التلخيص في أصول الفقه (كتاب الِاجْتِهَاد)
(313) القَوْل فِي تصويب الْمُجْتَهدين وَذكر وُجُوه الْخلاف
فِيهِ
1805 - اعْلَم، وفقك الله أَن مَا " يجْرِي " فِيهِ كَلَام
الْعلمَاء يَنْقَسِم إِلَى الْمسَائِل القطعية وَإِلَى
الْمسَائِل " المجتهدة " الْعَارِية " عَن " أَدِلَّة الْقطع.
(3/331)
1806 - / فَأَما الْمسَائِل القطعية فتنقسم
إِلَى الْعَقْلِيَّة والسمعية / فَأَما الْعَقْلِيَّة " فَهِيَ
" الَّتِي تنتصب فِيهَا أَدِلَّة الْقطع على الِاسْتِقْلَال
وتفضى إِلَى الْمطلب من غير افتقار إِلَى تَقْدِير الشَّرْع،
وَذَلِكَ مُعظم مسَائِل العقائد نَحْو / إِثْبَات حدث
الْعَالم، و / إِثْبَات الْمُحدث و " قدمه " وَصِفَاته، وتبيين
تنزيهه عَمَّا تلْزم فِيهِ مضاهاة الْحَوَادِث، وَإِثْبَات
الْقدر وَإِثْبَات جَوَاز الرُّؤْيَة، وَإِبْطَال القَوْل
بِخلق الْقُرْآن، وَتَحْقِيق " قدم " الْإِرَادَة. إِلَى غير
ذَلِك من الْأُصُول.
وَأما الشَّرْعِيَّة فَكل مَسْأَلَة، تنطوي على حكم من
أَحْكَام التَّكْلِيف مَدْلُول " عَلَيْهَا " بِدلَالَة
قَاطِعَة، من نَص أَو إِجْمَاع.
1807 - وَقد اخْتلفت " عِبَارَات " أَصْحَابنَا، إِذْ سئلوا
عَن تَحْدِيد مسَائِل الْأُصُول.
فَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، عِبَارَات فِي مصنفاته،
فَقَالَ فِي بَعْضهَا: حد الأَصْل " مَا لَا يجوز " وُرُود
التَّعَبُّد فِيهِ إِلَّا بِأَمْر وَاحِد. فيندرج تَحت هَذَا
الْحَد مسَائِل الِاعْتِقَاد. وَتخرج عَنهُ مسَائِل الشَّرْع
أجمع قطعيها ومجتهدها.
(3/332)
وَقَالَ مرّة أُخْرَى: حد الأَصْل: مَا
يَصح من النَّاظر العثور فِيهِ على الْعلم من غير تَقْدِير
وُرُود الشَّرْع وزينت فِي هَذَا الْكتاب مَا ذكره فِي كتبه.
وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَن يحد بهَا وأمثالها أصُول الدّين. "
إِذْ " يدْخل عَلَيْهَا وجوب معرفَة الله تَعَالَى وَمَعْرِفَة
صِفَاته، وَوُجُوب معرفَة النُّبُوَّة. " وَوُجُوب " معرفَة
هَذِه الْأُصُول، من أصُول الدّين. فَلَا سَبِيل إِلَى
إِلْحَاق هَذَا الْقَبِيل بمسائل الْفُرُوع. مَعَ علمنَا بِأَن
الْوُجُوب لَا يثبت إِلَّا شرعا فَبَطل من هَذَا الْوَجْه حصر
مسَائِل الْأُصُول فِي العقليات / وَكَذَلِكَ يجوز تَقْدِير
نسخ وجوب الْمعرفَة عندنَا / لِأَن مَا ثَبت أَصله بِالشَّرْعِ
يجوز فِيهِ تَقْدِير النّسخ.
فالحد الصَّحِيح الَّذِي عول عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ من أصُول
الدّين أَن قَالَ: كل مَسْأَلَة يحرم الْخلاف فِيهَا مَعَ
اسْتِقْرَار الشَّرْع / وَيكون مُعْتَقد خِلَافه جَاهِلا،
فَهِيَ من الْأُصُول سَوَاء استندت إِلَى العقليات، أَو لم
تستند إِلَيْهَا /.
(3/333)
1808 - فَإِن قَالَ / قَائِل: فالعقليات
الَّتِي يتَكَلَّم فِيهَا أَرْبَاب الْكَلَام، وَيَقَع
الِاسْتِقْلَال بذواتها / فِي العقائد، تعد من الْأُصُول،
وَلَا يتَحَقَّق فِيهَا تَحْرِيم الْخلاف.
قُلْنَا: إِن كَانَت " منوطة " بقاعدة / من قَوَاعِد الدّين.
فَإِن كَانَت من الدقائق فَيحرم الْخلاف فِيهَا. وَإِن كَانَت
لَا تتَعَلَّق بِشَيْء من الْقَوَاعِد فَلَا تعد من أصُول
الدّين. وَإِنَّمَا اعتبارنا بأصول الدّين.
1809 - فَإِذا عرفت مَا هُوَ " الأَصْل " فَلَا تقل فِيمَا
هَذَا سَبيله إِن كل مُجْتَهد مُصِيب بل الْمُصِيب وَاحِد وَمن
عداهُ جَاهِل مُخطئ. وَهَذَا مَا صَار إِلَيْهِ كَافَّة
الْأُصُولِيِّينَ، ... ... . .
(3/334)
إِلَّا عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري.
فَإِنَّهُ ذهب إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْأُصُول
كَمَا أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْفُرُوع.
1810 - ثمَّ اخْتلفت " الرِّوَايَة " عَنهُ فَقَالَ فِي أشهر /
الرِّوَايَتَيْنِ: أَنا أصوب كل مُجْتَهد فِي الدّين تجمعهم
الْملَّة، و " أما " الْكَفَرَة فَلَا يصوبون.
وغلا بعض الروَاة عَنهُ [نصوب] الكافة من الْمُجْتَهدين دون
الراكنين إِلَى " الْبِدْعَة " والمعرضين عَن أَمر
الِاجْتِهَاد.
وَحَقِيقَة مذْهبه تبين فِي الْخلاف.
(3/335)
فَهَذَا / بَيَان / أحد الْقسمَيْنِ وَهُوَ
مسَائِل الْأُصُول.
1811 - فَأَما مسَائِل الْفُرُوع فَنَذْكُر حَدهَا أَولا.
وَأَصَح مَا يُقَال فِيهَا أَن نقُول: كل حكم " فِي " أَفعَال
الْمُكَلّفين، لم تقم عَلَيْهِ دلَالَة عقل وَلَا " ورد " فِي
حكمه الْمُخْتَلف فِيهِ، دلَالَة سمعية قَاطِعَة فَهُوَ من
الْفُرُوع.
(3/336)
1812 - " فَإِن " اخْتلفت فِيهِ الْعلمَاء
فِي " مباينة " اجتهادهم، فَمَا حكمهم فِي التصويب والتخطئة؟
فَأَما نفاة الْقيَاس فقد قطعُوا، بِأَن الْمُصِيب وَاحِد "
عينوه ".
وَزَعَمُوا أَن من أَخطَأ الْحق الْمعِين فَهُوَ مأثوم مأزور!
وَلم يقل " بِهَذَا " الْمَذْهَب من القائسين / إِلَّا /
الْأَصَم وَبشر المريسي فَإِنَّهُمَا زعما أَن الْمُصِيب
وَاحِد وَأَن الْمَطْلُوب وَاحِد وَمن تعداه
(3/337)
مأثوم.
1813 - وَصَارَ كَافَّة الْعلمَاء إِلَى نفي الْإِثْم والحرج
فِي مسَائِل الْفُرُوع. وَاخْتلفُوا بعد ذَلِك فِي التصويب.
1814 - فَأَما الشَّافِعِي رَحمَه الله، فَلَيْسَ لَهُ فِي
الْمَسْأَلَة نَص على التَّخْصِيص لَا نفيا وَلَا إِثْبَاتًا.
وَلَكِن اخْتلفت النقلَة عَنهُ " و " المستنبطون من قضايا "
كَلَامه ".
فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنه يَقُول: الْمُصِيب وَاحِد.
ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ. فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه كَانَ يَقُول:
الْمُجْتَهد كلف الِاجْتِهَاد والعثور على الْحق، وَنصب لَهُ
الدَّلِيل المفضي إِلَى الْعلم بِمَا كلف فَإِن أَصَابَهُ
فَلهُ أَجْرَانِ. وَإِن أخطأه فالوزر محطوط عَنهُ لغموض
الدَّلِيل.
وَإِلَى هَذَا " الْمَذْهَب " صَار مُعظم الْقَائِلين بِأَن
الْمُصِيب وَاحِد.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْحق لَا دَلِيل عَلَيْهِ يُفْضِي "
إِلَى الْعلم " بِهِ وَلكنه كالشيء " الْمكنون " يتَّفق العثور
عَلَيْهِ، ويتفق تعديه. وَلَيْسَ على
(3/338)
الْعلم بِهِ دَلِيل.
ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ. فَذهب بَعضهم إِلَى أَن العثور
عَلَيْهِ مِمَّا يجب / على الْمُكَلف وَإِن لم يكن عَلَيْهِ
دَلِيل يُفْضِي إِلَى الْعلم.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن العثور " عَلَيْهِ " لَيْسَ
بِوَاجِب. وَإِنَّمَا الْوَاجِب الِاجْتِهَاد وَهَذَا حَقِيقَة
مَذْهَب من يَقُول " إِن " كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده.
1815 - وَأما أَبُو حنيفَة فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَنهُ.
وَالَّذِي يَصح عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول: كل مُجْتَهد مُصِيب
فِي اجْتِهَاده، وأحدهم عاثر على الْحق وَالْبَاقُونَ مخطئون
فِيهِ، وَكلهمْ على الصَّوَاب فِي الِاجْتِهَاد.
1816 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي توضح عندنَا
من فحوى كَلَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ القَوْل " بتصويب
" الْمُجْتَهدين. وَقد نقل ذَلِك
(3/339)
بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي عَنهُ صَرِيحًا،
وعد نصوصا منبئة عَمَّا " قَالَه ".
وَالصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الْمُصِيب وَاحِد.
1817 - وَذَهَبت طَائِفَة من الْعلمَاء إِلَى أَن الْمُجْتَهد
مَأْمُور بِطَلَب الْأَشْبَه. وَإِلَيْهِ صَار مُحَمَّد بن
الْحسن وَأَبُو يُوسُف وَابْن شُرَيْح فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ.
وَلَا يتَبَيَّن الْأَشْبَه إِلَّا بتفصيل. وسنفرد فِيهِ
بَابا.
فَهَذِهِ جملَة الْمذَاهب الَّتِي عدت القَوْل بتصويب
الْمُجْتَهدين اجْتِهَادًا وَحكما.
1818 - وَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُعْتَزلَة قاطبة أَن كل
مُجْتَهد مُصِيب اجْتِهَادًا وَحكما. وَمَال شَيخنَا رَضِي
الله عَنهُ إِلَى ذَلِك. وَهُوَ اخْتِيَار القَاضِي رَضِي
(3/340)
الله عَنهُ وكل من انْتَمَى إِلَى
الْأُصُول. إِلَّا الْأُسْتَاذ أَبَا إِسْحَاق فَإِنَّهُ صَار
إِلَى أَن الْمُصِيب وَاحِد.
وَحكى الطَّبَرِيّ فِي ذَلِك عَن ابْن فورك وَالَّذِي عندنَا
أَنه كَانَ يَقُول بتصويب الْمُجْتَهدين.
1819 - " وَنحن " الْآن نرد على الْعَنْبَري أَولا ثمَّ نذْكر
شبه الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد ونتفصى عَن /
جَمِيعهَا ثمَّ نذْكر أدلتنا ثمَّ نفرد بعد
(3/341)
ذَلِك ثَلَاثَة أَبْوَاب:
أَحدهَا: فِي الرَّد على من قَالَ: كل مُجْتَهد مُصِيب فِي
اجْتِهَاده.
وَالثَّانِي: فِي الْقَائِلين بالأشبه.
وَالثَّالِث: فِي القَوْل بالتخيير، مَعَ تصويب الْمُجْتَهدين.
(314) مَسْأَلَة فِي الرَّد على الْعَنْبَري حَيْثُ قَالَ
بتصويب الْمُجْتَهدين فِي مسَائِل الْأُصُول
1820 - فَنَقُول: لَا تَخْلُو من أحد أَمريْن فِي
الْمُخْتَلِفين فِي نفي الصِّفَات وإثباتها وَالْقَوْل " بِخلق
" الْقُرْآن وَقدمه، وَغَيرهمَا من مسَائِل الْأُصُول.
إِمَّا أَن تَقول: كل وَاحِد من المذهبين حق وَهُوَ علم ثَابت
مُتَعَلق بالمعلوم على مَا هُوَ بِهِ فَإِن قَالَ ذَلِك،
فَهُوَ خُرُوج مِنْهُ إِلَى السفسطة، وَترك الضروريات وَجحد
البدائه.
فَإنَّا نعلم بضرورة الْعقل اسْتِحَالَة كَون الشَّيْء قَدِيما
" حَادِثا " ثَابتا منفيا، جَائِزا مستحيلا. فَبَطل الْمصير
إِلَى هَذَا الْقسم. وَتبين أَن أحد الْمُجْتَهدين هُوَ
الْعَالم بِحَقِيقَة مَا فِيهِ الْكَلَام، وَالثَّانِي جَاهِل.
وَإِن زعمت أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْأُصُول تَعْنِي أَنه
لم يُكَلف / إِلَّا الِاجْتِهَاد فَأَما العثور على الْحق،
فَلم يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف لصعوبة مدركه
(3/342)
وَاخْتِلَاف " الأمارات " وغموض طرق
الْأَدِلَّة فَإِن سلك هَذَا المسلك فِي القَوْل بالتصويب،
وَقَالَ مَعَ ذَلِك بطرد مذْهبه فِي الْكفْر، فقد انْسَلَّ "
من " الدّين. حَيْثُ عذر " الْكَفَرَة " فِي الْإِصْرَار على
الْكفْر.
1821 - فَإِن قَالَ ذَلِك فِي الَّذين تجمعهم الْملَّة، كَانَ
الْكَلَام عَلَيْهِ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن نقُول: مَا الَّذِي حجرك عَن القَوْل بِأَن
الْمُصِيب وَاحِد؟ فَإِن تمسك بغموض الْأَدِلَّة قيل لَهُ -
فَالْكَلَام فِي النبوات والإحاطة بِصِفَات المعجزات، وتمييزها
من " المخاريق " والكرامات " أغمض " عَن العارفين بأصول
الديانَات من الْكَلَام فِي الْقدر وَغَيره مِمَّا " يخْتَلف "
فِيهِ أهل الْملَّة، فَهَلا عذرت الْكَفَرَة بِمَا ذكرت؟
وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُ عَنهُ.
