التمهيد في تخريج الفروع على الأصول

فصل فِي الِاسْتِثْنَاء

قَالَ الْبَيْضَاوِيّ الِاسْتِثْنَاء هُوَ الْإِخْرَاج بإلا الَّتِي لَيست للصفة أَو بِمَا كَانَ نَحْو إِلَّا فِي الْإِخْرَاج انْتهى وَذكر غَيره أَيْضا نَحْو هَذَا الْحَد
وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ من كَون إِلَّا تكون للصفة قد ضَبطه ابْن الْحَاجِب فِي مقدمته بِأَن تكون تَابِعَة لجمع منكور غير مَحْصُور كَقَوْلِه تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} وَقَالَ جمَاعَة لَا يشْتَرط فِيهَا ذَلِك فعلى هَذَا إِذا قلت عَليّ ألف إِلَّا مائَة بِرَفْع الْمِائَة فَإِنَّهُ يكون إِقْرَارا بِالْألف على قَاعِدَة الْأُصُولِيِّينَ وَبِه أجَاب النُّحَاة أَيْضا لَكِن الْأَكْثَرُونَ من اصحابنا قد صَرَّحُوا فِي الْكَلَام على لفظ غير بِأَن الملحن لَا أثر لَهُ فِي الْإِقْرَار وَقِيَاس ذَلِك لُزُوم تِسْعمائَة وَإِنَّمَا حملنَا غيرا فِي الْإِقْرَار على الْإِخْرَاج مُطلقًا لَا على الصّفة لِأَن الأَصْل عدم اللُّزُوم وَلِهَذَا

(1/385)


الْمَعْنى بِعَيْنِه قُلْنَا إِذا عاتبته الْمَرْأَة بجديدة فَقَالَ كل امْرَأَة لي غَيْرك طَالِق لَا يَقع عَلَيْهِ شَيْء مُطلقًا لكَون الأَصْل عدم الْوُقُوع وَقد أوضحنا ذَلِك فِي الْكَلَام على المفاهيم وَهُوَ فِي أثْنَاء الْفَصْل التَّاسِع
إِذا علمت ذَلِك فيتفرع على الضَّابِط فروع مِنْهَا
1 - إِذا قَالَ هَذِه الدَّار لزيد وَهَذَا الْبَيْت مِنْهَا لي أَو هَذَا الْخَاتم لَهُ وفصه لي فَإِنَّهُ يقبل مِنْهُ كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَعلله بقوله لِأَنَّهُ إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله اللَّفْظ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاء
2 - وَمِنْهَا إِذا قَالَ عَليّ ألف أحط مِنْهَا مائَة أَو أستثنيه وَنَحْو ذَلِك فَمُقْتَضى مَا سبق قبُوله ايضا وَفِي ذَلِك وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي

مَسْأَلَة 1

الِاسْتِثْنَاء من الْعدَد جَائِز كَمَا جزم بِهِ الإِمَام والآمدي وَغَيرهمَا وَلَا فرق بَين أَن يكون من معِين أم لَا
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا إِذا قَالَ مثلا لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا وَاحِدًا لزمَه تِسْعَة كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ
2 - وَمِنْهَا إِذا قَالَ لنسوته الْأَرْبَع أربعتكن طَوَالِق إِلَّا فُلَانَة قَالَ القَاضِي الْحُسَيْن وَالْمُتوَلِّيّ لَا يَصح هَذَا الِاسْتِثْنَاء لِأَن الْأَرْبَع

(1/386)


