الضَّرُورِيّ. فَإِنَّهُ إِذا ثَبت الزّجر عَن
اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَلَا محيص عَن " الْمنْهِي
" إِلَّا
(3/15)
بِاتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَإِن
السَّبِيل إِمَّا أَن يكون سَبِيل الْمُؤمنِينَ، وَإِمَّا أَن
يكون غير سبيلهم. فَتبين أَن هَذَا لَيْسَ من الْمَفْهُوم فِي
شَيْء.
على أَنا نقُول: مواقع الْكَلَام تخْتَلف بسياق الْخطاب، وَنحن
نعلم ضَرُورَة، بِحَيْثُ لَا نستجيز الريب فيهمَا، أَن
الْمَقْصد من الْآيَة، تَعْظِيم أَمر الْمُؤمنِينَ وتفخيم
شَأْنهمْ، والحث على اتِّبَاع سبيلهم، والزجر عَن إبداء صِحَة
الْخلاف عَلَيْهِم.
وَهَذَا حَال مَحل الفحوى فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل
لَهما أُفٍّ} .
1339 - فَإِن قَالُوا: كَيفَ يَسْتَقِيم مِنْكُم التَّمَسُّك
بِالْآيَةِ، وَلَيْسَ لهَذِهِ الصِّيغَة ظَاهر عنْدكُمْ فِي
اقْتِضَاء الْوُجُوب؟
قُلْنَا: أما من حمل مُطلق هَذِه الصِّيغَة على الْوُجُوب،
فيصدكم عَن سؤالكم "
بِمُجَرَّد الْمَذْهَب "، وَأما نَحن: فَإنَّا نقُول باقتضاء
الْوُجُوب بعد وضوح الْقَرَائِن. وَمن أوضحها، الْوَعيد
والتهديد وَالْآيَة منطوية على ذَلِك.
(سُؤال)
1340 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَعْنى
بقوله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} " أَنه "
غير سبيلهم الَّذِي صَارُوا موصوفين بِالْإِيمَان بِسَبَبِهِ.
(3/16)
فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يحث " المعرض " على
الْإِيمَان، ومتابعة الْمُؤمنِينَ فِي إِيمَانهم، وَالرجز عَن
الْكفْر.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك: " أَنا " نقُول: هَذِه مُخَالفَة
ظَاهِرَة لظَاهِر الْخطاب، ذَلِك لِأَن الرب تَعَالَى سمى
أَقْوَامًا، ونعتهم بنعت تميزوا بِهِ عَن غَيرهم، وَأثبت لَهُم
سَبِيلا بعد أَن نعتهم وميزهم، وَأوجب اتِّبَاع سبيلهم، فَمن
أَرَادَ أَن يَجْعَل السَّبِيل الْمُثبت بعد النَّعْت رَاجعا
الى نفس النَّعْت، فقد خَالف الْعَرَبيَّة.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، أَنَّك إِذا قلت: من يتبع سَبِيل
الْأَطِبَّاء أَو المهندسين أَو نحوهم، كَانَ كَذَا وَكَذَا،
فَلَا يفهم من ذَلِك " التطبب " وَلَا الْخَوْض فِي علم
الهندسة، وَلَكِن الْمَعْنى بِهِ مَا يرسمونه، وَكَذَلِكَ إِذا
قلت: من يتبع سَبِيل الْمَلَائِكَة، فَأَنت " تَعْنِي " بِهِ
اتباعهم فِي كَونهم مَلَائِكَة، وَهَذَا بَين فِي فحوى
الْكَلَام.
1341 - ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تسرع مِنْكُم الى
ترك الظَّاهِر، وَذَلِكَ أَن الْإِيمَان - على اخْتِلَاف
الْعلمَاء فِيمَا يثبت - لَا يثبت بِشَيْء من
(3/17)
أَرْكَانه [بالاتباع] ، إِجْمَاعًا مِنْكُم
عنْدكُمْ، وَلَكِن إِنَّمَا يدْرك بمدارك الْعُقُول الى
غَيرهَا مِمَّا تهذون بِهِ، فَكل مَا يبلغ مبلغ التَّكْلِيف
بِهِ، فَلَا يتبع الْأمة أصلا، بل يشْتَغل بالطرق الَّتِي
يثبتونها، وَيُخَالف الْأمة أَولا، ثمَّ إِن اطردت لَهُ
الدّلَالَة اتبعها.
فَهَذَا تَصْرِيح بِمَنْع اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ أَولا فِيمَا
صَارُوا بِهِ مُؤمنين.
على أَنا نقُول: فحوى الْخطاب مطرح بِكَوْن سَبِيل
الْمُؤمنِينَ ملاذا يعتصم بِهِ ويلجأ إِلَيْهِ. ويتضمن ظَاهر
الْخطاب جعل سَبِيل الْمُؤمنِينَ أصلا مُتبعا، وَلَا معنى
لذَلِك عنْدكُمْ، فَإِن المتبع طرق الْأَدِلَّة الَّتِي تقررت
مُوَافقَة الْمُؤمنِينَ إِيَّاهَا، فَالْكل متعبدون بهَا دون
السبل.
وعندكم أَن مُوَافقَة الْمُؤمنِينَ فِي مُقْتَضى الْأَدِلَّة،
كموافقة الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي إِثْبَات التَّوْحِيد
وَإِثْبَات الصَّانِع، وَلَا يثبت شَيْء من ذَلِك باتباعهما.
وَإِنَّمَا يثبت عقلا، أَو سمعا بطرق غير الِاتِّبَاع، فَلَا
يكون هَذَا الْكَلَام مُفِيدا فَتبين أَن مَا قَالُوهُ تعسف.
(سُؤال)
1342 - فَإِن قَالُوا: السَّبِيل فِي حَقِيقَة اللُّغَة، هُوَ
الطَّرِيق المسلوك وَالْقَارِعَة الْمَوْطُوءَة بالأقدام،
وَهُوَ مجَاز فِيمَا رمتموه، فَكيف يجوز التَّمَسُّك بمجاز فِي
مَسْأَلَة قَطْعِيَّة يعظم خطر الْخلاف فِيهَا؟
(3/18)
قُلْنَا: لَا فَائِدَة فِي الإطناب بِذكر
الْحَقَائِق وضروب الْمجَاز، وَالَّذِي يقطع مَادَّة هَذَا
السُّؤَال: الرُّجُوع الى الْمَفْهُوم من الْخطاب قطعا ويقينا،
حَقِيقَة كَانَ أَو مجَازًا غَالِبا، أَو سمعا عرفيا أَو
شَرْعِيًّا. وَقد يُطلق الْمجَاز فِي بعض منَازِل الْكَلَام،
فنعلم ضَرُورَة مقصد " الْخطاب ". وَذَلِكَ نَحْو قَول
الْقَائِل: فلَان بَطل شُجَاع مِقْدَام أَسد هزبر. فَهَذَا
متجوز بِهِ، وَنحن نعلم قطعا أَن المُرَاد بِهِ فِي جرْأَة
الْأسد وبطشه، وَإِن كَانَ مجَازًا.
وَكَذَلِكَ نعلم ضَرُورَة أَنه لَيْسَ الْمَعْنى بِالْآيَةِ
تتبع الطّرق والقوارع، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود اتِّبَاع طرائق
الدّين، وجاحد ذَلِك متعنت.
على أَنا نقُول: مَتى سلم لكم كَون السَّبِيل مجَازًا فِي غير
مَا ادعيتموه، وَإِنَّمَا يتَمَيَّز الْمجَاز عندنَا من
الْحَقَائِق عِنْد طرق الْإِشْكَال لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال.
وَاسْتِعْمَال السَّبِيل فِي المناهج وطرق الشَّرَائِع أَعم من
اسْتِعْمَاله فِيمَا ذكرتموه.
(سُؤال)
1343 - فَإِن قَالُوا: لَا يَسْتَقِيم مِنْكُم التَّمَسُّك
بِالْآيَةِ مَعَ إنكاركم الْعُمُوم وصيغته، على أَنكُمْ لَو
كُنْتُم " قائلين " بِهِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَة صِيغَة،
فَإِنَّهُ
(3/19)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر السَّبِيل
بِلَفْظ الْوَاحِد، وَلَيْسَ فِيهِ إنباء عَن شُمُول، فَمَا
يؤمنكم أَنه سَبِيل وَاحِد؟
وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن نقُول: أول مَا نفاتحكم بِهِ أَن
نقُول: قد وضح بِمَا قَرَّرْنَاهُ، جَوَاز اتِّبَاع سَبِيل
الْمُؤمنِينَ، فَقولُوا بِهِ وَلَو فِي سَبِيل وَاحِد، سوى
ماقلتموه أول، واعتقدوا اتباعهم وَلَو فِي سَبِيل وَاحِد.
1344 - ثمَّ نقُول: من مذهبكم، منع تَأْخِير الْبَيَان
الْوَارِد إِلَى وَقت الْحَاجة، وَمن مَذْهَبنَا منع تَأْخِير
الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، وَأجْمع " الكافة " على
اسْتِحَالَة بَقَاء إِجْمَال فِي خطاب، بعد [أنٍ أكمل الله
الدّين، واستأثر بِرَسُولِهِ خَاتم النَّبِيين [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، فَلَو صَحَّ مَا قلتموه، لَكَانَ بَين ذَلِك
السَّبِيل.
على أَنا نقُول: إِذا أطلق السَّبِيل فِي مثل هَذِه الْمنزلَة،
فَإِن قَرَائِن الْأَحْوَال وقيود الْمقَال دَالَّة على
الِاسْتِغْرَاق والاستيعاب.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن من قَالَ لغيره: " اتبع سَبِيل
الصَّالِحين، وَلَا تتبع غير سبيلهم "، فَلَيْسَ يحمل هَذَا
الْخطاب على سَبِيل وَاحِد بجمل من جملَة السبل، وَمن قَالَ
بِالْعُمُومِ هان عَلَيْهِ دفع السُّؤَال بِمُجَرَّد
الْمَذْهَب.
ثمَّ نقُول: أَكثر مَا فِي ذَلِك أَنه قد أوجب علينا اتِّبَاع
الْمُؤمنِينَ فِي سَبِيل، وَقد اسْتَقر علينا الْخطاب المقرون
بعظيم الْوَعيد " فِي ذَلِك ". فَلَا
(3/20)
خُرُوج عَن مُقْتَضَاهُ إِلَّا بِأَن يتبع
الْمُؤمنِينَ فِي كل سَبِيل، فَيتَحَقَّق الْخُرُوج من
مُقْتَضى الشَّرْع /، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
1345 - وَرُبمَا يوجهون هَذَا السُّؤَال الَّذِي ذَكرُوهُ فِي
السَّبِيل، فِي الْمُؤمنِينَ، فَيَقُولُونَ: الْمُؤْمِنُونَ من
الجموع الَّتِي لَا يثبت فِي قضيتها الْعُمُوم عنْدكُمْ، فَمَا
بالكم حملتموه على كَافَّة الْمُؤمنِينَ؟
وَطَرِيق الْجَواب مَا قدمْنَاهُ أَولا.
(سُؤال)
1346 - فَإِن قَالُوا: ظَاهر الْآيَة يدل على زعمكم -
يَقْتَضِي وجوب اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ، وهم الموحدون المصدقون
ظَاهرا وَبَاطنا. إِذا الْإِيمَان عنْدكُمْ لَا يرجع إِلَى
مُجَرّد النُّطْق، حَتَّى يقْتَرن بخلوص الِاعْتِقَاد، فَمَا
أدراكم بِأَن المعتقدين المخلصين من أهل الْقبْلَة مِنْهُم؟
فَهَذَا إِجْمَال فِي مُقْتَضى الْآيَة من هَذَا الْوَجْه،
فَلَا يسوغ الِاسْتِدْلَال بِهِ.
قُلْنَا: هَذَا " احتيال " مِنْكُم فِي رد الْآيَة، لَا ينجيكم
عَمَّا أُرِيد بكم، وَذَلِكَ أَن مثل هَذَا الْخطاب إِذا أطلق،
فَلَا يفهم من فحواه " التحسس " على
(3/21)
البواطن والتعريض للأسرار، بل الْمَفْهُوم
من فحواه تَكْلِيف الجري على الظَّوَاهِر. وخطاب الْقُرْآن
وَاجِب حمله على مُقْتَضى الْعَرَبيَّة. وَنحن نعلم أَن من
قَالَ لمن يخاطبه: أكْرم الْمُؤمنِينَ. وَأعْطِ الْمُؤمنِينَ.
الى غير ذَلِك من ضروب الْخطاب الْمُعَلق بهم، فَلَيْسَ
يَعْنِي بذلك " التحسس " والتنقير عَن بواطنهم، وجاحد ذَلِك
متحكم على اللُّغَة.
على أَنا نقُول: أَكثر مَا فِي
سؤالكم أَن يحمل الْخطاب على المعتقدين المخلصين فِي
مَعْلُوم الله تَعَالَى، فَلَا توصل إِلَى ذَلِك إِلَّا بِأَن
يتبع جمَاعَة المعتزين المنتمين إِلَى الْإِيمَان ليستيقن
عِنْد ذَلِك الجري على حَقِيقَة الْآيَة.
على أَنا نقُول: فِي حمل الْآيَة على هَذَا الْمحمل، مَعَ
الْعلم بانطواء الغيوب وقضايا الْأَسْرَار عَنَّا، تسبب إِلَى
تَكْلِيف الْمحَال وَمَا لَا يُطَاق، وَهَذَا من أقبح القبائح
عنْدكُمْ.
(سُؤال)
1347 - فَإِن قيل: فقد قرن الله تَعَالَى الزّجر والوعيد
بخصلتين: إِحْدَاهمَا: مشاقة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] . وَالْأُخْرَى: اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ.
فَإِذا أردتم تَحْقِيق الزّجر والوعيد فِي إِحْدَاهمَا إِذا
تجردت، كُنْتُم متحكمين على مُقْتَضى الْآيَة. قَالُوا:
وَبَيَان ذَلِك أَنه عز اسْمه قَالَ: {وَمن يُشَاقق الرَّسُول
من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ}
. فَذكر الْأَمريْنِ بِحرف عاطف جَامع، ثمَّ
(3/22)
عقبهما بالوعيد.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه إِسْقَاط مِنْكُم لمقْتَضى
الْآيَة، فَإِنَّهُ قد وضح من موجبهما تَأْثِير اتِّفَاق
الْمُؤمنِينَ على سَبِيل، فَإِذا حملتم الْآيَة على هَذَا
الْمحمل - مَعَ مَا وضح من اعتقادكم أَن إِجْمَاع
الْمُؤمنِينَ، لَا حكم لَهُ أصلا - فَينزل ذَلِك منزلَة الْجمع
بَين شَيْئَيْنِ فِي الْخطاب، لَا تَأْثِير لأَحَدهمَا بِحَال
فِيمَا " سبق " الْخطاب لَهُ. وَيكون ذَلِك كَمَا لَو قَالَ:
من ظلم وَأحسن فَلهُ سوء الْعَاقِبَة، وَمن جَازَ وَتصدق نوله
مَا تولى، وَهَذَا يعد من لَغْو الْكَلَام.
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَن ذكر الْمُؤمنِينَ - مَعَ
أَنه لَا أثر لذكرهم - كذكر كل مَذْكُور سواهُم، مِمَّا لَا
أثر لَهُم، وَهَذَا تَصْرِيح بإلغاء الْخطاب.
ثمَّ " يقوم " فِيمَا ذكرتموه مُخَالفَة مِنْكُم لاعتقادكم.
وَذَلِكَ أَن مشاقة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
تَقْتَضِي الْوَعيد لَو تجردت، فَإِذا ... . . قرن المشاقة
بِوَصْف آخر. فَكَمَا يلْزمنَا على قَود كلامكم رِعَايَة
الاقتران فِي الْإِجْمَاع بالمشاقة، فيلزمكم من ضَرُورَة هَذَا
الْكَلَام رِعَايَة اقتران المشاقة بِمَا قرن لَهَا، وَهَذَا
وَاضح فِي إِسْقَاط السُّؤَال.
1348 - فَإِن قَالُوا: " تحمل " الْآيَة على سَبِيل يتَّفق
فِيهِ مشاقة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
(3/23)
قُلْنَا: هَذَا إِعَادَة / مِنْكُم للسؤال
الأول بِعِبَارَة أُخْرَى.
على أَنا نقُول: ثَبت من فحوى الْخطاب ضَرُورَة، أَن
الْمَقْصُود تَعْظِيم أَمر الْمُؤمنِينَ وتوبيخ " مخالفيهم ".
وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل هَذَا الْمَعْنى، فَإِن
الْيَهُود لَو اتَّخذت سَبِيلا فِي فعل من أفعالها وَقَول من
أقوالها، ومخالفتهم تجر الْمُخَالف الى مشاقة الرَّسُول [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] فَلَا يسوغ إِظْهَار مَا يَقْتَضِي
الْمُخَالفَة، فَلَا معنى لتخصيص الْمُؤمنِينَ بِالذكر، فَبَطل
مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
(سُؤال)
1349 - فَإِن قَالُوا: إِن خصصتم الْمُؤمنِينَ بالموجودين فِي
زمن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فيلزمكم تَخْصِيص
الْإِجْمَاع بِأَهْل عصر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] . وَإِن حملتم الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم،
فيلزمكم أَن تَقولُوا: إِن ذَلِك مَحْمُول على كل مُؤمن سَيكون
إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. فَلَا يتَبَيَّن الْإِجْمَاع إِلَّا
بعد انْقِضَاء " الدُّنْيَا ".
قُلْنَا: كل مَا ذكرتموه " مفض " لإِسْقَاط مُوجب الْآيَة،
وحيد مِنْكُم عَن المُرَاد بهَا. فَإنَّا نعلم قطعا، إِنَّه
لَيْسَ المُرَاد تَوْقِيف المخاطبين فِي امْتِثَال مُوجب
الْخطاب إِلَى قيام السَّاعَة. وَمن حمل الْآيَة على هَذَا
الْمحمل، فنعلم بضرورة الْعقل بِحَيْثُ لَا نستجيز " الريب "
فِيهِ أَنه حمل الْآيَة على غير مَا أُرِيد بهَا.
(3/24)
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَن من قَالَ
لغيره: " اتبع سَبِيل الصَّالِحين "، فَلَيْسَ يُرِيد بذلك من
سَيكون من الصَّالِحين الى يَوْم الْقِيَامَة!
على أَنا نقُول: لَو حملنَا الْآيَة على أهل عصر الرَّسُول
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فَإِنَّهُم الَّذين كَانُوا
منعوتين بِحَقِيقَة الْإِيمَان عِنْد وُرُود الْخطاب - فتقوم
الْحجَّة بِإِثْبَات إِجْمَاعهم حجَّة قَاطِعَة. وَالْمَقْصُود
إِثْبَات الِاسْتِدْلَال فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع، إِمَّا
خُصُوصا وَإِمَّا عُمُوما.
فَهَذِهِ جمل من الأسئلة ترشدك الى امتثالها، ويهون عَلَيْك
وَجه الِانْفِصَال عَن كل محَال من سُؤال.
(عود على ذكر أَدِلَّة ثُبُوت الْإِجْمَاع)
1350 - وَرُبمَا يسْتَدلّ مُثبت الْإِجْمَاع بآي من كتاب الله
تَعَالَى:
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة
وسطا} .
وَقَوله تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون
بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} .
(3/25)
وَقَوله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ خلقنَا أمة
يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} .
(طَريقَة أُخْرَى فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع)
1351 - وَهِي الِاسْتِدْلَال بِالْمَعْنَى المتظافر فِي
الْأَلْفَاظ [الَّتِي] نقلهَا الثِّقَات عَن رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] .
مِنْهَا: مَا يرويهِ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَعبد
الله بن مَسْعُود وَغَيرهمَا من كبراء الصَّحَابَة الَّذين
[لَا يُحصونَ] كَثْرَة أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ:
" لَا تَجْتَمِع أمتِي على خطأ " وَفِي بَعْضهَا: " لَا
تَجْتَمِع أمتِي على الضلال "، وَفِي بَعْضهَا: " لم يكن الله
ليجمع أمتِي على الضَّلَالَة، وَسَأَلت الله عز وَجل لَا يجمع
أمتِي على الضَّلَالَة، فَأَعْطَانِيهَا ". وَفِي بَعْضهَا: "
من سره أَن يدْخل الْجنَّة فليلزم الْجَمَاعَة ".
وَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " لَا تزَال طَائِفَة من
أمتِي على الْحق ظَاهِرين، لَا يضرهم خلاف من خالفهم "، وَفِي
بَعْضهَا: " من فَارق الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربقة
الْإِسْلَام من عُنُقه " إِلَى غير ذَلِك من الْأَلْفَاظ
الَّتِي يطول تعدادها.
(3/26)
1353 - وَالْأولَى أَن نقُول: قد علمنَا
قطعا انتشار احتجاج السّلف، فِي الْحَث على مُوَافقَة الْأمة
واتباعها والزجر على مخالفتها، بِهَذِهِ الْأَخْبَار الَّتِي
ذَكرنَاهَا، وَمَا أبدع مبدع فِي " الْعَصْر " الخالية بِدعَة
إِلَّا وبخه عُلَمَاء عصره على ترك الِاتِّبَاع وإيثار
الابتداع، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بالألفاظ الَّتِي قدمناها،
وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، وَقد تحقق ذَلِك فِي زمن
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ، وَلم يظْهر أحد قبل
النظام مطعنا فِي الْأَحَادِيث.
فلولا أَنهم علمُوا قطعا صدق الروَاة، لوَجَبَ فِي مُسْتَقر
الْعَادة أَن [يَبْدُو]- وَلَو شرذمة - فِي الْأَخْبَار ضربا
من المطاعن.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، أَن هَذِه الْأَخْبَار لَو كَانَت
سَبِيلهَا الْآحَاد - وَهِي لَا توجب الْقطع - لذكر بعض من
سبق: أَن الِاحْتِجَاج بالآحاد لَا يسوغ، فَلَمَّا لم يظْهر
ذَلِك مِنْهُم، علمنَا قطعا اعْتِقَادهم صدق الروَاة فِيمَا
نقلوه.
(دفع شُبْهَة أَن أحدا قبل النظام أنكر الْإِجْمَاع)
1354 - فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه مَبْنِيّ
على دَعْوَى، لَا توافقون عَلَيْهَا، وَهُوَ أَن أحدا قبل
النظام لم يُنكر الْإِجْمَاع، وَلم يقْدَح فِي الْأَخْبَار
الَّتِي نقلتموها.
(3/27)
فَلم قُلْتُمْ ذَلِك؟ وَمَا يؤمنكم أَن
ذَلِك كَانَ، وَلم ينْقل {أَو نقل وَلم يَصح عنْدكُمْ؟
قُلْنَا: نَعْرِف ذَلِك بقضية الْعَادة وَوُجُوب استمرارها فِي
حكم الْمَعْقُول. فَإِن تَجْوِيز " خلف " الْإِجْمَاع وَترك
اتِّبَاع الْأمة مِمَّا يعظم خطره، إِذْ على الْإِجْمَاع ابتنى
مُعظم أصُول الشَّرِيعَة، فَلَو خَالف فِيهِ مُخَالف، لنقل
خِلَافه فِي هَذَا الْأَمر الْعَظِيم والخطب الجسيم. فَإِن مَا
هَذَا سَبيله، لَا يجوز خفاؤه فِي طَرِيق النَّقْل.
1355 - وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة نرد على قَول من يَقُول من أهل
الزيغ: إِن الْقُرْآن عورض فِيمَا سبق من الْأَعْصَار، وَلم
تنقل معارضته نقل صِحَة} فَنَقُول: لَو كَانَ ذَلِك - مَعَ
توفر دواعي الْكَفَرَة فِي التَّسَبُّب إِلَى هدم الدّين وتتبع
حججه الباهرة " وبيناته " الزاهرة - لنقل ذَلِك فِي مُسْتَقر
الْعَادة.
هَذَا، والنظام - مَعَ خموله وَقلة خطره فِي النُّفُوس،
وَكَونه معدودا فِي أحزاب الْفُسَّاق - لما أظهر الْخلاف فِي
الْإِجْمَاع، اشْتهر عَنهُ، وَتَقْرِير مَا ذَكرْنَاهُ فِي
اسْتِقْرَار الْعَادة، سهل.
1356 - فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، إِن سلم لكم، فَهُوَ
بِنَاء مِنْكُم على حكم الْعَادة الثَّابِتَة فِي الْحَال،
فَمَا يؤمنكم أَن عادات من قبلكُمْ لم تكن مشابهة لعاداتنا! ؟
قُلْنَا: هَذَا الْآن تعرض مِنْكُم لجحد الضَّرُورَة، فَإنَّا
كَمَا نعلم اسْتِمْرَار الْعَادَات فِي زمننا، فنعلم ذَلِك فِي
زمن من قبلنَا ضَرُورَة، وَهَذَا كَمَا أَنا لما
(3/28)
علمنَا بمجرى الْعَادة، أَن أهل
التَّوَاتُر لَا يخبرون عَن مُشَاهدَة، وهم كاذبون، فَهَذَا
مِمَّا اسْتَوَت عَلَيْهِ الْأَعْصَار، وَكَذَلِكَ نعلم
ضَرُورَة أَن الطَّعَام وَالشرَاب / كَانَا يشبعان ويرويان من
قبلنَا، على اطراد الْعَادة، فَلَو سَاغَ " تنفيض " الْعَادة،
لأفضى بذلك إِلَى ضروب من الجهالات.
1357 - فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، لَو ثَبت لكم،
[لَكَانَ] اسْتِدْلَالا مِنْكُم فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع
بِنَفس الْإِجْمَاع، وَهَذَا من أهم الأسئلة، فَتَأَمّله.
قَالُوا: فَأكْثر مَا فِي الْبَاب أَن نسلم لكم اتِّفَاق من
قبل النظام على مَا ادعيتموه، فَمن أَيْن لكم أَن اتِّفَاقهم
يدل على تَصْدِيق الروَاة قطعا؟ وَبِمَ تنكرون على من يزْعم
أَنهم وَإِن اتَّفقُوا على مَا ادعيتموه، فهم كَانُوا مخطئين
فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ! ؟
قُلْنَا: لم نستدل عَلَيْكُم من الْوَجْه الَّذِي ظننتموه،
وَإِنَّمَا استدللنا عَلَيْكُم بقضية الْعَادة الَّتِي ينتسب
جاحدها الى رفض الضَّرُورَة، فَقُلْنَا: لَو كَانَ فِيمَا تمسك
بِهِ من قبل النظام ريب - كَمَا ادعيتموه - لوَجَبَ فِي
مُسْتَقر الْعَادة أَن يظْهر ذَلِك عَن أحد، فَإِنَّهُ يبعد
فِي قَضِيَّة الْعَادة أَن يخفي الشَّيْء الظَّاهِر على أهل
الْإِجْمَاع مَعَ شدَّة فحصهم واعتنائهم بتمييز الْحق عَن
الْبَاطِل. فَهَذَا مِمَّا لَا يسوغ فِي الْعَادَات، وَلَيْسَ
سَبيله سَبِيل الْإِجْمَاع الَّذِي ظننتموه.
وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة تقرر عندنَا أَن الْقُرْآن لم
يُعَارض، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي
(3/29)
صدر الدّلَالَة، فَلَمَّا لم يظْهر من أحد
طعن فِي الحَدِيث، فَمَا ذَاك إِلَّا لثُبُوت الصدْق فِيهِ
قطعا.
1358 - فَإِن قيل: فَمَا يؤمنكم أَن الَّذين قبل النظام
اعتقدوا صِحَة الْإِجْمَاع، وَلَكِن لَا عَن الحَدِيث الَّذِي
تمسكتم بِهِ، فَمن أَيْن لكم أَنهم اعتقدوا مَا اعتقدوه عَمَّا
نقلتموه؟
قُلْنَا: قد بَينا ظُهُور التَّمَسُّك بِمَا قدمْنَاهُ من
الْأَخْبَار ووضوحه " عَن الانتشار " وَلَو لم يكن الْخَبَر
مَقْطُوعًا لَهُ، لقَالَ بعض أهل الْأَعْصَار: إِنَّه لَا
يتَمَسَّك فِيمَا يطْلب فِيهِ الْقطع بِمَا لَا يَقْتَضِي
الْقطع، فَلَمَّا لم يبد هَذَا الضَّرْب من النكير فِي
الْعَصْر الخاليه، دلّ على مَا قُلْنَاهُ دلَالَة ظَاهِرَة.
(ذكر أسولة الْقَوْم فِي تَأْوِيل الْأَحَادِيث وصرفها عَن
ظواهرها)
1359 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَعْنى
بقوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا تَجْتَمِع أمتِي على
ضَلَالَة) أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يجمعها على
الضَّلَالَة إِذْ لَا يسوغ فِي حكمته وعدله عَن ذَلِك، فَهَذَا
هُوَ المُرَاد بالْخبر، وَأما الْعباد لَو اجْتَمعُوا
بِأَنْفسِهِم على الضَّلَالَة فَلَا استنكار فِيهِ، وبنوا
هَذَا السُّؤَال [على] جحد الْقدر.
فَنَقُول: إِنَّمَا يسْتَقرّ هَذَا السُّؤَال لَو ثَبت لكم مَا
تهذون بِهِ فِي التَّعْدِيل
(3/30)
والتجوير، وهيهات! فَرد أَسبَاب أَهْون من
إثْبَاته.
1360 - على أَنا نقُول: لَو كَانَ الْأَمر على مَا قلتموه، لم
يكن لتخصيص الْأمة فَائِدَة. فَإِن مَا ذكرتموه يَتَقَرَّر فِي
الْوَاحِد تقرره فِي الْأمة، إِذْ لَا يسوغ فِي حكمته -
تَعَالَى عَن قَوْلهم - أَن يضل وَاحِدًا، كَمَا لَا يسوغ أَن
يضل السّريَّة، وَكَذَلِكَ فَلَا اخْتِصَاص لهَذِهِ الْأمة فِي
مُقْتَضى أصلكم، فَتبين بطلَان مَا قلتموه.
1361 - على أَنا نقُول: قد أوضحنا بِمَا قدمنَا، أَن الَّذين
سبقوا كَانُوا يحرصون على الِاتِّبَاع، ويزجرون عَن الابتداع،
ويأمرون بموافقة أهل الْإِجْمَاع، ويوبخون مخالفيهم بالأخبار
المنطوية على اقْتِضَاء الِاتِّبَاع، فَلَو كَانَ معنى
الْأَحَادِيث مَا ذكرتموه، لما خفى ذَلِك فِي مُسْتَقر
الْعَادة على الَّذين سبقُونَا.
1362 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن النَّبِي
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَرَادَ بالضلال الْكفْر
وَالْخُرُوج عَن الدّين، وَبَين أَن أمته لَا يخرجُون عَن
الدّين / جملَة، ويبقون عَلَيْهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة،
فَمن أَيْن لكم وجوب اتباعهم فِي أَحْكَام الشَّرَائِع وآحاد
الْمسَائِل، إِذا اتَّفقُوا على أَحْكَامهَا؟
وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: الضلال لَا يُنبئ إِلَّا عَمَّا
قُلْنَاهُ، وَالْخَطَأ فِي أَحْكَام الْفُرُوع لَا يُسمى
ضلالا.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من أوجه:
(3/31)
أَحدهَا: إِن من أصل النظام، أَنه يجوز أَن
تَجْتَمِع الْأمة على ضلال، فَإِنَّهُ لايسوغ التَّمَسُّك
بِالْإِجْمَاع فِي الديانَات، كَمَا لَا يسوغه فِي الشرعيات.
فَهَذَا تحكم مِنْهُم لَا يُوَافق " مَذْهَبهم ".
على أَنا نقُول: كل حيد عَن السّنَن المرسوم عقلا وسمعا، سمي
ضلالا على الْحَقِيقَة. وَمِنْه سمي الضال عَن الطَّرِيق
ضَالًّا، واللفظة ضَالَّة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: {فعلتها إِذا وَأَنا من
الضَّالّين} ، وَلم يرد من الْكَافرين، إِنَّمَا أَرَادَ من
المخطئين.
ثمَّ نقُول: قد ورد فِي بعض " الْأَلْفَاظ " مُشْتَمِلًا على "
الْخَطَأ "، فلئن [اسْتمرّ] فِي الضلال مَا قلتموه، فَلَا
يسْتَمر فِي الْخَطَأ.
على أَنا أوضحنا: أَن من قبلنَا استدلوا [بِهِ] فِي وجوب
الِاتِّبَاع عُمُوما، وَلم يخصصوه بضروب من الْأَشْيَاء، بِمَا
قدمْنَاهُ من الْأَخْبَار، وَلم يُؤثر عَنْهُم تَخْصِيص
التحريض على الِاتِّبَاع بِحكم دون حكم.
1363 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم، أَن النَّبِي
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِنَّمَا أمرنَا بِاتِّبَاع الْأمة،
فِيمَا وَافَقت فِيهِ نَص كتاب؟
قُلْنَا: هَذَا تَخْصِيص مِنْكُم للْعُمُوم، وَمن يَقُول بِهِ،
يصدكم عَن ذَلِك من غير إِقَامَة الدّلَالَة.
(3/32)
على أَنا نقُول: " الْعلم " من مُقْتَضى
الْأَخْبَار: وجوب الِاتِّبَاع فِيمَا يُؤثر فِيهِ
الْإِجْمَاع، ويقتضيه الْإِجْمَاع، فَإِذا فرضتم الْكَلَام فِي
مَسْأَلَة فِيهَا نَص، فَلَا أثر للْإِجْمَاع إِذا، بل النَّص
يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي إثارة الحكم، ثمَّ كل مَا ذكرتموه تحكم
مِنْكُم، فَإنَّا نعلم أَن من قبلنَا، لم يخصص التحريض على
الِاتِّبَاع والتمسك فِي تَحْقِيقه بالأخبار بمورد نَص، بل
عمموا ذَلِك. فَلَو صَحَّ مَا قَالُوهُ، لأبداه أهل الْعَصْر
السَّابِقَة وأظهروه.
1364 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم: إِنَّه
أَرَادَ بالأمة من سَيكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ فَلَا
يسْتَقرّ الْإِجْمَاع إِذا إِلَّا بانتهاء الدُّنْيَا.
قُلْنَا: هَذَا تَصْرِيح مِنْكُم برد الْأَخْبَار، وَوجه من
تمسك قبلنَا بهَا، فَإنَّا نعلم أَن الَّذين سبقُونَا، تمسكوا
بهَا فِي الْأَمر بالاتباع، وَلَو كَانَ مَعْنَاهُ مَا قلتموه،
لما تحقق استفادة الِاتِّبَاع مِنْهَا بِحَال، فَتبين أَن مَا
ذَكرُوهُ تعنت مِنْهُم، وحيد عَن المُرَاد بالأخبار.
وَلَهُم أسولة سوى مَا ذَكرْنَاهُ ويسهل " التفصي " عَنْهَا.
(ذكر ضرب آخر من مطاعنهم فِي الْأَخْبَار الَّتِي ذكروها)
1365 - فَإِن قَالُوا: لَئِن سَاغَ لكم التَّمَسُّك بِمَا
قلتموه، فَنحْن نقابله بِمَا يُضعفهُ ويوهنه من كتاب الله
تَعَالَى وَسنة رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
(3/33)
فمما اعتصموا بِهِ: الظَّوَاهِر الدَّالَّة
فِي كتاب الله تَعَالَى على النَّهْي عَن المزاجر وضروب
التحذير فِيهِ، و " أموا " إِلَى كل آيَة فِيهَا وزجر، نَحْو
قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الربوا} وَقَوله تَعَالَى:
{إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال اليتمى ظلما} وَغَيرهَا من
مرادع الْقُرْآن.
قَالُوا: وَقد ثَبت أَن كَافَّة الْأمة مخاطبون بذلك، منهيون
[عَنهُ] فَلَو كَانَ لَا يتَصَوَّر من جَمِيعهم الْإِجْمَاع
عَلَيْهِ، لما تعلق الْخطاب بهم! فَإِن الْخطاب يتَعَلَّق بِمن
يتَصَوَّر مِنْهُ مُخَالفَته وموافقته.
1366 - قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تحكم مِنْكُم، فَمن
أَيْن لكم أَن من شَرط توجه الْخطاب تصور الْمُخَالفَة من
المخاطبين؟ فَهَذَا مِمَّا ننازعكم فِيهِ أَشد الْمُنَازعَة.
هَذَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تَوَجَّهت
عَلَيْهِ مناه " تجب " عصمته فِيهَا / [مِنْهَا] قَوْله
تَعَالَى: {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} .
وَقَوله تَعَالَى: {فاستقم كَمَا أمرت}
(3/34)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تتبع أهواءهم} .
وَقَالَ تَعَالَى لنوح عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنِّي أعظك أَن
تكون من الْجَاهِلين} إِلَى غير ذَلِك مِمَّا توجه على
الْأَنْبِيَاء، صلوَات الله عَلَيْهِم من ضروب المزاجر، مَعَ
وجوب عصمتهم عَنْهَا.
1367 - وَرُبمَا يستدلون بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ فِي حجَّة الْوَدَاع: (لَا ترجعوا
بعدِي كفَّارًا، يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض) ، وَرُبمَا
استروحوا إِلَى قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا تقوم
السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس) وَقَول: (بَدَأَ
الْإِسْلَام غَرِيبا، وَسَيَعُودُ غَرِيبا) ، وَلَا مستروح
لَهُم فِي شَيْء مِمَّا ذَكرُوهُ
(3/35)
من الْآحَاد، الَّتِي لَا تكَاد تبلغ مبلغ
الاستفاضة، لَا فِي اللَّفْظ وَلَا فِي الْمَعْنى.
فَأَما قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا ترجعوا بعدِي
كفَّارًا) ، فَلم يرد بِهِ جَمِيعهم، و " إِنَّمَا " أَرَادَ
طَائِفَة مِنْهُم لَا بأعيانهم، ويقوى ذَلِك على نفي
الْعُمُوم.
1368 - على أَنا نقُول للنظام: أَلَسْت قلت فِي تَأْوِيل
الْأَخْبَار الَّتِي تمسكنا بهَا أَن الْمَعْنى بهَا " فِي "
أَن الْأمة لَا تَجْتَمِع على كفر وضلالة؟ فَمَا وَجه احتجاجك
الْآن بِهَذَا الْخَبَر؟
1369 - وَإِن كَانَ الِاحْتِجَاج من الإمامية، فَيُقَال لَهُم:
أَلَيْسَ من أصلكم أَن قَول الإِمَام الْمَعْصُوم حجَّة
قَاطِعَة؟ وَهُوَ مِمَّن تجب عصمته! فَبِمَ تنكرون أَنه دَاخل
تَحت هَذِه المزاجر الَّتِي تمسكتم بهَا؟ فَإِن زَعَمُوا أَن
لَا يدْخل تحتهَا، وَهُوَ مُسْتَثْنى مَخْصُوص عَن النَّاس،
فَيَنْبَغِي أَن لَا ينكروا منا التَّخْصِيص أَيْضا.
1370 - وَرُبمَا يسْتَدلّ منكروا الْإِجْمَاع، بِمَا قدمنَا من
دَعْوَى اسْتِحَالَة الْإِجْمَاع، ووجوه اسْتِحَالَة النَّقْل
عَن الْأمة وَإِن تصور إِجْمَاعهم، وَقد استقصينا القَوْل فِي
ذَلِك بِمَا فِيهِ بَلَاغ.
1371 - فَإِن قَالُوا: مَا من أحد من أهل الْإِجْمَاع إِلَّا
وَهُوَ بصدد الزلل، فَمَا بالهم إِذا اجْتَمعُوا خَرجُوا عَن
هَذَا الْجَوَاز؟
وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن نقُول: مَا ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم
بِنَقْل أهل التَّوَاتُر الْأَخْبَار عَن المشاهدات، فَإِنَّهُ
ثَبت صدقهم ضَرُورَة - والنظام لَا يُنكر ذَلِك - وكل وَاحِد
مَوْصُوف بِأَنَّهُ لَو انْفَرد بِالنَّقْلِ جَازَ عَلَيْهِ.
(3/36)
1372 - ثمَّ نقُول: خبرونا، هَل فِي
مقدورات الرب تَعَالَى أَن يعْصم الْأمة إِذا اتّفقت، مَعَ أَن
حيدها عَن الْحق من قبيل المقدورات؟
فَإِن قَالُوا: ذَلِك فِي الْمَقْدُور.
قُلْنَا: فَلَا نستنكره إِذا دلّت عَلَيْهِ الدّلَالَة.
(244) فصل
(فِي أَن الْإِجْمَاع إِذا ثَبت فَيجب اتِّبَاعه)
1373 - فَإِن قَالَ قَائِل: إِن سلم لكم مَا ادعيتموه من أَن
مَا اجْتمعت عَلَيْهِ الْأمة صَوَاب حق، فَلم قُلْتُمْ: إِنَّه
يجب اتباعهم؟ وَرب صَوَاب يصدر، وَلَا يجب اتِّبَاع صَاحبه
فِيهِ؟
قَالُوا: وَهَذَا كَقَوْلِهِم: إِن كل مُجْتَهد مُصِيب ثمَّ
لَا يجب اتِّبَاع كلهم، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِر، يُصِيب فِي
اسْتِبَاحَة الرُّخص، وَلَا يتبعهُ الْمُقِيم، إِلَى غير ذَلِك
مِمَّا يكثر عده.
قُلْنَا: كل مَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة على إِثْبَات
الْإِجْمَاع، فَهُوَ مَبْنِيّ على وجوب الِاتِّبَاع.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ}
فصريح فِي الْأَمر بالاتباع، كَمَا قدمْنَاهُ وَكَذَلِكَ
الْأَخْبَار الَّتِي اعتصمنا بهَا. " فَلم نقل " إِن الْأمة
يجب اتباعها لكَون مَا اجْتمعت عَلَيْهِ حَقًا، ليلزمنا مَا
قلتموه.
1374 - ثمَّ نقُول: إِذا ثَبت إِجْمَاع الْأمة لَا يكون إِلَّا
على صَوَاب،
(3/37)
فمما اجْتمعت عَلَيْهِ، وجوب الِاتِّبَاع
عِنْد تَقْدِير الِاجْتِمَاع، فَإِن النَّاس حزبان:
مِنْهُم من يُنكر الْإِجْمَاع، وَيَزْعُم أَن مَا أجمع
[عَلَيْهِ] أهل الْإِجْمَاع، يجوز أَن يكون خطأ، وَمِنْهُم من
يقطع بِكَوْنِهِ صَوَابا.
وَلَا قَائِل / بِأَنَّهُ صَوَاب غير متتبع فالمصير إِلَى
تثبيت الصَّوَاب، مَعَ القَوْل بِنَفْي وجوب الِاتِّبَاع،
إِحْدَاث قَول ثَالِث، مفض إِلَى خرق " الْإِجْمَاع " فَبَطل
مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
((245) القَوْل فِي أَوْصَاف المجمعين وَذكر من يعد خِلَافه،
وَمن لَا يعد خِلَافه)
1375 - اعْلَم، وفقك الله، أَن الِاعْتِبَار فِي الْإِجْمَاع
بعلماء الْأمة، حَتَّى لَو قَدرنَا من وَاحِد من الْعَوام،
اخْتِلَاف مَا عَلَيْهِ الْعلمَاء، لم يكترث بِخِلَافِهِ،
وَهَذَا ثَابت اتِّفَاقًا وإطباقا. إِذْ لَو قُلْنَا: إِن "
خلاف " الْعَوام يقْدَح فِي الْإِجْمَاع - مَعَ أَنهم لَا
يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ إِلَّا عَن جهل وحدس، وَلَا يصدرون
" أَقْوَالهم عَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة - أفْضى هَذَا الى
اعْتِبَار خلاف من يعلم أَنه قَالَ مَا قَالَه عَن غير أصل
وَدَلِيل، على أَن الْأمة أَجمعت علماؤها وعوامها أَن خلاف
الْعَوام لَا مُعْتَبر بِهِ، وَقد مر على هَذَا الْإِجْمَاع
عصر، فَثَبت
(3/38)
بِمَا قُلْنَاهُ أَلا مُعْتَبر بِخِلَاف
الْعَوام.
1376 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِذا أجمع عُلَمَاء الْأمة على
حكم من الْأَحْكَام، فَهَل تطلقون القَوْل، بِأَن الْأمة مجمعة
عَلَيْهِ، أَو مَا قَوْلكُم فِيهِ؟
قُلْنَا: من الْأَحْكَام، مَا يحصل فِيهِ اتِّفَاق الْخَاص
وَالْعَام، نَحْو وجوب الصَّلَوَات وَوُجُوب أصل الزَّكَاة
وَالصَّوْم وَالْحج " وَغَيرهَا " من أصُول الشَّرِيعَة، فَمَا
هَذَا وَجهه، فيطلق القَوْل، بِأَن الْأمة أَجمعت عَلَيْهِ.
وَأما مَا أجمع عَلَيْهِ الْعلمَاء من أَحْكَام الْفُرُوع
الَّتِي تشذ عَن الْعَوام، فقد اخْتلف أَصْحَابنَا فِي ذَلِك:
فَقَالَ بَعضهم: الْعَوام " مدخولون " فِي حكم الْإِجْمَاع،
وَذَلِكَ أَنهم وَإِن لم يعرفوا تَفْصِيل الْأَحْكَام، فقد
عرفُوا على الْجُمْلَة، أَن مَا أجمع عَلَيْهِ عُلَمَاء الْأمة
فِي تفاصيل الْأَحْكَام، فَهُوَ حق مَقْطُوع بِهِ، فَهَذَا
وَجه مساهمة مِنْهُم فِي الْإِجْمَاع، وَإِن لم يعلمُوا مواقعه
على التَّفْصِيل.
(3/39)
وَمن أَصْحَابنَا من زعم أَنهم لَا
يكونُونَ مساهمين فِي الْإِجْمَاع، فَإِنَّهُ إِنَّمَا
يتَحَقَّق الْإِجْمَاع فِي التفاصيل بعد الْعلم بهَا، فَإِذا
لم يَكُونُوا عَالمين بهَا. فَلَا يتَحَقَّق كَونهم من أهل
الْإِجْمَاع فِيهَا.
1377 - وَاعْلَم أَن هَذَا اخْتِلَاف يهون أمره، ويؤول إِلَى
عبارَة مُحصنَة، وَالْجُمْلَة فِيهِ أَنا إِذا أدرجنا الْعَوام
فِي حكم الْإِجْمَاع، فنطلق القَوْل بِإِجْمَاع الْأمة، وَإِن
لم ندرجهم فِي حكم الْإِجْمَاع، أَو بدر من بعض طوائف الْعَوام
خلاف فَلَا يُطلق القَوْل بِإِجْمَاع الْأمة، فَإِن الْعَوام
مُعظم الْأمة وكثرها، بل نقُول: أجمع عُلَمَاء [الْأمة] .
1378 - فَإِن قيل: هَل تجوزن أَن يجمع عُلَمَاء الْأمة على حكم
من الْأَحْكَام من غير دَلِيل؟
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا يجوز بل نحيله، وَذَلِكَ أَن الْأمة
أَجمعت على أَنه لَا يجوز إِثْبَات حكم فِيهِ من غير دَلِيل،
فَلَو جَوَّزنَا إِجْمَاعهم من غير دَلِيل " خطئَ "
إِجْمَاعًا.
(3/40)
(246) فصل
(هَل الِاعْتِبَار فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع بجملة الْعلمَاء
أم يخْتَص ببعضهم؟)
1379 - إِذا ثَبت بِمَا قدمْنَاهُ، أَن الْعبْرَة فِي
الْإِجْمَاع بعلماء الْأمة، وهم الَّذين يقْدَح خلافهم،
وَيمْنَع من انْعِقَاد الْإِجْمَاع.
فَلَو قَالَ قَائِل: أفتعتبرون جملَة الْعلمَاء فِيمَا
ذكرتموه، أَو تخصصونه بطَائفَة مِنْهُم؟
قُلْنَا: قد اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك:
فَذهب شرذمة مِنْهُم فِي جمع من الْفُقَهَاء إِلَى أَن أهل
الْإِجْمَاع فِي أَحْكَام الشَّرْع، هم الَّذين تصدوا
للْفَتْوَى، واستجمعوا شرائطها.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْعبْرَة فِي الْفُقَهَاء، المنفردين
بِحِفْظ مسَائِل الْفُرُوع.
1380 - قَالَ / القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي يَصح فِي
ذَلِك عندنَا: أَن من لم ينْتَصب للْفَتْوَى، و " لم يتَصَدَّى
" لجمع مسَائِل الْفُرُوع - وَلَكِن لما كَانَ من الْعَالمين
بأصول الديانَات، وأصول الْفِقْه، وَكَانَ يعلم مواقع
الْأَدِلَّة وموجبها، وَوجه إفضائها إِلَى الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة، وطرق الاستنباط، ووجوه التَّرْجِيح عِنْد
تعَارض الْأَدِلَّة، وَتَقْدِيم بَعْضهَا عِنْد التباس
الْحَال، فَهُوَ من أهل الْإِجْمَاع، وَيعْتَبر خِلَافه
ووفاقه.
(3/41)
1381 - وَالدَّلِيل على ذَلِك: أَنا قد
ثبتنا الْإِجْمَاع بقوله عز أُسَمِّهِ: {وَيتبع غير سَبِيل
الْمُؤمنِينَ} [و] بالأخبار الَّتِي نقلناها وَلَيْسَ فِي
قَضِيَّة مَا أَقَمْنَا من الْأَدِلَّة، تَخْصِيص أهل
الْفَتْوَى. أَو تَخْصِيص حفظه الْفُرُوع، وَلَوْلَا قيام
الْإِجْمَاع، لأدرجنا الْعَوام فِي حكم الْإِجْمَاع، وَلَكِن
لما ثَبت بِدلَالَة الْإِجْمَاع أَنه لَا مُعْتَبر بِخِلَاف
الْعَوام، لم نعتبرهم، وَبَقِي الْعلمَاء من غير تَخْصِيص فِي
حكم الْإِجْمَاع.
1382 - وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَن أهل الْإِجْمَاع،
هم الَّذين سهل عَلَيْهِم مدرك المشكلات، وَيتَصَوَّر مِنْهُم
التَّوَصُّل إِلَيْهَا على يسر، وَأهل الْأُصُول بِهَذِهِ
المثابة، فَإِنَّهُم إِذا علمُوا طرق الِاجْتِهَاد وَوجه
التَّمَسُّك بأصول الشَّرِيعَة، فَلَا يعجزهم إِذا عنت
حَادِثَة، أَن يعرفوا وُجُوه الْمذَاهب فِيهَا فِي " أدنى مَا
يقدر ". ثمَّ تكون معرفتهم بطرق الِاجْتِهَاد فَوق معرفَة
الْفُقَهَاء " غير " " المحظوظين " بالأصول، ومنزلة
الْأُصُولِيِّينَ فِي ذَلِك منزلَة فَقِيه، تشذ عَلَيْهِ
مَسْأَلَة، فيطالعها ويتتبعها ويردها إِلَى حفظه.
فَثَبت لما قُلْنَاهُ: أَن أَرْبَاب الْأُصُول مِمَّن يستضاء
بآرائهم فِي طرق الِاجْتِهَاد وتوصلهم إِلَى أَحْكَام
الْفُرُوع، مَعَ " ذهابهم " عَن بعض الْفُرُوع
(3/42)
" الحفظية "، أقرب من توصل الْفُقَهَاء،
مَعَ ذهابهم عَن أسرار الْأُصُول وحقائق الِاجْتِهَاد.
1383 - وَمن أوضح مَا يدل على ذَلِك، أَنا نعلم أَن
الصَّحَابَة، كَانُوا يعتبرون خلاف من لم يشْهد مِنْهُ فِي
الصَّحَابَة تعيد للْفَتْوَى، نَحْو الزبير وَطَلْحَة
وَغَيرهمَا من عُلَمَاء الصَّحَابَة الَّذين لم يشْهد عَنْهُم
الانتصاب للْفَتْوَى، كَمَا اشْتهر عَن الْخُلَفَاء ومعاذ
وَابْن مَسْعُود وَغَيرهم، ثمَّ كَانُوا يعتبرون خلاف من
عداهم.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، إِيقَاع عمر بن الْخطاب رَضِي الله
عَنهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَطَلْحَة وسعدا فِي الشورى
ورتب الْإِمَامَة الْعُظْمَى، فوضح بذلك مَا قُلْنَاهُ.
(3/43)
1384 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يسوغ
لأرباب الْأُصُول إِذا قَالَ الْفُقَهَاء قولا، أَن يقلدوهم
فِيمَا قَالُوهُ، من غير تفحص وَتَحْقِيق؟
قُلْنَا: لَو فعلوا ذَلِك مَعَ الْقُدْرَة على الفحص على
طَرِيق الِاجْتِهَاد، لم يَكُونُوا معذورين، بل عَلَيْهِم بذل
" كنه "
(3/44)
المجهود، ويستقصى القَوْل فِي ذَلِك عِنْد
ذكرنَا التَّقْلِيد، وتجويز اتِّبَاع الْعَالم الْعَالم، إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
(247 فصل)
(من تَقْتَضِي الْأَدِلَّة تكفيره، فَلَا يكترث بِخِلَافِهِ
ووفاقه)
1385 - اعْلَم، وفقك الله، أَن من أَجمعت الْأمة على تكفيره
وانسلاله عَن الدّين، فَلَا مُعْتَبر بِخِلَافِهِ ووفاقه.