وَالْوَجْه الآخر من الْكَلَام أَن نقُول: مِمَّا خَاضَ فِيهِ
أهل الْملَّة القَوْل بالتشبيه - تَعَالَى الله " عَن ذَلِك "
علوا كَبِيرا - وَالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن " إِلَى غير ذَلِك
" مِمَّا يعظم خطره.
(3/343)
وَقد أجمع الْمُسلمُونَ قبل الْعَنْبَري
على أَنه يجب على " الْمُسلم " إِدْرَاك " بطلَان " القَوْل
بالتشبيه، وَلَا يسوغ الاضراب عَن معرفَة هَذَا وَأَمْثَاله من
أصُول الْحَقَائِق. وَمَا قَالَ أحد مِمَّن مضى وَبَقِي إِنَّه
لَا تجب معرفَة العقائد على الْحَقِيقَة، بل قَالُوا قاطبة،
بِأَن معرفَة العقائد وَاجِبَة على كل مُكَلّف، وَهَذَا مَا
لَا سَبِيل إِلَى رده. فَبَطل " مَا قَالَه " من كل وَجه.
وَقد ذكرنَا فِي خلال الْكَلَام مَا عَلَيْهِ معول الرجل.
(315) مَسْأَلَة فِي تصويب الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع
1822 - " و " قدمنَا ذكر الْمذَاهب، و " هَا " نَحن الْآن
نذْكر شبه الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد. فمما سبق إِلَى
التَّمَسُّك بِهِ الْفُقَهَاء " الَّذين " لَا يحصلون حقائق
الْأُصُول " أَن " قَالُوا: إِذا اخْتلف الْعلمَاء فِي
تَحْلِيل وَتَحْرِيم، فَلَو قُلْنَا: إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا
مُصِيب، كَانَ ذَلِك محالا من القَوْل وجمعا بَين متنافيين،
فَإِن الشَّيْء الْوَاحِد يَسْتَحِيل " أَن يكون " حَلَالا
حَرَامًا.
(3/344)
وأطنبوا فِيهِ. وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ،
يُؤَدِّي إِلَى مقصودهم.
" فَيُقَال " لَهُم: أول مَا " فتحتم " بِهِ كلامكم غلط. فَإِن
الْعين الْوَاحِدَة لَا تحل وَلَا تحرم " إِذْ التَّحْلِيل
وَالتَّحْرِيم لَا يتعلقان بالأعيان " وَإِنَّمَا يتعلقان
بِأَفْعَال الْمُكَلّفين، فالمحرم فعل الْمُكَلف فِي الْعين
والمحلل فعله فِيهِ. فهما إِذا شَيْئَانِ حرم أَحدهمَا وَحل
الثَّانِي فَهَذَا وَجه لمفاتحتهم / بالْكلَام.
1823 - على أَنا نقُول: لَو تتبعناكم، فَإِنَّمَا المتنافي أَن
يحرم الشَّيْء ويحلل على الشَّخْص الْوَاحِد فِي الْحَالة
الْوَاحِدَة. وَلَيْسَ هَذَا سَبِيل الْمُجْتَهدين. فَإِن كل
مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ، وتنزلت الْعين الدائرة " فِي
النَّفْي وَالْإِثْبَات " / بَينهمَا مَعَ اخْتِلَاف
اجتهاديهما منزلَة الْعين الْمَمْلُوكَة بَين مَالِكهَا /
وَغير مَالِكهَا، وَهِي محللة مُحرمَة على غَيره وَكَذَلِكَ
الْميتَة بَين الْمُضْطَر وَالْمُخْتَار / فَهَذَا أَكثر " من
" أَن يُحْصى. فَبَطل
(3/345)
" ادِّعَاء " التَّنَاقُض.
1824 - وَرُبمَا يفْرض من قَالَ إِن الْمُصِيب وَاحِدًا صورا
فِي " عين " دَعْوَى التَّنَاقُض وَنحن نذْكر مَا يَقع بِهِ
الِاسْتِقْلَال حَتَّى " نستدل بطرق الْجَواب مِنْهَا على
أَمْثَالهَا ".
فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا: " إِذا قَالَ للْمَرْأَة
زَوجهَا " فِي حَال الْغَضَب وَسَأَلته الطَّلَاق أَنْت بَائِن
وَالزَّوْج شَافِعِيّ، يعْتَقد أَن الطَّلَاق لَا يَقع بذلك
وَالْمَرْأَة حنفية، تعتقد وُقُوع الطَّلَاق.
" قَالُوا ": فَإِذا زعمتم أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُصِيب،
وَلَعَلَّهُمَا كَانَا مجتهدين. فالجمع بَين " القَوْل "
بتصويبهما وتصويبه، يَقْتَضِي الْجمع بَين التسليط على
الِاسْتِمْتَاع، وَالْمَنْع مِنْهُ.
فَإِن الرجل متسلط على قَضِيَّة اجْتِهَاده على
الِاسْتِمْتَاع. وَمن مُوجب اعْتِقَاده أَنه لَا يجوز " لَهَا
أَن تَمنعهُ " استمتاعا مُبَاحا مِنْهَا لَهُ، وَمن مُوجب
اعتقادها التَّحْرِيم وَوُجُوب الِامْتِنَاع وَهَذَا متناقض
جدا.
(3/346)
" فَأول " مَا نفاتحهم بِهِ، أَن نقُول: "
فَأنْتم " معاشر الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد لَا
سَبِيل لكم إِلَى إِن " تنزل " الْمَرْأَة على قَوْله، أَو
ينزل الرجل على قَوْلهَا، فَإِنَّكُم " لَا تعينون " فِي
الظَّاهِر الْمُصِيب مِنْهُمَا فَمَا وَجه جوابكم، إِذا عنت
هَذِه الْحَادِثَة فَكل مَا قدرتموه جَوَابا ظَاهرا فِي "
حَقّهمَا " فَهُوَ حكم الله تَعَالَى / عندنَا ظَاهرا
وَبَاطنا.
فَإِن زَعَمُوا أَن الْأَمر بَينهمَا يُوقف إِلَى أَن يرفعا
إِلَى حَاكم، فَيَقْضِي عَلَيْهِمَا بِمُوجب اعْتِقَاده
قُلْنَا: فالوقف قبل الرّفْع حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا
قطعا. وَإِذا رفعا إِلَيْهِ، فَمَا حكم بِهِ القَاضِي، فَهُوَ
حكم الله تَعَالَى / قطعا وَإِن زَعَمُوا أَن الْمَرْأَة
مأمورة بالإمتناع جهدها، وَالرجل مُبَاح لَهُ " الطّلب
للاستمتاع " وَإِن ادى إِلَى قهرها، وَلم " يعدوا " ذَلِك "
تناقضا " فِي ظَاهر الْجَواب، فَهُوَ الحكم عِنْد الله
تَعَالَى " وَعِنْدنَا " ظَاهرا وَبَاطنا.
(3/347)
" وَالْجُمْلَة " الكافية " فِي ذَلِك " "
حكما " وتحقيقا مَا قدمْنَاهُ من أَن كل مَا " يقدره "
الْقَائِلُونَ بِأَن الْمُصِيب وَاحِد " فِي " أَمْثَال هَذِه
الْمسَائِل ويزعمون " أَن مَا وَقع " مِنْهُم فِي الظَّاهِر،
فَهُوَ الحكم عندنَا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن.
1825 - وَمِمَّا يتمسكون بِهِ من الصُّور، أَن الْمَرْأَة إِذا
نكحت بِغَيْر ولي " أَولا " ثمَّ زَوجهَا وَليهَا ثَانِيًا،
وَالَّذِي " تزوج " بهَا ثَانِيًا، شَافِعِيّ الْمَذْهَب
يعْتَقد بطلَان نِكَاح الأول وَالَّذِي تزوج بهَا أَولا
حَنَفِيّ يعْتَقد " صِحَة " النِّكَاح / الأول وَبطلَان
الثَّانِي، وَالْمَرْأَة مترددة بَين دعويهما / وهما مجتهدان
مثلا، فَمَا وَجه تصويبهما / فِي الْإِفْضَاء إِلَى تحليلها "
لَهما " وتحريمها عَلَيْهِمَا " أَو " جمع الْحل وَالتَّحْرِيم
فِي حق كل وَاحِد مِنْهُمَا؟
(3/348)
قُلْنَا: فَلَو حدثت هَذِه الْمَسْأَلَة
وسئلتم عَنْهَا " فبماذا " كُنْتُم تفصلون الحكم فِيهَا
ظَاهرا. فَكل مَا أوجبتم بِهِ فِي ظَاهر الْأَمر وَلم " تعدوه
" تناقضا، فَهُوَ حكم الله تَعَالَى عندنَا.
وَإِن اجتزيت بِهَذَا الْقدر كَفاك. " و " إِن أردْت
التَّفْصِيل / فِي الْجَواب قلت / من الْقَائِلين بِأَن
الْمُصِيب وَاحِد من صَار فِي هَذِه الصُّورَة إِلَى الْوَقْف،
حَتَّى يرفع الْأَمر إِلَى القَاضِي كَمَا قدمْنَاهُ فِي "
الصُّورَة الأولى ".
فعلى هَذَا نقُول حكم الله تَعَالَى " فِيهَا " الْوَقْف
ظَاهرا وَبَاطنا حَتَّى يرفع " أَمرهمَا " إِلَى القَاضِي
فينزلهما على اعْتِقَاد نَفسه. فَحكم الله تَعَالَى حِينَئِذٍ
" عَلَيْهِمَا " ذَلِك.
وَمِنْهُم من قَالَ: تسلم الْمَرْأَة إِلَى الزَّوْج الأول،
فَإِنَّهُ نَكَحَهَا نِكَاحا يعْتَقد صِحَّته، وَهُوَ
السَّابِق " بِهِ " فَلَا يبعد أَن نقُول: إِن هَذَا هُوَ
الحكم.
وَاعْلَم إِن هَذِه الْمَسْأَلَة وأمثالها من المجتهدات،
وفيهَا " تقَابل "
(3/349)
الِاحْتِمَالَات، " فيجتهد " الْمُجْتَهد /
فِيهَا عندنَا وَمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، فَهُوَ حق، من
وقف أَو تَقْدِيم أَو غَيرهمَا من وُجُوه الْجَواب.
وَقد أَكْثرُوا فِي إِيرَاد الصُّور، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ "
أكمل الْغنى " إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1826 - وَالَّذِي عول عَلَيْهِ الْأُسْتَاذ / أَبُو إِسْحَاق
رَضِي الله عَنهُ / فِي الْمَسْأَلَة، لما رأى أَن ادِّعَاء
التَّنَاقُض فِي " الْأَحْكَام " لَا وَجه لَهُ فالتزم
التَّنَاقُض فِي الْأَدِلَّة. فَقَالَ: " لَا تثبت "
الْأَحْكَام فِي آحَاد الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة إِلَّا
بالأدلة، كَمَا لَا يثبت اصل الشَّرِيعَة المتلقاة من "
تَبْلِيغ " الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا بالمعجزة
الدَّالَّة على صدقه. وَقد اتّفق الْعلمَاء قاطبة على أَن
الْأَحْكَام فِي جَوَاز الِاجْتِهَاد تستند إِلَى أَدِلَّة
وأمارات.
فَإِذا ثَبت هَذَا الأَصْل فَالَّذِي " اداه " اجْتِهَاده
إِلَى الْحل متمسك بأمارة أَو دلَالَة تعم فِي قضيتها / وَلَا
تخص هَذَا الْمُجْتَهد بِعَيْنِه، " وَكَذَلِكَ قَالَ "
(3/350)
بِالتَّحْرِيمِ معتصم بطريقة عَامَّة فِي
قضيتها / إِذْ لَيْسَ فِي قَضيته دلَالَة من " الْأَدِلَّة
الشَّرْعِيَّة " اخْتِصَاص لبَعض الْمُجْتَهدين. فَالْقَوْل
بتصويبهما فِي الْحل وَالتَّحْرِيم، مَعَ مَا مهدناه من
أَنَّهُمَا لَا يثبتان إِلَّا بدلالتين وأمارتين ذهَاب إِلَى
تَحْقِيق الأمارتين العامتين وتصحيحهما، وهما متناقضان. وَإِن
لم يتناقض الْحل وَالتَّحْرِيم فِي حق رجلَيْنِ /.
1827 - وَقد انْفَصل بعض من لَا يُحَقّق مَقْصُود هَذِه
الْمَسْأَلَة عَن هَذِه الدّلَالَة بِأَن قَالَ: إِنَّمَا
يَسْتَقِيم هَذَا إِن لَو قُلْنَا: إِن مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي
صور " الاجتهادات " أَدِلَّة. " وَأما " وَقد قدمنَا "
أَنَّهَا " لَيست بأدلة " فَلَا يلْزم " فِيهَا التَّنَاقُض.
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء. فَإِن التَّنَاقُض فِي الأمارات
المنصوبة على الْأَحْكَام كالتناقض فِي الدَّلَائِل الدَّالَّة
على مدلولاتها بأنفسها من غير نصب فِيهَا. وَهَذَا بَين لَا
خَفَاء بِهِ.
1828 - وَطَرِيق الْجَواب عَن ذَلِك، مَا ذكره القَاضِي رَضِي
الله عَنهُ فِي خلل الْأَحْكَام، وَذَلِكَ أَنه قَالَ: إِذا
اخْتلف المجتهدان فِي تَعْلِيل الْبر فِي حكم الرِّبَا،
فَألْحق أَحدهمَا بِهِ " فرعا " ونفاه الثَّانِي ومرجعهما
إِلَى الِاجْتِهَاد
(3/351)
" فِي " وصف الْبر، فَلَيْسَ فِي وصف الْبر
دلالتان دالتان بأنفسهما على النَّفْي وَالْإِثْبَات. ولسنا
نقُول أَيْضا إِن صَاحب الشَّرْع نصب فِي الْبر عَلامَة
مَعْلُومَة عِنْده وكلفنا العثور عَلَيْهَا " أَو " نصب فِيهِ
" أمارتين " حَتَّى نقدر الأمارتين المنصوبتين متناقضتين أَو "
متماثلتين " إِذْ لَو قُلْنَا بذلك، كُنَّا قائلين بِطَلَب
شَيْء والعثور عَلَيْهِ، سوى الْعَمَل وَهَذَا قَول بِأَن
الْحق طلب علم أَو " هُوَ " طلب الْأَشْبَه، وَنحن نبطل
الطريقتين جَمِيعًا " فَخرج " من ذَلِك أَلا نقدر دلالتين
وَلَا أمارتين منصوبتين على الْوَجْه الَّذِي فَرْضه
الْمُسْتَدلّ علينا وَلَكِن نقُول: أَمارَة الحكم فِي حق كل
وَاحِد غَلَبَة ظَنّه.
كَأَن الرب تَعَالَى جعل " غَلَبَة " ظن كل مُجْتَهد علما على
الحكم بِمُوجب ظَنّه. وَهَذَا مَا لَا يتَحَقَّق فِيهِ تنَاقض.
فَتبين ذَلِك واعلمه فَإِنَّهُ " سر " الْمَسْأَلَة وَلَا
يُحِيط بِهِ إِلَّا من تَأَكد غَرَضه فِيهَا.
