التلخيص في أصول الفقه

 (كتاب الْقيَاس)

(268) القَوْل فِي حَقِيقَة الْقيَاس

1563 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أهم مَا نبدأ بِهِ فِي أَحْكَام الْقيَاس، ذكر حَقِيقَة الْقيَاس وَمَعْنَاهُ وَالَّذِي يتَمَيَّز بِهِ عَن غَيره " ويتعرف " بِهِ فِي نَفسه. فَإِن طرق الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام تَنْقَسِم إِلَى ضروب من الِاسْتِدْلَال، يَقُول بهَا منكروا الْقيَاس فِي الشَّرِيعَة، فنحقق الْقيَاس وَحده ليَكُون خوضنا فِي إثْبَاته وَالرَّدّ على من رده، على بَصِيرَة.

(3/144)


(269) تَعْرِيف القَاضِي للْقِيَاس

1564 - فَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي فِي الْقيَاس وَالتَّعْبِير عَنهُ أَن قَالَ: الْقيَاس حمل أحد المعلومين على الآخر، فِي إِيجَاب بعض الْأَحْكَام لَهما، أَو فِي إِسْقَاطه عَنْهُمَا، بِأَمْر جمع بَينهمَا من إِثْبَات صفة وَحكم لَهما، أَو نفي ذَلِك عَنْهُمَا.
فَكل مَا تجمعت فِيهِ هَذِه الْأَوْصَاف فَهُوَ قِيَاس، وَمَا انخرم فِيهِ وصف من هَذِه الْأَوْصَاف، فَلَيْسَ بِقِيَاس.
وَقد كثرت عِبَارَات الْأُصُولِيِّينَ فِي تَحْدِيد الْقيَاس، وَنحن نومئ إِلَى جمهورها إِذا ذكرنَا معنى الْحَد الَّذِي ذكرنَا.
(270) شرح التَّعْرِيف، مَعَ رد التعاريف الْأُخْرَى للْقِيَاس

1565 - فَأَما قَوْلنَا: هُوَ حمل أحد المعلومين على الآخر، فقد آثرناه واخترناه دون عِبَارَات أُقِيمَت مقَامه. فَإِن من النَّاس من قَالَ: هُوَ حمل شَيْء على شَيْء وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ حمل الشَّيْء على شبيهه. وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ حمل الْفَرْع على أَصله.

(3/145)


وكل هَذِه الْعبارَات مدخولة فِي شَرط الْحُدُود، فَإِن من شَرطهَا أَن تكون جَامِعَة لأقسام، لَا يشذ عَنْهَا شَيْء مِنْهَا.
وَمن أَقسَام الْقيَاس اعْتِبَار مَعْدُوم بمعدوم وَحمل مُنْتَفٍ على مُنْتَفٍ، كَمَا أَن من أقسامه حمل مَوْجُود على مَوْجُود. وَاسم الشَّيْء يتخصص بالموجود على أصُول أهل الْحق.
فَإِذا قيل فِي حد الْقيَاس هُوَ حمل مَوْجُود على مَوْجُود، كَانَ ذَلِك ضربا من التَّخْصِيص وَكَذَلِكَ إِذا قيل: حمل شَيْء على شَيْء.
وَكَذَلِكَ وَجه الدخل فِي قَول من قَالَ: هُوَ حمل الشَّيْء على شبيهه، فَإِن الِاشْتِبَاه إِنَّمَا يتَحَقَّق بَين موجودين، وَلَا يتَصَوَّر أَن شابه مَعْدُوما مَعْدُوم، وَإِن كَانَ حمل الْمَعْدُوم من ضروب الْقيَاس.
وَكَذَلِكَ الْفَرْع وَالْأَصْل، فَإِنَّهُمَا اسمان خاصان، وَلَا يطلقان إِلَّا على موجودين مستدعياً فِي إطلاقهما الْوُجُود.
وَالْأولَى مَا قدمْنَاهُ عَن ذكر الْمَعْلُوم. فَإِن ذكر الْمَعْلُوم ينْطَلق على الْمَعْلُوم انطلاقه على الْمَوْجُود.

(3/146)


1566 - فَأَما قَوْلنَا فِي إِيجَاب بعض الْأَحْكَام لَهما أَو فِي إِسْقَاطه عَنْهُمَا، فَإِن مَا رمنا بِهَذِهِ الْجُمْلَة شيآن / اثْنَان.
أَحدهمَا: أَن الْجمع بَين شَيْئَيْنِ من غير إِيجَاب حكم لَهما أَو نفي حكم عَنْهُمَا لَا يكون قِيَاسا وَذَلِكَ نَحْو قَول الْقَائِل: المَاء وَالْخمر مائعان، مَعَ الِاقْتِصَار على هَذَا الْقدر. وَأَمْثَاله لَا يعد قِيَاسا. فَإِن قَائِله لم يُوجب لَهما فِي كَونهمَا مائعين حكما وَلم ينف عَنْهُمَا حكما.
والمقصد الآخر أَنا لم نخصص قَوْلنَا بِإِثْبَات الحكم، بل جَمعنَا بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات، فَإِن من الأقيسة مَا يتَضَمَّن نفيا كَمَا أَن مِنْهُمَا مَا يتَضَمَّن إِثْبَاتًا.
وَمن الحادين من يقْتَصر فِي حَده على الْإِثْبَات فَيَقُول: هُوَ حمل الشَّيْء على شبيهه فِي إِثْبَات حكم لَهما. ويقتصر على ذَلِك، وَفِيه إِخْرَاج بعض الْمَحْدُود عَن قَضِيَّة الْحَد.
1567 - وَأما قَوْلنَا: " بِأَمْر جمع بَينهمَا " فقد اخترنا هَذِه الْعبارَة دون عِبَارَات أطلقها كثير من الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذِه الْمنزلَة.
وَمِنْهَا أَن قَالُوا: " بِأَمْر يُوجب الْجمع بَينهمَا ".
وَمِنْهُم من قَالَ: " بِأَمْر يتَضَمَّن الْجمع بَينهمَا " أَو " يَقْتَضِي الْجمع بَينهمَا " وكل عبارَة من هَذِه الْعبارَات مدخولة.
وَذَلِكَ أَنَّك قلت: بِأَمْر يُوجب الْجمع بَينهمَا، اقْتضى ذَلِك التَّعْبِير عَن الْقيَاس الصَّحِيح الَّذِي اجْتمع فِيهِ الْفَرْع وَالْأَصْل فِي أَمر يُوجب اجتماعها.

(3/147)


وَشرط الْحَد - إِذا أطلقته - أَن " ينطوي " على الْفَاسِد حَقِيقَة كَمَا ينْطَلق على الصَّحِيح. فَلَا معنى لتخصيص الصَّحِيح بِالْحَدِّ، عِنْد الْمُطَالبَة بتحديد الْقيَاس الْمُطلق، وَهَذَا كَمَا إِذا سئلنا عَن حد النّظر لم نخصص فِي الْحَد النّظر الصَّحِيح عَن الْفَاسِد من النّظر.
فَإِذا قُلْنَا: " لأمر جمع بَينهمَا فيهمَا " وَلم نتعرض لإِيجَاب واقتضاء بِالْحَدِّ - كَمَا ذكره آخَرُونَ - كُنَّا قَاصِدين إِلَى استغراق أَنْوَاع الْقيَاس بِالْحَدِّ.
فَلَو قَالَ قَائِل: لَا ينْطَلق اسْم الْقيَاس إِلَّا على الصَّحِيح، كَانَ متحكماً، لَا يكترث بقوله. فَإنَّا نعلم أَن اسْم الْقيَاس ينْطَلق عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَيُقَال لَهُ: هَذَا قِيَاس فَاسد وَهَذَا صَحِيح. فَإِن انْدَفَعُوا فِي تثبيت مَا قَالُوهُ فِي الاستشهاد بمسائل من الْفُرُوع، نَحْو قَول الْقَائِل " وَالله لَا أُصَلِّي " ثمَّ عقد صَلَاة فَاسِدَة، فَلَا يَحْنَث فِي يَمِينه، فَهَذَا ضرب من الهذيان.
فَإِن الإطلاقات واللغات لَا تثبت بآحاد الْمسَائِل فِي الشَّرِيعَة، وَنحن نعلم قطعا فِي حَقِيقَة اللُّغَة أَن اسْم الْقيَاس يتَنَاوَل الَّذِي يحكم بِصِحَّتِهِ، كَمَا يتَنَاوَل الَّذِي يحكم بفساده. فَمَا يُغني خصومنا التَّمَسُّك بآحاد الْمسَائِل.
فقد ذكرنَا إِذا جملا من الْعبارَات الْمَذْكُورَة فِي حد الْقيَاس فِي خلل الْكَلَام، وَبينا اختلالها.
(271) ذكر بعض التعاريف الْأُخْرَى للْقِيَاس، وإبطالها

وَهَا نَحن نذْكر عِبَارَات ذكرهَا آخَرُونَ فِي تَحْدِيد الْقيَاس.
1568 - فمما قَالُوهُ: أَن الْقيَاس هُوَ إِصَابَة الْحق، إِذا وَقع عَن

(3/148)


نظر وَهَذَا غير مُسْتَقِيم من أوجه:
أَحدهَا: أَن إِصَابَة الْحق هِيَ الْعلم بِالْحَقِّ، فَكَانَ محصول مَا قَالُوهُ تَسْمِيَة الْعلم الْوَاقِع عَن النّظر قِيَاسا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
فَإِن النّظر الْمُؤَدِّي إِلَى الْعلم أولى بِهَذَا الِاسْم من الْعلم. وَهَذَا كَمَا أَن قَائِلا لوحد الدَّلِيل الْمُؤَدِّي إِلَى الْعلم بالمدلول، كَانَ مخطئا. فَكَذَلِك سَبِيل مَا نَحن فِيهِ.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْعلم بالشَّيْء إِذا وَقع ضَرُورَة فَهُوَ مجانس للْعلم بِهِ إِذا وَقع اسْتِدْلَالا، وَمن حكم المتماثلين أَن يستويا فِي الْأَوْصَاف الْجَائِزَة والواجبة والأوصاف المستحيلة، وَلَا يَنْبَغِي فِي حكم الْحَد أَن يشْتَمل على الشَّيْء وينفي مثله.
وَالْوَجْه الآخر أَن الْقيَاس / عبارَة / عَن اعْتِبَار / الْمَعْلُوم بالمعلوم وَالْجمع بَينهمَا. وَالنَّظَر إِذا أطلق مَعَ إِصَابَة الْحق، فَلَا يتَضَمَّن ذَلِك.
فَإِن من أَقسَام النّظر مَا لَا ينطوي على تَمْثِيل وتشبيه، وَحمل مَعْلُوم على مَعْلُوم.
1569 - وَمن النَّاس من حد الْقيَاس، فَقَالَ: هُوَ اسْتِخْرَاج الْحق من الْبَاطِل. وَهَذَا هُوَ شَيْء لَا يداني مقصدنا فِي حد الْقيَاس، فَإِن الْقَائِل بذلك إِن

(3/149)


عَنى بالاستخراج العثور على الْحق فَهُوَ بِعَيْنِه الْكَلَام بِالَّذِي " فَرغْنَا " عَنهُ آنِفا. وَفِيه ضرب آخر من الْخلَل، وَهُوَ أَن من عثر على الْحق من النُّصُوص، فَلَا يُسمى قائساً وَإِن تحقق العثور على الْحق واستخراجه، وكل مَا قدمْنَاهُ من وَجه الرَّد على القَوْل الَّذِي قبيل ذَلِك فَهُوَ رد على ذَلِك.
1570 - وَمن النَّاس من قَالَ: الْقيَاس هُوَ الِاجْتِهَاد فِي طلب الحكم.
وَهَذَا مَدْخُول أَيْضا، وَذَلِكَ أَن من عنت لَهُ حَادِثَة، فابتدأ فِي طلب شَاهد ...
1571 - ... وَالِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب، وَهَذِه الْعبارَة غير مرضية أَيْضا فَإِن الشَّاهِد وَالْغَائِب وَإِن كَانَا من عِبَارَات الْمُتَكَلِّمين فِي بعض الْمنَازل فلسنا نستحبهما فِي منَازِل الْحُدُود لانطوائها على الْمجَاز والتوسع والإجمال، مَعَ أَن الْمَقْصُود من التَّحْدِيد الْكَشْف وَالْبَيَان. فَلَا يَنْبَغِي أَن يكون الْحَد أغمض من الْمَحْدُود. على أَن الشَّاهِد يُنبئ عَمَّا يُشَاهِدهُ. وَقد ذكرنَا أَن الْقيَاس لَا يتخصص بِشَيْء من ذَلِك.

(3/150)


وَفِي الْعبارَة اختلال من وَجه، وَهُوَ: إِذا قيل: الْقيَاس هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب، فينبئ ظَاهر ذَلِك عَن اعْتِبَار كل غَائِب بِشَاهِد، وَلَيْسَ من الْقيَاس اعْتِبَار كل غَائِب بِشَاهِد. على مَا نفصل القَوْل فِيهِ.
فَهَذَا جُمْهُور عِبَارَات الإسلاميين فِي تَحْدِيد الْقيَاس وَمَعْنَاهَا.
(272) ذكر مزاعم الفلاسفة والمناطقة فِي تَحْدِيد الْقيَاس، وتفنيدها

1572 - وَقد زعمت الفلاسفة أَن الْقيَاس قرينتان مقدمتان ونتيجة.
ومثلوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: إِذا قَالَ: الْقيَاس، كل حَيّ قَادر فَهَذِهِ مُقَدّمَة.
فَإِذا قَالَ بعْدهَا: وكل قَادر فَاعل، فَهَذِهِ مُقَدّمَة أُخْرَى. وَإِذا قرن بَينهمَا فهما قرينتان مقدمتان. ونتيجتهما أَنه إِذا كَانَ كل حَيّ قَادِرًا وكل قَادر فَاعل فَكل حَيّ فَاعل. وَهَذَا مَا أطلقهُ الفلسفيون والمنطقيون.
ثمَّ قَالُوا: وتتحقق المقدمتان والنتيجة فِي تثبيت وَنفي كَمَا تحقق فِي إِثْبَات.

(3/151)


1573 - فَيُقَال لهَؤُلَاء: الْقيَاس كلمة عَرَبِيَّة، وَإِذا سئلنا عَن تحديده لم نجد بدا من تحديده على قَضِيَّة اللُّغَة وَمُوجب الْعَرَبيَّة. وَمَا ذكرتموه خَارج عَن قَضِيَّة اللُّغَة. فَإِن الْقيَاس يُنبئ عَن تَمْثِيل بَين شَيْئَيْنِ أَو حمل بَين معلومين، وَهَذَا مَا لَا يتَحَقَّق فِيمَا ذكرتموه من المقدمتين والنتيجة أصلا.
على أَنا نقُول، مَا ذكرتموه من النتيجة بعد المقدمتين، لَا معنى لَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ إِعَادَة مُوجب المقدمتين بِعِبَارَة أُخْرَى.
وَبَيَان ذَلِك أَنا إِذا قُلْنَا: كل حَيّ قَادر، وكل قَادر فَاعل فقد صرحنا بِأَن كل حَيّ فَاعل فَلَا معنى لتقدير ذَلِك نتيجة زَائِدَة على المقدمتين.
وَلَو سَاغَ تَقْدِير هَذَا نتيجة وَفَائِدَة جَدِيدَة لتصور من هَذَا الْقَبِيل ضروب مِنْهَا أَن نقُول: إِذا ثَبت أَن كل حَيّ قَادر وكل قَادر فَاعل فنتيجة ذَلِك أَن كل قَادر حَيّ، وكل فَاعل " قَادر " وكل قَادر حَيّ إِلَى غير ذَلِك من ترديد الْعبارَات.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْقيَاس إِنَّمَا على مَا فِيهِ ضرب من التَّحَرِّي والتآخي وَمَا ذكرتموه من النتيجة مدرك ضَرُورَة، بعد تَقْدِير المقدمتين وثبوتهما.
1574 - على أَنا نقُول: لم كنيتم بتخصيص الْقيَاس بِهَاتَيْنِ المقدمتين، ونتيجتهما أولى من تَصْوِير / مقدمتين، وَفَائِدَة مستفادة مِنْهُمَا على غير الْوَجْه الَّذِي صورتموه.

(3/152)


وَذَلِكَ نَحْو أَن نقُول: الْمَوْجُود لَا يَخْلُو أَن يكون حَدِيثا أَو قَدِيما فَهَذِهِ مُقَدّمَة ثمَّ نقُول بعْدهَا: وَهَذَا لَيْسَ بقديم. فنعلم من هَاتين القرينتين أَنه حَادث. فَلَيْسَ " من قبيل " مَا قدروه من قبيل الْقَرَائِن والنتائج، فَهَلا جَازَ تَسْمِيَتهَا أقيسة وَكَذَلِكَ لَو قَالَ قَائِل، لزيد وَعَمْرو عِنْدِي عشرَة، ولزيد مِنْهَا دِرْهَم. فهاتان مقدمتان. ونتيجتهما أَن لعَمْرو تِسْعَة.
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ: فِي يَمِيني أَو يساري دِرْهَم وَلَيْسَ هُوَ فِي يساري. فنتيجتهما أَنه فِي يَمِينه. فسموا ذَلِك أقيسة. وَهَذَا مِمَّا لَا محيص لَهُم عَنهُ.
إِلَّا أَن يستروحوا إِلَى اصطلاحهم ويزعموا أَن هَذَا مَا اصطلحنا عَلَيْهِ بَين أظهرنَا وَلم نرم بِهِ الجري على الْحَقَائِق وَمُوجب الْحُدُود، فيخلون حِينَئِذٍ وَمَا يتواطئون عَلَيْهِ. 4 (273) فصل
فِي ذكر معنى الْجمع بَين المعلومين

1575 - فَإِن قَالَ قَائِل. قد ذكرْتُمْ فِي الْحَد الَّذِي ارتضيتم أَنه حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم ثمَّ ذكرْتُمْ أَنه " بِأَمْر يجمع بَينهمَا ". فَمَا معنى الْجمع بَينهمَا؟
قيل لَهُ. هُوَ قَول الْقَائِل فِي نَفسه واعتقاده اجْتِمَاع الْفَرْع وَالْأَصْل فِي إِثْبَات حكم أَو نفي حكم نَفْيه. وَيدخل فِي هَذِه الْجُمْلَة اعْتِقَاده وجوب الْجمع بَينهمَا فِي إِثْبَات حكم أَو فِي نفي حكم. فَيَنْصَرِف الْجمع بَينهمَا إِلَى اعْتِقَاد.

(3/153)


وَالْقَوْل الَّذِي فِي النَّفس - الَّذِي الْعبارَات منبئة عَنهُ - وَقد تسمى الْعبارَات جمعا أَيْضا. ويقوى ذَلِك إِذا سميناها كلَاما حَقِيقَة، فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِي حد الْقيَاس. فَأَما الْكَلَام فِي تَفْصِيله من ذكر فَرعه وَأَصله، وَعلة، أَصله، وَوجه تحريره، ووجوه استنباطه، ومدارك مورده، وإبانة صِحَّته، ومحامل فَسَاده، وَطَرِيق إِثْبَات علته فمما يرد مستقصى بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَإِنَّمَا قدمنَا حد الْقيَاس لتَكون على ضرب من الْخِبْرَة.
إِذا ثَبت الْقيَاس على منكريه:
(274) القَوْل فِي ذكر اخْتِلَاف النَّاس فِي صِحَة الْقيَاس وَوُجُوب القَوْل بِهِ ورده

1576 - اعْلَم، - أحسن الله إرشادك - أَن مَا أجمع عَلَيْهِ عُلَمَاء الْأَعْصَار السَّابِقَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ من جَمَاهِير الْفُقَهَاء والمتكلمين، القَوْل بالأقيسة الشَّرْعِيَّة، وَجَوَاز التَّعَبُّد بهَا عقلا، ووجوبه سمعا.
1577 - وَذَهَبت الشِّيعَة خلفهَا وسلفها إِلَى إبِْطَال الأقيسة الشَّرْعِيَّة.
وَإِلَيْهِ صَار النظام، وشرذمة من معتزلة بَغْدَاد، الَّذين قائدهم الْبَلْخِي

(3/154)


وَذهب من الْفُقَهَاء إِلَى رد الْقيَاس دَاوُد بن عَليّ الْأَصْبَهَانِيّ، والقاساني والنهرواني وَغَيرهم من أتباعهم.
1578 - ثمَّ الَّذين قَالُوا برد الْقيَاس افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن:
فَذهب بَعضهم إِلَى رد الْقيَاس عقلا، وصاروا إِلَى اسْتِحَالَة وُرُود التَّعَبُّد بِهِ. وَذهب آخَرُونَ إِلَى جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بِهِ عقلا، وَلَكنهُمْ زَعَمُوا أَن الشَّرْع منع من ذَلِك على مَا سنذكر مَا اغتروا بِهِ من ظواهر الْكتاب وَالسّنة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَإِلَى هَذَا مَال دَاوُد وأشياعه من الْفُقَهَاء.

(3/155)


1579 - وَأما الَّذين صَارُوا إِلَى منع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ عقلا، من الشِّيعَة والمعتزلة، فقد افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن.
فَذهب النظام إِلَى أَن الرب تَعَالَى لم يتعبد بِالْقِيَاسِ، علما مِنْهُ بِأَن لَا صَلَاح فِيهِ للمكلفين وَفِي تكليفهم استفسادهم. وَكَانَ يجوز أَن يَقع فِي الْمَعْلُوم أَن يصلحوا إِذا تعبدوا بِالْقِيَاسِ، وَلَكِن مَا لم يتعبد بِهِ، " عرفنَا " أَنه أَيقَن فِي الْمَعْلُوم أَن التَّعَبُّد بِهِ مفْسدَة.
وَذهب آخَرُونَ من الْقَائِلين بالأصلح إِلَى أَنا لَا نجوز وُقُوع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ صلاحاً. ولسنا نقُول: مَا يَقُوله النظام من جَوَاز تَقْدِير وُقُوعه فِي الْمَعْلُوم صلاحاً أصلا. بل نقُول لَا يجوز أَن يَقع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ صلاحاً أصلا.
وَهَذَا افْتِرَاق عَظِيم بَين المذهبين، فَلَا تحسبنهما شَيْئا وَاحِدًا.

(3/156)


وَنحن الْآن " نبدأ " بِالرَّدِّ على النظام، ثمَّ ننعطف بِالرَّدِّ على إخوانه.
(275) مناقشة النظام فِي موقفه من الْقيَاس

1580 - فَنَقُول للنظام: أول مَا نناقشك فِيهِ أصل الصّلاح والإصلاح.
فَمن أصل أهل الْحق أَنه لَا يجب على الله تَعَالَى أَن يتعبد عباده بِمَا فِيهِ مصلحتهم بل لَهُ أَن يعرضهم للعطب والثوي وَله تعريضهم للصلاح واللطف، فَلَا وَاجِب عَلَيْهِ أصلا بل يفعل بعباده مَا يَشَاء.
وَهَذَا من أعظم الْأُصُول فِي التَّعْدِيل والتجوير. وَهُوَ مِمَّا يستقصى فِي الديانَات. وَإِذا صددت الْخُصُوم عَنهُ لم يسْتَمر لَهُم الْمَنْع عَن القَوْل بِأَصْل الصّلاح شُبْهَة فِي رد الْقيَاس، فَإِن كل مَا سيذكرونه، أَو جلها مَبْنِيّ على القَوْل بالصلاح على أصولهم فِي أصولهم فِي الْكَلَام ونسلم لَهُم القَوْل بالصلاح فِي أصل التَّكْلِيف. وَيبْطل مَعَ ذَلِك تعلقهم بالشبه.
1581 - فَأَما النظام فَنَقُول لَهُ: قد قلت إِنَّه كَانَ يجوز أَن يَقع فِي الْمَعْلُوم التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مصلحَة، وَيجوز أَن لَا يَقع كَذَلِك. فَلَمَّا نهى الله تَعَالَى عباده عَن الْقيَاس وَحَملهمْ على التَّمَسُّك بالنصوص استدللنا بذلك على أَن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وَقع فِي الْمَعْلُوم مفْسدَة.

(3/157)


فَنَقُول لَهُ: بِمَ تنكر على من يَقُول لَك إِن الله تَعَالَى علم أَنه لَو جمعهم على الِاعْتِصَام بالنصوص وَترك تتبع الْعِلَل استنباطاً وتحرياً واجتهاداً، كَانَ ذَلِك صلاحاً. وَلَو تعبدهم بِالْقِيَاسِ كَانَ ذَلِك صلاحاً أَيْضا.
فَلَمَّا اسْتَوَى وَجه طلب الصّلاح فِي الْقسمَيْنِ فعل الرب أَحدهمَا، فَلم زعمت أَن إِيثَار أَحدهمَا مَعَ استوائهما فِي حكم الصّلاح، يبين لَك اتِّفَاق وُقُوعه مفْسدَة فِي الْمَعْلُوم.
1582 - فَإِن قَالَ النظام، إِنَّمَا قلت ذَلِك. لِأَنَّهُ لَا يُنْهِي إِلَّا عَن الْمحرم. وكل مَا كَانَ محرما فَهُوَ قَبِيح لوصف هُوَ فِي نَفسه لعَينه وَقد ثَبت أَنه نهى عَن الْأَخْذ بِالْقِيَاسِ.
فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرته خُرُوج عَن مُقْتَضى أصلك. فَإنَّك إِذا قلت أَن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مِمَّا لَا يقبح لعَينه، وَيجوز تَقْدِير وُقُوعه مصلحَة فِي الْمَعْلُوم. فَكيف يَسْتَقِيم فِي هَذَا الأَصْل القَوْل بِأَن الْقيَاس والتمسك بِهِ قَبِيح لوصف هُوَ فِي نَفسه " لعَينه ".
1583 - على أَنا نقُول: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه لما كَانَ الْحمل على النُّصُوص وَالْأَخْذ بموجباتها مصلحَة، وَكَانَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مصلحَة أَيْضا، واستويا فِي اقْتِضَاء الْمصلحَة، وَعلم الرب تَعَالَى أَن التَّخْيِير بَينهمَا مفْسدَة، وَرُبمَا يتَّفق ذَلِك فِي الْمَعْلُوم، فَلَمَّا علم بذلك أَمر بِأَحَدِهِمَا وَنهى

(3/158)


عَن الثَّانِي. وَلَو قدر الْأَمر على الضِّدّ لَكَانَ السُّؤَال يتَوَجَّه كَمَا يتَوَجَّه الْآن. فَبَطل من هَذَا الْوَجْه ادِّعَاء النظام كَون التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مفْسدَة لوُقُوع النَّهْي عَنهُ وَالْأَمر بالتمسك بالنصوص. وَهَذَا مِمَّا لَا محيص عَنهُ على الْوَجْه الَّذِي طردناه.
ثمَّ نقُول: كل مَا ذكرته مَبْنِيّ على أَن النَّهْي عَن الْقيَاس ورد سمعا، وهيهات فَكيف يَسْتَقِيم ذَلِك / وسنوضح الْأَدِلَّة السمعية القاطعة التَّعَبُّد / بِهِ / و " نَبْنِي " بطلَان تعلقهم بجملة الْأَدِلَّة السمعية.
1584 - فَإِن قَالَ قَائِل: لَو كَانَ وَجه الصّلاح فِي الْحمل على النُّصُوص مُسَاوِيا لوجه الصّلاح بالتعبد بِالْقِيَاسِ، لَكَانَ الرب تَعَالَى يُخَيّر بَينهمَا. كَمَا خير فِي كثير من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، نَحْو الْكَفَّارَات بِبَعْض الْمنَازل وَغَيرهَا.
قُلْنَا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الرب سُبْحَانَهُ علم تَسَاوِي وَجه الصّلاح فِي التَّعَلُّق بالنصوص وَالْقِيَاس، وَعلم من ذَلِك أَنه لَو خير بَينهمَا، لفسد عِنْد ذَلِك المكلفون، وَهَذَا مِمَّا لَا يستبعد وُقُوعه فِي الْمَعْلُوم، وَلَا معنى لكَون الشَّيْء لطفاً، إِلَّا أَن يعلم الرب تَعَالَى أَنه لَو وَقع لتعقبته مفْسدَة، ثمَّ إِن وجد التَّخْيِير فِي مورد من موارد الشَّرِيعَة، فَعدم التَّخْيِير أغلب " عَلَيْهَا "

(3/159)


فَبَطل من كل وَجه مَذْهَب النظام بطلاناً، لَا خَفَاء بِهِ، فَهَذَا وَجه مغن فِي الْكَلَام عَلَيْهِ.
فَمَا وَجه الْكَلَام على من عداهُ من الْقَائِلين بالصلاح والإصلاح.
(276)
(مناقشة الْقَائِلين بالصلاح والإصلاح)

1585 - فَمن أصلهم قطع القَوْل بِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَقع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الْمَعْلُوم مصلحَة لَا تجويزاً وَلَا تَحْقِيقا. وَإِن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ قَبِيح لعَينه.
فَيُقَال، لم قُلْتُمْ ذَلِك، وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟
وَنحن الْآن نذْكر كل شُبْهَة لَهُم، ونستقصي الْجَواب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1586 - فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا: الأقيسة السمعية / الَّتِي / فِيهَا تنازعنا لَا تُفْضِي إِلَى الْعلم وَالْقطع أصلا. وَلَيْسَت كالأدلة الْعَقْلِيَّة فِي إفضائها إِلَى المدلولات، وَلَيْسَت كالنصوص الثَّابِتَة قطعا، فَإِذا كَانَت لَا تُؤدِّي إِلَى الْمَعْلُوم قطعا، بل يقارنها الْجَهْل وَعدم الْقطع وَالْعلم بالمقاصد. وَمَا يقارنه الْجَهْل فَهُوَ قَبِيح فِي عينه.
فَيُقَال لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَولا: أَن الأقيسة السمعية تتَعَلَّق بمقتضياتها قطعا. وَذَلِكَ أَنا نقُول: قد ثَبت بالأدلة القاطعة نصبها إمارات على الْأَحْكَام فَكَأَن الرب تَعَالَى خَاطب عباده صَرِيحًا، وَقَالَ لَهُم " مهما " حرمت عَلَيْكُم التَّفَاضُل فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة الربوية، فاعلموا أَنكُمْ مخاطبون بِأَن تَطْلُبُوا لذَلِك عِلّة. هِيَ صفة من صِفَات الْأَعْيَان الْمَنْصُوص

(3/160)


عَلَيْهَا. واحرصوا فِي طلبَهَا - بالطرق الَّتِي سَوف نذكرها فِي وصف الاستنباط - حَتَّى إِذا غلب على ظنكم بعد التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَاد أَن وَصفا من الْأَوْصَاف هُوَ الْعلَّة، فَاقْطَعُوا عِنْد ذَلِك بِأَن حكمي عَلَيْكُم مَا غلب على ظنكم، فَإِن غَلَبَة ظنونكم فِي ذَلِك آيَة تقطعون عِنْدهَا " بِوُجُوب " الْعَمَل، بِمُوجب اجتهادكم، فَيُؤَدِّي التَّمَسُّك بالأقيسة إِلَى الْمَقْصُود قطعا كَمَا سقناه وطردناه. ويتنزل ذَلِك منزلَة تَكْلِيفه تَعَالَى أيانا الحكم بإبرام الْقَضَاء عِنْد شَهَادَة اثْنَيْنِ ظاهرهما الْعَدَالَة، وَإِن كُنَّا لَا نقطع بعدالتها. وَلَو قَطعنَا بهَا مثلا. لم نقطع بعصمتها، وَمَعَ ذَلِك يجب علينا الحكم.
فَكَأَن الرب تَعَالَى قَالَ: شَهَادَة الشَّاهِدين الَّذين يغلب على ظنكم عدالتهما وصدقهما آيَة تقطعون عِنْدهَا بِأَن حكمي عَلَيْكُم إبرام الْقَضَاء بهَا، فَهَذَا سَبِيل الأقيسة.
1587 - فَإِن قَالُوا: فَإِذا غلب على ظن مُجْتَهد أَن الطّعْم هُوَ الْعلَّة فِي تَحْرِيم الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة، واعتقد آخَرُونَ أَن الْكَيْل هُوَ الْعلَّة، وتحققت الْغَلَبَة على الظنون فِي كل وَاحِد من الْجَانِبَيْنِ / فَكيف يتَحَقَّق مَعَ ذَلِك الْعلم بِثُبُوت الْحكمَيْنِ المتضادين؟
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ألزمتمونا عين أصلنَا، إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين. وَذَلِكَ أَنا نقُول: حكم الله تَعَالَى على كل وَاحِد مِنْهُمَا اتِّبَاع مُوجب اجْتِهَاده، وَلَيْسَ فِيهِ تنَاقض، على مَا سنشرحه فِي تصويب الْمُجْتَهدين. إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَبَطل مَا ادعوهُ من الْجَهَالَة.

(3/161)


وَهَذَا فصل، إِذا طردته بَطل استرواحهم إِلَى كَون الأقيسة السمعية مقترنة بِالْجَهْلِ وَتبين اقترانها بِالْعلمِ.
فَإِن قيل: فَمن أَيْن لكم أَن الرب تَعَالَى نصب غلبات الظنون أَمَارَات لأحكامه قطعا؟
قُلْنَا: سنقيم على ذَلِك وَاضح الْأَدِلَّة بعد أَن نفرغ عَن إبِْطَال كل شُبْهَة لكم.
(280) (شُبْهَة أُخْرَى مَبْنِيَّة على القَوْل بالصلاح)

1588 - فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ التَّعَبُّد بالأقيسة السمعية صلاحاً، لعقل ذَلِك. وَتحقّق الْعلم بِوَجْه الْمصلحَة فِيهِ. وَنحن نعلم أَن كَون الشَّيْء مطعوماً أَو كَون الْخمر مشتدة عِلّة " على التَّحْرِيم " مِمَّا لَا يعقل وَجهه فِي الْمصلحَة واللطف.
فَلَو قَالَ قَائِل: فَمَا وَجه نصب الطّعْم عِلّة مصلحَة يجوز تَقْدِير وصف آخر من الْأَوْصَاف عِلّة.
قُلْنَا: هَذَا الْكَلَام مِمَّن لم يحط علما بِحَقِيقَة الصّلاح والإصلاح على أصُول الْمُعْتَزلَة.
1589 - وَهَا نَحن الْآن نكشف عَن حَقِيقَة مَا قَالُوهُ فِي ذَلِك. ونقول لَيْسَ الْمَعْنى بِكَوْن الشَّيْء مصلحَة ولطفاً، أَنه " فِي عينه " يُوجب الصّلاح،

(3/162)


كَمَا توجب الْعلَّة معلولها لذاتها ونفسها وَلِهَذَا " من " الْمَعْنى قَالُوا: أَن الصّلاح واللطف لَا يتخصصان بِجِنْس من أَجنَاس الْأَفْعَال، وَلَكِن كلما علم الرب أَنه لَو أثْبته، لَا تفق عِنْده الصّلاح للمكلفين، فَهُوَ مصلحَة ثمَّ يخْتَلف وُقُوعه للمعلوم. فَرُبمَا يَقع فِي الْمَعْلُوم اتِّفَاقًا كَون الشَّيْء مصلحَة فِي حق زيد مَعَ أَنه مفْسدَة بِعَيْنِه فِي حق عَمْرو.
وَهَذَا كَمَا أَن الرب تَعَالَى قد علم أَنه لَو أفقر شخصا لكفر، وَلَو أغناه لشكر وَعلم أَنه لَو بسط الرزق لغيره لبغى فِي الأَرْض. فالصلاح فِي حق أَحدهمَا الإغناء وَفِي حق الآخر الافقار. فمقصدنا من ذَلِك أَن نبين لَك / أَنه / لَيْسَ من شَرط كَون الشَّيْء مصلحَة، أَن يَقع فِي ذَاته على وَجه يَقْتَضِي الصّلاح، ويوجبه لجنسه وذاته اقْتِضَاء الْعلَّة معلولها، فَإِذا وضح ذَلِك بَطل مَا عولوا عَلَيْهِ بطلاناً ظَاهرا.
1590 - على أَنا نقُول لهَؤُلَاء: فَلَو قَالَ لكم قَائِل: فبينوا وَجه الْمصلحَة فِي الصَّلَوَات الْخمس مَعَ تباينها فِي الْأَوْقَات وأعداد الرَّكْعَات وَغير ذَلِك من الصِّفَات، فَلَا يَجدونَ إِظْهَار وَجه الْمصلحَة - يتَوَصَّل إِلَيْهَا عقلا، كَمَا يتَوَصَّل إِلَى الْوَجْه الَّذِي يدل مِنْهُ الدَّلِيل الْعقلِيّ.
فَإِن قَالُوا: لكل مَا ذكرتموه وَجه فِي الْمَعْقُول، وَلَكِن لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ.
قُلْنَا: فَبِمَ تنكرون على من يلزمكم مثل ذَلِك، وَيَقُول فِيمَا ألزمتمونا فِي الْقيَاس وَجه من الْمصلحَة، ذهلنا عَنهُ، واستأثر الرب تَعَالَى بِعِلْمِهِ.

(3/163)


فَإِن قَالُوا: لَيْسَ الْمَعْنى / بِكَوْن / الصَّلَوَات مصلحَة " وُقُوعهَا " على صِفَات مَخْصُوصَة فِي الْعقل، وَلَكِن الْمَعْنى بِكَوْنِهَا مصلحَة اتِّفَاق وُقُوعهَا كَذَلِك فِي الْمَعْلُوم، وَكَانَ يجوز أَن يَقع فِي الْمَعْلُوم خلاف ذَلِك. فَإِذا صَرَّحُوا بذلك وَهُوَ حَقِيقَة أصلهم، فينعكس عَلَيْهِم مثل ذَلِك فِي موارد الأقيسة.
(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1591 - فَإِن قَالُوا: من شَرط الْأَدِلَّة أَن تتَعَلَّق / بمدلولاتها على وَجه كَمَا أَن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، لما كَانَت أَدِلَّة على مدلولاتها، عقل مِنْهَا وَجه مَعْلُوم فِي التَّعَلُّق بالمدلول، وَهَذَا نَحْو دلَالَة الْفِعْل على الْفَاعِل والإتقان على الْعَالم والتخصيص على المريد. ولسنا نعقل وَجها فِي الطّعْم يَقْتَضِي تَحْرِيم التَّفَاضُل، كَمَا عقلنا مثل ذَلِك فِي الْأَدِلَّة الْمُتَعَلّقَة بمدلولاتها.
فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ينعكس عَلَيْكُم " أَولا " بالمنصوصات الَّتِي علق الحكم فِيهَا بأسماء الألقاب. وَذَلِكَ أَن قَائِلا لَو قَالَ: لَيْسَ يتَحَقَّق وَجه من الصّلاح فِيمَا ورد مَنْصُوصا فِي الشَّرَائِع، كَمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، فَمَا وَجه تَعْلِيق الْأَحْكَام على الْأَسْمَاء فِي موارد النُّصُوص؟
1592 - فَإِن انفصلوا عَن ذَلِك قَالُوا: مَا جعلت الْأَسْمَاء عللاً فِي الْأَحْكَام، مُتَعَلقَة بهَا تعلق الدَّلِيل بالمدلول وَالْعلَّة بالمعلول.