فَأَما الَّذين اقْتَضَت الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تكفيرهم
بِمَا اعتقدوه وأبدعوه، وَرُبمَا لَا يدْرك وَجه تكفيرهم
إِلَّا المميزون بِعلم الْأُصُول - فَإِن التَّكْفِير مِمَّا
يدق النّظر فِيهِ - فَمَا حكمهم؟ وَهل يعْتد بخلافهم ووفاقهم؟
1386 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: من تَقْتَضِي
الْأَدِلَّة تكفيره، فَلَا يكترث بِخِلَافِهِ ووفاقه أصلا،
فَإِنَّهُ قد وضح بالأدلة خُرُوجه عَن الدّين، فلحق / بالكفار
الْمُجَاهدين بالْكفْر، وَهَذَا ثَبت إِجْمَاعًا، فَإِن الْأمة
مجمعة، على أَن من ثَبت كفره، لَا يعْتد بِخِلَافِهِ فِي
الْمسَائِل " الْحكمِيَّة ".
(3/45)
1387 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا اعتبرتم
فِي التَّكْفِير الْإِجْمَاع؟ حَتَّى لَا تكفرُوا إِلَّا من
أَجمعت الْأمة على تكفيره.
قُلْنَا: الْكَلَام فِي التَّكْفِير يطول تتبعه، وَهُوَ مِمَّا
يستقصى فِي الديانَات.
وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك: أَن من وضح عِنْده كفر قوم
بِالدّلَالَةِ الْعَقْلِيَّة، فَلَا تحْتَاج الدّلَالَة
الْعَقْلِيَّة إِلَى الاعتضاد بِالْإِجْمَاع.
1388 - فَإِن قَالَ قَائِل: فمعظم الْفُقَهَاء الَّذين لم
يحيطوا بالأصول، لَا يكفرون الَّذين يكفرهم المتكلمون، فَهَل
تَقولُونَ: إِن الَّذين لم يحيطوا علما بتكفيرهم مخاطبون
مكلفون بالاعتقاد بخلافهم، وَالَّذين علمُوا من
الْمُتَكَلِّمين وَجه تكفيرهم، فَلَا يعتدون بخلافهم؟
(3/46)
1389 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ:
ذكرنَا فِي بعض مصنفاتنا أَنا لَو قُلْنَا بذلك، لم يبعد
حَتَّى نقُول: من أحَاط علما بِمَا يَقْتَضِي تَكْفِير قوم،
فَهُوَ يقطع أَنه لَا يعْتد بخلافهم وَمن ذهب عَنهُ مدرك ذَلِك
من عُلَمَاء الْأمة، فَهُوَ مُخَاطب بالاعتداد بخلافهم،
وَهَذَا كَمَا أَن من بلغه النَّاسِخ، فَهُوَ مُخَاطب
بِحكمِهِ، وَمن لم يبلغهُ النَّاسِخ، فَيجب عَلَيْهِ
الْإِصْرَار على الحكم.
1390 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: ثمَّ وضح عندنَا أَن
ذَلِك محَال، فَإِن من دلّت الدّلَالَة على وجوب تكفيره، فَلَا
يعْتَبر بِخِلَافِهِ فِي جملَة وَلَا تَفْصِيل، وَأما
الْفُقَهَاء الَّذين ذهب عَنْهُم مدرك ذَلِك، فَلَا يخاطبون
بالاعتداد بخلافهم، وَلَكنهُمْ مخاطبون بِأَن يَجدوا ويجتهدوا
فِي مدرك أَوْصَاف من يعْتد " خِلَافه " ووفاقه، وليعلموا مَا
يَقع بِهِ التَّكْفِير، ليتميز الْمَقْصد فِي ذَلِك، فَإِن
هَذَا مَا يقدر عَلَيْهِ ويتوصل إِلَيْهِ، إِذْ لَو لم نقل
ذَلِك، لزمنا أَن نقُول: قد ينْعَقد الْإِجْمَاع مَقْطُوعًا
بِهِ فِي حق الْمُتَكَلِّمين، وَهُوَ غير مَقْطُوع مُنْعَقد
فِي حق الْفُقَهَاء، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَإِن
الْإِجْمَاع لَا يَتَبَعَّض فِي انْعِقَاده وَلَيْسَ كَذَلِك
الَّذِي لم يبلغهُ النَّاسِخ، فَإِنَّهُ غير مقتدر على
الْوُصُول إِلَيْهِ، وَالْفُقَهَاء موصوفون بالاقتدار على
الْوُصُول إِلَى مُوجب التَّكْفِير، فليجدوا فِيهِ وليحضوا
عَلَيْهِ، فَإِنَّهُم " موصوفون " بالاقتدار عَلَيْهِ على قرب،
حَتَّى لَا " يضْطَر " إِلَى تبعيض حكم الْإِجْمَاع، فَيحكم من
خص بالأصول بانعقاد الْإِجْمَاع فِي مَسْأَلَة لَعَلَّه
بِأَنَّهُ لم يبْق فِيهَا إِلَّا الَّذين تَقْتَضِي
(3/47)
دلَالَة الْعقل تكفيرهم. وَيحكم الَّذين لم
يتدبروا مَا يَقع بِهِ التَّكْفِير، بِأَن الْإِجْمَاع لم
ينْعَقد بعد.
وَكَذَلِكَ من الْمَعْنى أَوجَبْنَا على الْفُقَهَاء تتبع مَا
يُوجب التَّكْفِير، حَتَّى لَا يتوقفوا فِي الحكم بانعقاد
الْإِجْمَاع فِي أَمْثَال هَذِه الصُّورَة.
1391 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي يُوجب التَّكْفِير؟
قُلْنَا: هَذَا لَا مطمع فِي تَقْرِيره فِي هَذَا الْفَنّ.
1392 - فَإِن قيل: أَفَرَأَيْتُم لَو صَار صائرون من الَّذين "
تكفرونهم " إِلَى مَذْهَب يُخَالف مَا عَلَيْهِ الْبَاقُونَ،
ثمَّ إِنَّهُم تَابُوا وأنابوا وَرَجَعُوا عَمَّا يُوجب
تكفيرهم، وهم مصرون على الْمَذْهَب الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ،
فَهَل يقْدَح ذَلِك الْآن فِي الْإِجْمَاع؟
قُلْنَا: لَا يقْدَح ذَلِك فِي الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ أَن
الْإِجْمَاع قد انْعَقَد قبل إنابتهم. فَلَا مُعْتَبر بمذهبهم.
وَعَلِيهِ مُوَافقَة مَا عَلَيْهِ الْأمة، وَهَذَا إِنَّمَا
يَسْتَقِيم على قَوْلنَا إِن انْقِرَاض الْعَصْر لَا يشْتَرط
فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع - على مَا سنوضحه بعد ذَلِك إِن
شَاءَ الله تَعَالَى /.
(3/48)
(248 فصل)
(هَل عدد التَّوَاتُر شَرط فِي المجمعين)
1393 - فَإِن قَالَ قَائِل: أَفَرَأَيْتُم لَو غلب الْكفْر -
وَالْعِيَاذ بِاللَّه - فِي آخر الزَّمَان كَمَا وعده رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَلم يبْق من الْمُؤمنِينَ
إِلَّا شرذمة قَليلَة، بِحَيْثُ لَو نقلوا خَبرا فِيمَا
شاهدوه، لم يقتض الْعلم الضَّرُورِيّ، إِذْ لم يبلغُوا أقل عدد
التَّوَاتُر، فَهَل يتَصَوَّر مِنْهُم الْإِجْمَاع - وَهَذَا
وَصفهم؟ [و] هَل يقطع بِأَن مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حق؟
قَالُوا: فَإِن قُلْتُمْ: مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حق -
وَالْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِي الصُّورَة الَّتِي ذَكرنَاهَا -
أدّى ذَلِك إِلَى محَال، وَهُوَ أَن المجمعين لَو أخبروا عَن
أنفسهم بِالْإِيمَان والإيقان، لم يَقع لنا الْعلم بصدقهم فِي
أصل الْإِيمَان، لعلمنا بقصورهم عَن مبلغ عدد التَّوَاتُر:
فَإِذا كُنَّا نستريب فِي إِيمَانهم، فَكيف نقطع القَوْل بِأَن
مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حق؟ وَإِن قُلْتُمْ إِنَّه لَا حكم
لاتفاقهم، فقد
(3/49)
جوزتم أَن " يَخْلُو " عصر من الْأَعْصَار
عَن أهل الْإِجْمَاع.
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا قَدِيما
وحديثا، فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَن أهل الْإِيمَان لَا
يرجعُونَ إِلَى الْعدَد الَّذِي ذكرتموه، إِذْ قد ثَبت بالأدلة
القاطعة وَإِجْمَاع الْأمة أَن أهل هَذِه الْملَّة لَا
ينقرضون، إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّور. وَقد قَالَ رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي
ظَاهِرين بِالْحَقِّ، لَا يضرهم خلاف من خالفهم) فعلى هَذَا
لَا يجوز أَن يَخْلُو عصر من الْأَعْصَار عَن طَائِفَة من
الْمُؤمنِينَ يبلغون عدد أهل التَّوَاتُر، فَسقط مَا قَالُوهُ
على هَذَا الْمَذْهَب.
وَمن أَصْحَابنَا من جوز رُجُوع أهل الْملَّة فِي آخر
الزَّمَان إِلَى عدد لَا يبلغون عدد التَّوَاتُر، ثمَّ
هَؤُلَاءِ أَجمعُوا على أَنهم - وَإِن رجعُوا الى هَذَا
الْعدَد - فَمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ، حجَّة قَاطِعَة عِنْد
الله. حَتَّى لَا يَخْلُو الزَّمَان عَن حجَّة قَائِمَة.
1394 - وَأما مَا ذَكرُوهُ من أَنهم لَو أخبروا عَن أنفسهم
بِالْإِيمَان، لم نعلم حَقِيقَة صدقهم، فَكيف نعلم ثُبُوت مَا
أَجمعُوا عَلَيْهِ مَعَ الاسترابة فِي إِيمَانهم؟
الْجَواب عَن ذَلِك أَن نقُول: إِذا جَوَّزنَا رُجُوع أهل
الْملَّة الى الْعدَد الَّذِي وصفتموه، فَإِنَّمَا يكون ذَلِك
فِي آخر الزَّمَان، عِنْد ظُهُور
(3/50)
" أَشْرَاط " السَّاعَة وبدو آيَات
قِيَامهَا، فَلَا يبعد حِينَئِذٍ - وَقد ظَهرت الْآيَات و "
بدا " انخراق الْعَادَات - أَن يخرق الله الْعَادة فِي أَمر
التَّوَاتُر، حَتَّى إِذا أخبروا عَن أنفسهم، أَو عَن غَيرهَا
من المشاهدات: أوجب ذَلِك الصِّحَّة فِيمَا نقلوه، على خلاف
الْعَادة " أَيْضا ".
1395 - وَإِن استنكر السَّائِل انخراق الْعَادة، قُلْنَا:
فَنحْن إِنَّمَا نجوز مَا قلتموه فِي الْوَقْت " الَّذِي "
تنخرق فِيهِ الْعَادَات بِالْآيَاتِ، نَحْو خُرُوج الدَّجَّال
ودابة الأَرْض وَمَا أشبههما.
فَهَذَا مَا يجب تَحْصِيله فِي هَذَا الْبَاب.
(3/51)
(249 فصل)
(هَل الْإِجْمَاع حجَّة فِي الاعتقادات، كالشرعيات؟)
1396 - فَإِن قيل: فَإِذا حكمتم بِأَن الْإِجْمَاع حجَّة
قَاطِعَة، فَهَل تقبلونها فِي كل مَوضِع؟ وَهل تقيمون الْحجَّة
بِالْإِجْمَاع فِي الديانَات وأصول الاعتقادات، كَمَا أقمتم
ذَلِك فِي الشرعيات؟ فصلوا قَوْلكُم فِي ذَلِك.
قُلْنَا: مَا يجب التعويل عَلَيْهِ أَن نقُول: كل مَا [لَا]
يتَصَوَّر ثُبُوت الْإِجْمَاع وَالْعلم بِصِحَّتِهِ، إِلَّا
مَعَ تقدم الْعلم بِهِ، فانعقاد الْإِجْمَاع لَا يكون حجَّة
فِيهِ.
وَذَلِكَ نَحْو معرفَة الصَّانِع، وَثُبُوت صِفَاته الَّتِي
تدل عَلَيْهَا الْأَفْعَال، وَكَذَلِكَ ثُبُوت النبوات،
فَهَذَا الْقَبِيل، مَا لَا يكون انْعِقَاد الْإِجْمَاع فِيهِ
حجَّة، وَذَلِكَ أَن الْإِجْمَاع لَا يثبت إِلَّا سمعا، وَلَا
دَلِيل فِي الْعقل عَلَيْهِ، وَلَا تثبت / الدّلَالَة السمعية
إِلَّا بعد الْعلم بالصانع والنبوات، فَكيف يتَصَوَّر كَون
الْإِجْمَاع حجَّة فِي هَذِه الْأُصُول، مَعَ الْعلم بِأَن
الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر أَن يعلم إِلَّا بعد تقدم هَذِه
المعارف؟
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَنه لَا يسوغ الِاحْتِجَاج بِكِتَاب
الله تَعَالَى فِي هَذِه
(3/52)
الْأُصُول إِذْ لَا نعلم صِحَة الْكتاب،
إِلَّا بعد تقدم الْعلم بهَا.
((250) القَوْل فِي إِجْمَاع كل عصر وتبيين بطلَان)
(اخْتِصَاص حكم الْإِجْمَاع فِي عصر دون عصر)
1397 - اعْلَم، وفقك الله، أَن مَا صَار إِلَيْهِ " الدهماء "
من الْعلمَاء الْقَائِلين بِالْإِجْمَاع: أَن الْإِجْمَاع لَا
يخْتَص بِأَهْل الصَّدْر الأول، وَلَكِن لَو اجْتمع التابعون
على حكم، لقامت الْحجَّة بإجماعهم، كَمَا تقوم بِإِجْمَاع
الصَّحَابَة، وَهَكَذَا كل عصر بعدهمْ.
1398 - وَذهب دَاوُد وَمن تبعه من أهل الظَّاهِر، إِلَى أَن
الْإِجْمَاع الَّذِي تقوم بِهِ الْحجَّة، يخْتَص بالصحابة،
فَلَا إِجْمَاع بعدهمْ.
1399 - وَالدَّلِيل على فَسَاد مَا قَالُوهُ أَن نقُول:
الْإِجْمَاع لَا يثبت عقلا أصلا، وَإِنَّمَا الدَّلِيل
عَلَيْهِ السّمع، وكل مَا دلّ على إِجْمَاع الصَّحَابَة،
فَهُوَ بِعَيْنِه دَال على إِجْمَاع غَيرهم.
(3/53)
وكل مَا رام بِهِ الْخصم قدحا فِي إِجْمَاع
بعض أهل الْأَعْصَار فَذَلِك يتداعى إِلَى إِجْمَاع
الصَّحَابَة.
وإيضاح ذَلِك: أَن من الْأَدِلَّة على الْإِجْمَاع، قَوْله
تَعَالَى: {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ
الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} . وَهَذَا اسْم لَا
يخْتَص بالصدر الأول، بل يتَحَقَّق فِيمَن بعدهمْ تحَققه فيهم.
1400 - فَإِن قَالُوا: فَهَذِهِ الْآيَات من أوضح الْحجَج
وأثبتها على اخْتِصَاص الْإِجْمَاع بهم وَذَلِكَ أَن هَذِه
الْآيَة نزلت فِي زمانهم، فَانْطَلق عَلَيْهِم اسْم "
الْمُؤمنِينَ " على التحقق، إِذْ كَانُوا يَوْمئِذٍ موجودين،
وَمن عداهم وسواهم لم يَكُونُوا موجودين يَوْمئِذٍ، ليسموا
مُؤمنين، فَمن هَذَا الْوَجْه لزم تَخْصِيص الْإِجْمَاع بهم.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ظن مِنْكُم، وَذَلِكَ أَنه
لَيْسَ الْمَقْصد من سِيَاق الْآيَة مَا وَقع لكم، وَإِنَّمَا
الْمَقْصُود مِنْهَا تَعْظِيم رُتْبَة الْمُؤمنِينَ من غير
تَخْصِيص بِزَمَان.
1401 - وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَنه لَو صَحَّ مَا
قلتموه، للزمكم مِنْهُ شَيْئَانِ:
أَحدهمَا: أَن تَقولُوا: إِذا اسْتشْهد بعض الصَّحَابَة بعد
نزُول الْآيَة، لم ينْعَقد الْإِجْمَاع بالباقين، فَإِنَّهُم
بعض الْمُؤمنِينَ، فيلزمكم على هَذَا أَن تَقولُوا: إِذا
اسْتشْهد قوم من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، ثمَّ عنت
حَادِثَة أَجمعُوا على حكمهَا، فَلَا حجَّة فِي إِجْمَاعهم!
وَمِمَّا يلزمكم على مَا قلتموه من
(3/54)
تَخْصِيص الْمُؤمنِينَ بالذين كَانُوا
مُؤمنين عِنْد نزُول الْآيَة، أَن تَقولُوا لمن أسلم بعد نزُول
هَذِه الْآيَة، [و] عاصر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] ، وَأدْركَ زَمَانه، وَبلغ أعظم المبالغ فِي الدّين،
وَاسْتَجْمَعَ شَرَائِط الْمُجْتَهدين، فَيَنْبَغِي أَن لَا
يكون من أهل الْإِجْمَاع. لِأَنَّهُ لم يكن منعوتا
بِالْإِيمَان عِنْد نزُول الْآيَة، فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِك،
تبين أَنه لَيْسَ الْمَقْصد من الْآيَة مَا " ذهبتم "
إِلَيْهِ، وَعلمنَا أَن الْمَقْصد من الْآيَة، كل الْمُؤمنِينَ
فِي كل الْأَعْصَار.
وَمن تدبر ظَاهر الْآيَة حق " التدبر " علم على اضطرار على
أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود بهَا مَا قَالُوهُ، كَمَا نعلم أَن
النَّص " على " النَّهْي عَن التأفيف، مُؤذن بِالنَّهْي عَمَّا
فَوْقه من ضروب التعنيف.
1402 - وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ: مَا روى عَن رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: (لَا تزَال طَائِفَة من
أمتِي ظَاهِرين على الْحق / لَا يضرهم خلاف من خالفهم) . وكل
مَا قدمْنَاهُ من الْأَخْبَار الدَّالَّة، فَلَا تتخصص بعصر
دون عصر.
1403 - فَإِن اعتل أهل الظَّاهِر بطرق:
مِنْهَا أَن قَالُوا: الصَّحَابَة هم الَّذين عاصروا صَاحب
الشَّرِيعَة، وشاهدوا مسْقط الْوَحْي، فهم الأَصْل، دون
غَيرهم.
وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن نقُول: هَذَا اجتزاء مِنْكُم
بِالدَّعْوَى. فَلم قُلْتُمْ،
(3/55)
وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ وَمَا لكم اقْتصر
على الدَّعْوَى فِيهِ؟
ثمَّ نقُول: فَالَّذِينَ شاهدوا قوما، تقوم بهم الْحجَّة
فَيَنْبَغِي أَن تنزل مشاهدتهم إيَّاهُم منزلَة مُشَاهدَة
الصَّحَابَة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ومعاصرتهم
إِيَّاه، فَإِن كلا الْفَرِيقَيْنِ أدْرك من تقوم بِهِ
الْحجَّة.
1404 - وَرُبمَا يستدلون بظواهر من الْآثَار:
نَحْو قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (إِن إصحابي
كَالنُّجُومِ) .
وَنَحْو قَوْله: (خير النَّاس قَرْني، ثمَّ الَّذين
يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ،
(3/56)
ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ يفشو
الْكَذِب، فَيحلف الرجل وَلم يسْتَحْلف) الحَدِيث.
قَالُوا: فَهَذَا يدل على الميز بَين الْأَعْصَار.
قُلْنَا: لَا مستروح لكم فِيمَا قلتموه، وَذَلِكَ أَن قَوْله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (إِن أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ) لم
يرد بِهِ التَّعْرِيض إِلَى حكم الْإِجْمَاع.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنه قَالَ فِي تَمام الحَدِيث:
(بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ) على أَن أَكثر مَا
فِيهِ أَنه تمسك بِمَفْهُوم الْخطاب، وَقد قدمنَا، من أصلنَا:
بطلَان القَوْل بِدَلِيل الْخطاب.
1405 - وَأما قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (خير النَّاس
قَرْني) فَهُوَ من أوضح الْأَدِلَّة عَلَيْكُم، وَذَلِكَ أَنه
تتبع ذكر الصَّحَابَة بِذكر التَّابِعين، فَقولُوا: إِنَّهُم
يحلونَ مَحل الصَّحَابَة عِنْد عدمهم.
ثمَّ نقُول " لَيْسَ " الْمَقْصد من الْخَبَر، التَّعَرُّض
لإِثْبَات الْإِجْمَاع ونفيه،
(3/57)
وَإِنَّمَا الْمَقْصُود مِنْهُ، تَبْيِين
تفاضل أهل الْأَعْصَار فِي حسن الْعَمَل والمحافظة على
الطَّاعَات. وَلِلْقَوْمِ شبه تداني مَا قُلْنَاهُ يسهل
مأخذها.
(251) فصل
(مُخَالفَة التَّابِعِيّ المعاصر للصحابة مُعْتَبرَة)
1406 - إِذا ثَبت مُسَاوَاة أهل الْأَعْصَار، فَلَو خالفوا فِي
حكمهَا، لم تبعد مخالفتهم.
1407 - وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا يعْتَمد بِخِلَاف
التَّابِعِيّ، وَقد أجمع من فِي الْعَصْر من الصَّحَابَة،
وَهَذَا ظَاهر الْبطلَان.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ شَيْئَانِ:
أَحدهَا: إِن الْإِجْمَاع لم يثبت عقلا، وَإِنَّمَا يثبت سمعا،
وكل سمع دلّ على إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَهُوَ دَال على
الَّذين مَعَهم من التَّابِعين.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَن أحد الْأَدِلَّة عَلَيْهِ، قَوْله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} ،
وَاسم الْمُؤمنِينَ منطلق على الصَّحَابَة، وعَلى من مَعَهم من
التَّابِعين. فَإِن حمل " الْمُؤمنِينَ " على الْجَمِيع، لزم
إدخالهم فِي
(3/58)
المجمعين. وَإِن سَاغَ حمل الْآيَة على بعض
الْمُؤمنِينَ، سَاغَ حملهَا على بعض الصَّحَابَة، وَهَذَا مَا
لَا محيص لَهُم عَنهُ.
1408 - وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ أَيْضا: أَن طَائِفَة من
التَّابِعين انفردوا، بآراء فِي زمن الصَّحَابَة، وبلغوا مبلغ
الْمُجْتَهدين، وتصدوا للْفَتْوَى، وَلم يُنكر الصَّحَابَة
عَلَيْهِم الاستعداد بِالِاجْتِهَادِ، وَإِظْهَار الْخلاف
لآحاد الصَّحَابَة وجماعتهم، وَذَلِكَ نَحْو شُرَيْح القَاضِي،
فَإِنَّهُ كَانَ ينْفَرد بمذاهب يُخَالف فِيهَا عليا وَغَيره
من الصَّحَابَة، وَكَذَلِكَ عَلْقَمَة من تلاميذ ابْن
مَسْعُود، وَهَذَا أَكثر من أَن يُحْصى.
1409 - فَإِن قَالُوا: أَلَيْسَ قد رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا، أَنَّهَا
(3/59)
قَالَت فِي أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن،
لما خَالف أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ،
فَقَالَت: " فروج يصقع مَعَ الديكة "، وأعظمت لَهُ القَوْل فِي
ذَلِك.
قُلْنَا: لَا مُعْتَبر بقول وَاحِد من الصَّحَابَة، فَأكْثر
مَا / فِي ذَلِك أَن تقدر عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قائلة
بِمَا ذكرتموه. أَو نقُول: لَعَلَّهَا قَالَت مَا قَالَت
لمُخَالفَة أبي عبد الرَّحْمَن طرق الْحجَّاج، ولفساد مَا آثره
وَاخْتَارَهُ، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
(3/60)
(252) القَوْل فِيمَن يعْتد بِخِلَافِهِ
1410 - اعْلَم، وفقك الله، أَن مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم
الْعلمَاء: أَن خلاف الْوَاحِد والاثنين فَصَاعِدا، يمْنَع
انْعِقَاد الْإِجْمَاع، فَلَو اتّفق أهل الْعَصْر فِي حكمه،
خلا وَاحِد، فَإِنَّهُ خَالف فِيهِ، فَلَا ينْعَقد الْإِجْمَاع
مَعَ خِلَافه.
1411 - وَذهب بعض الْعلمَاء: إِلَى أَن خلاف الْوَاحِد
والاثنين لَا يمْنَع انْعِقَاد الْإِجْمَاع، وَلَا مُعْتَبر
لخلافهم هَذَا بعد مَا اتّفق غَيرهم، ويؤثر ذَلِك عَن ابْن
جرير.
وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي الثَّلَاثَة، وَالَّذِي يَصح عَنهُ،
أَن كل عدد لَا يبلغون عدد التَّوَاتُر، فَلَو خالفوا، لم
يعْتد بخلافهم.
(3/61)
1412 - وَالدَّلِيل على صِحَة مَا صرنا
إِلَيْهِ، مَا قدمْنَاهُ من [أَن] الْإِجْمَاع لَا يثبت بأدلة
الْعُقُول، وَإِنَّمَا يثبت سمعا، والأدلة السمعية تَتَضَمَّن
قيام الْحجَّة بِإِجْمَاع الْمُؤمنِينَ. فَإِذا خَالف فِي
ذَلِك وَاحِد لم يتَحَقَّق اتِّفَاق الْمُؤمنِينَ عُمُوما،
وَإِن سَاغَ حمل " الْمُؤمنِينَ " على الْبَعْض، سَاغَ حملهمْ
على نصف أهل الْعَصْر أَو معظمهم، مَعَ مُخَالفَة قوم إيَّاهُم
تقوم بهم حجَّة التَّوَاتُر.
1413 - فَإِن قَالُوا: فَمن أَدِلَّة الْإِجْمَاع قَوْله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين
على الْحق) .
قُلْنَا: اعلموا أَن آحَاد " هَذِه " الْأَخْبَار لَا تدل على
الْإِجْمَاع، فَإِنَّهَا آحَاد لَا تفضى إِلَى الْقطع،
وَإِنَّمَا الدَّال على الْإِجْمَاع، مَجْمُوع الْأَخْبَار،
ثمَّ معظمها منبئ عَن استغراق الْمُؤمنِينَ مَعَ انْتِفَاء
الِاخْتِصَاص، فَبَطل مَا قَالُوهُ.