1829 - وَلَا " تبقى " بعْدهَا علينا مؤونة، إِلَّا شَيْء
وَاحِد. وَهُوَ
(3/352)
أَنهم إِن قَالُوا: إِذا زعمتم إِن الَّذِي
يتَمَسَّك بِهِ الْمُجْتَهد " لَا نقدره " أَمارَة مَنْصُوبَة
شرعا، فَمَاذَا " يَطْلُبهُ " الْمُجْتَهد؟ وَلَيْسَ عِنْده
فِيمَا يطْلب عِلّة مَنْصُوبَة عِنْد الله تَعَالَى قبل طلبه،
وَلَا يتَحَقَّق طلب من غير مَطْلُوب.
وَهَذَا أصعب سُؤال لَهُم. وَلَو قَامَت - للقائل " بِأَن "
الْمُصِيب وَاحِد - " حجَّة " لكَانَتْ هَذِه. وَلَا تحسبن
ذَلِك تشككا. فَنحْن من القاطعين بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب.
وسنتقصى عَن هَذَا السُّؤَال عِنْد ذكرنَا " الْأَشْبَه " إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
1830 - وَمِمَّا / استدلوا بِهِ / فِي الْمَسْأَلَة أَن /
قَالُوا: إِذا قُلْتُمْ إِن كل مُجْتَهد مُصِيب فَبِمَ تنكرون
على من يزْعم أَن الْقَائِل بِأَن الْمُصِيب وَاحِد، مُصِيب "
أَيْضا ".
وَهَذَا " لَا طائل " وَرَاءه. فَإنَّا " إِنَّمَا " نقُول
بتصويب
(3/353)
الْمُجْتَهدين / فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي نَحن فِيهَا من مسَائِل الْقطع،
وَهِي " ملتحقة " بالقطعيات الَّتِي الْمُصِيب فِيهَا وَاحِد
مُتَعَيّن.
1831 - وَمِمَّا تمسكوا بِهِ أَيْضا أَن قَالُوا: إِذا كَانَ
مُجْتَهد مصيبا فَمَا فَائِدَة " التناظر وَالْحجاج "؟ وَمَا
زَالَ الْعلمَاء من عهد الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
إِلَى عصرنا يتحاجون. ومطلب كل وَاحِد من المتناظرين دُعَاء
خَصمه إِلَى مَا ينصره من الْمذَاهب. فَلَو كَانَ كل مُجْتَهد
مصيبا مَأْمُورا بملازمة اجْتِهَاده، وَهُوَ الْحق عِنْد الله
لما كَانَ فِي " طرق " الْحجَّاج وَالنَّظَر فَائِدَة. وَفِي
إِجْمَاع الْعلمَاء على التناظر دَلِيل فَسَاد هَذَا الأَصْل.
وأوضحوا ذَلِك أَن قَالُوا: كَمَا وجدناهم " يتحاجون " فِي
أصُول الديانَات / فَكَذَلِك سبيلهم فِي الشرعيات، ثمَّ كَانَ
نظرهم فِي العقليات لطلب الْعلم بالمنظور فِيهِ / فَكَذَلِك
سَبِيل النّظر فِي الشرعيات.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل من أوجه: - مِنْهَا أَن نقُول
- " إِن أَنْتُم زعمتم " أَن الْمُصِيب وَاحِد. قيل لكم:
فَإِذا اجْتهد الْمُجْتَهد، " فأداه " اجْتِهَاده إِلَى
التَّحْرِيم فَهَل لَهُ فِي ظَاهر الحكم، الْأَخْذ بالتحليل؟
فَيَقُولُونَ فِي
(3/354)
جَوَاب ذَلِك أَن لَيْسَ لَهُ مُخَالفَة
اجْتِهَاده فِي ظَاهر الْأَمر، والتناظر على زعمكم يتَضَمَّن
خلاف ذَلِك. فقد لزمكم مَا ألزمتمونا.
" وَالْوَجْه الآخر فِي الْجَواب " أَن نقُول: " مَا تلزمونه "
من التناظر. ثَابت إِجْمَاعًا وَمَا ادعيتموه من غَرَض
المتناظرين فَأنْتم منازعون فِيهِ. ولسنا نسلم أَن الْعلمَاء
إِنَّمَا " يتناظرون " ليدعو كل وَاحِد " مِنْهُم " خَصمه
إِلَى مذْهبه. فثبتوا ذَلِك! فَفِيهِ أَشد النزاع وَلَا سَبِيل
لَهُم إِلَى إثْبَاته. فَإِن تمسكوا " بِبَعْض " عادات أهل
الْعَصْر، قوبلوا بعادات الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
فَإِنَّهُم مَا تنَاظرُوا ليدعو " كل " صَاحبه إِلَى مذْهبه،
وَإِنَّمَا تنَاظرُوا " لوجوه ". مِنْهَا التَّوَصُّل إِلَى
التدرب فِي طرق الِاجْتِهَاد فَإِن التذاكر والتناظر من " أقوى
المرشدين إِلَيْهِ " وَمن فَوَائِد النّظر أَيْضا، العثور على
مَا يقطع بِهِ، والبحث عَن النُّصُوص، وَعَما يحل محلهَا.
وإبداء فَوَائِد النّظر تبرع منا، فَلَيْسَ علينا إِلَّا
ممانعتهم عَمَّا " ادعوهُ " من الْغَرَض.
(3/355)
1832 - وَلِلْقَوْمِ طرق " فِي "
الِاسْتِدْلَال " تتَعَلَّق " بالسمعيات. مِنْهَا: أَنهم
تمسكوا بقوله تَعَالَى فِي قصَّة دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا
السَّلَام {ففهمنها سليمن وكلا ءاتينا حكما وعلما} / " قَالُوا
" فَدلَّ الظَّاهِر على أَنَّهُمَا اجتهدا، صلوَات الله
عَلَيْهِمَا و " وفْق " سُلَيْمَان للعثور على الْحق، وَهَذَا
الْمَعْنى بقوله تَعَالَى: {ففهمنها سليمن} .
وأكدوا الِاسْتِدْلَال بِأَن قَالُوا " كَانَت " الْوَاقِعَة
من سَائل الْفُرُوع فَإِنَّهَا كَانَت فِي زرع نفشت فِيهِ غنم
الْقَوْم، فأفسدته.
" و " الْجَواب عَن ذَلِك من أوجه. أَحدهَا أَن نقُول: من أنكر
اجْتِهَاد الْأَنْبِيَاء، لم يساعدكم على أَن الْمَسْأَلَة "
كَانَت " اجتهادية وَكَذَلِكَ من نفى الزلل عَن الْأَنْبِيَاء،
فينكر ذَلِك أَشد الْإِنْكَار، ثمَّ لَيْسَ فِي ظَاهر الْآيَة
دَلِيل خطأ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام، بل فِي ظَاهرهَا مَا
يدل على إِصَابَته. فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وكلا ءاتينا
حكما وعلما} " فقد سقط " استدلالهم جملَة. وَأكْثر مَا تنبئ
(3/356)
عَنهُ الْآيَة " كَونهمَا " مصيبين، وَكَون
مَا حكم " بِهِ " سُلَيْمَان أولى وَأحسن. " فَإِن " طالبونا
بعد ذَلِك بِتَأْوِيل الْآيَة، لم تلزمنا إجابتهم / بعد مَا
بَينا أَنه لَا اعتصام لَهُم فِي الْآيَة.
ثمَّ إِن " تبرعنا " بالتأويل فَالْوَجْه فِيهِ أَنَّهُمَا
صلوَات الله عَلَيْهِمَا اجتهدوا وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا
على حكم وَعلم. وَثَبت الحكمان بِمُوجب " اجتهاديهما "
عَلَيْهِمَا السَّلَام " عَلَيْهِمَا " ثمَّ نسخ حكم دَاوُد
بعد ثُبُوته. وَنزل النَّص بتقرير حكم سُلَيْمَان. فَهَذَا
وَجه التَّأْوِيل.
1833 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ " أَيْضا " وحسبوه من عمدهم، مَا
رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: "
إِذا اجْتهد الْحَاكِم، فَأصَاب، فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن "
اجْتهد " وَأَخْطَأ فَلهُ أجر " وَاحِد " / قَالُوا: فَثَبت
(3/357)
" أَن " رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] خطأ " الْمُجْتَهد " وَلَا يتَصَوَّر مَعَ القَوْل
بتصويب الْمُجْتَهدين ثُبُوت خطأ الْمُجْتَهد /.
قُلْنَا: هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد، وَالْمَسْأَلَة
قَطْعِيَّة. ثمَّ نقُول. الْخَبَر مَحْمُول على مَا إِذا
اجْتهد وَأَخْطَأ النَّص بعد بذل كنه مجهوده.
1834 - فَإِن قَالُوا: فَالَّذِي بذل مجهوده فِي طلب النَّص "
وَلم يعثر عَلَيْهِ " فَحكم الله " عنْدكُمْ " مُوجب
اجْتِهَاده، فَمَا معنى الْخَطَأ؟
قُلْنَا: لَيْسَ الْمَعْنى بالْخَطَأ أَنه " أَخطَأ " مَا كلف،
وَلَكِن الْمَعْنى بِهِ " أَنه " أَخطَأ النَّص فَلم يصبهُ.
ثمَّ نقُول: ظَاهر الْخَبَر يدل عَلَيْكُم فَإِنَّهُ [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] أثبت الْأجر فِي " حق " كل وَاحِد من
الْمُجْتَهدين. " فَالَّذِي " أَخطَأ مَا كلف " فحط " الْوزر
عَنهُ أَجْدَر مِنْهُ بِالْأَجْرِ " فَترك " التَّعَرُّض
(3/358)
" لحط " الْوزر والإفصاح بِإِثْبَات
الْأجر، من أبين الْأَدِلَّة على انْتِفَاء الْخَطَأ الَّذِي
فِيهِ " نزاعنا " فَبَطل مَا قَالُوهُ.
فَهَذِهِ جمل عمدهم وَهِي ترشدك إِلَى أَمْثَالهَا.
1835 - " وَأما " أَدِلَّة الْقَائِل بتصويب الْمُجْتَهدين،
فقد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ طرقا فِي الدَّلِيل " وَقد
" تأملتها فَرَأَيْت بَعْضهَا " مفتقرا " فِي ثُبُوتهَا إِلَى
بعض، وَكَأَنَّهَا فِي التَّحْقِيق " أَرْكَان " دلَالَة
وَاحِدَة " فنرى أَن نركب " مِنْهَا دلَالَة، ونستقصي " فِيهَا
" وُجُوه الْكَلَام على السَّبِيل الَّتِي " اتبعها "
القَاضِي.
1836 - فَنَقُول لمخالفينا: " الْحق الَّذِي " ادعيتم اتحاده
عِنْد الله تَعَالَى لَا تخلون إِمَّا أَن تزعموا أَنا كلفنا
العثور عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَن تزعموا أَنه لم يتَعَلَّق بِهِ
حكم " التَّكْلِيف ".
(3/359)
فَإِن زعمتم أَنا لم نكلف العثور "
عَلَيْهِ " فوجوده وَعَدَمه فِي حق الْمُكَلّفين بِمَثَابَة "
وَاحِدَة " إِذْ لَيْسَ هُوَ " حَقًا " عَلَيْهِم وَهَذَا
الْقسم مِمَّا لَا يَقُول " بِهِ الْخصم " فَلَا فَائِدَة فِي
الإطناب.
1837 - " وَإِن " زَعَمُوا أَن الَّذِي هُوَ عِنْد الله
تَعَالَى، قد كلفنا العثور عَلَيْهِ وَالْعَمَل بِمُوجبِه
وَهُوَ مَذْهَب الْقَوْم، " فَهَذَا " بَاطِل لأصلين " نمهدهما
". " أَحدهمَا ": إِجْمَاع الْمُسلمين قاطبة على أَن كل
مُجْتَهد مَأْمُور بِالْعَمَلِ على قَضيته اجْتِهَاده " فَإِذا
" غلب على ظن أحد الْمُجْتَهدين " فِي واقعه الْحل " وَغلب على
ظن الآخر، التَّحْرِيم فَلَا يسوغ للْمحرمِ الْأَخْذ بِغَيْر
مُوجب اجْتِهَاده /. وَلَو حاد عَنهُ عصى واقترب إِلَى المأثم
فَإِذا تقرر باطلاق الْأمة كَون كل مُجْتَهد مواخذا
بِالْعَمَلِ بقضية اجْتِهَاده / " فَلَا
(3/360)
يَخْلُو " إِمَّا أَن يكون مَا عمل بِهِ
حَقًا عِنْد الله تَعَالَى وَإِمَّا أَن لَا يكون " كَذَلِك ".
فَإِن كَانَ حَقًا عِنْد الله تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي نلتمسه،
" فَلْيَكُن " على هَذَا الأَصْل " كل وَاحِد من الْمُجْتَهدين
مصيبا ".
" وَإِن " زَعَمُوا أَنه يجب عَلَيْهِ الْعَمَل ظَاهرا، وَيجوز
أَن يكون مَنْهِيّا " عَنهُ " عِنْد الله تَعَالَى. فَهَذَا
بَاب من الْجَهَالَة، لَا يرتضي الْمُحَقِّقُونَ سلوكه. فَإِن
الْأمة أَجمعت على أَن " الْمُجْتَهد " مَأْمُور بِالْعَمَلِ
بقضية اجْتِهَاده، حَتَّى لَو مَال " عَنْهَا " " لنسب " إِلَى
المأثم وَإِن تغير اجْتِهَاده فِي الثَّانِي. فَكيف تجمع
الْأمة على وجوب مَا يجوز كَونه مَنْهِيّا عَنهُ. وَهل هُوَ
إِلَّا التَّنَاقُض الَّذِي ادعوهُ علينا فِي صدر شبههم
فَهَذَا تمهيد أحد الْأَصْلَيْنِ.
1838 - وَأما الأَصْل / الثَّانِي فَهُوَ أَن نقُول: إِذا "
قدرتم وُرُود الْعَمَل " بِمُوجب الِاجْتِهَاد حكما " و "
(3/361)
هُوَ الْحق / " فَلَا تخلون " إِمَّا أَن
تزعموا أَنه مِمَّا يعلم، وَإِلَى الْعلم بِهِ سَبِيل، وَقد
نصب عَلَيْهِ دَلِيل. وَإِمَّا أَن تَقولُوا: " هُوَ " مِمَّا
أمرنَا بِالْعلمِ بِهِ، وَلَا دَلِيل " يفضى " إِلَيْهِ.
وَإِمَّا أَن تَقولُوا: مَا كلفنا الْعلم بِهِ أصلا.
فَإِن زعمتم أَنا كلفنا الْعلم بِهِ - وَإِلَيْهِ صَار مُعظم
الْمُخَالفين - وَزَعَمُوا أَن عَلَيْهِ أَدِلَّة مَنْصُوبَة "
و " لَو تمسك بهَا النَّاظر " لأفضت " بِهِ إِلَيْهِ، فَهَذَا
بَاطِل من أوجه.