(3/164)


قُلْنَا: وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الْعِلَل السمعية. فَإِنَّهَا نصبت أَمَارَات على الْأَحْكَام من غير أَن يكون لَهَا وَجه فِي التَّعَلُّق بهَا. ودلت على نصبها أَدِلَّة قَاطِعَة، كَمَا دلّ على التَّمَسُّك بالنصوص أَدِلَّة قَاطِعَة، وَإِذا كَانَ سَبِيلهَا سَبِيل الأمارات المنصوبة / فَلَا / تطلب فِي الأمارات وُجُوه التَّعَلُّق كَمَا تطلب فِي الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة.
1593 - وَرُبمَا يطردون مَا ذَكرُوهُ من أوجه، أَحدهَا أَن يَقُولُوا: لَو كَانَت الْعِلَل السمعية مقتضيات للْأَحْكَام لاقتضتها وُرُود الشَّرَائِع كَمَا تَقْتَضِي الْعلَّة الْعَقْلِيَّة معلولها.
وَوجه الْخلاف فِي ذَلِك مَا قدمْنَاهُ آنِفا، من أَن الْعِلَل السمعية، لَيست " بأدلة " لأنفسها، وَإِنَّمَا نصبت أَمَارَات على الْأَحْكَام وَمَا كَانَ سَبيله سَبِيل الأمارة المنصوبة فتوقف فِي كَونهَا أَمارَة - على مَا تقدم - لواضع " لَهَا "

(3/165)


وَنصب عَلَيْهَا. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.
(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1594 - فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ نصب مَا ذكرتموه من الْأَوْصَاف إعلاماً - عِنْد غلبات الظنون - على الْأَحْكَام، لجَاز نصبها إعلاماً للأنباء عَن الغيوب حَتَّى يُقَال: إِذا ثَبت الْوَصْف الْفُلَانِيّ، وَغلب على ظنكم شَيْء، فَهُوَ آيَة فِي أَمر سَيكون {
قَالُوا: فَإِذا لم يجز نصبها أَمَارَات فِي دَرك الغيوب، لم يجز ذَلِك فِي الْأَحْكَام. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن نقُول: لم جمعتم بَينهمَا، وَلم زعمتم أَن الْأَحْكَام تنزل فِيمَا ذكرتموه منزلَة الغيوب؟ فَلَا يَجدونَ فِي تَحْقِيق الْجمع سَبِيلا.
على أَنا نقُول: مَا أنكرتموه لَيْسَ بمستنكر عندنَا فاعلموا} فَلَو قَالَ الرب تَعَالَى: مهما غلب على ظنكم حمل أَمارَة وترجيح أحد اعتقاداتكم على الْأُخْرَى فَاقْطَعُوا عِنْد ذَلِك بحملها. فَإِنِّي لَا أقدر غلبات ظنونكم - إِلَّا وَالْأَمر كَمَا ظننتموه. فَلَا يبعد فِي الْعقل إِذا نصب أَمَارَات على الغيوب.

(3/166)


(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1595 - فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الْفُرُوع، لجَاز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي أصُول الشَّرِيعَة كتثبيت أصُول الصَّلَوَات والزكوات ومقادير المقدرات بطرق الأقيسة. فَلَمَّا لم يجز ذَلِك فِي الْأُصُول، لم يجز فِي الْفُرُوع.
فَيُقَال لَهُم: أول مَا نطالبكم بِهِ أَن نقُول: لم شبهتم الْأُصُول بالفروع؟ وَلم زعمتم أَنه إِذا لم يتَمَسَّك بِالْقِيَاسِ فِي الْأُصُول لم يتَمَسَّك بِهِ فِي الْفُرُوع؟ وَهل أَنْتُم فِي هَذَا الْجمع إِلَّا متحكمون.
وَالَّذِي يُحَقّق تحكمكم فِي ذَلِك أَن نقُول: لَو قَالَ قَائِل: يجب أَن يكون كل المعلومات محسوسة، كَمَا أَن بَعْضهَا محسوس. أَو يجب أَن تكون كلهَا ضَرُورِيَّة / بديهية، اعْتِبَارا بتحقق ذَلِك فِي بعض الْمَعْلُوم، فَبَطل الْمصير إِلَى مَا قَالُوهُ.
فَإِذا انْدَفَعُوا للفصل بَين بعض الْمَعْلُوم وَبَين بعض - وهيهات - قوبلوا تَقْرِيبًا من ذَلِك فِي الْمُتَنَازع فِيهِ.

(3/167)


1596 - على أَن الْجَواب السديد فِي ذَلِك، أَن نقُول كل صُورَة " تصور " أَن ينصب صَاحب الشَّرِيعَة فِيهَا علما دَالا على الحكم يتَوَصَّل إِلَيْهِ نصا واستدلالاً، فَيجوز تَقْدِير الْقيَاس أصلا أَو فرعا ن وكل مَوضِع لَا يتَحَقَّق ذَلِك فِيهِ، فَلَا يتَمَسَّك فِيهِ بالأقيسة، فَهَذَا عقد الْبَاب. وَلَيْسَ علينا تَفْصِيله مَعَ من يُنكر أَصله.
1597 - ثمَّ نقُول: إِذا قُلْنَا أَن سَبِيل الأقيسة السمعية سَبِيل الأمارات الَّتِي تنصب فلسنا نقُول ذَلِك من تِلْقَاء أَنْفُسنَا. وَلَكِن كل صُورَة دلّت الدّلَالَة القطعية على نصب وصف من الْأَوْصَاف فِيهَا علما على حكم، فنقدره علما. وكل صُورَة قَامَت فِيهَا دلَالَة قَطْعِيَّة سمعية على منع الْعِلَل وَامْتِنَاع نصب الأمارات، فَلَا نقدرها وَلَا نتمسك بهَا.
وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك الأقيسة السمعية لَا تدل لأعيانها عقلا، وَإِنَّمَا تدل بِأَن تنصب أَدِلَّة مواضعة وتوقيفاً. فَإِن عَادوا بعد ذَلِك وَقَالُوا: فَمَا الدَّلِيل على انتصابها امارات، حَيْثُ تطردونها.
قُلْنَا: سنذكر ذَلِك بعد فراغنا عَن تتبع شبهكم بِمَا ينقصها ويبطلها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1598 - فَإِن قَالُوا: لَو كَانَت الْعِلَل السمعية تدل على الْأَحْكَام، لوَجَبَ أَن تتَعَلَّق بمدلولاتها تعلق الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة بالمدلولات، وَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك، لزم مِنْهُ شَيْئَانِ.

(3/168)


أَحدهمَا: ثُبُوت الْأَحْكَام بهَا، قبل وُرُود الشَّرَائِع.
وَالثَّانِي: اسْتِحَالَة رفع موجباتها نسخا وتبديلاً.
وَلِلْقَوْمِ فِي هَذَا الْقَبِيل أسئلة، يجمعها جَوَاب وَاحِد، وَهُوَ أَن يُقَال: الْعِلَل السمعية لَا تدل لأعيانها، وَإِنَّمَا تدل على الْأَحْكَام، لِأَنَّهَا نصبت أَمَارَات فِيهَا وَلَيْسَ من شَرط الأمارة أَن تتَعَلَّق تعلق الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة بل نصب الشَّيْء أَمارَة مَوْقُوف على الْوَضع. وَهَذَا متضح لكل ذِي متأمل.
وَأما الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فَإِنَّهَا تدل على مدلولاتها لذواتها، حَتَّى لَا يسوغ فِي الْمَعْقُول تقديرها غير دَالَّة.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك من طَرِيق الْأَمْثِلَة أَن الْفِعْل لما دلّ على الْفَاعِل، لم يتَقَدَّر فِي الْمَعْقُول فعل غير دَال. واللغات لما دلّت على الْمعَانِي اصْطِلَاحا تصور تَقْدِير تبديلها.
(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1599 - وَهِي من عمدهم فَإِن قَالُوا: اتفقتم معاشر القائسين على أَن الْقيَاس لَا يَصح دون استنباط عِلّة الأَصْل الْمَرْدُود إِلَيْهِ، ثمَّ عِلّة الأَصْل وصف

(3/169)


من أَوْصَاف لَا يسْتَدرك عقلا كَونه عِلّة، وَرُبمَا لَا يدل عَلَيْهِ نَص كتاب وَلَا سنة. فَإِذا استدت طرق الْعلم بِكَوْن مَا " يرتضيه " القائسون عِلّة، وَلَيْسَ بعض الْأَوْصَاف بعد انحسام طرق الْعلم عَنْهَا أولى من بعض، فَمَا وَجه التَّوَصُّل إِلَى عِلّة مَعَ انسداد السبل؟
" قيل " إِن نسبتموها إِلَى الْقطع بعلة الأَصْل، فَهَذَا مِمَّا لَا نشترطه، والطرق الَّتِي ذكرتموها، طرق الْقطع. وَعلة الأَصْل فِي السمعيات لَا ترام قطعا وَإِنَّمَا يجتزي فِيهَا بِغَلَبَة الظَّن. " وَالظَّن " الَّتِي يعتصم بهَا، ويعقبها على مجْرى الْعَادَات غلبات الظنون مِمَّا سنذكرها.
1600 - وَالْجُمْلَة الدافعة لما عولوا عَلَيْهِ أَن نقُول: إِن استبعدتم ثُبُوت أَمارَة على غَلَبَة الظَّن، فَهُوَ مَا لَا بعد فِيهِ. إِذْ يسوغ فِي / الْمَعْقُول نصب غَلَبَة الظَّن علما، كَمَا يسوغ ذَلِك فِي الْمَعْلُوم قطعا. وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَن قَائِلا لَو قَالَ لمن يخاطبه، والمخاطب من الْمُرْسلين مثلا: إِذا غلب على ظنكم كَون زيد فِي الدَّار وَوجدت ذَلِك، فَاعْلَم أَن وجود غَلَبَة الظَّن أَمارَة فِي تَحْرِيم الْكَلَام عَلَيْك، فَهَذَا مَا لَا بعد فِيهِ. كَمَا لَو قَالَ: إِذا علمت ان زيدا فِي الدَّار، فَهُوَ عَلامَة تَحْرِيم الْكَلَام عَلَيْك.
1601 - وسبيل الأقيسة السمعية سَبِيل الأمارات، فَكَأَن الرب تَعَالَى قَالَ للمكلفين: إِذا غلب على ظنكم كَون وصف من أَوْصَاف الأَصْل عِلّة،

(3/170)


بالطرق الَّتِي عهدتموها من الصَّحَابَة وَغَيرهم فاعلموا أَن ذَلِك إِيجَاب أَو حظر أَو تَحْلِيل أَو ندب.
وَاعْلَم أَن هَذَا لَا يقوى مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين، وَلَا محيص لِلْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب فِي الْفُرُوع وَاحِد عَن هَذِه الشُّبْهَة وأمثالها. وسنقرر وَجه الأسئلة عَلَيْهِم، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1602 - فَإِن قَالُوا: الأَصْل إِذا كَانَ لَهُ أَوْصَاف، وَلم يكن بَعْضهَا مَنْصُوبًا عَلَيْهِ، وَلَا إِلَى الْعلم بِهِ طَرِيق قَاطع، فَمَا من طَرِيق يرتضيه قائس، إِلَّا والغير بمثابته. فَلَزِمَ من ذَلِك تكافؤ الْعِلَل وتساوي الْأَقْوَال. وفرضوا ذَلِك فِي الْكَيْل والطعم فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة.
قُلْنَا: اعلموا أَولا أَن مُجَرّد الْأَوْصَاف لَا تنصب عللاً، إِلَّا بطرِيق من الِاعْتِبَار سنقررها إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقد ثَبت بِالدّلَالَةِ القاطعة أصُول الِاعْتِبَار وَترك الِاقْتِصَار على الْأَوْصَاف فِي التَّعَلُّق " عَلَيْهَا " على أَنا نقُول: قصارى مَا ذكرتموه غير مستنكر عندنَا فِي الْعِلَل السمعية.
فَإنَّا نقُول: قد يكون للْأَصْل الْوَاحِد أَوْصَاف، و " يرتضي " بعض الْمُجْتَهدين نصب بَعْضهَا عِلّة، ويرتضي آخَرُونَ نصب وصف آخر - غَيرهَا عِلّة. وكل مُجْتَهد " وَاحِد " فَلَا يتَصَوَّر. فَإنَّا نراعي غلبات الظنون فِي أثر

(3/171)


سبل مضبوطة وَلَا يتَصَوَّر أَن يغلب على ظن الْمُجْتَهد كَون وصف عِلّة التَّخْصِيص - وَفِي تِلْكَ الْحَالة بِعَينهَا يغلب على الظَّن كَون وصف آخر عِلّة، وَهَذَا وَاضح إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1603 - فَإِن قَالُوا: القائس الْمُجْتَهد لَيْسَ يَقُول من تِلْقَاء نَفسه شَيْئا، وَإِنَّمَا هُوَ مخبر عَن الله تَعَالَى. وَإِلَّا فَلَيْسَ لأحد أَن يشرع ويبتدئ إِثْبَات حكم اسْتِدْلَالا.
قَالُوا: فَإِذا ثَبت ذَلِك، فَكيف يَصح للمجتهد أَن يخبر عَن الله تَعَالَى فِي حكم، وَهُوَ متشكك فِي أَصله؟
قُلْنَا: هَذَا تلبيس مِنْكُم. وَذَلِكَ أَنا قد أوضحنا أَن سَبِيل الأقيسة سَبِيل الأمارات، والقائس لَا يَقُول مَا يَقُول بِغَلَبَة ظن، وَلَكِن قد قَامَت عِنْده دلَالَة قَاطِعَة على أَنه مهما غلب على ظَنّه صِحَة طَرِيق فِي الْقيَاس، فَحكم الله عَلَيْهِ قطعا أَن يفعل بِمُوجبِه، فالدليل الْقَاطِع الَّذِي تضمن نصب غَلَبَة الظَّن أَمارَة هُوَ الَّذِي يسوغ للقائس الْإِخْبَار عَن الله تَعَالَى دون الأمارة الَّتِي " نصبت ".
وَهَذَا وَاضح وَالْحَمْد لله على القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. وَلَا يسْتَمر للمخالفين فِي ذَلِك جَوَاب سديد.
(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1604 - فَإِن قَالُوا: كل قائس مُجْتَهد على زعمكم يجوز أَن يكون مخطئاً فِي طرد الْقيَاس، وَيجوز أَن يكون مصيباً وَلَا نقطع بِإِصَابَة نَفسه أصلا.

(3/172)


فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمَا وَجه الحكم بِمَا هَذَا طَرِيقه على الْأَرْوَاح / وَسَفك الدِّمَاء وَاسْتِحْلَال الْمُحرمَات.
وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: قد ثَبت بِاتِّفَاق الْفُقَهَاء أَن الرجل إِذا كَانَ تَحْتَهُ نسْوَة فَوَقَعت على وَاحِدَة مِنْهُنَّ بَائِنَة. والتبس أمرهَا على الزَّوْج فَيجب عَلَيْهِ اجْتِنَاب سائرهن. وَلَا يسوغ لَهُ التَّمَسُّك بغلبات الظنون فِي تَمْيِيز عَن المحللات.
قُلْنَا: بنيتم دليلكم هَذَا على أصل، لَا نساعدكم عَلَيْهِ، فَإنَّا نقُول: من قَاس من الْمُجْتَهدين وبذل جهده، حَتَّى قدر نَفسه غير مقصر، فَلَا يتَصَوَّر أَن يكون قِيَاسه خطأ فِي الْمَطْلُوب بِالْقِيَاسِ على القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. فَإِن الْمَطْلُوب بِهِ الْعَمَل عِنْد حُصُول غَلَبَة الظَّن، وَقد تحققا جَمِيعًا، فَخرج لَك من ذَلِك أَن الَّذِي اجْتهد، لَا يجوز الْخَطَأ فِي قِيَاسه.
فأحط ذَلِك علما، إِلَى أَن تَأْتِيك أَحْكَام الِاجْتِهَاد.
1605 - فَأَما الَّذين قَالُوا: إِن الْمُصِيب وَاحِد، فيجوزون الْخَطَأ فِي قِيَاسه، وَالصَّوَاب كَمَا ألزموه، وَلَيْسَ لَهُم عَن هَذِه الشُّبْهَة محيص متضح.
ثمَّ نقُول مَا ذكرتموه يبطل بأخبار الْآحَاد، إِن كُنْتُم من الْقَائِلين بهَا فَإنَّا نسفك الدِّمَاء ونحكم بهَا فِي كل معضلة، مَعَ استرابتنا فِي النقلَة، وتجويز غلطهم وتعمد كذبهمْ.
وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الحكم بِشَهَادَة الشُّهُود مَعَ تَجْوِيز كَونهم " كذبة " شَاهِدين بزور.

(3/173)


(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1606 - فَإِن قَالُوا: عِلّة الأَصْل لَا تثبت عِنْد القائسين بِمُجَرَّد الدَّعْوَى، وَلَا بُد من إِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهَا، فَمَا وَجه نصب الْأَدِلَّة عَلَيْهَا؟
قُلْنَا: هَذَا الْآن تعرض مِنْكُم للْكَلَام فِي تَفْصِيل الْقيَاس مَعَ إنكاركم لأصله وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَاعْتَرفُوا بِالْأَصْلِ وسائلونا بعده عَن التفاصيل، وسنقرر الطّرق الَّتِي تثبت الْعِلَل إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1607 - فَإِن قَالُوا: إِذا علقتم الحكم بِوَصْف من أَوْصَاف الأَصْل وقدرتموه عِلّة، فَمَا قَوْلكُم فِيهِ إِذا اسْتَوَى وصفان من أَوْصَاف الأَصْل، فجوز الْمُجْتَهد أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة، وَكَانَ الْمَقْصد " مُخْتَلفا " وَلم يتَرَجَّح أَحدهمَا على الثَّانِي فَكيف يفعل الْمُجْتَهد؟
وَكَذَلِكَ الْفَرْع الْوَاحِد إِذا تجاذبه أصلان، واستوت أشباهه من كل وَاحِد مِنْهُمَا فَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِيجَاب، من حَيْثُ يجتذبه أصل الْإِيجَاب. وَإِلَى إِبَاحَته من حَيْثُ يجتذبه أصل الْإِبَاحَة. وَذَلِكَ محَال. فَإِذا كَانَ القَوْل بِالْقِيَاسِ يُفْضِي إِلَى هَذَا الْمحَال فَيجب سد بَابه.
وَالْجَوَاب عَن هَذَا من وَجْهَيْن.
أَحدهمَا: أَن نقُول: ذهب بعض القائسين إِلَى أَن مَا ذكرتموه لَا يتَصَوَّر. وَمِنْهَا تجاذب الْفَرْع الْوَاحِد أصلان، فَلَا بُد أَن يتَرَجَّح أَحدهمَا وَلَا يسوغ استواؤهما فِي حكم الْمُجْتَهدين من كل وَجه. فَإِذا سلكنا هَذِه الطَّرِيقَة، فقد بَطل مَا قَالُوهُ.

(3/174)


وسلك القَاضِي رَضِي الله عَنهُ طَريقَة أُخْرَى. فَقَالَ: إِن تصور مَا قلتموه فالمجتهد عِنْد تصَوره بِالْخِيَارِ، إِن أحب ألحقهُ بِهَذَا الأَصْل، وَإِن أحب ألحقهُ بِالْأَصْلِ الآخر.
وَلَا يستبعد ذَلِك فِي مواقع الشَّرِيعَة على مَا نذكرهُ فِي أَحْكَام الِاجْتِهَاد وتصويب الْمُجْتَهدين فِي مسَائِل الْفُرُوع - إِن شَاءَ الله تَعَالَى /.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن مفتيين إِذا تَسَاوَت صفاتها. وَقد عنت مسئلة للعامي وَنحن نعلم أَن جوابي المفتيين يَخْتَلِفَانِ نفيا وإثباتاً، أَو حظراً وإيجاباً فالمستفتى بِالْخِيَارِ فِي استفتاء أَيهمَا شَاءَ.
(شُبْهَة أُخْرَى لَهُم)

1608 - فَإِن قَالُوا: قصارى مَا ذكرْتُمْ، أَنكُمْ ادعيتم نصب غَلَبَة الظَّن علما على الحكم وَذَلِكَ غير مُسْتَقِيم. وَذَلِكَ أَن الرب تَعَالَى مَوْصُوف بالاقتدار على تَبْيِين الْأَحْكَام تنصيصاً مِنْهُ تَعَالَى، فَإِذا تصور التَّنْصِيص،

(3/175)


فالتعريض إِلَى غَلَبَة الظنون ترك لأوضح الطَّرِيقَيْنِ واجتزاء بأدونهما، وَذَلِكَ لَا يسوغ.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن نقُول: لم زعمتم أَنه لَا يسوغ ترك أوضح الطَّرِيقَيْنِ للَّذي ينحط عَنهُ فِي الرُّتْبَة. وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن ذَلِك سَائِغ، إِذا كَانَ التَّكْلِيف يَسْتَقِيم فِي كل وَاحِد من الطَّرِيقَيْنِ؟
فَإِن فرغوا بعد ذَلِك أَن " بَين " الطَّرِيقَيْنِ أصلح لِلْعِبَادَةِ وَالْحكمَة تَقْتَضِي إيثاره الْأَصْلَح للعباد.
قُلْنَا: فِي عين هَذَا تنازعون فَإِن التَّكْلِيف عندنَا لَا يَنْبَنِي على الصّلاح والأصلح وَهَذَا مِمَّا يُقرر فِي الديانَات.
1609 - على أَنا نقُول لكم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه رُبمَا يتَّفق فِي الْمَعْلُوم كَون التَّكْلِيف بغلبات الظنون أصلح، من حَيْثُ ينطوي على تحر واجتهاد، وَلَو وضحت النُّصُوص وَاسْتغْنى المكلفون عَن طرق الِاجْتِهَاد. لَكَانَ فِي ذَلِك مفْسدَة للعباد.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك نُكْتَة يجب أَن لَا تغفل عَنْهَا، مهما فاوضت الْقَوْم فِي الصّلاح والإصلاح، وَهِي أَن تَقول: لَيْسَ الْمَعْنى بِكَوْن الشَّيْء صلاحاً

(3/176)


ولطفاً للمكلف أَن يَقْتَضِي " دَابَّة " لَهُ استصلاحه ويوفر لَهُ دواعيه على الطَّاعَة ويتابع صوارفه على الْمعْصِيَة، وَلَكِن الْمَعْنى بذلك أَن الرب تَعَالَى إِذا علم أَن فعلا من الْأَفْعَال لَو أوجده صلح المكلفون.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الشَّيْء الْوَاحِد قد يتَّفق صلاحاً فِي حق شخص مفْسدَة فِي حق غَيره، وَذَلِكَ نَحْو الإغناء والإفقار. وَيخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف الْوُقُوع فِي الْمَعْلُوم. ومقصودنا من ذَلِك كُله أَن نبين للْقَوْم أَن تصور التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ أصلح فِي حكم الْمَعْلُوم.
1610 - وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن نقُول: قد ثبتَتْ ضروب من التَّحَرِّي فِي موارد الشَّرِيعَة وَلم يقتض ذَلِك مَا ذكرتموه، مِنْهَا اعْتِبَار أروش الْجِنَايَات وقيم الْمُتْلفَات ودرك مبالغ الحكومات، والإقدام على التَّعْزِير الَّذِي لَا يَنْضَبِط لَهُ قدر عِنْد مُقَارنَة الزلات إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يتَعَيَّن فِيهِ تتبع الاجتهادات مَعَ تصور النُّصُوص فِي أعظمها. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.

(3/177)


فَهَذِهِ جملَة كَافِيَة فِي ذكر شبه الَّذين أحالوا التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ، وَقد أوضحنا سَبِيل الِانْفِصَال عَنْهَا، وَلَا يرد عَلَيْك من أصُول كَلَام الْقَوْم شَيْء إِلَّا تستقل فِي التفصي عَنهُ بِمَا قدمْنَاهُ لَك.
وَنحن الْآن نذْكر الطّرق الَّتِي توصلنا بهَا إِلَى التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ بعد مَا تبين جَوَاز التَّعَبُّد بِهِ.
(281) القَوْل فِي إِيضَاح الطّرق الموصولة الى التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ

1611 - اعْلَم، وفقك الله، أَولا، أَن الَّذِي يسْتَدرك بِالْعقلِ جَوَاز وُرُود التَّكْلِيف بالتعبد بِالْقِيَاسِ، وَلَا يسْتَدرك بِالْعقلِ إِلَّا جَوَاز ذَلِك.
فَأَما تحقق ثُبُوته وَوُجُوب تعلق الْأَحْكَام / بِهِ على قطع، فمما لَا يسْتَدرك عقلا.
1612 - وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ ثَبت عقلا، والأدلة السمعية وَردت فِي ذَلِك مُؤَكدَة للدلالة الْعَقْلِيَّة، وَلَو قَدرنَا عدم وُرُودهَا، لَكنا نتوصل بِمُجَرَّد الْعُقُول إِلَى انتصاب الأقيسة عللاً فِي الْأَحْكَام.

(3/178)


1613 - وَاعْلَم أَن القَوْل فِي ذَلِك يَنْقَسِم، فَإِن عَنى الْخُصُوم بِمَا قَالُوهُ، أَن اعْتِبَار " الْأَشْيَاء " وطرق التَّرْجِيح والاعتصام بغلبات الظنون، مِمَّا يصور من غير تَقْدِير دلَالَة سمعية فِي ذَلِك، فَهَذَا مَا لَا نستنكره كَمَا لَا نستنكر اسْتِقْلَال الْعُقَلَاء بِأَنْفسِهِم فِي تَقْدِير الْقيم وَالِاجْتِهَاد فِي التعزيرات عِنْد اخْتِلَاف الرتب فِي الذُّنُوب والجرائم، وَلَا نستبعد اعتبارهم تَقْدِير الكافة فِي النَّفَقَات والمؤنات، كَمَا لَا نستبعد فِي الْعَادَات من الْعُقَلَاء ضروب التَّحَرِّي والتأخي فِي مصَالح الدُّنْيَا نَحْو التِّجَارَات وطرق المكاسب واستصلاح الْأَمْوَال، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تعداده.
فَإِن قَالَ الْخصم الِاعْتِبَار مُتَصَوّر فِي ذَلِك عقلا. فَالْأَمْر على مَا ذكر إِذْ لَا يتَصَوَّر على الْمَنْع بتكليف الْمحَال وَمَا لَا يُطَاق وَمَا ورد التَّكْلِيف بالشَّيْء إِلَّا وَهُوَ مِمَّا يتَصَوَّر الْإِقْدَام عَلَيْهِ. فَإِن عنوا بِمَا قَالُوهُ أَن الاعتبارات فِي طرق الِاجْتِهَاد إِذا تصورت، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَحْكَام التَّكْلِيف عقلا، فَهَذَا مِمَّا ننكره فَإنَّا نقُول: لَا يثبت كَون الِاجْتِهَاد على مَا " تيقناه " مقتضية أحكاماً، إِلَّا

(3/179)


بورود السّمع.
1614 - وَقد ذهب ذاهبون، وهم الأقلون، إِلَى أَنا نستدرك بالعقول، التَّوَصُّل إِلَى الْأَحْكَام بطرق الِاعْتِبَار من غير وُرُود سمع فِي ذَلِك، ومعظم المستروحين إِلَى الْعُقُول فِي المقاييس إِذا فتشت عَن مذاهبهم، ألفيتهم مجتزين بتصوير الِاعْتِبَار وَتَقْدِيره عقلا. وَإِذا أوضحت لَهُ وَجه الصَّوَاب وطالبتهم بتثبيت الْأَحْكَام بِالِاعْتِبَارِ وجوبا لَا جَوَازًا، فيوافقوا فِي الْمَقْصد، ويرتفع عِنْد ذَلِك الْخلاف.
1615 - وَصرح شرذمة بِالْخِلَافِ، فَقَالُوا: الْعِلَل الْحكمِيَّة تَقْتَضِي أَحْكَامهَا عقلا.
حَتَّى قَالُوا: إِنَّهَا تتَعَلَّق بهَا تعلق الْعلَّة بمعلولاتها، وَهَذَا وَاضح الْبطلَان. وَأول مَا نفاتحهم بِهِ أَن نقُول: أَنْتُم لَا تخلون، إِمَّا أَن تزعموا أَن الشدَّة مقتضية تَحْرِيم الْخمر لعينها. كَمَا يَقْتَضِي الْعلم كَون الْمحل الَّذِي قَامَ بِهِ عَالما، وَالْقُدْرَة كَون الْمحل الَّذِي قَامَت بِهِ قَادِرًا إِلَى غير ذَلِك من طرق الْعِلَل العقليات وَهَذَا من أَسف الْمذَاهب. وَإِمَّا أَن تزعموا أَن الشدَّة أَمارَة على التَّحْرِيم مَنْصُوبَة لَهُ وضعا، مَعَ جَوَاز تقديرك عدم نصبها أَمارَة.
فَإِن أَنْتُم آثرتم هَذَا الْقسم الْأَخير فقد حصحص الْحق ووضح حَيْثُ صرحتم بِكَوْنِهَا أَمارَة مَوْقُوفَة على نصب ناصب وَوضع وَاضع (مَعَ أَن الَّذِي لَا ينتحم فِيهَا فَإنَّا نستدرك بِعَينهَا للتَّحْرِيم مَعَ مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا) .

(3/180)


1616 - وَإِن أَنْتُم زعمتم أَن الشدَّة تَقْتَضِي التَّحْرِيم لعينها اقْتِضَاء الْعِلَل الْعَقْلِيَّة معلولاتها فَهَذَا بَاطِل من أوجه.
أَحدهَا أَن نقُول: تَحْلِيل الْخمر مِمَّا لَا يستبعد عقلا، وَلَقَد عهِدت محللة فِي صدر الْإِسْلَام /. فَلم كَانَت الشدَّة أولى بِأَن تكون عِلّة فِي التَّحْرِيم من الحموضة والحلاوة؟ فَمَا وَجه اقْتِضَاء الْعقل / تَخْصِيص وصف من هَذِه الْأَوْصَاف؟ وَلَا يبعد فِي الْعقل تَحْرِيم الحامض وَتَحْلِيل المشتد، وَهَذَا مِمَّا لَا منجى لَهُم عَنهُ، إِلَّا أَن يعتصموا بهذيان الْمُعْتَزلَة فِي الصّلاح والإصلاح. ويزعموا أَنه لَيْسَ الصّلاح التَّسَبُّب إِلَى إِزَالَة الْعُقُول، فيضعف الْكَلَام حِينَئِذٍ غَايَة الضعْف ويلزمون عِنْده الِاقْتِصَار على الْقَلِيل الَّذِي لَا يسكر من الْخمر النيء.
1617 - على أَن من قَالَ باستدراك الْأَحْكَام بطرق الْعقل، فَلَا يدعى ذَلِك عُمُوما فِيمَا قل وَجل من الْأَحْكَام، وَإِنَّمَا يدعى ذَلِك فِي أصُول التَّعَبُّد نَحْو وجوب شكر الْمُنعم والمعرفة و " حظر " الظُّلم وَالْكفْر.

(3/181)


فَأَما التفاصيل ودقائق الْأَحْكَام فِي أَعْيَان الخائضين فِي هَذَا الْفَنّ وَالَّذِي يُوضح بطلَان ذَلِك، أَنه لَو كَانَ سَبِيل الْعِلَل فِي الْأَحْكَام سَبِيل الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، لما تحقق وجودهَا إِلَّا مقتضية لأحكامها. فَلَزِمَ من ذَلِك ثُبُوت تفاصيل الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع وَثُبُوت النبوات. وَهَذَا بَاطِل لما سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي نفي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع، وَهَذَا يُوجب أَيْضا منع النّسخ فِي التَّحْرِيم والتحليل، إِذا كَانَ الحكم مُعَلّقا فِيهِ بعلة. وَقد اتّفق الْعلمَاء على أَن الحكم الْمُتَعَلّق بضروب من الِاعْتِبَار - إِذا لم يكن من أصُول التَّعَبُّد والتكليف - فَيجوز تَقْدِير النّسخ فِيهِ.
1618 - فقد صورنا على الْخُصُوم تقدم الْعِلَل مَعَ انْتِفَاء " المعلومات " ثمَّ صورنا عَلَيْهِم بقاءها مَعَ نسخ أَحْكَامهَا. وَلَيْسَ ذَلِك من قضايا الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، فَإِن من شَرط الْعلَّة الْعَقْلِيَّة أَن لَا تَنْقَطِع عَن معلولها وَلَا تقدر إِلَّا مُوجبَة، فَإِنَّهَا إِذا كَانَت توجب الحكم لعينها، ثمَّ تصورت الحكم لعينها، ثمَّ تصورت عينهَا غير مُوجبَة، فَهَذَا يُفْضِي إِلَى قلب جِنْسهَا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْعِلَل فِي الْأَحْكَام لَو كَانَ سَبِيلهَا سَبِيل الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، فَهِيَ تدل لَهُ بذواتها أَيْضا، فَلَا يتَصَوَّر حدث غير دَال على مُحدث، وَلَا اتقان غير دَال على عَالم، وَقد صورنا ثُبُوت الْأَوْصَاف قبل وُرُود الشَّرَائِع، وَبعد النّسخ مَعَ انْتِفَاء الْأَحْكَام.
1619 - فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا تدل الْعِلَل السمعية، كَمَا تدل الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة،

(3/182)


وَلَا تتنزل منزلَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، بل تتنزل منزلَة الْأَدِلَّة، وَمن شَرطهَا ثُبُوت أصل الشَّرِيعَة وَعدم النّسخ قد يثبت دلَالَة عقلية مَشْرُوطَة بِشَرْط. وَلَا يستبعد ذَلِك فِيهَا.
قُلْنَا: هَذَا هذيان لَا تَحْصِيل وَرَاءه. فَإِن الدَّال على حدث الْعَالم إِذا وضح الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ يدل، فَلَا يتَصَوَّر وُقُوعه على قَول من قَائِل، وَلَا شرع من شَارِع غير دَال وَلَا يتَصَوَّر نسخ مُوجبه ورفض " مُقْتَضَاهُ " وَلَيْسَ فِيهِ شَرط، إِنَّمَا هُوَ تثبيت فَإِذا ثَبت لم يتَقَدَّر انْتِفَاء مُوجبه، فَمَا يغنيكم التَّمَسُّك بالعبارات فِي كَون الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة مَشْرُوطَة.
1620 - وَمِمَّا نتمسك بِهِ أَن نقُول: إِذا قدرتم الشدَّة عِلّة فِي التَّحْرِيم عقلا. فمدارك الْعُقُول تَنْقَسِم إِلَى ضَرُورَة واستدلال. وَلَا نستريب أَنكُمْ لَا تدعون كَون الشدَّة عِلّة ضَرُورَة. وَإِن تجاهلتم فِيهِ قوبلتم بِمثلِهِ. وَإِن ادعيتم ثُبُوته عِلّة اسْتِدْلَالا، فَمَا وَجه كَونه دَلِيلا أَو عِلّة عقلا؟ مَعَ تَجْوِيز الْعقل تَحْرِيم الحلو والشديد والحامض، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ وَلَا / يَجدونَ عَنهُ مهرباً.
فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك، لِأَن الشدَّة لَا نجدها، إِلَّا ويقارنها التَّحْرِيم قُلْنَا: فَلَيْسَ ذَلِك لِلْعَقْلِ، فتنبهوا وَإِنَّمَا هُوَ للشَّرْع، فثبتوا - لَو كَانَ سَبيله الْعقل - لم تبدل وَجه كَونه دَلِيلا أَو عِلّة؟
1621 - وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، أَن نقُول: أَنْتُم لَا تخلون إِذا ادعيتم،

(3/183)


أَن الْأَوْصَاف تَقْتَضِي الْأَحْكَام عقلا " أما " أَن تَقولُوا أَن ذَلِك ثَبت قطعا، أَو تسلكوا فِيهِ مَسْلَك غلبات الظنون.
فَإِن قُلْتُمْ: أَن ذَلِك ثَبت قطعا حَتَّى تَقولُوا على طرده أَن الطّعْم عِلّة الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة عِلّة قطعا فِي التَّحْرِيم، فَهَذَا نِهَايَة التجاهل.
وَالَّذِي يَدعِي الْكَيْل يقطع بِمَا يَدعِيهِ عِلّة، وَلَا يكَاد يَتَّضِح فِي ذَلِك وَجه يَقْتَضِي الْقطع من جِهَة الْعقل، وَأَن يتَحَقَّق ذَلِك والمسئلة مجتهدة فِيهَا.
فَإِن قَالُوا: إِنَّا نسلك فِي ذَلِك غلبات الظنون.
فَنَقُول: " فالمحصول " إِذا، أَنا نجوز كَون الطّعْم عِلّة، ونجوز أَن لَا يكون عِلّة. فَأنى يتَحَقَّق مَعَ ذَلِك الْمصير إِلَى أَن الطّعْم يَقْتَضِي الحكم اقْتِضَاء الْعلَّة الْعَقْلِيَّة معلولها. وَهَذَا بَين فِي سُقُوط مَا قَالُوهُ.
وَقد أورد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ على الْقَوْم طرقاً، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ غنية إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1622 - فَإِن قَالُوا: الطَّرِيق الَّذِي يعرف بِهِ كَون الطَّرِيقَة الْعَقْلِيَّة عِلّة، أَو الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة دلَالَة، فنعرف بِهِ بِعَيْنِه كَون الْعِلَل الْحكمِيَّة عللاً، وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: إِذا أردنَا أَن نَعْرِف عِلّة كَون الْعَالم عَالما، فالطريق فِي ذَلِك، أَن نضبط أَولا، جَوَاز تَعْلِيل هَذَا الحكم وَعدم اسْتِحَالَة التَّعْلِيل بِهِ، حَتَّى إِذا ثَبت ذَلِك، سبرنا بعده الْأَحْوَال. وعرفنا بطلَان كَون الْعَالم عَالما لنَفسِهِ،

(3/184)


أَو لِمَعْنى غير الْعلم من الْمعَانِي الْقَائِمَة بِالذَّاتِ، فَلَا نزال نسبر ونبطل الْأَقْسَام، حَتَّى ننتهي إِلَى تَعْلِيل هَذَا الحكم بِالْعلمِ. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي كل حكم عَقْلِي مُعَلل بعلة عقلية، ثمَّ " إِن " اعْتِبَار الْعلَّة أَن يثبت الحكم عِنْد ثُبُوتهَا ويعدم عِنْد عدمهَا.
وحققوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: لَا معنى لكَون الْعلم عِلّة فِي حكمهَا، إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ من الِاعْتِبَار، وَهَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه مَوْجُود فِي عِلّة الحكم. فَإنَّا إِذا نَظرنَا إِلَى تَحْرِيم الْخمر وأثبتنا أَولا جَوَاز تَعْلِيله، وَتبين لنا ارْتِفَاع الْمَوَانِع عَن التَّعْلِيل، ثمَّ قَدرنَا الشدَّة عِلّة فِي اقْتِضَاء التَّحْرِيم، بعد أَن اعْتبرنَا مَا عَداهَا من الْأَوْصَاف فَبَطل الِاعْتِبَار فِيمَا سواهَا، ثمَّ ألفينا الحكم يتَحَقَّق بِوُجُود الشدَّة - وَرُبمَا ينعكس أَيْضا، فَيَنْتَفِي الحكم بِانْتِفَاء الشدَّة - فقد ضاهى علل الْعُقُول وأدلتها. إِذْ أَدِلَّة الْعُقُول لَا يشْتَرط فِيهَا الانعكاس وَإِن اشْترط فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة الانعكاس.
1623 - وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من أوجه. أقربها أَن نقُول: لَا مشابهة بَين المقاييس الشَّرْعِيَّة وَبَين الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، إِذْ كل حكم مُعَلل فِي الْعقل لَا يسوغ تَقْدِير ثُبُوته مَعَ اعْتِقَاد انْتِفَاء علته إِذْ لَا يجوز أَن تقدر عَالما لَا علم لَهُ. وَلَا " كَائِنا " لَا كَون لَهُ.
وَأما التَّحْرِيم الَّذِي فِي الصُّورَة الَّتِي فرضتم الْكَلَام فِيهَا، فَيجوز

(3/185)


الْعقل تَقْدِير تَحْقِيقه، مَعَ وُرُود الشَّيْء ثمَّ نصا بِالْمَنْعِ من تَعْلِيله، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده فَلَو كَانَت الشدَّة تنزل منزلَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، لما سَاغَ تَجْوِيز وُرُود الشَّرْع بِمَنْع التَّعْلِيل بهَا وبغيرها / من الْأَوْصَاف. إِذْ الْعلم لما كَانَ عِلّة فِي كَون مَحَله عَالما، لم نجد فِي قضايا الْعُقُول قيام الدّلَالَة على خُرُوجه عَن كَونه عِلّة، وَقد ثَبت التَّحْرِيم فِي مَوَاضِع فِي الشَّرْع غير مُعَلل نَحْو تَحْرِيم الْخِنْزِير، وَمَا عداهُ مِمَّا يضاهيه فِي انْتِفَاء التَّعْلِيل. وَهَذَا وَاضح فِي إِسْقَاط مَا راموه.
1624 - وَالْوَجْه الثَّانِي فِي الْجَواب أَن نقُول: لَا يَسْتَقِيم التَّعْلِيل عقلا، إِلَّا بِأَن نقدر حكما زَائِدا على الْعلَّة الْمُقْتَضِيَة للْحكم. فَنَقُول: كَون الْعَالم عَالما حكم زَائِد على الذَّات وعَلى نفس الْعلم، وَهُوَ مُعَلل بِالْعلمِ. وَهَذَا الحكم هُوَ الْحَال الَّذِي عظم فِيهِ اخْتِلَاف الْمُحَقِّقين نفيا وإثباتاً، والخوض فِيهِ يصدنا عَن الْمَقْصد.
ومطلبنا فِي هَذَا الْموضع أَن نبين، أَن الْعلَّة الْعَقْلِيَّة لَا يستر إِلَّا بِأَن نقدر لَهَا حكما زَائِدا عَلَيْهَا، إِذْ لَو لم نقل ذَلِك، وصرفنا الحكم إِلَى نفس الْعلم، أفْضى محصول القَوْل إِلَى أَن الْعلم عِلّة فِي الْعلم! وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام.
فَإِذا ثَبت ذَلِك قُلْنَا بعده للخصوم: فثبتوا التَّحْرِيم وَصفا زَائِدا وعللوه ليَكُون ذَلِك قِيَاس الْعِلَل ومعلولاتها عقلا.