لَيست صِيغَة عُمُوم وَإِنَّمَا هِيَ اسْم لعدد مَعْلُوم خَاص فَقَوله إِلَّا فُلَانَة رفع عَنْهُمَا بعد التَّنْصِيص عَلَيْهَا فَهُوَ كَقَوْلِه طَلَاقا لَا يَقع عَلَيْك كَذَا نَقله عَنْهُمَا الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء تَعْلِيق الطَّلَاق ثمَّ رد عَلَيْهِمَا بِأَن مُقْتَضى هَذَا التَّعْلِيل بطلَان الِاسْتِثْنَاء من الْأَعْدَاد فِي الْإِقْرَار وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ كَذَلِك ثمَّ حكى عَن القَاضِي أَنه قَالَ لَو قدم الْمُسْتَثْنى على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فَقَالَ أربعتكن إِلَّا فُلَانَة طَوَالِق صَحَّ ثمَّ اسْتشْكل الرَّافِعِيّ الْفرق بَينهمَا وَلَيْسَ مُشكلا بل مدركه أَن الحكم فِي هَذِه الصُّورَة وَقع بعد الْإِخْرَاج فَلَا يلْزم التَّنَاقُض بِخِلَاف الصُّورَة السَّابِقَة إِلَّا أَن الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْإِقْرَار قد سوى بَينهمَا فِي الصِّحَّة وَهَذَا كُله فِي الِاسْتِثْنَاء بِاللَّفْظِ فَإِن قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ أردْت إِلَّا وَاحِدَة أَو قَالَ أربعتكن طَوَالِق وَقَالَ نَوَيْت بقلبي إِلَّا فُلَانَة لم يقبل ظَاهرا وَالأَصَح أَيْضا أَنه لَا يدين لِأَنَّهُ نَص فِي الْعدَد بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ كل امْرَأَة لي طَالِق وعزل بَعضهنَّ بِالنِّيَّةِ فَإِنَّهُ يقبل بَاطِنا وَلَا يقبل ظَاهرا عِنْد الْأَكْثَرين كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ

مَسْأَلَة 2

اخْتلفُوا فِي الِاسْتِثْنَاء هَل هُوَ إِخْرَاج قبل الحكم أَو بعده
فَإِذا قَالَ مثلا لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة فالأكثرون عل أَن المُرَاد بِالْعشرَةِ سَبْعَة وَإِلَّا قرينَة مبينَة لذَلِك كالتخصيص

(1/387)


وَقَالَ القَاضِي عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة بِإِزَاءِ سَبْعَة كاسمين مركب ومفرد
وَقيل المُرَاد بِالْعشرَةِ مدلولها ثمَّ أخرجت مِنْهَا ثَلَاثَة وأسندنا إِلَيْهِ بعد الْإِخْرَاج فَلم يسند إِلَّا إِلَى سَبْعَة وَصَححهُ ابْن الْحَاجِب
وَقد تبين بِمَا ذَكرْنَاهُ أَن الِاسْتِثْنَاء على قَول القَاضِي لَيْسَ بتخصيص وَهُوَ وَاضح وعَلى رَأْي الْأَكْثَرين تَخْصِيص لِأَن اللَّفْظ قد أطلق لبعضه إِرَادَة وإسنادا وعَلى الْأَخير مُحْتَمل لكَونه أُرِيد الْكل وَاسْنِدِ إِلَى الْبَعْض هَكَذَا أطْلقُوا الْمَسْأَلَة وَيتَّجه أَن يكون ذَلِك عِنْد تَأَخّر الْمُسْتَثْنى عَن الحكم فَإِن تقدم كَقَوْلِنَا الْقَوْم إِلَّا زيدا قَامُوا كَانَ الْإِخْرَاج قبله
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا نَقله الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الطّرف السَّابِع من تَعْلِيق الطَّلَاق عَن القَاضِي الْحُسَيْن وَالْمُتوَلِّيّ أَن الِاسْتِثْنَاء من الْعدَد يجوز مَعَ تَقْدِيم الِاسْتِثْنَاء عَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَلَا يجوز مَعَ تَأَخره كَقَوْلِك لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما وعللاه بِأَن صِيغ الْأَعْدَاد لَيست صِيغ الْعُمُوم وَإِنَّمَا هِيَ أَسمَاء لأعداد خَاصَّة فَقَوله إِلَّا كَذَا رفع للْحكم عَنهُ بعد التَّنْصِيص عَلَيْهِ

(1/388)