أقربها: أَن الْأَدِلَّة فِي المجتهدات الْحكمِيَّة مضبوطة
الْأَوْصَاف " وَلَيْسَت " تَقْتَضِي علما لذواتها، بِخِلَاف
أَدِلَّة الْعُقُول، فَإِنَّهَا لَو اقْتَضَت علما لذواتها،
لاقتضته من غير نصب. وَقد استقصينا القَوْل فِي ذَلِك فِي
أَحْكَام الْقيَاس. فَإِذا بَطل تنزلها منزلَة الْأَدِلَّة
الْعَقْلِيَّة فِي اقتضائها الْعلم لذواتها " دلّ " " على "
أَنَّهَا إِنَّمَا انتصبت " إمارات " شرعا ثمَّ نعلم أَنَّهَا
فِي قَضِيَّة الشَّرْع لَيست مِمَّا يقطع " بهَا " إِذْ
(3/362)
" مِنْهَا " خبر الْوَاحِد، وَلَا يسوغ
الْقطع بنقله. وَمِنْهَا " طرق " الأقيسة وَلَا يسوغ الْقطع "
أَيْضا " بِإِصَابَة المستنبط لَهَا على مَنْهَج أصل مخالفينا
/ فَأنى يَسْتَقِيم كَونهَا مفضية إِلَى الْعلم مَعَ التشكك /
والاسترابة فِي أُصُولهَا. وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ.
فَبَطل من هَذَا الْوَجْه مَا ادعوهُ من أَنا كلفنا الْعلم
بِالْحَقِّ، و " أَن " نصب عَلَيْهِ الدَّلِيل المفضي
إِلَيْهِ.
1839 - وَمِمَّا يبطل ادِّعَاء الْعلم، مَا ذكره القَاضِي
رَضِي الله عَنهُ من " أَن " الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من
التَّابِعين مَا زَالُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي مسَائِل
الِاجْتِهَاد وكل مِنْهُم يزْعم أَن كل مُجْتَهد " يتبع
اجْتِهَاده " وَلَا يسوغ لَهُ الإضراب عَنهُ، وَكَانَ كل
وَاحِد مِنْهُم لَا يقطع بِأَن الَّذِي تمسك بِهِ هُوَ الْحق /
وَالْكل مدعوون إِلَيْهِ / " وَمن لم يصل " إِلَيْهِ فقد
أَخطَأ الْحق. وَأكْثر مَا كَانَ يَدعِيهِ " الْمُجْتَهد "
مِنْهُم غَلَبَة الظَّن وترجيح الأمارات. " فَأَما " الْقطع،
فَلم
(3/363)
يصر إِلَيْهِ أحد مِنْهُم " وَكَذَلِكَ "
كل علم مَقْطُوع بِهِ.
1840 - " فَثَبت " بذلك ثبوتا وَاضحا انْتِفَاء الْعلم " من "
المجتهدات، إِذْ لَو كُنَّا كلفنا إِصَابَته لما ذهب " عَنهُ
من " فرطنا، وَلَو ذَهَبُوا عَنهُ كَانُوا متفقين على خلاف
الْحق / وَلَا تَجْتَمِع الْأمة على الضَّلَالَة، وَالَّذِي
يُحَقّق لَك مَا ذكرنَا، أَن أحدا مَا كَانَ يؤثم أَصْحَابه "
بالعدول " عَن الْحق / فَلَو كَانَ الْوُصُول إِلَى الْحق
متصورا، وَهُوَ وَاجِب / لَكَانَ من مَال عَنهُ وحاد عَن "
إِصَابَته " تَارِكًا لواجب / يقدر على الْوُصُول إِلَيْهِ،
فَلَمَّا لم يؤثم بعض الصَّحَابَة بَعْضًا " فِي المجتهدات "
فَكَذَلِك / عُلَمَاء عصرنا، لَا يوثم بَعضهم " فِي المجتهدات
" بَعْضًا على أَنهم قَالُوا من حكم الْوَاجِب أَن " يعْصى "
الْمُكَلف بِتَرْكِهِ.
(3/364)
1841 - وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن
النَّاس لما " افْتَرَقُوا " فِيمَا يَلِيق بالديانات دعوا "
إِلَى الْحق، طَوْعًا أَو قهرا " وَذَلِكَ نَحْو مُخَالفَة
الْخَوَارِج وخروجهم على " إِمَام الْحق " إِلَى غير ذَلِك.
فَهَذَا عقد الدّلَالَة على الَّذين قَالُوا: إِنَّا كلفنا فِي
المجتهدات الْعلم " و " نصب لنا عَلَيْهِ دَلِيل.
1842 - فَإِن قَالُوا: إِنَّا كلفنا الْعلم، وَلم ينصب
عَلَيْهِ " دَلِيل " يُوصل إِلَيْهِ المتمسك بِهِ فَهَذَا "
خرق لإِجْمَاع " الْأمة وَذَلِكَ أَنهم أَجمعُوا على أَن
الْمُكَلف إِنَّمَا يُكَلف الْعلم فِيمَا يتَصَوَّر فِيهِ
الِاسْتِدْلَال المفضي إِلَى الْعلم.
على أَن أَرْبَاب التَّحْقِيق قَالُوا من أَحْكَام النّظر: أَن
" الْعُلُوم تَنْقَسِم إِلَى ضَرُورِيّ وكسبي " فَأَما
الضَّرُورِيّ فَلَا يفْتَقر فِي حُصُوله إِلَى دَلِيل / وَلكنه
يحصل " بِفعل " الله تَعَالَى بديا غير مَقْدُور للْعَبد وَمَا
هَذَا سَبيله، لَا يجوز أَن يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ. إِذْ
التَّكْلِيف إِنَّمَا يتَعَلَّق بِمَا يدْخل تَحت الْمَقْدُور.
(3/365)
وَأما الكسبي من الْعُلُوم " فَلَا يسوغ "
حُصُوله مَقْدُورًا، إِلَّا أَن يكون مدلولا، إِذْ لَو لم نقل
ذَلِك أدّى إِلَى بطلَان ارتباط النّظر بِالْعلمِ. وَهَذَا
مِمَّا يستقصى فِي غير هَذَا الْفَنّ، على أَنه مجمع عَلَيْهِ
من الْقَوْم. فَبَطل بِمَا ذَكرْنَاهُ أجمع، تَقْدِير علم "
فِي الْوَاقِعَة " سوى الَّذِي " يعلم " فِي ظَاهر الامر.
وَتبين أَن الْحق مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاد كل
مُجْتَهد.
1843 - وَقد وَجه المخالفون على أصل وَاحِد مِمَّا ذكرنَا
أسولة، وَالدّلَالَة " تستقل " دون ذَلِك الأَصْل. وَذَلِكَ
أَنهم " سألونا " أسولة فِي تمسكنا " بِأَن " الصَّحَابَة لم
يوثم " بَعضهم " بَعْضًا، وَنحن نذكرها ونتقصى عَنْهَا إِن
شَاءَ الله تَعَالَى - على أَنا لَا نحتاج إِلَى هَذَا الأَصْل
فِي " عقد " الدّلَالَة.
وَفِيمَا عداهُ غنية. وَلَكِن لَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ شَيْء من
أسئلة الْخصم.
1844 - فَمَا سَأَلُوهُ أَن قَالُوا: " بِمَ " تنكرون على من
يزْعم أَن بَعضهم كَانَ يؤثم بَعْضًا " وَلم " ادعيتم
الْإِجْمَاع فِي ذَلِك. وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟
(3/366)
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن: -
أَحدهمَا أَنا نعلم قطعا، أَن أَئِمَّة الصَّحَابَة كَانُوا
يَخْتَلِفُونَ فِي الْمسَائِل ثمَّ يعظم / بَعضهم بَعْضًا
وَلَا يستجيز إِطْلَاق اللِّسَان فِي أَصْحَابه بِهِ بل
يُبرئهُ عَن كل " شين " على أَنهم كَانُوا لَا يَغُضُّونَ على
مَا لَا يجوز الإغضاء عَلَيْهِ كَيفَ! " وَقد " كَانُوا يوجبون
على كل مُجْتَهد أَن يَأْخُذ بِمُوجب اجْتِهَاده. وَهَذَا
ثَابت قطعا فِي مذاهبهم ومذاهب أهل عصرنا. " فَأنى "
يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك الحكم بالتأثيم؟
ثمَّ نقُول: إِن بعد عَلَيْكُم أَمر الصَّحَابَة، فإجماع أهل
الْعَصْر يغنيكم. فَإِن أحدا مِنْهُم لَا يؤثم الْعلمَاء فِي
المجتهدات. بل يسوغ " لكل مُجْتَهد تتبع " اجْتِهَاده بعد أَن
لَا يألو " جهده ".
1845 - فَإِن قَالُوا: " قد " اشْتهر عَن أَصْحَاب رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] التناكر والتغليظ " فِي القَوْل "
فِي المجتهدات، واشتهر " عَنْهُم أَيْضا " الانتساب
(3/367)
إِلَى الْخَطَأ ونسبته. " فمما " روى فِي
ذَلِك. " مَا روى " عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ، أَنه
قَالَ فِي تَوْرِيث الْجد مَعَ الْأَخ: أَلا يَتَّقِي " الله "
زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الابْن " ابْنا " وَلَا يَجْعَل "
أَب " الابْن أَبَا.
وَقَالَ فِي الْعَوْل: من شَاءَ باهلته وَالَّذِي أحصى رمل
عالج عددا لم يَجْعَل فِي المَال نصفا وثلثين والمباهلة هِيَ
الْمُلَاعنَة / من قَوْله (نبتهل) أَي نلتعن /. وَرُوِيَ عَن
عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي قصَّة
الْمَرْأَة الَّتِي أرسل إِلَيْهَا عمر بن الْخطاب رَضِي الله
عَنهُ رَسُوله يَنْهَاهَا عَن " الْفُجُور " وَكَانَت ترتقي
سلما، فأجهضت جَنِينهَا لما بلغتهَا الرسَالَة. فَأَشَارَ بعض
الصَّحَابَة على عمر رَضِي الله عَنهُ بأنك مؤدب، وَلَا
(3/368)
" عزم " عَلَيْك. فَقَالَ عَليّ عِنْد
ذَلِك: " إِن " اجتهدوا فقد اخطأوا وَإِن لم يجتهدوا فقد غشوك،
أرى عَلَيْك الدِّيَة. وَهَذَا تَصْرِيح " مِنْهُم " بتخطئتهم.
وَبَاعَ زيد بن أَرقم عبدا لَهُ بيع الْعينَة. فَقَالَت
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَلا أخبروا زيد بن أَرقم، أَنه
أبطل جهاده مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / إِن
لم يثبت /.
(3/369)
وَنهى عمر رَضِي الله عَنهُ عَن المغالاة
فِي " المهور " وَهُوَ يخْطب فَقَامَتْ إِلَيْهِ امْرَأَة "
فَقَالَت " مَالك تحجر علينا فِي خيرة الله. فَقَالَ عمر صدقت.
وكل النَّاس أفقه من عمر. " فاعترف " على نَفسه بالْخَطَأ.
1846 - واشتهر " عَن " الصَّحَابَة فِي المجتهدات " تَجْوِيز "
الْخَطَأ على أنفسهم. فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ "
فِي كثير " مِنْهَا / إِن أصبت فَمن الله، وَإِن أَخْطَأت فَمن
نَفسِي.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي قصَّة بروع بنت واشق، إِن أصبت فَمن
الله وَإِن / أَخْطَأت فَمن الشَّيْطَان.
وَهَذِه الْقَبِيل " قد " اشْتهر عَنْهُم اشتهارا بَينا وَلَا
معنى للخطأ فِي المجتهدات مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين.
هَذَا مَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار.
(3/370)
1874 - وَأول مَا نفاتحهم، أَن نقُول:
كَيفَ يَسْتَقِيم مِنْكُم حمل عادات " الصَّحَابَة " وشيمهم
على خلاف مَا اجْمَعْ عَلَيْهِ أهل الْعَصْر؟ وَقد اجْمَعْ أهل
الْعَصْر قاطبة على " أَن " مسَائِل الِاجْتِهَاد لَا يجْرِي /
فِيهَا التأثيم وَإِنَّمَا يجْرِي التأثيم فِي أَن يُخَالف
الرجل مُوجب اجْتِهَاده وَكَيف يسوغ مَعَ هَذَا الْإِجْمَاع
أَن يَقع / التأثيم فِي الصَّحَابَة، مَعَ تنزههم عَمَّا
يشينهم و " يحطهم " " عَمَّا " فَضلهمْ الله تَعَالَى " بِهِ
". فَتعين بعد ذَلِك علينا وَعَلَيْهِم تتبع مَا ذَكرُوهُ من
الْآثَار بالتأويل.
1848 - وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن مَا " نقلوا " " فِيهِ "
تَغْلِيظ القَوْل " مُخْتَلف فِيهِ " " وَقد اتّفق " أهل
الْعَصْر على أَنه لَا يجْرِي فِيهِ التَّغْلِيظ مَعَ كَونه
مُخْتَلفا فِيهِ.
وَمِمَّا ذكر فِيهِ التَّغْلِيظ بيع الْعينَة. وَقد " أجمع "
الْمُسلمُونَ على
(3/371)
" أَن " من بَاعَ على الْوَجْه الْمُخْتَلف
فِيهِ " فَهَذَا " لَا يحبط " جهاده " مَعَ رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] .
وَمِمَّا يُؤثر فِي التَّغْلِيظ، مسَائِل الْجد. " إِذْ "
رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من أحب أَن
يقتحم جراثيم جَهَنَّم فَلْيَتَكَلَّمْ فِي الْجد " بِرَأْيهِ
" / وَهَذَا مَتْرُوك الظَّاهِر من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَن
التَّكَلُّم فِي
(3/372)
الْجد لَا بُد مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَن
الْخلاف فِيهِ لَا يحل مَحل تقحم الجراثيم، فقد انْدفع عَنَّا
" مَا ذكره " من التأثيم، " حجاجا " " إِذْ " قد بَينا افتقار
الْخصم إِلَى التَّأْوِيل وَإِزَالَة الظَّاهِر.
1849 - ثمَّ الْكَلَام على مَا ذَكرُوهُ من الْآثَار " من "
أوجه: - أَحدهَا - أَن نقُول إِنَّهَا آحَاد. وَلَا تكَاد أَن
تبلغ مبلغ الْقطع. وَالَّذِي تمسكنا بِهِ من اجماع أهل
الْعَصْر فِي ترك التأثيم. واجماع الصَّحَابَة قطع لَا ريب
فِيهِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي من الْكَلَام أَن نقُول: إِن صَحَّ
التأثيم وتغليظ القَوْل فِي بعض الصُّور، فَذَلِك لِأَن المغلظ
المؤثم اعْتقد أَن الَّذِي جرى الْكَلَام فِيهِ لَيْسَ من
المجتهدات وحسبه من القطعيات " وَلذَلِك " غلظ القَوْل.
وَالْأَمر على خلاف مَا " قدره " " فَأَما " الَّذِي يتفقون
على كَونه مُجْتَهدا، فَيجْمَعُونَ على ترك التأثيم فِيهِ.