(3/186)


وَقد أوضحنا فِي صدر الْكتاب فِي غير مَوضِع، أَن التَّحْرِيم وَمَا عداهُ من أَحْكَام التَّكْلِيف لَيست بأوصاف ثَابِتَة للذوات، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَة إِلَى أوَامِر الله تَعَالَى وزواجره وتحليله وندبه.
فَإِذا آل ذَلِك إِلَى نفس الْكَلَام، فكأنكم عللتم كَلَام الله المنعوت بالقدم بِوَصْف فِي الشَّرَاب المشتد. وَهَذَا نِهَايَة الإحالة. فأحط بِهِ علما.
1625 - وَالْوَجْه الثَّالِث فِي الْجَواب أَن نقُول: لَو سَاغَ لكم الْمصير إِلَى أَن علل الْأَحْكَام مستدركة عقلا، لمضاهاتها الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فِيمَا صدرتم الْكَلَام بِهِ فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنَّهَا لَا تضاهي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، لمخالفتها إِيَّاهَا فِي الْجمل الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي أدلتها.
مِنْهَا: أَن الْأَوْصَاف الَّتِي تقدر عللا فِي الْأَحْكَام، قد كَانَت قبل وُرُود الشَّرَائِع وَهِي لَيست بعلل، وَتسَمى عِلّة بعد نسخ الحكم، وَهِي لَيست بعلة. وَمن شَأْن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة أَلا تُوجد إِلَّا وَهِي علل، فَلَو سَاغَ لكم الْمصير إِلَى أَنَّهَا عقلية لمشابهتها الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فِي وَجه، لساغ لنا أَن لَا نقدرها عللا عقلية، لخروجها عَن مشابهة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فِي وُجُوه. وَهَذَا مَا لَا مخلص للخصم عَنهُ.
1626 - فَإِن قَالُوا: فطرد مَا ذكرتموه يَقْتَضِي إِحَالَة التعلل بالأوصاف الَّتِي استشهدنا بهَا وَقد وافقتمونا على جَوَاز وُرُود الشَّرَائِع بنصبها عللا، فَلَو كَانَ كَونهَا عللا مستحيلا عقلا، لما ذكرتموه - لما جَازَ وُرُود الشَّرَائِع بنصبها عللا. إِذْ الْأَدِلَّة السمعية لَا ترد إِلَّا بجائزات الْعُقُول.
فَنَقُول: هَذَا تمويه مِنْكُم فَإِن الَّذِي أحلنا عقلا، لَا يجوز وُرُود الشَّرْع بتجويزه، وَالَّذِي جَوَّزنَا وُرُود الشَّرْع بِهِ، غير ذَلِك. فَإنَّا جَوَّزنَا وُرُود الشَّرَائِع

(3/187)


بِأَن تنصب بعض الْأَوْصَاف أَمَارَات فِي الْأَحْكَام، من غير أَن تكون أَعْيَان الأمارات مُوجبَة للْأَحْكَام ونزلنا ذَلِك منزلَة التَّوَاضُع على نصب الْإِعْلَام مَعَ اعْتِقَاد جَوَاز انتفائها وَثُبُوت / " اعْتِبَارهَا " آنذاك. فَخرج من ذَلِك أَن الَّذِي جَوَّزنَا وُرُود الشَّرْع بِهِ غير الَّذِي نفيناه وأثبتنا استحالته وَأَنْتُم معاشر الْمُحَقِّقين لَا تجيزون كَون الْأَوْصَاف أَمَارَات بل تَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُوجبَات لذواتها. وَأَنَّهَا كالعلل الْعَقْلِيَّة وَهَذَا " مَا سمناكم " إِبْطَاله قبل وُرُود الشَّرَائِع وَبعدهَا، فافهموا الْفَصْل بَين المنزلتين وجانبوا التلبيس، ترشدوا. فَإِذا ثَبت بِمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا، اسْتِحَالَة كَون الأمارات الْحكمِيَّة نازلة منزلَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، وَتبين أَنه لَا يتَوَصَّل إِلَى كَونهَا أَدِلَّة " عقلا " وَإِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَى كَونهَا أَدِلَّة، سمعا فَنحْن الْآن نذْكر الطّرق السمعية الدَّالَّة على ثُبُوت المقاييس فِي الْأَحْكَام.
(282) القَوْل فِي ذكر مَا يعْتَمد عَلَيْهِ فِي إِثْبَات العبر والمقاييس السمعية

1627 - اعْلَم، وفقك الله، أَن آكِد مَا يعْتَمد فِي تثبيت الِاجْتِهَاد والتمسك بِالرَّأْيِ وغلبات الظنون، إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم.
وَذَلِكَ أَنهم - رَضِي الله عَنْهُم - اخْتلفُوا فِي امتداد عصرهم فِي مسَائِل من الْأَحْكَام " عدموا " فِيهَا النُّصُوص، فَتمسكُوا فِيهَا بطرق الِاجْتِهَاد.

(3/188)


وَاخْتلفت فِيهَا آراؤهم. وَقد اشْتهر ذَلِك مِنْهُم، وَظهر مِنْهُم على انْقِضَاء الدَّهْر وَالْعصر، وَلم يجحدوا الِاجْتِهَاد عِنْد عدم النُّصُوص.
وَهَذَا فِي ظُهُوره مستغن عَن نقل قصَص وآحاد مسَائِل.
1628 - غير أَن القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَشَارَ إِلَى حوادث تمسكوا فِيهَا بِالرَّأْيِ، وَهِي أَكثر من أَن تحصى. فَمِنْهَا: اخْتلَافهمْ فِي الْجد وتوريثه مَعَ الْأَخ، فَذهب بَعضهم إِلَى تَقْدِيم الْجد، مصيرا إِلَى كَونه كَالْأَبِ. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْإِخْوَة مَعَ الْجد، ذَهَابًا مِنْهُم إِلَى أَن طَرِيق إدلائه بالبنوة. وَمَا زَالُوا يتحاورون فِي ذَلِك طرق الْمعَانِي، ويتمثلون فِي " الإدلاء " بِالْقربِ والبعد " بالأمثال " من نَحْو تَمْثِيل الْأَشْجَار وغصونها، وتشعب الخليج عَن

(3/189)


النَّهر الْكَبِير، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا استفاض عَنْهُم رَضِي الله عَنْهُم.
وَمِنْهَا تمسكهم بسبيل الِاجْتِهَاد نفيا وإثباتا.
وَمِنْهَا اخْتلَافهمْ فِي حد الشَّارِب، مَعَ استرواحهم إِلَى مَحْض الرَّأْي مِنْهُم حَتَّى قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه إِذا شرب سكر، وَإِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى، فَأرى عَلَيْهِ حد المفتري، ثَمَانِينَ جلدَة.
ثمَّ كَانَ يَقُول مَا أحد " يُقَام " عَلَيْهِ حد، فَيَمُوت فأجد فِي نَفسِي مِنْهُ شَيْئا أتخوفه. إِلَّا شَارِب الْخمر. فَإِنَّهُ شَيْء رَأَيْنَاهُ بعد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
واشتهر فِي زمن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ضرب الشَّارِب بالنعل وأطراف الثِّيَاب، ثمَّ

(3/190)


إِن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم ردُّوهُ إِلَى الْجلد، وقوموه بمبلغ مِنْهُ، على خلاف فِيهِ. وَمِنْهَا تمسكهم بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد فِي جمع الْقُرْآن فِي الْمُصحف، وَلم يصادفوا فِي ذَلِك نصا، وَلَو صادفوا لابتدروا إِلَيْهِ فِي أول الزَّمَان، ومشهور أَن كتبة الْمَصَاحِف تمت فِي زمن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ.

(3/191)


وَمِمَّا تمسكوا فِيهِ بِالرَّأْيِ مسَائِل من الطَّلَاق، نَحْو تَخْيِير الزَّوْجَة والتلفظ بِلَفْظ التَّحْرِيم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى " كَثْرَة ".
وعد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ من هَذِه الْجُمْلَة كَلَامهم الْمَأْثُور فِي عقد الْخلَافَة لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُم تمسكوا فِي بَدْء الْأَمر بأطراف

(3/192)


الِاجْتِهَاد وَنحن " نرى " لَك أَن تجتزئ بِمَا قدمْنَاهُ حَتَّى لَا ينجر الْكَلَام إِلَى الْإِمَامَة والتنصيص عَلَيْهَا، وَوجه الِاخْتِيَار فِيهَا / فَثَبت بِمَا ذَكرْنَاهُ تمسك أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَرَضي عَنْهُم بِالِاجْتِهَادِ والتحري فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الْمسَائِل وأمثالها.
1629 - وَالَّذِي يعضد الْأَدِلَّة شَيْئَانِ اثْنَان هما كالركنين للدليل.
أَحدهمَا أَن نقُول: لَا يَخْلُو حَال الصَّحَابَة فِي الْحَوَادِث الَّتِي ذَكرنَاهَا وأمثالها: إِمَّا أَن لَا تكون مَعَهم فِيهَا نُصُوص قواطع، وَإِمَّا أَن تكون مَعَهم فِيهَا نُصُوص عثروا بأجمعهم عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَن يَكُونُوا مَعَ بَعضهم فِيهَا نُصُوص.
وَيبْطل ادِّعَاء عثورهم بأجمعهم على النُّصُوص، فَإِنَّهُ ظهر واشتهر مِنْهُم التَّمَسُّك بِالِاجْتِهَادِ فِي طرق الِاعْتِبَار، ووضح عَنْهُم الِاخْتِلَاف، وَلَو كَانَت مَعَهم نُصُوص قواطع لما اخْتلفُوا وَلما سوغ بَعضهم لبَعض التَّمَسُّك بِرَأْيهِ فِي فَتَاوِيهِ واجتهاداته. إِذْ لَا عذر لمن يُخَالف النَّص الْمَقْطُوع بِهِ.
وَأَيْضًا، فَلَو علمُوا نصوصا، لنقلت عَنْهُم، كَمَا نقلت سَائِر النُّصُوص " فَبَطل " أَن تكون فِي المسئلة نُصُوص وَقد ذهلوا بأجمعهم عَنْهَا، فَإِنَّهُ لَو

(3/193)


كَانَ كَذَلِك وَقد اخْتلفُوا وسوغ كل وَاحِد مِنْهُم لصَاحبه اتِّبَاع رَأْيه وحظر عَلَيْهِ التَّقْلِيد لَكَانَ ذَلِك اتِّفَاقًا مِنْهُم على الْبَاطِل.
وَلَو سَاغَ ذهولهم عَن النُّصُوص فِي الْحَوَادِث الَّتِي ذَكرنَاهَا، لم نَأْمَن ذهولهم عَن أصُول الشَّرِيعَة، " لم ينقلوها " وَلم نَأْمَن تحريفهم مَا نقلوه متعمدين أَو مقصرين فِي ذَلِك. وَهَذَا أعظم الافتراء على أَصْحَاب الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَفِيمَا قدمْنَاهُ من أَدِلَّة الْإِجْمَاع مَا يحسم هَذِه التجويزات.
فَإِن قيل: فَمَا يؤمنكم أَن النَّص كَانَ مَعَ بَعضهم دون بعض؟
قُلْنَا: فَهَذَا أَيْضا تورط فِيمَا ذَكرْنَاهُ، فَإِن الَّذِي يقدر " مَعَه " النَّص كَانَ من حَقه أَن يمْنَع الكافة من مُخَالفَة مُقْتَضَاهُ، وَلَا يسوغ لَهُم تتبع اجتهادهم فَلَو قدر مِنْهُم الصمت على نقل النَّص وتسويغ الْخلاف، وَقدر من البَاقِينَ عدم العثور على ذَلِك النَّص، فَهَذَا بِعَيْنِه يُفْضِي إِلَى مصيرهم إِلَى خلاف الْحق وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ، فَهَذَا أحد الرُّكْنَيْنِ.
1630 - والركن الثَّانِي مَا ذَكرْنَاهُ فِي خلل الْكَلَام من أَن الصَّحَابَة مَعَ اخْتلَافهمْ وتناظرهم فِي الْمسَائِل، مَا كَانَ يحسم وَاحِد عَن أَصْحَابه بَاب الْفَتْوَى بِرَأْيهِ واجتهاده.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَهَذَا مَنْقُول عَنْهُم ضَرُورَة، فَكَمَا نعلم من أهل عصرنا أَن الْمُخْتَلِفين فِي الْمسَائِل المجتهدة يجوز كل طَائِفَة للباقين اتِّبَاع الِاجْتِهَاد فَكَذَلِك نعلم ذَلِك قطعا من عادات أَصْحَاب الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .

(3/194)


فالمقصد من الْأَدِلَّة إِذا، أَنا فَرضنَا إِثْبَات الْأَحْكَام فِي عصر الصَّحَابَة مَعَ عدم النُّصُوص وَتحقّق جِهَات الِاحْتِمَالَات.
1631 - وَدَاوُد ومتبعوه من نفاة الْقيَاس لَا يرَوْنَ إِلَّا التَّمَسُّك بالنصوص فَإِن عدمت فَلَا حكم لله على الْمُكَلّفين من الْحَوَادِث الشاغرة عَن النُّصُوص. وَهِي كجملة الْأَفْعَال قبل وُرُود الشَّرَائِع.
1632 - وللمخالفين على هَذِه الدّلَالَة أسولة.
مِنْهَا أَن قَالُوا: قد عولتم فِي تمهيد الدّلَالَة على أَن الصَّحَابَة، كَانَ يسوغ بَعضهم لبَعض اتِّبَاع اجْتِهَاده من غير منع فِيهِ. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ادعيتموه.
فَإِنَّهُم كَانُوا يعظمون النكير فِي صور الِاخْتِلَاف.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت لزيد بن أَرقم - وَقد جوز زيد بيع الْعينَة - / لقد أبطل جهاده مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .

(3/195)


وَكَذَلِكَ تناكر أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي مسَائِل من الْفَرَائِض اخْتلفُوا فِيهَا حَتَّى قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - إِن الَّذِي أحصى رمل عالج عددا، لم يَجْعَل فِي المَال نصفا وثلثين إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يُؤثر عَنْهُم.
1633 - " فَنَقُول " لَيْسَ لكم فِيمَا ذكرتموه معتصم، من أوجه: -
أَحدهَا أَن التَّمَسُّك بآحاد هَذِه الْأَخْبَار لَا يقْدَح فِيمَا اعتصمنا بِهِ من اختلافاتهم وَعدم منع كل وَاحِد مِنْهُم أَصْحَابه فِي اتِّبَاع اجْتِهَاده، وَقد ادعينا الضَّرُورَة فِي ذَلِك وَمثل هَذَا الأَصْل لَا يخرم بآحاد الْأَلْفَاظ تذكر وتوثر.
وَهَذَا كَمَا أَنه تجْرِي فِي زَمَاننَا بَين المتناظرين من الْفُقَهَاء التخطئة وَرُبمَا

(3/196)


يتعدونها، وَرُبمَا يَقُول شَافِعِيّ الْمَذْهَب، أَخطَأ أَبُو حنيفَة، وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيّ.
ثمَّ هَذَا إِذا اتّفق التَّلَفُّظ بِهِ، لَيْسَ بقادح فِي الْإِجْمَاع المنعقد على أَن كل إِمَام لَا يمْنَع اتِّبَاع اجْتِهَاده فِي مسَائِل الْفُرُوع، فَهَذَا وَجه فِي الْجَواب.
وَالْوَجْه الآخر أَن نقُول: لَيْسَ فِي شئ مِمَّا ذكرتموه، الْمَنْع من التَّعَلُّق بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد، بل اتَّفقُوا كلهم بطرق الِاجْتِهَاد. ثمَّ تلفظ بَعضهم بِمَا ذكرتموه وَلم يقل أحد مِنْهُم أَن التَّمَسُّك بِالِاجْتِهَادِ غير سَائِغ. ومقصدنا فِي طرد الدلالات إِثْبَات التَّمَسُّك بِأَصْل الِاجْتِهَاد عِنْد عدم النُّصُوص، وَلم يُؤثر فِي أصل الِاجْتِهَاد " تناكر ".
على أَنا سنفرد لتأويل مَا تمسكوا بِهِ من الْأَخْبَار فصلا، نطلعك فِيهِ على الْوُجُوه الَّتِي تناكروا لأَجلهَا.
1634 - ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه من تناكرهم لَا يغنيكم.
وَذَلِكَ أَنا نقُول: قد عدم النُّصُوص فِي حوادث، وَمن ادّعى أَن كل صُورَة تكلم فِيهَا الصَّحَابَة وَاخْتلفُوا فِيهَا كَانَ الحكم فِيهَا مَنْصُوصا " عَلَيْهِ " من الْكتاب وَالسّنة، فقد افترى عَلَيْهِم افتراء عَظِيما، واقترب من جحد الضَّرُورَة. فَإنَّا نعلم بالطرق المستفيضة، أَنهم تكلمُوا فِي شذوذ من الْمسَائِل،

(3/197)


وَكَانَت تعن على " مر " الدهور وَمَا صادفوا فِيهَا خَبرا مَنْقُولًا نصا، وَلَا آيَة من كتاب الله تَعَالَى. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
1635 - سُؤال آخر لَهُم.
فَإِن قَالَ قَائِل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم إِنَّمَا اخْتلفُوا لوجه آخر، سوى مَا ادعيتموه. وَذَلِكَ أَن بَعضهم رُبمَا تمسك بِعُمُوم، وَرَأى التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ وَاجِبا قطعا، و " لم ير " بَعضهم " جملَة " التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ أصلا ورى على الْأَقَل. وَذهب بَعضهم إِلَى التَّمَسُّك بِمَفْهُوم الْخطاب، وَأنكر بَعضهم القَوْل بِدَلِيل الْخطاب، وآثر بَعضهم القَوْل بقضية الْعقل مستصحبا إِيَّاهَا. فَكَأَن اخْتلَافهمْ لهَذِهِ الْوُجُوه، لَا للتمسك بالآراء والاجتهادات.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من أوجه، أَحدهَا أَن نقُول: قد نقلنا عَنْهُم رَضِي الله عَنْهُم التَّمَسُّك بالاجتهادات وطرق التآخي والتحري والتمثيلات نقلا مستفيضا، من أنكر ذَلِك كَانَ معاندا وَكَانَ بِمَنْزِلَة من أنكر أصلا اخْتلَافهمْ.
وَالْوَجْه الآخر فِي الْجَواب أَن نقُول: إِن لم تساعدونا على نقل الِاجْتِهَاد من جَمِيعهم، " فَلم " تنكرون أَن بَعضهم تمسك بِالِاجْتِهَادِ فِي زمن الصَّحَابَة وانتشر ذَلِك فيهم، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى / جَحده.

(3/198)


ثمَّ مَعَ ذَلِك لم يُنكر أحد أصل الِاجْتِهَاد، وَإِنَّمَا تكلمُوا فِي تفاصيله.
1636 - فَإِن قَالُوا: ألستم قدمتم فِي مسَائِل الْإِجْمَاع، أَن القَوْل الْمُنْتَشِر الَّذِي لم يبد عَلَيْهِ نَكِير، لَا ينزل منزلَة الْإِجْمَاع؟
قُلْنَا: إِن سلكنا طَريقَة بعض أَصْحَابنَا فِي تَنْزِيل ذَلِك منزلَة الْإِجْمَاع فَفِيهِ دفع السُّؤَال. على أَنا وَإِن سلكنا الطَّرِيقَة الْأُخْرَى، فَلَيْسَ فِيمَا ذكرتموه مخلص. وَذَلِكَ أَنا إِنَّمَا نجوز تَقْدِير الصمت وَالسُّكُوت على القَوْل الْمُنْتَشِر إِذا لم يكن فَسَاده وَصِحَّته مَقْطُوعًا بِهِ، فَيحمل صمت الصامتين على وُجُوه ذَكرنَاهَا.
وَأما إِذا كَانَت المسئلة مَقْطُوعًا بهَا، فَلَا يسوغ أَن يظْهر الْوَاحِد خلاف الْحق فِيهَا. ويصمت عَنهُ الْبَاقُونَ وَالْقَوْل بِالِاجْتِهَادِ وَالْكَلَام فِيهِ نفيا وإثباتا من القطعيات.
1637 - وَالْجَوَاب الآخر أَن نقُول: مَا ذكرتموه من تمسككم بالطرق الَّتِي أشرتم إِلَيْهَا، لَا تَحْقِيق وَرَاءه وَذَلِكَ أَن نقُول: تِلْكَ الطّرق لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون قواطع فَإِن ادعيتم أَنَّهَا كَانَت قواطع، فقد خرقتم الْإِجْمَاع. فَإِن الْأمة مجمعة على اسْتِحَالَة اجْتِمَاع أَدِلَّة قَطْعِيَّة على أَحْكَام مُخْتَلفَة فِي حَادِثَة وَاحِدَة.
وَأَنْتُم معاشر نفاة الْقيَاس لَا تَقولُونَ بتصويب الْمُجْتَهدين، والقائلون بتصويب الِاجْتِهَاد إِنَّمَا يَقُولُونَ بِهِ عِنْد غلبات الظنون وفقد أَدِلَّة قَاطِعَة.
فَبَطل أَن يُقَال: كل مَا تمسكوا بِهِ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ.
1638 - وَإِن زَعَمُوا أَن وَاحِدًا من الطّرق الَّتِي تمسكوا بهَا كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فقد عَاد بِنَا الْكَلَام إِلَى أَن العاثر عَلَيْهِ لَا يمْنَع مخالفيه عَن اجتهادهم وَلم

(3/199)


يحسم عَلَيْهِم بَاب التَّحَرِّي، فيجتمع من عدم عثور البَاقِينَ على الدّلَالَة القاطعة من تسويغ العاثر عَلَيْهَا الِاخْتِلَاف، تَجْوِيز اجْتِمَاعهم على الضلال، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ مَعَ القَوْل بِحجَّة الْإِجْمَاع. فَثَبت بجملة مَا ذَكرْنَاهُ أَن مَا أومأوا إِلَيْهِ وادعوه لَيست بأدلة قَاطِعَة وَإِذا ثَبت أَنَّهَا لَيست بنصوص فقد وضح اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي الْأَحْكَام مَعَ عدم النُّصُوص ووضوح طرق الِاحْتِمَالَات.
(283) فصل

ذكر بعض الْأَخْبَار والْآثَار فِي مصير أَئِمَّة الصَّحَابَة إِلَى الرَّأْي

1639 - ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بعد مَا طرد الْأَدِلَّة آحادا من الْأَخْبَار فِي مصير أَئِمَّة الصَّحَابَة إِلَى الرَّأْي، وكل وَاحِد مِنْهَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَلَكِن يتَبَيَّن بجملتها استفاضة الْمَعْنى، وَإِن لم يستفض كل خبر على حياله.
فَمِنْهَا مَا يرويهِ مَيْمُون بن مهْرَان عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " إِذا ورد حكم. نظرت فِي كتاب الله تَعَالَى فَإِن وجدت فِيهِ مَا " أقضى " بِهِ نظرت فِي سنة رَسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَإِن وجدت فِيهَا مَا اقضى بِهِ قضيت بِهِ، وَإِن أعياني ذَلِك، سَأَلت النَّاس، هَل علمْتُم أَن نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ

(3/200)


فِي ذَلِك قولا، فَإِن لم أجد استشرت الْعلمَاء. فَإِن أجمع رَأْيهمْ على شَيْء قضيت بِهِ وَهَذَا تَصْرِيح بإجماعهم على الرَّأْي.
وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان وَكَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يفعل مثل ذَلِك. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من عرض لَهُ قَضَاء فليقض بِمَا فِي كتاب الله تَعَالَى فَإِن جَاءَهُ أَمر لَيْسَ فِي كتاب الله عز وَجل / فليقض بِمَا قضى بِهِ نبيه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (فَإِن جَاءَهُ أَمر لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى) وَلم يقْض بِهِ نبيه وَلَا الصالحون فليجتهد بِرَأْيهِ.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يفعل ذَلِك على التَّرْتِيب الَّذِي روينَاهُ.

(3/201)


وَكتب عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ كتابا مَشْهُورا، وَفِيه " الْفَهم الْفَهم فِيمَا " أدلى " إِلَيْك مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآن وَلَا سنة. ثمَّ قايس الْأُمُور عِنْد ذَلِك، واعرف الْأَمْثَال والأشباه، واعمد إِلَى أشبههَا بِالْحَقِّ " وَهَذَا تَصْرِيح بِالْأَمر بِالْقِيَاسِ.
وَقَالَ عمر لعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا " إِنِّي رَأَيْت فِي الْجد رَأيا، فَاتبعُوني " فَقَالَ عُثْمَان: " إِن نتبع رَأْيك فرأيك سديد، وَإِن نتبع رَأْي من كَانَ قبلك يَعْنِي أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ - فَنعم ذُو الرَّأْي كَانَ ".
وَرُوِيَ عَن زَاذَان أَنه قَالَ: تَذَاكر الْعلمَاء الْخِيَار عِنْد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ عَليّ: " إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر قد سَأَلَني عَنهُ،

(3/202)


فَقلت لَهُ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَهِيَ وَاحِدَة وَهُوَ أَحَق بهَا فَبَايَعته. فَلَمَّا خلص الْأَمر إِلَيّ وَعلمت أَنِّي أسئل عَن الْفروج، عدت إِلَى مَا كنت أرى فَقَالُوا: أَمر جامعت عَلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَتركت رَأْيك لَهُ، أحب إِلَيْنَا من أَمر تفردت بِهِ، فَضَحِك وَقَالَ: أما أَنه أرسل إِلَى زيد بن ثَابت فخالقي وإياه، فَقَالَ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَهِيَ وَاحِدَة وَزوجهَا أَحَق بهَا، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَهِيَ ثَلَاثَة لَا تحل لَهُ حَتَّى تنْكح زوجا غَيره.
وروى عُبَيْدَة عَن عَليّ بن / أبي / طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: استشارني عمر فِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد، فأجمعت أَنا وَهُوَ على عتقهَا، ثمَّ رَأَيْت بعد، أَن أرقهن. فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَة: رأى ذَوي عدل أحب إِلَى من رأى عدل

(3/203)


وَاحِد.
وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود فِي قصَّة بروع بنت واشق أَقُول فِيهَا برأيي فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله، وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان.
وَقَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي ديات الْأَسْنَان لما قسمهَا عمر رَضِي الله عَنهُ على اخْتِلَاف مَنَافِعهَا هلا اعتبرها بالأصابع، عقلهَا سَوَاء وَإِن اخْتلفت مَنَافِعهَا.

(3/204)


وَقَالَ ابْن عَبَّاس " أَلا يَتَّقِي الله زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الإبن ابْنا وَلَا يَجْعَل / أَب / الْأَب أَبَا.
فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَأَمْثَاله مِمَّا أضربنا عَنهُ، يَقْتَضِي خوض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي طرق الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِي " الْحَوَادِث " الَّتِي عدموا فِيهَا النُّصُوص.
1640 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ قد صَار تمسكهم بِالرَّأْيِ وتسويغهم التَّعَلُّق بطرق الإجتهاد مدْركا ضَرُورَة كَمَا أدْرك اخْتلَافهمْ على الْجُمْلَة ضَرُورَة، وَإِن كَانَت صُورَة الِاخْتِلَاف نقلت آحادا.
1641 - وَمِمَّا اعْترض بِهِ نفاة الْقيَاس على هَذِه الدّلَالَة أَن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم كَانُوا يجتهدون ويعملون بِمَا يرَوْنَ، بيد أَن طَرِيق إجتهادهم كَانَ جمع النُّصُوص والبحث عَنْهَا وَحمل الْعُمُوم على الْخُصُوص، وَذكر النَّاسِخ والمنسوخ، واستنباط دَلِيل الْخطاب، وَمَفْهُومه من الْمَنْطُوق بِهِ إِلَى غير ذَلِك من طرق التَّصَرُّف والألفاظ والظواهر؟

(3/205)


فَيُقَال لَهُم: قد " فرط " مِنْكُم هَذَا السُّؤَال. وَنحن الْآن نقُول فِي جَوَابه، إِن زعمتم معاشرة نفاة الْقيَاس أَنه لم يتَّفق فِي زمن أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَرَضي عَنْهُم حَادِثَة شاغرة عَن النُّصُوص ووجوه خطاب الْكتاب وَالسّنة منطوقا ومفهوما وخصوصا وعموما، فقد جحدتم الضَّرُورَة.
وَكَذَلِكَ إِن أنكرتم تمسكهم / فِي " أَمْثَال " هَذِه الْحَوَادِث بطرق الْأَمْثَال والأشباه، فقد باهتم مباهتة عَظِيمَة. وأفصحتم بمراغمة الضَّرُورَة. وَلَيْسَ علينا إِلَّا إِيضَاح الطّرق. فَإِن باهتم، قطع الْكَلَام عَنْكُم.
على أَنا نقُول: وَالَّذِي تمسكوا بِهِ كَانَ من الْأَدِلَّة القطعية أَو لم يكن مِنْهَا؟ وَقد سبق إستقصاونا لذَلِك " مَا يُغني " عَن إِعَادَته.
(284 فصل)

(مُشْتَمل على ذكر مَا يتَمَسَّك بِهِ نفاة الْقيَاس من الظَّوَاهِر)

1642 - فمما تمسكوا بِهِ، مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا من صُدُور الرِّجَال، وَلَكِن يقبض الْعلمَاء، فَإِذا لم يبْقى عَالم، اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا، فأفتوا برأيهم، فضلوا وأضلوا. فَجعل

(3/206)


الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ ضلالا.
وَمن ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " تعْمل هَذِه الْأمة بُرْهَة بِكِتَاب الله، وبرهة بِسنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وبرهة بِالرَّأْيِ، فَإِذا فعلوا ذَلِك، فقد ضلوا ".
وَرُوِيَ عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ " تفترق أمتِي على بضع وَسبعين فرقة أضرها على أمتِي قوم يقيسون الْأُمُور بآرائهم، فيحللون الْحَرَام ويحرمون الْحَلَال ".
وَرُوِيَ عَن معَاذ بن جبل عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ حِين بَعثه إِلَى الْيمن " إِذا جَاءَك مَا لَيْسَ فِي كتاب الله وَلَا فِي سنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَاكْتُبْ إِلَيّ فِي ذَلِك ".

(3/207)


قَالُوا: وروى وَاثِلَة بن الْأَسْقَع عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " لم يزل أَمر بني إِسْرَائِيل مُسْتَقِيمًا حَتَّى حدث فيهم السبايا، فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلو ".
وَرُوِيَ / عَن / عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ. قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " مَا تركت شَيْئا مِمَّا " أَمركُم " الله بِهِ إِلَّا وَقد أَمرتكُم بِهِ، وَلَا شَيْئا مِمَّا نهاكم عَنهُ إِلَّا وَقد نَهَيْتُكُمْ عَنهُ ".
قَالُوا: فَهَذَا دَلِيل على أَن مَقَاصِد الْأَحْكَام محصورة فِي كتاب الله وَسنة نبيه، وَلَا تعدوهما.
1643 - وَمِمَّا اعتصموا بِهِ من وَجه الْآثَار، مَا رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ، أَنه قَالَ: " أَي سَمَاء تُظِلنِي وَأي أَرض تُقِلني، إِذا قلت فِي كتاب الله برأيي ".
وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ " إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي، فَإِنَّهُم أَعدَاء السّنَن، أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يحفظوها، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فضلوا وأضلوا ".

(3/208)


وَعَن عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا " لَو كَانَ الدّين بِالْقِيَاسِ لَكَانَ مسح بَاطِن الْخُف أولى من ظَاهره ". قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: وَلَكِنِّي رَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يمسح ظاهرهما.
وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ " إِذا مضى قراؤكم وعلماؤكم فيتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيقيسون مَا لم يكن بِمَا كَانَ، فَإِن علمْتُم بِالْقِيَاسِ أحللتم كثيرا مِمَّا حرم الله، وحرمتم كثيرا مِمَّا أحل الله.
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ " أَن الله لم يَجْعَل لأحد أَن يحكم فِي دين الله بِرَأْيهِ، وَقَالَ لنَبيه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] {لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أرك الله} وَلم يقل بِمَا رَأَيْت.
فَهَذَا وَأَمْثَاله مِمَّا تمسكوا بِهِ.

(3/209)


1644 - وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من أوجه:
أَحدهَا أَن نقُول: هَذَا تعرض مِنْك لمعارضة مَا " نقل " عَن الصَّحَابَة ضَرُورَة وتواترا، بآحاد من الْآثَار، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيم. ويداني مَا تمسكتم بِهِ من الْآثَار مَا نقل عَن الصَّحَابَة من ذمّ الإختلاف وَالنَّدْب إِلَى اتِّحَاد الْكَلِمَة، مَعَ علمنَا ضَرُورَة فِي بعض الْحَوَادِث باختلافهم.
على أَن مُعظم مَا رَوَوْهُ من الْأَخْبَار والْآثَار مطعونة، لم يتقبلها أهل " الصِّنَاعَة " فإياك وَأَن / تكثرت بِمَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار، فَإِنَّهُم عارضوا بهَا المستفيض الْمُتَوَاتر. على أَنا سنؤمن إِلَى طرق تَأْوِيلهَا.
1645 - فَأَما مَا تمسكوا بِهِ من الْأَخْبَار، فنعارضهم أَولا، بِمَا هُوَ أثبت مِنْهَا نقلا وَأَصَح رِوَايَة من الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن " بِمَ تحكم يَا معَاذ؟ قَالَ بِكِتَاب الله. قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / قَالَ / فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فأجتهد رَأْيِي فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُوله لما يرضاه / الله / وَرَسُوله.