(3/62)
على أَنا نقُول: الْمَعْنى بقوله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي) يَعْنِي
عُلَمَاء أمته، دون من عداهم من الِاتِّبَاع والعوام.
1414 - وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ فِي الْمَسْأَلَة أَن
نقُول: قد انْفَرد ابْن عَبَّاس وَغَيره من أَئِمَّة
الصَّحَابَة، بمخالفة الصَّحَابَة. نَحْو انْفِرَاد ابْن
عَبَّاس بمذاهب فِي مسَائِل الْفَرَائِض، كالعول وَنَحْوه.
ثمَّ لم يُنكر الصَّحَابَة ذَلِك، وَلم يعدوه خارقا
للْإِجْمَاع. وَهَذَا مَا لَا حِيلَة للخصم مَعَه.
1415 - فَإِن قَالُوا: قد أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَا انْفَرد
بِهِ، نَحْو إنكارهم عَلَيْهِ
(3/63)
إحلال الْمُتْعَة وَتَخْصِيص الرِّبَا
بِالنَّسِيئَةِ.
قُلْنَا: مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ شَيْئا مِمَّا انْفَرد بِهِ
لنسبتهم إِيَّاه لخرق الْإِجْمَاع، وَلَكِن حاجوه، وبينوا لَهُ
وَجه الْحجَّة فِي تَحْرِيم الْمُتْعَة والربا. فَإِن ابْن
عَبَّاس أعظم قدرا من أَن ينتسب إِلَى خرق الْإِجْمَاع مَعَ "
عظم " الْخطر فِيهِ، فَإِنَّهُ
(3/64)
رُبمَا يبلغ " خطر " [خرق] الْإِجْمَاع
مبلغ التَّكْفِير، على مَا سنوضح القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ
الله تَعَالَى. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
1416 - فَإِن قَالُوا: مهما انْفَرد بِالْخِلَافِ الْوَاحِد
والأثنان. فَنحْن لَا نقطع بإيمَانهمْ، بل نستريب فِي صِحَة "
اعْتِقَادهم "، وَالَّذين أَجمعُوا سواهُمَا زائدون على أقل
أهل [عدد] التَّوَاتُر، وَنحن نقطع بإيمَانهمْ، فَكيف يقْدَح
من نستريب فِي إيمَانه فِي مَذَاهِب جمع نقطع بصدقهم فِي
إخبارهم " عَن " إِيمَانهم؟ وَهل نَحن فِي ذَلِك - لَو قُلْنَا
بِهِ - إِلَّا بِمَنْزِلَة من يقْدَح فِي الْخَبَر المستفيض
الْمُتَوَاتر لخَبر الْوَاحِد؟
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا حجَّة فِيهِ من أوجه:
أَحدهَا: أَن الَّذِي وَقع فِيهِ الْخلاف، مِمَّا لَا نقطع
فِيهِ بصدقهم مَعَ خلاف من خالفهم، وَإِن كَانَ وَاحِدًا.
فثبوت صدقهم على الْقطع فِي إِيمَانهم / لَا يُنبئ عَن مثل
ذَلِك فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ تحريا واجتهادا، فَلَو كَانَ
الِاخْتِلَاف مصورا فِي مَنْقُول عَن مُشَاهدَة، لَكَانَ
الْأَمر على مَا ادعيتموه.
1417 - ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا يَسْتَقِيم.
إِذْ لَو اخْتلفت طَائِفَتَانِ من الْأمة، وَبلغ عدد كل
وَاحِدَة مِنْهُمَا مبلغ أهل عدد التَّوَاتُر، فَيصح
(3/65)
هَذَا الِاخْتِلَاف. وَإِن كُنَّا نقطع
بِإِيمَان كل وَاحِدَة من الطَّائِفَتَيْنِ، فَلَو كَانَ
سَبِيل الِاخْتِلَاف فِي مثل ذَلِك " متلقى " من الْأَخْبَار،
لما تصور الِاخْتِلَاف فِي الصُّورَة الَّتِي فَرضنَا
الْكَلَام فِيهَا، إِذْ لَا يتَصَوَّر أَن ينْقل أهل [أحد]
جَانِبي بَغْدَاد شَيْئا عَن مُشَاهدَة، من غير ظُهُور سَبَب
يحملهم عَلَيْهِ، وينقل أهل الْجَانِب الثَّانِي ضد ذَلِك عَن
سَبَب يحملهم عَلَيْهِ، فَبَطل اعْتِبَار الِاخْتِلَاف فِي
مواقع الْإِجْمَاع " وَغَيرهَا " بِثُبُوت الصدْق عِنْد
النَّقْل " عَن " المحسوسات والمشاهدات.
1418 - فَإِن قيل: فَإِذا كَانَ لَا يعْتَبر حكم الْإِجْمَاع
بِثُبُوت الصدْق فِي الْإِخْبَار عَن المشاهدات، أفتجوزون على
ذَلِك أَن يجمع الله الْأمة على حكم، وهم لَا يَعْتَقِدُونَ
ذَلِك بَاطِنا، كَمَا " أبدوه " ظَاهرا؟
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا يجوز فِي مُسْتَقر الْعَادة من غير
سَبَب يحملهم عَلَيْهِ، فَإِنَّهُم أخبروا عَن معتقداتهم،
ومعتقد الْمَرْء ثَابت " عِنْده " ضَرُورَة. فَلَا سَبِيل
إِلَى أَن ينْقل أهل التَّوَاتُر عَمَّا علموه من أنفسهم
ضَرُورَة، وتتفق آراؤهم عَلَيْهِ فِي اطراد الْعَادة من غير "
سَبَب " يحملهم عَلَيْهِ.
1419 - فَإِن قَالُوا: فاتفاقهم على كَون مَا أَجمعُوا
عَلَيْهِ حَقًا لَيْسَ بإنباء
(3/66)
عَن محسوس. بل هُوَ إِسْنَاد مِنْهُم
القَوْل إِلَى اجْتِهَاد أَو خبر من أَخْبَار الْآحَاد، فجوزوا
أَن يزلوا فِي ذَلِك ويضلوا.
قُلْنَا: لَو " رددنا " إِلَى الْمَعْقُول لم يستنكر ذَلِك
أصلا، وَلَكِن ثَبت بالأدلة القاطعة كَون مَا أَجمعت عَلَيْهِ
الْأمة حجَّة قَاطِعَة، فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك مَعَ خلاف
وَاحِد، فَصَاعِدا.
1420 - فَإِن استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، أَنه قَالَ: (عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ
الْأَعْظَم) . فَلم يشْتَرط فِي الِاتِّبَاع اتِّفَاق الكافة،
بل اكْتفى بالجماهير والمعظم.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه من أَخْبَار الْآحَاد، وَلَا
يحسن التَّمَسُّك بِهِ فِي القطعيات.
1421 - فَإِن قَالُوا: ألستم استدللتم بِهِ فِي إِثْبَات أصل
الْإِجْمَاع؟
قُلْنَا: مَا استدللنا بِخَبَر وَاحِد، وَلَكِن نقلنا جملَة من
الْأَخْبَار، وادعينا استفاضة مَعْنَاهَا، وَإِن لم يستفض كل
لَفْظَة على حيالها، فَإِذا أردتم تَحْدِيد لَفْظَة وتخصيصها
بالاستدلال، " لكنتم " معتصمين بالآحاد.
(3/67)
1422 - على أَنا نقُول: قد وافقتمونا أَن
الْألف فَصَاعِدا. لَو خالفوا فِي حكم مَسْأَلَة، لم يثبت
الْإِجْمَاع، وَإِن كَانَ الَّذين اتَّفقُوا الآفا مؤلفة،
وَهُوَ السوَاد الْأَعْظَم، وَقَوْلنَا فِي خلاف الْوَاحِد
والاثنين كقولكم فِي هَذِه الصُّورَة.
1423 - على أَنا نقُول: لَيْسَ الْمَعْنى بقوله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] (عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم)
التَّعَرُّض للْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف الرَّاجِع إِلَى
مسَائِل الْفُرُوع الَّتِي الِاخْتِلَاف فِيهَا رَحْمَة،
وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك مُلَازمَة جمَاعَة الْأمة، وَترك
اقْتِضَاء المبتدعة فِي عقائدها.
وَقد قيل: إِنَّه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَرَادَ بذلك
إِيجَاب اتِّبَاع الشاردين الخارجين عَن طَاعَة الإِمَام،
فَبَطل استدلالهم. وَتبين أَن الَّذِي تمسكوا [بِهِ] عرضة
للتأويلات /.
(253) القَوْل فِي اعْتِبَار الانقراض
(فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع وَذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ)
1424 - اخْتلف الأصوليون فِي أَن أهل الْعَصْر إِذا اجْمَعُوا
على حكم حَادِثَة، وَقَطعُوا القَوْل بِهِ، فَهَل تقوم حجَّة
الْإِجْمَاع قبل انْقِرَاض المجمعين؟
1425 - فَذهب بعض النَّاس إِلَى أَن الْحجَّة " لَا تقوم "
إِلَّا عِنْد انْقِرَاض المجمعين وتفانيهم، وَمَا داموا باقين،
فيسوغ الْخلاف من بَعضهم، وَمن طَائِفَة يبلغون بعد إِجْمَاعهم
مبلغ الْعلمَاء.
(3/68)
1426 - وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي أَنه هَل
يتَصَوَّر من المجمعين أَن " ينصرفوا " بأجمعهم عَمَّا
أَجمعُوا عَلَيْهِ ويتفقوا على ضِدّه؟ فَمنهمْ من لم يجوز
ذَلِك، وَلَكِن جوز أَن يرجع مِنْهُم طَائِفَة، فَأَما رُجُوع
الْكل، فَلَا يسوغ.
فَمنهمْ من جوز رُجُوع الْكل، وَهُوَ قِيَاس هَذَا الْمَذْهَب.
1427 - وَمِنْهُم من سلك طَريقَة ثَالِثَة، فَقَالَ: إِن
شرطُوا عِنْد الْإِجْمَاع جَوَاز الرُّجُوع عَمَّا أَجمعُوا
عَلَيْهِ، جَازَ لَهُم الرُّجُوع، وَإِن لم يكن " الْأُخْرَى "
وأطلقوا الْإِجْمَاع وَلم يشترطوا جَوَاز الرُّجُوع، فَلَا
يَصح من كافتهم أَن يرجِعوا، وَهَذَا أَضْعَف الْمذَاهب.
1428 - وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْحجَّة لَا تقوم مَا لم ينقرض
" المجمعون " حَتَّى لَو بَقِي وَاحِد مِنْهُم، فَلَا يثبت
الْإِجْمَاع.
1429 - وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه إِذا لم يبْق من المجمعين
إِلَّا عدد ينقصُونَ عَن أقل عدد التَّوَاتُر، فَلَا يكترث
ببقائهم، وَيحكم بانعقاد الْإِجْمَاع.
1430 - وَالصَّحِيح من الْمذَاهب: أَن لَا يشْتَرط فِي
انْعِقَاد الْإِجْمَاع
(3/69)
الانقراض. وَلَكِن مهما أجمع عُلَمَاء
الْأمة على حكم فِي حَادِثَة، فَهُوَ الْحق عِنْد الله قطعا،
وَقد قَامَت حجَّة الْإِجْمَاع، وَيحرم الْخلاف، وَلَا
يتَصَوَّر مِنْهُم بأجمعهم أَن يرجِعوا عَمَّا أَجمعُوا
عَلَيْهِ. إِذْ لَو رجعُوا لكانوا مخالفين للْإِجْمَاع الأول،
وَهُوَ ضلال، وَلَا تَجْتَمِع الْأمة على الضَّلَالَة.
وَيتَصَوَّر أَن يُخَالف بَعضهم بعد انْعِقَاد الْإِجْمَاع.
وَلَكنَّا نعلم أَنه خطأ وضلال وابتداع بعد انْعِقَاد
الْإِجْمَاع، كَمَا نعلم ذَلِك بعد انْقِرَاض المجمعين.
وَكَذَلِكَ فَلَا يجوز أَن يجمعوا ويقطعوا بِحكم، ويجوزوا
لأَنْفُسِهِمْ الرُّجُوع شرطا مِنْهُم، كَمَا لَا يَصح فيهم
أَن يشترطوا الرُّجُوع، ويجوزه لمن بعدهمْ بعد انْعِقَاد
إِجْمَاعهم وانقراضهم.
1431 - وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن نقُول: الْإِجْمَاع مِمَّا
لَا يثبت عقلا كَمَا
(3/70)
قدمْنَاهُ وَإِنَّمَا يثبت سمعا. والطرق
الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى إِثْبَات الْإِجْمَاع مضبوطة.
وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا مَا يتَضَمَّن اشْتِرَاط الانقراض.
فَلَو سَاغَ اشْتِرَاطه عَن غير دلَالَة قَاطِعَة من جِهَة
السّمع، لساغ تَخْصِيص الْإِجْمَاع، تصورا بِبَعْض مسَائِل
الْفُرُوع، حَتَّى يُقَال: إِنَّمَا تقوم الْحجَّة
بِالْإِجْمَاع فِي مسَائِل الْمُعَامَلَات دون مسَائِل
الْعِبَادَات! فَلَمَّا لم يكن إِلَى ذَلِك سَبِيل، تبين مَا
قُلْنَاهُ.
وإيضاحه: أَن من الْأَدِلَّة على الْإِجْمَاع، الْآيَة الَّتِي
قدمنَا ذكرهَا، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل
الْمُؤمنِينَ} . وَهَذَا لَا تَخْصِيص [فِيهِ] بالانقراض، فِي
منظومه وَمَفْهُومه، وَكَذَلِكَ طرق الْأَخْبَار الَّتِي
استدللنا بهَا، لَا تنبئ عَن شَيْء فِي ذَلِك.
وَرُبمَا يتمسكون بآي وأخبار، لَيْسَ فِيهَا معتصم، على مَا
سَنذكرُهُ فِي شبههم.
1432 - وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، أَن نقُول: المجمعون لَا
يتَحَقَّق اتِّفَاقهم [بعد انقراضهم] . وَإِنَّمَا يتَحَقَّق
اتِّفَاقهم بإجماعهم فِي حياتهم. والانقراض يخرجهم عَن
اعْتِقَاد / الْإِجْمَاع. فَإِذا كَانُوا مصرين ثابتين على مَا
أَجمعُوا عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْحَالة أولى بِنِسْبَة
الْمذَاهب إِلَيْهِم مِنْهُ إِذا انقرضوا.
1433 - فَإِن قَالُوا: أمنا رجوعهم، وَلَيْسَ كَذَلِك مَا
داموا أَحيَاء. فَإنَّا لَا نَأْمَن رجوعهم.
(3/71)
قُلْنَا: أما رُجُوع جَمِيعهم، فمأمون، لَا
خَفَاء بِهِ، على أصلنَا، وَأما خلاف بَعضهم، فمتصور. مَعَ
قَطعنَا بِأَنَّهُ خطأ، فَهَلا سلمتم هَذَا المسلك؟ على أَنه
يتَصَوَّر بعد الانقراض مُخَالفَة بعض أهل الْعَصْر الثَّانِي،
ثمَّ يتَصَوَّر ذَلِك لَا يقْدَح فِي الْإِجْمَاع، فَبَطل مَا
قَالُوهُ.
1434 - وَمِمَّا نعتصم بِهِ أَن نقُول " على " من زعم أَن
الْإِجْمَاع لَا يسْتَقرّ مَا بَقِي من المجمعين وَاحِد [و]
هَذَا يُؤَدِّي الى خرق إِجْمَاع الْأمة، فَإِن التَّابِعين
كَانُوا يستدلون بِإِجْمَاع الصَّحَابَة، وَإِن كَانَ بَقِي
مِنْهُم الْعدَد والشرذمة. كَمَا كَانُوا يستدلون بإجماعهم
بَعْدَمَا تفانوا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده.
وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، أَن نقُول: قد تَبينا فِيمَا
قدمنَا، أَن التَّابِعِيّ إِذا خَالف الصَّحَابَة فِي حكم
حَادِثَة وَقعت، فَيقبل خِلَافه، كَمَا يقبل خلاف
الصَّحَابِيّ.
1435 - فَإِذا ثَبت هَذَا الأَصْل - فَلَو شرطنا الانقراض فِي
المجمعين " أدّى " ذَلِك إِلَى أَن لَا يسْتَقرّ إِجْمَاع
أصلا، وَذَلِكَ أَن الصَّحَابَة لَو اتَّفقُوا مثلا على حكم،
ثمَّ لم يتفانوا حَتَّى " تلاحق " بهم جمَاعَة من التَّابِعين
وبلغوا مبلغ الْعلمَاء، فقد صَارُوا من أهل الْإِجْمَاع، إِذا
فَيجب أَن يشْتَرط انقراضهم مَعَ انْقِرَاض الصَّحَابَة.
فَإنَّا لَو قَدرنَا مِنْهُم خلافًا، كَانَ كتقديرنا ذَلِك
(3/72)
من بعض الصَّحَابَة، ثمَّ إِذا اشترطنا
انْقِرَاض التَّابِعين مَعَ الصَّحَابَة، فَلَا يتَّفق
انقراضهم - فِي مجْرى الْعَادة - إِلَّا بعد أَن يلحقهم أَقوام
من أهل الْعَصْر الثَّالِث. فتتلاحق الْأَعْصَار وتتداخل،
وَلَا يسلم الْإِجْمَاع قطّ، وَذَلِكَ يسبب إِلَى نفي
الْإِجْمَاع.
1436 - وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَن
قَالَ: أجمع الْمُسلمُونَ على أَن مَا أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة
حق! وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق قبل الانقراض.
وَهَذَا فِيهِ نظر.
وللخصم أَن يَقُول: لسنا نوافقكم على مَا ادعيتموه من
الْإِجْمَاع. فَإنَّا نقُول: مَا اتّفقت عَلَيْهِ الْأمة لَا
تقوم بِهِ الْحجَّة حَتَّى ينقرضوا على اتِّفَاقهم. فَلم
ادعيتم الْإِجْمَاع مُطلقًا؟
وَالْأولَى: التعويل على الطَّرِيقَة الأولى، الَّتِي صدرنا
الْأَدِلَّة بهَا.
(شُبْهَة الْمُخَالفين)
1437 - فمما استدلوا بِهِ، أَن قَالُوا: إِذا اتّفقت آراء أهل
الْأَعْصَار على شَيْء اجْتِهَادًا وتحرياً، فَكل مِنْهُم مَا
قَالَ، إِلَّا وَهُوَ مُجْتَهد، غير قَاطع بِاجْتِهَادِهِ.
فَلَو لم يتَصَوَّر لَهُم الرُّجُوع أصلا، أدّى ذَلِك إِلَى
أَن يستد عَلَيْهِم طَرِيق التَّحَرِّي. فَلَزِمَ أَن نقُول:
لَو انْفَرد الْمَرْء بِالِاجْتِهَادِ، لم يسغْ لَهُ الرُّجُوع
(3/73)
عَمَّا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده،
وَمَعْلُوم أَن مواقع الِاجْتِهَاد لَا تخْتَلف، بِأَن
يتَقَدَّر فِيهَا وفَاق أَو لَا يتَقَدَّر.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تعرض مِنْكُم لشُبْهَة نفاة
الْإِجْمَاع، وَلَو صَحَّ مَا قلتموه، لزمكم على طرده، أَن
تَقولُوا: " لم يسع المجمعين مخالفتهم " فَإِن طرق
الِاجْتِهَاد لَا تنضبط وَلَا تَنْحَصِر على الْمُجْتَهدين،
وَلَا تخْتَلف مداركها، وَإِن سبق بطرِيق من الِاجْتِهَاد
سَابِقُونَ.
1438 - فَإِن قَالُوا: لَا يجوز ذَلِك بعد سبق انْعِقَاد
الْإِجْمَاع، لقِيَام حجَّته.
قُلْنَا: فاقبلوا منا مثل ذَلِك فِي حَال " حَيَاة " المجمعين،
فَنَقُول: إِذا اجْتهد الْمُجْتَهد، وَلم يُوَافق عَلَيْهِ، "
فَلهُ " فِي طرق الِاجْتِهَاد / مساغ ومجال. فَإِن اتّفق
عَلَيْهِ اتِّفَاق، فقد انحسم " التجويز " وَلَا يجد جِهَة
للحق. وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ.
1439 - وَمِمَّا يُؤثر عَنْهُم، الِاسْتِدْلَال، وَهُوَ من أهم
مَا تعرف الْعِنَايَة
(3/74)
إِلَيْهِ أَن قَالُوا: لَو لم يشْتَرط
الانقراض فِي الْإِجْمَاع، لزمنا أَن نقُول: إِذا اخْتلفت
الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ أَولا، ثمَّ أَجمعُوا على
أَحدهمَا، ورفضوا القَوْل الثَّانِي، فَيَنْبَغِي أَن لَا
يتَصَوَّر ذَلِك مِنْهُم. وَنحن نعلم أَن أهل الْعَصْر قد
يَخْتَلِفُونَ فِي شَيْء أَولا، ثمَّ تتفق آراؤهم على أحد
الْمذَاهب.
وَوجه الْإِلْزَام فِي ذَلِك، أَن قَالُوا: مهما اخْتلفُوا
أَولا، فقد سوغوا الِاخْتِلَاف، وَأَجْمعُوا على عدم قطع
القَوْل. فَيَنْبَغِي أَن لَا يتَصَوَّر بعد ذَلِك قطع
القَوْل، إِلَّا على الأَصْل الَّذِي اخترناه، فَإنَّا نقُول:
وَإِن سوغوا الْخلاف أَولا اتِّفَاقًا، فَمَا انقرضوا على
ذَلِك، لتقوم الْحجَّة بتسويغ الْخلاف، فَأنْتم إِذا لم
تشترطوا الانقراض، فَلَا تَجِدُونَ عَن ذَلِك محيصا.
1440 - وَاعْلَم أَن من موافقينا من يستحقر هَذَا السُّؤَال،
ويعده من أَضْعَف " سُؤال " الْقَوْم. ويجيب عَنهُ، بِأَن
اخْتلَافهمْ لَيْسَ اتِّفَاقًا مِنْهُم على حكم. وَمَا
قَالُوهُ من " تَصْوِير " الْخلاف، لَا معنى لَهُ، فَإِنَّهُ
لَا يزِيد تسويغ الْخلاف على تصَوره، وَثُبُوت الْخلاف فِي
صُورَة لَيْسَ بِحكم مجمع عَلَيْهِ، ليعد ذَلِك مذهبا مُتَّفقا
عَلَيْهِ.
قَالُوا: وسبيل ذَلِك، سَبِيل مَا لَو " وَقعت " الْحَادِثَة
أَولا، فتردد فيهمَا الْعلمَاء كالمستريبين، ثمَّ اسْتَقَرَّتْ
آراؤهم. فتصور " الريب " أَولا، لَا يعد مذهبا.
(3/75)
1441 - وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَلَو "
سلكنا " هَذِه الطَّرِيقَة، لم نجد عَمَّا ألزمونا محيصا.
وَذَلِكَ أَن لَهُم أَن يَقُولُوا: مهما اخْتلفُوا
الصَّحَابَة، واتفقت مثلا رتب الْمُجْتَهدين مِنْهُم، فقد
أَجمعُوا على أَنه يحل للعوام أَن " يتبع " من شَاءَ مِنْهُم،
عِنْد اسْتِوَاء أوصافهم، فَهَذَا اتِّفَاق مِنْهُم على حكم،
وَقطع مِنْهُم القَوْل فِيهِ، فَلَو أَجمعُوا على أحد
الْقَوْلَيْنِ، وحرموا على الْعَوام تَجْوِيز اتِّبَاع القَوْل
الثَّانِي، فَيكون ذَلِك تَحْرِيمًا مِنْهُم لعين مَا أحلوه،
وَذَلِكَ مُسْتَحِيل على أصُول من لم يشْتَرط الانقراض فِي
الْإِجْمَاع.
فَلَا وَجه إِلَّا أَن نقُول: لَا يتَصَوَّر اتِّفَاق أهل
الْعَصْر بعد اخْتلَافهمْ، فَإِن فِي تَجْوِيز ذَلِك تصور "
اجتماعين " متضادين، فَتَأَمّله، تَجدهُ صَحِيحا.
1442 - فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم، أَنهم لما
اخْتلفُوا وسوغوا للعوام اتِّبَاع أحد الْقَوْلَيْنِ، لَا
بِعَيْنِه، أَو التَّخْيِير فِي الِاتِّبَاع عِنْد اسْتِوَاء
أَوْصَاف الْمُجْتَهدين، فَهَذَا إِجْمَاع مِنْهُم على شَرط:
فكأنهم قَالُوا: لكم الْخيرَة، مَا لم يتَّفق إِجْمَاع الْأمة
على أحد الْقَوْلَيْنِ؟
قُلْنَا: هَذَا تَخْلِيط مِنْكُم عَظِيم فِي مسَائِل
الْإِجْمَاع، وَلَو سَاغَ تثبيت إِجْمَاع مَشْرُوط بِشَرْط
مرقوب، لجَاز ذَلِك فِي كل إِجْمَاع، حَتَّى نقُول: لَو أجمع
أهل الْعَصْر على حكم، يجوز رجوعهم عَنهُ، ثمَّ يُقَال عِنْد
تصور رجوعهم: إِنَّمَا أَجمعُوا أَولا بِشَرْط أَن لَا
يَتَّضِح لَهُم وَجه فِي الِاسْتِدْلَال
(3/76)
وَطَرِيق الِاجْتِهَاد. فَلَا وَجه إِلَّا
مَا قُلْنَاهُ من منع الِاتِّفَاق بعد الْخلاف.
وسنوضح ذَلِك فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
1443 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ: مَا رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي
الله عَنهُ، أَنه قَالَ: " اتّفق رَأْيِي ورأي أبي بكر وَعمر
فِي / منع بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد. وَإِنِّي أرى أَن يبعن
"، فَقيل لَهُ: " رَأْيك فِي الْجَمَاعَة، خير من رَأْيك فِي
الْوحدَة ".
(3/77)
قَالُوا: فسوغ عَليّ رَضِي الله عَنهُ
الْخلاف بعد الْإِجْمَاع.
قُلْنَا: لم ينْقل عَليّ رَضِي الله عَنهُ، إِجْمَاع
الصَّحَابَة، وَلكنه نقل مَذْهَب أبي بكر وَعمر، فاتضح سُقُوط
استدلالهم.
1444 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ: قَوْله تعالي: {وَكَذَلِكَ
جعلنكم أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} ، قَالُوا:
وَجه الدَّلِيل من ذَلِك، أَنه تَعَالَى أثبت الْأمة شُهَدَاء
على غَيرهَا، وَلم يَجْعَلهَا شاهدة على نَفسهَا. فَدلَّ ذَلِك
على إِن إِجْمَاع كل عصر حجَّة على أهل الْعَصْر الَّذِي
يَلِيهِ، وَلَيْسَ بِحجَّة فِي ذَلِك الْعَصْر بِعَيْنِه.