(3/373)
1850 - فَإِن قَالُوا: " فَكيف " حسب ابْن
عَبَّاس مسئلة الْعَوْل قَطْعِيَّة؟ قُلْنَا: فلسنا نضمن /
عصمَة ابْن عَبَّاس، وَلَا عصمَة من هُوَ أجل " مِنْهُ " من
الصَّحَابَة. وغرضنا " بسياق " هَذَا الْكَلَام أَن نصرف "
التَّغْلِيظ " عَن المجتهدات " فتدبرها ".
1851 - وَأما مَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار المنطوية على "
الانتساب " إِلَى الْخَطَأ وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ، فَلَيْسَ
يَلِيق بِمَا " اصلناه " من كفهم عَن " التأثيم " وَلَكِن "
إِنَّمَا " تمسكوا بِهِ " بديا " فَنَقُول: لَا معتصم فِيهَا
فَإِنَّهَا آحَاد. وَهِي مَعَ ذَلِك عرضة للتأويل.
وَأما مَا " تعلقوا بِهِ "
(3/374)
من النَّقْل من قَول بَعضهم، إِن أَخْطَأت
فَمن نَفسِي، فَمَعْنَاه إِن أَخْطَأت نصا لم يبلغنِي،
وَلَيْسَ الْمَعْنى بِهِ الْخَطَأ فِيمَا كلف.
وَمَا روى عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ من
الِاعْتِرَاف بالْخَطَأ فِي " المغالاة " فِي الْمهْر فَهُوَ
على وَجهه. فَإِن ظَاهر نَهْيه رَضِي الله عَنهُ فِي خلال
الْخطْبَة على مَلأ " من " الصَّحَابَة يُنبئ عَن الزّجر
والردع وَفِيه الْإِفْضَاء إِلَى تَحْرِيم الْمُبَاح مَعَ "
مهابة " عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الْقُلُوب فَلَمَّا صدر
مِنْهُ النَّهْي الْمُطلق، رأى استدراكه وَالِاعْتِرَاف على
نَفسه.
وَمَا روى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَهُوَ بصدد التَّأْوِيل
أَيْضا. فَإِنَّهُ قَالَ: إِن اجتهدوا / فقد أخطاوا.
مَعْنَاهُ: أخطأوا وَجه الرَّأْي الَّذِي " أبديته " ورأيته
وَلَيْسَ الْمَعْنى أَنهم أخطأوا مَا كلفوا.
فَهَذَا وَجه مَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار. فقد نجزت
الدّلَالَة الَّتِي " عقدناها ".
(3/375)
1852 - وَالْأولَى عندنَا إِذا خضت فِي
الِاسْتِدْلَال أَن تقسم الْكَلَام على " خصمك " فَتَقول:
فتصويب الْمُجْتَهدين عنْدك " مِمَّا يَسْتَحِيل الْمصير
إِلَيْهِ عقلا، أَو هُوَ مِمَّا يمْتَنع شرعا، فان قَالَ: "
هُوَ " مِمَّا يَسْتَحِيل عقلا " فقد " ألحق جَائِزا
بالمحالات. فَإِن الَّذِي صَار إِلَيْهِ المصوبون لَو قدر "
وُرُود " الشَّرْع بِهِ، لم يسْتَحل. فَإِن الرب تَعَالَى لَو
قَالَ: آيَات احكامي على الْمُكَلّفين غلبات " ظنونهم " فَمن
غلب على ظَنّه شَيْء " فَالْعَمَل بِمُوجبِه حكمي عَلَيْهِ ".
فَهَذَا لَا يعد من المستحيلات.
فَإِن عَادوا وتمسكوا فِي تَحْقِيق الاستحالة بِمَا ادعوهُ من
طرق المناقضات، فَالْجَوَاب عَنْهَا هَين على مَا سبق.
وَإِن زَعَمُوا أَن ذَلِك لَا يَسْتَحِيل عقلا، وَإِنَّمَا
يمْتَنع شرعا فنقيم عَلَيْهِم الدّلَالَة الَّتِي سبقت،
حِينَئِذٍ. وَإِنَّمَا رَأينَا هَذَا التَّقْسِيم لِأَن
الْمُخَالفين يتسرعون إِلَى ادِّعَاء اسْتِحَالَة تصويب /
الْمُجْتَهدين عقلا، حَتَّى إِذا سلكوا هَذَا الْمنْهَج هان
الْكَلَام عَلَيْهِم، وَإِن ردوا الْأَمر إِلَى الشَّرْع "
تمسكا "
(3/376)
بِالدّلَالَةِ السَّابِقَة.
(3/377)
1853 - " نجز " " الْكَلَام " على
الْقَائِلين بِأَن الْمُجْتَهد مَأْمُور بالعثور على الْحق
وَأَن الْمُصِيب من الْمُجْتَهدين " وَاحِد ". " وَبَقِي علينا
الْكَلَام فِي ثَلَاثَة فُصُول " احدها: " فِي " الرَّد على من
قَالَ: كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده. وَالثَّانِي:
تَفْصِيل القَوْل فِي الْأَشْبَه. وَالثَّالِث: القَوْل
بالتخيير / إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين / عِنْد تقَابل
الأمارات.
(316) فصل فِي الرَّد على من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب فِي
اجْتِهَاده
1854 - ذهب بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة / إِلَى أَن كل مُجْتَهد
مُصِيب فِي اجْتِهَاده واحدهما مُصِيب فِي الحكم. وَالثَّانِي
مُخطئ فِيهِ، ويؤثر ذَلِك
(3/378)
عَن أبي حنيفَة / ويحكى عَن الْمُزنِيّ
وَغَيره من أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ " مثله "
وَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ عَن الشَّافِعِي نصوصا
دَالَّة على الْأَخْذ " فِيهَا " بِهَذَا المأخذ.
1855 - وَأول مَا نفاتح الْقَوْم بِهِ أَن نقُول " هَل يُكَلف
" الْمُجْتَهد العثور على الْحق الْمَطْلُوب بِالِاجْتِهَادِ؟
فَلَا يخلون عِنْد ذَلِك إِمَّا أَن يَقُولُوا: لَا يتَعَيَّن
على الْمُجْتَهد " إِلَّا " الِاجْتِهَاد، فَأَما العثور على
الْحق فَلَا يُكَلف.
(3/379)
فَإِن سلكوا هَذِه " الطَّرِيقَة " فقد
أفصحوا بمذهبنا " فَإِنَّهُم صوبوا كل مُجْتَهد فِيمَا كلف.
على أَن " عباراتهم " " شنيعة " جدا كَأَنَّهُمْ أثبتوا حكما
يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف وَهَذَا مَرْدُود بِاتِّفَاق.
فَإِن الْأَحْكَام فِي المجتهدات وَغَيرهَا من الشرعيات "
يتَعَلَّق " التَّكْلِيف بهَا إِجْمَاعًا إِذْ المستحيل ثُبُوت
تَحْرِيم وَتَحْلِيل وَإِيجَاب وَندب من غير أَن يتَعَلَّق
بِهِ تَكْلِيف مُكَلّف.
1856 - فَإِن قَالُوا: إِن الْمُجْتَهد مَأْمُور "
بِالِاجْتِهَادِ " والعثور على الْحق كَمَا " قَالَه "
الْأَولونَ.
فَيُقَال لَهُم: فَهَل على الْحق دَلِيل؟ فَإِن قَالُوا: أجل!
قيل لَهُم فَكيف يكون الْمُجْتَهد مصيبا فِي اجْتِهَاده،
وَهُوَ لم يتَمَسَّك بِمَا يُفْضِي بِهِ إِلَى الْحق - إِمَّا
بِأَن حاد عَن الدّلَالَة فَلم يتَعَلَّق بهَا، أَو فرط فَلم
يكمل النّظر فِيهَا. فَلَا يَسْتَقِيم مَعَ هَذَا الأَصْل
القَوْل بِأَن الْمُجْتَهد أدّى مَا كلف فِي اجْتِهَاده.
1857 - فَإِن قَالُوا: إِن بعض مَا أَتَى بِهِ من
الِاجْتِهَاد، فقد أدّى مَا كلف فِيهِ وَلكنه " لم يتممه "
فَنَقُول: فَمَا يُؤمنهُ أَنه لم يسْلك طَرِيق النّظر
(3/380)
فِي الدّلَالَة وَلم / يضع نظره أَولا
إِلَّا فِي شُبْهَة. مَعَ تَجْوِيز ذَلِك كَيفَ تطلقون القَوْل
بتصويبه فِي الِاجْتِهَاد، على أَن الِاجْتِهَاد مِمَّا " لَا
يَتَبَعَّض " فَإِذا " لم يكمل " لم يَصح شَيْء مِنْهُ.
فَإِنَّهُ يطْلب لغيره، ويتنزل منزلَة الصَّلَاة يُؤَدِّي
بَعْضهَا ثمَّ يطْرَأ عَلَيْهَا / " مَا " يُبْطِلهَا.
على أَنا " نقُول " بعد مَا بَينا تناقضهم، نتمسك عَلَيْهِم
بِالدّلَالَةِ القاطعة الَّتِي " لَا مخلص " مِنْهَا، " بِأَن
نقُول " أَلَيْسَ مُجْتَهدا مَأْمُورا بِأَن يعْمل بِمُوجب
اجْتِهَاده، مأثوما بالانكفاف عَنهُ، عَاصِيا بِتَرْكِهِ؟ /
وَهَذَا حَقِيقَة الْوُجُوب وَلَا مُوجب إِلَّا الله، فَكيف
يتَحَقَّق مَعَ ذَلِك أَن يَأْمُرهُ بالشَّيْء ويعصيه
بِتَرْكِهِ / وَيجوز أَن يكون " مَنْهِيّا عَمَّا أَمر بِهِ "
فَهَل هَذَا إِلَّا تنَاقض. لَا يستريب " فِيهِ " ذُو عقل! .
1858 - فَإِن قَالُوا: فَالَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بِمَا
لَو اجْتهد وَعمل
(3/381)
بِمُوجب اجْتِهَاده ثمَّ تبين " لَهُ "
أَنه أَخطَأ " نصا " فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُورا بِمُوجب
اجْتِهَاده. ثمَّ تبين " لَهُ " أَنه كَانَ مخطئا. وَهَذَا
مِمَّا يعدونه من أعظم القوادح فِيمَا تمسكنا بِهِ.
فَنَقُول: إِذا لم يفرط الْمُجْتَهد فِي الطّلب وَشدَّة
الْبَحْث عَن النُّصُوص، وَلم يتَمَكَّن من العثور عَلَيْهِ،
فَحكم الله " تَعَالَى " عَلَيْهِ مُوجب اجْتِهَاده قطعا.
ويتنزل منزلَة من لم يبلغهُ النَّاسِخ للْحكم. فَيكون "
مُخَاطبا " - على الْأَصَح - بِمُوجب الْمَنْسُوخ إِلَى أَن
يبلغهُ النَّاسِخ. وَإِذا صددناهم عَن ذَلِك ضَاقَ عَلَيْهِم
كل مَسْلَك، وَاسْتمرّ لنا مَا طردناه من " الدَّلَائِل ".
(317) فصل فِي القَوْل بالأشبه، وَذكر اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ
1859 - ذهب طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن كل مُجْتَهد
مُصِيب. وَلَا يُكَلف إِلَّا الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ
اجْتِهَاده " لكنه " مَأْمُور عِنْد وضع الِاجْتِهَاد بِطَلَب
الْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى. ثمَّ إِذا طرد اجْتِهَاده
فَلَا يُكَلف أَن يُصِيب الْأَشْبَه
(3/382)
عِنْد الله تَعَالَى، وَلَكِن يعْمل بقضية
اجْتِهَاده وَلم يقل بالأشبه إِلَّا المصوبون. وَإِلَيْهِ مَال
عِيسَى بن أبان والكرخي فِي بعض رواياته. وَهُوَ الَّذِي
ارْتَضَاهُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن.
1860 - ثمَّ روجعوا فِي الْأَشْبَه، اخْتلفت أجوبتهم فِي
بَيَانه.
فَذهب بَعضهم إِلَى الْكَفّ عَن بَيَانه. وَهَذَا نِهَايَة "
الْعين ". فَإِن مَا ذَكرُوهُ إِن كَانَ مَجْهُولا عِنْدهم / "
فيستحيل " اعْتِقَاده وَإِن كَانَ
(3/383)
مَعْلُوما، يَأْتِي بِبَيِّنَتِهِ. وَذهب
بَعضهم إِلَى أَن الْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى " أولى " طرق
الشّبَه فِي المقايس والعبر.
ومثلوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: إِذا ألحق القايس الْأرز
بِالْبرِّ بِوَصْف " الطّعْم " أَو بِوَصْف الْقُوت أَو
الْكَيْل " فأحد " هَذِه الْأَوْصَاف أشبه عِنْد الله تَعَالَى
وَأقرب فِي التَّمْثِيل.
والمجتهد يُكَلف نَفسه بِالِاجْتِهَادِ، العثور عَلَيْهِ. ثمَّ
لَا عَلَيْهِ أَن " لَو " أخطأه.
وَذهب آخَرُونَ " فِي " تَفْسِير الْأَشْبَه إِلَى أَن
قَالُوا: الْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي لَو ورد
النَّص تَقْديرا لما ورد إِلَّا بِهِ.
1861 - فَنَقُول لَهُم: إِذا صوبنا الْمُجْتَهدين، وأوجبنا على
كل " وَاحِد " تتبع مُوجب اجْتِهَاده، وَجَعَلنَا كل وَاحِد
على حق عِنْد الله تَعَالَى فَلَا معنى لتقدير الْأَشْبَه مَعَ
ذَلِك. " على أَنا نقُول لَهُم ": هَل يُكَلف الْمُجْتَهد
العثور على الْأَشْبَه، أم لَا يُكَلف ذَلِك؟ فَإِن لم يُكَلف
العثور عَلَيْهِ، فَكيف يجب طلبه، مَعَ أَن الْمُجْتَهد
يعْتَقد أَنه لَا يُكَلف العثور عَلَيْهِ.
(3/384)
وَإِن قُلْتُمْ: إِنَّه يجب العثور
عَلَيْهِ، فَإِذا لم يعثر عَلَيْهِ الا وَاحِد من
الْمُجْتَهدين، وَجب تخطئة البَاقِينَ. وَهَذَا خوض فِي
الْمَذْهَب الأول الَّذِي ابطلناه " إِذْ لَا فصل " بَين
تَقْدِير الْأَشْبَه، وَلَا دَلِيل يُوصل إِلَيْهِ / وَبَين
تَقْدِير الْعلم، وَلَا دَلِيل يُوصل إِلَيْهِ /
على أَن مَا " عولنا " عَلَيْهِ، يهدم الْمصير إِلَى
الْأَشْبَه. فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل الْجمع بَين قَول الْقَائِل:
يجب على كل مُكَلّف / أَن يعْمل بِمُوجب اجْتِهَاده ويعصي
بِتَرْكِهِ، وَيجوز أَن " يكون " " الأمثل " لَهُ غَيره.
وَالْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى ترك مَا " يعصيه "
بِتَرْكِهِ.
1862 - ثمَّ نقُول: مَا ذكرتموه فِي الْأَشْبَه لَا معنى لَهُ.
فَإِنَّكُم إِن عنيتم بِهِ مشابهة الْفَرْع الأَصْل فِي
أَوْصَاف الذَّات فَهَذَا مُسْتَحِيل فِي طَرِيق اجْتِهَاد
الشرعيات. فَإِن الشَّيْء خِلَافه كَمَا يُقَاس على مثله "
فَلَا يعول فِي العبر " الشَّرْعِيَّة على تماثل الْأَوْصَاف
(3/385)
" الذاتية ".
وَإِن عنوا بالأشبه أَن الرب تَعَالَى نصب وَصفا من
الْأَوْصَاف علما دون غَيره، فَكيف يَقُولُونَ مَعَ ذَلِك
بتصويب الْمُجْتَهدين. وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ.
1863 - ثمَّ نقُول: لم يُؤثر عَن الْقَائِلين بالأشبه، إِلَّا
المقالات الثَّلَاث الَّتِي حكيناها أَحدهَا الْكَفّ عَن
التَّفْسِير، وَهُوَ " تورط " فِي الْجَهَالَة. وَالثَّانِي:
التَّفْسِير " بِأولى " وُجُوه الْقيَاس وَهُوَ بَاطِل، فَإِن
" الأول " لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون أولى عقلا، وَهُوَ
بَاطِل، وَإِمَّا أَن يكون أولى بِمَعْنى أَنه علم " على الحكم
" دون غَيره. فَهُوَ الْحق " إِذا " وَمَا سواهُ فخطأ. وَلَا
معنى للاشبه سوى مَا قُلْنَاهُ. وان خسروا الْأَشْبَه
بِأَنَّهُ الَّذِي لَو ورد النَّص لم يرد إِلَّا بِهِ.
فَنَقُول: " فَقولُوا " إِن من أخطأه مَعَ أَنه " وَجب
عَلَيْهِ طلبه " فَهُوَ
(3/386)
مُخطئ فَإِن قَالُوا: لَا نجعله مخطئا،
لِأَنَّهُ " لم يرد " بِهِ النَّص قُلْنَا: فَلَا تجعلوه
الْأَشْبَه " فَإِنَّهُ " لم يرد بِهِ النَّص. فَإِنَّهُ لَا
معنى لكَونه أشبه / إِن / يرجع إِلَى ذَاته، " و " إِنَّمَا
يكون اشبه بِنصب الشَّرِيعَة إِيَّاه علما على الحكم. فَإِذا
لم ينصبه لم يكن لكَونه أشبه معنى.
1864 - فَإِن اسْتدلَّ الْقَائِلُونَ بالأشبه بنكتة وَاحِدَة
على المصوبين فَقَالُوا: لَا بُد " للمجتهد " من مَطْلُوب "
وَلَا يتَصَوَّر " طلب من غير مَطْلُوب. وَقد منعتم أَن يكون
المبطلون علما، وانكرتم أَن يكون لله تَعَالَى " حكم معِين فِي
الْحَادِثَة " أَو أَمارَة مَنْصُوبَة على الحكم يتَعَيَّن "
العثور " عَلَيْهَا. فَإِذا أبطلتم مَعَ ذَلِك الْأَشْبَه،
فَمَا الَّذِي تطلبونه؟ وَهَذَا أعظم سُؤال على المصوبين.
وَرُبمَا يوضحون ذَلِك بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقبْلَة
فَيَقُولُونَ من خفيت عَلَيْهِ أَدِلَّة " الْقبْلَة " "
فَهُوَ " مَأْمُور بطلبها، ثمَّ إِنَّا نكلفه أَن يُصَلِّي
إِلَى الْجِهَة الَّتِي أدّى اجْتِهَاده إِلَيْهَا، وَلَكِن
(3/387)
" يتأسس " اجْتِهَاده على طلب الْقبْلَة
ثمَّ يعْمل بقضيتها. وَلَا يُكَلف سوى قَضِيَّة اجْتِهَاده.
وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الْأَشْبَه.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا
يَصح مِنْكُم أَولا فَإِن معولكم فِيمَا ذكرتموه على أَن
الطّلب من غير مَطْلُوب لَا يتَحَقَّق وَهَذَا ينعكس عَلَيْكُم
مَعَ قَوْلكُم بِأَن العثور يجب على الْمَطْلُوب. فَإِذا لم
توجبوا العثور على الْمَطْلُوب، وَعلم كل مُجْتَهد ذَلِك من
نَفسه، فَأَي معنى لوُجُوب الطّلب؟
ثمَّ " يُقَال " " بِمَ " تنكرون على من يزْعم أَن الْمَطْلُوب
بِالِاجْتِهَادِ غَلَبَة الظَّن! فمهما غلب " بطرِيق
الِاجْتِهَاد " على ظن الْمُجْتَهد " ضرب " من الحكم فغلبة "
ظَنّه " أَنه حكم لله تَعَالَى عَلَيْهِ.
1865 - فَإِن قَالُوا: " فمجرد " غَلَبَة الظَّن لَا ينْتَصب
آيَة وفَاقا، حَتَّى تقع غَلَبَة الظَّن عَن اجْتِهَاد.
وَالِاجْتِهَاد يَنْبَغِي أَن يَنْبَنِي على " قصد " مَطْلُوب.
ويستحيل أَن يكون مَطْلُوب الْمُجْتَهد غَلَبَة " الظَّن " بل
يطْلب شَيْئا
(3/388)
ويغلب على ظَنّه أَنه أَصَابَهُ فَيكون
ذَلِك ظن صدر عَن اجْتِهَاده " مُتَعَلق " بمطلوب وانتم إِذا
لم تثبتوا مَطْلُوبا أصلا فَلَا يتَقَدَّر الِاجْتِهَاد.
قُلْنَا: سَبِيل التَّوَصُّل إِلَى غَلَبَة الظَّن / مَا
نذكرهُ الْآن وَهُوَ " أَن الْمُجْتَهد " يعلم أَن الصَّحَابَة
رَضِي الله عَنْهُم تمسكوا بِاعْتِبَار / الْعِلَل وَغَلَبَة
الْأَشْبَاه وحكموا بِمَا يخْطر لَهُم من قضاياها فيسلك
الْمُجْتَهد مسلكهم، مَعَ أَنه يعْتَقد عدم تعْيين " حكم "
مُحَقّق أَو مُقَدّر فمهما قدر نَفسه سالكا مسلكهم فِي
الْحَادِثَة الْوَاقِعَة فيغلب على ظَنّه عِنْد " ذَلِك "
مُوجب اجْتِهَاده فقد وضح وَجه التَّوَصُّل إِلَى غَلَبَة
الظَّن، من غير تَقْدِير الْأَشْبَه كَمَا صرتم إِلَيْهِ. " و
" من غير تَقْدِير الْحق الكامن، كَمَا صَار إِلَيْهِ
الْأَولونَ.
(3/389)
(318) فصل القَوْل بالتخيير عِنْد تقَابل
الأمارات /
1866 - فَإِن قَالَ " قَائِل " " إِذا " اجْتهد الْمُجْتَهد، "
فتقابل " فِي ظَنّه وَجْهَان من الِاجْتِهَاد وَلم يتَرَجَّح
أَحدهمَا على الآخر وهما متعلقان بحكمين متنافيين فَمَا
قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّور؟
قُلْنَا: أما من زعم أَن الْمُصِيب وَاحِد، فقد اخْتلفت
أَقْوَالهم فِي هَذِه الصُّورَة. فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه
يُقَلّد عَالما " قد " قطع بِأحد وَجْهي اجْتِهَاده.
(3/390)
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يُقَلّد "
عَالما " وَلَا يَأْخُذ بِاجْتِهَاد نَفسه وَلَكِن يتَوَقَّف،
ويصمم على طرق التَّرْجِيح.
1867 - فَإِن تضيق الْأَمر فقد اخْتلف مانعوا التَّقْلِيد
عِنْد ذَلِك. فَذهب ذاهبون إِلَى جَوَاز التَّقْلِيد فِي هَذِه
الْحَالة، وَإِن " منعُوا " فِي غَيرهَا من الْأَحْوَال.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يُقَلّد وَلَكِن يعْمل
بِأَحَدِهِمَا.
ويستقصى القَوْل فِي ذَلِك فِي كتاب التَّقْلِيد. إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
وَأما " المصوبون " فقد خير بَعضهم، وَمنع بَعضهم القَوْل
بالتخيير " وصاروا " إِلَى التَّوَقُّف " أَو " التَّقْلِيد.
وَزعم أَنه حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِ قطعا.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح فِي ذَلِك
عندنَا مَا صَار إِلَيْهِ شَيخنَا رَضِي الله عَنهُ. وَهُوَ
أَن الْمُجْتَهد يتَخَيَّر فِي الْأَخْذ بِأَيّ الاجتهادين
شَاءَ. وَالدَّلِيل " على ذَلِك " بطلَان التَّقْلِيد، على مَا
نوضحه.
فَإِذا بَطل التَّقْلِيد وَقد أوضحنا بِمَا قدمْنَاهُ أَن كل
مُجْتَهد مُصِيب وَقد
(3/391)
اسْتَوَى فِي حَقه / الاجتهادان، فَلَا
سَبِيل إِلَى الْأَخْذ بِمَا شَاءَ الا بِضيق الْوَقْت. فَينزل
الحكمان فِي حَقه / منزلَة الْكَفَّارَة فِي حق الحانث.
1868 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَفِي الْمصير إِلَى التَّخْيِير
خرق الْإِجْمَاع. وَذَلِكَ أَنه إِذا نقل عَن الصَّحَابَة
قَولَانِ فِي الْمَسْأَلَة فاجتهد فيهمَا الْمُجْتَهد و "
تقاوم " الاجتهادان فِي حَقه، فَلَو صَار التَّخْيِير كَانَ
قولا ثَالِثا وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن من صَار إِلَى إِيجَاب
رَقَبَة فِي حَادِثَة، مَعَ من صَار إِلَى إِيجَاب الْكسْوَة،
لَا يوافقان من خير بَينهمَا. فَإِن الْمُخَير سلك مسلكا سوى
مسلكهما. " فَمن " هَذَا الْوَجْه لزم اختراع قَول ثَالِث.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن التَّخْيِير / من الْأَحْكَام
المعدودة فِي مَرَاتِب أَحْكَام الشَّرِيعَة ويتميز " بِهِ "
بعض الْكَفَّارَات عَن بعض. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه
يَنْقَلِب عَلَيْكُم على وَجه " لَا تَجِدُونَ " عَنهُ " مخلصا
فَإنَّا نقُول: " إِذا " تقَابل الاجتهادان، وتضيق الحكم، وَلم
يجد الْمُجْتَهد من يقلده. فَمَا
(3/392)
قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّورَة؟ فيضطرون
إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ يَأْخُذ " بِأَحَدِهِمَا و " يلْزمهُم
" فِي هَذِه الصُّورَة مَا ألزمونا.
فَإِن قَالُوا: يتَوَقَّف! فَكيف يُمكنهُم ذَلِك؟ وَقد صور
عَلَيْهِم التَّضْيِيق وَمنع التَّأْخِير بِإِجْمَاع على أَن
للخصم أَن يَقُول: التَّوَقُّف حكم " ثَالِث ".
1869 - ثمَّ نقُول: لسنا نقُول " إِن " التَّخْيِير يثبت "
حكما " فِي حق الْمُجْتَهد حَتَّى يعْتَقد أَنه " ثَالِث "
وَلَكِن يَأْخُذ بِأَحَدِهِمَا. و " يُوَافق من يَشَاء " من
الْمُخْتَلِفين فِي الْعَصْر الْمَاضِي. وَهُوَ كالمستفتي
يتَصَدَّى " لَهُ " مفتيان مستويان فِي كل الْأَوْصَاف "
وفتوياهما " " لَهُ " مُخْتَلِفَانِ. فَيَأْخُذ بفتوى
أَحدهمَا، وَلَا يكون ذَلِك تخييرا.
(3/393)
فوضح / الِانْفِصَال عَمَّا ألزموه.
1870 - فَإِن قَالُوا: أَلَيْسَ معولكم على غَلَبَة الظَّن فِي
كل مَا قدمتموه. " فَإِذا " تقَابل الاجتهادان فقد خلت
الْمَسْأَلَة " عَن " غَلَبَة الظَّن.
قُلْنَا: " إِذا " تقَابل الاجتهادان فتقابلهما أَمارَة فِي "
إثارة " غَلَبَة الظَّن بالتخيير.
وَهَذَا وَاضح / فافهمه وَقد انْقَضى الْكَلَام فِي تصويب
الْمُجْتَهدين /.
(3/394)
(319) بَاب " القَوْل " فِي جَوَاز "
التَّعَبُّد " بِالْقِيَاسِ فِي حَضْرَة الرَّسُول [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]
1871 - اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب ذاهبون إِلَى منع "
التَّعَبُّد " بِالْقِيَاسِ فِي " حَضْرَة " الرَّسُول [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَذهب آخَرُونَ إِلَى جَوَاز ذَلِك
عقلا
(3/395)
وَهُوَ الَّذِي نرتضيه.
" فَإِن " الْجَائِز يتَمَيَّز عَن المستحيل بِانْتِفَاء
وُجُوه الاستحالة. وَجُمْلَة وُجُوه الاستحالة منتفية فِي
جَوَاز " وُرُود " " التَّعَبُّد " بِالْقِيَاسِ بِحَضْرَة
الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " و " لَو قدر مُصَرحًا
بِهِ، لم يسْتَحل بِأَن يَقُول صَاحب الشَّرِيعَة، إِذا عنت
لكم حَادِثَة فَأنْتم بِالْخِيَارِ فِيهَا. " إِن " "
أَحْبَبْتُم "
(3/396)
" راجعتموني " لأخبركم بِحكم الله تَعَالَى
" وَحيا " واجتهادا. " وَإِن " " أَحْبَبْتُم " فاجتهدوا. "
فغلبة " ظنكم أَمارَة حكم الله تَعَالَى عَلَيْكُم. فَهَذَا
لَا يَسْتَحِيل عقلا. لَا فِي صفة المتعبد تَعَالَى وَجل،
وَلَا فِي صفة المتعبد / وَلَا فِي صفة التَّعَبُّد /.
1872 - فَإِن قَالُوا: من كَانَ بِحَضْرَة الرَّسُول، فَهُوَ
قَادر على " التَّوَصُّل " إِلَى النَّص. وَلَا يسوغ
الِاجْتِهَاد مَعَ الْقُدْرَة على الْوُصُول إِلَى النَّص.
قُلْنَا: فَهَذَا أَيْضا دَعْوَى مِنْكُم.
على أَنا نقُول: لَيْسَ كلامنا فِيمَا اسْتَقر فِيهِ نَص.