(3/210)


وَهَذَا حَدِيث صَحِيح متلقى بِالْقبُولِ، صَرِيح فِي إِثْبَات الْقيَاس.
وَقد حكم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] للسَّائِل عَن قبْلَة الصَّائِم " أَرَأَيْت لَو تمضمضت؟ " وَهَذَا قِيَاس مِنْهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
وَقَالَ للخثعمية الَّتِي أَحرمت عَن أَبِيهَا " أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته؟ " وَهَذَا تَشْبِيه مِنْهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لِلْحَجِّ بِالدّينِ. إِلَى غير

(3/211)


ذَلِك من الْأَخْبَار الَّتِي يطول تتبعها.
1646 - " وَأما " مَا اعتصموا بِهِ من الْأَخْبَار، فلك " فِيهَا " طَرِيقَانِ.
أَحدهمَا: أَن لَا تقبلهَا لكَونهَا آحادا. وَقد ثَبت الْإِجْمَاع الْمَقْطُوع بِهِ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تتأولها أسهل المرام، و " لَهَا " طرق.
أَحدهَا: أَن يحمل على قِيَاس الْجُهَّال، الذاهبين عَن النُّصُوص مَعَ ثُبُوتهَا الذاهلين عَن طرق الإستنباط. وعَلى هَذَا يدل فحوى مُعظم الْأَحَادِيث الَّتِي تمسكوا بهَا. وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " اتَّخذُوا رُؤَسَاء جُهَّالًا " وَنحن نعلم أَنه لَا سَبِيل إِلَى حمل ذَلِك على عُلَمَاء الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، فَهَذَا وَجه.
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يحمل على الْقيَاس مَعَ وجود النُّصُوص، وَترك الْبَحْث عَنْهَا، وَعَلِيهِ تدل أخبارهم إِذا تتبعتها.
وَالْوَجْه الآخر أَن يحمل على الرَّأْي الْمُجَرّد، والإستحسان الَّذِي هُوَ آئل إِلَى التشهي دون سَبِيل الاستنباط.
1647 - وَمِمَّا حمل القَاضِي رَضِي الله عَنهُ إخبارهم عَلَيْهِ أَن قَالَ / مَا / يؤمنكم أَنكُمْ لما اعتبرتم منع الْقيَاس عِنْد فقد النُّصُوص

(3/212)


" بِمَنْعه " عِنْد وجودهَا كُنْتُم من هَذَا الْوَجْه قائسين، وَإِيَّاكُم عَنى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالْمَنْعِ من الْقيَاس.
فوضح طَرِيق التَّأْوِيل، وَتبين أَن مَا اعتصموا بِهِ مِمَّا لَا يسوغ مُعَارضَة الْإِجْمَاع بِهِ.
1648 - وَقد ذكر الطَّبَرِيّ فِي خلل الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث معَاذ فِي إِثْبَات الْقيَاس، ثمَّ وَجه على نَفسه سؤالا فَقَالَ: فَلَو قَالُوا: هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد، لَقلت فِي جوابهم: يجوز الِاسْتِدْلَال بأخبار الْآحَاد (فِي إِثْبَات الْقيَاس) كَمَا يجوز الِاسْتِدْلَال بهَا فِي إِثْبَات الْأَحْكَام.
وَهَذِه هفوة عَظِيمَة. وَسَنذكر فِي كتاب الِاجْتِهَاد أَن أصُول أَدِلَّة الشَّرِيعَة لَا تثبت إِلَّا بِمَا يَقْتَضِي الْعلم من الْأَدِلَّة القاطعة، وَمن قَالَ غير ذَلِك فقد زل زلَّة عَظِيمَة.
وَإِنَّمَا أوردنا ذَلِك لننبهك على وَجه خطئه.
وَقد ذكر رَضِي الله عَنهُ جملَة من الظَّوَاهِر لمنكري الْقيَاس والفصل عَنْهَا وقابلها بظواهر أوضح مِنْهَا فِي الْآي وَالْأَخْبَار. وَلَو تتبعناها لخرج الْمَذْهَب عَن حد الْمطلب. وَفِيمَا قدمْنَاهُ غنية إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(285 القَوْل فِي الْكَلَام على القاساني والنهرواني وَمن تبعهما وَقَالَ بقولهمَا)

1649 - اعْلَم أَن هذَيْن قد ذَهَبا مذهبا آخر فِي أَمر الأقيسمة فَقَالُوا: كل

(3/213)


حكم نقل عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي شخص بِعَيْنِه / أَو قَضِيَّة بِعَينهَا وَنقل عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تَعْلِيل الحكم فِي ذَلِك الشَّخْص الْمعِين، فنعلم أَن الْعلَّة الْمَذْكُورَة فِيهِ تعم فِيهِ وَفِي غَيره وَإِن لم يعمها رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " بِلَفْظَة " قَالُوا: وَكَذَلِكَ إِذا وَردت عَنهُ لَفْظَة منبئة عَن التَّعْلِيل وَإِن لم يكن صَرِيحًا فِيهَا. وَكَذَلِكَ إِذا نَقله الرَّاوِي الموثوق بِهِ فِي معرض يَقْتَضِي التَّحْلِيل، كَمَا روى أَن ماعزا زنا، فرجمه رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وكما روى أَنه سَهَا فَسجدَ وَهَذِه الْأَلْفَاظ وأمثالها منبئة عَن التَّعْلِيل، إِذْ لَا فصل بَين قَول الْقَائِل. رجم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ماعزا لزناه وَبَين أَن يَقُول زنا فرجمه.
1650 - ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فيهمَا وَفِي مَذْهَبهمَا.
فَذهب بَعضهم إِلَى أَن مَا صَارُوا إِلَيْهِ لَيْسَ بقول بِالْقِيَاسِ. وَإِنَّمَا هُوَ تتبع مِنْهُم للنَّص وَذهب بعض القائسين إِلَى أَن مَا قَالُوهُ، قَول بِالْقِيَاسِ على تَفْصِيل

(3/214)


فكأنهم قبلوا بعض أَنْوَاع الْقيَاس، وردوا بَعْضهَا.
1651 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: الصَّحِيح عندنَا أَن نقُول: إِن قَالُوا: أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا نَص على تَعْلِيل حكم فِي شخص معِين. وَلم يعمم الْعلَّة فِي النَّاس كَافَّة، وَلم يسْبق مِنْهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تنصيص صَرِيح على طرد علله الوارده فِي الْأَشْخَاص المعينين، فَمن " عدى " الْعِلَل - وَالْحَالة هَذِه - عَن مواردها، فَهُوَ قَائِل بطرد الْقيَاس لَا محَالة.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنا لَو تتبعنا النُّصُوص لم ترد على مقتضياتها فِي اختصاصها وعمومها، فَإِذا وَردت الْعلَّة مُخْتَصَّة بشخص معِين، فَلَيْسَ فِي قَضِيَّة اللَّفْظ وصيغته تعميمها.

(3/215)


فَمن عَداهَا عَن موردها، لم يكن متمسكا بِمُوجب اللَّفْظ، بل كَانَ معتصما بِضَرْب من الِاعْتِبَار وَالْقِيَاس.
1652 - فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : رجمت ماعزا لانه زنا، فنعلم بِمُقْتَضى اللُّغَة وَمُوجب الْعَرَبيَّة أَن لفظ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يقتضى أَن يرْجم كل زَان.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك فِي مُوجب الاطلاق، أَن من قَالَ لمن يخاطبه: لَا تَأْكُل هَذِه البقلة، فَإِنَّهَا سم. فنعلم أَن ذَلِك يتَضَمَّن النَّهْي عَن تنَاول جملَة السم وَأَن نَص الْمُخَاطب على عين وَاحِدَة.
فَكَذَلِك القَوْل فِيمَا فِيهِ كلامنا.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه اقْتِصَار مِنْكُم على مُجَرّد الدَّعْوَى، فلسنا نسلم أَن لفظ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي تَعْلِيل رجم مَاعِز لزناه يَقْتَضِي تَعْمِيم ذَلِك الحكم فِيمَن عداهُ. وَلَكِن إِذا خصص تَعْلِيله بِهِ، فيسوغ أَن يحمل ذَلِك على أَنه جعل الزِّنَا فِي حَقه عَلامَة للْحكم الَّذِي جرى عَلَيْهِ تَخْصِيصًا.
والأقيسة الشَّرْعِيَّة أَمَارَات تنصب وَلَا يجب تعميمها، بل يسوغ نصبها فِي حق اقوام مخصوصين، ويسوغ نصبها عُمُوما وشمولا فَإِذا كَانَ الْأَمر على هَذَا الْوَجْه فِي الأمارات من حَيْثُ الْجَوَاز الْعقلِيّ، فيتقابل الْجَوَاز، وَلَا يبْقى لنا إِلَّا اتِّبَاع صِيغَة اللَّفْظ.
وَأما مَا تمثلها بِهِ من قَول الْقَائِل لمن يخاطبه لَا تَأْكُل ذَلِك فَإِنَّهُ سم، فَلَا معتصم لَهُم فِيهِ، وَأول مَا نذكرهُ أَن نقابله بِمثلِهِ، فَنَقُول: لَو قَالَ سيد

(3/216)


العَبْد لوَكِيله " بِعْ هَذَا العَبْد فَإِنَّهُ أسود " لم يكن للْوَكِيل أَن يَبِيع جملَة العبيد السود فِي ملكه، وَإِن علل بيع " العَبْد " الْمعِين لكَونه أسود، فَهَذَا فِي مُقَابلَة مَا قَالُوا.
1653 - ثمَّ نقُول: مَا ذكرتموه لَو سلم لكم فَذَاك لأَنا علمنَا أَن بَعْضنَا فِي مجاري الْعَادَات يرق لبَعض ويبتغي مصْلحَته، ويضبط ذَلِك نظرا من الْأَحْوَال. فَإِذا زجر الزاجر صَاحبه عَن تنَاول السم المجهز، وَقد تقررت من الْأَحْوَال الْمُقْتَضِيَة " التوقي " بمحاذرة المهالك / فِي إشفاق الْبَعْض على الْبَعْض لرقة الجنسية، أَو غَيرهَا من الْأَحْوَال.
فَرُبمَا يفهم مِمَّا ذكرتموه التَّعْلِيل فِي السمُوم أجمع، فَأَما الفاظ صَاحب الشَّرِيعَة فَلَا يسوغ حملهَا على قضايا الْمصَالح، فَإِن الشَّرَائِع على مَذْهَب أهل الْحق، لم تبن على الْمصَالح. وَلم يَتَقَرَّر فِي موارد الشَّرِيعَة من قَرَائِن الْأَحْوَال مَا تحقق بَين أظهرنَا فَلم يكن لنا أَن نتبع مُوجب اللَّفْظ، خص أَو عَم. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.
فَتبين بجملة مَا قُلْنَاهُ، أَن مَا صَار إِلَيْهِ الْقَوْم، ضرب من الاعتطاف وَلَو قَدرنَا أَن نرد إِلَى النُّصُوص وَالنَّهْي وَالِاعْتِبَار وَالْقِيَاس، لَكنا نخصص الْعِلَل بمواردها.
1654 - فَإِن قيل: الستم قُلْتُمْ أَن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، إِذا خَاطب وَاحِدًا من

(3/217)


الصَّحَابَة بِحكم وَلم يُوضح اخْتِصَاصه، فَالْحكم يثبت فِي حق الْأمة وهم فِيهِ شرع.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي قلتموه من مَذْهَب الْفُقَهَاء. وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ المحصلون أَن الحكم يخْتَص بالمخاطب إِن لم تقم دلَالَة على وجوب تعميمه. وَقد قدمنَا فِي ذَلِك قولا بَينا.
1655 - فَإِن قيل: إِذا رَأَيْتُمْ التَّنْصِيص كَمَا قلتموه، فَقولُوا: أَن الْمنْهِي عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما} التأفيف، دون الضَّرْب وأنواع التعنيف، اتبَاعا للنَّص.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، خُرُوج مِنْكُم عَن حد النّظر، فَإِنَّكُم لم تجمعُوا بَين الْمُخْتَلف فِيهِ وَبَين مَا ذكرتموه بِجَامِع يتَعَيَّن علينا فِي حكم النّظر بعده الْفرق والفصل وَلم توردوه نقضا على دلَالَة تمسكنا بهَا.
1656 - ثمَّ نقُول: اللُّغَات لَا تثبت بالطرق الَّتِي رمتموها من الِاعْتِبَار، والتمسك بالصور وَلَكِن الْمرجع فِيهَا إِلَى السماع. وَقد عرفنَا ضَرُورَة وبديهة، أَن من وصّى مَأْمُورا بإكرام وَالِديهِ والاجتناب عَن أذاهما، ثمَّ نَص فِي التَّحْرِيم على أقل الرتب، وَهُوَ التأفيف.
فَيعلم مَعَ ذَلِك أَنه رام تَحْرِيم الْقَتْل وَالضَّرْب وضروب التعنيف " إِيمَاء " مِنْهُ بِذكر الادنى على الْأَعْلَى وَمن جحد ذَلِك فِي موقع اللُّغَة، كَانَ مباهتا.

(3/218)


وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو قدر الْجمع بَين النَّهْي عَن التأفيف والترخص فِي جملَة أَنْوَاع التعنيف مَعَ تَقْدِيم الْأَمر بالإكرام على الْجُمْلَة، عد ذَلِك من متناقض الْكَلَام. وَلَو نَص رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على تَخْصِيص التَّعْلِيل بشخص معِين، لم يعد ذَلِك من مُضْطَرب الْكَلَام. فَبَطل مَا قَالُوهُ.
(286 فصل)

1657 - فَإِن قَالَ قَائِل: قد ثبتمْ بِمَا قدمتم طرق الأقيسمة، وأوضحتموها فِي الرَّد على منكريها، فَإِذا نقل عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَقد ثَبت وجوب الْقيَاس وَالِاعْتِبَار - عِلّة فِي شخص معِين، فَهَل يحْتَاج فِي رد غَيره إِلَيْهِ إِلَى استنباط وتحر واجتهاد؟
قُلْنَا: إِذا ثَبت التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وتصورت الْحَالة على مَا قلتموه " فَكل " صُورَة تحقق فِيهَا مثل " الْعلَّة " الَّتِي ذكرهَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الشَّخْص الْمعِين " فتردها فِي الحكم إِلَى مورد النَّص فَسَادًا " وَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى سلوك طرق الِاجْتِهَاد فِي إِقَامَة الْأَدِلَّة على اثبات عِلّة الاصل، وَرُبمَا يغمض النّظر فِي تَصْوِير الْعِلَل فِي بعض الصُّور، فَإِذا تصورت وَهِي مَنْصُوبَة فِي صور منصوصة، ابتدرنا إِلَى رد الصُّور الَّتِي وجدت فِيهَا الْعِلَل، إِلَى الصُّور المنصوصة فِي التَّعْلِيل، وَلَو لم تكن الْعِلَل منصوصة، لم يسغْ لنا طرد الْقيَاس إِلَّا بعد إِقَامَة الْأَدِلَّة على إِثْبَات

(3/219)


عِلّة الأَصْل، على مَا سنوضح طرقها، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1658 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَذَا الَّذِي قلتموه آنِفا، ينْقض عَلَيْكُم مَا قدمتموه فِي الْفَصْل الاول، فَإِنَّكُم مهما / قُلْتُمْ أَن من وجدت فِيهِ مثل الْعلَّة المنصوبة، لزم إِثْبَات الحكم فِيهِ على البديهة، من غير استنباط اجْتِهَاد فقد وافقتم من قَالَ أَن التَّنْصِيص على الْعلَّة فِي شخص معِين يتَضَمَّن تعديتها.
قُلْنَا: هَذَا سُؤال من لم يحط علما بمحصول الْبَاب. فَإنَّا إِنَّمَا قُلْنَا مَا قُلْنَاهُ مَعَ تقديرنا ثُبُوت الأقيسة بالأدلة القاطعة، فَلَو قَدرنَا عدم قيام الْأَدِلَّة على وجوب التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وطرق الِاعْتِبَار، وَردت - وَالْحَالة هَذِه - عِلّة منصوصة فِي شخص معِين، لَكَانَ قَضيته اللَّفْظ لَا تَقْتَضِي تَعديَة الحكم إِلَى من سواهُ. وَهَذَا وَاضح لكل متأمل إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(287 فصل)

1659 - ذهب بعض الْقَدَرِيَّة إِلَى الْفَصْل بَين المحللات والمحرمات.

(3/220)


فَقَالَ: إِذا حرم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شَيْئا، وَبَين حظره وقبحه وَعلله بعلة، فَيلْزم مِنْهُ طردها. وَإِن أوجب [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شَيْئا، أَو إِبَاحَة، أَو ندب إِلَيْهِ، وَعلله بعلة، فَلَا يجب طردها.
وَإِنَّمَا حملهمْ على هَذَا الْفَصْل، أصل لَهُم فِي التَّوْبَة، وَهِي من فروع التَّعْدِيل والتجوير وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: أَمر بالقبائح يعم وَلَا يتخصص.
وَلذَلِك قَالُوا: أَنه لَا تصح التَّوْبَة عَن قَبِيح، مَعَ الاصرار على آخر، وَيصِح التَّلَبُّس بِعبَادة، مَعَ ترك أُخْرَى، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا طائل تَحْتَهُ، والخوض / فِيهِ / لَا يَلِيق بِهَذَا الْفَنّ.
القَوْل فِي أَن الْقيَاس على عِلّة الحكم إِنَّمَا " يَنْبَنِي " على ثُبُوت الحكم بثبوتها، وَلَا " يتحتم " انتفاؤه عِنْد انتفائها.
1660 - اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فِي اشْتِرَاط الانعكاس فِي الْعِلَل السمعية وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور، أَنه لَا يشْتَرط فِيهَا الانعكاس.

(3/221)


وَلَكِن إِذا اقْتضى الِاعْتِبَار والاستنباط " تَعْلِيق " حكم بعلة، وَالْحكم يثبت عِنْد ثُبُوتهَا وَلَيْسَ من شَرط الْعلَّة انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها. بل يسوغ أَن تَنْتفِي تِلْكَ الْعلَّة، وتعقبها عِلّة أُخْرَى، فِي اقْتِضَاء " قبيل " الحكم الأول.
1661 - وَذهب بعض الْفُقَهَاء إِلَى أَن من شَرط الْعلَّة أَن يرتبط الحكم بهَا، حَتَّى يُؤثر وجودهَا فِي ثُبُوت الحكم، ويتضمن فقدها انْتِفَاء الحكم.
قَالُوا: وَإِنَّمَا يتَحَقَّق تعلق الحكم بِالْعِلَّةِ على هَذَا الْوَجْه، فَلَو كَانَ الحكم يثبت عِنْد ثُبُوت الْعلَّة، وَلَا يَنْتَفِي عِنْد انتفائها، لما تحقق بَينهمَا تعلق.

(3/222)


1662 - مِمَّا لَا بُد من الْإِيمَاء إِلَيْهِ أَن تعلم / أَن / الْعِلَل الْعَقْلِيَّة يشْتَرط فِيهَا الاطراد والانعكاس. بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء الْقَائِلين بالعلل. وَالْعلَّة الْعَقْلِيَّة مُوجبَة لمعلولها لذاتها وعينها، وَلَا يتَوَقَّف كَونهَا مُوجبَة لمعلولها بعد تحقق وجودهَا، على جعل جَاعل وَنصب ناصب. وَهِي نَحْو الْعلم، الْمُوجب لمحل كَونه عَالما، وَالْقُدْرَة الْمُوجبَة لما قَامَت بِهِ كَونه قَادِرًا، إِلَى غير ذَلِك.
فَمَا هَذَا سَبيله يلْزم فِيهِ الطَّرْد وَالْعَكْس، فَمن قَامَ بِهِ الْعلم، لزم كَونه عَالما، وَمن لم يقم بِهِ الْعلم، لزم خُرُوجه عَن كَونه عَالما. فَمن صَار إِلَى أَن الأقيسة الشَّرْعِيَّة يشْتَرط فِيهَا الاطراد والانعكاس. فَإِنَّهُ ذهب بهَا مَذْهَب الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، وَقد أوضحنا فِي ذَلِك صَدرا من الْكَلَام.
1663 - على أَنا نقُول: أَن الْعِلَل السمعية لَا توجب حكما لعينها إِذْ يسوغ فِي الْمَعْقُول تَقْدِير تَعْلِيق ضد حكمهَا عَلَيْهَا، بَدَلا من حكمهَا. وَلَيْسَت بموجبة لذواتها وَلكنهَا انتصبت إِمَارَة فِيمَا نصبت فِيهِ.
فَإِذا نصب ثُبُوت وصف علما فِي ثُبُوت حكم، فَلَيْسَ من شَرط ذَلِك أَن ينصب عَدمه أَيْضا / علما فِي انْتِفَاء الحكم. وَلَكِن " من " شَرط كَونه علما لَا يتَحَقَّق إِلَّا وَيثبت الحكم.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك، إِنَّا بعد مَا حققنا أَن الْعِلَل السمعية، لَا توجب أحكاما لذواتها، وَبينا مفارقتها للعلل، فقد تبين أَنَّهَا بمضاضاة الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة أولى، إِن لم يكن بُد من التَّشْبِيه.

(3/223)


ثمَّ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، لَا يشْتَرط فِيهَا الانعكاس وفَاقا. فَإِن حدث الْعَالم إِذا دلّ على وجود الْبَارِي لم يدل فَقده على فَقده - تَعَالَى - وَإِذا دلّ الإتقان على المتقن، لم يدل عدم الإتقان على جَهله. وَسَائِر الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تجْرِي على هَذَا الْمنْهَج فوضح بطلَان اشْتِرَاط الانعكاس فِي الْعِلَل السمعية.
1664 - وَمِمَّا نتمسك بِهِ أَن نقُول: معاشر الْمُخَالفين خبرونا هَل " الْقَتْل " بِغَيْر حق وجوب الْكَفّ وَانْتِفَاء الْقصاص، مُوجب للْقَتْل؟
فَإِن قَالُوا: " أجل ".
قيل لَهُم: فَإِذا عقلتم وجوب الْقَتْل بقتل منعوت بالأوصاف الَّتِي يذكرهَا الْفُقَهَاء.
فقد نصبتم الْقَتْل عِلّة لوُجُوب الْقَتْل فَأوجب عَلَيْكُم قَود أصلكم أَن تَقولُوا: إِذا عدم الْقَتْل، انْتَفَى وجوب الْقَتْل. حَتَّى لَا يتَصَوَّر أَن يقتل الْمُرْتَد، وَلَا تَارِك الصَّلَاة، وَلَا الزَّانِي الْمُحصن.
وَإِن أَنْتُم زعمتم أَن الْقَتْل لَيْسَ بعلة، فِي إِيجَاب الْقَتْل، فقد شققتم الْعَصَا، وخرقتم الْإِجْمَاع المنعقد من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ.
1665 - فَإِن قَالُوا: مَا ألزمتموه منعكس حَقِيقَة. وَلَكِن الْعَكْس فِي وَجْهَيْن وَنحن الْآن نبين مَذْهَب الْقَوْم. فأحد الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَكْس، الانعكاس الْمُطلق. وَهُوَ الَّذِي يجب / فِي / الْعِلَل الْعَقْلِيَّة. فَإِذا قُلْنَا: الْعلم

(3/224)


يُوجب كَون مَحَله عَالما، " فَإِذا " انْتَفَى قبيل الْعلم، لزم انْتِفَاء كَونه عَالما مُطلقًا، من كل وَجه، من غير تَقْيِيد.
فَهَذَا هُوَ الْعَكْس الْمُطلق. وَهُوَ لَا يشْتَرط فِي الْعِلَل السمعية.
وَأما الْعَكْس الْمُقَيد، فَهُوَ الَّذِي نقرره الْآن، فِيمَا ألزمتمونا. فَنَقُول: الْقَتْل يُوجب الْقَتْل، وَالرِّدَّة أَيْضا توجب الْقَتْل، وَكَذَلِكَ زنا الْمُحصن. وَلَكِن الْقَتْل الَّذِي يُوجِبهُ الْقَتْل غير الْقَتْل الَّذِي توجبه الرِّدَّة. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي قتل الْمُحصن الزَّانِي، فَهُوَ إِذا أَنْوَاع فِي الْقَتْل مُخْتَلفَة. فَخرج من ذَلِك، أَن الْقَتْل الَّذِي يُوجِبهُ الْقَتْل - وَهُوَ قتل الْقصاص - يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الْقَتْل فلئن وَجب " قتل " الرِّدَّة، فَهُوَ غير الْقَتْل الَّذِي يجب بِالْقَتْلِ قَالُوا: فقد تبين الانعكاس على التَّقْيِيد، فِيمَا ألزمتمونا. وَإِن لم يتَحَقَّق مُطلقًا.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه هذيان بدينكم من جحد الْحَقَائِق والبدائه، فَإِن معولكم على قَوْلكُم أَن الْقَتْل مُخْتَلف. وَهَذَا مَعْلُوم الْفساد ضَرُورَة. فَإنَّا نعلم أَن الْقَتْل فِي الرِّدَّة مجانس للْقَتْل فِي الْقصاص، وَلَا يخْتَلف المثلان فِي حقيقتيهما، فالمصير إِلَى ادِّعَاء " اخْتِلَافهمَا " جحد الضَّرُورَة.
وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ أَن يُقَال فِي العقليات، أَن الْعلم إِذا قَامَ بزيد أوجب كَونه عَالما، " و " إِذا قَامَ بِعَمْرو " لم يُوجب " ذَلِك. فَإِن كَون عَمْرو عَالما

(3/225)


حكم آخر، يُخَالف كَون زيد عَالما. إِذْ قد تغاير المحلان وتباين الذاتان.
وَهَذَا يُفْضِي إِلَى طي الْحَقَائِق وقلب الْأَجْنَاس، فاستحال الْمصير إِلَى القَوْل بمغايرة الْقَتْل. فَلَا يبْقى لَهُم بعد ذَلِك معتصم، إِلَّا الِاعْتِرَاف بِعَين مَا أُرِيد بهم. وَهُوَ أَن يَقُولُوا: قتل الْقصاص يُخَالف قتل الْمُرْتَد، من حَيْثُ أَنه وَجب بِالْقَتْلِ، وَذَلِكَ وَجب بِالرّدَّةِ فَالْآن وضح الْحق ونطقتم بِهِ، وَلم تشعروا.
فَإنَّا / أوضحنا تماثل الْقَتْل حَقِيقَة، فَإِذا اوجبتموه بعلة، فانفوه عِنْد انتفائها حَتَّى لَا يجب أصلا بِسَبَب آخر. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.
1666 - وَمِمَّا يُوضح الْحق عَلَيْهِم أَن يَقُول: هَل تجوزون أَن يثبت الحكم الْوَاحِد بعلتين، لَو قدرت كل وَاحِدَة مِنْهَا على حيالها، لاقتضت الحكم؟
فَإِن قَالُوا: نجوز ذَلِك. وَلَا بُد مِنْهُ، نَحْو من يسْتَحق الْقَتْل بِأَسْبَاب، لَو انْفَرد وَاحِد " مِنْهَا " لأوجبه.
فَيُقَال لَهُم: فقد الْعلَّة عنْدكُمْ يُؤثر فِي انْتِفَاء الحكم، فَقولُوا: لَو انْتَفَت عِلّة مِمَّا لَو قدر ثُبُوتهَا، لكَانَتْ مُوجبَة، وَثبتت عِلّة انْتِفَاء الحكم، وثبوته من حَيْثُ انْتَفَت علته، فَيلْزم من ذَلِك التَّنَاقُض والتنافي.
1667 - فَإِن قَالُوا: فقد يُوجد مثل ذَلِك فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، فَإِنَّهُ إِذا قَامَت حياتان بِمحل وَاحِد، فانتفاء أَحدهمَا يُوجب كَون الْمحل مَيتا وَثُبُوت

(3/226)


الثَّانِيَة يُوجب كَون الْمحل حَيا فَيلْزم فِي ذَلِك مَا قلتموه من التَّنَاقُض. قُلْنَا: هَذَا سُؤال من يجهل مَذَاهِب أهل التَّحْقِيق.
وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ أهل الْحق قاطبة، إِنَّه لَا يجوز أَن يقوم مثلان بِمحل وَاحِد، وهما " متضادان " على الْمحل تضَاد السوَاد وَالْبَيَاض. فَبَطل مَا قَالُوهُ.
وَإِن استروحوا إِلَى مَا قدموه أَولا، من أَن الحكم يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الْعلَّة على التَّقْيِيد وَإِن لم ينتف على الاطلاق. فقد أوضحنا أَن هَذَا سَاقِط من القَوْل بِمَا فِيهِ غنى، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

(3/227)


(288) بَاب الْكَلَام فِي الْقيَاس

1668 - الأقيسة تَنْقَسِم أَولا، إِلَى عقلية وسمعية.
فَأَما الْعَقْلِيَّة، فنبسط القَوْل فِيهَا، فِي غير هَذَا الْفَنّ.
وَأما السمعية، فقد قسمهَا القائسون من أوجه، وَنحن نذْكر جَمِيع مذاهبهم فِي وَجه التَّقْسِيم، ثمَّ ننعطف على الْمُخْتَار الصَّحِيح عندنَا.
1669 - فَأول مَا قسموا إِلَيْهِ الْعِلَل السمعية، الْجَلِيّ والخفي.
فَقَالُوا: الأقيسة تَنْقَسِم: فَمِنْهَا: الْجَلِيّ والخفي. وَزَاد بعض القائسين بَين الْجَلِيّ والخفي قسما ثَالِثا وَهُوَ الْوَاضِح. فَقَالُوا: الأقيسة ثَلَاثَة جلي وواضح وخفي.
ثمَّ اخْتلفت مذاهبهم فِي الْجَلِيّ والخفي.
1670 - فَذهب الأقلون مِنْهُم إِلَى أَن الْجَلِيّ هُوَ الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علته بطريقة نقطع بهَا من نَص أَو مَا يقوم مقَامه فِي الْإِفْضَاء إِلَى الْقطع، وَهُوَ مثل أَن ينص صَاحب الشَّرِيعَة على نصب الشَّيْء عِلّة أَو ثبتَتْ ذَلِك بِاتِّفَاق من الْأمة.

(3/228)


وَالضَّرْب الثَّانِي من الْقيَاس هُوَ الَّذِي لَا تثبت علته بطريقة يقطع بهَا، وَلَكِن يتَوَصَّل إِلَيْهَا تحريا واجتهادا. فَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ خَفِي عِنْد القائيسن ثمَّ مَا تتباين " رتبها " فبعضها أخْفى من بعض.
1671 - وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْقيَاس الْجَلِيّ، هُوَ المتلقى من فحوى قَوْله: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما} فاعتبار سَائِر ضروب التعنيف بالتأفيف تمسكا بفحوى الْخطاب من الْقيَاس الْجَلِيّ وَكَذَلِكَ مَا يضاهيه. وَمَا يُصَار إِلَيْهِ استنباطا، فَهُوَ خَفِي وَهَذَا يداني الطَّرِيقَة الأولى.
1672 - وَذهب الْجُمْهُور من القائسين الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من الْمُجْتَهدين إِلَى أَن الأقيسة الَّتِي تدْرك عللها " تحريا " واستنباطا، تَنْقَسِم إِلَى جلي وخفي.
فالجلي مَا تتضح وُجُوه الاستنباط فِيهِ وتقل وُجُوه اللّبْس، وَلَا تقَابل " الْأَشْبَاه " فِي مداركها، فَمَا هَذَا " قَبيلَة " فيقود المستنبط إِلَى الْعلم الظَّاهِر بِتَعْيِين عِلّة الْقيَاس وَإِن لم يحصل لَهُ الْعلم الْبَاطِن الْمَقْطُوع بِهِ.
وَأما الْخَفي فَهُوَ الَّذِي لَا تتضح وُجُوه الاستنباط فِيهِ. إِمَّا لتقابل / الْأَشْبَاه وتجاذب الْأُصُول، أَو غَيرهَا من أَسبَاب الخفاء. فَمَا هَذَا سَبيله فَهُوَ

(3/229)


خَفِي، لَا يتَضَمَّن الْعلم، لَا ظَاهرا وَلَا بَاطِنا.
وَالَّذين قسموا الأقيسة ثَلَاثَة أَقسَام، جعلُوا الْجَلِيّ مَا ثبتَتْ " علته " نصا وفسروا الْوَاضِح والخفي بِنَحْوِ مَا فسرنا الْجَلِيّ والخفي آنِفا. فَهَذِهِ مَذَاهِب الْقَوْم.
1673 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره، مَعَ مَا علمْتُم من أصلنَا فِي القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين، أَن نقُول: كل قِيَاس ثبتَتْ علته نصا وتحققت طَريقَة تُفْضِي إِلَى الْقطع فِي تعْيين الْعلَّة فَمَا هَذَا سَبيله، فَهُوَ يودي التَّمَسُّك بِهِ إِلَى الْعلم وَالْقطع. وَتخرج الْمَسْأَلَة من حيّز الِاجْتِهَاد.
فَأَما إِذا لم يكن مَعنا طَرِيق يُفْضِي إِلَى الْقطع وَالْعلم، لتعيين عِلّة الْقيَاس، وَكَانَ الْفَزع إِلَى غلبات الظنون، فمهما حصلت غَلَبَة الظَّن للمجتهد بِمَا يستنبط من الْقيَاس، فَحكم الله الْأَخْذ بِمَا غلب عَلَيْهِ الظَّن قطعا. فَلَا يتَحَقَّق مَعَ هَذَا الأَصْل تَقْسِيم الْقيَاس إِلَى الْجَلِيّ والخفي قطعا على مَا قَالَه المتقدمون من الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد.
وَذَلِكَ أَن وَاحِدًا من " القياسين " لَا يُفْضِي إِلَى الْعلم، فَإِذا لم يتَحَقَّق الْعلم فِي وَاحِد مِنْهُمَا، لم يَتَقَرَّر تباينهما. وَمَا ذَكرُوهُ من أَن الْعلم فِي الْقيَاس الْجَلِيّ يحصل ظَاهرا بعلة الأَصْل فَهُوَ وَاضح الْفساد، فَإِن الْعلم إِذا تحقق

(3/230)


لم يخْتَلف فِيهِ الظَّاهِر وَالْبَاطِن، على أَنه لَيْسَ فِي مجاري الأقيسة فِي الْمسَائِل الاجتهادية، طَريقَة تُفْضِي بسالكها إِلَى الْعلم. فادعاء الْعلم من " أمحل " الْمحَال.
فَحصل بِمَا ذَكرْنَاهُ ابطال القَوْل بتباين الضربين من الْقيَاس فِي قبيل الْعلم، وَتبين أَن وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يودي إِلَى الْعلم، فَلَا يبْقى بعد ذَلِك إِلَّا غلبات الظنون، وَعِنْدنَا أَن الأقيسة السمعية كَمَا لَا توجب الْعلم لَا توجب غلبات الظنون. وَقد قدمنَا فِي ذَلِك صَدرا من الْكَلَام فِي أول الْكتاب.
1674 - فَرجع مآل الْمقَال إِلَى أَن الله عز وَجل اجرى الْعَادة بإيداع غلبات الظنون فِي اعتقاب الأقيسة الَّتِي تعبدنا بِالْعَمَلِ بهَا، ثمَّ لَا تستمر الْعَادَات فِيهَا، فَرُبمَا تحصل غَلَبَة الظَّن لبَعض الْمُجْتَهدين، بِالْقِيَاسِ الَّذِي يلْحقهُ مخالفونا بالخفي وَرُبمَا لَا تحصل غلبات الظنون بِالَّذِي يلْحقهُ بالجلي.
فَتبين لَك أَن " الْفَصْل " بَين القياسين لَا يَتَقَرَّر إِذا ورد إِلَى التَّحْقِيق ولعمرنا فَلَا ننكر على الْجُمْلَة أَن يكون الرب عز اسْمه، قد أجْرى الْعَادة فِي

(3/231)


ضروب من الأمارات بِأَن تتسارع إِلَيْهَا غلبات الظنون. وتتباطؤ عَن بَعْضهَا، فَهَذَا الْقدر مِمَّا نسلمه على الْجُمْلَة، فأحط علما بذلك.
(289 فصل)

(لَو أجمع القائسون على تَعْلِيق الحكم بعلة مُعينَة، هَل يقطع بِأَنَّهَا الْعلَّة)

1675 - فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا ثَبت الحكم فِي عين من الْأَعْيَان، وَأجْمع القائسون على تَعْلِيق الحكم بعلة وَاحِدَة عينوها، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهَا، فَهَل تقطعون بِأَنَّهَا الْعلَّة؟
قُلْنَا: لَا نقطع بِأَنَّهَا الْعلَّة، فَإِن اجماع كَافَّة الْأمة هُوَ المفضي إِلَى الْعلم وَالْقطع. والقائلون بِالْقِيَاسِ لَيْسُوا كل الْأمة. فَلَو قَدرنَا رُجُوع نفاة الْقيَاس عَن مذاهبهم، وموافقتهم لِلْقَائِلين بِالْقِيَاسِ فِي القَوْل بِالْقِيَاسِ، ثمَّ اتَّفقُوا بعد ذَلِك قاطبة على تعْيين عِلّة فِي الأَصْل، وَنَفَوْا مَا عَداهَا، فنقطع الْآن " بِأَنَّهَا " الْعلَّة عِنْد الله تَعَالَى إِذْ يتَعَيَّن نفي الْخَطَأ عَن أهل الْإِجْمَاع.
1676 - وَذهب جُمْهُور الْقَائِلين بِأَن الْحق فِي وَاحِد من الْمُجْتَهدين، إِلَى أَن القائسين مهما أَجمعُوا على تعْيين عِلّة فِي الأَصْل. فنقطع القَوْل بِأَنَّهَا الْعلَّة وَإِن لم يرجع نفاة الْقيَاس عَن مذاهبهم /. وَهَذَا بَين الْفساد. فَإِن القائسين لَيْسُوا كل الْأمة، وَهَذَا أوضح من أَن يحْتَاج إِلَى إطناب.

(3/232)


(290) فصل)

(أوجه تطرق الْخَطَأ إِلَى الْقيَاس)

1677 - اعْلَم أَن الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب " وَاحِد " ذكرُوا وُجُوهًا من الِاحْتِمَالَات فِي الأقيسة وَزَعَمُوا أَن الزلل فِيهَا يتَوَقَّع.
فَقَالُوا: إِذا قَاس القائس فرعا على أصل، بعلة فِي الأَصْل يعتقدها عِلّة " فيعتور " قِيَاسه ضروب من الِاحْتِمَالَات.
أَحدهَا: أَن يكون الحكم مَقْصُورا على الأَصْل، غير معد عَنهُ، فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَهُوَ بقياسه رام تعديته إِلَى الْفَرْع من الْمَقِيس عَلَيْهِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي فِي الِاحْتِمَال: أَن يكون الأَصْل معلولا، وَالْحكم غير مَقْصُور عَلَيْهِ. وَلَكِن اخطأ القائس الْعلَّة " الَّتِي هِيَ " عِلّة عِنْد الله تَعَالَى، وحاد عَنْهَا / إِلَى غَيرهَا /.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن يركب القائس عِلّة الأَصْل من وصفين، وَهِي عِنْد الله ثَلَاثَة أَوْصَاف وَقد أخل القائس " بِالثلَاثِ ".
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن يركب القائس عِلّة الأَصْل، وَهِي غير مركبة فِي علم الله تَعَالَى، بل هِيَ ذَات وصف وَاحِد.
وَالْوَجْه الْخَامِس: أَن يَصح استنباطه لعِلَّة الأَصْل، وَلَكِن تخيل إِلَيْهِ

(3/233)


تِلْكَ الْعلَّة متحققة فِي الْفَرْع، وَالْأَمر على خلاف مَا ظن.
فَهَذِهِ المداخل هِيَ الَّتِي مِنْهَا يتَوَقَّع فَسَاد الاستنباط.
1678 - وَزعم بَعضهم أَنه " قد دلّ " على المستنبطة وَجه سادس، وَهُوَ أَن إِثْبَات أصل الْقيَاس، مُخْتَلف فِيهِ، فَيجوز عدم ثُبُوته. وَهَذَا فَاسد لَا وَجه لَهُ.
فَإِن إِثْبَات الْقيَاس مَقْطُوع بِهِ. وَلَو سَاغَ تَقْدِير الِاخْتِلَاف بشبه لساغ أَن يقدر الِاخْتِلَاف فِي العقائد بِشُبْهَة. فَإِذا وضحت هَذِه الْجُمْلَة، فقد قَالُوا: أَن الْقيَاس الْجَلِيّ، هُوَ الَّذِي تبعد عَنهُ الِاحْتِمَالَات مَعَ إمكانها، والخفي هُوَ الَّذِي " تقرب " مِنْهُ هَذِه الِاحْتِمَالَات.
1679 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَنحن إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين فَيبْطل كل مَا قَالُوهُ من الِاحْتِمَالَات. فَإنَّا لَا نعتقد أَن فِي الأَصْل الَّذِي يرد إِلَيْهِ الْفَرْع الْمَطْلُوب حكمه، عِلّة متعينة عِنْد الله تَعَالَى، وَقد كلفنا العثور عَلَيْهَا بِعَينهَا وَمن أخطأها فَهُوَ مُخطئ فِيمَا كلف. وَلَكنَّا نقُول: لَيْسَ " للْأَصْل " عِلّة متعينة عِنْد الله تَعَالَى، وَلَكِن كلف كل مُجْتَهد أَن يعْمل بِمَا غلب على

(3/234)


ظَنّه، وَجعل غَلَبَة ظن كل مُجْتَهد علما مَقْطُوعًا فِي أَن الحكم عَلَيْهِ مُوجب غَلَبَة الظَّن.
وَهَذَا مِمَّا نستقصيه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي كتاب الاجتهادات.
(291) فصل

(تَقْسِيم الأقيسة إِلَى قِيَاس عِلّة وَقِيَاس شبه)

1680 - قد ذكرنَا فِيمَا قدنا، تَقْسِيم القائسين الأقيسة إِلَى الْجَلِيّ والخفي وَقد قسموها على وَجه آخر، فَقَالُوا: الْقيَاس يَنْقَسِم إِلَى قِيَاس عِلّة وَقِيَاس شبه.
فَأَما قِيَاس الْعلَّة، فَهُوَ أَن تستنبط عِلّة الأَصْل، وَيرد الْفَرْع إِلَى الأَصْل بعلة الأَصْل. وَهَذَا هُوَ الْقيَاس الْمُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ.
1681 - وَالضَّرْب الثَّانِي من الْقيَاس قِيَاس الشّبَه وَهُوَ أَن يلْحق فرع

(3/235)


بِأَصْل، لِكَثْرَة إشباهه " بِالْأَصْلِ " فِي الْأَوْصَاف، من غير أَن يعْتَقد أَن الْأَوْصَاف الَّتِي شابه الْفَرْع فِيهَا الأَصْل، هِيَ عِلّة حكم الأَصْل. وَذَلِكَ نَحْو إِلْحَاق العَبْد بِالْحرِّ فِي بعض الْأَحْكَام لشبهه بِهِ فِي جمل من الْأَحْكَام.
وَقد اخْتلف القائسون فِي هَذَا الضَّرْب.
فَذهب الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُم إِلَى / بُطْلَانه، وَإِلَيْهِ ذهب الصَّيْرَفِي وَأَبُو إِسْحَاق الْمروزِي وَغَيرهمَا من القائسين.