2 - وَمن فَوَائِد الْخلاف أَيْضا التَّقْدِيم بِهِ عِنْد التَّعَارُض فَإنَّا إِذا قُلْنَا إِن الِاسْتِثْنَاء بعد الحكم فقد صَار الْمُسْتَثْنى مِنْهُ يدل على إِدْخَال ذَلِك الْفَرد وَلَكِن الِاسْتِثْنَاء عَارضه فَإِذا عَارض الِاسْتِثْنَاء دَلِيل آخر يَقْتَضِي إِدْخَاله فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ قدمناهما عَلَيْهِ لِأَن كَثْرَة الْأَدِلَّة من جملَة المرجحات

مَسْأَلَة 3

يشْتَرط اتِّصَال الْمُسْتَثْنى مِنْهُ بالمستثنى الِاتِّصَال العادي
إِذا تقرر ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا إِذا قَالَ عَليّ ألف اسْتغْفر الله إِلَّا مائَة فَإِنَّهُ يَصح الِاسْتِثْنَاء عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة دليلنا أَنه فصل يسير فَلم يُؤثر كَقَوْلِه عَليّ ألف يَا فلَان إِلَّا مائَة كَذَا رَأَيْته حكما وتعليلا فِي الْعدة لأبي عبد الله الْحُسَيْن الطَّبَرِيّ وَالْبَيَان للعمراني وَنَقله عَنْهُمَا فِي زَوَائِد الرَّوْضَة وَقَالَ إِن فِيهِ نظرا وَلَو وَقع مثل هَذَا الْفَصْل بَين الشَّرْط والمشروط كَقَوْلِه أَنْت طَالِق اسْتغْفر الله إِن دخلت الدَّار فَالْمُتَّجه الْجَزْم بِالْوُقُوفِ لانْتِفَاء الْمَعْنى السَّابِق

(1/389)


مَسْأَلَة 4

لَا يجوز تَقْدِيم الْمُسْتَثْنى فِي أول الْكَلَام كَقَوْلِك إِلَّا زيدا قَامَ الْقَوْم كحرف الْعَطف إِذْ معنى إِلَّا زيدا لَا زيد وَاخْتَارَهُ الْكُوفِيُّونَ والزجاج وَلَو تقدمه حرف نفي فالمنع أَيْضا بَاقٍ كَقَوْلِك مَا إِلَّا زيدا فِي الدَّار أحد وَأما قَول الشَّاعِر
... وبلدة لَيْسَ بهَا طوري ... وَلَا خلا الْجِنّ بهَا إنسي ...
فشاذ بِخِلَاف مَا لَو كَانَ النَّافِي فعلا فَإِنَّهُ يجوز كَقَوْلِك لَيْسَ إِلَّا زيدا فِيهَا أحد وَكَذَلِكَ لم يكن
إِذا علمت ذَلِك فَيجوز توَسط الْمُسْتَثْنى بَين الْمُسْتَثْنى مِنْهُ والمنسوب إِلَيْهِ الحكم كَقَوْلِك قَامَ إِلَّا زيدا الْقَوْم وَالْقَوْم إِلَّا زيدا ذاهبون وَفِي الدَّار إِلَّا عمرا اصحابك واين إِلَّا زيدا قَوْمك وَضربت إِلَّا زيدا الْقَوْم

(1/390)


نعم إِذا تقدم على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وعَلى الْعَامِل فَفِيهِ مَذَاهِب ثَالِثهَا وَهُوَ مُخْتَار أبي حَيَّان إِن كَانَ الْعَامِل متصرفا كَقَوْلِك الْقَوْم إِلَّا زيدا جاؤوا فَيجوز وَغير متصرف نَحْو الرِّجَال إِلَّا عمرا فِي الدَّار فَلَا يجوز
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا إِذا قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا دَنَانِير مائَة دِينَار فَإِن الِاسْتِثْنَاء صَحِيح على الصَّحِيح كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي أول كتاب الْأَيْمَان وَقيل لَا يَصح قَالَ وَهُوَ ضَعِيف