وَإِنَّمَا كلامنا فِي حَادِثَة لم يُؤثر فِيهَا عَن الرَّسُول
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] جَوَاب. فَهِيَ قبل مُرَاجعَة
الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خَالِيَة عَن النَّص.
(3/397)
(320 فصل فِي بَيَان وُقُوع الِاجْتِهَاد
فِي عصر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] )
1837 - فَإِن قَالَ قَائِل: قد ذكرْتُمْ جَوَاز التَّعَبُّد
بِالْقِيَاسِ عقلا. " فَهَل ورد الشَّرْع بِهِ "؟
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: أما " الَّذين " غَابُوا عَن
مَجْلِسه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فقد صَحَّ تعبدهم
بِالْقِيَاسِ فِي أَخْبَار " تلقتها " الْأمة بِالْقبُولِ.
مِنْهَا حَدِيث معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ
لَهُ رَسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / بِمَ تحكم؟ قَالَ:
بِكِتَاب الله. قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: / فَإِن لم تَجِد؟
قَالَ: فاجتهد رَأْيِي " وَلَا آلو " فَقَالَ رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] الْحَمد لله الَّذِي وفْق " رَسُول "
رَسُول الله لما يرضاه رَسُول الله. ونعلم أَيْضا أَن الَّذين
" بعدوا " عَن مَجْلِسه من ولَايَة " و " مستخلفيه
(3/398)
على العساكر والبلاد كَانَ يعن لَهُم من
الْحَوَادِث مَا لَا نَص فِيهِ. وَكَانُوا " لَا يتوقفون " فِي
جَمِيعهَا، وَرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يعلم
ذَلِك مِنْهُم. فَهَذَا فِي " الْغَيْبَة " عَنهُ.
" فَأَما " الَّذين كَانُوا بِحَضْرَتِهِ، فَلم تقم حجَّة
شَرْعِيَّة فِي تعبدهم بِالْقِيَاسِ، وَإِن وَردت لَفْظَة "
فَهِيَ " شَاذَّة أَو مُحْتَملَة للتأويل.
(321) القَوْل فِي جَوَاز تعبد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ
1874 - اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك. فَذهب الَّذين أحالوا
التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ إِلَى الجري على مُقْتَضى أصلهم فِي
اسْتِحَالَة التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ.
وَأما الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فقد اخْتلفُوا أَيْضا.
فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه لَا يجوز أَن " يتعبد " الرَّسُول
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالْقِيَاسِ والتحري
وَالِاجْتِهَاد. و " منعُوا " ذَلِك عقلا. وَذهب آخَرُونَ
إِلَى جَوَاز
(3/399)
" تعبده " بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد
وألحقوا ذَلِك بجائزات الْعُقُول. " وَهُوَ " الَّذِي نختاره.
1875 - " و " الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه / لَيْسَ فِيهِ وَجه من
وُجُوه الاستحالة " لَا " فِي المتعبد تَعَالَى وَجل وَلَا فِي
التَّعَبُّد، وَلَا فِي المتعبد " فَلَا يبعد " أَن يَقُول
الله تَعَالَى لرَسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا وَقعت
حَادِثَة، فاجتهد فِيهَا رَأْيك. فَمَا مَال إِلَيْهِ رَأْيك
فَهُوَ الْحق وَهَذَا وَاضح " لكل " من تَأمله.
(3/400)
1876 - وَتمسك من أحَال تعبده
بِالْقِيَاسِ، بطرق:
مِنْهَا: أَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ، عمل " بِغَلَبَة "
الظَّن. فَلَو تمسك بِهِ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
لَكَانَ يبلغ عَن ربه " شَرِيعَته " بِمُوجب غَلَبَة الظَّن /
وَذَلِكَ مُسْتَحِيل فِي أَوْصَاف الرَّسُول [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل /.
وَذَلِكَ أَن الْمُجْتَهد عندنَا يغلب على ظَنّه / أَولا، ثمَّ
نقطع على الله سُبْحَانَهُ بِمُوجب غَلَبَة ظَنّه. ونعلم أَن
غَلَبَة ظَنّه أَمارَة نصبها الله تَعَالَى / فِي مُوجبهَا.
فَكَذَلِك الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نقطع بِمَا
يحكم بِهِ، و " ينزل " ذَلِك منزلَة مَا لَو قَالَ الله
تَعَالَى لرَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : مهما ظَنَنْت
إقبال فلَان وقدومه " فاقطع بِهِ " فَإنَّك لَا تظن إِلَّا
حَقًا. " فَهَذَا " سَائِغ " لَا اسْتِحَالَة " فِيهِ.
1877 - وَمِمَّا تمسكوا / بِهِ أَن قَالُوا: لَو سَاغَ
(3/401)
" لرَسُول الله " [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] أَن يجْتَهد لساغ لغيره أَن يجْتَهد أَيْضا، ثمَّ يكون
كل مُجْتَهد " مؤاخذا " بِاجْتِهَادِهِ، فَيُؤَدِّي ذَلِك
إِلَى أَن يُخَالف " المجتهدون " رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، إِذا اخْتلفت الاجتهادات. وَفِي ذَلِك
إبِْطَال الِاتِّبَاع والحط لمنزلة الرَّسُول [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] .
وَالْجَوَاب عَن هَذَا " السُّؤَال " أَن نقُول: لَو رددنا
إِلَى مُوجب الْعقل، لم يكن فِيمَا قلتموه اسْتِحَالَة. وكل
مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ وَكَانَ " النَّبِي " [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] لَا يَدْعُو الْمُجْتَهدين إِلَى اتِّبَاعه
فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى مُخَالفَة الِاتِّبَاع، فَهَذَا فِي
سَبِيل " الْعقل ".
وَلَكِن قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع على أَن مَا يقدم عَلَيْهِ
الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي تَبْيِين الشَّرْع "
لَا " على سَبِيل الِاخْتِصَاص " بِهِ " فَيجب اتِّبَاعه،
وَلَا يجوز الاستبداد بالحكم على خلاف مَا بَينه. فمنعنا
لذَلِك ترك الِاتِّبَاع، واستقلال
(3/402)
كل مُجْتَهد بِنَفسِهِ. وَكَأن الرب
تَعَالَى يَقُول: كل مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ، إِلَّا
مَا كَانَ للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِيهِ
اجْتِهَاد، فَهُوَ الْقدْوَة.
1878 - وَمِمَّا تمسكوا بِهِ أَيْضا، أَن قَالُوا: " لَو "
جَازَ أَن يجْتَهد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لجَاز
أَن يُخطئ مرّة ويصيب أُخْرَى. وَفِي ذَلِك إبِْطَال الثِّقَة
بِمَا يَقُوله.
قُلْنَا: هَذِه غَفلَة عَظِيمَة مِنْكُم. فانا " لم نصور من
آحَاد " الْمُجْتَهدين الْخَطَأ. على مَا " أوضحناه " من
أصلنَا فِي تصويب الْمُجْتَهدين / فَكيف تظنون منا ذَلِك فِي
اجْتِهَاد الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، على أَنا لَو
قَدرنَا جَوَاز الْخَطَأ من سَائِر الْمُجْتَهدين / فَلَا
نجوزه من الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . فَإِنَّهُ
وَاجِب الْعِصْمَة فيتنزل فِي اجْتِهَاده منزلَة مَا لَو
اجْتمع كَافَّة الْأمة على ضرب من الِاجْتِهَاد " إِجْمَاعًا "
مِنْهُم فَلَا يسوغ خطاؤهم. وَإِن قُلْنَا إِن الْمُصِيب
وَاحِد من " الْمُجْتَهدين " " وَيتَصَوَّر " خطأ " آحَاد "
الْمُجْتَهدين. فَبَطل مَا قَالُوهُ.
1879 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا، لِأَن قَالُوا: لَو
(3/403)
" جَازَ " لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] أَن يجْتَهد، لجَاز لجبريل عَلَيْهِ السَّلَام أَن
يجْتَهد. ويخبر الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن
اجْتِهَاده / وَهُوَ يضيف الْكل إِلَى الْوَحْي فِيمَا بلغه
جِبْرِيل فيخلط الْوَحْي بِغَيْرِهِ، وَفِيه لبس عَظِيم فِي
الدَّلِيل.
قُلْنَا: هَذَا رَكِيك من القَوْل فَإِن جِبْرِيل إِذا اجْتهد
أخبر الرَّسُول بِاجْتِهَادِهِ / حَتَّى لَا ينْقل الْكل
وَحيا، إِذا علم ان الْأَمر يلتبس " فبطلت " عصمتهم / ووضح
جَوَاز تعبده بِالْقِيَاسِ.
(322) فصل هَل وَقع تعبد الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
بِالِاجْتِهَادِ
1880 - فان قَالَ قَائِل: قد " ثبتمْ " جَوَاز تعبد الرَّسُول
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالِاجْتِهَادِ عقلا فَهَل " ورد
ثُبُوت " ذَلِك سمعا؟ قُلْنَا: " اخْتلف اهل الْعلم " فِي
ذَلِك فَذهب ذاهبون إِلَى أَنه ورد السّمع بذلك. وَقطع
آخَرُونَ أَنه لم يرد
(3/404)
بِهِ / السّمع.
1881 - وَنحن نذْكر مَا تمسك بِهِ كل فريق، ونتكلم عَلَيْهِ "
إِن شَاءَ الله تَعَالَى " فَأَما الَّذين نفوا وُرُود السّمع
" بِهِ " فقد استدلوا، بِأَن قَالُوا: لَو كَانَ " شرع "
لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الِاجْتِهَاد لَكَانَ
" لَا يتَوَقَّف " فِي كثير من الْأَحْكَام ينْتَظر " فِيهَا "
الْوَحْي وَكَانَ " يتسرع " إِلَى الِاجْتِهَاد حَسْبَمَا "
جوز " لَهُ.
وَهَذَا بَاطِل. فَإِن للآخرين أَن يَقُولُوا: إِنَّمَا كَانَ
يتَوَقَّف فِيمَا لم يكن للِاجْتِهَاد فِيهِ مساغ وَلم يكن
لَهُ أصل يرد إِلَيْهِ اعْتِبَارا وَقِيَاسًا " إِذْ " لم يكن
(3/405)
قد اسْتَقر الشَّرْع و " تأسست " قَوَاعِده
على أَنه لَا يبعد أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خير بَين
الِاجْتِهَاد وَبَين انْتِظَار الْوَحْي. " فَكَانَ يجْتَهد
مرّة وينتظر الْوَحْي أُخْرَى ".
وَمِمَّا استدلوا بِهِ " أَيْضا " أَن قَالُوا: لَو كَانَ "
النَّبِي " [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يتَمَسَّك
بِالِاجْتِهَادِ " لنقل ذَلِك " نقلا مستفيضا قَاطعا للريب.
كَمَا نقل تمسكه بِالْوَحْي.
وَهَذَا مَا لَا معتصم فِيهِ أَيْضا. إِذْ لَيْسَ من شَرط كل
مَا يُؤثر عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ان يستفيض
بل مِنْهُ مَا ينْقل آحادا، وَمِنْه مَا ينْقل استفاضة. على
أَنه " لَا يجب " على الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن
يُخْبِرهُمْ بمصادر احكامه و " مقتضياتها " وَتمسك هَؤُلَاءِ
بالطرق الَّتِي قدمناها / فِي اسْتِحَالَة تعبده
بِالِاجْتِهَادِ عقلا، وَقد قدمنَا الاجوبة عَنْهَا فَهَذَا
كَلَام
(3/406)
1882 - فَأَما الَّذين قَالُوا: أَن
الشَّرْع ورد بتعبده [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
بِالِاجْتِهَادِ فقد استدلوا بِمَا جرى " فِي " أَمر أُسَارَى
بدر. فَإِنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فادهم
بِاجْتِهَادِهِ " و " رَأْيه. وَلم يقدم على ذَلِك عَن
قَضِيَّة وَحي وَلذَلِك عاتبه الرب تَعَالَى فِي قَوْله {مَا
كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض}
الْآيَة. وَكَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَشَارَ "
على " الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " بِقَتْلِهِم "
فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عِنْد نزُول
الْآيَة لقد كَانَ الْعَذَاب إِلَيْنَا أقرب من هَذِه "
الشَّجَرَة " وَلَو أنزل، لما نجا مِنْهُ إِلَّا عمر.
قَالُوا: فَهَذِهِ / الْآيَة " مَعَ " سَبَب نُزُولهَا دلَالَة
وَاضِحَة على
(3/407)
حكمه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
بِالِاجْتِهَادِ. / قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: من زعم
أَن هَذِه الْآيَة تدل على حكمه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
بِالِاجْتِهَادِ / فقد افترى " على الله تَعَالَى " بأعظم
الْفِرْيَة " بِعَينهَا " فَإِن فِيهِ تعرضا " لتجويز "
الْخَطَأ على رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَعَ
تَقْرِيره " عَلَيْهِ ". وَالنَّاس " على " حزبين فِي تَجْوِيز
الْخَطَأ على " الرُّسُل " عَلَيْهِم السَّلَام " وَمن " جوزه
مِنْهُم " لم يجوز " " تقريرهم " عَلَيْهِ.
1883 - فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه لم يُقرر "
لما " عوتب؟ قُلْنَا: فَعدم " التَّقْرِير " هُوَ أَلا ينفذ "
مَا أَخطَأ " فِيهِ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يقتل الأسرى وينقض
عهود المفاداة، فوضح بذلك الْبطلَان
(3/408)
فِي الِاسْتِدْلَال، " واستوى
الْفَرِيقَانِ " فِي التَّأْوِيل.
1884 - فَإِن قيل: فَمَا تَأْوِيل الْآيَة بعد سُقُوط
الِاحْتِجَاج. قيل: أما رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
، فقد كَانَ خير بَين الْقَتْل " والمن " والمفاداة
والاسترقاق. كَمَا أنبأ قَوْله تَعَالَى {فإمَّا منا بعد
وَإِمَّا فدَاء حَتَّى تضع الْحَرْب} عَن بعض هَذِه الْخلال.
وَلَكِن خَاضَ أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
فِي تخير بعض هَذِه الْخلال / حَتَّى كَأَنَّهُ بلغ مِنْهُم
أَو من بَعضهم مبلغ قطع الرَّأْي والتحكم. فنقم الله تَعَالَى
ذَلِك عَلَيْهِم. بيد أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
أَدخل نَفسه مَعَهم فِي مُوجب العتاب تكرما. وَالْآيَة تنبئي
عَن " تبرئته " فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {مَا كَانَ لنَبِيّ
أَن يكون لَهُ أسرى} فَلَمَّا نجز حَدِيثه، خَاطب أَصْحَابه
فَقَالَ {تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا} وَنحن نعلم أَن الرَّسُول
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا يُخَاطب بذلك. فقد عرضت
عَلَيْهِ خَزَائِن الدُّنْيَا، فأباها / [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] .