(3/236)


ويحكى عَن ابْن سُرَيج أَنه صحّح قِيَاس الشّبَه.
ويؤثر ذَلِك عَن الشَّافِعِي.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَلَا يكَاد يَصح ذَلِك عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ مَعَ علو رتبته فِي الْأُصُول.

(3/237)


1682 - ثمَّ الْقَائِلُونَ بِقِيَاس الشّبَه أَجمعُوا على أَنه لَا يُصَار إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَان الْمصير إِلَى قِيَاس الْعلَّة. وَلَكِن إِذا " استد " على الْمُجْتَهد طَرِيق قِيَاس الْعلَّة، سَاغَ لَهُ التَّمَسُّك بالأشباه.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه لَا يسوغ الْمصير إِلَى قِيَاس الشّبَه إِلَّا بِشَرْطَيْنِ:
أَحدهمَا: مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ أَن لَا يُصَار إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَان الْمصير إِلَى الْقيَاس عِلّة.
وَالثَّانِي: أَن يجتذب الْفَرْع أصلان فَيلْحق بِأَحَدِهِمَا بِغَلَبَة الْأَشْبَاه.
وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ أَن قَالُوا: الْأَشْبَاه الْحكمِيَّة أولى، ثمَّ الْأَشْبَاه الراجعة إِلَى الصّفة " ويليه مُعظم " أشبه الحكم.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا فرق بَينهمَا.

(3/238)


1683 - وَنحن الْآن نذْكر الِاحْتِجَاج لكل فريق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ القَوْل بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من الْمُجْتَهدين، ثمَّ نوضح الْحق على القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين.
فَأَما الَّذِي ردوا قِيَاس الشّبَه، فقد عولوا على أَن قَالُوا: إِذا ألحق " القائس " الْفَرْع بِالْأَصْلِ بأشباه، فَيُقَال لَهُ: هَذِه الْأَشْبَاه الَّتِي ذكرتها، هَل وَجب الحكم فِي الأَصْل لأَجلهَا؟ فَإِن زعم أَن الحكم فِي الأَصْل، وَجب لأَجلهَا، فَهُوَ إِذا قِيَاس عِلّة، فَإِنَّهُ يرد / فِيهِ / الْفَرْع الى الأَصْل.
وَإِن قَالُوا: إِن هَذِه الْأَشْبَاه، لَيست بعلة فِي حكم الأَصْل، وَمَا ثَبت الحكم فِي الأَصْل " لأَجله " فَيُقَال لَهُ: فَمَا وَجه إلحاقك الْفَرْع بِالْأَصْلِ بالأشباه الَّتِي اعْترفت بِأَن الحكم لم يجب لَهَا فِي الأَصْل. وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ أَن يجمع بَينهمَا من غير وصف أصلا، وَهَذَا وضح الْبطلَان.
1684 - فَإِن قَالَ قَائِل: بِمَ تنكر على من يزْعم أَن الرب تَعَالَى تعبد الْمُجْتَهدين بطريقتين أحداهما: قِيَاس الْعلَّة، وَالثَّانيَِة. إِذا عجزوا عَن قِيَاس الْعلَّة أَن ينْظرُوا إِلَى غَلَبَة الْأَشْبَاه ويعتقدوا أَن ذَلِك عَلامَة استوائهما فِي الحكم، أَو يعتقدا أَن استوائهما فِي الْأَشْبَاه لاجتماعهما فِي الْعلَّة الكامنة، المستأثرة بهَا علم الله تَعَالَى.
وَهَذَا لعمري سُؤال. وَلَكِن الْوَجْه فِي الْجَواب عندنَا أَن نقُول: نَحن

(3/239)


لَا ننكر وُرُود التَّعَبُّد بِمَا قلتموه. وَلَكِن مَا ثبتناه الْقيَاس فِي الأَصْل إِلَّا بالأدلة القاطعة، وَنحن نعلم قطعا أَن الصَّحَابَة تمسكوا بِقِيَاس الْعلَّة فِي " الْحَوَادِث " الَّتِي تقررت فِي زمانهم، وألحقوا الْفُرُوع بالأصول فِي الْمعَانِي الَّتِي اعتقدوها أَمَارَات للْأَحْكَام فِي الْأُصُول.
وَلم تقم دلَالَة قَاطِعَة فِي هَذَا الضَّرْب من الِاعْتِبَار، فَلم يسغْ التَّمَسُّك بِهِ، وَلم تدل عَلَيْهِ دلَالَة سمعية.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه كَمَا يسوغ مَا قَالُوهُ فِي تَجْوِيز الْعُقُول، فتسوغ ضروب من الأمارات سواهَا، فِي تَجْوِيز الْعُقُول. وَلَكِن لَا يجوز التَّمَسُّك بهَا إِذْ لم يرد فِيهَا تعبد.
فَهَذَا أقوى مَا تمسك بِهِ هَؤُلَاءِ.
1685 - واعتصم الْقَائِلُونَ بِقِيَاس الشّبَه، بطرق من الظَّوَاهِر وَغَيرهَا.

(3/240)


وَلم نذكرها لركاكة معظمها وَلَكنَّا نذْكر مَا عولوا عَلَيْهِ، فَمِنْهَا أَنهم قَالُوا: ورد فِي الشَّرْع اعْتِبَار الْأَشْبَاه فِي جَزَاء الصَّيْد، كَمَا نطق بِهِ نَص الْكتاب، وَكَذَلِكَ يعْتَبر فِيمَن تقبل شَهَادَته / الْأَكْثَر والأغلب من أَحْوَاله، فَإِن كَانَ فِي أغلب أَحْوَاله متشبثا بِأَسْبَاب الْعَدَالَة قبلت شَهَادَته، وَإِن تكن الْأُخْرَى ردَّتْ، إِلَى غير ذَلِك.
قيل لَهُم هَذَا الَّذِي ذكرتموه، لَا منجى فِيهِ، فَإِن أَكثر مَا فِي الْبَاب أَن سلم لكم أَن اعْتِبَار الْأَغْلَب فِي بعض موارد الشَّرِيعَة إِمَّا لنَصّ كتاب أَو إِجْمَاع أَو غَيرهمَا من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة، فَلم ادعيتم نصب اعْتِبَار الْأَشْبَاه علما فِي مَوَاضِع النزاع وَهل هَذَا إِلَّا إِثْبَات ضروب من الْأَدِلَّة بطرد مَا تمسكتم بِهِ. وكل مَا يتمسكون بِهِ فَهَذَا سَبيله.
1686 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يقيس اعْتِبَار الْأَشْبَاه على قِيَاس الْعلَّة؟
قيل: أصُول الْأَدِلَّة لَا تثبت بِمثل هَذَا الطَّرْد الواهي. على أَنا لَو رددنا إِلَى الْعقل لم يكن فِي مُقْتَضَاهُ، إِثْبَات أقيسة الشَّرْع، وَلَكِن لما قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع على التَّمَسُّك بِالْقِيَاسِ، صرنا إِلَيْهِ، وَهَذَا الضَّرْب الَّذِي فِيهِ نزاعنا، لم ينْقل عَن أَصْحَاب الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، على التَّخْصِيص.
فَهَذَا وَجه الْكَلَام على القَوْل، بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من الْمُجْتَهدين فَإِذا كنت تذب عَن ذَلِك، فَالْأولى بك إبِْطَال قِيَاس الشّبَه.
1687 - وَأما إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين، فقد قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، فَلَو رأى الْمُجْتَهد التَّمَسُّك بالأشباه فِي بعض الْحَوَادِث وَغلب على ظَنّه

(3/241)


ثُبُوت حكم من قَضِيَّة أعتبار الْأَشْبَاه فَهُوَ مَأْمُور بِمَا غلب على ظَنّه قطعا عِنْد الله تَعَالَى.
1688 - وَأَوْمَأَ رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن رد قِيَاس الشّبَه وَالْقَوْل بِهِ، لَا يبلغ إِلَى الْقطع وَهُوَ من مسَائِل الِاحْتِمَال. وَهَذَا فِيهِ نظر عندنَا. فَإِن الْأَلْيَق بِمَا " مهده " رَضِي الله عَنهُ من الْأُصُول أَن يُقَال: كل مَا آل إِلَى إِثْبَات دَلِيل من الْأَدِلَّة فيطلب فِيهِ الْقطع، وسنوضح ذَلِك فِي كتاب الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. على أَن مَا قَالَه فِي كَون الْمُجْتَهد مَأْمُورا بِمَا غلب على ظَنّه سديد فِيمَا رامه فَإنَّا رُبمَا نقُول: إِن الْمُجْتَهد المتمسك بِضَرْب من الْقيَاس إِذا غلب على ظَنّه شَيْء وَفِي الْحَادِثَة نَص لم يبلغهُ " فَهُوَ مَأْمُور قطعا عِنْد الله بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده. وَإِن كَانَ الْقيَاس فِي مُخَالفَة النَّص مردودا.

(3/242)


(292) فصل

1689 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ذهب بعض الضعفة من أهل خُرَاسَان إِلَى أَنه لَا يُرَاعى فِي الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل نوع من " التَّحَرِّي " على التَّعْيِين وَلَكِن مهما رأى الْمُجْتَهد أَن يجمع بَين فرع وأصل، فَلَا يواخذ بِضَرْب الْجمع. وَنَفَوْا اعْتِبَار الْعلَّة فِي الأَصْل الْمَرْدُود إِلَيْهِ.
1690 - وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ / فِيهِ / هدم المقايس والعبر، وتسبب إِلَى إبِْطَال طرد الِاجْتِهَاد. وَالْأولَى لَك أَن تدخل دُخُول مقسم، فَتَقول: إِذا نفيتم اعْتِبَار عِلّة الأَصْل فَلَا تخلون أما أَن تَقولُوا: أَنه لَيْسَ فِي الأَصْل عِلّة منصوصة أَو مجمع عَلَيْهَا، فتوافقون على مذهبكم.

(3/243)


وَكَذَلِكَ إِن قُلْتُمْ: لم يتعبد الله عباده بِطَلَب عِلّة متعينة فِي معلومه، وَإِنَّمَا كلف الْمُجْتَهد أَن يعْمل على مَا يرَاهُ عِلّة فِي غَلَبَة الظَّن فَهَذَا مُسْتَقِيم بالْقَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين وَهُوَ أليق.
وَإِن عنيتم بِنَفْي عِلّة الأَصْل، أَنه لَا اعْتِبَار لَهَا بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَيْسَ على الْمُجْتَهد إِلَّا الِاعْتِبَار بِضَرْب من التَّحَرِّي، فَهَذَا بهت عَظِيم.
وَأول مَا يلزمكم / عَلَيْهِ أَن يُقَال: فسوغوا لكل عَامي أَن يلْحق الْفَرْع بِالْأَصْلِ وَلَا تخصصوا الْقيَاس بالمجتهدين، إِن لم تراعوا وَجها مَخْصُوصًا فِي الِاجْتِهَاد والتحري وإلحاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ. فَإِن أحدا لَا يعجز عَن إِلْحَاق فرع بِأَصْل، إِذا رفض عَنهُ " التَّحَرِّي " والتدبر فِي طرق الِاجْتِهَاد.
وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِم، أَن نقُول لَهُم: لم جوزتم إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ من غير رِعَايَة وَجه من التَّحَرِّي. فَإِن قلتموه عقلا، فَلَيْسَ فِي الْعقل إِلَّا تَجْوِيز الأقيسة المجوزة شرعا وفَاقا فَمَا الظَّن بِمَا اخترعتموه؟ وَإِن جوزتم ذَلِك سمعا فأقيموا عَلَيْهِ دلَالَة سمعية، وهيهات! .
1691 - وَقد ضرب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَمْثِلَة مِنْهَا: أَنه قَالَ: فَلَو قَالَ قَائِل فِي إِجْرَاء الْأَحْكَام على السَّكْرَان فِي طَلَاقه وَغَيره، لما كَانَ السَّكْرَان معاقبا، وَجب أَن يكون معاقبا بِالطَّلَاق فَإِذا قيل لهَؤُلَاء: فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ قَالُوا: لم يلْزمنَا أَكثر مِمَّا قُلْنَاهُ.

(3/244)


فَيُقَال لَهُم: وَلم قُلْتُمْ أَنه لما لحقه ضرب من الْعقَاب، يلْحقهُ هَذَا الضَّرْب الَّذِي نَحن فِيهِ؟ وَإِذا حققت عَلَيْهِم الطّلب فِي أَمْثَال ذَلِك، لم يبْق بِأَيْدِيهِم إِلَّا دَعْوَى عَارِية.
وَمن هَذَا الْقَبِيل أَيْضا، اسْتدلَّ من اسْتدلَّ على جَوَاز الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي حق الْمَرِيض فَيَقُول: لما جَازَ لَهُ أَن يُصَلِّي جَالِسا - وَهُوَ ضرب من التَّخْفِيف - فَيَنْبَغِي أَن يجوز لَهُ الْجمع.
فَيُقَال لَهُم: فَمَا / وَجه / الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل؟ فَإِن اقتصروا على الدَّعْوَى وضح بطلَان قَوْلهم وَإِن قَالُوا: إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك، لِأَن الْمُقْتَضى لجَوَاز الْقعُود فِي حق الْمَرِيض التَّخْفِيف. وَهَذَا الْمَعْنى مُتَحَقق فِيمَا نَحن فِيهِ.
قُلْنَا لَهُم: الْآن قد " اعترفتم " بِاعْتِبَار ضرب من " التَّحَرِّي " وَهُوَ الْمَطْلُوب مِنْكُم ثمَّ يعرض مَا ذكرتموه على قوادح الْعِلَل، فَإِن سلمت صحت، وَإِلَّا حكم ببطلانها.
(293) القَوْل فِي ذكر اخْتِلَاف القائسين فِي طرق إِدْرَاك الْعِلَل

1692 - مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ، أَنه لَا يشْتَرط فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل دلَالَة مَقْطُوعَة بهَا من نَص أَو إِجْمَاع.
1693 - وَذَهَبت شرذمة من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ، إِلَى أَن الْقيَاس

(3/245)


لَا يَصح، حَتَّى تكون عِلّة الأَصْل مَنْصُوصا عَلَيْهَا. وَأما إِذا لم يكن نَص وَلَا إِجْمَاع، فَلَا معنى لإستثارة عِلّة بالإجتهاد من الأَصْل بِنَاء على غَلَبَة الظَّن.
ثمَّ اعتبروا فِي الْإِجْمَاع الَّذِي ذَكرُوهُ إِجْمَاع القائسين. وَقد أوضحنا بطلَان ذَلِك، وَبينا أَنهم لَيْسُوا كل الْأمة، وَلَا تقوم الْحجَّة بقَوْلهمْ. فَلَا نعيد مَا سبق.
1694 - وَهَا نَحن نُقِيم الْأَدِلَّة على بطلَان اشْتِرَاط النَّص على عِلّة الأَصْل، بعد تَقْدِيم، فَنَقُول: إِذا نَص صَاحب الشَّرِيعَة على عِلّة الأَصْل، فَهَل تَقولُونَ أَنه يجب طرد الْعلَّة / و / إِن لم / يتعبد بِالْقِيَاسِ أم لَا تَقولُونَ ذَلِك؟
فَإِن قُلْتُمْ: أَنه يجب طرد الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا، وَإِن لم يتعبد بِالْقِيَاسِ تمسكا " بِمُقْتَضى " اللَّفْظ وموجبه " فَالْكَلَام " عَلَيْكُم من وَجْهَيْن.
أَحدهمَا: أَن هَذَا إفصاح برد الْقيَاس وَتمسك بِمُوجب اللَّفْظ على زعمكم فَكيف تعتزون إِلَى الْقيَاس ثمَّ تنفونه؟ على أَنا قد قدمنَا بطلَان هَذَا الْمَذْهَب عِنْد ردنا على القاساني والنهرواني. وَإِن قُلْتُمْ أَن الْعلَّة الْمَنْصُوص

(3/246)


عَلَيْهَا، لَا تطرد إِلَّا بعد ثُبُوت التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فأوضحوا بِمَ عَرَفْتُمْ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ؟ فَلَا يزالون فِي تردد حَتَّى يعتصموا بِالْإِجْمَاع وَنحن نعلم أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانَ " يبتدرون " إِلَى الْقيَاس فِي الْحَوَادِث / مَا شَذَّ مِنْهَا وَمَا ظهر، ونعلم قطعا أَنهم كَانُوا لَا يتوقفون فِي إِلْحَاق الْفُرُوع بالأصول على ثُبُوت علل منصوصة بِأَلْفَاظ مُصَرح بهَا وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنهم اعتبروا طرق الْقيَاس فِي غوامض الْمسَائِل مَعَ " شغورها " عَن الْعِلَل المنصوصة فِي أُصُولهَا. فَبَطل مَا قَالُوهُ وَتبين أَن الطَّرِيق الَّذِي عرف بِهِ إِثْبَات أصل الْقيَاس، لَا يتَضَمَّن اشْتِرَاط مَا شرطوه.
1695 - وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، فِي إبِْطَال اشْتِرَاط النَّص. أَن نقُول: إِذا اشترطتم كَون الْعلَّة فِي الأَصْل مَنْصُوصا عَلَيْهَا، وزعمتم أَن الْفَرْع يلْحق بِالْأَصْلِ قِيَاسا من غير توَسط، بِمُوجب " اللَّفْظ " فَبِمَ تنكرون على من يشْتَرط النَّص فِي أَن عِلّة الأَصْل معداة إِلَى الْفَرْع، كَمَا شرطتم النَّص فِي عِلّة الأَصْل؟ فَمَا " الْفَصْل " بَين المقالتين؟ فَإِن لم يكن / بُد / من اعْتِبَار النَّص فعموا. ثمَّ قَوْلكُم هَذَا يسوقكم إِلَى إبِْطَال الِاجْتِهَاد لَا محَالة. وَلَهُم كَلَام يتَّصل بِأَحْكَام الِاجْتِهَاد وَذَلِكَ أَنهم زَعَمُوا أَن عِلّة الأَصْل يجب أَن تكون

(3/247)


مَقْطُوعًا بهَا، وَإِلَّا فتكليف طلبَهَا، مَعَ أَن الْعقل لَا يدل عَلَيْهَا بِعَينهَا - وَلَيْسَت عَلَيْهَا دلَالَة سمعية - فالتكليف فِي طلبَهَا تَكْلِيف مَا لَا يقدر عَلَيْهِ.
وَهَذَا لَا يتَوَجَّه على الْقَائِلين بتصويب الْمُجْتَهدين وَذَلِكَ أَنهم لَا يَقُولُونَ بِأَن عِلّة الأَصْل متعينة فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى فَتعين طلب العثور عَلَيْهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ يتَوَجَّه على الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد.
(294) فصل سالك الْعلَّة

1696 - اعْلَم، أَن عِلّة الأَصْل تثبت بطرق، وَنحن نشِير إِلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ثمَّ نذْكر بعد ذكر الصَّحِيح مِنْهَا، طرقا فَاسِدَة، تمسك بهَا بعض الْفُقَهَاء فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل، ونوضح فَسَادهَا.
1697 - فأقوى الطّرق فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل أَن يتضمنها كتاب أَو سنة.
ثمَّ ذَلِك يَنْقَسِم: فَمِنْهُ مَا يكون مُصَرحًا بِهِ وَمِنْه مَا يُنبئ عَنهُ ضمنا.
فَأَما مَا يكون مُصَرحًا بِهِ فنحو قَوْله تَعَالَى: {كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم} وَقَوله تَعَالَى: {من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إسرءيل} وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله}

(3/248)


فَهَذِهِ الظَّوَاهِر وأمثالها من السّنة مصرحة بِإِثْبَات الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة فِيهَا عللا.
وَالَّذِي يُنبئ عَن التَّعْلِيل ضمنا فتكثر أمثلته، وَلَكنَّا نذْكر مَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال. فَمِنْهُ مَا روى عَن نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: (لايقضي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان) ففهم كَافَّة الْعلمَاء من ذَلِك، أَن الَّذِي راعاه رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شغل الْغَضَب جاشه واقتضاه لرده عَن تَمام فكره فِي طلب الْحق فَكل مَا يحل ممحله فِي مَعْنَاهُ من غَلَبَة النّوم والجوع وَنَحْوهمَا فَهُوَ مثله.
وألحقوا بِهَذَا الْقَبِيل مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه لما سُئِلَ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أينقص الرطب إِذا يبس؟ فَقَالُوا: نعم قَالَ: فَلَا إِذا.
وَهَذَا بِأَن يلْحق بِالصَّرِيحِ أولى.
وَمِمَّا يتَّصل بذلك، مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: من أعتق شركا لَهُ

(3/249)


فِي " عبد " قوم عَلَيْهِ ففهم من مَضْمُون خطابه رِعَايَة الرّقّ، ثمَّ اقْتضى إِلْحَاق الْأمة بِالْعَبدِ.
وَمِمَّا يتَّصل بالأنبياء عَن التَّعْلِيل، وَإِن لم يكن مُصَرحًا بِهِ، أَن يذكر صَاحب الشَّرِيعَة صفة فِي شَيْء ثمَّ يعقب تِلْكَ الصّفة بِإِثْبَات حكم، بِحَيْثُ يعلم فِي قَضيته الْخطاب أَن الحكم مُرْتَبِط بِالْوَصْفِ الْمُتَقَدّم. وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى /. {ويسئلونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} فعلق الاعتزال الَّذِي قدمه من ذكر الْأَذَى بِحرف الْفَاء. وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَابا عَن أَمر سبق، ويتضمن ارتباطا بِمَا فرط من الْكَلَام.
وألحقوا بذلك تَعْلِيق الحكم بِكُل اسْم مُشْتَقّ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَقَوله تَعَالَى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} وَمِنْه قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (وَلَا تَبِيعُوا الطَّعَام إِلَّا مثلا

(3/250)


بِمثل) فَهُوَ مُشْتَقّ من الطّعْم، وَالْخطاب دَال على نَصبه عِلّة.
وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على ثُبُوت عِلّة الأَصْل، مَا تحقق من قضايا أَفعَال رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي قَضِيَّة التَّعْلِيق والارتباط. وَذَلِكَ نَحْو مَا تقرر لصحبه رَضِي الله عَنْهُم من تعلق سُجُوده بسهوه، وَمن تعلق سُجُوده عِنْد تِلَاوَة بعض الْآيَات لتلاوتها، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا أدركوه بقرائن الْأَحْوَال.
فَهَذِهِ الطّرق الَّتِي يسْتَدلّ بهَا فِي إِثْبَات علل الْأُصُول.
1698 - فَإِن قَالَ قَائِل: فشيء مِمَّا ذكرتموه، لَيْسَ بِنَصّ غير قَابل للتأويل. إِذْ قد ترد لَفظه صيغتها التَّعْلِيل، وَلَا يُرَاد بهَا التَّعْلِيل. وتكثر نَظَائِر ذَلِك فِي مجاري الْخطاب فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ التَّعْلِيل بالدلوك. فَمَا يؤمنكم أَن تكون الْأَلْفَاظ الَّتِي تمسكتم بهَا فِي إِثْبَات علل الْأُصُول، وقسمتموها إِلَى الصَّرِيح والمتضمن، معدولة عَن ظواهرها مَحْمُولَة على وُجُوه التَّجَوُّز.
قيل لَهُم: نَحن لَا ننكر جَوَاز حملهَا على المحامل الَّتِي ذكرتموها، وَلَكِن ظواهرها تَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ فَلَا يجوز إِزَالَة ظواهرها، إِلَّا بِدلَالَة تقوم. إِذْ قد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن مَا ذَكرنَاهَا من الظَّوَاهِر، لَيست من قبيل

(3/251)


المجملات الَّتِي لَا يجوز التَّمَسُّك بهَا. فَإِذا لم يكن من التَّمَسُّك بهَا بُد فيستحيل أَن يُقَال: أَنَّهَا تحمل على " وُجُوه " التَّجَوُّز فَتعين إجراؤها على ظواهرها.
1699 - فَلَو قَالَ قَائِل: فَإِذا تمسكتم بِشَيْء مِمَّا ذكرتموه فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل فَزعم الْخصم أَنِّي أزيل مَا تمسكتم بِهِ، بِدلَالَة قِيَاس فَهَل تجوزون ذَلِك؟
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: هَيْهَات أَن نجوز ذَلِك! فَإِن الَّذِي يزِيل الظَّاهِر بِالْقِيَاسِ مطَالب بتصحيح عِلّة أصل قِيَاسه وَأقوى مَا يسْتَدلّ بِهِ المتمسك بِالْقِيَاسِ فِي إِثْبَات عِلّة أَصله ظَاهر مَا ذكرنَا، ثمَّ لَا نسلم اعتلاله عَن مثل مَا ألزمهُ.
فَيُقَال لَهُ: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن مَا استدللت بِهِ فِي تثبيت عِلّة أصلك هُوَ إِزَالَة الظَّاهِر، بِالْقِيَاسِ الَّذِي اعترضت عَلَيْهِ؟
فانحسم هَذَا الْبَاب وَتعين إِجْرَاء الظَّوَاهِر فِي إِثْبَات علل الْأُصُول مَعَ مقتضياتها وَلَا يقْدَح فِيهَا بالأقيسة الَّتِي لم تثبت عللها قطعا. فأحط بذلك علما فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ، أقوى الطّرق فِي إِثْبَات علل الْأُصُول.
1700 - وَألْحق مُعظم الْأُصُولِيِّينَ بذلك أَن يجمع القائسون على تعْيين عِلّة فِي الأَصْل فَجعلُوا إِجْمَاعهم دلَالَة على ثُبُوت عِلّة الأَصْل.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا لَا يَصح عندنَا. فَإِن القائسين لَيْسُوا كل الْأمة وَلَا تقوم الْحجَّة بقَوْلهمْ. ثمَّ ردد القَاضِي جَوَابه فِي أثْنَاء الْكَلَام فَقَالَ: لَو جعلنَا إِجْمَاع القائسين إِمَارَة تبين غَلَبَة الظَّن فِي المقاييس كَانَ مُحْتملا وَإِن لم نقل أَنه يُفْضِي إِلَى الْقطع.

(3/252)


وَالَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ جَوَابه أَنه لَا أثر لإِجْمَاع القائسين اللَّهُمَّ / وَإِن تصور رُجُوع منكري الْقيَاس " عَن " الْإِنْكَار، ثمَّ يجمع الكافة على عِلّة، فَتثبت حِينَئِذٍ.
1701 - قطعا / وَمِمَّا / يسْتَدلّ بِهِ على ثُبُوت عِلّة الأَصْل أَن يحصر صِفَاته فِي تقديرها عللا، فَيبْطل كلهَا بطرِيق من طرق الْبطلَان إِلَّا صفة وَاحِدَة ويستدل بِبُطْلَان جَمِيعهَا، وَعدم بطلَان مَا نَصبه أَنه عِلّة سديدة.
1702 - وَلم يذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي تثبيت علل الْأُصُول طَريقَة، سوى مَا ذَكرنَاهَا. ثمَّ انعطف بعد ذَلِك على إبِْطَال طَرِيق يتَمَسَّك بهَا بعض الْفُقَهَاء فِي إِثْبَات علل الْأُصُول.
1703 - فمما أبْطلهُ مَا ذكره الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَق رَضِي الله عَنهُ وَقدره

(3/253)


طَريقَة فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل وَذَلِكَ أَنه قَالَ: لَيْسَ على " القائس " إِذا لم يجد شَيْئا مِمَّا قدمْنَاهُ إِلَّا أَن يعرض الْعلَّة الَّتِي استنبطها من الأَصْل، على مبطلات الْعِلَل فَإِن لم يجد مَا يقْدَح فِيهَا، وعرضها على أصُول الشَّرِيعَة فَلم يجد فِيهَا مَا يُنَافِي علته، فَيحكم بسلامة الْعلَّة، إِذا لم يبطل لَدَى الْعرض على الْأُصُول والقوادح.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَهَذَا بَاطِل لَا أصل لَهُ، وقصاره الإجتزاء بِدَعْوَى مُجَرّدَة فَيُقَال للمتمسك بِهَذِهِ الطَّرِيقَة قصارى كلامك الإستدلال على صِحَة الْعلَّة بِعَدَمِ الدَّلِيل على فَسَادهَا فَلم زعمتم أَنَّهَا صحت إِذا لم تقم دلَالَة على فَسَادهَا وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنَّهَا تفْسد بِعَدَمِ الدّلَالَة على صِحَّتهَا.
فَإِن قلت: عدم دلَالَة الْفساد دلَالَة على صِحَّتهَا قيل لَك: بل عدم الدّلَالَة على صِحَّتهَا، دلَالَة على فَسَادهَا. فيتقابل الْقَوْلَانِ وتتجرد دَعْوَى.
وَقد أطنب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي إبِْطَال ذَلِك. وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ غنية.
(الطَّرْد أَو الاطراد)

1704 - من الطّرق الَّتِي تمسك بهَا بعض الْفُقَهَاء من أَصْحَاب

(3/254)


الشَّافِعِي وَجَمِيع أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل، اطرادها وَهَذَا من أَوْهَى الطّرق وأضعفها.

(3/255)


فَإِنَّهُم يَقُولُونَ " إِذا طُولِبَ التثبت عِلّة الأَصْل " الدَّلِيل عَلَيْهَا إطرادها وَإِن الحكم يُوجد مَتى وجدت.
فَيُقَال " لَهُم " هَذَا الَّذِي ذكرتموه إعتصام مِنْكُم بِنَفس الْخلاف، فَإِنَّكُم طردتم عِلّة الأَصْل فِي الحكم الْمُتَنَازع فِيهِ، والخصم لَا يساعد على ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع إِلَّا مَعَ تَحْقِيق الْعلَّة، فَلم طردتم الْعلَّة فِي الصُّورَة الَّتِي نوزعتم فِيهَا، وَلم نصبتموها عِلّة فِيهَا؟ فَإِذا قُلْتُمْ: إِنَّمَا نصبناها لاطرادها، فمحصوله: إِنَّمَا طردناها لإطرادها. فَهُوَ تَعْلِيل الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى، وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ.
1705 - وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَن نقُول: الْعِلَل السمعية لَيست بأدلة فِي أَنْفسهَا، وَلَيْسَت كالأدلة الْعَقْلِيَّة الَّتِي تدل بذواتها، وَلَا تتَصَوَّر فِي الْعقل أَنْفسهَا إِلَّا دَالَّة. ومآل القَوْل فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة آئل إِلَى نصب صَاحب الشَّرِيعَة إِيَّاهَا امارات، وَلَا يثبت بقضايا الْعقل. وَإِنَّمَا يثبت بِدلَالَة السّمع. فَخرج من ذَلِك، أَن أصل الحكم الْمَطْلُوب لما افْتقر إِلَى دلَالَة سمعية لكَونه غير مدرك بقضية الْعقل، فَكَذَلِك انتصاب بعض الْأَوْصَاف إِمَارَة، يَنْبَغِي أَن يفْتَقر إِلَى دلَالَة سمعية.
1706 - فَإِذا طرد الطارد عِلّة فِي مسَائِل، فَيُقَال لَهُ: مَا الدَّلِيل على أَن

(3/256)


مَا طردته " باختيارك " نصب امارة فِي الصُّورَة الَّتِي طردت فِيهَا، وَهَذَا لَا مخلص مِنْهُ.
(الاطراد والانعكاس)

1707 - وَمِمَّا يتَمَسَّك بِهِ مُعظم الْفُقَهَاء فِي / تثبيت عِلّة الأَصْل، أطرادها وانعكاسها قَالُوا: فَإِذا وجدنَا الحكم فِي الأَصْل، يُوجد بِوُجُود الْعلَّة / وَلَو قدر فقد الْعلَّة، انْتَفَى الحكم، فينصب ذَلِك آيَة فِي تثبيت مَا قدرناه عِلّة فِي الأَصْل. وَهَذَا مِمَّا ارْتَضَاهُ الطَّبَرِيّ وَغَيره. حَتَّى قَالُوا: الإنعكاس لَيْسَ بِشَرْط فِي الْعِلَل، كَمَا قدمْنَاهُ وَلكنه مَعَ الطَّرْد يدل على صِحَة الْعلَّة.

(3/257)


ثمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: لَا يشْتَرط فِي تثبيت عِلّة الأَصْل أَن تطرد فِي انعكاسها كَمَا اطردت فِي طردها، وَلَكِن لَو ثَبت الحكم عِنْد ثُبُوت مَا قدرناه عِلّة، وانتفى الحكم عِنْد انتفائها وَلَو فِي صُورَة وَاحِدَة. فَيَقَع الإستقلال بذلك فِي تثبيت عِلّة الأَصْل.
فَأَما الَّذِي يطرد وينعكس فنحو الشدَّة فِي الْخمر، فَإِن تَحْرِيمهَا يثبت عِنْد الشدَّة المسكرة، وينتفي عِنْد انتفائها فانتصبت الشدَّة - يَعْنِي الشدَّة المسكرة - علما " على " الحكم.
وَأما انعكاس الْعلَّة فِي بعض الصُّور من غير اطراد، فنحو قَوْلنَا فِي مَسْأَلَة الرّجْعَة وَإِنَّهَا لَا تحصل بِالْوَطْءِ، فعل من يقدر على القَوْل، فَلَا تصح بِهِ الرّجْعَة، قِيَاسا على الْخلْوَة وَسَائِر الْأَفْعَال. فَإذْ قيل: أما فِي الْخلْوَة

(3/258)


" فَإِنَّهُ " لَا تصح الرّجْعَة بهَا، مِمَّن قدر على القَوْل لَا مِمَّن لم يقدر عَلَيْهِ لِأَن الْأَخْرَس لَو خلا بالرجعية، لم تكن خلوته رَجْعَة. وَلَكنَّا نقُول: لهَذَا الْوَصْف تَأْثِير فِي الْجُمْلَة فِي إِشَارَة الْأَخْرَس، فَإِنَّهَا فعل وَاقع موقع القَوْل، وَلَو قدر الإقتدار على القَوْل، لم يَقع موقعه، فَيَقَع الِاكْتِفَاء بالانعكاس فِي هَذِه الصُّورَة الْوَاحِدَة.
وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْمُرْتَد، ترك الصَّلَاة لمعصية بعد إِسْلَامه، فَوَجَبَ عَلَيْهِ " الْقَضَاء " أَصله الْمُسلم، إِذا أسلم وَترك الصَّلَاة.
فَإِن قيل لنا: فَلَو سكر مكْرها، وَترك الصَّلَاة، لزمَه الْقَضَاء.
قُلْنَا: يظْهر تَأْثِير مَا ذَكرْنَاهُ فِي زَوَال الْعقل بالجنون، فَإِنَّهُ إِن كَانَ سَببه مَعْصِيّة، فَلَا يُؤثر فِي إِسْقَاط الْقَضَاء، وَإِن كَانَ سَببه غير مَعْصِيّة أثر فِي إِسْقَاط الْقَضَاء. فنكتفي بِظُهُور التَّأْثِير فِي هَذِه الصُّورَة الْوَاحِدَة. إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه.
1708 - وَوجه هَذِه الطَّرِيقَة. أَنا وجدنَا الحكم يساوق وَصفا من الْأَوْصَاف فِي الأَصْل، ثمَّ وَجَدْنَاهُ يَنْتَفِي عِنْد انْتِفَاء ذَلِك الْوَصْف، أما على الاطراد، وَأما فِي بعض الصُّور، فنعلم ارتباط الحكم بذلك الْوَصْف، وتأثير ذَلِك الْوَصْف فِيهِ. وَلَيْسَ ذَلِك كالطرد الْمُجَرّد. فَإِنَّهُ اكْتِفَاء بِدَعْوَى.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه الطَّرِيقَة لَيست بمرضية فِي إِثْبَات الْعِلَل أَيْضا وَذَلِكَ أَن الْعَكْس لَا يشْتَرط فِي صِحَة الْأَدِلَّة. كَيفَ؟ وَلَا يشْتَرط فِي

(3/259)


الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة فوجود الانعكاس وَعَدَمه بِمَثَابَة وَاحِدَة.
1709 - وَوجه التَّحْقِيق فِيهِ، أَنه إِذا علق الحكم على وجود أَمارَة، فَلَيْسَ من شَرط التَّعْلِيق بهَا. أَن يعلق ضد ذَلِك الحكم على عدم تِلْكَ الأمارة فَإِن وجود الْعلَّة وَعدمهَا إمارتان " فِي " تثبيت الحكم ونفيه. وَلَيْسَ سَبِيل " استشارة " الحكم من الْعِلَل فِي الشرعيات سَبِيل إثارة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة معلولاتها، من حَيْثُ أَنَّهَا توجبها لذواتها. فَلَا تعلق لأحدى الأمارتين وَالْحكم المنوط بهَا بالأمارة الثَّانِيَة وَحكمهَا.
وَوجه الْإِيضَاح فِيهِ أَن نقُول: لَو قَدرنَا ثُبُوت الحكم عِنْد ثُبُوت وصف وانتفاءه عِنْد انتفائه، وقدرنا مَعَ ذَلِك نصا من صَاحب الشَّرِيعَة، على أَن ذَلِك الْوَصْف لَيْسَ بعلة فِي الحكم، وَإِنَّمَا الْعلَّة فِيهِ غَيره / كَانَ ذَلِك سائغا فَإِذا جَازَ تَقْدِير نَصبه عِلّة شرعا، وَلم يَقْتَضِي الْعقل نَصبه عِلّة فَإِذا تقَابل جَوَاز نَصبه عِلّة، وَجَوَاز خُرُوجه عَن كَونه عِلّة مَعَ اطراده وانعكاسه، فعلى الَّذِي ينصبه عِلّة فِي الاطراد والإنعكاس، إِقَامَة الدَّلِيل على نَصبه عِلّة. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.