قُلْنَا: التَّمَسُّك بِهَذِهِ الْآيَة فِي حكم الْإِجْمَاع،
فِيهِ نظر: إِذْ أَرْبَاب التَّأْوِيل متفقون على أَن المُرَاد
بِالْآيَةِ، شَهَادَة هَذِه الْأمة على سَائِر الْأُمَم يَوْم
الْقِيَامَة.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
{وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا} فَجمع بَين كَونهم
شَهِيدا وَبَين كَون الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
شَهِيدا، وَإِنَّمَا يجْتَمع ذَلِك فِي الْقِيَامَة.
ثمَّ لَيْسَ فِي الْآيَة تعمد كَونهم شُهَدَاء [على] أنفسهم،
إِلَّا على طَرِيق التَّمَسُّك بِدَلِيل الْخطاب.
(3/78)
(254) القَوْل فِي إِجْمَاع الْعَصْر
الثَّانِي بعد اخْتِلَاف أهل الْعَصْر الأول)
1445 - إِذا اخْتلف أهل عصر الْأَعْصَار على قَوْلَيْنِ مثلا،
ثمَّ انقرضوا، وَصَارَ أهل الْعَصْر الَّذِي يَلِي عصر
الْأَوَّلين إِلَى أحد الْقَوْلَيْنِ، ورفضوا القَوْل
الثَّانِي، فَهَل يكون ذَلِك إِجْمَاعًا.
اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك:
فَذهب الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم إِلَى أَن ذَلِك لَا يكون
إِجْمَاعًا أصلا.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه يكون إِجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ،
حَتَّى لَا يجوز بعد إِجْمَاع أهل الْعَصْر الثَّانِي على أحد
المذهبين، الْمصير إِلَى الْمَذْهَب الثَّانِي.
1446 - وَمن صَار إِلَى أَن ذَلِك لَا يكون إِجْمَاعًا،
اخْتلفُوا على مذهبين فِي أَنه هَل يتَصَوَّر من أهل الْعَصْر
الثَّانِي، " أصل " الْإِجْمَاع؟ وَلَا يسوغ اجْتِمَاعهم على
خطأ. ورفض أحد الْقَوْلَيْنِ خطأ على معنى التخطئة. فَلَا يسوغ
هَذَا الْقَائِل اجْتِمَاعهم عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن
يتفقوا على أَن الْأَخْذ بِأَحَدِهِمَا أولى من غير أَن يرفضوا
القَوْل الثَّانِي، فَهَذَا مِمَّا يسوغ ويهون أمره.
(3/79)
1447 - وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه
يتَصَوَّر من أهل الْعَصْر الثَّانِي، صُورَة الِاتِّفَاق على
رفض أحد الْقَوْلَيْنِ وَتَحْرِيم الْمصير إِلَيْهِ، وَلَكِن
لَا يكون اتِّفَاقهم حجَّة. لأَنهم فِي مَسْأَلَة الِاخْتِلَاف
لَيْسُوا كل الْأمة، إِذْ الَّذين انقرضوا من الْمُخَالفين
الآخذين بالْقَوْل المرفوض، فِي تَقْدِير الْأَحْيَاء المصرين
على مَذْهَبهم. إِذْ الْمذَاهب " لَا تبطل " بِمَوْت
أَصْحَابهَا.
وَلَو كَانَ كَذَلِك، لما كَانَ هَؤُلَاءِ إِلَّا بعض الْأمة
فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
1448 - وَالْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ " يمِيل " تَارَة إِلَى
هَذَا الْمَذْهَب: وَهُوَ تصور الِاتِّفَاق مِنْهُم وَتارَة
إِلَى " الْمَذْهَب " الأول: وَهُوَ أَنه لَا يتَصَوَّر
مِنْهُم الِاتِّفَاق.
وَالْمُخْتَار من هَذَا الْبَاب أَن حكم الِاخْتِلَاف لَا
يرتفض أصلا.
(3/80)
1449 - وَقد تمسك أَصْحَابنَا فِي نصْرَة
هَذَا الْمَذْهَب بطريقتين:
أَحدهمَا: أَن الَّذين اخْتلفُوا أَولا، ثمَّ درجوا ومضوا، "
يقدرُونَ " أَحيَاء فَإِن / الْمذَاهب لَا تسْقط بِمَوْت
أَصْحَابهَا وَلَا تندرس. إِذْ لَو سَاغَ سُقُوط مَذْهَب
بِمَوْت الصائرين " إِلَيْهِ " للَزِمَ ارْتِفَاع الْإِجْمَاع
أَيْضا، حَتَّى
(3/81)
يُقَال: إِذا أجمع أهل الْعَصْر الأول،
ثمَّ انقرضوا، فقد ارْتَفع حكم إِجْمَاعهم، وَهَذَا مَا لَا
سَبِيل إِلَيْهِ.
1450 - والطريقة الْأُخْرَى: - وَهِي الَّتِي اخْتَار القَاضِي
رَضِي الله عَنهُ - أَن أهل الْعَصْر الأول إِذا اخْتلفُوا على
مذهبين، وَالْمَسْأَلَة مُجْتَهد فِيهَا، فقد سوغ كلهم - مَعَ
تَسَاوِي صِفَات الْمُجْتَهدين - للعوام الْأَخْذ بقول أَي
الْفَرِيقَيْنِ شَاءُوا، وَأَحلُّوا ذَلِك لَهُم " اتِّفَاقًا
" مِنْهُم، فَلَو جَوَّزنَا الْإِجْمَاع على أحد الْقَوْلَيْنِ
ورفض القَوْل الثَّانِي، لَكَانَ الْإِجْمَاع الثَّانِي قادحا
فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة، إِذْ قد " فرط " مِنْهُم
الْإِجْمَاع على تَحْلِيل الْأَخْذ بِأَيّ الْقَوْلَيْنِ،
اتّفق " للعوام ". فَإِن رفض أحد المذهبين، فقد حرم مَا أحلوه.
وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
1451 - فَإِذا قَالَ قَائِل: بعد تمسكنا بِهَذِهِ الطَّرِيق:
فَهَل تجوزون إِجْمَاع أهل الْعَصْر الثَّانِي على رفض أحد
الْقَوْلَيْنِ؟
كَانَ الْأَصَح والأقطع للشغب، أَن نقُول: لَا يجوز ذَلِك،
وَهَذَا مِمَّا لَا يتَّفق كَمَا يتَّفق أهل الْعَصْر الأول
على مَذْهَب وَاحِد، ثمَّ إِجْمَاع أهل الْعَصْر على نقيضه.
(3/82)
1452 - وَإِن سلكنا طَرِيق تصور
الِاتِّفَاق مِنْهُم، وجعلناهم فِي ذَلِك بعض الْأمة، وَإِن
كَانَ " لَو " حدثت حَادِثَة، لم يقل فِيهَا الْأَولونَ
شَيْئا، وَاتَّفَقُوا فِيهَا على حكم، كَانَ ذَلِك حجَّة
مَقْطُوعًا بهَا، لأَنهم فِيهَا كل الْأمة، وَلم يسْبقُوا
فِيهَا بقول وَمذهب، فيلزمنا أَن نقُول على هَذِه الطَّرِيقَة:
إِذا رفضوا أحد الْقَوْلَيْنِ فَيكون ذَلِك تعرضاً مِنْهُم
لخرق الْإِجْمَاع، وَلَا يجوز لَهُم ذَلِك أصلا.
وَالَّذِي أوثره لَك، التَّمَسُّك بالطريقة الأولى، وَهُوَ:
أَنه لَا يتَصَوَّر مِنْهُم الِاتِّفَاق على أحد
الْقَوْلَيْنِ، ورفض القَوْل الثَّانِي.
1453 - فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم: أَن أهل الْعَصْر
الأول مَا اتَّفقُوا على الحكم، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا، فَلَا
سَبِيل إِلَى استنباط وفَاق من خلاف؟
قُلْنَا: قد قَررنَا الْإِجْمَاع، إِذْ قُلْنَا: فِي تَصْوِير
الِاخْتِلَاف " إِجْمَاعًا " على تسويغ الْأَخْذ بِأَيّ
الْقَوْلَيْنِ اتّفق فِي حق الْعَوام، مَعَ تَسَاوِي صِفَات
الْمُجْتَهدين. وَهَذَا إِجْمَاع لَا خَفَاء بِهِ.
وَاعْلَم أَن ذَلِك يقوى مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين،
على مَا نعقده.
1454 - فَإِن قَالَ قَائِل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم
إِنَّمَا أحلُّوا للعوام الْأَخْذ بِأحد الْقَوْلَيْنِ،
بِشَرْط أَلا تتضح دلَالَة فِي تعْيين أحد الْقَوْلَيْنِ،
وارتفاض الثَّانِي، فَكَأَنَّهُ إِجْمَاع مُعَلّق على شَرط!
(3/83)
قُلْنَا: هَذَا مَا لَا وَجه فِيهِ. و "
فِيهِ " التَّسَبُّب إِلَى الْقدح فِي كل إِجْمَاع. وَذَلِكَ
أَنه لَو سَاغَ مَا قَالُوهُ فِي هَذِه الصُّورَة، لساغ فِي كل
إِجْمَاع، حَتَّى يُقَال: يجوز أَن يجمع " أهل الْعَصْر الأول
" على قَول، بِشَرْط أَن لَا تعن لأهل الْعَصْر الثَّانِي
دلَالَة على خلاف مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ، وَلَو فتحنا هَذَا
الْبَاب، لسقطت الثِّقَة بِكُل إِجْمَاع. ولساغ التَّعَرُّض
لنفيه، بِمَا يظْهر من الْأَدِلَّة السمعية.
1455 - وَالَّذِي يُحَقّق الْمَقْصد فِي ذَلِك: أَن أهل
الْعَصْر الأول، إِذا اخْتلفُوا وَجعلُوا الْمَسْأَلَة
مُجْتَهدا فِيهَا، ثمَّ انقرضوا، فَلَا يسوغ فِي " تِلْكَ "
الْمَسْأَلَة ظُهُور دلَالَة يقطع بهَا فِي الْعَصْر
الثَّانِي.
إِذْ لَو كَانَ فِي الْمَسْأَلَة دلَالَة / مَقْطُوع بهَا، لما
ذهل عَنْهَا أهل الْأَعْصَار الخلية من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ، وَنحن مخاطبون بالبحث " عَنْهَا ". وَقد أجمع
من قَالَ بِحجَّة الْإِجْمَاع أَن ذَلِك لَا " يجوز " أصلا.
فَإِذا كَانَت الدّلَالَة المقطوعة " لَا تتفق فِي الْعَصْر "
الثَّانِي، فقد سوغ الْأَولونَ الِاخْتِلَاف، وَأَحلُّوا
للعوام الْمصير إِلَى كل مَذْهَب، وَلَا يتَصَوَّر مَعَ ذَلِك
التَّعَلُّق على شَرط ظُهُور دَلِيل، فَإِن ذَلِك الَّذِي
قدرتموه من الدَّلِيل، إِن
(3/84)
لم يكن مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا يرْتَفع
الِاجْتِهَاد بِمثلِهِ، وَإِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا
يجوز انْقِرَاض أهل الْعَصْر الأول مَعَ الذهول عَنهُ، وَهَذَا
وَاضح، غير " خافي ".
1456 - وَرَأَيْت لبَعض المنتمين إِلَى الْأُصُول قولا، خطأ
فِي أَرْبَاب الْحَقَائِق، و " أزرى " عَلَيْهِم بِهِ، ونسبهم
إِلَى الذّهاب عَمَّا أدْركهُ. وَهَذَا على التَّحْقِيق " غر "
من الأغرار.
وَذَلِكَ أَنه قَالَ: يجوز انْعِقَاد الْإِجْمَاع على شَرط.
قَالَ: وَالدَّلِيل عَلَيْهِ، أَن الْأمة مجمعة على جَوَاز
الصَّلَاة " بِالتَّيَمُّمِ " وَهَذَا مَشْرُوط بِالسَّفرِ
وإعواز المَاء.
وَيَا عجبا! كَيفَ يحل " لغر " الانتساب إِلَى الْأُصُول، مَعَ
الذهول عَن هَذَا الْقدر الَّذِي يُدْرِكهُ من شدا طرفا من
الْعلم، فَلَيْسَ الْمَعْنى بقول الْمُحَقِّقين: إِن
الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد على شَرط " مَا خيل إِلَيْهِ،
فَإِنَّهُم إِذا أَجمعُوا على جَوَاز الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ
فِي حَالَة مَخْصُوصَة، فكأنهم أَجمعُوا على حكم فِي حَال
مَخْصُوص.
وكل الشَّرِيعَة إِذا تتبعتها، تجدها كَذَلِك، فَإِنَّهُم
أَجمعُوا على وجوب الصَّلَاة بِشَرْط دُخُول الْوَقْت والتمكن.
وعَلى وجوب الْحَج بِشَرْط
(3/85)
الِاسْتِطَاعَة، وعَلى وجوب الزَّكَاة
بشرائط يطول تعدادها. وكل ذَلِك يرجع إِلَى إِجْمَاعهم فِي حكم
على حَال مَخْصُوص. وَلَا يرجع الشَّرْط إِلَى نفس الْإِجْمَاع
أصلا.
وَإِنَّمَا الَّذِي نَحن فِيهِ، تَبْيِين اسْتِحَالَة
انْعِقَاد الْإِجْمَاع على حكم، بِشَرْط أَن يرْتَفع أصل
الْإِجْمَاع عَن ذَلِك الحكم عُمُوما، بِسَبَب دلَالَة تظهر
لغير المجمعين فِي الْعَصْر الأول. وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ فِي
كل إِجْمَاع. وَفِيه سُقُوط الثِّقَة بِإِجْمَاع المجمعين.
وعَلى الدّلَالَة الَّتِي طردناها، أسئلة تلِيق بتصويب
الْمُجْتَهدين، فَرَأَيْنَا تَأْخِيرهَا إِلَى الْكَلَام فِي
مَسْأَلَة التصويب.
1457 - وَقد اسْتدلَّ المخالفون فِي الْمَسْأَلَة، بالأدلة
الدَّالَّة على أصل الْإِجْمَاع، وَزَعَمُوا أَن كل مَا دلّ
على أصل الْإِجْمَاع، دَال على هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَلَكِن فِي ذَلِك طَرِيقَانِ: [الأول] : أَن يمْنَع تصور
إِجْمَاع أهل الْعَصْر الثَّانِي على رفض أحد الْقَوْلَيْنِ،
وَيُطَالب الْخصم " بتصويره " أَولا، وَلَا يقدر على تَصْوِيره
فِي عصر من الْأَعْصَار على وَجه لَا يُنَازع فِيهِ.
وَالْوَجْه الآخر فِي الْجَواب، أَن نقُول: كل مَا اعْتصمَ
بِهِ من أَدِلَّة الْإِجْمَاع، ينعكس عَلَيْكُم فِي حكم
الْعَصْر الأول، إِنَّا " صورنا " عَلَيْكُم
(3/86)
إِجْمَاعهم فِي حَال اخْتلَافهمْ، فلئن
سَاغَ لكم التَّمَسُّك بأدلة الْإِجْمَاع فِي الْعَصْر
الثَّانِي، لساغ لنا التَّمَسُّك بالعصر الأول.
وَالْأَخْذ بِالْأولِ أولى من الْأَخْذ بِالثَّانِي.
وَالْوَجْه الثَّالِث من الْجَواب، أَن نقُول: أهل الْعَصْر
الثَّانِي بعض الْأمة فِي مَسْأَلَة الِاخْتِلَاف، لما
قدمْنَاهُ من أَن الْمذَاهب لَا تسْقط بِمَوْت أَصْحَابهَا.
فَنَجْعَل " الْمُخَالفين " فِي الْمَسْأَلَة بِمَنْزِلَة
البَاقِينَ. فليسوا إِذا كل الْأمة من هَذَا الْوَجْه.
1458 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ / وعدوه من عمدهم: أَن قَالُوا:
إِذا اخْتلف أهل عصر فِي أول الزَّمَان، ثمَّ اتَّفقُوا على
أحد الْمذَاهب، فاتفاقهم يرفع حكم اخْتلَافهمْ. فَلَو كَانَ
فِي الِاخْتِلَاف تضمن إِجْمَاع - كَمَا ادعيتموه - لَكَانَ
ذَلِك إجماعين متناقضين، فَلَمَّا لم يكن ذَلِك كَذَلِك -
وَالْعصر وَاحِد - فَكَذَلِك إِذا اخْتلف العصران.
وَقد تخبط فِي ذَلِك بعض النَّاس، وسلموه، وَلَا يَتَأَتَّى
تَسْلِيمه إِلَّا إِذا اشترطنا فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع
انْقِرَاض المجمعين، فَنَقُول: لَا يسْتَقرّ إِجْمَاعهم الأول
إِلَّا بِأَن ينقرضوا عَلَيْهِ، وَهَذَا بَاطِل، لَا سَبِيل
إِلَى الْمصير إِلَيْهِ.
فَإنَّا قد أوضحنا - بِمَا قدمْنَاهُ - أَن اشْتِرَاط
[انْقِرَاض] المجمعين، لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
(3/87)
وَالْجَوَاب السديد فِي ذَلِك أَن نقُول:
إِذا اخْتلفُوا أَولا، وَاسْتقر اخْتلَافهمْ، واستبد كل حزب
بِمذهب، وَلم يكن ذَلِك ترددا مِنْهُم فِي مهلة الناظرين،
فَلَا يجوز أَن يتفقوا على أحد الْمذَاهب، وَإِبْطَال سائرها.
وَمن سلك " غير " هَذِه الطَّرِيقَة، شوش على بَقِيَّة أصُول
الْأَبْوَاب.
1459 - فَإِن قيل: فقد وجد فِي الصَّحَابَة إِجْمَاع بعد
الِاخْتِلَاف، وَهُوَ نَحْو اخْتلَافهمْ فِي قتال مانعي
الزَّكَاة أَولا، ثمَّ أَجمعُوا على رَأْي أبي بكر رَضِي الله
عَنْهُم، فِي قِتَالهمْ آخرا.
قُلْنَا: هَذَا لَا يتَّجه، من أوجه:
أَحدهَا: إِن دَعْوَى الْإِجْمَاع فِي ذَلِك " لَا تَنْعَقِد "
مَعَ أَن من الْعلمَاء فِي عصرنا، من منع قتال مانعي
الزَّكَاة. فَلَا وَجه لادعاء الْإِجْمَاع، وَالْمَسْأَلَة
مُخْتَلف فِيهَا.
(3/88)
وَالْوَجْه الآخر، أَن نقُول: لَعَلَّهُم
تشاوروا " فِي " تردد الناظرين، ثمَّ اسْتَقَرَّتْ آراؤهم. أَو
نقُول: لَعَلَّهُم بقوا على الِاخْتِلَاف، وَلَكِن لم يَجدوا
بدا من اتِّبَاع إِمَام الزَّمَان وَخَلِيفَة الرَّسُول [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] .
وَهَكَذَا القَوْل فِي كل مَسْأَلَة مُجْتَهد فِيهَا، رأى
الإِمَام فِيهَا رَأيا، يتَعَلَّق بمصالح الْعَامَّة، فَيجب
على الكافة اتِّبَاعه.
1460 - على أَنه لَو قوبل هَؤُلَاءِ، وَقيل لَهُم: لَو اخْتلف
عُلَمَاء عصر من الْأَعْصَار على قَوْلَيْنِ، ثمَّ انقرض أحد
الفئتين، وَبَقِي الثَّانِي: فَهَل تَقولُونَ: إِن ذَلِك صَار
إِجْمَاعًا؟
فَإِن لم يَقُولُوا بذلك - وَلَا مُخَالف فِي الْمَسْأَلَة -
فقد نقضوا أصلهم.
وَإِن قَالُوا بِهِ، فقد زادوا فِي الإغراب والإبداع علينا،
حَيْثُ قَالُوا: بِمَوْت قوم تصير الْمَسْأَلَة مَسْأَلَة
إِجْمَاع، من غير تجدّد معنى، سوى الْمَوْت فِي فِئَة!
(3/89)
(255) بَاب
يجمع أصولا مُتَفَرِّقَة فِي أَحْكَام الْإِجْمَاع
هَل يجوز إِحْدَاث قَول ثَالِث بعد الْإِجْمَاع على قَوْلَيْنِ
1461 - إِذا أجمع أهل الْعَصْر على قَوْلَيْنِ: فالمصير إِلَى
قَول ثَالِث، خرق الْإِجْمَاع، هَذَا مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم
الْعلمَاء.
1462 - وَذهب بعض أهل الظَّاهِر إِلَى أَن ذَلِك لَا يكون خرقا
للْإِجْمَاع، وَقد يسند ذَلِك إِلَى طَائِفَة من
الْمُتَكَلِّمين.
(3/90)
1463 - وَالدَّلِيل على بُطْلَانه: أَن
عُلَمَاء الْعَصْر إِذا اتَّفقُوا على قَول، فَلَا يسوغ اختراع
قَول " ثَان " فَكَذَلِك إِذا أَجمعُوا على قَوْلَيْنِ.
وَالْجَامِع بَينهمَا أَن نفس الْمصير إِلَى القَوْل
الْوَاحِد، إِجْمَاع على نفي مَا عداهُ. / وَكَذَلِكَ إِذا
حصروا الْمذَاهب فِي قَوْلَيْنِ: فقد نفوا مَا عداهما.
1465 - وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ /، أَن نقُول: لَو
اتَّفقُوا على قَوْلَيْنِ، وصرحوا بِنَفْي مَا عداهما: " فَلَا
يَخْلُو " الْخصم فِي هَذِه الْحَالة، من أَن يجوز إِحْدَاث
قَول ثَالِث أَو لَا يجوز. فَإِن لم يجوز إِحْدَاث قَول
ثَالِث، فَلْيقل بذلك، وَإِن لم يصرحوا بنفيه.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنهم لَو أَجمعُوا على قَول وَاحِد،
فَلَا يجوز اختراع قَول
(3/91)
ثَان " سَوَاء " نقل عَنْهُم نفي مَا
عداهُ، أَو لم ينْقل ذَلِك عَنْهُم /.
[فَإِن] قَالَ الْخصم: يجوز اختراع قَول ثَالِث، مَعَ تصريحهم
بنفيه، فَهَذَا تَصْرِيح بخرق الْإِجْمَاع، لَا خَفَاء بِهِ.
1466 - وَإِن قَالُوا: يجوز لأهل الْعَصْر الثَّانِي، أَن
يَتَمَسَّكُوا بِدَلِيل لم يتَمَسَّك بِهِ الْأَولونَ وفَاقا -
وَلَا يعد ذَلِك خرقا لإجماعهم - فَكَذَلِك وَجب تَجْوِيز قَول
ثَالِث، وَإِن لم يقل بِهِ الْأَولونَ.
قُلْنَا: فَقولُوا على طرد ذَلِك، إِنَّه يجوز إِحْدَاث قَول
ثَان عِنْد إِجْمَاع الْأَوَّلين على قَول وَاحِد، كَمَا يجوز
التَّمَسُّك بِدَلِيل ثَان.
ثمَّ نقُول: طرق الاستنباطات لَا تَنْحَصِر، وَأما الْمذَاهب
فَإِنَّهَا منحصرة، وَأَهْلهَا يَنْفِي مَا سواهَا، وَمَا نفى
أهل عصر من الْأَعْصَار ضربا من الاستنباط لنصرة مَا صَارُوا
إِلَيْهِ، سوى مَا ذَكرُوهُ، حَتَّى لَو قَالُوا: لَا دَلِيل
فِي الْمَسْأَلَة سوى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَأَجْمعُوا
عَلَيْهِ، لم يجز التَّمَسُّك بِغَيْرِهِ.
1467 - فَإِن قَالُوا: لما اخْتلف أهل الْعَصْر الأول، فقد
جعلُوا للِاجْتِهَاد مساغاً، فَجَاز لذَلِك اخْتِيَار قَول
ثَالِث.
قُلْنَا: إِنَّمَا جعلُوا للِاجْتِهَاد مساغاً فِي
الْقَوْلَيْنِ اللَّذين " ذكروهما ". فَأَما أَن يجوزوا
تعديهما؛ " فَلَا ". فكأنهم لم يجْعَلُوا الْمَسْأَلَة
مُجْتَهدا فِيهَا،
(3/92)
" وَفِي منع الزِّيَادَة على الْقَوْلَيْنِ
". وَإِنَّمَا جعلُوا الْمَسْأَلَة مُجْتَهدا فِيهَا فِي
تَرْجِيح أحد الْقَوْلَيْنِ على الثَّانِي.
1468 - وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَن الْأمة إِذا اجتهدت، ثمَّ
أطبقت على حكم وَاحِد بعد الِاجْتِهَاد، فَلَا يسوغ إِظْهَار
قَول ثَان، وَإِن تبين عندنَا أَنهم قَالُوا مَا قَالُوهُ
اجْتِهَادًا، وَلَا نجْعَل خوضهم فِي الِاجْتِهَاد تسويفاً
وتجويزاً " للأخذ " " بطرقها " المؤدية الى قَول ثَان، سوى مَا
أَجمعُوا عَلَيْهِ. فَبَطل مَا قَالُوهُ.
(256) فصل
(الْأمة إِذا لم تفصل بَين مَسْأَلَتَيْنِ، فَهَل لمن بعدهمْ
أَن يفصل بَينهمَا؟)
1469 - إِذا ظهر فِي الْأمة مَسْأَلَتَانِ: وَاخْتلف قَول
الْأمة " فيهمَا "، فَذهب بعض الْأمة إِلَى الْحل " فيهمَا "
مثلا، وَذهب آخَرُونَ إِلَى التَّحْرِيم فيهمَا فَلَو أَرَادَ
بعض الْعلمَاء فِي " إِحْدَى " الْمَسْأَلَتَيْنِ أَن يَأْخُذ
بالتحليل، وَفِي الْأُخْرَى بِالتَّحْرِيمِ، فَهَل ذَلِك لَهُ؟
فَلَا يَخْلُو من أَمريْن:
(3/93)
إِمَّا أَن يجمع الْأمة على أَنه لَا فرق
بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَلَا يسوغ الْفَصْل بَينهمَا. فإمَّا
التَّحْلِيل فِيهَا، وَإِمَّا التَّحْرِيم.
وَأما التَّحْلِيل فِي " إِحْدَاهمَا " وَالتَّحْرِيم فِي
الْأُخْرَى، فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ، لما عَلَيْهِ الْأمة من
الإطباق فِي الِاتِّفَاق.
1470 - وَذهب بعض النَّاس إِلَى أَنه يجوز التَّفْرِقَة
بَينهمَا، وَإِن أَجمعت الْأمة على منعهَا. فَإِن الْإِجْمَاع
على منع التَّفْرِقَة، لَيْسَ بِإِجْمَاع على حكم من
الْأَحْكَام، فَلَا معول عَلَيْهِ.