(3/409)
1885 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ فِي وُرُود
التَّعَبُّد بِالِاجْتِهَادِ، أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
قَالَ فِي حكم الْحرم " لَا يعضد شَجَرهَا وَلَا يخْتَلى "
خَلاهَا ". قَالَ الْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر فَإِنَّهُ
لِقُبُورِنَا وَبُيُوتنَا، فَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
على الْفَوْر " إِلَّا الْإِذْخر " وَنحن نعلم " أَنه " مَا
قَالَه إِلَّا اجْتِهَادًا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ، تحكم أَيْضا. " وَلَا يبعد " أَنه
قَالَه وَحيا وَكَانَ مَعَه فِي ذَلِك الْوَقْت جِبْرِيل أَو
ملك آخر " يسدده " فَبَطل معتصم الْفَرِيقَيْنِ.
1886 - وَالْمُخْتَار أَنه لم يرد فِي الشَّرْع دلَالَة يقطع
بهَا فِي نفي الِاجْتِهَاد وَلَا فِي إثْبَاته. فَيتَوَقَّف
فِيهِ على مورد " الشَّرْع ".
(3/410)
(323) بَاب القَوْل فِي تَخْرِيج
الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ
وَذكر مُرَاده فِيهِ
1887 - اشْتهر عَن الشَّافِعِي / رَضِي الله عَنهُ ذكر
الْقَوْلَيْنِ فَصَاعِدا " فِي " الْحَادِثَة الْوَاحِدَة مَعَ
الْعلم باستحالة اجْتِمَاعهمَا فِي الصِّحَّة فِي " حق
الْمُجْتَهد الْوَاحِد ".
(3/411)
1888 - وَقد اعْترض عَلَيْهِ فِي ذَلِك "
جعل " وَغَيره من متأخري الْمُعْتَزلَة وَنحن نذْكر مَا عولوا
عَلَيْهِ من وُجُوه الِاعْتِرَاض " ونتفصى " " عَنْهَا " "
ثمَّ نذْكر " وَجه تَخْرِيج الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ.
1889 - فمما اعْترضُوا بِهِ أَن قَالُوا: إِذا جمع الْجَامِع
بَين قَوْلَيْنِ، أَحدهمَا التَّحْلِيل وَالْآخر التَّحْرِيم
وذكرهما جَمِيعًا، وَلم يرجح " أَحدهمَا " على الثَّانِي،
واضافهما إِلَى نَفسه، فِي مثل " الصِّيغَة الَّتِي يضيف بهَا
" جملَة " الْمَذْهَب " إِلَى نَفسه، فَلَا يَخْلُو " حَاله "
فِي ذَلِك، إِمَّا أَن يُرِيد " تَصْحِيح " الْقَوْلَيْنِ
جَمِيعًا فِي حق الْمُجْتَهد الْوَاحِد - فَيكون ذَلِك تناقضا
وتنافيا ومباهتة للضروريات " والبدائة " " و " إِن كَانَ لَا
يعْتَقد ذَلِك،
(3/412)
فإطلاقة الْكَلَام على وَجه يُنبئ عَمَّا
قُلْنَاهُ " يزريه " إِذْ لَيْسَ لأحد الْعلمَاء أَن يُطلق من
القَوْل مَا ظَاهره الْغَلَط، وَهُوَ يُرِيد بِهِ خلاف ظَاهره.
وَإِنَّمَا " يَصح " من صَاحب الشَّرِيعَة إِطْلَاق أَلْفَاظ
مَحْمُولَة على خلاف ظواهرها، للْعلم بِوُجُوب حكمته وَثُبُوت
عصمته وتنزهه عَن الزلل. فَهَذِهِ السَّابِقَة " تحمل
المتأولين " على التَّأْوِيل.
فَأَما آحَاد الْعلمَاء فَكل وَاحِد مِنْهُم بصدد الْخَطَأ،
فَإِذا بدرت " مِنْهُ " لَفْظَة، ظَاهرهَا الْخَطَأ، وَلم تجب
لَهُ الْعِصْمَة، حملت على الظَّاهِر.
1890 - وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ سَاقِط من الْكَلَام من أوجه:
أَحدهَا: أَن لَو " سَاغَ " مَا قَالُوهُ، لوَجَبَ سد " بَاب "
التَّجَوُّز والتوسع فِي الْكَلَام على غير صَاحب الشَّرِيعَة،
حَتَّى لَا يجوز لأحد أَن " ينْطق " بمجازات اللُّغَة.
وَيتَعَيَّن على الكافة النُّطْق " بحقائق " اللُّغَة، حَتَّى
ينْسب النَّاطِق بالمجاز إِلَى السفة والعبث. فَلَمَّا لم يكن
ذَلِك، بَطل مَا قَالُوهُ.
(3/413)
1891 - ثمَّ نقُول: أَلَيْسَ ورد " عَن "
صَاحب الشَّرِيعَة أَلْفَاظ متأولة والمجوز لذَلِك - على زعمكم
- مَا سبق من الْعلم بعصمته. " فَإِن " قَالُوا: أجل. قيل
لَهُم: فَكيف يظنّ بالشافعي فِي مثل رتبته أَن " يحرم الشَّيْء
ويحلله " مَعًا، ويعتقد " ذَلِك " اعتقادا. وَمن كَمَال الْعقل
أَن يعرف الْمَرْء تنَافِي المتنافيات وتناقضها. فنعلم من
الشَّافِعِي أَنه لم يسْلك هَذَا المسلك وَإِنَّمَا / سلك
مسلكا غَيره، فينتصب ذَلِك قرينَة مُقَارنَة للظَّاهِر، نازلة
منزلَة الْمُقَارن للْعُمُوم. وَهَذَا بَين لَا خَفَاء " بِهِ
".
1892 - فَإِن قَالُوا: لَو قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله "
ظلمت وتعديت " أفتحمل ذَلِك على غير ظَاهره. قيل: لَا يضطرنا
إِلَى حمله على خلاف ظَاهره شَيْء إِذْ يسوغ من الشَّافِعِي
وَمِمَّنْ هُوَ أجل مِنْهُ، أَن يظلم. فَأَما أَن يعْتَقد كَون
الشَّيْء حَلَالا حَرَامًا، فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك مِنْهُ
أصلا.
1893 - فَإِن قَالُوا: قد أبدع الشَّافِعِي / على "
الصَّحَابَة " وخرق الْإِجْمَاع فِي ذكر الْقَوْلَيْنِ. فَإِن
الصَّحَابَة لما اخْتلفُوا، لم يذكر أحد مِنْهُم فِي
(3/414)
الصُّورَة " الْوَاحِدَة " قَوْلَيْنِ.
" قُلْنَا ": الْجَواب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنهم كَمَا لم يذكرُوا " قَوْلَيْنِ " لم يمنعوا
ذكر الْقَوْلَيْنِ. " فَلَيْسَ فِي " كفهم عَن " ذكر "
الشَّيْء مَا يدل على مَنعهم إِيَّاه. فَسقط مَا قَالُوهُ.
ثمَّ نقُول: / كم ذكرُوا من وُجُوه الِاحْتِمَال فِي
الْحَادِثَة الْوَاحِدَة وَلَكِن لم يصفوها بالأقوال / كَمَا
ذكرُوا وُجُوه الِاحْتِمَال وَالِاجْتِهَاد " وَلم يسموه "
ربطا وتحريرا وفرعا " و " أصلا، وَلم يذكرُوا من عِبَارَات
متناظري الزَّمَان، إِلَّا الْقَلِيل. وَلَا يدل ذَلِك على
خُرُوج أهل الزَّمَان عَن إِجْمَاعهم.
1894 - فَإِن قَالُوا: فَمَا وَجه تَخْرِيج الشَّافِعِي
الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ وَمَا " مَعْنَاهُ "؟
(3/415)
قُلْنَا: " قد اخْتلفت " فِي ذَلِك أجوبة
أَصْحَابه. وَنحن نذْكر مَا ذَكرُوهُ ثمَّ نعول على الْأَصَح
مِنْهُ " إِن شَاءَ الله تَعَالَى ".
1895 - فَذهب بَعضهم: إِلَى أَنه قصد بِذكر الْقَوْلَيْنِ،
حِكَايَة مذهبين من مَذَاهِب الْعلمَاء.
وَهَذَا غير سديد من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: إِنَّه قد يَجْعَل الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ فِي
صُورَة لَا يُؤثر فِيهَا عَن الْعلمَاء قَول " على "
التَّنْصِيص.
وَالْآخر أَنه يضيف الْقَوْلَيْنِ إِلَى اجْتِهَاده وَلَا
يجْرِي " فِي " ذَلِك مجْرى حِكَايَة الْمذَاهب. " فَإِنَّهُ
إِذا حكى " الْمَذْهَب " فصيغة " كَلَامه فِي الْحِكَايَة
تتَمَيَّز عِنْد كل " مُصَنف " عَن صِيغَة ذكره الْقَوْلَيْنِ.
1896 - وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي: إِنَّمَا ذكر
الْقَوْلَيْنِ، ليبين " أَن " مَا عداهما فَاسد عِنْده، و "
يحصر " الْحق، فِي قَوْلَيْنِ أَو ثَلَاثَة،
(3/416)
" على " مَا نذكرهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذكره فِيهِ نظر أَيْضا. فَإِن الشَّافِعِي لَا
يقطع فِي المجتهدات بتخطئة غَيره. وَمن تدبر أُصُوله، عرف
ذَلِك " مِنْهَا ".
1897 - وَالصَّحِيح فِي ذَلِك أَن نقُول: مَا يُؤثر فِيهِ عَن
الشَّافِعِي قَولَانِ، فَهُوَ على أَقسَام.
فَمِنْهُ / القَوْل الْجَدِيد و " القَوْل " الْقَدِيم. فقد
وضح من مُقْتَضى كَلَامه أَنه بِذكرِهِ الْجَدِيد رَجَعَ عَن
الْقَدِيم. فَلَا " يجْتَمع " لَهُ فِي أَمْثَال ذَلِك
قَولَانِ.
وَمِنْه أَن ينص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد، وَلكنه يمِيل
إِلَى أَحدهمَا، ويختاره " فَهُوَ " مذْهبه وَالْآخر لَيْسَ
بقول لَهُ. وَإِنَّمَا ذكره أَولا تَوْطِئَة للْخلاف وتمهيدا
لَهُ.
وَلَو نَص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد ثمَّ ذكر أَحدهمَا بعد
ذَلِك، وأضرب عَن ذَلِك الثَّانِي " فَمَا " صَار إِلَيْهِ
الْمُزنِيّ رَحمَه الله أَن ذَلِك رُجُوع مِنْهُ عَن
(3/417)
القَوْل الثَّانِي وَلما قَالَه وَجه.
وَإِن " كَانَ " أنكرهُ مُعظم الْأَصْحَاب.
1898 - فَأَما إِذا نَص على قَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَلم يرجح
أَحدهمَا " بعد ذَلِك " على " الثَّانِي " " وَلم يقْتَصر "
على أَحدهمَا بعد نَصه عَلَيْهِمَا وَنقل مثل ذَلِك - حَتَّى
قَالَ الْمُحَقِّقُونَ - إِن هَذَا الْفَنّ لَا يكَاد يبلغ
عشرا.
1899 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالْوَجْه عِنْدِي
أَنه قَالَ فِي مثل " هَذَا الْموضع " بالتخيير. وَكَانَ
يَقُول بتصويب الْمُجْتَهدين.
(3/418)
وَهَذَا الَّذِي قَالَه غير " سديد " فَإِن
الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الْمُصِيب وَاحِد على
أَن " فِيمَا " ذكره القَاضِي " دخلا عَظِيما " ونبين ذَلِك،
بِأَن نمهد أصلا فِي التَّخْيِير.
فَنَقُول: من قَالَ بالتخيير / على مَا قدمنَا القَوْل فِيهِ،
إِنَّمَا يُمكنهُ القَوْل بالتخيير / فِي تَقْدِير واجبين.
مثل أَن " يُؤَدِّي " أحد الاجتهادين إِلَى إِيجَاب شَيْء "
وَالثَّانِي " إِلَى إِيجَاب غَيره. وَلَا يُؤَدِّي تَقْدِير
جَمعهمَا على سَبِيل التَّخْيِير إِلَى تنَاقض وَينزل منزلَة "
أَرْكَان " كَفَّارَة الْيَمين. فَإِذا تصورت الْمَسْأَلَة "
بِهَذِهِ " الصُّورَة،
(3/419)
" سَاغَ " الْمصير إِلَى " أَن "
التَّخْيِير " فيهمَا ".
وَأما إِذا كَانَ / أحد الاجتهادين يُؤَدِّي إِلَى "
التَّحْلِيل " وَيُؤَدِّي الثَّانِي إِلَى " التَّحْرِيم "
فَلَا يتَصَوَّر التَّخْيِير فِي الْقَوْلَيْنِ إِذْ من
المستحيل التَّخْيِير بَين " الْحَظْر والتحليل " وَهَذَا بَين
لكل متأمل وَقد ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي خلال
كَلَامه. وَكَذَلِكَ " لَا يتَحَقَّق " التَّخْيِير بَين
محرمين.
1900 - فَإذْ وضح ذَلِك. فقد اخْتلف قَول الشَّافِعِي رَحمَه
الله كثيرا فِي تَحْلِيل وَتَحْرِيم. فَكيف يُمكن " حمل "
اخْتِلَاف قَوْله على " القَوْل " بالتخيير؟ فالسديد إِذا أَن
نقُول فِي الْقسم الْأَخير الَّذِي
(3/420)
" ختمنا " الْكَلَام " بِهِ " - وَهُوَ أَن
ينص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد، وَلَا يخْتَار أَحدهمَا - "
إِنَّه " لَيْسَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَول / وَلَا مَذْهَب
وَإِنَّمَا ذكر الْقَوْلَيْنِ ليتردد فيهمَا. وَعدم اخْتِيَاره
لأَحَدهمَا لَا يكون ذَلِك خطأ مِنْهُ. بل علو رُتْبَة الرجل،
وتوسعه فِي الْعلم، وَعلمه " بطرق " الْأَشْبَه / يمْنَع / أَن
يتَّفق لَهُ ذَلِك. وَيبعد أَن يَبْتَدِئ " الرجل " مسَائِل
الشَّرْع ويختمها وَلَا تعن " لَهُ " مَسْأَلَة إِلَّا ويغلب
على ظَنّه فِي أول نظرة جَوَاب وَاحِد.
1901 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَلَا معنى لقولكم: للشَّافِعِيّ
قَولَانِ إِذْ لَيْسَ لَهُ على مَا زعمتم فِي مثل هَذِه
الْمسَائِل قَول وَاحِد وَلَا قَولَانِ!
قُلْنَا: " هَكَذَا نقُول " وَلَا نتحاشى مِنْهُ. وَإِنَّمَا
وَجه الْإِضَافَة إِلَى الشَّافِعِي ذكره لَهما و " استقصاؤه "
وُجُوه الْأَشْبَاه فيهمَا. فَهَذَا أَسد الطّرق وأوضحها.
(3/421)
وَقد شعب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ
كَلَامه فِي " هَذِه " الْمَسْأَلَة. وَالَّذِي " ذَكرْنَاهُ "
لبابه وَتعلم ذَلِك إِذا طالعت كِتَابه.
(3/422)
|