(3/260)


1710 - ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِذا قدرتم الشدَّة عِلّة لاطرادها وانعكاسها فقد تقارنها أَوْصَاف تُوجد بِوُجُود الشدَّة وتعدم بعدمها، وَذَلِكَ لَا يُوجب تَعْلِيق الحكم على بَعْضهَا. وَذَلِكَ نَحْو الرَّائِحَة الْمَخْصُوصَة الَّتِي تكون فِي الْخمر للشدة فَإِن هَذَا الضَّرْب مِمَّا يُوجد بِوُجُود الشدَّة ويعدم بعدمها. ثمَّ لَا يعلق الحكم عَلَيْهِ، فَبَطل رِعَايَة الاطراد والانعكاس.
وَهَذَا فِيهِ نظر عِنْدِي، فَإِن الَّذِي يعْتَبر الشدَّة، لَيْسَ يعْنى بِهِ ضربا مَخْصُوصًا من الْأَعْرَاض وَلكنه يُشِير إِلَى هَذَا الضَّرْب من التَّغْيِير، وينطوي قَوْله على جمل من الْأَوْصَاف وَكلهَا تسمى شدَّة. فَمِنْهَا الرَّائِحَة الَّتِي تمثل بهَا القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.
وَفِيمَا قدمْنَاهُ أكمل غنية فِي إبِْطَال رِعَايَة الاطراد والانعكاس.
1711 - فَإِن قَالَ قَائِل: " آيَة " صِحَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، أَن يُوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها فَإِذا تحقق مثل هَذِه الطَّرِيقَة فِي الْعِلَل السمعية، فَيجب أَن يَقع الِاكْتِفَاء بهَا.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل، من أوجه.
مِنْهَا: أَن الاطراد والانعكاس ليسَا بأمارة فِي صِحَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة " ...

(3/261)


يصدنا عَن هَذَا الْمَقْصد ".
ثمَّ نقُول: هلا قُلْتُمْ أَنه يَكْتَفِي فِي الْعِلَل السمعية بالاطراد وَلَا يشْتَرط فِي تصحيحها الأنعكاس، كَمَا لَا يشْتَرط فِي تَصْحِيح الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة انعكاس، فَتبين خبطهم بِمَا قَالُوهُ.
1712 - فَإِن قَالُوا: إِذا وجدنَا الحكم يساوق وَصفا فَيتَحَقَّق عِنْد وجوده، وينتفي عِنْد عَدمه، فيغلب على الظَّن ارتباطه بِهِ. والعلل السمعية مَبْنِيَّة على غلبات الظنون.
قُلْنَا: هَذِه دَعْوَى. فَإِن غلب ذَلِك على ظَنك لم يغلب على ظن من لَا يعْتَبر الاطراد والانعكاس، فَمَا يُغْنِيك ادِّعَاء غَلَبَة ظن، وخصمك لَا يساعدك.
(295) فصل

(اتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ على حكم الأَصْل لَا يَقع بِهِ الِاكْتِفَاء)

1713 - إِذا نصب الْمُعَلل قِيَاسا، وَوَافَقَهُ خَصمه فِي حكم الأَصْل، فموافقة الْخصم إِيَّاه، لَا يَقع الِاكْتِفَاء بهَا حَتَّى يثبت الحكم فِي الأَصْل بطرِيق الشَّرْع.
وَلَكِن استمرت الْعَادة بَين المتناظرين على الإجتزاء بالوفاق فِي حكم

(3/262)


الأَصْل، وَلَيْسَ كَذَلِك لمصير أهل النّظر إِلَى وفَاق الْخصم آيَة فِي صِحَة ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل. إِذْ قدمنَا، أَن إِجْمَاع القائسين بأسرها حجَّة فِيهِ، فَمَا الظَّن بموافقة خصم لخصم!
وَلَكِن لأهل النّظر " تواضع " بَين أظهرهم، يتبعونه لأغراض لَهُم. فكأنهم عِنْد الإتفاق على حكم الأَصْل، علمُوا ثُبُوت حكمه بِدلَالَة، سوى اتِّفَاقهم. وَلم يتناقشوا. إِذْ لم يقصدوها بالْكلَام.
1714 - ثمَّ اعْلَم أَن عِلّة الأَصْل لَا بُد من تقديرها فِي نَفسهَا أَولا. حَتَّى إِذا قدرت أُقِيمَت الدّلَالَة على كَونهَا عِلّة. ثمَّ عِلّة الأَصْل قد تكون " مدركة " بِالضَّرُورَةِ مثل أَن تنصب حلاوة الشَّيْء أَو شدته أَو مرارته عللا فِي الْأَحْكَام وَقد تكون عِلّة الأَصْل حكما من الْأَحْكَام، ثَابِتَة بأدلة السّمع. وَذَلِكَ نَحْو اعْتِبَار الْأكل عَامِدًا فِي صِيَام رَمَضَان، بِالْجِمَاعِ. وَالْجَامِع بَينهمَا يقدر الْعلَّة فِي الأَصْل كَونه إبطالا بِمَعْصِيَة، وَذَلِكَ حكم.
وَقد تثبت عِلّة الأَصْل بغلبات الظنون. فَلَيْسَ من شَرط ثُبُوت / عِلّة الأَصْل الْقطع، كَمَا لَيْسَ من شَرط ثُبُوت كَونهَا عِلّة، الْقطع.
فَلَو قدر القائس فِي أصل حكما، وَنصب عِلّة مَا تُفْضِي إِلَى غَلَبَة الظَّن فِي مجْرى الْعَادة، ثمَّ قدر ذَلِك الَّذِي غلب على ظَنّه عِلّة فِي حكم وُرُود عَلَيْهَا غَيرهَا. فيسوغ لَهُ ذَلِك كَمَا يسوغ ذَلِك فِي حكم الأَصْل. فَإِنَّهُ لَو نوزع فِي حكم الأَصْل، فثبته، ثمَّ قَاس عَلَيْهِ كَانَ سديدا.

(3/263)


1715 - ويتصل بذلك أَنه إِذا قدر فِي الأَصْل عِلّة، فَلَا يشْتَرط تحقق تِلْكَ الْعلَّة قطعا فِي الْفَرْع، وَلَكِن لَو غلب على ظَنّه ثُبُوتهَا فِي الْفَرْع بطرِيق يُفْضِي إِلَى غلبات الظنون، فَلهُ الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل.
فَخرج من هَذِه الْجُمْلَة أَنا لَا نشترط الْقطع فِي شَيْء من أَرْكَان الْقيَاس فَهَذِهِ جملَة مقنعة، تمهد لَك علل الْأُصُول وَمَا يَصح مِنْهَا وَمَا يفْسد.
(296) القَوْل فِيمَا يثبت بِهِ فَسَاد الْعِلَل السمعية وبطلانها

1716 - اعْلَم، أَن الْكَلَام يَنْقَسِم فِي هَذَا الْبَاب إِلَى قطع وَغَلَبَة ظن.
وَنحن نبدأ بالطرق الَّتِي تَقْتَضِي الْعلم بِفساد بعض الْعِلَل، ثمَّ نذْكر مَا نسلك مِنْهَا طرق غلبات الظنون.
1717 - فمما يعرف بِهِ فَسَاد الْعلَّة قطعا، مخالفتها للنَّص فِي مجْرى من مجاريها فَلَو ادّعى القائس حكما فِي الأَصْل على خلاف النَّص فِي الْكتاب أَو السّنة، أَو ادّعى تعليلا بِوَصْف، على خلاف النَّص أَو جمع فِي مَوضِع تَفْرِيق النَّص، أَو فرق فِي مَوضِع جمع النَّص. فَهُوَ بَاطِل مهما خَالف النَّص فِي ركن من أَرْكَانه.
وَمِمَّا يعلم بِهِ فَسَاد الْعلَّة قطعا، مخالفتها الْإِجْمَاع فِي بعض مجاريه. وَالتَّفْصِيل فِيهِ كالتفصيل فِي النَّص.
1718 - وَمِمَّا ألحقهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِالْقطعِ فِي إِفْسَاد الْعلَّة، أَن تخَالف عِلّة صَاحب الشَّرِيعَة نَحْو مَا روينَا عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي أَنه علل بِالنُّقْصَانِ فِي

(3/264)


الرطب فَكل عِلّة تخَالف هَذِه الْعلَّة فَهِيَ بَاطِلَة قطعا.
هَكَذَا قَالَ - رَضِي الله عَنهُ. وَلم ينظر أَن ثُبُوت الْخَبَر بطرِيق يقطع بِهِ من تَوَاتر واستفاضة وَذَلِكَ أَن الروَاة وَإِن كَانُوا بصدد الزلل - فقد كلفنا قطعا - الْعَمَل بِمَا " يَرْوُونَهُ " وَالْخَبَر مقدم على الْقيَاس قطعا.
وسنفرد هَذِه الْمَسْأَلَة بالْكلَام فِي آخر المقايس إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَلم ينظر أَيْضا رَضِي الله عَنهُ أَن كَون لفظ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَابلا للتأويل، وَلم يجز تَأْوِيله بِالْقِيَاسِ. وَألْحق ذَلِك بالقطعيات وَقد قدمنَا فِي ذَلِك قولا كَافِيا. قلت وَفِي إِلْحَاقه بالقطعيات أدنى نظر، وَالله أعلم.
وَمِمَّا ألحقهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِالْقطعِ فِي إِفْسَاد الْعلَّة أَن لَا يقوم على ثُبُوتهَا عِلّة علم أصلا بِوَجْه من الْوُجُوه فنقطع بفسادها.
وَمِمَّا يلْتَحق بِالْقطعِ أَيْضا، أَن يحيد القائس عَن سنَن الْقيَاس ويسلك بالإستنباط مَسْلَك الْعقل، وَلَا يعْتَبر بمورد الشَّرْع. وَذَلِكَ نَحْو كَلَام الْمُعْتَزلَة فِيمَا يحرم وَيحل عقلا. وبنائهم الاستنباط / عَلَيْهِ / وإلحاقهم الْفُرُوع بالأصول فِي قَضِيَّة الْعقل فَهَذَا السَّبِيل بَاطِل قطعا. وسنستقصي القَوْل فِيهِ فِي آخر الْكتاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. فَهَذِهِ طرق الْقطع.

(3/265)


1719 - وَتثبت فِي رد الْعِلَل طرق، ومسلكها غلبات الظنون، وَلَا يبلغ مبلغ الْقطع والتحق بذلك انتفاض الْعلَّة، وَتَخْصِيص الْمُعَلل / إِيَّاهَا فَكل من اعْتقد جَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة كَانَ مُكَلّفا بالجري على مَا ثَبت عِنْده فِي حكم الْعلَّة. وكل من / اعْتقد منع التَّخْصِيص، كَانَ مُخَاطبا بقضية اعْتِقَاده. وسنفرد مَسْأَلَة التَّخْصِيص بالْكلَام.
وَمِمَّا يلْحق بغلبات الظنون فِي ذَلِك مُقَابلَة الْقيَاس عُمُوما، فَمن النَّاس من يُسَلِّطهُ على الْعُمُوم وَمِنْهُم من يُسَلط الْعُمُوم عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يتَّصل بذلك قُصُور الْعلَّة وَعدم تعديها فَإِنَّهُ على اخْتِلَاف نذكرهُ وَيتبع كل فِيهِ بِمَا يَعْتَقِدهُ.
1720 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَمن ذَلِك مُعَارضَة الْعلَّة مَعَ " تنافيهما " فِي الظَّاهِر فَالَّذِي صَار إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ، بِأَن الْمُصِيب " وَاحِد " أَن الْعلَّة مهما عارضتها عِلّة " فِي خلاف حكمهَا " فَإِن رجح المسؤول

(3/266)


" علته " بِوَجْه يتَّجه فِي مجاري الترجيحات وأفسد عِلّة الْمسَائِل سلمت علته. وَإِن تكن الْأُخْرَى فَسدتْ " علته " وَكَانَ ذَلِك انْقِطَاعًا مِنْهُ.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي عندنَا - معاشر الْقَائِلين بتصويب الْمُجْتَهدين - أَن الْعلَّة لَا تقدح فِيهَا الْمُعَارضَة. وَلَكِن كل عِلّة تَقْتَضِي حكمهَا فِي حق مستنبطها، وَلَو " تساوتا " فِي حق مستنبط وَاحِد تخير بِالْأَخْذِ " بِأَيِّهِمَا " شَاءَ مَا نذكرهُ فِي كتاب الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَخرج من ذَلِك أَن مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ لَيست من القوادح. وَلَكِن من قَالَ بتصويب وَاحِد من الْمُجْتَهدين، عد مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ من ضروب القوادح وتكثر نَظَائِر مَا اخْتلف فِيهِ من القوادح، وَقد أَشَرنَا إِلَى بَعْضهَا وَنَذْكُر على تَرْتِيب الْكتاب بَابا فِيهَا. إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(297) فصل طرق الاعتراضات على الْعلَّة

1721 - جمع بعض أَرْبَاب الْأُصُول طرق الإعتراضات على الْعلَّة،

(3/267)


فبلغوها اثْنَي عشر وَجها وَنحن نشِير إِلَيْهَا، ونوضح الْحق فِيهَا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَمِنْهَا: إِنْكَار عِلّة الأَصْل ومثاله: قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي إِخْرَاج الْفطْرَة عَن العَبْد الْكَافِر، كل زَكَاة وَجب إخْرَاجهَا عَن العَبْد الْمُسلم، وَجب إخْرَاجهَا عَن العَبْد الْكَافِر، كَزَكَاة عبد التِّجَارَة. فَيُقَال لَهُم: مَا ذكرتموه مَمْنُوع فِي الأَصْل. فَإِن زَكَاة عبد التِّجَارَة لَا يجب إخْرَاجهَا عَن العَبْد، وَإِنَّمَا تخرج عَن قِيمَته.
وَمِنْهَا: إِنْكَار عِلّة الْفَرْع. وَذَلِكَ مثل قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي لعان الْأَخْرَس معنى يفْتَقر إِلَى الشَّهَادَة، فَلَا يَصح من الْأَخْرَس كَالشَّهَادَةِ. وَلَا نسلم لَهُم مَا قَالُوهُ فِي الْفَرْع من افتقار اللّعان إِلَى لفظ الشَّهَادَة.
وَاعْلَم أَن كل مَا ذَكرْنَاهُ، لَيْسَ بقادح فِي نَفسه وَإِنَّمَا هُوَ سُؤال موجه يلجئ المعتمل فِي حكم الجدل إِلَى إِقَامَة الدّلَالَة، فَإِن عجز عَنْهَا " عد " مُنْقَطِعًا حِينَئِذٍ.
وَمِنْهَا: إِنْكَار الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع. وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم فِي الْمُتَمَتّع إِذا لم يصم سقط عَنهُ الصَّوْم، لِأَنَّهُ بدل مُؤَقّت، فَسقط بِفَوَات وقته كَالْجُمُعَةِ

(3/268)


فَنَقُول: أما الْجُمُعَة فَلَيْسَتْ بِبَدَل. فَهَذَا منع عِلّة الأَصْل. وَعلة الْفَرْع مَمْنُوع من وَجه آخر وَذَلِكَ أَن الصَّوْم لَا يسلم فِيهِ التَّوْقِيت. إِذْ الصَّوْم الْمُؤَقت هُوَ الْمُخْتَص بِزَمَان.
وَمِنْهَا: إِنْكَار الحكم فِي الأَصْل. وَذَلِكَ نَحْو قياسهم اللّعان على الشَّهَادَة فِي أَنه لَا يَصح من الْأَخْرَس، فَإِذا جَوَّزنَا شَهَادَة الْأَخْرَس كَانَ ذَلِك منعا لحكم الأَصْل.
وَمِنْهَا: أَن لَا يتَعَدَّى الحكم من الأَصْل إِلَى الْفَرْع وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم فِي ضم الدَّنَانِير إِلَى الدَّرَاهِم فِي تَكْمِيل النّصاب، لِأَن زكاتهما ربع الْعشْر / فيضم أَحدهمَا إِلَى الآخر كالصحاح والمكسرة. فَنَقُول: الضَّم الَّذِي فِي الأَصْل هُوَ ضم بالأجزاء وَالضَّم فِي " الْفَرْع " هُوَ ضم بِاعْتِبَار الْقيمَة. فَلم " يعْتد " الضَّم الَّذِي فِي الأَصْل، إِلَى الْفَرْع.
وَهَذَا الِاعْتِرَاض فِيهِ نظر. إِذْ يجوز الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِي أصل الضَّم وَإِن اخْتلفَا فِي الْكَيْفِيَّة.
وَمِنْهَا: الْمُطَالبَة بتصحيح الْعلَّة فِي الأَصْل، وَإِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهَا.
وَمِنْهَا: القَوْل بِمُوجب الْعلَّة.
وَمِنْهَا: نقض الْعلَّة، على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِنْهَا: الْمُطَالبَة بتفسير لفظ الْعلَّة. نَحْو قَوْلنَا لأَصْحَاب أبي حنيفَة، إِذْ

(3/269)


قَالُوا: الْجِنْس أحد وصفي الْعلَّة / فِي / تَحْرِيم التَّفَاضُل فَيحرم النسأ كالوصف الثَّانِي.
فَنَقُول: إِن إردتم بِالْوَصْفِ الثَّانِي الْمكيل لم نسلمه. وَإِن أردتم الطّعْم لم يَصح على أصلكم وكل تَفْسِير يُفْضِي تَفْصِيله إِلَى تمانع، فَهُوَ من الأسئلة الَّتِي تلجئ المسؤول إِلَى التَّفْسِير ثمَّ الدَّلِيل على مَا يتنازع فِيهِ.
وَمِنْهَا: أَن يُخَالف الْقيَاس نصا " أَو " إِجْمَاعًا.
وَمِنْهَا: قلب الْعلَّة، على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِنْهَا: معارضتها بِمِثْلِهَا.
1722 - وَاعْلَم أَن هَذَا التَّرْتِيب غير مرضِي، فَإِنَّهُ منطو على مختلفات.
فَأَما الممانعات فِي الْعِلَل وَالْأَحْكَام فَلَا سَبِيل إِلَى عدهَا فِي القوادح. وَلَكِن الممانعات تلْزم الْمَسْئُول نصب الْأَدِلَّة.
وَأما القَوْل بِالْمُوجبِ فَلَا يبطل العة فَإِن الْوِفَاق على مُوجب عِلّة

(3/270)


لَا يُبْطِلهَا أصلا. وَلَكِن إِذا رام الْمُعَلل بهَا إِثْبَات مُخْتَلف، فقوبل بِمُوجب علته، لم يستتب مُرَاده إِلَّا وَالْعلَّة صَحِيحَة. فَلَا وَجه لعد القَوْل بِالْمُوجبِ فِي قوادح الْعِلَل، وَلكنه يقْدَح فِي مَقَاصِد المعللين.
وعجبا لهَذَا الْمُرَتّب كَيفَ أخر أقوى القوادح المفضي إِلَى الْقطع بِفساد الْعلَّة، وَهُوَ مُخَالفَة النُّصُوص وَالْإِجْمَاع.
وَأما الْقلب فَسَيَأْتِي فِيهِ كَلَام، وَقد سبق الْكَلَام فِي مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ وَهَا نَحن فِي النَّقْض وَتَخْصِيص الْعلَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(298) القَوْل فِي تَخْصِيص الْعلَّة السمعية

1723 - اعْلَم، أَن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة لَا يسوغ تخصيصها، وَمن شَرط صِحَّتهَا اطرادها. فَإِذا انتصب الْعلم عِلّة فِي كَون الْعَالم عَالما، وَجب طرد ذَلِك. فَلَا يَتَقَرَّر علم إِلَّا يُوجب هَذَا الحكم. وَلَا يَتَقَرَّر هَذَا الحكم إِلَّا مُوجبا عَن الْعلم شَاهدا غَائِبا. وَهَذَا يستقصى فِي غير هَذَا الْفَنّ.
1724 - وَإِنَّمَا مقصدنا الْعِلَل السمعية. وَقد اخْتلف النَّاس فِي جَوَاز تخصيصها فَمَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من القائسين منع التَّخْصِيص والمصير

(3/271)


إِلَى / أَن / الانتقاض آيَة بطلَان الْعلَّة. والانتقاض هُوَ " وجود " مَا قدره المستنبط عِلّة مَعَ انْتِفَاء الحكم.
وَذهب " أَصْحَاب " أبي حنيفَة إِلَى تَجْوِيز تَخْصِيص الْعلَّة، ويؤثر ذَلِك عَن أبي حنيفَة، وَقد حُكيَ عَن مَالك أَيْضا.
وَحَقِيقَة هَذَا الأَصْل تؤول إِلَى مَا نبنيه. وَهُوَ أَن الْمُعَلل إِذا ناط بِالْعِلَّةِ حكما، فَكَأَنَّهُ يَقُول: هَذِه الْعلَّة علم للْحكم فِي كل صُورَة " عدمنا " فِيهَا النَّص فنقدرها أَمارَة بِشَرْط انْتِفَاء مَا يُبْطِلهَا.
قَالُوا: وَهَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل مَا أخْبركُم بِهِ فلَان عني - وَأَنا صَاحبه - فاعلموا أَنه صَادِق فَإِن رددت عَلَيْهِ فاعلموا كذبه. فَهَذَا مَنْهَج مَذْهَبهم.

(3/272)


1725 - ثمَّ اعلموا بعد ذَلِك إِن الَّذين / جوزوا / تَخْصِيص الْعلَّة المستأثرة المستنبطة، اخْتلفُوا فِي جَوَاز تَخْصِيص عِلّة صَاحب الشَّرِيعَة.
فَذهب ذاهبون إِلَى جَوَاز ذَلِك /.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى منع تَخْصِيص عِلّة صَاحب الشَّرِيعَة، وَقَالُوا: إِذا وَردت لَفْظَة عَن صِيغَة التَّعْلِيل من صَاحب الشَّرِيعَة، فَإِن اطردت، جَازَ أَن تكون عِلّة. وَإِن عدم الحكم مَعَ وجودهَا، تبين لنا أَن صَاحب الشَّرِيعَة لم يُعلل بهَا أصلا، وَيحمل لَفظه فِي التَّعْلِيل على خلاف ظَاهره فَإِن لفظ التَّعْلِيل قد يرد، وَلَا يُرَاد بِهِ التَّعْلِيل.
وَذَهَبت طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة إِلَى الْفرق بَين الْحَظْر والتحليل. فَقَالُوا: مَا نصب علما للحظر " لم يجز " وَلَو اخْتصَّ بَطل. وَمَا نصب علما لتحليل أَو إِيجَاب أَو نَحْوهمَا مِمَّا لَا يكون حظرا، فتخصيصه لَا يُبطلهُ فَهَذَا بَيَان الْمذَاهب.
1726 - وَمَا صَار إِلَيْهِ الْفُقَهَاء وَمن لم يحصل حقائق الْأُصُول أَن هَذِه الْمَسْأَلَة من القطعيات حَتَّى قطعُوا بِبُطْلَان الْعلَّة إِذا انتقضت، كَمَا

(3/273)


" قطعُوا " ببطلانها إِذا ضادت نصا.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك عندنَا، بل الْمَسْأَلَة من المجتهدات، فَلَا نقطع فِيهَا بِجَوَاب. وكل من أَخذ فِيهَا بِمُوجب غَلَبَة ظَنّه فَهُوَ مُصِيب. وَإِنَّمَا ذكرنَا لَك هَذَا، لِئَلَّا تطالب نَفسك بشرائط أَدِلَّة الْقطع " إِذا " توسطت الْمَسْأَلَة.
1727 - وَمن الْعلمَاء من يذكر فِي ذَلِك تَفْصِيلًا، فَيَقُول: إِن نصب الْمُعَلل الْعلَّة وأطلقها فنقضت عَلَيْهِ، كَانَ ذَلِك إبطالا.
وَإِن قَالَ عِنْد نصب الْعلَّة إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهَا مَانع، فَلَا يقْدَح النَّقْض فِي اعتلاله قلت: وَهَذَا تَفْصِيل يتَعَلَّق بتأديب الجدل، وَإِلَّا فَمن يعْتَقد أَن النَّقْص لَا يقْدَح فِي الْعلَّة، فَلَا يَنْبَغِي أَن يفصل بَين الْإِطْلَاق وَالِاسْتِثْنَاء.
وَالَّذِي نختاره منع تَخْصِيص الْعِلَل المستفادة والواردة شرعا.
1728 - وَقد ذكر أَصْحَابنَا فِي ذَلِك " طرقا " مدخولة، مِنْهَا. مَا حُكيَ عَن " عَليّ بن حَمْزَة الطَّبَرِيّ " أَنه قَالَ فِي القَوْل بتخصيص الْعلَّة تكافؤ

(3/274)


الْأَدِلَّة، فَإِن قَائِلا لَو قَالَ: النَّبِيذ شراب مَائِع فَيحل كَالْمَاءِ. فَنَقُول لَهُ. بل هُوَ شراب مايع فَلَا يحل، كَالْخمرِ، فَلَا يكون أحد المعللين أولى من الثَّانِي مَعَ تنَاقض العلتين. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء.
فَإِن كل مُعَلل مطَالب بتصحيح عِلّة أَصله، سَوَاء قَالَ التَّخْصِيص، أَو لم يقل. ثمَّ إِذا علل وَأثبت عِلّة الأَصْل، فَيكون قَول الْخصم بعد ذَلِك بِمَنْزِلَة مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ، وَقد سبق القَوْل فِيهِ.
1729 - وَقد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَغَيره طَريقَة أُخْرَى فِي الِاسْتِدْلَال فَقَالُوا: لمن نصب عِلّة منتصبة " لَا بُد لَك " من إِثْبَات الْعلَّة بِالدَّلِيلِ. فَإِذا أثبت عِلّة الأَصْل بِالدَّلِيلِ ثمَّ جوزت اخْتِصَاص الْعلَّة فِي بعض الصُّور، فخصص الدّلَالَة بِالْأَصْلِ. وَقل أَن كل صُورَة تنصب فِيهَا هَذِه الْعلَّة، فَلَا بُد من إِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهَا على التَّخْصِيص. فَلَا نستفيد بِالْعِلَّةِ جمع الْفَرْع وَالْأَصْل فِي عِلّة دلّت عَلَيْهَا دلَالَة وَاحِدَة.

(3/275)


وَأَطْنَبَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَغَيره من ذَلِك أَن من اسْتَأْثر عِلّة وَإِنَّمَا نقصد جعلهَا أَمارَة فِي الحكم عَلَيْهَا.
وَهَذَا فِيهِ نظر أَيْضا فَإِن لَهُم أَن يَقُولُوا: يقْصد المستنبط جعلهَا أَمارَة فِي كل صُورَة شغر عَن مَانع.
1730 - وَقد ألحق بعض أَصْحَابنَا الْعِلَل السمعية بالأدلة الْعَقْلِيَّة فَقَالُوا: مَا علق عَلَيْهِ الحكم فِي الشَّرِيعَة وَجعل علما فِيهِ، يصير بعد تعلق الحكم بِهِ بِمَنْزِلَة الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة. " وَلَا يصفوا اعْتِبَار طَريقَة " / من هَذِه الطّرق فَلَا فَائِدَة فِي الإسهاب فِيهَا.
1731 - وَالَّذِي أوثره لَك إِذا انتقضت عِلّة خصمك، وَقَالَ بالتخصيص أَن تطالبه فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل بِالدَّلِيلِ، وَهَذَا إِنَّمَا يتَبَيَّن بالإمتحان، وَأولى الطّرق هَذَا وَلم نقل إِلَّا بعد التنقير والتفحص.
وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ، أَن تَقول: الْعلَّة المطردة مِمَّا تمسك بهَا أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَلَا ريب " فِيهِ " وَلم تقم دلَالَة تَقْتَضِي تعبدنا بِكُل مَا يُسمى قِيَاسا، فَمَا وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ، فَهُوَ الثَّابِت. وَمَا لم تقم فِيهِ دلَالَة يلْتَحق بِمَا لَا يدل.

(3/276)


فَإِن شَرط مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي إِثْبَات الحكم أَن يدل عَلَيْهِ مَا يقطع بِهِ وَهَذَا أَسد الطّرق إِن أثرت طرق الْحجَّاج.
1732 - وَمِمَّا تمسك بِهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَاز التَّخْصِيص، مَا ذَكرْنَاهُ فِي خلال الْكَلَام من قَوْلهم أَنه لَا يبعد فِي الْعقل نصب الشَّيْء عِلّة إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع.
وَالْجَوَاب عَنهُ أَن نقُول: لَو سلم لكم ذَلِك، فَلَا حرج فِيهِ فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ من مجوزات الْعُقُول، فَلم تقم عَلَيْهِ دلَالَة تَقْتَضِي تثبيتها دَلِيلا. وَلَيْسَ كل مَا كَانَ من مجوزات الْعُقُول يحكم بتقريره، فَبَطل مَا قَالُوهُ.
1733 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَن قَالُوا: إِذا جَازَ لصَاحب الشَّرْع أَن يُطلق لفظا عَاما فِي ظَاهره، ثمَّ يخصصه فَيجوز ذَلِك للمعلل.
فَيُقَال: إِذا منعنَا القَوْل بِالْعُمُومِ، لم يستقم مَا قلتموه. على أَن منع تَأْخِير " الْبَيَان " عَن وَقت الْحَاجة منع تَأْخِير التَّخْصِيص.
ثمَّ نَظِير نصب الْعلَّة تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِذْ الْمُعَلل يحْتَاج إِلَى طرد علته، أَو تخصيصها فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.

(3/277)


(299) فصل الرَّد على من فرق بَين المنصوصة والمستنبطة وَمن فرق بَين عِلّة الْإِيجَاب وَعلة التَّحْرِيم

1734 - من قَالَ بِالْفَصْلِ بَين الْعلَّة " المستأثرة " " و " بَين عِلّة صَاحب الشَّرِيعَة فقد تحكم. وَالصَّحِيح التَّسْوِيَة بَينهمَا.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك، أَنه إِذا منع تَخْصِيص الْعلَّة المستأثرة - مَعَ علمنَا قطعا أَنَّهَا لَا توجب حكمهَا لعينها، وَلَكِن المستنبط يغلب على ظَنّه جعل صَاحب الشَّرِيعَة إِيَّاهَا عِلّة وأمارة - فَإِذا جوز تَخْصِيص الْمُصَرّح بِهِ من الْعِلَل فَلِأَن يجوز تَخْصِيص مَا نقدره شرعا أولى، وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ.
1735 - فَإِن قَالُوا: إِذا كَانَت الْعلَّة منصوصة، فَلَا حَاجَة ينافيها إِلَى استنباط لنحتاج فِي الاستنباط إِلَى طرد. وَلَيْسَ كَذَلِك الْعلَّة المستأثرة.
فَنَقُول: هَذَا لَا طائل تَحْتَهُ. فَإِنَّهُ إِذا جوزتم عدم الاطراد فِي الْعلَّة المنصوصة - ومقصده تَقْدِير النَّص على نصب الْعلَّة المستأثرة - فَيَنْبَغِي أَلا يُطَالب نَفسه فِي طَرِيق الاستنباط بالطرد. فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا.

(3/278)


1736 - وَأما من قَالَ من الْمُعْتَزلَة بِجَوَاز تَخْصِيص عِلّة التَّحْلِيل وَالْوُجُوب وَمنع ذَلِك فِي عِلّة الْخطر، فَإِنَّمَا يحملهُ على ذَلِك أصل أَوْمَأ إِلَيْهِ فِيمَا سبق. وَهُوَ أَنهم قَالُوا: لَا تصح التَّوْبَة عَن قَبِيح مَعَ الْإِصْرَار على قَبِيح وَيصِح الْإِقْدَام على عبَادَة مَعَ ترك أُخْرَى. وَهَذَا يستقصى فِي غير هَذَا الْفَنّ.
فَهَذَا جملَة القَوْل فِي تَخْصِيص الْعلَّة، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
(300 فصل)

1737 - إِذا منعنَا تَخْصِيص الْعلَّة وقدرنا اختصاصها " انتفاضا " وبطلانا، فَلَو علل الْمُعَلل، فَوجه القادح عَلَيْهِ نقضا، فرام الْمُعَلل دَفعه بالتفصيل وَالتَّفْسِير فَكل تَفْسِير يُنبئ عَنهُ ظَاهر اللَّفْظ وَقَضيته " فالتمسك " بِهِ بوضح اندفاع النَّقْض.
وَمِثَال ذَلِك: إِنَّا إِذا قُلْنَا فِي الْمُتَوَلد بَين الشَّاء / والظباء " حَيَوَان تولد بَين حيوانين وَلَا زَكَاة فِي أَحدهمَا. فَلَا زَكَاة فِيهِ ".
فَإِذا " ألزم الملزم " على هَذَا الاعتلال " بالمتولد " بَين المعلوفة والسائمة. كَانَ للمعلل أَن يَقُول: المعلوفة مِمَّا تجب الزَّكَاة فِيهَا على الْجُمْلَة وَلَيْسَ كَذَلِك الظبأ، وَقد قيدت الاعتلال بِنَفْي الزَّكَاة. وَظَاهر النَّفْي الْمُطلق.

(3/279)


1738 - يُنبئ عَن الْعُمُوم. فَهَذَا الضَّرْب مَقْبُول. وَلَا تَظنن أَن النَّقْض ينْدَفع بالتفسير وَلكنه ينْدَفع بقضية اللَّفْظ. اقْتِضَاء عُمُوم اللَّفْظ، وَالتَّفْسِير إِيضَاح لَهُ. وكل تَفْسِير لَا يُنبئ عَنهُ قَضِيَّة اللَّفْظ بِإِطْلَاقِهِ، فَلَا معول عَلَيْهِ فِي دفع النَّقْض.
وَهُوَ مثل أَن يَقُول الْقَائِل مطعوم فَلَا يجوز بيع بعضه بِبَعْض مُتَفَاضلا فَإِذا نقض عَلَيْهِ اعتلاله بِالْبرِّ مَعَ الشّعير، فَلَا يَنْفَعهُ دفع النَّقْض أَن يَقُول اسْم المطعوم ينْطَلق على مَا يتحد جنسه وعَلى مَا يخْتَلف جنسه وَإِنَّمَا أخصصه وأفسره بِجِهَة من جِهَات احْتِمَاله، وَهِي إِذا اتَّحد الْجِنْس. وَلَا يقبل ذَلِك مِنْهُ. إِذْ ظَاهر لَفظه لَا يُنبئ عَن هَذَا التَّفْصِيل. وَلَو سَاغَ قبُول مثل ذَلِك لما تصور لَهُ لُزُوم نقضا أصلا، فَإِن كل مُعَلل نقضت علته، لَا يعجز عَن حمل الْعلَّة على صُورَة يطرد فِيهَا.

(3/280)


(بَاب يجمع أصولا مُتَفَرِّقَة فِي أَحْكَام الْقيَاس)

(301) فصل جَوَاز تَعْلِيل الحكم بِأَكْثَرَ من عِلّة

1739 - مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم القائسين أَنه يجوز ثُبُوت الحكم بعلل تستقل كل وَاحِدَة مِنْهَا - لَو قدرت مُنْفَرِدَة - فِي اقْتِضَاء الحكم. نَحْو

(3/281)


الْمَرْأَة يجْتَمع فِيهَا الصَّوْم وَالْإِحْرَام وَالْحيض فَكل سَبَب من هَذِه الْأَسْبَاب - لَو قدر مُنْفَردا - تعلق بِهِ اقْتِضَاء تَحْرِيم الوطى، فَإِذا اجْتمعت فَالْحكم ثَابت بهَا " جمع ".
1740 - وَذهب بعض من لم يحصل مجاري الْقيَاس، إِلَى أَن الحكم لَا يُعلل بِأَكْثَرَ من عِلّة وَاحِدَة فَنَقُول: قد قدمنَا فِي أَبْوَاب سلفت، أَن سَبِيل الْعِلَل الشَّرْعِيَّة سَبِيل الأمارات وَذكرنَا أَنَّهَا لَا توجب الحكم لذواتها وأنفسها وَلَا يستبعد عقلا وَلَا سمعا أَن ينصب على تحقق الشَّيْء أَمَارَات، كَمَا لَا يستبعد نصب أَمارَة وَاحِدَة. وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ.

(3/282)


1741 - ثمَّ نفرض الْكَلَام فِي أَمْثَال الصُّور الَّتِي صدرنا الْبَاب بهَا، ونقسم الْكَلَام فَنَقُول: تَحْرِيم الوطئ مُعَلل بِاتِّفَاق بَيْننَا وَبَين من يخالفنا فِي هَذَا الْفَصْل، فَمَا علته؟ فَإِن عين معنى من تِلْكَ الْمعَانِي، وَنفى مَا عداهُ قوبل قَوْله بِمثلِهِ. فَإِن عين معنى آخر سوى مَا عينه وَنفى مَا عداهُ عِلّة، فيتقابل الْقَوْلَانِ. وَإِن جعل جَمِيعهَا عِلّة وَاحِدَة كَانَ ذَلِك مستحيلا فَإنَّا نعلم أَن من حكم الْعلَّة، أَنَّهَا إِذا انخرمت لعدم وصف من أوصافها فَلَا يثبت الحكم بهَا، وَلَو فقد بعض مَعَاني الأَصْل، لم يرْتَفع الحكم فَدلَّ أَنَّهَا لَيست عِلّة. فَلَا يبْقى بعد بطلَان هَذِه الْأَقْسَام إِلَّا مَا قُلْنَاهُ.
1742 - فَإِن قَالُوا: كل هَذِه الْمعَانِي علل. وَلَكِن لَهَا أَحْكَام. وَإِنَّمَا المستنكر ثُبُوت حكم وَاحِد بعلل قَالُوا: فَحكم التَّحْرِيم بِالْحيضِ غير حكم التَّحْرِيم بالاحرام، فهما إِذا حكمان. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ رَكِيك جدا، فَإِن تَحْرِيم الوطئ لَا يعقل تعدده فِي الصُّورَة الَّتِي فَرضنَا الْكَلَام فِيهَا، وَقد قدمنَا فِي ذَلِك مَا فِيهِ غنى، عِنْد نَفينَا اشْتِرَاط الإنعكاس فِي الْعِلَل السمعية.
1743 - فَإِن قيل لَو جَازَ ثُبُوت حكم بعلل مُخْتَلفَة، لجَاز ذَلِك فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة وَلَا خلاف أَن الحكم الْوَاحِد، لَا يثبت بعلل عقلية مُخْتَلفَة.
قيل لَهُم: لم جمعتم بَينهمَا؟ وَمَا وَجه تَحْقِيق هَذِه الدَّعْوَى فَلَا / يرجعُونَ إِلَى تَحْصِيل عِنْد توجه الطّلب.