1471 - وَهَذَا غلط و " مراغمة " لما " عَلَيْهِ " الْأمة
صَرِيحًا. وَلَو سَاغَ ذَلِك فِي شَيْء، لساغ فِي كل شَيْء.
وَمَا ذَكرُوهُ من أَن منع التَّفْرِقَة، لَيْسَ من
الْأَحْكَام، فَهُوَ بَاطِل. فَإِنَّهُ حكم لَا خَفَاء بِهِ،
لأَنهم إِذا أَجمعُوا على منع الْفَصْل، فقد أَجمعُوا على منع
التَّحْلِيل فِي إِحْدَاهمَا مَعَ التَّحْرِيم فِي الْأُخْرَى.
وَهَذَا تعرض لحكم نفيا وإثباتاً. فَهَذَا إِذا نقل عَنْهُم
منع التَّفْرِقَة.
1472 - وَأما إِذا لم ينْقل ذَلِك عَنْهُم، فَالصَّحِيح: أَنه
يجوز لبَعض الْعلمَاء الْأَخْذ بالتحليل فِي " إِحْدَى "
الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَالتَّحْرِيم فِي الْأُخْرَى.
(3/94)
وَذَلِكَ أَنه إِذا أَخذ " بِالْحلِّ " فِي
إِحْدَاهمَا، فقد قَالَ بالتحليل فِيهَا قَائِلُونَ،
وَكَذَلِكَ إِذا أَخذ بِالتَّحْرِيمِ فِي الثَّانِيَة، وَلم
ينْقل عَن الْأمة منع الْفَصْل، وَلَا تعلق " لإحدى "
الْمَسْأَلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، بِوَجْه من الْوُجُوه /.
1473 - وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى منع الْفَصْل بَين
الشقتَيْنِ، إِذا لم يتَّفق لأحد من السَّابِقين الْفَصْل
بَينهمَا، وَفِيمَا أومأنا إِلَيْهِ مَا يُوضح فَسَاد ذَلِك.
(257) فصل
لَا يتَصَوَّر انْعِقَاد الْإِجْمَاع بِخِلَاف الْخَبَر
الثَّابِت
1474 - فَإِن قَالَ قَائِل: لَو أَن " وَاحِدًا " فِي زمَان
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، سَمعه يَقُول قولا
فِي حكمه، وَلم يسمع ذَلِك القَوْل غَيره، وَكَانَ نصا لَا
يقبل
(3/95)
التَّأْوِيل، وَلم يكن السَّامع من حزب
الْمُجْتَهدين وَلَا من طوائف الْعلمَاء، ثمَّ اتّفقت تِلْكَ
الْحَادِثَة بعد أَن اسْتَأْثر الله بالرسول [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، فأجمع عُلَمَاء الْأمة على خلاف مَضْمُون
الْخَبَر الَّذِي سَمعه الْوَاحِد، وَلم ينْقل ذَلِك الْوَاحِد
مَا سَمعه، أَو لم يكن من أهل النَّقْل، بل كَانَ مطعوناً، "
فَهُوَ " فِي نَفسه، بِمَاذَا يَأْخُذ؟ فَإِن أَخذ بِمُوجب
الْخَبَر الَّذِي سَمعه من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] فَمَا وَجه الْجَواب فِي ذَلِك؟
قُلْنَا: إِن كَانَ ذَلِك الْخَبَر ثَابتا فِي مَعْلُوم الله
تَعَالَى، وَلم يكن مَنْسُوخا مرتفعاً، فَيجب وقُوف أهل
الْإِجْمَاع عَلَيْهِ بِوَجْه من الْوُجُوه، حَتَّى لَو لم "
يسمعهُ " إِلَّا وَاحِد، لوَجَبَ فِي الحكم الَّذِي
ذَكرْنَاهُ، أَن يُبرئهُ الله تَعَالَى عَمَّا يقْدَح فِي
رِوَايَته، وَيعرف دواعيه إِلَيْهَا، لينقل مَا سَمعه، ولسنا
نثبت ذَلِك عقلا، وَلَكِن لما ثَبت عندنَا بِدلَالَة السّمع
اسْتِحَالَة إِجْمَاع الْأمة على الْخَطَأ،
(3/96)
وَكَانَ من أعظم الْخَطَأ مُخَالفَة رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي خبر يجب اتِّبَاعه، فَلَا
يجوز أَن يشذ عَن أهل الْإِجْمَاع، وَإِن شَذَّ عَنْهُم،
فَذَلِك لِأَنَّهُ مَنْسُوخ. فَخرج من مَضْمُون مَا قُلْنَاهُ.
لِأَنَّهُ إِن تصور انْعِقَاد إِجْمَاعهم، وَلم ينْقل "
الْخَبَر إِلَيْهِم "، فَيجب لُزُوم إِجْمَاعهم، لعلمنا أَنهم
لَا يجمعُونَ إِلَّا على حق. وَلَو لم يكن الْخَبَر نسخ لعثروا
عَلَيْهِ وَعمِلُوا بِهِ. إِذْ الْعِصْمَة تجب لكافتهم.
فَاعْلَم هَذِه الْجُمْلَة، واحسم بَاب السُّؤَال عَن نَفسك.
فَإِنَّهُ مِمَّا زل فِيهِ كثير من النَّاس.
1475 - فَإِن قَالَ قَائِل: " فقود " مَا ذكرتموه عَلَيْكُم
عصمَة الْوَاحِد عَن الْكَفّ عَن النَّقْل، إِذا كَانَ
الْخَبَر فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى ثَابت الحكم؟
قُلْنَا: هَذَا قَوْلنَا، وَلَا نتحاشى مِنْهُ، وَلَيْسَ وجوب
الْعِصْمَة للْوَاحِد فِي حكم الْمَعْقُول بِأَكْثَرَ من وجوب
الْعِصْمَة للْجَمِيع، فأحط بذلك علما، وَلَا تجبن عَمَّا يرد
عَلَيْك.
(258) القَوْل فِي مَذْهَب الصَّحَابِيّ: إِذا انْتَشَر، أَو
لم ينتشر)
1476 - اعْلَم، وفقك الله، أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ قولا،
فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن ينتشر قَوْله فِي الصَّحَابَة، أَو
لَا ينتشر. فَإِن لم ينتشر، فَلَا ريب أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع.
(3/97)
1477 - وَلَكِن قد اخْتلف الْعلمَاء فِي
أَنه هَل هُوَ حجَّة؟ وَالْمُخْتَار عندنَا: أَنه لَيْسَ
بِحجَّة وَهَذِه الْمَسْأَلَة تذكر فِي أَحْكَام التَّقْلِيد،
فِي آخر الْكتاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1478 - وَأما إِذا قَالَ وَاحِد من الصَّحَابَة قولا، وانتشر
فِي سَائِر الصَّحَابَة، وَلم يظهروا عَلَيْهِ " نكيراً " بل
سكتوا عَنهُ، وَلم يتكلموا بوفاق وَلَا خلاف، فَهَل يكون ذَلِك
إِجْمَاعًا؟
فَاخْتلف الأصوليون فِيهِ، فَذهب بَعضهم إِلَى أَن ذَلِك
إِجْمَاع مَقْطُوع بِهِ. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَيْسَ
بِإِجْمَاع.
1479 - وَللشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ مَا يدل على المذهبين،
وَآخر أَقْوَاله " اسْتَقر " على أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع.
فَإِنَّهُ قَالَ: لَا ينْسب إِلَى سَاكِت قَول. وَهُوَ يَعْنِي
هَذِه الْمَسْأَلَة.
1480 - ثمَّ الَّذين قَالُوا: إِنَّه إِجْمَاع /، افْتَرَقُوا
فرْقَتَيْن:
فَمنهمْ من لم يشْتَرط " فِي تحقق " الْإِجْمَاع انْقِرَاض
الْعَصْر، كَمَا لَا يشْتَرط إِذا صرح الكافة بقول، وَمِنْهُم
من قَالَ: يشْتَرط فِي هَذَا الضَّرْب
(3/98)
انْقِرَاض الْعَصْر، وَلَيْسَ كَمَا لَو
بدر مِنْهُم قَول مُتَّفق عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط
انْقِرَاض الْعَصْر فِيهِ.
وَإِلَى هَذَا مَال الجبائي وَابْنه، وكأنهما صَارا إِلَى
تَجْوِيز نطقهم بِخِلَاف مَا يَقُول. فَإِذا انقرضوا، زَالَ
هَذَا الْمَعْنى.
1481 - وَالَّذين قَالُوا: إِن ذَلِك لَيْسَ بِإِجْمَاع،
افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن:
فَمنهمْ من قَالَ: إِذا لم يكن إِجْمَاعًا، فَلَيْسَ بِحجَّة
أَيْضا.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن قَول الصَّحَابِيّ إِذا انْتَشَر،
وَلم يظْهر من أحد خلاف، فَهُوَ حجَّة يعتصم بهَا، وَإِن لم
يكن إِجْمَاعًا.
1482 - وَالَّذِي نرتضيه فِي ذَلِك إِنَّه لَيْسَ بِإِجْمَاع "
إِذْ " انقسم سكُوت الساكتين إِلَى وُجُوه، فَجَاز أَن يكون
السُّكُوت رضى مِنْهُم بالْقَوْل الْمُنْتَشِر فيهم، وَجَاز "
غير ذَلِك ". فتقابلت الِاحْتِمَالَات
(3/99)
[و] لم يكن الْأَخْذ ببعضهما أولى.
1483 - وَهَا نَحن نقرر وُجُوه الِاحْتِمَال، وَقد ذكر
القَاضِي رَضِي الله عَنهُ جملَة مِنْهَا، وَنحن نقتصر على مَا
يَقع الِاسْتِقْلَال من جُمْلَتهَا فَنَقُول: لَعَلَّهُم
سكتوا، مصيراً مِنْهُم إِلَى تصويب كل مُجْتَهد، وذهابا
مِنْهُم إِلَى أَن مَا قَالَه، حق فِي حَقه. فَإِذا اعتقدوا
ذَلِك، لم يلْزمهُم " الْإِنْكَار " عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ
ذَلِك رُبمَا لَا يتَحَقَّق فِي حُقُوقهم. وَهَذَا كَمَا أَن
عُلَمَاء الْأمة فِي حَال اختيارهم، لَو رَأَوْا مُضْطَرّا
يَأْكُل الْميتَة، فَسَكَتُوا على فعله، كَانَ ذَلِك غير دَال
على تَجْوِيز أكل الْمَيِّت فِي حق الكافة، مَعَ ثُبُوت
الِاخْتِيَار وَانْتِفَاء الِاضْطِرَار، فَهَذَا وَجه.
وَإِن نوزعنا فِي تصويب الْمُجْتَهدين، فسنقرره بأوضح
الْوُجُوه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1484 - وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنا إِن قدرناهم غير قائلين
بتصويب الْمُجْتَهدين إِجْمَاعًا، لَكَانَ فيهم من لَا يَقُول
بذلك، فَيحْتَمل ذَلِك أَنهم مهما سكتوا. فَإِنَّمَا سكتوا
لعلمهم بِأَن الْمُصِيب لَا يتَعَيَّن، فجوزوا أَن يكون ذَلِك
الْقَائِل، هُوَ الْمُصِيب، وَإِن اعتقدوا أَن الْمُصِيب
وَاحِد. فَلَمَّا لم يتَعَيَّن لَهُم ذَلِك، وَلم يُمكنهُم
الْإِنْكَار، سكتوا وصمتوا.
1458 - وَالْوَجْه الآخر فِي الِاحْتِمَال: أَن يبدر القَوْل
من وَاحِد، قد قطع اجْتِهَاده فِيهِ على غَلَبَة الظَّن،
فَلَمَّا بَلغهُمْ ترددوا فِيهِ - وَكَانُوا فِي مهلة
(3/100)
الناظرين - ثمَّ ذهلوا عَن الْمَسْأَلَة
وذهلت عَنْهُم، وَلَا يستبعد عقلا وَلَا سمعا.
أما منع استبعاده عقلا: فَوَاضِح.
وَأما استبعاده سمعا: فَذَلِك أَنا لَا نوجب أَن تكون كل
الْمسَائِل مجتمعاً عَلَيْهَا، بل يجوز أَن يثبت بَعْضهَا
مُجْتَهدا فِيهَا، وَبَعضهَا مَقْطُوعًا بهَا، فَلهَذَا
الْوَجْه جَازَ أَن يسكتوا مترددين عَن جَوَاب الْمَسْأَلَة،
ثمَّ يذهلوا عَنْهَا.
1486 - وَمن وُجُوه الِاحْتِمَال، أَن نقُول: إِذا كَانَت
الْمَسْأَلَة مُجْتَهدا فِيهَا، فَلَا يجب على الْعلمَاء
إِظْهَار إِنْكَار على من قَالَ فِيهَا بقول، لم يراغم فِيهَا
حجَّة مَقْطُوعًا بهَا. فَلَا يتحتم على بَقِيَّة الْعلمَاء "
صد " الْقَائِل عَن قَوْله، فحملهم على سكوتهم علمهمْ.
بِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِم إِظْهَار الْإِنْكَار، وَلَا يكون
سكوتهم عَلَيْهِ للرضا بِهِ وَالِاعْتِرَاف. فَأنى يتَحَقَّق
مَعَ هَذِه الْوُجُوه حمل سكوتهم على التصويب قطعا؟
1487 - وَلَا [تتمّ] هَذِه الدّلَالَة، إِلَّا بِالْجَوَابِ
عَن سُؤال: - وَهُوَ عُمْدَة الْمُخَالفين - وَذَلِكَ أَنهم
قَالُوا: لَا يجوز فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن ينتشر / قَول فِي
قوم تقوم بهم الْحجَّة، وهم لَا يوافقونه، وَلَا تحملهم
رَغْبَة وَلَا رهبة على السُّكُوت عَنهُ، ثمَّ لَا يظْهر فِيهِ
خلاف - إِن اعتقدوه!
(3/101)
فكفهم عَن إِظْهَار الْخلاف فِي مُسْتَقر
الْعَادة واطرادها، دَلِيل على أَنهم لم يعتقدوا الْخلاف.
قُلْنَا: فقد ذكرنَا وُجُوهًا تحملهم على السُّكُوت، من تصويب
الْمُجْتَهدين، والتردد فِي مهلة الناظرين، وَالْعلم بِعَدَمِ
وجوب الْإِنْكَار، وَإِنَّمَا يستبعد إطباق الْأمة على " سكت "
أَو قَول من غير سَبَب يحملهم عَلَيْهِ.
1488 - ثمَّ نقُول لَهُم: مَا ذكرتموه، ينعكس عَلَيْكُم.
فَإنَّا نقُول: يبعد فِي مُسْتَقر الْعَادة [أَن] ينتشر فِي
أهل الْإِجْمَاع قَول، وهم يَعْتَقِدُونَ صِحَّته، وَلَا يبدر
مِنْهُم فِي ذَلِك نطق بالوفاق، مَعَ اعْتِقَادهم بذلك،
وارتفاع الْمَوَانِع عَن " إِظْهَاره ".
فَهَذَا أبعد فِي الْعَادَات مِمَّا ذَكرُوهُ، وَهَذَا مَا لَا
جَوَاب عَنهُ، فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ.
1489 - وَأما من يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر، فَهُوَ وَاضح
الْفساد.
فَإنَّا نقُول: إِن لم يدل سكُوت الْعلمَاء على قَول، خمسين
سنة فَصَاعِدا _ وَالْقَوْل منتشر فيهم - على الرِّضَا بِهِ
وتصديق قَائِله وَتَقْرِيره على مذْهبه، فبأن يموتوا عَلَيْهِ،
لَا يدل سكوتهم عَلَيْهِ أَيْضا، وكل مَا قدمْنَاهُ من
الْأَدِلَّة على أَن انْقِرَاض الْعَصْر لَا أثر فِي
الْإِجْمَاع، فَيَعُود فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَإِن سلمُوا
لنا، أَن انْقِرَاض الْعَصْر لَا يشْتَرط فِيمَا أطبقوا
عَلَيْهِ قولا، " فَلَا حجَّة " فِيهِ مَعَ ذَلِك فصلا أصلا.
(3/102)
1490 - وَأما من قَالَ: إِن القَوْل
الْمُنْتَشِر حجَّة، وَإِن لم يكن إِجْمَاعًا.
فَيُقَال لهَذَا الْقَائِل: إِن عنيت بذلك أَن قَول الْوَاحِد
من الصَّحَابَة حجَّة، فسنبطل ذَلِك فِي كتاب التَّقْلِيد، إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
وَإِن انتحيت فِي مذهبك نَحْو مَذْهَب المجمعين، وَجعلت قَوْله
حجَّة، لاعتقاد لَهُ أَن سكُوت المجمعين تَقْرِير مِنْهُم
وتصويب، فقد أوضحنا إبِْطَال ذَلِك القَوْل.
على أَنا نقُول: إِن اعتقدت ذَلِك، فَيجب عَلَيْك الْقطع
بِكَوْنِهِ إِجْمَاعًا، إِذْ لَا فصل بَين أَن يدل على
الِاتِّفَاق سكُوت، أَو يدل عَلَيْهِ نطق.
1491 - وَمِمَّا تمسك بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَن السُّكُوت
إِجْمَاع، أَن قَالُوا: الْعِصْمَة وَاجِبَة لكافة الْأمة،
كَمَا أَنَّهَا وَاجِبَة للرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
وَمن تجب لَهُ الْعِصْمَة فسكوته تَقْرِير، كالرسول [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] .
وَاعْلَم أَن هَذَا اقْتِصَار على طرد " لَا يرتضى " فِي
مسَائِل الْقطع.
فَأول مَا نطالبهم بِهِ، أَن نقُول: لم قُلْتُمْ أَن تَقْرِير
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ شرعا لوُجُوب
عصمته؟ وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن تَقْرِيره كَانَ شرعا
لدلَالَة أُخْرَى، سوى وجوب عصمته؟
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن وجوب الْعِصْمَة يَخُصُّهُ،
وَلَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره.
" ثمَّ " يُقَال: إِن سكته على فعل غَيره شرع، لعصمته فِي
نَفسه.
(3/103)
فَإِن قَالُوا: يثبت وجوب عصمته عَن
السُّكُوت على الْبَاطِل.
قُلْنَا: الْأَمر على مَا قلتموه، وَكَذَلِكَ فِي الْأمة،
وَلَكِن من أَيْن وضوح الْبطلَان واستيقانه، أَو ثُبُوت
الصِّحَّة وَالْقطع بهَا.
1492 - وَالَّذِي يحسم الْبَاب فِي ذَلِك، أَن نقُول: لَا يجوز
مَعَ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَتَقْرِيره بَقَاء
الريب وَالِاجْتِهَاد، وَلَا خلاف أَنه يسوغ فِي الْأمة "
ترديد " القَوْل، والتمسك بطرق الِاجْتِهَاد فَمن / هَذَا
الْوَجْه افترق الْأَمْرَانِ افتراقاً وَاضحا.
وَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي خلل الْكَلَام أسئلة
تلِيق بتصويب الْمُجْتَهدين وأحال، ثمَّ استقصاها، على مَا
سَيَأْتِي، وَنحن رَأينَا تَأْخِيرهَا. وَبِاللَّهِ
التَّوْفِيق.
(259) القَوْل فِي جَوَاز انْعِقَاد إِجْمَاع الْأمة من جِهَة
الْقيَاس والرأي وَوجه الْخلاف فِيهِ
1493 - الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب يخْتَص بالقائلين
بِالْقِيَاسِ. فَإِن
(3/104)
المنكرين لَهُ " قاطعون " بِبُطْلَان
الْقيَاس - فِي اعْتِقَادهم -. فَإِذا قطعُوا بذلك، أحالوا
إِجْمَاع الْأمة على بَاطِل. وَأما الْقَائِلُونَ
بِالْقِيَاسِ: افْتَرَقُوا فرقا.
1494 - فَصَارَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ إِلَى أَنه لَا
يتَصَوَّر إِجْمَاع الْأمة على قِيَاس، وَلَو قدر خرق
الْعَادة، واجتمعوا عَلَيْهِ، كَانَ حجَّة قَاطِعَة.
1495 - وَصَارَ آخَرُونَ إِلَى أَن الِاجْتِمَاع على قِيَاس
وَاحِد مُتَصَوّر، وَلَكِن مهما اتّفق ذَلِك، لم يقتض
الْإِجْمَاع قَاطِعَة.
(3/105)
1496 - وَالصَّحِيح: تصور الْإِجْمَاع على
حكم وَاحِد صادر من قِيَاس، ثمَّ إِذا تصور ذَلِك الْإِجْمَاع
[فَهُوَ] حجَّة قَاطِعَة.
1497 - وَالدَّلِيل على تصور الْإِجْمَاع - على خلاف مَا
قَالَه ابْن جرير الطَّبَرِيّ - أَنا نرى طوائف من الْعلمَاء،
مُجْمِعِينَ على عِلّة وَاحِدَة، مَعَ خُرُوجهمْ عَن الْحصْر،
وَلَو قدرُوا عدد الْإِجْمَاع عِنْد فقد من سواهُم وعداهم، لم
يبعد ذَلِك فيهم، وَذَلِكَ نَحْو أَصْحَاب الشَّافِعِي، حَيْثُ
أَجمعُوا على أَن الطّعْم عِلّة فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة،
وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. وَالَّذِي يجوز الْإِجْمَاع
على الحكم الْوَاحِد، لَا يدْرك لَوْلَا الْإِجْمَاع،
بِدلَالَة من أَدِلَّة الْقطع، يجوز الْإِجْمَاع على قِيَاس
وَاحِد.
1498 - وَمن الدَّلِيل على تصور الْإِجْمَاع، أَنا نجد من
الْكَفَرَة أَقْوَامًا، يزِيد عَددهمْ على أَضْعَاف عدد
الْمُسلمين، وهم مَعَ ذَلِك متفقون على رد الْإِسْلَام "
شُبْهَة "، اعتقدوها بَاطِلَة قطعا، فلئن سَاغَ الِاجْتِمَاع
على شُبْهَة وَاحِدَة من أَقوام [هَذِه] عدتهمْ، فَلَا يبعد
ذَلِك فِي الْمُسلمين أَيْضا. فَهَذَا وَجه الرَّد على منع
تصور الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد.
1499 - وَالدَّلِيل على أَن الْإِجْمَاع إِذا تصور، كَانَ
حجَّة قَاطِعَة: " وَهُوَ
(3/106)
مَا تمسكنا بِهِ " فِي إِثْبَات أصل
الْإِجْمَاع، مَعَ ضروب من الْأَدِلَّة، وَمن يقْدَح فِي شَيْء
مِنْهَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، لزمَه الْقدح فِي سائرها فِي
أصل الْإِجْمَاع.
1500 - وَمن الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قد ثَبت بالأدلة القاطعة،
كَون الْقيَاس الشَّرْعِيّ حجَّة من حجج الله تَعَالَى. كَمَا
ثَبت ذَلِك فِي نُصُوص الْكتاب وَالسّنة المتواترة. فَكَمَا
تقوم حجَّة الْإِجْمَاع عَن النُّصُوص، لكَونهَا أَدِلَّة على
الْأَحْكَام، فَيجب نَحْو ذَلِك فِي الْقيَاس، وَالْجَامِع
بَينهمَا فِي طَرِيق السبر والتقسيم [كَون] كل وَاحِد دَلِيلا.
شُبْهَة الْمُخَالفين فِي منع كَون الْقيَاس مُسْتَند
الْإِجْمَاع
1501 - فمما اسْتدلَّ بِهِ ابْن جرير الطَّبَرِيّ، أَن قَالَ:
الْقيَاس مِمَّا لَا يسْتَدرك قطعا، فيبعد فِي اطراد
الْعَادَات، أَن يجمع أهل الْإِجْمَاع على ضرب وَاحِد من
الاستنباط، - مَعَ أَنه لَا يقطع بِهِ - وَمَعَ تفَاوت الخواطر
والأفهام فِي بطئها وذكائها.
فَيُقَال: مَا ذكرته، يبطل عَلَيْك باجتماع مثل أَصْحَاب
الشَّافِعِي - رَحمَه الله - على الْعلَّة الْوَاحِدَة،
وَكَذَلِكَ يبطل بالاجتماع على الشُّبْهَة الْوَاحِدَة.
فَإِنَّمَا فَرضنَا الْكَلَام فِي الشُّبْهَة، حَتَّى لَا
يُمكنهُ الْفَصْل بَين الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة وَالْقِيَاس.
بِكَوْن الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة مَقْطُوعًا بهَا فَبَطل مَا
قَالَه.
على أَنا لسنا " نتصور " الْإِجْمَاع من كَافَّة الْعلمَاء /
فِي جَمِيع
(3/107)
الْأَعْصَار فِي لَحْظَة وَاحِدَة، بل
إِنَّمَا نتصور ذَلِك فِي مهلة ونظرة وانتشار من الْأَخْبَار.
والتصوير مَعَ ذَلِك لَا يبعد.
1502 - وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ أَيْضا، أَن قَالَ: الْعَصْر
لَا يَخْلُو عَن طَائِفَة من الْعلمَاء يُنكرُونَ الْقيَاس.
فَكيف يتَصَوَّر من كافتهم الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد؟
قُلْنَا: سنبين فِي كتاب أَحْكَام المقايس، أَن الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ فِي عصرهم كَانُوا مُجْمِعِينَ " على "
الْأَخْذ بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا حدث رد الْقيَاس فِي
الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة. فَهَذَا وَجه بَين فِي التفصي.
1503 - على أَنا نقُول: إِذا كَانَ الْكَلَام فِي التَّصَوُّر،
فيتصور من رادى الْقيَاس الرُّجُوع الى مَنْهَج الْحق فِي
القَوْل بِالْقِيَاسِ، حَتَّى إِذا تصور ذَلِك، تصور بعد
الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد، إِذْ هَذِه الْمَسْأَلَة -
وَهِي إِثْبَات الْقيَاس حجَّة - من الْمسَائِل القطعية، فيسوغ
ارْتِفَاع الْخلاف فِيهَا، كَمَا يسوغ ارْتِفَاع الْخلاف فِي
جملَة مَا يقطع بِهِ فِي أصُول العقائد.
(3/108)
1504 - فَأَما من قَالَ: يتَصَوَّر
الْإِجْمَاع على الْقيَاس الْوَاحِد، وَمنع كَونه حجَّة،
فَكَذَا اسْتدلَّ بطرق:
مِنْهَا: أَن القائسين فِي الشَّرِيعَة مجمعون على أَن كل
قِيَاس مستنبط لَا يقطع بِهِ. فَكيف يتَصَوَّر كَون
الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة، مَعَ اتِّفَاق القائسين على أَن
الأقيسة لَا تُؤدِّي إِلَى الْعلم وَالْقطع! ؟
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تلبيس مِنْكُم. وَذَلِكَ أَنا
لَا نقطع بِمُقْتَضى الْقيَاس الْوَاحِد، إِذا لم يجْتَمع
عَلَيْهِ أهل الْإِجْمَاع، وَأما إِذا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ
وَقَطعُوا بِكَوْنِهِ حجَّة، فَلَا نسلم مَعَ ذَلِك
التَّرَدُّد فِيهِ.