مَسْأَلَة 5

الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع وَهُوَ الَّذِي لم يدْخل فِي الأول صَحِيح وَهل إِطْلَاق الِاسْتِثْنَاء عَلَيْهِ إِطْلَاق حَقِيقِيّ أَو مجازي فِيهِ مذهبان أصَحهمَا الثَّانِي فَإِن قُلْنَا إِنَّه حَقِيقَة فَقيل مُشْتَرك وَقيل متواطىء حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره
إِذا تقرر ذَلِك فَقَالَ الْمقر عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا ثوبا أَو عبدا أَو غير ذَلِك صَحَّ وَحمل اللَّفْظ على الْمجَاز ثمَّ عَلَيْهِ أَن يبين ثوبا لَا تستغرق قِيمَته الْألف فَإِن استغرق فَفِيهِ كَلَام يَأْتِي فِي الْمُجْمل والمبين

(1/391)


وَاعْلَم أَن بَعضهم يُفَسر الْمُنْقَطع بِكَوْنِهِ من غير جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَهُوَ فَاسد كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن مَالك وَغَيره لِأَن قَول الْقَائِل جَاءَ بنوك إِلَّا بني زيد مُنْقَطع مَعَ أَنه من جنس الأول

مَسْأَلَة 6

إِذا احْتمل الِاسْتِثْنَاء أَن يكون مُتَّصِلا وَأَن يكون مُنْقَطِعًا فَحَمله على الِاتِّصَال أولى لِأَنَّهُ حَقِيقَة وَأما الْمُنْقَطع فمجاز
إِذا علمت ذَلِك فَمن الْفُرُوع الْمُخَالفَة
1 - إِذا قَالَ لَهُ عَليّ ألف إِلَّا ثَلَاثَة دَرَاهِم فَإِن لَهُ تَفْسِير الْألف بِمَا أَرَادَ بِلَا خلاف وَلَا يكون تَفْسِير الْمُسْتَثْنى تَفْسِيرا للمستثنى مِنْهُ كَذَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَسَببه أَن الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة مِمَّا زَاد على ذَلِك

مَسْأَلَة 7

الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات كَقَوْلِنَا قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا يكون نفيا للْقِيَام عَن زيد بالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَه الإِمَام فِي المعالم وَصَاحب الْحَاصِل وَغَيرهمَا وَإِن اخْتلف النَّاس فِي مدرك ذَلِك كَمَا سَيَأْتِي
وَأما الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي نَحْو مَا قَامَ أحد إِلَّا زيد فَقَالَ الشَّافِعِي يكون إِثْبَاتًا لقِيَام زيد وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يكون

(1/392)


إِثْبَاتًا لَهُ بل دَلِيلا على إِخْرَاجه عَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِم وَحِينَئِذٍ فَلَا يلْزم مِنْهُ الحكم بِالْقيامِ أما من جِهَة اللَّفْظ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ على هَذَا التَّقْدِير مَا يدل على إثْبَاته كَمَا قُلْنَاهُ وَأما من جِهَة الْمَعْنى فَلِأَن الأَصْل عَدمه قَالُوا بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات فَإِنَّهُ يكون نفيا لِأَنَّهُ لما كَانَ مسكوتا عَنهُ وَكَانَ الأَصْل هُوَ النَّفْي حكمنَا بِهِ فعلى هَذَا لَا فرق عِنْدهم فِي دلَالَة اللَّفْظ بَين الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات وَاخْتَارَ الإِمَام فِي المعالم مَذْهَب أبي حنيفَة وَفِي الْمَحْصُول مَذْهَب الشَّافِعِي
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا إِذا قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا خَمْسَة أَو مَا لَهُ عَليّ شَيْء إِلَّا خَمْسَة فَإِنَّهُ يلْزمه خَمْسَة
2 - وَمِنْهَا لَو قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا خَمْسَة يلْزمه أَيْضا خَمْسَة لما ذَكرْنَاهُ وَالصَّحِيح كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ أَنه لَا يلْزمه شَيْء لِأَن الْعشْرَة إلاخمسة مدلولها خَمْسَة فَكَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ عَليّ خَمْسَة وللمسألة مدرك آخر لم يذكرهُ الأصوليون وَقد ذكرته مَبْسُوطا فِي الْكَوْكَب الدُّرِّي مَعَ إِشْكَال يتَعَلَّق بِهِ فَرَاجعه
3 - وَمِنْهَا إِذا قَالَ وَالله لَا أعطينك إِلَّا درهما أَو لَا آكل إِلَّا هَذَا الرَّغِيف أَو لَا أَطَأ فِي السّنة إِلَّا مرّة وَنَحْو ذَلِك كَقَوْلِه لَا اضْرِب أَو لَا أسافر فَلم يفعل بِالْكُلِّيَّةِ فَفِي حنثه وَجْهَان حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْإِيلَاء من غير تَرْجِيح أَحدهمَا نعم لاقْتِضَاء اللَّفْظ ذَلِك وَهُوَ كَون الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَاتًا وَالثَّانِي لَا لِأَن الْمَقْصُود منع الزِّيَادَة وَقِيَاس مَذْهَبنَا هُوَ الأول لَكِن صحّح النَّوَوِيّ من زوائده الثَّانِي