(3/283)


(302) فصل جَوَاز التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ القاصرة

1744 - لَيْسَ من شَرط صِحَة الْعلَّة، تعديها عَن الْمحل الَّذِي قدرت عِلّة فِيهِ. هَذَا مَا صَار إِلَيْهِ الشَّافِعِي وَمَالك ومعظم الْمُحَقِّقين من الْأُصُولِيِّينَ، رَضِي الله عَنْهُم.

(3/284)


1745 - وَذهب بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى منع ذَلِك. وشرطوا فِي صِحَة الْعلَّة تعديتها وَمِثَال صُورَة الْخلاف. تَعْلِيل الرِّبَا فِي الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم فِي كَونهمَا ثمنين. فَهَذَا صَحِيح، مَعَ أَن الْعلَّة لَا تعدوهما. وأبطل أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحِمهم الله ذَلِك.
1746 - وَالدَّلِيل على تجويزه أَن نقُول: قد أوضحنا فِيمَا قدمنَا أَن الْعِلَل السمعية تحل مَحل الأمارات وَلَا اسْتِيعَاب فِي نصب الأمارات أَن نصبت فِي الشَّيْء: امارة تتخصص بِهِ وَلَا تعدوه. فَإِن نصب الأمارة يَنْقَسِم فَرُبمَا ينصب الناصب أَمارَة فِي أَشْيَاء، وَرُبمَا ينصبها فِي شَيْء وَاحِد، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك ويكشف الْحق فِيهِ، أَن نقُول: إِذا طردت عِلّة فِي مسَائِل فَهِيَ لَا تعدو تِلْكَ الْمسَائِل، كَمَا أَن الْعلَّة، لم تعد الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم. فَمَا من عِلّة يتَمَسَّك بهَا، إِلَّا وَهِي مُخْتَصَّة من وَجه، غير متعدية.
1747 - ومعول الْقَوْم فِي الْمَسْأَلَة على نُكْتَة وَاحِدَة. أَنهم قَالُوا: إِذا ثَبت الرِّبَا فِي الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم نصا. فَلَا فَائِدَة فِي تعليلها. فَإِن الْعلَّة إِنَّمَا تطلب لتفيد مَا لم يفده النَّص، فَإِذا اسْتَقل النَّص بِإِثْبَات حكم، فَلَا يبْقى لِلْعِلَّةِ الْمُطَابقَة لَهُ فَائِدَة.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه نِهَايَة الْمحَال. فَإِن مُطَابقَة الْعلَّة النَّص يقويها وَلَا يضعفها، إِذْ لَو كَانَ فِي مَسْأَلَة نَص. فاطرد فِيهَا قِيَاس لم يكن النَّص مُبْطلًا للْقِيَاس بل كَانَ عاضدا لَهُ. وَكَذَلِكَ سَبِيل كل دَلِيلين، يَجْتَمِعَانِ فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة.

(3/285)


على أَنا نقُول: إِنَّمَا الْمَقْصُود من طلب الْعلَّة - وَإِن قصرت - أَن يعلم أَن الله تَعَالَى علق الحكم فِيهَا بِطَلَب تَعْلِيله بِوَصْف من الْأَوْصَاف. وَهَذَا مَا لَا استنكار فِيهِ أصلا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، اتِّفَاق الكافة على جَوَاز وُرُود الشَّرْع بِالتَّعْلِيلِ الْقَاصِر إِذْ لَو قَالَ صَاحب الشَّرِيعَة. حرمت عَلَيْكُم الرِّبَا فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير لِكَوْنِهِمَا نقدين كَانَ ذَلِك جَائِزا، فَإِذا جَازَ وُرُود الشَّرْع بِهِ على صِحَة الْقُصُور، لم يستنكر استثارته واستنباطه.
1748 - ثمَّ ذكر أَصْحَابنَا فِي إِيضَاح فَائِدَة الْعلَّة القاصرة طرقا نَحن نذْكر مَا نرتضي مِنْهَا. فَمِنْهَا أَن قَالُوا: فائدتها ثُبُوت الحكم عِنْد ثُبُوتهَا وانتفاؤه عِنْد انتفائها. وَهَذَا الْقَائِل لَا يجوز تَعْلِيل الحكم بِالْعِلَّةِ اللَّازِمَة الَّتِي يتَوَقَّع زَوَالهَا مَعَ " وجود مَا " علل حكمه.
وَهَذِه الطَّرِيقَة فِيهَا نظر. وَالصَّحِيح جَوَاز التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ اللَّازِمَة والمتحولة. وَذكر بَعضهم أَن فَائِدَة التَّعْلِيل بالثمنية نفي الرِّبَا عَن الْجَوَاهِر الَّتِي لَا تتَحَقَّق فِيهَا الثمنية.
1749 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَالَّذِي ذكرتموه هُوَ " الْعَكْس " بِعَيْنِه، وَالْعَكْس لَيْسَ من شَرط صِحَة الْعلَّة، فكأنكم حصرتم فَائِدَة الْعلَّة فِي عكسها.

(3/286)


وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن نقُول: لسنا نشترط الإنعكاس أصلا. وَلَا مهما ثَبت حكم فِي صُورَة بِنَصّ أَو غَيره، وانتفى الدَّلِيل عَن مثل ذَلِك الحكم فِي غير تِلْكَ الصُّورَة وَاقْتضى السبر جلب عِلّة قَاصِرَة فنعلم عِنْد بطلَان طرد الْعلَّة تعديها وَانْتِفَاء سَائِر الْأَدِلَّة فِي غير الصُّورَة الْمَطْلُوب تعليلها، أَن الحكم يَنْتَفِي بِغَيْر الصُّورَة المعللة. فَتدبر ذَلِك.
1750 - وَاعْلَم أَنا لَا نعلم بطرد الْعلَّة انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها، وَلَكنَّا نعلم ذَلِك بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا وَالَّذِي / " نؤثر " لَك التعويل عَلَيْهِ، مَا قدمْنَاهُ من أَن طلب الْفَوَائِد على الْمنْهَج الَّذِي راموه ضرب من التعسف، وَالَّذِي يطْلب فِي الْعلَّة أَن يقدر ثُبُوتهَا أَمارَة لحكم، أما فِي صُورَة " إِذْ " نصب الأمارة إِلَى اخْتِيَار الناصب فَإِن شَاءَ عَداهَا وَإِن شَاءَ خصها. وَلذَلِك يَسْتَحِيل عِنْد ذَوي التَّحْقِيق وُرُود النُّطْق بِالتَّعْلِيلِ الْخَاص شرعا. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
فَإِنَّهَا أَمَارَات لَا يشْتَرط فِيهَا مَا قدمْنَاهُ.
1751 - وَمِنْهَا أَن الحكم الْوَاحِد فِي الْعقل لَا يُعلل بالعلتين، لَا متماثلتين وَلَا مختلفتين غير متضادتين. وَأما الْعِلَل السمعية، فَلَيْسَتْ كَذَلِك، إِذْ قد تثبت علل مُخْتَلفَة لحكم وَاحِد، كَمَا قدمْنَاهُ.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَإِذا جَوَّزنَا الْعلَّة القاصرة، فَلَا ننكر أَن تكون فِي الأَصْل عِلَّتَانِ، إِحْدَاهمَا قَاصِرَة وَالْأُخْرَى متعدية، فيقاس عَلَيْهِ بِالْعِلَّةِ

(3/287)


المتعدية. ثمَّ ثُبُوت الْعلَّة المتعدية فِي الأَصْل، لَا يمْنَع من الحكم بِصِحَّة القاصرة مَعهَا.
1752 - فَإِن قَالَ قَائِل: ألستم قُلْتُمْ: أَن فَائِدَة الْعلَّة القاصرة انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها وَقد أبطلتم ذَلِك الأَصْل بِمَا ذكرتموه.
قُلْنَا: لَو أحطت علما بِمَا سبق لأغناك ذَلِك عَن هَذَا السُّؤَال. فَإنَّا ذكرنَا أَن الْعلَّة القاصرة لَا توجب الحكم عِنْد انتفائها، وَلَكِن إِذا لم نجد عِلّة متعدية وَمَا قَامَت دلَالَة تَقْتَضِي مثل حكم الأَصْل لغيره. فَعِنْدَ اجْتِمَاع هَذِه الْأَوْصَاف، يَنْتَفِي الحكم " فِيمَا " عدا الأَصْل الْمُعَلل بِالْعِلَّةِ القاصرة. فَهَذَا قَوْلنَا فِي ثُبُوت الحكم الْوَاحِد بالعلل الْمُخْتَلفَة.
1753 - وَأما ثُبُوت الحكم الْوَاحِد بعلل " متضادة " فَلَا يَتَقَرَّر مَعَ تَصْوِير اجْتِمَاع الْعِلَل، لتضادها. وَلَكِن لَو قدرت ثُبُوت حكم عِنْد ثُبُوت معنى / ثمَّ قدر ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مَعَ ضد ذَلِك الْمَعْنى، مُعَللا بذلك الضِّدّ، فَلَا يستبعد ذَلِك فِي حق مجتهدين، على قَوْلنَا بتصويب الْمُجْتَهدين. أَو فِي حق مُجْتَهد مَعَ تغاير الْوَقْت وتبدل الِاجْتِهَاد.
(303) فصل

(فِي ذكر جمل من أَحْكَام الْعِلَل الْعَقْلِيَّة وَالْفرق بَينهَا وَبَين الْعِلَل السمعية)

1754 - قد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ جملا من أَحْكَام الْعِلَل

(3/288)


الْعَقْلِيَّة، وَمَا رام بذلك استقصاء القَوْل فِيهَا، وَلَكِن قصد التَّنْبِيه على مَا تفترق فِيهِ الْعِلَل الْعَقْلِيَّة والسمعية. فيحيط بذلك علما فِي مجاري الْكَلَام.
1755 - فَاعْلَم أَن الْعلَّة الْعَقْلِيَّة تفارق السمعية من أوجه:
أَحدهَا: أَن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة توجب أَحْكَامهَا لذواتها وأنفسها، حَتَّى لَا يسوغ تقديرها مَعَ انْتِفَاء الْأَحْكَام، وَلَيْسَ كَذَلِك السمعية، وَقد سبق القَوْل فِيهِ. وَمِنْهَا أَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة قد تفْتَقر فِي اقْتِضَاء الْأَحْكَام إِلَى شَرط، حَتَّى لَا تَقْتَضِيه دون الشَّرْط، وَلَيْسَ كَذَلِك الْعَقْلِيَّة.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ الْعلم يفْتَقر إِلَى الْحَيَاة فِي كَونه مُوجبا لحكمه؟
قُلْنَا: هَذَا زلل. فَإِن الْعلم لَا يفْتَقر إِلَى الْحَيَاة فِي إِيجَابه الحكم، وَلَكِن يفْتَقر إِلَى الْحَيَاة فِي ثُبُوته ووجوده، ثمَّ إِذا وجد، لم يكن إِلَّا مُوجبا. وَالْعلَّة السمعية قد تُوجد وَلَا توجب الحكم بِشَرْطِهِ. وَذَلِكَ نَحْو وجود الطّعْم فِي الجنسين، مَعَ انْتِفَاء شَرطه وَهُوَ اتِّحَاد الْجِنْس. وَمِنْهَا أَن الْعلَّة الْعَقْلِيَّة، لَا تكون إِلَّا معنى ثَابتا، وَلَا يسوغ أَن يكون النَّفْي عِلّة عقلا، وَيجوز أَن ينْتَصب الانتفاء عِلّة سمعا، فَإِن سَبِيلهَا سَبِيل " الْإِمَارَة " وَالنَّفْي قد يدل كَمَا يدل الْوُجُود
وَمِنْهَا أَن الْعلَّة الْعَقْلِيَّة تخْتَص بِذَات من لَهُ الحكم مِنْهَا، اخْتِصَاص الْعلم الْقَائِم بمحله فَإِنَّمَا يُوجب الْعلم حكمه، للمحل الَّذِي قَامَ بِهِ. على مَذْهَب أهل الْحق، وَلَيْسَ كَذَلِك علل السّمع.

(3/289)


فَأَما إِذا اتَّحد الْمُجْتَهد، وَقدر معنى عِلّة وَقدر ضِدّه أَيْضا عِلّة، وكل وَاحِدَة من العلتين مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا فَهَذَا يبعد. على أَنا لَا نقطع فِي بُطْلَانه وَذَلِكَ نَحْو أَن يعلق حكم بِقِيَام " و " يعلق ذَلِك الحكم بِعَيْنِه بضد الْقيام وَهُوَ الْقعُود، وَهُوَ يستبعد ذَلِك.
وَهَذَا مِمَّا يستقصى فِي كتاب الِاجْتِهَاد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1756 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يسوغ ثُبُوت الحكم الْوَاحِد بأمارتين متماثلتين، لَو قدرت كل " وَاحِدَة " مِنْهُمَا مُنْفَرِدَة. لأفادت الحكم.
قُلْنَا: هَذَا لَا معنى لَهُ. فَإِنَّهُمَا إِذا كَانَتَا متماثلتين، لَا يظْهر فيهمَا سَبِيل التَّعَدُّد فِي مَنْهَج الْقيَاس، فَإِن القائس يعلم كَون ذَلِك الْجِنْس علما " قدرَة " متحدا أَو مُتَعَددًا. فَلَيْسَ يُؤثر الِاتِّحَاد والتعدد فِيمَا هَذَا سَبيله فَهَذَا وَاضح.
1757 - ويتصل بِهَذَا الْفَصْل الَّذِي انتهينا إِلَيْهِ، أَن نعلم أَن الْعلَّة السمعية لَا تَتَضَمَّن حكمين مثلين على الْمُكَلف، مثل أَن نقُول: الشدَّة فِي الْخمر تَتَضَمَّن تحريمين. فَذَلِك بَاطِل. فَإِن التَّحْرِيم لَا يتزايد وَلَا يتَحَقَّق فِي الشَّيْء الْوَاحِد ثُبُوت عدد من التَّحْرِيم وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ.
" فَهَذَا الَّذِي حمل " فِي التَّفْرِقَة بَين الْعِلَل الْعَقْلِيَّة والسمعية، وَقد

(3/290)


يفْتَقر البابان من غير الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَلَيْسَ فِي استيعابها كَبِير غَرَض فِي هَذَا الْفَنّ. وَلَكِن من أحَاط علما بحقائق الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فِي فن الْكَلَام عرف جملَة وُجُوه الِافْتِرَاق.
(304) فصل

(جَوَاز إِثْبَات الْكَفَّارَات وَالْحُدُود بِالْقِيَاسِ)

1758 - مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم القائسين، تسويغ إِثْبَات الْكَفَّارَات وَالْحُدُود بالأقيسة إِذا لم يمْنَع مِنْهَا بعض الْمَوَانِع الَّتِي قدمناها وَلَا فصل بَينهَا و / بَين / مَا عَداهَا من الْأُصُول الَّتِي تستنبط عللها.

(3/291)


1759 - وَذهب بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله إِلَى منع الْقيَاس فِي الْكَفَّارَات وَالْحُدُود ثمَّ لَهُم مناقضات واضطراب يبين فِي أثْنَاء الْفَصْل فَنَقُول: قدمنَا إِن الأقيسة سَبِيلهَا نصب الأمارات وَلَا تدل بذواتها على الْأَحْكَام لَوْلَا تَقْدِير نصبها عللا.
فَإِذا وضح ذَلِك، فَلَا اسْتِحَالَة فِي نصب الأمارات فِي الْكَفَّارَات والعقوبات كَمَا لَا اسْتِحَالَة فِيهَا فِي " الْمُعَاوَضَات " وَالطَّلَاق وَالْعِتْق، وَمَا أشبههَا مِمَّا اتفقنا على اجراء الأقيسة فِيهَا، واستنباط مَعَانِيهَا.
1760 - وَمِمَّا نعول عَلَيْهِ أَن نقُول: من يمْنَع الْقيَاس فِيمَا فِيهِ نتكلم، لم يخل أما أَن يمنعهُ لكَون الْقيَاس غير مفض إِلَى الْعلم، فَيلْزم على ذَلِك إِلَّا نقبل فِيهِ اخبار الْآحَاد. وَأَن لَا نثبت الْعُقُوبَات بِشَهَادَة الشُّهُود، من حَيْثُ إِن شَهَادَة الشُّهُود لَا تفضى إِلَى الْقطع، مَعَ تَجْوِيز كذبهمْ.
وَإِن منع الْقيَاس لاتساعه فِي أَصْلَب من أصُول من أصُول الشَّرِيعَة، فَهَذَا ادِّعَاء لَيْسَ فِي أصُول الشَّرِيعَة مَا يمْنَع من طرد الْقيَاس فِيهَا، فَلَا يذكرُونَ معنى يرومون بِهِ " منع " الْقيَاس إِلَّا ويلجيهم ذَلِك إِلَى رد أصل الْقيَاس.
ثمَّ نقُول لَهُم: ألستم " قستم " " لُزُوم " الْكَفَّارَات بِالْأَكْلِ عَامِدًا فِي

(3/292)


نَهَار رَمَضَان على لُزُومهَا فِي المواقعة. فَهَل ذَلِك مِنْكُم، إِلَّا إِثْبَات كَفَّارَة فِي حق الطاعم بِالْقِيَاسِ.
1761 - فَإِن قَالُوا: ثَبت أصل الْكَفَّارَات بِالْقِيَاسِ وَلَكِن أثبتنا لَهَا محلا فِي الإلتزام وَهَذَا مَا لَا " استنكار " فِيهِ.
فَيُقَال لَهُم: هَذَا ضرب من التَّدْلِيس، فَإِنَّكُم أثبتم وجوب الْكَفَّارَة قِيَاسا فِي حق / الطاعم، فَهُوَ تَصْرِيح مِنْكُم بِإِثْبَات الْكَفَّارَة بطرِيق الِاعْتِبَار. وَهَذَا سَبِيل قياسنا. فَإنَّا لَا نروم بِالْقِيَاسِ إِثْبَات كَفَّارَة زَائِدَة على الْكَفَّارَات، إِذْ قد منع الْإِجْمَاع ذَلِك، كَمَا منع إِثْبَات صَلَاة سادسة، وَحج ثَان، وَصَوْم شهر سوى رَمَضَان. فَبَطل مَا قَالُوهُ وَصحت مناقضتهم.
1762 - فَإِن قَالُوا: الْكَفَّارَات تدرأ بِالشُّبُهَاتِ وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَات. والأقيسة لَا تُفْضِي إِلَّا إِلَى غلبات الظنون، فَلَا يثبت بهَا مَا يدْرَأ بِالشُّبْهَةِ.
قيل لَهُم: فَلَا تثبتوها بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا تحكموا فِيهَا بِشَهَادَة الشُّهُود على إِنَّا نقُول: الأقيسة، وَإِن كَانَت من غلبات الظنون، فقد قَامَت الدّلَالَة القاطعة على انتصاب غَلَبَة الظَّن، أَمارَة على الحكم.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الأَصْل برآءة الذمم عَن الدُّيُون والحقوق، ثمَّ تطرد فِيهَا الأقيسة. فَبَطل مَا قَالُوهُ.
1763 - فَإِن قَالُوا: الْعُقُوبَات وَجَبت لمقارنة الجرائم، وَالْكَفَّارَات وَجَبت تمحيصا للذنوب. ثمَّ مبالغ الذُّنُوب والآثام لَا يعلمهَا إِلَّا الله تَعَالَى. وَكَذَلِكَ مُوجبَات الْعُقُوبَات فَلَا سَبِيل إِلَى دركها بالعبر.

(3/293)


قيل لَهُم: هَذَا حدس مِنْكُم، وَتمسك بِبَعْض شبه نفاة الْقيَاس.
فَإِن " لنفاة الْقيَاس أَن يَقُولُوا " إِن الْأَوْصَاف الَّتِي تعلقون الْأَحْكَام عَلَيْهَا لَا تنضبط وَلَا تَنْحَصِر، فليزم من ذَلِك حسم أَبْوَاب الْقيَاس جمع. فَبَطل مَا قَالُوهُ.
1764 - فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ إِثْبَات كَفَّارَة بِالْقِيَاسِ، لجَاز إِثْبَات صَلَاة سادسة بِالْقِيَاسِ.
قُلْنَا: كل مَا يمْنَع مِنْهُ الْمَوَانِع الْمُتَقَدّمَة، فَلَا تمسك فِيهِ بطرق الْقيَاس وكل مَا لَا يمْنَع مَانع جرى الْقيَاس فِيهِ. وَإِثْبَات صَلَاة سادسة يمْنَع مِنْهُ إِجْمَاع الْأمة، وَكَذَلِكَ إِثْبَات كَفَّارَة سوى الْكَفَّارَات الثَّابِتَة فِي الشَّرِيعَة.
(305) فصل الْقلب

1765 - ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فصولا مُتَفَرِّقَة فِي الْقلب، وَمَا

(3/294)


يقْدَح مِنْهُ، وَمَا لَا يقْدَح مِنْهُ. إعلم، إِنَّا نَبْنِي القَوْل فِي الْقلب على القَوْل بإن الْمُصِيب وَاحِد ثمَّ نذْكر حكمه على القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1766 - وَأول مَا نحتاج أَن نبدأ بِهِ: الْإِيمَاء إِلَى تعَارض الْعِلَل. فَإِذا عورضت عِلّة بعلة، وهما متباينتان فِي " أصليهما " وفرعيهما، فعلى المسؤول فِي ذَلِك أَن يبطل عِلّة خَصمه لتسلم علته عَن الْمُعَارضَة. أَو يسْلك طرق الرجيح على مَا سَنذكرُهُ / فِي / سَبِيل تَرْجِيح الْعِلَل، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَلَو عجز عَن الْإِبْطَال وَالتَّرْجِيح، كَانَ مُنْقَطِعًا.
1767 - فَإِذا وضح ذَلِك على هَذَا الأَصْل، فَمن قبيل الْمُعَارضَة أَيْضا مُعَارضَة عِلّة الأَصْل. مثل أَن يستنبط القائس من أَصله عِلّة وَيجمع بهَا بَين فرع وأصل، فَيَقُول الْمُعْتَرض: لَيست الْعلَّة فِي الأَصْل مَا علقت الحكم عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْعلَّة كَذَا. فعلى الْمُعَلل أَن يثبت عِلّة الأَصْل بطرِيق من الطّرق الَّتِي قدمناها فِي " بَاب إِثْبَات " الْعِلَل. فَإِذا قَامَت الدّلَالَة على علته، فَلَا يقْدَح

(3/295)


فِي قِيَاسه ذكر الْخصم عِلّة أُخْرَى اللَّهُمَّ / إِلَّا / وَإِن ثَبت للخصم مَا ادَّعَاهُ عِلّة، بطرِيق من طرق إِثْبَات الْعلَّة فتتعارض الْأَدِلَّة، وعَلى المسؤول إبِْطَال مَا قَالَه الْخصم، أَو سلوك طَرِيق التَّرْجِيح.
1768 - وَمِمَّا يَلِيق بذلك، إِن الْخصم لَو ذكر فِي الأَصْل عِلّة غير متعدية، وَقد ذكر الْمُعَلل عِلّة عَداهَا إِلَى الْفَرْع فَلَا يقْدَح مَا قَالَه فِي الْقيَاس.
وللمعلل فِي الْجَواب طَرِيقَانِ أَحدهمَا: أَن يَقُول بالعلتين جَمِيعًا فِي الأَصْل. وَلَا يستنكر أَن يكون فِي الأَصْل عِلّة قَاصِرَة وَأُخْرَى متعدية. فتقاس عَلَيْهَا المتعدية وَإِن امْتنع الْقيَاس بالقاصرة.
وَالْوَجْه الآخر أَن يَقُول: إِنَّمَا يقْدَح تعَارض العلتين إِذا تنافيا، وَلَيْسَ بَين الْعلَّة القاصرة وَالْعلَّة المتعدية تناف فِي مُوجب الْعلَّة القاصرة. وَلَيْسَ من شَرط الْعلَّة أَن يعْدم الحكم بعدمها، حَتَّى نقُول: إِن الْعلَّة القاصرة إِذا " لم يتَعَدَّى " فِي الْفَرْع لزم انْتِفَاء الحكم عَن الْفُرُوع. وَهَذَا بَين لكل متأمل.
ومثاله إِنَّا إِذا قُلْنَا فِي ظِهَار الذمى: كل من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره كَالْمُسلمِ.
فَإِذا قَالَ الْخصم: الْمَعْنى فِي الْمُسلم أَنه يَصح مِنْهُ التفكير فَيُقَال للسَّائِل إِن كَانَ حنفيا: هَذِه عِلّة قَاصِرَة، وأصلكم القَوْل بإبطالها، فَكيف نصبتموها

(3/296)


عِلّة؟ وَإِن لم يكن من نفاة الْعلَّة القاصرة، فكلا منا عَلَيْهِ بِمَا قدمْنَاهُ من الطَّرِيقَيْنِ.
1769 - فَإِذا ثبتَتْ هَذِه الْأُصُول، فالقلب يَنْقَسِم انقساما.
فَمِنْهَا: أَن يقلب القالب عِلّة الْمُعَلل وَلَا يزِيد على تَبْدِيل الحكم. ويقر وصف الْعلَّة وَأَصلهَا قرارهما، وَذَلِكَ نَحْو قَول الْقَائِل: الرَّأْس عُضْو من اعضاء الْوضُوء، فَلَا يجزى فِي إِيصَال المَاء مَا يَقع عَلَيْهِ الإسم. كَالْيَدِ وَالرجل وَالْوَجْه. فيقلب القالب وَيَقُول: فَلَا يتَقَدَّر بِالربعِ، كالأصول الَّتِي ذكرهَا الْمُعَلل. وتكثر نَظَائِر ذَلِك.
وَقد اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك، فَمنهمْ من قَالَ: لَا يقْدَح الْقلب فِي الْقيَاس فَإِنَّهُ مُعَارضَة فِي غير مَقْصُود " الْمُعَلل " إِذْ مَقْصُود " الْمُعَلل " نفى الِاكْتِفَاء بِمَا يَقع عَلَيْهِ الإسم فَإِذا ذكر القالب نفي التَّقْدِير بِالربعِ، فقد تعرض لما لم يتَعَرَّض لَهُ الْمُعَلل، فَلم يقْدَح فِي اعتلال.
وَذهب مُعظم الْأُصُولِيِّينَ إِلَى كَونه قادحا وَذَلِكَ إِن مُعَارضَة الْعلَّة بعلة أُخْرَى، يتَعَذَّر على الْمُعَلل الْجمع بَين موجبي العلتين. فتقرره قَادِح فِي الاعتلال، كَمَا قدمْنَاهُ.
وَالْقلب لَا ينحط رتبته عَن الْمُعَارضَة، بل الْمُشَاركَة فِي الأَصْل الْوَاحِد أولى بالقدح وَمَا ذكره الْقَائِل الأول من أَن " القالب " لم يتَعَرَّض لما تعرض لَهُ الْمُعَلل، غير سديد. فَإِن الْمُعَلل إِن عدم الِاكْتِفَاء بِمَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم

(3/297)


فاصلة التقدر بمبلغ، وَلَا يُمكنهُ أَن يجمع بَين عدم اعْتِبَار الِاسْم، وَبَين نفي التقدر بِالربعِ، أَو غَيره من المبالغ.
وللأولين أَن ينفصلوا عَن ذَلِك ويقولوا: لَا مُعْتَبر بأصول الْمذَاهب وَإِنَّمَا الْمُعْتَبر بمقصود الْمُعَلل: فَإِذا كَانَ مَقْصُود الْمُعَلل مباينا لمقصود " القالب " لم يحكم بِبُطْلَان الْعلَّة. وَهَذَا الْقَائِل يَقُول لَو تَعَارَضَت عِلَّتَانِ مشتملتان على أصلين " متباينين " على نَحْو هَذَا، لم يكن ذَلِك تَعَارضا قادحا. وَإِنَّمَا التَّعَارُض القادح أَن تشْتَمل إِحْدَى العلتين على إِثْبَات حكم، وتشتمل الثَّانِيَة على مَا يتَضَمَّن نَفْيه فِي قَضِيَّة الْعلَّة لَا مُوجب الْمَذْهَب. وَاعْلَم إِن الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يَنْتَهِي إِلَى الْقطع، فَكل " يَأْخُذ " بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاده على مَا قدمْنَاهُ فِي تَخْصِيص الْعلَّة. فَهَذَا ضرب من الْقلب.
1770 - وَمن ضروب الْقلب قلب التَّسْوِيَة. نَحْو أَن يَقُول الْمُعَلل فِي طَلَاق الْمُكْره مُكَلّف مَالك للطَّلَاق، فَلَا ينفذ طَلَاقه، كالمختار.
فَيَقُول القالب: فيستوي إِقْرَاره وإنشاؤه، كالمختار.
فَالَّذِينَ ردوا الضَّرْب الأول من الْقلب، ردوا هَذَا الضَّرْب الثَّانِي وَهُوَ

(3/298)


أولى بالإبطال. وَالَّذين حكمُوا بِأَن الضَّرْب الأول من الْقلب قَادِح فِي الْعلَّة اخْتلفُوا فِي هَذَا النَّوْع.
فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى إِنَّه بَاطِل، غير قَادِح فِي الْعلَّة. وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَذَلِكَ لِأَن مآل الْكَلَام فِيهِ اسْتِوَاء الْفَرْع وَالْأَصْل فِي عبارَة / مَعَ اخْتِلَافهمَا فِي الحكم فَإِن إِقْرَار الْمُخْتَار و " إنشاءه " للطَّلَاق نافذان. ورام " القالب " مِمَّا ذَكرُوهُ من التَّسْوِيَة، أَلا ينفذ أَمر الْمُكْره فَكَأَنَّهُ فِي التَّحْقِيق اسْتِيفَاء حكم الشَّيْء من ضِدّه.
1771 - وَالصَّحِيح عندنَا أَنا إِذا قُلْنَا: بالنوع الأول من الْقلب تَصْحِيح قلب التَّسْوِيَة على الْجُمْلَة. فَإِن القالب يَقُول حكم الاعتلال الاسْتوَاء فِي الْفَرْع وَالْأَصْل.
وَهَذَا مَا لَا اخْتِلَاف فِيهِ، وَلَيْسَ على الْمُعَلل إِلَّا تَشْبِيه الْفَرْع بِالْأَصْلِ فِي الحكم الَّذِي يرومه.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، أَنه يجوز وُرُود الشَّرْع بذلك، إِذْ لَو قَالَ صَاحب الشَّرِيعَة، حكم الْإِقْرَار والإنشاء مستويان، قبولا وردا. كَانَ ذَلِك مُسْتَقِيمًا.

(3/299)


وَيدخل على ذَلِك إِن الْمَقْصُود بالعلل إِثْبَات الْأَحْكَام. وَإِذا " تحقق " الاسْتوَاء الْمُجَرّد، فَلَيْسَ هُوَ بِحكم فِي نَفسه. وَإِنَّمَا هُوَ عبارَة عَن ثُبُوت حكمين وَلَيْسَ الاسْتوَاء حكما زَائِدا على ثبوتهما " ليقدر " ذَلِك حكما على حياله ويعول عَلَيْهِ فِي مُسَاوَاة الْفَرْع الأَصْل. فَإِن أَحْكَام الشَّرْع مضبوطة. وَلَيْسَ من جُمْلَتهَا الاسْتوَاء. فَتدبر ذَلِك. فَإِنَّهُ يقربك من الْقطع بِبُطْلَان قلب التَّسْوِيَة على مَا اخْتَارَهُ القَاضِي رَحمَه الله فَأَما إِذا أبطلنا كَون الاسْتوَاء حكما فَحكمه مُخْتَلف نفيا وإثباتا، فَيبْطل اسْتِيفَاء حكم الشَّيْء من ضِدّه، وَيَقَع فِي الْقلب ضروب يحكم بفسادها وسنشير إِلَيْهَا عِنْد ذكر جملَة من الاعتراضات الْفَاسِدَة.
(306) فصل جعل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا

1772 - إِذا قَالَ الْقَائِل من صَحَّ طَلَاقه، صَحَّ ظِهَاره

(3/300)


كَالْمُسلمِ.
فَقَالَ الْمُعْتَرض: اجْعَل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا فَإِنَّمَا صَحَّ طَلَاق الْمُسلم لإنه صَحَّ ظِهَاره وَلَا نقُول صَحَّ ظِهَاره لِأَنَّهُ صَحَّ طَلَاقه.
فَهَذَا ضرب متداول بَين الْفُقَهَاء من الِاعْتِرَاض. وَهُوَ فَاسد عِنْد الْأُصُولِيِّينَ.
1773 - " وَلَك " فِي التفصي عَنهُ طرق:
أَحدهَا أَن تَقول: أثبت عِلّة الأَصْل بِالدَّلِيلِ، وَلَا يلْزَمنِي أَكثر من ذَلِك فَإِن رام السَّائِل الدّلَالَة " فَلَيْسَ " عَلَيْهِ بعد إِقَامَة الدّلَالَة على الْعلَّة المستأثرة طلب ويؤول محصول الْكَلَام فِي ذَلِك إِلَى مُعَارضَة عِلّة الأَصْل بعلة. وَقد تقصينا القَوْل.
1774 - وسلك بعض الْأَئِمَّة طَريقَة أُخْرَى فَقَالُوا: لَا نستبعد الْجمع بَين الْقَوْلَيْنِ فيسوغ تَقْدِير الطَّلَاق معلولا بالظهار وَعلة فِيهِ، وَكَذَلِكَ يسوغ مثل ذَلِك فِي الظِّهَار.
وَذَلِكَ لِأَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة، لَا توجب معلولاتها بأنفسها. وَإِنَّمَا هِيَ أَمَارَات مَنْصُوبَة على الْأَحْكَام " مُقَيّدَة " فِي انتصابها أَدِلَّة إِلَى نصب صَاحب

(3/301)


الشَّرِيعَة إِيَّاهَا إعلاما. فَلَا يبعد إِذا على هَذَا الأَصْل تَقْدِير شَيْئَيْنِ، كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة فِي الثَّانِي وَدلَالَة عَلَيْهِ، ليَكُون دَالا على قرينَة مدلولاته.
وَإِنَّمَا يستنكر جعل الْمَعْلُول عِلّة فِي العقليات. إِذْ الْعِلَل فِيهَا مُوجبَة معلولاتها بأنفسها وَجُمْلَة القَوْل فِي ذَلِك كُله، إِثْبَات عِلّة الأَصْل بطريقة من الطّرق الَّتِي فرطت.
(307) فصل مُشْتَمل على طرق من الاعتراضات الْفَاسِدَة يتَوَصَّل بهَا إِلَى مَا ضاهاها إِن شَاءَ الله تَعَالَى

1775 - فَمِنْهَا أَن يَقُول الْقَائِل - وَقد نصبت عِلّة فِي إِيجَاب - نصب وَصفا من الْأَوْصَاف علما على حكم، وَسلم اعْتِبَاره من القوادح، وَلم يلْزمه أَن يَجعله علما / فِي كل حكم.
1776 - وَمن الاعتراضات الْفَاسِدَة مَا يُعَارض بِهِ كثير من الْفُقَهَاء فِي

(3/302)


مَسْأَلَة افتقار الطَّهَارَة إِلَى النِّيَّة، حَيْثُ قيس الْوضُوء بِالتَّيَمُّمِ.
فَيَقُول: الْمُعْتَرض: الْوضُوء تقرر فِي الشَّرْع قبل التَّيَمُّم. فَلَو كَانَ التَّيَمُّم بِمَا فِيهِ من الْأَوْصَاف، عِلّة الْوضُوء لما تَأَخَّرت الْعلَّة عَن معلولاتها، وَهَذَا ضرب من الهذيان. فَإِن الْعِلَل السمعية لَا توجب الحكم لذواتها ليراعي ذَلِك فِيهَا، بل إِنَّمَا تنتصب أَدِلَّة إِذا نصبت وَهَذَا مِمَّا يسوغ فِيهَا تَقْدِير التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير.
فَإِن قَالَ السَّائِل فبماذا كَانَ كل يعرف وجوب النِّيَّة فِي الْوضُوء، قبل شرع التيمم؟ قُلْنَا هَذَا تَكْلِيف شطط من الْمسَائِل، إِذْ لَيْسَ على المسؤول إِلَّا إِقَامَة الدّلَالَة فِي الْحَالة، والتعدي للأزمان السالفة حيد عَن حد النّظر.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن المعجزات تدل على صدق الرُّسُل قطعا، ثمَّ يسوغ تَقْدِير آيَات حَادِثَة، فتدل على الصدْق، وَإِن لم يكن قبل ذَلِك فوضح فَسَاد مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
1777 - وَمن الاعتراضات الْفَاسِدَة، إِنَّا إِذا منعنَا النِّكَاح الْمَوْقُوف وَقُلْنَا: نِكَاح لَا يتَعَلَّق بِهِ الْحل، وَالْأَحْكَام المختصة بِهِ، فَلَا يحكم بِصِحَّتِهِ " كالمتفق " عَلَيْهِ من كل نِكَاح فَاسد. فَإِذا قَالَ السَّائِل الْحل الحكم. وخصائص النِّكَاح، فروعه وَلَا يسوغ الِاسْتِدْلَال على وصف الأَصْل بالفروع.