على أَنا نقُول: الْقيَاس يُفْضِي إِلَى وجوب الْعَمَل. وَإِن
كَانَ لَا يفضى إِلَى الْعلم. وَنحن " أثبتنا " تصور
الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل قطعا. وَهَذَا وَاضح فِي رد مَا
قَالُوهُ.
1505 - وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ أَن قَالُوا: مهما أَجمعُوا
على حكم صادر عَن قِيَاس، فقد سوغوا الِاجْتِهَاد فِيهِ،
وَجعلُوا للاعتبار مجالاً فَلَو أَوجَبْنَا الِاقْتِصَار على
مَنْهَج وَاحِد فِي الْقيَاس، مَعَ إِجْمَاعهم على أَن "
للاعتبار " وَالنَّظَر فِيهِ مجالاً، كَانَ ذَلِك خلاف
مُقْتَضى الْإِجْمَاع.
فَنَقُول: أَرَأَيْتُم لَو أَجمعُوا على قِيَاس وَاحِد،
وَزَعَمُوا أَنه الدَّلِيل دون مَا عداهُ، فَكيف يتَحَقَّق
مَعَ هَذَا التَّصْوِير، تسويفهم بجملة طرق
(3/109)
الِاجْتِهَاد؟ وَقد جَوَّزنَا عَلَيْهِم -
كَمَا ترَوْنَ - الْقطع بِنَفْي " مَا عدا " قِيَاس وَاحِد.
على أَنا نقُول: إِذا أَجمعُوا على حكم وَاحِد، وَقَطعُوا بِهِ
على قِيَاس، فَلَا يخلون إِمَّا أَن يجمعوا مَعَ ذَلِك، على
منع مَا عدا ذَلِك الْقيَاس الْوَاحِد، فَلَا يسوغ التَّمَسُّك
بِغَيْرِهِ، وَإِن تمسكوا بِقِيَاس وَاحِد وَحكم وَاحِد فَلَا
يسوغ إِثْبَات حكم زَائِد على ذَلِك الحكم، وَلَكِن إِن تمسك
متمسك بطرِيق آخر من طرق الْقيَاس، يُؤَدِّي إِلَى غير ذَلِك
الحكم الَّذِي أَجمعُوا عَلَيْهِ، فَلَا حرج عَلَيْهِ
حِينَئِذٍ.
فَهَذَا وَجه تَفْصِيل الْمذَاهب. فقد " أوضح " الرَّد على مَا
قَالُوهُ.
1506 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا، أَن قَالُوا: من حكم مَا
أَجمعُوا عَلَيْهِ جَوَاز الاستنباط وَالْقِيَاس عَلَيْهِ.
فَلَو جَوَّزنَا الْإِجْمَاع على قِيَاس، لامتنع الْقيَاس على
مورد الْإِجْمَاع، فَإِن مَا ثَبت قِيَاسا لَا يُقَاس على مَا
ثَبت نصا.
قُلْنَا: هَذَا الْآن تعرض مِنْكُم لتفصيل الْقيَاس. والخوض
فِيهِ يصدنا عَن الْمَقْصد، وَنحن نجوز الاسنباطات مِمَّا ثَبت
قِيَاسا، كَمَا نجوز ذَلِك فِيمَا ثَبت نصا.
(3/110)
(260) (الرَّد على الظَّاهِرِيَّة فِي
تَخْصِيص حجية الْإِجْمَاع بالصحابة)
1507 - قد حكينا فِيمَا قدمْنَاهُ / عَن أَصْحَاب الظَّاهِر
تَخْصِيص حجية الْإِجْمَاع بالصحابة، مَعَ مصيرهم إِلَى نفي
الْقيَاس، وَقَوْلهمْ إِن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر
انْعِقَاده، إِلَّا عَن نَص يقطع بِهِ.
1508 - وَقد وَجه عَلَيْهِم أَصْحَابنَا مَا تخبطوا فِيهِ.
فَقَالُوا: إِذا قُلْتُمْ إِن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد فِي
الْأَحْكَام عَن اجْتِهَاد وَقِيَاس، [و] إِنَّمَا ينْعَقد عَن
نَص مَقْطُوع بِهِ، فسبيله إِذا سَبِيل النَّقْل الْمُتَوَاتر،
وَمَا كَانَ سَبيله النَّقْل، فيستوي فِيهِ أهل الْأَعْصَار
أجمع.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن أهل عصرنا لَو قدر مِنْهُم
الِاجْتِمَاع على خبر عَن مُشَاهدَة، اقْتضى ذَلِك الْعلم
قطعا، وَهَذَا مِمَّا يدْرك ضَرُورَة، وجاحده ينْسب إِلَى جحد
البديهة. كَيفَ! وَقد قدمنَا فِي كتاب الْأَخْبَار المتواترة
وإفضاءها إِلَى الْقطع لَا يخْتَص بِالْمُسْلِمين، بل
يتَصَوَّر ذَلِك بالكفار، تصَوره بالأبرار من الْمُسلمين.
" فَلَو صَحَّ " مَا قلتموه من حصر الْإِجْمَاع فِي النَّص
الْمَقْطُوع بِهِ، اسْتَحَالَ مَعَ ذَلِك تَخْصِيص الْإِجْمَاع
بِالْمُسْلِمين فِي الْعَصْر الأول.
(3/111)
1509 - وَهَذَا لعمري صَعب موقعه
عَلَيْهِم، وَلَا مخلص لَهُم عَنهُ إِلَّا شَيْء وَاحِد -
أَوْمَأ إِلَيْهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ أَنه
قَالَ: إِنَّمَا يظْهر " الْفضل " بَين الْعَصْر الأول، وَمَا
بعده فِي شَيْء وَاحِد. وَهُوَ أَن أهل الْعَصْر الأول، لَو
رجعُوا إِلَى عدد يقصر عَن أقل عدد التَّوَاتُر، نَحْو
الْأَرْبَعَة فَمَا دونه، ثمَّ أَجمعُوا مَعَ ذَلِك على حكم "
على نَص " لزم الْقطع بِمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ، وَإِن لم
يَكُونُوا عدد التَّوَاتُر مصيراً إِلَى حجَّة الْإِجْمَاع.
1510 - وَلَو تصور ذَلِك فِي سَائِر الْأَعْصَار
الْمُتَأَخِّرَة، لم تقم الْحجَّة.
وَهَذَا الَّذِي ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، انْفِصَال -
لَو قَالَ بِهِ أَصْحَاب الظَّاهِر، وَهُوَ الْمَنْقُول
عَنْهُم، أَن سَائِر الْأَعْصَار لَا تكون حجَّة سَوَاء
كَانُوا بالغين عدد التَّوَاتُر، أَو منحطين فِي الْعدَد عَن
هَذِه الرتب، فَمَعَ ذَلِك يتَّجه عَلَيْهِم السُّؤَال.
وَإِن قَالُوا بِمَا قَالَه القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، فيتضح
انفصالهم، وَيجب بعد ذَلِك التعويل على مَا قدمْنَاهُ، فِي
وُجُوه الرَّد عَلَيْهِم، فِي بَاب سبق.
(3/112)
(261) بَاب
القَوْل فِي إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة، وَوجه الْخلاف فِيهِ
1511 - اعْلَم، أَن مَا صَار إِلَيْهِ المحصلون من أَرْبَاب
الْأُصُول: أَن أهل الْمَدِينَة - يَعْنِي " علماءها " - إِذا
أَجمعُوا على حكم، لم يساعدهم عَلَيْهِ عُلَمَاء سَائِر
الْأَمْصَار، فَلَا تقوم الْحجَّة باتفاقهم، وَإِنَّمَا تقوم
الْحجَّة بِاتِّفَاق عُلَمَاء الْمُسلمين قاطبة، حَيْثُ مَا
كَانُوا من بِلَاد الله.
1512 - وَذهب بعض المنتمين إِلَى الْأُصُول، إِلَى أَن
الْإِجْمَاع الْمَفْرُوض اتِّبَاعه وَهُوَ إِجْمَاع أهل
الْحَرَمَيْنِ، و " البصرتين "، عنوا بالحرمين - مَكَّة
وَالْمَدينَة وبالبصرتين - الْبَصْرَة والكوفة.
وَإِنَّمَا " صَارُوا " إِلَى ذَلِك لاعتقادهم تَخْصِيص
الْإِجْمَاع بالصحابة، وَلَقَد كَانَ موطن الصَّحَابَة " هَذِه
" الْبِلَاد، وَمَا خرج مِنْهَا إِلَّا الشذوذ مِنْهُم.
(3/113)
1513 - ويحكى عَن مَالك رَضِي الله عَنهُ،
أَنه قَالَ: مهما اتّفق أهل الْمَدِينَة - يَعْنِي علماءها -
على حكم، فَهُوَ مَقْطُوع بِهِ.
(3/114)
وَقد ذكر أَصْحَاب مَالك لذَلِك طرقاً من
التَّأْوِيل، سنذكرها فِي أثْنَاء الْحجَّاج، ونبين فَسَادهَا
إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1514 - وَالصَّحِيح من الْمذَاهب: اعْتِبَار إِجْمَاع كَافَّة
الْعلمَاء فِي كل عصر، من غير تَخْصِيص بِأَهْل بلد، وَفِي مَا
قدمْنَاهُ من الدَّلِيل على أَن مُخَالفَة الْوَاحِد من
الْعلمَاء يمْنَع انْعِقَاد الْإِجْمَاع، أوضح الدَّلِيل فِي
هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَجُمْلَة مَا " قَالَه " من الْأَدِلَّة على أصل الْإِجْمَاع،
تَنْفِي التَّخْصِيص بِأَهْل بلد، وتوجب تعلق الْحجَّة بالأمة
قاطبة، فَلَو سَاغَ إِزَالَة ظواهرها، أَو تخصيصها بِبَعْض
عُلَمَاء الْأَمْصَار، سَاغَ لبَعض النَّاس / تخصيصها
بِالْعشرَةِ المسمين فِي " الْجنَّة " من الصَّحَابَة، أَو
سَاغَ تخصيصها بِأَهْل الرضْوَان، أَو بِأَهْل بدر، أَو غَيرهم
من الَّذين تخصصوا بضروب من الْفَضَائِل.
1515 - وَمن الدَّلِيل على بطلَان ذَلِك، أَن نقُول: نَحن نعلم
أَن مَالِكًا رَضِي الله عَنهُ، لم يعن بِأَهْل الْمَدِينَة
الَّذين ولدُوا فِيهَا، وَإِنَّمَا يَعْنِي الْعلمَاء الَّذين
اجْتَمعُوا فِيهَا.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن مُعظم الْمُهَاجِرين، مَا كَانَ
مولدهم بِالْمَدِينَةِ، مَعَ كَونهم من أهل الْإِجْمَاع فَإِذا
ثَبت أَنه لم يعْتَبر المولد، وَإِنَّمَا اعْتبر اجْتِمَاعهم
مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الْمَدِينَة،
وتلقيهم الْأَحْكَام مِنْهُ، فَنَقُول على ذَلِك: فَإِذا
اسْتَأْثر الله برَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي
الْمَدِينَة، ثمَّ تفرق النَّاس عَن الْمَدِينَة بعد
(3/115)
استوائهم فِي التلقي عَن رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] ، أَي شَيْء الَّذِي يُوجب خُرُوج "
الخارجين " عَن أهل الْإِجْمَاع؟
1516 - أَو نقُول: الَّذين تلقوهُ عَن رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- وَهُوَ بِمَكَّة، أَو فِي بعض أَسْفَاره
وغزواته مَا " تلقوهُ "، وَلم تتفق لَهُم الرّجْعَة إِلَى
الْمَدِينَة فقد " يُسَاوِي " القاطنين بهَا فِي " الْأَخْذ "
من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَمَعَ ذَلِك
أخرجه مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن الِاعْتِدَاد بِهِ!
1517 - وَمِمَّا يُوضح مَا قُلْنَاهُ، أَيْضا أَن نقُول: قَود
هَذَا الأَصْل يَقْتَضِي، أَن عليا وَابْن مَسْعُود وَطَلْحَة
وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة وَغَيرهم من جملَة الصَّحَابَة لما
فارقوا الْمَدِينَة، لَو قَالُوا قولا، وَقَالَ القاطنون
بِالْمَدِينَةِ قولا: فَلَا يكترث بقول الخارجين من
الْمَدِينَة - لَو اتّفقت لَهُم " دَعْوَى " وعنت لَهُم
مَسْأَلَة - عِنْد خلافهم حِينَئِذٍ، وَهَذَا بعد عَظِيم.
فَلَمَّا وضح لكل نَاظر، بطلَان تَخْصِيص الْإِجْمَاع بِأَهْل
الْمَدِينَة، " احتال " منتحل مَذْهَب مَالك فِي تَأْوِيل
مذْهبه، وَحمله على طرق، وَلَا يكَاد يَسْتَقِيم شَيْء
مِنْهَا.
(3/116)
1518 - مِنْهَا: أَنهم قَالُوا: إِنَّمَا
أَرَادَ مَالك رَضِي الله عَنهُ اتِّفَاق أهل الْمَدِينَة على
مَا شاهدوه من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ونقلوه "
تواترا "، نَحْو نقلهم مَوضِع الْمِنْبَر والقبر وَغَيرهمَا.
فتقوم الْحجَّة بهم.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ، قَبِيح جدا. " فَإِنَّهُ " صَحَّ من
مَالك تَخْصِيص أهل الْمَدِينَة، تَعْظِيمًا لقدرهم وتمييزاً
لَهُم عَن سَائِر الْبِلَاد، وَإِذا حمل مذْهبه على نقل
التَّوَاتُر، فَفِيهِ إبِْطَال هَذَا الأَصْل، فَإِن الْكفَّار
إِذا بلغُوا عدد التَّوَاتُر، ونقلوا عَن بلدهم خَبرا
متواتراً، أفْضى ذَلِك إِلَى الْقطع وَالْعلم الضَّرُورِيّ.
وَكَذَلِكَ القَوْل [فِي] أهل كل بلد، فَلَا معنى للتخصيص
إِذا.
1519 - وَذهب قوم من أَصْحَاب مَالك رَضِي الله عَنهُ، إِلَى
حمل مَا قَالَه على محمل آخر، فَقَالُوا: إِنَّمَا خصص أهل
الْمَدِينَة فِيمَا يتَعَلَّق بالناسخ
(3/117)
والمنسوخ، فَإِنَّهُ يعْتَبر فِيهِ بالتقدم
والتأخر، وَالْمَدينَة بَلْدَة وَفَاة رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، وَأَهْلهَا شاهدوا مَا تَأَخّر من أَفعاله
وأقواله، وَمَا تقدم مِنْهَا، وَكَانُوا بذلك أعرف النَّاس
بالناسخ والمنسوخ. و " لزمَه " لأَجله الْمصير إِلَى مَا
قَالُوهُ.
وَهَذَا أَيْضا ظَاهر الْفساد، وَذَلِكَ أَنا نقُول لَهُم: هَل
تَقولُونَ إِن من شَرط النَّاسِخ أَن يَقع شَائِعا، حَتَّى لَا
ينْقل إِلَّا تواتراً؟ أم تجوزون أَن يَقع على الْوَجْهَيْنِ،
متواتراً تَارَة وآحاداً أُخْرَى؟ فَإِن أوجبتم وُقُوعه
شَائِعا، فقد أحلتم فِيمَا قُلْتُمْ. إِذْ لَو سَاغَ ذَلِك
فِيمَا ينْسَخ بِهِ، لساغ فِيمَا يتَضَمَّن إِثْبَات حكم
ابْتِدَاء.
فَدلَّ على أَن النَّاسِخ يَنْقَسِم فِي مورده، فَمِنْهُ
الْمُتَوَاتر، وَمِنْه الْمَنْقُول آحاداً. " فَإنَّا " / نجد
النَّاسِخ منقسماً، وَلم ينْقل كُله نقل الصَّلَوَات وَمَا
عَداهَا، مِمَّا نقل استفاضة، فَإِذا ثَبت ذَلِك، فَلم لَا
يجوز [علم] عَليّ وَطَلْحَة وَغَيرهمَا من الَّذين خَرجُوا من
الْمَدِينَة، بضروب من النَّاسِخ والمنسوخ، واستقلوا بِهِ دون
غَيرهم، ونقلوه لأهل الْبِلَاد الَّتِي قطنوها، على أَن
الَّذين تبددوا فِي الْبِلَاد من الصَّحَابَة كَانُوا زائدين
على أقل عدد التَّوَاتُر. فَبَطل من هَذَا الْوَجْه تَخْصِيص
أهل الْمَدِينَة. وَالَّذِي يُحَقّق الْمَقْصد: أَن من
النَّاسِخ مَا ثَبت بِمَكَّة، مُدَّة إِقَامَة رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بهَا، وَمِنْه مَا ثَبت فِي بعض
أَسْفَاره، فَبَطل من كل وَجه تَخْصِيص أهل الْمَدِينَة.
1520 - فَإِن قَالَ قَائِل: من منتحلي مَذْهَب / مَالك:
إِنَّمَا قَالَ رَضِي
(3/118)
الله عَنهُ مَا قَالَ لعلمه بِأَن أهل
الْمَدِينَة كَانُوا كل الْعلمَاء فِي الصَّدْر الأول /
وَإِنَّمَا قَالَ مَا قَالَه فِي الصَّدْر الأول، دون مَا
عداهُ من الْأَعْصَار المتعاقبة.
فَنَقُول: مَالك رَضِي الله عَنهُ أعرف بِالْآيَاتِ ومواقع
الْأَخْبَار، من أَن يَقُول ذَلِك، فَإِنَّهُ إِن قَالَه
وَرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بَين أظهر
الصَّحَابَة، فَلَا معنى للْإِجْمَاع مَعَ بَقَائِهِ [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] .
وَلما اسْتَأْثر الله بِرَسُولِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ،
تبدد أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي
الأقطار، لإِظْهَار الدعْوَة وإبداء كلمة الْإِسْلَام، وَكَانَ
قد خرج طوائف مِنْهُم فِي زمَان رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] فِي الرسالات وَالْقِيَام على الْأَعْمَال
وجباية الْأَمْوَال، فَمَا كَانَت الْمَدِينَة - مذ كَانَت -
جَامِعَة لكل الصَّحَابَة.
1521 - فَإِن قَالَ من أَصْحَاب مَالك قَائِل: إِنَّمَا عَنى
مَالك رَضِي الله عَنهُ بِمَا قَالَ: تَرْجِيح قَول أهل
الْمَدِينَة على قَول غَيرهم، لقربهم من رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، ومشاهدتهم مُرَاد الْوَحْي، فَكَانُوا أولى
بِالْحِفْظِ وَالرِّعَايَة من غَيرهم.
وَهَذَا أَيْضا سَاقِط من أوجه.
مِنْهَا: أَن الْكَلَام إِذا آل إِلَى التَّرْجِيح، خرج عَن
الْقطع، وَإِنَّمَا عَنى مَالك " بقوله " الْقطع بقول أهل
الْمَدِينَة، حَتَّى كَانَ يتْرك الْأَخْبَار الصَّحِيحَة
لقَولهم وَالتَّرْجِيح والتلويح لَا يَقْتَضِي ذَلِك.
ثمَّ نقُول: لَو سَاغَ [تَقْدِيم قَول أهل الْمَدِينَة، لساغ]
تَقْدِيم أقاويل
(3/119)
الْعشْرَة المسمين بِالْجنَّةِ، ولساغ
تَقْدِيم أَقْوَال الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَتَقْدِيم
مَذْهَب من لَهُ هجرتان، ولساغ تَقْدِيم قَول الْمُهَاجِرين
وَالْأَنْصَار على مُسْلِمِي الْفَتْح. وكل ذَلِك بَاطِل
بالحقائق بَيْننَا وَبَين مَالك، وَمَا ذَكرْنَاهُ أولى
بالترجيح مِمَّا ذكره، على أَن التَّرْجِيح إِنَّمَا يسْتَعْمل
بَين الدَّلِيلَيْنِ، فثبتوا أَن قَول أهل الْمَدِينَة حجَّة!
لترجحوه على غَيره.
1522 - وَمن أَصْحَاب مَالك مِمَّن أفْصح بمذهبه، وَجعل قَول
أهل الْمَدِينَة حجَّة قَاطِعَة، وَاسْتدلَّ لذَلِك بجمل من
الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي الْمَدِينَة وَأَهْلهَا.
مِنْهَا: مَا روى عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (إِن
الْإِسْلَام ليأرز إِلَى الْمَدِينَة، كَمَا تأرز الْحَيَّة
إِلَى جحرها) .
و (إِن الْمَدِينَة تَنْفِي خبثها، كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث
الْحَدِيد) .
(3/120)
و " سَمَّاهَا " رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] طابة.
وَقَالَ: (مَا بَين قَبْرِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة)
.
ثمَّ قَالَ: (لَا يكيد أهل الْمَدِينَة [أحد] إِلَّا انماع،
كَمَا ينماع الْملح فِي المَاء) .
وَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (إِن الدَّجَّال لَا
يدْخل الْمَدِينَة، فَإِن على كل فج مِنْهَا ملكا موكلاً) .
(3/121)
وَقَالَ: (الْمَدِينَة محفوفة
بِالْمَلَائِكَةِ) ، إِلَى غير ذَلِك.
وَلَا معتصم فِي شَيْء مِنْهَا، فَإِنَّهَا آحَاد، وَلَا تكَاد
تبلغ مبلغ الاستفاضة.
1523 - على أَنه لَا حجَّة فِي شَيْء مِنْهَا، فَأَما قَوْله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (إِن الْإِسْلَام ليأرز إِلَى
الْمَدِينَة) فَإِنَّهُ قَالَ ذَلِك فِي زَمَانه [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا " كَانَ المنقلبون الَّذين يفدون
عَلَيْهَا من الجوانب، وُفُود الطير على وَكرها.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَنا نقطع بِأَنَّهُ [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] لم يرد بذلك كل زمَان أَو أَحْوَال، فالمدينة
بعده [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] [مرت بهَا] أزمنة شغرت عَن
الْعلمَاء فِيهَا، وَلم يقطنها إِلَّا أهل الْبدع.
(3/122)
وَمَا عدا ذَلِك من الْأَخْبَار، لَا حجَّة
فِي شَيْء مِنْهَا، وَلَو تتبعتها، هان عَلَيْك مدركها.
(262) فصل
القَوْل فِي تَقْدِيم قَول الْخُلَفَاء الرَّاشِدين أَو
الشَّيْخَيْنِ، على غَيرهم
1524 - ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى تَقْدِيم أقاويل الْخُلَفَاء
الرَّاشِدين على غَيرهم.
1525 - وَذهب بَعضهم إِلَى تَخْصِيص أبي بكر وَعمر رَضِي الله
عَنهُ بذلك.
(3/123)
1526 - وَاعْلَم أَن ذَلِك يبتني على أصل،
سنقرره فِي بَاب التَّقْلِيد إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ
أَن قَول آحَاد الصَّحَابَة - من كَانُوا لَيْسَ بِحجَّة فَإِن
نَفينَا كَونه حجَّة، انْتَفَى التَّرْجِيح أَيْضا.
1527 - وَإِن رام هَذَا الْقَائِل بِمَا قَالَه: أَن قَول
هَؤُلَاءِ لَا يَقع إِلَّا إِجْمَاعًا، وَلَا يسوغ خلافهم، فقد
خرق - بِمَا قَالَه إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَإنَّا نعلم أَن
أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَا يخالفان فِي كثير
من الْأَحْكَام، وَهَذَا مِمَّا نعرفه نقلا متواتراً، وَكَانَا
رَضِي الله عَنْهُمَا لَا ينكران تخالفاً، بل كثيرا مَا رجعا
عَن مَذْهَبهمَا فَبَطل ادِّعَاء الْإِجْمَاع بِمُجَرَّد
مذاهبهم، وسنشرح القَوْل فِي كتاب التَّقْلِيد إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
1528 - وَرُبمَا ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن مَا انْتَشَر من
قَول الْخَلِيفَة وَلم يظْهر عَلَيْهِ نَكِير، فَهُوَ
إِجْمَاع، وَمَا انْتَشَر من قَول غَيره فَلَيْسَ بِإِجْمَاع.
1529 - وَمِنْهُم من قلب فَقَالَ: مَا انْتَشَر من قَول غَيره
من غير نَكِير، فَهُوَ إِجْمَاع وَمَا انْتَشَر من قَول
الْخَلِيفَة، وَلم يظْهر عَلَيْهِ نَكِير، فَلَيْسَ
بِإِجْمَاع، فَإِنَّهُ رُبمَا يهاب فَلَا يُخَالف.
وَهَذَا كَمَا روى أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أظهر
مذْهبه فِي الْعَوْل فِي الْفَرَائِض، فَقَالَ لَهُ بعض
الصَّحَابَة: مَا بالك! لم تبد ذَلِك فِي زمَان عمر؟ فَقَالَ:
كَانَ رجلا مهيباً، فهبته.
(3/124)
1530 - وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن مَا
صدر مصدر الْقَضَاء وانتشر، فَهُوَ اجماع وَمَا صدر مصدر
الْفَتْوَى، فَلَيْسَ كَذَلِك.
1531 - وَصَارَ بَعضهم إِلَى قلب ذَلِك. فصير الْفَتْوَى
المنتشرة إِجْمَاعًا، وَمَا صدر مصدر الْقَضَاء، لَيْسَ
بِإِجْمَاع.
1532 - وكل هَذِه الْمذَاهب بَاطِلَة عندنَا، وَمَا قدمْنَاهُ
عِنْد القَوْل بِأَن القَوْل الْمُنْتَشِر مَعَ سكُوت
الْعلمَاء عَنهُ، لَيْسَ بِإِجْمَاع. يرد على هَؤُلَاءِ.
1533 - وَرُبمَا يسْتَدلّ بعض هَذِه الطوائف، بأخبار فِي أبي
بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا، نَحْو قَوْله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] : " اقتدوا باللذين من بعدِي، أبي بكر وَعمر
".
وَالْكَلَام على مثل هَذَا الْخَبَر يستقصى فِي التَّقْلِيد.
1534 - على أَنا نقابلهم الْآن بأخبار تعَارض مَا تمسكوا:
مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
أَنه قَالَ: (إِن أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمْ
اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ) وَهَذَا يَنْفِي التَّخْصِيص
الَّذِي ادعوهُ.