(1/393)


4 - وَمِنْهَا لَو قَالَ وَالله مَالِي إِلَّا مائَة دِرْهَم وَهُوَ لَا يملك إِلَّا خمسين درهما فَإِن نوى أَنه لَا يملك زِيَادَة على مائَة لم يَحْنَث وَإِن أطلق فَفِيهِ وَجْهَان ذكرهمَا الرَّوْيَانِيّ فِي كتاب الْأَيْمَان من الْبَحْر
5 - وَمِنْهَا إِذا قَالَ مَا إِحْدَى نسَائِي طَالِق إِلَّا زَيْنَب فَيتَّجه الْوُقُوع على الْمَذْكُورَة لما ذَكرْنَاهُ وَيحْتَمل خِلَافه لبعد هَذَا اللَّفْظ عَن الْإِنْشَاء وَيَأْتِي هَذَا النّظر أَيْضا فِيمَا إِذا وَقع الِاسْتِثْنَاء مفرغا كَقَوْلِه مَا أَنْت إِلَّا طَالِق وَكَذَا غير االطلاق من البيع وَالْإِجَارَة وَنَحْوهمَا كَقَوْلِه فِي غير المفرغ مَا بَاعَ أحد مِنْك عَبده الَّذِي عرضه الْآن على البيع بِمِائَة إِلَّا أَنا وَفِي المفرغ مَا بَاعَ الْمَذْكُور إِلَّا أَنا
6 - وَمِنْهَا إِذا قُلْنَا بالأصح وَهُوَ أَن التَّحَالُف يَكْفِي فِيهِ يَمِين وَاحِدَة يجمع بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات فَأتى بِهَذِهِ الصِّيغَة فَقَالَ وَالله مَا بِعته إِلَّا بِكَذَا فَهَل يَكْفِي ذَلِك عَنْهُمَا فِيهِ وَجْهَان نقلهما الْمَاوَرْدِيّ وَاقْتضى كَلَامه تَصْحِيح عدم الِاكْتِفَاء لَكِن مُقْتَضى الْقَاعِدَة أَنه يَكْفِي وَقد سبق كَلَام آخر مُتَعَلق بِالْمَسْأَلَة فِي الْكَلَام على أَن إِنَّمَا للحصر فَرَاجعه

(1/394)