(3/303)


فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تعسف مِنْكُم. إِذْ يجوز أَن يقوم ثُبُوت هَذِه الْأَحْكَام علما لصِحَّة النِّكَاح. ويعد انتفاؤها علما لفساد النِّكَاح.
1778 - وَمن الاعتراضات الْفَاسِدَة، مَا يعْتَرض بِهِ على قَوْلك فِي تَحْرِيم النَّبِيذ مشتد مطرب فَيحرم كَالْخمرِ. فَيَقُول الْمُعْتَرض الْخمر يفسق شَارِب قليلها بِخِلَاف النَّبِيذ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء. فَإِن " افْتِرَاق " الأَصْل وَالْفرع فِي هَذَا الحكم لَا يمْنَع إجتماعهما فِي وصف التَّحْرِيم، إِذْ يُرَاعى فِي التفسيق الِاعْتِقَاد. وَلَو شربه مُعْتَقدًا تَحْرِيمه، فسق.
1779 - وَمن الاعتراضات الْفَاسِدَة أَن يَقُول الْمُعْتَرض لَا يجوز اسْتثِْنَاء الْإِثْبَات من النَّفْي من الْإِثْبَات. وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام. إِذْ يجوز نصب انْتِفَاء الشَّيْء أَمارَة لثُبُوت حكم آخر. وَكَذَلِكَ على الْعَكْس مِنْهُ.
والاعتراضات الْفَاسِدَة لَا تَنْحَصِر، وَإِنَّمَا ذكرنَا بَعْضهَا لجريانها على أَلْسِنَة الْفُقَهَاء.
1780 - وَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أنواعا من الْقلب وألحقها بالاعتراضات الْفَاسِدَة مِنْهَا أَن تكون عِلّة الْخصم مبينَة عَن مَقْصُوده فتعكس

(3/304)


عَلَيْهِ " بإبهام " نَحْو أَن يعتل معتل فِي إِسْقَاط الركوعين فِي كل رَكْعَة من صَلَاة الْكُسُوف فَيَقُول صَلَاة تُؤَدّى فِي جمَاعَة، فَلَا يتَكَرَّر فِي الرَّكْعَة الْوَاحِدَة ركوعان، كَالْجُمُعَةِ وَصَلَاة الْعِيدَيْنِ.
فَإِن عكس عاكس فَقَالَ: فتختص بِزِيَادَة من بَين الصَّلَوَات، كصلوات الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ، وعنى بِالزِّيَادَةِ فِي الْجُمُعَة الْخطْبَة وَنَحْوهَا.
فَهَذَا الضَّرْب فَاسد على كل مَذْهَب، وَسَوَاء قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين أَو لم نقل ذَلِك. وَذَلِكَ إِن الْمُعَلل صرح بمقصوده، والعاكس لم يتَعَرَّض لمقصوده، بل أبهم الاعتلال، فَلَيْسَ بَينهمَا تناف. وَهُوَ حيد عَن مَقْصُود الاعتلال.
وَالَّذِي يُوضح بطلَان هَذَا الْعَكْس، إِن الزِّيَادَة الَّتِي أطلقها العاكس إِن رام فِيهَا تتبع إسم، فَلَا فَائِدَة فِيهِ. إِذْ الْمَقْصُود من الاعتلال إِثْبَات الْأَحْكَام. وَإِن رام بذلك إِثْبَات حكم فَالْحكم الَّذِي ثَبت فِي الْفَرْع هُوَ " مُنْتَفٍ " فِي الأَصْل حَقِيقَة وَهُوَ مَقْصُود الْمُخْتَلِفين.
وَالَّذِي يُوضح بطلَان هَذَا الْفَنّ أَيْضا إِن الْمُعَلل يُمكنهُ عكس هَذَا

(3/305)


الْعَكْس بِأَن يَقُول: فَلَا تخْتَص بِزِيَادَة " فِي " رَكْعَات كالأصل الْمَقِيس عَلَيْهِ. فَيبْطل الْقلب بانقلابه. وتسلم الْعلَّة.
1781 - وَألْحق القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِهَذَا الْفَنّ ضربا آخر من الْقلب، وَهُوَ أَنه قَالَ: إِذا قَالَ الْحَنَفِيّ فِي تَقْدِير الْمهْر، إِنَّه مَال مُقَابل لعضو، فيتقدر فِي أَصله كالنصاب فِي السّرقَة. فَلَو قَالَ القالب لَا تتقدر استباحته بِعشْرَة كَالْيَدِ، فَإِنَّهَا لَا تستباح قصاصا بِعشر، وَإِذا قطعت حدا، فَلَيْسَ ذَلِك باستباحته.
قَالَ فَهَذَا الضَّرْب من الْقلب مَرْدُود فَإِنَّهُ حائد عَن قصد الْمُعَلل إِذْ قَصده إِثْبَات التَّقْدِير فِي الأَصْل. فَلَا يقْدَح فِي اعتلاله، التَّعَرُّض لنفي مبلغ مَعْلُوم.
وَهَذَا الَّذِي ذكره تشبث مِنْهُ برد أصل الْقلب، وَقد ذكرنَا فِيهِ اخْتِلَافا وَمن قدر الْقلب قادحا يعد هَذَا من القوادح.
1782 - فَإِن قَالَ قَائِل: قد وعدتم فِيمَا قدمتم، وَجه الْكَلَام فِي الْقلب مَعَ تصويب الْمُجْتَهدين.
قُلْنَا: لَا يزِيد الْقلب على الْمُعَارضَة، وَقد ذكرنَا حكم الْمُعَارضَة مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. وسنزيده إيضاحا فِي كتاب الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1783 - وَمِمَّا يلْتَحق بالْكلَام الْفَاسِد الْجَارِي بَين أظهر الْفُقَهَاء دفع النَّقْض بالتسوية بَين الْفَرْع وَالْأَصْل وَذَلِكَ نَحْو أَن يَقُول الْحَنَفِيّ من صَحَّ مِنْهُ

(3/306)


الابتياع صَحَّ مِنْهُ النِّكَاح كالحلال. فَيُقَال لَهُ: هَذَا ينْتَقض عَلَيْك مِمَّن تَحْتَهُ أَربع نسْوَة. وَمِمَّا يحاولون بِهِ دفع مثل هَذَا النَّقْض بِأَن يَقُولُوا: إِنَّمَا غرضنا التَّسْوِيَة بَين الْحَلَال وَالْحرَام. وَالَّذِي أوردتموه نقضا مِمَّا يَسْتَوِي / فِيهِ / الْمحل وَالْمحرم فَأَي رجل مِنْهُمَا كَانَ تَحْتَهُ أَربع نسْوَة لم يَصح مِنْهُ النِّكَاح. وَهَذَا فِي نِهَايَة الْبطلَان.
مَعَ القَوْل بِأَن تَخْصِيص الْعلَّة انتقاضها. ويتضح فَسَاد ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن نقُول: لَا تخلون إِمَّا أَن تقيسوا على مَحل، لَيْسَ تَحْتَهُ أَربع نسْوَة، أَو تقيسوا على مَحل تَحْتَهُ أَربع نسْوَة.
فَإِن قستم على مَحل تَحْتَهُ أَربع نسْوَة، فَكيف يَسْتَقِيم لَك مَعَ ذَلِك، ادِّعَاء الْحل فِي الأَصْل وَهُوَ مَمْنُوع إِجْمَاعًا، وَإِن قستم على من لَيْسَ تَحْتَهُ أَربع نسْوَة، فَكيف يتَحَقَّق مَا ذكرتموه من التَّسْوِيَة؟ وَهَذَا أصلكم! على إِن مَا ذكرتموه زِيَادَة نقص وَهَذَا بَين " للمتأمل ".
1784 - وَمِمَّا يذكرُونَ من هَذَا الْقَبِيل الدَّلِيل على النَّقْض. فمهما منع المعتل مَا ألزم نقضا، فقد انْدفع عَنهُ ذَلِك. وَلَو رام الْخصم إثْبَاته بِالدَّلِيلِ، حَتَّى إِذا ثَبت كَانَ نقضا، فَالْأَصَحّ إِن ذَلِك لَا يقبل فِي حكم النّظر.
وَذهب بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى إِن ذَلِك يقبل. وَكَانَ ينصره

(3/307)


الْحَرْبِيّ وَحكى عَن القَاضِي ابْن " نبوية " إِنَّه رأى إِن ذَلِك " مُحْتَمل " وَالأَصَح مَنعه فَإِن المعتل بِوَاحِد يحكم الْعلَّة على قَضِيَّة أَصله، وَلَو دلّ المناقض كَانَ منتقلا وسنتسقصي هَذَا الضَّرْب من الْكَلَام فِي الجدل إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(308) القَوْل فِي الِاسْتِحْسَان وَالرَّدّ على الْقَائِلين بِهِ

(3/308)


فارغة

(3/309)


1785 - اعْلَم إِن مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْعلمَاء: تتبع الْأَدِلَّة وَبِنَاء الْأَحْكَام عَلَيْهَا، وَإِبْطَال الِاسْتِحْسَان إِذا لم يَتَرَتَّب على قَاعِدَة من قَوَاعِد الْأَدِلَّة. وَإِلَيْهِ صَار مَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا حَتَّى قَالَ الشَّافِعِي " من اسْتحْسنَ فَكَأَنَّمَا يشرع فِي الدّين ".
1786 - واشتهر عَن أبي حنيفَة القَوْل بالاستحسان، ثمَّ اخْتلف أَصْحَابه " فجماهير بَعضهم بِالْخِلَافِ " وَقَالَ: هُوَ ترك الْقيَاس بِمَا يستحسن عقلا. وَلَيْسَ على المستحسن إِقَامَة دلَالَة توجه عَلَيْهَا القوادح. وَإِنَّمَا هُوَ تلويح يعن فِي الْعقل.
وَقَالَ بَعضهم الِاسْتِحْسَان إمالة فرع إِلَى أصل هُوَ ادّعى بِهِ. قَالُوا: وَمعنى ذَلِك إِنَّه تَخْصِيص الْعلَّة لِمَعْنى تَقْتَضِيه على قَوْلهم بِجَوَاز تَخْصِيص / الْعِلَل.

(3/310)


وَقَالَ الْكَرْخِي من متأخرى أَصْحَاب أبي حنيفَة الِاسْتِحْسَان ترك مَا يقدر دَلِيلا، بِمَا هُوَ أقوى مِنْهُ وَإِن يكون المستحسن غير مطَالب بِدَلِيل يَصح على مُقْتَضى السّير. ثمَّ إِنَّه مثل ذَلِك بأمثلة: فَقَالَ: إِذا طردنا عِلّة فاقتضت تِلْكَ الْعلَّة حكما فِي موردها بِخِلَاف مُوجب الْقيَاس ... . قد يكون ذَلِك كتابا أَو سنة أَو اتِّفَاقًا أَو وَجها من الِاسْتِدْلَال وَالِاعْتِبَار.
فَأَما مَا اقْتضى الظِّهَار، وَفِيه الْعدْل عَن الْقيَاس فَهُوَ نَحْو خبر القهقهة

(3/311)


ونبيذ التَّمْر.
فالتمسك بالْخبر " أحسن ".

(3/312)


وَكَذَلِكَ الْقيَاس يَقْتَضِي تَخْصِيص الاجتزاء بالتعاطي فِي المستحقرات، من غير إِنْكَار مِمَّن سبق وَبَقِي. فالتمسك بِهِ أحسن من طرد الْقيَاس.
وَأما مَا ترك فِيهِ الْقيَاس بِضَرْب من الِاسْتِدْلَال فنحو قَوْلهم: إِن من قَالَ: إِن فعلت كَذَا فَأَنا يَهُودِيّ. فَتلْزمهُ الْكَفَّارَة. فَإِن الْقيَاس - وَإِن اقْتضى - أَن لَا يَجْعَل ذَلِك يَمِينا فقد علمنَا إِن الْكَفَّارَة، إِنَّمَا وَجَبت فِي الْيَمين للتعرض لهتك الْحُرْمَة. والتبري من الدّين أعظم مِنْهُ إِلَى غير ذَلِك، فَجَائِز ثُبُوته.
1787 - فَإِذا أحطت علما بِمَا قُلْنَاهُ، فَوجه الْكَلَام فِي ذَلِك أَن نقُول: من زعم مِنْهُم أَنا نحيد من دَلِيل إِلَى دَلِيل هُوَ أقوى مِنْهُ وَهُوَ مِمَّا يظْهر ويعترض عَلَيْهِ وَيُجَاب عَن الاعتراضات فِيهِ فَلَا خلاف مَعَ هَؤُلَاءِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي تَرْجِيح الْأَدِلَّة وإفسادها على مَا سبق من مَرَاتِب الْأَدِلَّة وَسَيَأْتِي طَرِيق التَّرْجِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1788 - فَأَما من " يلْتَزم " مِنْهُم إِقَامَة الدّلَالَة، فَهُوَ الَّذِي نقصد

(3/313)


بالْكلَام، فَيُقَال: أَجمعت الْأمة قاطبة على إِن من قَالَ قولا بِغَيْر دَلِيل أَو أَمارَة مَنْصُوبَة شرعا فَالَّذِي يتَمَسَّك بِهِ بَاطِل. ثمَّ اجْمَعُوا على بطلَان اتِّبَاع الْهوى ومحصول مَا قلتموه ترك الدَّلِيل بِغَيْر دَلِيل. وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ لكل عَامي أَن يستحسن من غير وَجه الِاسْتِدْلَال ويرجح فِي طرق الْأَدِلَّة.
فَإِن قَالَ قَائِل: أفتدركون بطلَان ذَلِك عقلا.
قُلْنَا: " حاشا " أَن نقُول ذَلِك! إِذْ يسوغ فِي الْعقل تَجْوِيز مَا يخْطر للْعُلَمَاء وَغَيرهم اعلاما على أَحْكَام الله تَعَالَى لَو نصبت اعلاما، كَمَا نصبت غلبات الظنون اعلاما وَلَكِن اجمعت الْأمة على بطلَان ذَلِك. وَلَا تَجْتَمِع الْأمة على الضَّلَالَة، وَلَقَد قُلْنَا مَا قُلْنَاهُ شرعا. على أَنا نقُول لكل مستحسن بِمَ تنكر على من يستحسن ضد مَا استحسنت؟ فَلَا يجد لَهُ مدفعا.
فَإِن سلك طرق التَّرْجِيح وَالِاسْتِدْلَال، فقد خرج عَن الِاسْتِحْسَان إِلَى طلب الدَّلِيل.
1789 - وَقد تمسك من صمم مِنْهُم على الْخُلُو فِي القَوْل بالاستحسان بظواهر الْكتاب مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} ، وَقَوله: {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} . قَالُوا: فَهَذَا أَمر بِالْأَخْذِ بالأحسن.
قُلْنَا: ثبتوا أَولا كَون مَا قلتموه منزلا، ثمَّ رتبوا عَلَيْهِ تخير الْأَحْسَن

(3/314)


وإيثاره. فَإِن الظَّاهِر من الْقُرْآن يدل على الْأَخْذ بالأحسن مِمَّا أنزل. على أَنا نقُول: فثبتوا إِن المُرَاد بِهِ الْأَحْسَن فِي توهم كل مستحسن وَبِمَ تنكرون على من يزْعم إِن الْأَحْسَن فِي الشَّرْع هُوَ الَّذِي يلائم الْأَدِلَّة ثمَّ نعارض هَذِه الْآيَة بِالْآيِ الَّتِي فِيهَا الْأَمر بِطَلَب الْأَدِلَّة. نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَقَوله تَعَالَى: {لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} ، وَقَوله تَعَالَى: {أَفلا يتدبون القرءان} ... إِلَى غير ذَلِك وَقد أطنب الْأَصْحَاب فِي طرق الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَرَأَيْت الْقدر الَّذِي ذكرنَا كَافِيا فِي مَقْصُوده.
(309) القَوْل فِي جَوَاز تَعْلِيل مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الأَصْل

1790 - إِذا اطرد ضرب من الْقيَاس فِي أصُول، ثمَّ ثَبت أصل كتاب أَو سنة أَو وفَاق، وَهُوَ على خلاف قِيَاس / الْأُصُول، فَهَل يسوغ استنباط عِلّة مِمَّا ورد، ليجمع بهَا بَين الْفَرْع وَالْأَصْل الْوَارِد على خلاف قِيَاس الْأُصُول.
مَا صَار إِلَيْهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة فِي أصح الرِّوَايَات، وَغَيرهمَا من الْعلمَاء جَوَاز الْقيَاس " عَلَيْهَا " وَذهب بعض الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَاب أبي حنيفه كالكرخي وَغَيره إِلَى أَن لَا يُقَاس على مَا هَذَا سَبيله. فمنعوا

(3/315)


الْقيَاس على مثل القهقهة فِي الصَّلَاة فِي كَونهَا مبطلة للطَّهَارَة، وَكَذَلِكَ نَبِيذ التَّمْر. منعُوا الْقيَاس عَلَيْهِ.
1791 - وَالدَّلِيل على جَوَاز الْقيَاس فَرضنَا الْكَلَام فِيهِ، أَن نقُول: قد ثَبت أصل الْقيَاس بِالدّلَالَةِ القاطعة، وسبيل الْقيَاس فِي الْمُخْتَلف فِيهِ كسبيل كل قِيَاس. فَإِن تَقْدِير عِلّة فِي الأَصْل مِمَّا لَا يبعد عقلا. وَلَا يمْنَع مِنْهُ مَانع شرعا، إِذا استجمعت شَرَائِط الصِّحَّة.

(3/316)


وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، إِن الْقيَاس المطرد إِنَّمَا سَاغَ التَّمَسُّك / بِهِ / لكَونه مستنبطا من أصُول ثَابِتَة. وَالْأَصْل الَّذِي فِيهِ نتكلم، أحد الْأُصُول الثَّابِتَة. فَلَا مَانع من الاستنباط مِنْهَا، كَمَا لَا مَانع من الاستنباط من كل أصل قدروه.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك اتِّفَاقًا على جَوَاز وُرُود الشَّرْع بتعليل مثل " هَذَا " الأَصْل. فَإِذا سَاغَ وُرُود الشَّرْع بتعليله سَاغَ " تطلب " جملَته بطرِيق الاستثارة والاستنباط.
وَمِمَّا نتمسك بِهِ أَيْضا أَن نقُول: إِذا وَردت لَفْظَة عَامَّة عَن صَاحب الشَّرِيعَة وَقَامَت دلَالَة على تخصيصها، فَلَا خلاف فِي جَوَاز الاستنباط " مِمَّا " خص عَن الْعُمُوم وَإِن أفْضى الاستنباط إِلَى الزِّيَادَة بالتخصيص، فَهُوَ سَائِغ فَإِذا لم يمْتَنع ذَلِك فَمَا الْمَانِع مِمَّا نَحن فِيهِ؟
1792 - وَقد عولوا فِي منع الْقيَاس فِي الْمُخْتَلف فِيهِ على أَن قَالُوا: إِذا طردنا قِيَاس الْأُصُول وطرد طارد الْقيَاس " بِمَا شَذَّ " عَن الْأُصُول فَإِن كَانَ قِيَاس الْأُصُول أقوى فيلزمكم ترك الضَّرْب الآخر. وَكَذَلِكَ إِن كَانَ مثله. فَإِن تعَارض الْعِلَل يبطل الِاحْتِجَاج بهَا ويستحيل أَن يكون الْقيَاس المستنبط من الأَصْل الشاذ أقوى.

(3/317)


قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تحكم وَبِنَاء على مُجَرّد الدَّعْوَى، فَلَا نسلم لكم معنى الشذوذ فَإِن كل مَا ثَبت، فَهُوَ أصل فِي نَفسه. وَعدد الْأُصُول لَا يُغير أَحْكَام المغير على مَا سَنذكرُهُ فِي أَحْكَام التَّرْجِيح. فعلى هَذَا لَا يمْتَنع أَن يكون الْقيَاس المستنبط من هَذَا الأَصْل أقوى من غَيره. وشأن النَّاظر أَن يعرض علته على " مَا بِهِ " تمتحن الْعِلَل. فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا.
(310) فصل لَا يجوز ترك الْخَبَر الصَّحِيح إِذا ورد بِخِلَاف قِيَاس الْأُصُول

1793 - فِي متعسفي أَصْحَاب أبي حنيفَة من ترك الْخَبَر الصَّحِيح، إِذا ورد بِخِلَاف قِيَاس الْأُصُول. وَلذَلِك ردوا خبر الْمُصراة والعرايا وَهَذَا

(3/318)


مِمَّا لم يحدثه إِلَّا من نبغ من " نابغيهم " وَهِي مشابهة مِنْهُم لمنكري الْأَخْبَار.
فَنَقُول لَهُم: قد أَقَمْنَا الدّلَالَة على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَهَذَا قد استجمع شَرَائِط الصِّحَّة، وَالْقِيَاس على التَّحْقِيق تَقْدِير خبر فَإِن القائس يغلب على ظَنّه، إِن مَا نَصبه عِلّة، قد نَصبه صَاحب الشَّرِيعَة عِلّة، فالنص الْمُصَرّح بِهِ أولى من خبر مُقَدّر فافهمه واجتز بِهِ.
على أَنا نقُول: لَا تَحْصِيل لما قلتموه من الْأُصُول فَكل مَا يثبت بِدلَالَة شَرْعِيَّة فَهُوَ أصل فَلَا يبْقى مَعَهم إِلَّا عدد الْأُصُول. وسنتكلم على بطلَان الِاعْتِبَار بهَا ثمَّ نقُول: فَمَا وَجه قبولكم لخَبر نَبِيذ التَّمْر وَخبر القهقهة؟ وَلَو اتبعت طرقهم لوجتهم دارين لكل خبر صَحِيح، متسرعين إِلَى قَول كل ضَعِيف وَعند ذَلِك يهذون بأصول الْقيَاس وَقِيَاس الْأُصُول فَيَقُولُونَ: تركْتُم فِي مَسْأَلَة الْمُصراة أصُول الْقيَاس، وَنحن تركنَا فِي القهقهة قِيَاس الْأُصُول. فَيُقَال لَهُم: أصُول الْقيَاس الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فأوضحوا لنا

(3/319)


مخالفتنا لشَيْء مِنْهَا فِي مَسْأَلَة الْمُصراة. وَهَذَا أوضح من أَن يحْتَاج فِيهِ إِلَى بَيَان وَالْأولَى أَن " نشغل " كتَابنَا هَذَا بترهات من لَا يحصل هَذَا الْفَنّ.
(311) فصل

1794 - إِذا اقْتصر على الِاسْتِدْلَال وحكموا بِصِحَّتِهَا وَنحن نشِير إِلَيْهِمَا فأحدهما: التَّقْسِيم الصَّحِيح. وَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة أَقسَام فَإِذا بَين الْمُسْتَدلّ بطلَان جَمِيعهَا إِلَّا الْقسم الَّذِي يرتضيه فَيثبت مَقْصُوده.
قَالُوا: وَمِثَال ذَلِك أَن نقُول فِي مَسْأَلَة الصُّلْح على الْإِنْكَار، المَال المبذول لَا يَخْلُو أما أَن يكون مُقَابلا " للشَّيْء " أَو لَا يكون مُقَابلا لشَيْء وباطلا إِلَّا يكون مُقَابلا، فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ سَبيله سَبِيل التَّبَرُّعَات والهبات. وَقد اتَّفقُوا على خِلَافه. فَإِذا كَانَ مُقَابلا للشَّيْء، لم يخل أما أَن يُقَابل الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَة فَيبْطل، إِذْ لَو جَازَ ذَلِك، لجازت الْمُصَالحَة على دَعْوَى حد الْقَذْف وَإِمَّا أَن يكون مُقَابلا بالتحليف الَّذِي يثبت للْمُدَّعِي وَذَلِكَ بَاطِل. لإنهم قَالُوا بِصِحَّة الصُّلْح فِي دَعْوَى النِّكَاح، وَإِن لم يَصح عِنْدهم فِيهَا تَحْلِيف، فَثَبت إِن المَال المبذول، مُقَابل بِالْمَالِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي وَأنْكرهُ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ. وَهُوَ مَال لم يثبت فِيهِ " ملك " الْمُدَّعِي، فيستحيل لُزُوم الِاعْتِيَاض عَنهُ، فَهَذَا هُوَ وَجه فِي الِاسْتِدْلَال. وَقد صَححهُ أَرْبَاب الْأُصُول وَلم يتَعَرَّض لَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.

(3/320)


1795 - فَالصَّحِيح فِي ذَلِك عندنَا، على قِيَاس أُصُوله أَن نقُول: إِذا اشْتَمَلت الْمَسْأَلَة على أَقسَام، فأوضح المسؤول إِبْطَالهَا بآي من كتاب الله تَعَالَى أَو سنة من سنَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَو تمسك فِي بَعْضهَا بالِاتِّفَاقِ، فيسوغ ذَلِك مِنْهُ.
وَأما إِذا رام إِبْطَاله ابْتِدَاء بِضَرْب من الِاعْتِبَار، مثل أَن يَقُول: لَو كَانَ مُقَابلا بِدَعْوَى، لوُجُوب أَن يَصح الصُّلْح عَن دَعْوَى حد الْقَذْف، فَمثل هَذَا الْكَلَام لَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال فِي الِاسْتِدْلَال. وَقد صَححهُ مُعظم أَرْبَاب الْأُصُول فِي الِاسْتِدْلَال.
وللخصم أَن يَقُول: فَمَا الْجَامِع بَين الدعوتين ثمَّ إِذا جمع بَينهمَا فَلهُ مُطَالبَته بتثبيت عِلّة الأَصْل وكل مَا يُطَالب الْمُحَرر بِهِ. فَإِن أَرَادَ الَّذين قَالُوا بتصحيح هَذَا الضَّرْب فِي الِاسْتِدْلَال أَن يجوزه لكل اعْتِبَار يتَمَسَّك بِهِ فِي أَقسَام. فَهَذَا سديد وَلكنه تمسك بِالْقِيَاسِ وَلَا يَسْتَقِيم إنشاؤه مِنْهُم. وَإِن جوزوا الِاسْتِدْلَال بِهِ من غير تَحْرِير فَلَا نرى ذَلِك " صَحِيحا " وَهَذَا بَين إِذا تأملته. فَهَذَا أحد الضربين فِي الِاسْتِدْلَال.
1796 - وَالضَّرْب الثَّانِي الِاسْتِدْلَال بِالْأولَى، فقد صَححهُ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ ومثاله: أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ فِي مَسْأَلَة التَّيَمُّم، إِن التَّيَمُّم لَا يَصح لصَلَاة الْجِنَازَة مَعَ وجود المَاء، إِذا لم يَصح التَّيَمُّم خوفًا " أولى من صَلَاة الْجَمَاعَة " فَلِأَن لَا يجوز ذَلِك فِي صَلَاة الْجِنَازَة أولى.

(3/321)


وكما قَالَ الشَّافِعِي، إِذا وَجَبت الْكَفَّارَة فِي الْقَتْل خطأ، فَلِأَن تجب فِي الْعمد أولى. وَهَذَا الضَّرْب فِيهِ نظر أَيْضا. فَإِن للخصم أَن يَقُول: لم زعمت إِن التَّيَمُّم إِذا لم يجز لخوف / فَوَات / وَقت صَلَاة الْجَمَاعَة فَلَا يجوز لخوف فَوَات صَلَاة الْجِنَازَة، فيطالبه بِالْجمعِ وَيُوجه عَلَيْهِ القوادح فَلَا يمنعهُ من ذَلِك مَانع، فَلم يسْتَقلّ الأول فِي أَن يكون دَلِيلا بل هُوَ ضرب من التَّرْجِيح على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله.
(312) القَوْل فِي تَرْجِيح الْعِلَل وطرقها

1797 - اعْلَم، وفقك الله، إِن التَّرْجِيح إِنَّمَا يَقع فِي الأمارات الَّتِي تَقْتَضِي غلبات الظنون، فَإِذا تَعَارَضَت مِنْهَا عِلَّتَانِ، فالمجتهد مُكَلّف بِأَن يرجح إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى.
1798 - وَالدَّلِيل / على ثُبُوت التَّرْجِيح، هُوَ الدَّلِيل على ثُبُوت أصل الْقيَاس فَإِن الَّذِي عولنا عَلَيْهِ فِي إثْبَاته إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَكلما علمنَا تمسكهم بالأقيسة، فَكَذَلِك علمنَا تعلقهم بترجيح بَعْضهَا على بعض بِذكر وُجُوه الشّبَه

(3/322)


وَغَيرهَا من ضروب التَّرْجِيح فَإِذا ثَبت التَّمَسُّك بِأَصْل التَّرْجِيح. وَقد أكثروها وَنحن نشِير إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِلَى جمل ترشد إِلَى أَمْثَالهَا.
1799 - فَمن أقوى مَا يَقع بهَا التَّرْجِيح أَن تكون إِحْدَى العلتين مُوَافقَة لكتاب الله تَعَالَى أَو سنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَو لقَوْل صَحَابِيّ، عِنْد من يرى الِاحْتِجَاج بقول الصَّحَابِيّ.
وَمِمَّا يقوى التَّرْجِيح بِهِ أَن تكون إِحْدَى العلتين منصوصة وَالْأُخْرَى مستنبطة بِالِاجْتِهَادِ.
وَمِمَّا يَقع بِهِ التَّرْجِيح انعكاس الْعلَّة. وَهُوَ أَن يَنْتَفِي الحكم بانتفائها، فيغلب على الْقلب كَون الحكم مَنُوطًا بِهِ.
وَمن ضروب التَّرْجِيح أَن يكون الحكم أحد الْأَصْلَيْنِ ثَابتا قطعا وَالْحكم فِي الأَصْل الثَّانِي مُخْتَلف فِيهِ على الْجُمْلَة وَإِن اتّفق الخصمان فَإِنَّهُ مَحل اجْتِهَاد والمجتهد لَا يوازي التَّمَسُّك بِالْقطعِ، فَلَو قَالَ الْخصم لخصمه، قد

(3/323)


اتفقنا على حكم الأَصْل، فَلَا يقْدَح خلاف من خَالف فَيُقَال لَهُ. إِنَّمَا وَقع التَّرْجِيح بِالْقطعِ وَعدم الْقطع، واتفاقنا على حكم الأَصْل لَا يلْحقهُ بالقطعيات.
وَمن ضروب التَّرْجِيح أَن يكون أصل / أحد / القائسين، ثَابتا من غير قِيَاس وأصل قِيَاس ثَابتا بِقِيَاس. فَالَّذِي ثَبت أَصله نصا، أقوى وَهَذَا يداني الَّذِي فَرغْنَا مِنْهُ.
وَمن ضروب التَّرْجِيح، أَن يستنبط أثنان من مُسَمّى بإسم مُطلق فِي الشَّرِيعَة فيخصص أَحدهمَا الأَصْل الْمُطلق فِي موارد استنباط الْعلَّة وَلَا يخصصه الثَّانِي فَالَّذِي لَا يخصص أولى.
وَذَلِكَ نَحْو استنباط الشَّافِعِي من الْبر كَونه مطعوما واستنباط أبي حنيفَة كَونه مَكِيلًا. مَعَ علمنَا بإن هَذِه الْعلَّة تسوقه إِلَى الرِّبَا فِيمَا لَا يحصره الْكَيْل. فَهَذَا وَجه قوي فِي التَّرْجِيح. وَمن طرق التَّرْجِيح الأول كَمَا قدمْنَاهُ.
وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَى العلتين صفة محسوسة، وَالْأُخْرَى حكما فَمن النَّاس من زعم أَن المحسوسة أولى وَمِنْهُم من زعم إِن الحكم أولى. فَإِن الْمَقْصد من الْقيَاس الحكم. وإلحاق الحكم بالحكم أولى. وَهَذِه مَسْأَلَة اجْتِهَاد وكل مؤاخذ فِيهَا بِمَا يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَيْهِ.
وَمِنْهَا أَن تكون عِلّة أَحدهمَا بِحَيْثُ لَا يسبقها الحكم الَّذِي ناط بهَا وَالْعلَّة الثَّانِيَة يسبقها حكمهَا وَذَلِكَ نَحْو قَوْلنَا فِي ثُبُوت نَجَاسَة الْكَلْب حَيَوَان

(3/324)


نجس فِي حَيَاته أَو نجس السُّور، فَلَا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير. فَهَذَا مقدم على قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة، إِذْ قَالُوا: حَيَوَان يجوز الِانْتِفَاع بِهِ. فَإِن حكم الدّباغ قد يثبت قبل أَن يبلغ مبلغ الِانْتِفَاع. فالعلة الَّتِي يساوقها الحكم، أولى وَأظْهر تَأْثِيرا وَهَذَا يداني مَا قدمْنَاهُ من التَّرْجِيح بالانعكاس.
وَمِنْهَا التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَشْبَاه، على مَا قدمْنَاهُ فِي أَقسَام الْقيَاس وَإِلَّا ظهر إِنَّا وَإِن لم نجوز التَّمَسُّك بِهِ ابْتِدَاء، فَيجوز التَّرْجِيح بِهِ.
وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا مفسرة فِي مقصودها، وَالْأُخْرَى " مُبْهمَة " نَحْو أَن نقُول: أفطر بِغَيْر جماع، فَلَا تلْزمهُ الْكَفَّارَة، فَهَذَا أولى من قَول الْحَنَفِيّ أفطر بممنوع جنسه لما فِيهِ من " الْإِبْهَام ".
وَمِنْهَا أَن تَقْتَضِي " إِحْدَى " العلتين النَّقْل عَن الْعَادة، وَالْأُخْرَى " الْبَقَاء " عَلَيْهَا فَمن النَّاس من جعل الناقلة أولى وَمِنْهُم من جعل

(3/325)


المبقية أولى، وَلكُل قَول وَجه. وَلَا يبلغان الْقطع، لنطنب فِيهِ.
وَمِنْهَا: أَن يكون مَحل الِاجْتِهَاد عبَادَة يحْتَاط / لَهَا. فالتمسك بِالْعِلَّةِ الَّتِي تَتَضَمَّن الِاحْتِيَاط أولى. وَمِنْهُم من قَالَ: التَّمَسُّك " بِالَّتِي " توجب بَرَاءَة الذِّمَّة أولى.
وعَلى هَذَا اخْتلفُوا فِي علتين توجب إِحْدَاهمَا " حدا " وَالْأُخْرَى تدرأه فَمنهمْ من قَالَ: الَّتِي تدرأ الْحَد أولى، فَإِن الْحُدُود تدرأ بِالشُّبُهَاتِ.
وَمِنْهُم من قَالَ: الَّتِي تثبت أولى، لاشتمالها على زِيَادَة حكم. وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا حاظرة مُحرمَة. وَالْأُخْرَى مبيحة.
فَمنهمْ من جعل الحاظرة أولى لاشتمالها على زِيَادَة حكم، وَالأَصَح أَن لَا يَقع بذلك تَرْجِيح. فَإِن الْحل حكم، كَمَا أَن التَّحْرِيم حكم.

(3/326)


وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا متعدية وَالْأُخْرَى قَاصِرَة. فقد اخْتلفُوا فِي ذَلِك فَمنهمْ من جعل المتعدية أولى، لاشتمالها على زِيَادَة حكم.
وَمِنْهُم من لم ير تَرْجِيح المتعدية وغلا بعض أَصْحَابنَا فرجح القاصرة على المتعدية، من حَيْثُ لَزِمت أَصْلهَا، وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام.
وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَى العلتين مستوعبة لأطراف الْمَسْأَلَة. وَالْأُخْرَى مُخْتَصَّة بِبَعْضِهَا وَيجمع ضروبا من التَّرْجِيح " فصل " وَاحِد. وَهُوَ أَن تشْتَمل إِحْدَى العلتين على زِيَادَة حكم، فالمشتملة على الزِّيَادَة أولى عِنْد بَعضهم.
وَأَشَارَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَنه لَا يَقع بذلك التَّرْجِيح. فَإِن زِيَادَة الحكم لَيْسَ من علم الصِّحَّة إِذْ الْمُعَلل مطَالب بتصحيح علته. سَوَاء انطوت على حكم أَو على أَحْكَام.
1800 - وَمِمَّا خَاضَ فِيهِ الخائضون كَثْرَة الْأُصُول. مثل أَن تنطوي إِحْدَى العلتين على أصُول. وتنطوي الْأُخْرَى على وَاحِد.
فَمنهمْ من جعل كَثْرَة الْأُصُول بِمَنْزِلَة كَثْرَة الروَاة فِي الحَدِيث، وَقد ذكرنَا فِي ذَلِك اخْتلَافهمْ. وَمِنْهُم من لم يرجح بِكَثْرَة الْأُصُول. وَهَذَا

(3/327)


مَا اخْتَارَهُ القَاضِي.
فَإِن أَعْيَان الْأُصُول من الطَّرِيقَة " الْوَاحِدَة " فَلَا شكّ فِيهِ.
وَلَو قَاس على أصل بِوَجْه وَاحِد، فَكَذَلِك لَا يُوجب تَرْجِيحا. فَإِن الدَّلِيل هُوَ مَا نَصبه عِلّة اتَّحد أَو تعدد.
ثمَّ الَّذين جعلُوا عدد الْأُصُول تَرْجِيحا، اخْتلفُوا فِيهِ إِذا كثرت تعدد الْأَوْصَاف أولى من التَّمَسُّك بِعَدَد الْأُصُول.
فالأكثرون صَارُوا إِلَى عدد الْأَوْصَاف أولى " فَإِنَّهَا " الْعِلَل. وَالْأُصُول هِيَ الْمحَال الَّتِي تطلب مِنْهَا الْعِلَل. فأنفس الْعِلَل أولى من محالها.

(3/328)


1801 - وَمِمَّا خَاضُوا فِيهِ أَن إِحْدَى العلتين إِذا كَانَت مركبة من أَوْصَاف وَالْأُخْرَى ذَات وصف فالأكثرون صَارُوا إِلَى أَن مَا يتحد وَصفه أولى لِأَنَّهُ يقل فِيهِ الِاجْتِهَاد وتكثر فروعه. فينطوي على زِيَادَة الحكم، ويضاهي علل الْعقل.
وَمِنْهُم من قَالَ: لَا فرق بَينهمَا وَلَعَلَّه الصَّحِيح. فَإِن سَبِيل الْعِلَل السمعية سَبِيل الأمارات وَيجوز تَقْدِير وصفين أَمارَة. كَمَا يجوز ذَلِك فِي الْوَصْف الْوَاحِد.
وَأما زِيَادَة الحكم فقد ذكرنَا أَنه لَا مَعْلُول عَلَيْهِ. وَأما مضاهاة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فَلَا أصل لَهُ فَإِن السمعية لَا تضاهي الْعَقْلِيَّة قطّ. فَتدبر ذَلِك.
وَمن النَّاس من قدم المركبة على ذَات وصف. وَهَذَا بعيد جدا.
1802 - وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ أَن يكون لفظ عَام عَن صَاحب الشَّرِيعَة، واشتملت الْمَسْأَلَة على علتين إِحْدَاهمَا مخصصة، وَالْأُخْرَى " مبقية " للْعُمُوم فَمنهمْ من جعل المخصصة أولى وَمِنْهُم من جعل المستديمة للْعُمُوم أولى. وَهَذَا هُوَ الأولى عندنَا. فَإِنَّهَا تَتَضَمَّن تبقية ظَاهر على حَقِيقَته.

(3/329)


1803 - وَمِمَّا خَاضُوا فِيهِ أَيْضا أَن تشْتَمل إِحْدَى العلتين على إِيجَاب وَالْأُخْرَى على ندب. فَمنهمْ من قَالَ: الْمُوجبَة أولى، لاشتمالها على زِيَادَة. وَهَذَا فِيهِ نظر. فَإنَّا ذكرنَا أَن الاشتمال على زِيَادَة لَا يرجح بِهِ على الْوُجُوب لَيْسَ معنى النّدب وَزِيَادَة بل هُوَ حكم على حياله كالندب.
1804 - وَمِمَّا يذكر فِي التَّرْجِيح أَن تَتَضَمَّن / إِحْدَى العلتين النَّقْل عَن حكم الْعقل، عِنْد من يرى أَن الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع على حل أَو حظر. فَمنهمْ من جعل " الناقلة " أولى. وَمِنْهُم من جعل المبقية أولى. وَهَذَا فَاسد. لما ندل عَلَيْهِ أَن من الْأَحْكَام / مَا / لَا يسْتَدرك قبل وُرُود الشَّرَائِع عقلا.
وَاعْلَم أَن طرق التَّرْجِيح لَا تَنْحَصِر. فَإِنَّهَا تلويحات " تجول " فِيهَا الاجتهادات، ويتوسع فِيهَا من توسع فِي فن الْفِقْه.

(3/330)