(3/125)
وَقَالَ فِي معَاذ: " أعرفكُم بالحلال
وَالْحرَام معَاذ ".
وَقَالَ فِي عَليّ: " أَنا مَدِينَة الْعلم وَعلي بَابهَا ".
وَقَالَ لَهُ: " أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى،
وَلَكِن لَا نَبِي من بعدِي ".
إِلَى غير ذَلِك من الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي جَمِيع
الصَّحَابَة عُمُوما، أَو فِي بَعضهم خُصُوصا.
(3/126)
(263) بَاب القَوْل فِي اسْتِصْحَاب
الْحَال، وَالْأَخْذ بِالْأَقَلِّ، وَمَا يتَّصل بِهِ
(3/127)
1535 - اعْلَم، وفقك الله، أَن القَوْل فِي
ذَلِك يَنْقَسِم: فَرُبمَا يَصح فِي بعض الْأَحْوَال. وَرُبمَا
لَا يَصح فِي بَعْضهَا.
وَهَا نَحن نفصل القَوْل الْآن فِيهَا.
فَنَقُول: التَّمَسُّك بِبَرَاءَة الذمم على اسْتِصْحَاب،
سَائِغ.
(3/128)
1536 - وَوجه القَوْل فِيهِ، مَعَ
التَّصْوِير فِي صُورَة منصوصة، أَن نقُول: إِذا / سَأَلَ
الْوَاحِد من أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ، عَن وجوب
الضحية، أَو الْوتر، فنفى الْوُجُوب وَلما طُولِبَ
بِالدَّلِيلِ، قَالَ: الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة عَن كل
وَاجِب، إِلَى أَن تقوم الدّلَالَة على ثُبُوت
(3/129)
الْوَاجِبَات. وَإِلَّا فَحكم الْعقل،
انْتِفَاء الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع، وَهُوَ مستصحب
إِلَى أَن يثبت بالأدلة إشغال الذمم.
1537 - وَإِذا قَالَ السَّائِل: فَمَا يُؤمنك أَن دلَالَة
قَامَت على وجوب الْوتر، وَلم تعثروا عَلَيْهَا؟ فَعِنْدَ
ذَلِك اخْتلف.
فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْمُجيب، إِذا قَالَ: لَيْسَ عَليّ
إِلَّا شدَّة التفحص والبحث على طلب الْأَدِلَّة، وَقد بذلت
فِيهَا كنه جهدي، وَلم أكلف إِلَّا ذَلِك، فلئن كَانَ عنْدك
دلَالَة، فَعَلَيْك إظهارها.
وَهَذَا كَمَا أَن الْمُجيب، إِذا تمسك بِلَفْظَة عَامَّة،
فَقَالَ السَّائِل: فَمَا يُؤمنك أَن دلَالَة من أَدِلَّة
الشَّرْع تخصصها، وَقد ذهلت عَنْهَا، فَهَذَا تعد من السَّائِل
للحد الْمَحْدُود لَهُ، وَعَلِيهِ إِقَامَة الْمُخَصّص إِذا
كَانَ، فَكَذَلِك سَبِيل التَّمَسُّك بِبَرَاءَة الذِّمَّة،
وَهَذَا لعمري مِمَّا يُقَوي مَعَ القَوْل بِالْعُمُومِ.
1538 - وَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَن
قَالَ: إِذا عنت حَادِثَة لمجتهد، فَلم تقم عِنْده دلَالَة
مقتضية وجوبا - بعد طلبه جهده، فَلهُ الْأَخْذ بِنَفْي
الْوُجُوب فِي حق. فَإِنَّهُ لم يُكَلف إِلَّا أقْصَى الطّلب
الدَّاخِل فِي مقدوره على اسْتِمْرَار الْعَادة، فَإِذا فعل
ذَلِك، فَلم يجده كَانَ لَهُ الْأَخْذ بِنَفْي الْوُجُوب.
فَأَما إِذا انتصب مسؤولاً، وَأَرَادَ نصب دلَالَة يناظر
عَلَيْهَا، فَلَا يَسْتَقِيم لَهُ التَّمَسُّك بذلك. فَإِن
الْمُجْتَهدين إِذا تناظرا وتذكرا طرق الِاجْتِهَاد، فَمَا
(3/130)
" يَفِي " الْمُجيب مِنْهُمَا، أَن يَقُول:
لَا دَلِيل على الْوُجُوب، وَهل هُوَ فِي ذَلِك إِلَّا مُدع،
فَلَا تسْقط عَنهُ عُهْدَة الطّلب بِالدّلَالَةِ، وَإِن كَانَ
يسوغ التعويل على مَا قَالَه فِي حق نَفسه، فَتَأمل ذَلِك.
ونزله على هَذِه الرُّتْبَة، فَهِيَ المرضية من الْأَقَاوِيل.
1539 - فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي التَّمَسُّك
بِالْعُمُومِ، مَعَ اعْتِقَاد جَوَاز مَا يخصصه؟
قُلْنَا: أما الْعُمُوم فَلَا نقُول بِهِ، وَإِن اقْتَضَت
قرينَة حَال تعميمها. وَهُوَ مَا نقطع بِهِ، وَلَا يجوز وُرُود
مَا يخصصه إِلَّا على سَبِيل النّسخ.
1540 - فَإِن قيل: فَلَو قَالَ السَّائِل، " فليبدي "
النَّاسِخ، إِن كَانَ، فَإِن الْمُكَلّفين " متعبدون " بالتمسك
بالأخبار الصَّحِيحَة، وَلَا يمنعهُم عَنهُ تَجْوِيز النّسخ،
وَيُقَوِّي ذَلِك على الأَصْل الَّذِي قدمْنَاهُ، من أَن
النّسخ لَا يثبت
(3/131)
[فِي] حق من لم يبلغهُ.
1541 - وَمَا يَلِيق بمضمون اسْتِصْحَاب حكم. " وتصوير " ذَلِك
أَن قَائِلا لَو قَالَ: من شرع فِي الصَّلَاة بِتَيَمُّم،
وَإِجْمَاع الْعلمَاء على انْعِقَاد صلَاته، فَإِذا تمكن من
اسْتِعْمَال المَاء أثْنَاء الصَّلَاة، فَمَا سبق من
الْإِجْمَاع فِي صِحَة الصَّلَاة، يستصحب، فَهَل يكون ذَلِك
حجَّة، يسوغ التَّمَسُّك بهَا؟ .
مَا صَار إِلَيْهِ كَافَّة الْمُحَقِّقين: أَن ذَلِك لَيْسَ
بِحجَّة.
1542 - وَذهب أَصْحَاب الظَّاهِر إِلَى أَنه حجَّة، ونراهم
يشغفون بهَا فِي كثير من الْمسَائِل.
1543 - وَالدَّلِيل على بطلَان مَا صَارُوا إِلَيْهِ، أَن
نقُول: إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع على انْعِقَاد الصَّلَاة،
باستدامتها عِنْد رُؤْيَة المَاء، لَا تخلون فِيهَا، إِمَّا
أَن تَقولُوا: هِيَ على الضَّرُورَة الَّتِي أَجمعُوا على
الحكم فِيهَا، أَو تَقولُوا: هِيَ غَيرهَا.
فَإِن قُلْتُمْ إِنَّهَا عينهَا، فَهَذَا جحد الضَّرُورَة،
فَإنَّا نعلم أَن اسْتِدَامَة /
(3/132)
الصَّلَاة عِنْد رُؤْيَة المَاء " عِنْد "
انْعِقَاد الصَّلَاة عِنْد عدم المَاء. وَالَّذِي يُحَقّق
ذَلِك: أَن القَوْل بانعقاد الصَّلَاة مَعَ القَوْل بِعَدَمِ
انْعِقَادهَا وَتَقْدِير ذَلِك مَعَ وضوحه تكلّف.
وَإِن هم قَالُوا: إنَّهُمَا حادثتان.
فَيُقَال " لَهُم ": فموضع الْإِجْمَاع، الْحَادِثَة " الأولى
" فَلم قُلْتُمْ: إِن الْإِجْمَاع إِذا استيقن فِي حَادِثَة،
وَجب " نقلهَا " إِلَى أُخْرَى.
1544 - فَإِن قَالُوا: لِأَن الْإِجْمَاع، إِذا انْعَقَد،
فَالْأَصْل بَقَاؤُهُ. إِلَّا أَن يقوم دَلِيل على ارتفاعه.
قُلْنَا الْأَمر على مَا ذكرتموه، وَلَكِن لَا سَبِيل إِلَى
رفع الْإِجْمَاع عَن مَحل الْإِجْمَاع، فَأَما تَقْدِير
إِجْمَاع فِي غير مَحل الْإِجْمَاع، فتحكم لَا خَفَاء بِهِ.
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَنه لَو كَانَ مَا ذكرتموه،
تمسكاً بِإِجْمَاع لما سَاغَ الِاعْتِصَام بأخبار الْآحَاد
فِيهِ، وَقد وافقتمونا أَنه لَو صَحَّ عَن رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] خبر نَقله الْآحَاد، وَاقْتضى الْخُرُوج
من الصَّلَاة عِنْد رُؤْيَة المَاء، فيتمسك بِهِ.
وَإِن كَانَ لَا يسوغ التَّمَسُّك بِخَبَر الْوَاحِد فِي
مَوضِع الْإِجْمَاع.
1545 - فَإِن قَالُوا: فالحادثة الثَّانِيَة، تعْتَبر بموقع
الْإِجْمَاع!
(3/133)
قُلْنَا: فَهَذَا تَصْرِيح مِنْكُم
بِقِيَاس، وَلَا نصدكم عَنهُ، بعد أَن توفروا عَلَيْهِ
شَرَائِط، من " التجويز " والطرد وتثبيت " معنى الأَصْل "،
وأنى يَصح ذَلِك مِنْكُم، مَعَ إنكاركم الْقيَاس.
فاجتزئ بِهَذَا الْقدر فِي الرَّد عَلَيْهِم، وَاعْلَم أَنه
محتو على كل مَا شَرطه القَاضِي رَحمَه الله " تكريراً " أَو
تَقْديرا.
ثمَّ ذكر رَضِي الله عَنهُ، لَهُم شبها، يَتَّضِح فَسَادهَا،
وَالَّذِي يعولون عَلَيْهِ، مَا ذَكرْنَاهُ أسئلة على دليلنا،
فمما نَقله القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَن قَالَ.
1546 - فَإِن قَالُوا: إِذا ثَبت عندنَا موت خَليفَة فِي
زمَان، فيستصحب ذَلِك فِي جملَة الْأَزْمَان الْمُسْتَقْبلَة،
وَإِن نقل إِلَيْنَا الْمَوْت فِي وَقت مَخْصُوص، فِي هذيان
طَوِيل. وَلَوْلَا أَن القَاضِي أوردهُ، لَكَانَ الإضراب عَنهُ
أولى.
فَنَقُول: إِنَّمَا علمنَا اسْتِمْرَار الْمَوْت، لأننا علمنَا
ضَرُورَة فِي اطراد الْعَادَات أَن الْأَمْوَات لَا يحيون
إِلَى قيام السَّاعَة، وَلِهَذَا من " الْمَعْنى " اعتقدنا
اسْتِمْرَار الْمَوْت، لَا لما ذكرتموه، من اسْتِصْحَاب
الْحَالة [الَّتِي] سبقت.
وَلَهُم من هَذِه " الطرز " جمل، لَا تعجز عَن التفصي عَنْهَا،
بعد مَا أحطت علما بمقصود الْبَاب.
(3/134)
(264) فصل الْأَخْذ بِالْأَقَلِّ
1547 - وَمِمَّا يتَعَلَّق بِمَا نَحن فِيهِ، الْأَخْذ
بِالْأَقَلِّ.
وتصويره: أَن من صَار إِلَى أَن دِيَة الْيَهُودِيّ ثلث دِيَة
الْمُسلم، فَلَو طُولِبَ بِإِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهِ،
فَقَالَ: هَذَا الْقدر مُتَّفق عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَقَل،
وَالْبَاقِي مُخْتَلف فِيهِ، فَهَل يكون ذَلِك دلَالَة؟
1548 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: حكى عَن الشَّافِعِي
رَضِي الله عَنهُ، التَّمَسُّك بِمثل ذَلِك. ثمَّ قَالَ:
وَالظَّن بِهِ خلاف ذَلِك، وَلَعَلَّ النَّاقِل عَنهُ زل فِي
نقل كَلَامه.
(3/135)
1549 - فَالَّذِي نرتضي من الْمذَاهب، أَن
يُقَال: أما الْأَقَل فثابت إِجْمَاعًا.
وَأما نفي مَا عداهُ، فموقوف على الدَّلِيل، فَإِن قَامَت
دلَالَة على نفي مَا سواهُ، انْتَفَى، وَإِن قَامَت دلَالَة
على نفي الْوُجُوب ... .
وَأما أَن يُقَال: لَيْسَ الْإِجْمَاع على ثلث الدِّيَة
يتَضَمَّن نفي الزَّائِد عَلَيْهِ، فَلَا وَجه لَهُ، وَلَا
سَبِيل إِلَيْهِ، فَإِن الْإِجْمَاع على الشَّيْء لَا يدل على
نفي سواهُ.
1550 - ويتصل بِهَذِهِ الْجُمْلَة، أَن الْإِجْمَاع على
الْأَقَل / إِذا ثَبت وتفحص الْمُجْتَهد عَن الْأَدِلَّة، فَلم
يعثر على دلَالَة يَقْتَضِي إِيجَابا، فِيمَا وَرَاء
(3/136)
الْأَقَل / فيسوغ لَهُ التَّمَسُّك بِحكم
الْعقل فِي بَرَاءَة الذِّمَّة، على التَّرْتِيب الَّذِي
بَعَثْنَاهُ لَك فِي صدر الْبَاب، فَهَذَا مَقْصُود الْبَاب
وسره فتدبره.
1551 - وَاعْلَم أَن الْمَقْصُود لَا يثبت إِلَّا بطريقتين:
" إِحْدَاهمَا ": انتصاب دلَالَة مقتضية حكما.
وَالْأُخْرَى: انْتِفَاء الْأَدِلَّة الْمُقْتَضِيَة شغل
الذِّمَّة، فَإِذا انْتَفَت استصحب حكم الْعقل.
(265) فصل
(تَحْقِيق القَوْل فِي أَن الْيَقِين لَا يتْرك بِالشَّكِّ)
1552 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: قد بنى الْفُقَهَاء
جملا من مسائلهم على أَن الْيَقِين لَا يتْرك بِالشَّكِّ.
وَهَذَا مِمَّا يجب تَحْصِيل القَوْل فِيهِ.
فَنَقُول: الْيَقِين إِذا تحقق، لم يتَصَوَّر مَعَه شكّ، فضلا
عَن ترك الْيَقِين بِهِ إِذا تَيَقّن! وَالشَّكّ " يُنَافِيهِ
".
فَلَيْسَ الْمَعْنى بقول الْفُقَهَاء " لَا يتْرك الْيَقِين
بِالشَّكِّ " الْمُتَيَقن الْمَقْطُوع بِهِ. وَلَكِن عنوا
بذلك، أَن مَا سبق استيقانه، ثمَّ انْقَضى الْيَقِين، وَلم
يستيقن
(3/137)
ارْتِفَاع مَا " استيقناه " أَولا فطرق
الشَّك لَا يتَضَمَّن ارْتِفَاع الحكم مِمَّا استيقناه أَولا
وَهَذَا نَحْو من يتَطَهَّر يَقِينا، ثمَّ يشك بعد ذَلِك فِي
انْتِقَاض الطَّهَارَة، فَلَا يرْتَفع حكم مَا سبق من
الطَّهَارَة المستيقنة، بِالْحَدَثِ الْمَشْكُوك فِيهِ.
1553 - ثمَّ اعْلَم، أَن هَذَا مَا لَا يطرد القَوْل فِيهِ،
فقد تقوم الدّلَالَة بترك حكم مَا سبق " مِنْهُنَّ " عِنْد
طروء الشَّك والالتباس، وَذَلِكَ نَحْو أَن يتَزَوَّج الرجل
نسْوَة، ثمَّ يُطلق وَاحِدَة مِنْهُنَّ، لَا بِعَينهَا، فَلَا
يجوز لَهُ أَن يقرب وَاحِدَة مِنْهُنَّ، حَتَّى تبين
الْمُطلقَة مِنْهُنَّ، وَإِن كَانَت كل وَاحِدَة، قد سبق
فِيهَا استيقان النِّكَاح، وَلم نقطع " بِطَلَاق ".
1554 - وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ مَعَ الرجل آنِية، فِيهَا مَاء
طَاهِر، فاختلطت تِلْكَ الْآنِية بأواني، بَعْضهَا طَاهِرَة
وَبَعضهَا نَجِسَة، وكل " آنِية " سبق فِيهَا استيقان
الطَّهَارَة، وَإِنَّمَا النَّجَاسَة طارئة عَلَيْهَا، وَمَعَ
ذَلِك لَا يجوز التَّمَسُّك
(3/138)
بِحكم مَا سبق من الْيَقِين.
فَيخرج لَك عَمَّا قُلْنَاهُ: أَن اسْتِصْحَاب حكم الْيَقِين
مِمَّا يَنْقَسِم حكم الشَّرْع فِيهِ: وَلَا يجوز التَّمَسُّك
بِهِ فِي منَازِل الْأَدِلَّة، وَأَن استحصابه نَازل منزلَة
اسْتِصْحَاب الْإِجْمَاع، وَمَا قدمنَا القَوْل فِيهِ أَولا.
(266) القَوْل فِي أَن " النَّافِي " هَل تتَوَجَّه عَلَيْهِ
الطّلبَة بِإِقَامَة الدّلَالَة
1555 - مَا صَار إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ من
الْأُصُولِيِّينَ، أَن من نفى حكما عقلياً أَو شَرْعِيًّا.
فَهُوَ فِي توجه الطّلبَة عَلَيْهِ بِإِقَامَة الدَّلِيل،
نَازل منزلَة الْمُثبت.
1556 - وَذَهَبت شرذمة من النَّاس إِلَى أَن من نفى حكما
شَرْعِيًّا أَو عقلياً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِقَامَة
الدّلَالَة.
(3/139)
1557 - وَالدَّلِيل على بطلَان ذَلِك، أَن
نقُول: من نفى حكما، لم تخل حَالَته فِيمَا نفى، إِمَّا أَن
يكون جَاهِلا بِمَا نَفَاهُ، أَو مشككا، أَو عَالما بِهِ.
فَإِن كَانَ جَاهِلا بِمَا نَفَاهُ أَو مستريباً فِيهِ،
فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِقَامَة دلَالَة فِي إِثْبَات الريب
وَالشَّكّ. إِذْ لَا تدل الْأَدِلَّة على الاسترابة، وَقد
قدمنَا فِي صدر الْكتاب بِأَن الشُّبْهَة " لَا تَتَضَمَّن "
الْإِفْضَاء إِلَى الْجَهْل وَالشَّكّ وغلبات الظنون وَلَكِن
الْأَدِلَّة هِيَ الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْعلم بمدلولاتها.
فَهَذَا لَو زعم النَّافِي أَنه جَاهِل أَو مستريب.
وَإِن زعم أَنه عَالم بِمَا نَفَاهُ /، فالنفي مِمَّا يعلم
كالإثبات، فَيُقَال لَهُ: للْعلم بالمعلوم طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: الضَّرُورَة، وَالْآخر: الِاسْتِدْلَال.
فَإِن كنت تعلم نفي مَا نفيته ضَرُورَة، فَيجب أَن تشاركه
فِيهِ، وَلَو سَاغَ ادِّعَاء، الضَّرُورَة فِي " نفي "
المنفيات، سَاغَ ادعاؤها فِي إِثْبَات المثبتات. فتتعارض
الْأَقْوَال، وَيسْقط الْجِدَال.
فَإذْ بَطل ادِّعَاء الضَّرُورَة فِي غير مَوْضِعه، فَلَا
طَرِيق للْعلم بِالنَّفْيِ، إِلَّا الِاسْتِدْلَال، وَهَذَا
مَا لَا محيص للخصم عَنهُ.
1558 - ثمَّ نقُول: لَو صحت هَذِه الطَّرِيقَة، لصَحَّ أَن
يُقَال: إِن من أنكر حدث الْعَالم، أَو جحد الصَّانِع، فَلَا
تتَوَجَّه عَلَيْهِ طلبة بِإِقَامَة حجَّة! وَكَذَلِكَ من نفي
صِفَات الله تَعَالَى، أَو نفي وجوده من الباطنية، وَفِي هَذَا
اجتراء عَظِيم على أصُول الدّين.
(3/140)
1559 - ثمَّ نقُول: " مَا " من إِثْبَات
يدل عَلَيْهِ، إِلَّا وَيُمكن أَن يعبر عَنهُ بِالنَّفْيِ
توصلاً إِلَى إِسْقَاط الْحجَّاج حَتَّى يُقَال: من سُئِلَ عَن
حدث الْعَالم، فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ، إِذْ مَقْصُوده نفي
الْقدَم، وَهَذَا " يطرد " لَك فِي مُعظم مسَائِل الْإِثْبَات،
فَتبين أَن الْمصير إِلَى هَذَا الْمَذْهَب، خبط وَجَهل من
قَائِله بحقائق الْأُصُول.
1560 - وَرُبمَا اسْتدلَّ نَاصِر هَذَا الْمَذْهَب، بِأَن
قَالَ: إِذا ادّعى رجل مَالا. فالحجة وَالْبَيِّنَة على
الْمُدَّعِي، وَلَا حجَّة على الْمُدعى عَلَيْهِ، قَالُوا:
وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الْمُدعى عَلَيْهِ ناف،
وَالْمُدَّعِي مُثبت.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ، بَاطِل من أوجه: -
أَحدهَا: أَن الْمُدعى عَلَيْهِ قد يكون مثبتاً، وَالْحكم مَعَ
ذَلِك كَمَا قَالُوهُ، فَإِن من ادّعى على رجل دَارا فِي يَده،
قَالَ: " هَذِه الدَّار الَّتِي فِي يدك. لي وَلَيْسَت لَك
أَيهَا الْمُدَّعِي "، وَقَالَ الْمُدعى عَلَيْهِ: " لَا، بل
هِيَ " لي "، وَلَيْسَت لَك أَيهَا الْمُدَّعِي ". " فقد "
أثبت كل وَاحِد مِنْهُمَا الْملك لنَفسِهِ، ونفاه عَن صَاحبه،
واستويا فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات.
ويتخصص الْمُدَّعِي مَعَ ذَلِك، بِإِقَامَة الْبَيِّنَة، دون
الْمُدعى [عَلَيْهِ] .
على أَن كثيرا من الْفُقَهَاء صَارُوا إِلَى أَن يَمِين
الْمُدعى عَلَيْهِ، مَعَ الظَّاهِر
(3/141)
الَّذِي يُقَوي حَاله، نَازل منزلَة
الْبَيِّنَة فِي حَقه، إِذْ الْمُدعى عَلَيْهِ، هُوَ الَّذِي
تقوى " جنبته "، إِمَّا بيد، أَو بِنَفْي، وَالْأَصْل
الانتفاء، فَسقط مَا قَالُوهُ من هَذَا الْوَجْه.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن " الْمُدعى عَلَيْهِ " إِذا
أَقَامَ الْبَيِّنَة، وَضعف بهَا جنبة الْمُدعى عَلَيْهِ،
فيتصور مِنْهُ إِقَامَة الْبَيِّنَة حِينَئِذٍ، على
الِاخْتِلَاف بَين الْعلمَاء فِي بَيِّنَة الْخَارِج والداخل.
على أَنا نقُول: لَيْسَ مَا تمسكتم بِهِ، من قبيل مَا نَحن
فِيهِ، وَذَلِكَ أَن إِثْبَات الشَّهَادَة فِي جنبه
الْمُدَّعِي مِمَّا يثبت شرعا، وَنحن نجوز تَقْديرا، أَن يرد
الشَّرْع بتخصيص الْمُدعى عَلَيْهِ - إِذا اخْتصَّ بِالْيَدِ -
بِالْبَيِّنَةِ، دون الْمُدَّعِي.
فَإِذا كُنَّا نجوز كل وَاحِدَة مِنْهَا، فَلَيْسَتْ
الشَّهَادَة من قبيل الْحجَج على التَّحْقِيق فَإِنَّهَا لَا
تفضى إِلَى الْعلم، وَإِنَّمَا نَحن مَعكُمْ فِيمَن يدعى
الْعلم بِنَفْي " فَإِن " عَلَيْهِ إِقَامَة الدّلَالَة على
مَا علمه، إِذا لم يكن مِمَّا يعلم اضطراراً، فَبَطل مَا عولوا
عَلَيْهِ من كل وَجه.
(267) فصل
لَا يُمكن إِثْبَات الْإِجْمَاع بِخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد
1561 - ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ خلل الْكَلَام فصلا لَا
يكَاد يخفي، أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يثبت الْإِجْمَاع
وَيبين أَنه حجَّة قَاطِعَة، بِخَبَر من أَخْبَار
(3/142)
الْآحَاد، فَلَا يجد إِلَى ذَلِك طَرِيقا.
وَذَلِكَ أَن الْإِجْمَاع إِذا ثَبت، فَهُوَ حجَّة مَقْطُوع
بهَا. وَالْخَبَر إِذا نَقله الْوَاحِد لَا يُفْضِي إِلَى
الْعلم.
وَالَّذِي / يُحَقّق ذَلِك أَن خبر الْوَاحِد لَا يسوغ
اتِّبَاعه حجَّة قَاطِعَة مقتضية عملا بمالا يَقْتَضِي الْعلم،
وَلَكِن إِنَّمَا يسْتَدلّ على كَون الْخَبَر مقتضياً الْعَمَل
بِدلَالَة قَاطِعَة وَإِن لم [يكن] الْخَبَر فِي نَفسه مقتضيا
للْعلم.
1562 - وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن إِثْبَات الأمارات على
الْأَحْكَام لَا يَتَقَرَّر إِلَّا بالأدلة القاطعة وَإِن لم
تكن الأمارات فِي أَنْفسهَا قَاطِعَة وَلَا مقتضية علما.
وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ بَين الْأُصُولِيِّينَ، وسنقرره فِي
كتاب التَّقْلِيد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِذا كَانَ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْعلم لَا يثبت حجَّة
إِلَّا بِدلَالَة قَاطِعَة، فَلِأَن نقُول: لَا يثبت
الْإِجْمَاع مَعَ كَونه قَاطعا إِلَّا بِدلَالَة قَاطِعَة،
أولى وَأَحْرَى.
وَاعْلَم أَنه قد شَذَّ عَنَّا أَطْرَاف من الْكَلَام فِي
أَحْكَام الْإِجْمَاع. كلهَا محَالة على القَوْل فِي وجوب
الْعَمَل بقول الصَّحَابِيّ. وَسَيَرِدُ ذَلِك مستقصى إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
(3/143)
|