مَسْأَلَة 8

الِاسْتِثْنَاء الْمُسْتَغْرق بَاطِل بِاتِّفَاق كَمَا نَقله الإِمَام والآمدي وأتباعهما لإفضائه إِلَى اللَّغْو وَنقل الْقَرَافِيّ عَن الْمدْخل لِابْنِ طَلْحَة أَن فِي صِحَّته قَوْلَيْنِ وَنقل شَيخنَا أَبُو حَيَّان عَن الْفراء أَنه يجوز أَن يكون اكثر وَمثل بقوله عَليّ ألف إِلَّا أَلفَيْنِ قَالَ إِلَّا أَنه يكون مُنْقَطِعًا
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا إِذا قَالَ لزوجته مثلا أَنْت طَالِق طَلْقَة إِلَّا طَلْقَة فَيَقَع عَلَيْهَا طَلْقَة وَلَو قَالَ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا وَقع الثَّلَاث وَلَو قيل بِوُقُوع وَاحِدَة لَكَانَ متجها لِأَن اسْتثِْنَاء الطلقتين جَائِز فالمستثني للثلاث جَامع بَين مَا يجوز وَمَا لَا يجوز فنخرجه على قَاعِدَة تَفْرِيق الصَّفْقَة
2 - وَمِنْهَا مَا إِذا قَالَ كل امْرَأَة لي طَالِق إِلَّا عمْرَة أَو إِلَّا أَنْت وَلم يكن لَهُ غَيرهَا فَإِن الطَّلَاق يَقع عَلَيْهَا كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي الْكَلَام على الْكِنَايَات وَفِيه بحث تعلمه قَرِيبا فَلَو أَتَى بِغَيْر فَقَالَ كل امْرَأَة لي غَيْرك طَالِق أَو طَالِق

(1/395)


غَيْرك فالمقول فِيهِ عندنَا أَن الطَّلَاق لَا يَقع كَذَا ذكره الْخَوَارِزْمِيّ فِي كتاب الْأَيْمَان من الْكَافِي وَلم ينص أحد من أَصْحَابنَا على مَا يُخَالِفهُ وَسَببه أَن اصل غير للصفة وَقد أوضحت الْمَسْأَلَة فِي كتَابنَا الْمُسَمّى بالكوكب الدُّرِّي وَتقدم أَيْضا فِي هَذَا الْكتاب وَيحْتَمل أَيْضا إِلْحَاق إِلَّا بِغَيْر لِأَنَّهَا قد تقع صفة وَضمير الرّفْع قد يستعار لضمير النصب والجر كَقَوْلِهِم مَا أَنا كَاتب وَلَا أَنْت كَاتبا وَلِأَن قاعدتنا أَن الْإِعْرَاب لَا أثر لَهُ
وَذكر الرَّافِعِيّ ايضا أَنه لَو قَالَ النِّسَاء طَوَالِق إِلَّا عمْرَة وَلَيْسَ لَهُ غَيرهَا لم تطلق قَالَ وَكَذَلِكَ لَو كَانَت امْرَأَته فِي نسْوَة فَقَالَ طلقت هَؤُلَاءِ إِلَّا هَذِه وَأَشَارَ إِلَى زَوجته

مَسْأَلَة 9

إِذا لم يكن الِاسْتِثْنَاء مُسْتَغْرقا جَازَ على الصَّحِيح عِنْد الإِمَام والآمدي وَغَيرهمَا مُسَاوِيا كَانَ الْمخْرج أَو أَكثر قِيَاسا على التَّخْصِيص بِالشّرطِ فَإِن ذَلِك جَائِز فِيهِ بالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَه فِي الْمَحْصُول وَقيل لَا يجوز اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر وَلَا الْمسَاوِي أَيْضا

(1/396)


إِذا علمت ذَلِك فتفاريع الْأَصْحَاب مُوَافقَة للصحيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ فَمِنْهَا
1 - أَنهم صححوا الِاسْتِثْنَاء إِذا قَالَ عَليّ عشرَة إِلَّا تِسْعَة أَو لَهُ هَذِه الدَّار إِلَّا الثُّلثَيْنِ مِنْهَا أَو أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا طَلْقَتَيْنِ وَنَحْو ذَلِك
2 - وَمِنْهَا إِذا قَالَ الْمَرِيض أَعْطوهُ ثلث مَالِي إِلَّا كثيرا مِنْهُ جَازَ إِعْطَاؤُهُ أقل مُتَمَوّل وَلَو قَالَ إِلَّا قَلِيلا أَو إِلَّا شَيْئا فَكَذَلِك وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور يعْطى زِيَادَة على السُّدس وَالْمَعْرُوف كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ هُوَ الأول

مَسْأَلَة 10

الاستثناءات المتعددة إِذا لم تتعاطف وَكَانَ الثَّانِي مُسْتَغْرقا لما قبله إِمَّا بالتساوي كَقَوْلِه لَهُ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة وَكرر اللَّفْظ الْأَخير وَهُوَ اسْتثِْنَاء الثَّلَاثَة وَإِمَّا بِالزِّيَادَةِ كَقَوْلِه عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة إِلَّا أَرْبَعَة فَإِنَّهَا لَا تبطل بل تعود جَمِيعهَا إِلَى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ حملا للْكَلَام على الصِّحَّة كَذَا جزم بِهِ فِي الْمَحْصُول وَتَبعهُ الْبَيْضَاوِيّ فِي الْمِنْهَاج
فَأَما مَا ذكره فِي الزَّائِد فَمُسلم
وَأما الْمسَاوِي فقد جزم فِيهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْإِقْرَار بِأَن الثَّانِي يكون توكيدا وَحكى فِي كتاب الطَّلَاق وَجْهَيْن من غير تَرْجِيح

(1/397)


أَحدهمَا هَذَا وَالثَّانِي يلْزمه عشرَة فِي مثالنا لِأَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَلم يحكوا وَجها بِوُقُوع طَلْقَة وَاحِدَة لما سبق من حمل الْكَلَام على التأسيس وَالصِّحَّة وَالْكَلَام فِي الْمسَاوِي بِلَفْظ الأول يشبه الْكَلَام فِي تكْرَار الْأَمر كَقَوْلِه صل رَكْعَتَيْنِ صل رَكْعَتَيْنِ أَي بالتكرار وَقد مر فِي بَاب الْأَوَامِر فَرَاجعه

مَسْأَلَة 11

الِاسْتِثْنَاء عقب الْجمل الْمَعْطُوف بَعْضهَا على بعض يعود إِلَى الْجَمِيع عِنْد الشَّافِعِي مَا لم يقم دَلِيل على إِخْرَاج الْبَعْض
وَقَالَ أَبُو حنيفَة يعود إِلَى الْأَخِيرَة خَاصَّة قَالَ فِي المعالم وَهُوَ الْمُخْتَار
وَقد وَافَقنَا الْحَنَفِيَّة كَمَا قَالَه فِي الْمَحْصُول على عود الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء بِالْمَشِيئَةِ إِلَى الْجَمِيع وَكَذَلِكَ الْحَال كَمَا صرح بِهِ الْبَيْضَاوِيّ وَالتَّقْيِيد بالطرفين فِيهِ كَلَام يَأْتِي عقب هَذَا الْمَسْأَلَة وَالصّفة كالحال بِلَا شكّ
وَالتَّقْيِيد بالغاية كالتقييد بِالصّفةِ صرح بِهِ فِي الْمَحْصُول وَسَيَأْتِي الْكَلَام على جَمِيع هَذِه الْمسَائِل مفصلا
وَإِذا قُلْنَا يعود الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجَمِيع فقد أطلقهُ الْأَصْحَاب كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ قَالَ ورأي إِمَام الْحَرَمَيْنِ تَخْصِيص ذَلِك بِشَرْطَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون الْعَطف بِالْوَاو فَإِن كَانَ بثم اخْتصّت الصّفة وَالِاسْتِثْنَاء بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة الثَّانِي أَن لَا يَتَخَلَّل بَين الجملتين كَلَام طَوِيل

(1/398)


فَإِن تخَلّل كَقَوْلِه على أَن من مَاتَ مِنْهُم وأعقب فَنصِيبه بَين أَوْلَاده للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِن لم يعقب فَنصِيبه للَّذين فِي دَرَجَته فَإِذا انقرضوا فَهُوَ مَصْرُوف إِلَى إخوتي إِلَّا أَن يفسق أحدهم فالاستثناء تَخْصِيص بإخوته
وَالصّفة الْمُتَقَدّمَة على جَمِيع الْجمل كَقَوْلِه وقفت على فُقَرَاء أَوْلَادِي وَأَوْلَاد أَوْلَادِي وإخوتي كالمتأخرة
وَمَا ذكره الإِمَام من اشْتِرَاط الْعَطف بِالْوَاو صرح بِهِ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب واستدلال الإِمَام فَخر الدّين وَأَتْبَاعه يَقْتَضِيهِ أَيْضا
وَاعْلَم أَن التَّعْبِير بالجمل قد وَقع على الْغَالِب وَإِلَّا فَلَا فرق بَينهَا وَبَين الْمُفْردَات فقد قَالَ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الطَّلَاق إِذا قَالَ حَفْصَة وَعمرَة طالقتان إِن شَاءَ الله فَإِنَّهُ من بَاب الِاسْتِثْنَاء عقب الْجمل
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ فِي الْبَحْر لَو قَالَ عَليّ ألف دِرْهَم وَمِائَة دِينَار إِلَّا خمسين فَإِن أَرَادَ بالخمسين جِنْسا غير الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير قبل مِنْهُ وَكَذَلِكَ إِن أَرَادَ عوده إِلَى الجنسين مَعًا

(1/399)


أَو إِلَى أَحدهمَا وَإِن مَاتَ قبل الْبَيَان عَاد إِلَيْهِمَا عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة
لنا أَنه يحْتَمل ذَلِك وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة
وَإِذا عَاد إِلَيْهِمَا فَهَل يعود إِلَى كل مِنْهُمَا جَمِيع الِاسْتِثْنَاء فَيسْقط خَمْسُونَ دِينَارا وَخَمْسُونَ درهما أَو يعود إِلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَيسْقط خَمْسَة وَعِشْرُونَ من كل جنس فِيهِ وَجْهَان قَالَ الرَّوْيَانِيّ أصَحهمَا الأول وَلم يصحح الْمَاوَرْدِيّ شَيْئا وَيَأْتِي ايضا هَذَا الْكَلَام فِيمَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف وَلفُلَان عَليّ ألف إِلَّا خمسين
2 - وَمِنْهَا مَا نَقله الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْأَيْمَان عَن القَاضِي أبي الطّيب أَنه لَو قَالَ إِن شَاءَ الله أَنْت طَالِق وعبدي حر فَلَا يَقع الطَّلَاق وَالْعتاق قَالَ وَكَذَا لَو حذف الْوَاو لِأَن حرف الْعَطف قد يحذف مَعَ إِرَادَة الْعَطف قَالَ الرَّافِعِيّ وَليكن هَذَا فِيمَا إِذا نوى صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا فَإِن أطلق فَيُشبه أَن يَجِيء فِي أَنه هَل ينْصَرف إِلَيْهِمَا أم يخْتَص بالأخيرة
3 - وَمِنْهَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق طَلْقَتَيْنِ وَوَاحِدَة إِلَّا وَاحِدَة وَالْقِيَاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن يعود إِلَى الْجُمْلَة الأولى وَهِي طَلْقَتَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَيَقَع عَلَيْهِ طَلْقَتَانِ لِأَنَّهُ قد تعذر عوده إِلَى الْجُمْلَة الثَّانِيَة لاستغراقه إِيَّاهَا فَيتَعَيَّن الِاقْتِصَار على الأولى لِأَنَّهُ إِذا عَاد إِلَيْهَا مَعَ إِمْكَان اقْتِصَار عوده على مَا يَلِيهِ فَمَعَ تعذره بطرِيق الأولى لَكِن بنى الرَّافِعِيّ هَذِه الْمَسْأَلَة على أَن المفرق هَل يجمع فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا عدم الْجمع سَوَاء كَانَ مُسْتَثْنى أَو مُسْتَثْنى مِنْهُ فَإِن قُلْنَا بِالْجمعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَة فَتَقَع طَلْقَتَانِ وَإِن قُلْنَا بِالْجمعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَة فَتَقَع طَلْقَتَانِ وَإِن قُلْنَا لَا يجمع فَيكون الِاسْتِثْنَاء مُسْتَغْرقا فَتَقَع الثَّلَاث وَالَّذِي قَالَه مُشكل لما ذَكرْنَاهُ ثمَّ إِنَّه مهما أمكن حمل الْكَلَام على الصِّحَّة كَانَ أولى من إلغائه بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا تقدم إيضاحه

(1/400)