الرسالة للشافعي ابتداء الناسخ
والمنسوخ.
(1/105)
قال "الشافعي: ": إنَّ الله خلَق الخلْق
لِما سَبَق في علمه مما أراد بخلقهم وبهم، لا مُعَقِّبَ
لحُكْمه، وهو سريع الحِساب.
وأنزل عليهم الكتاب تِبْياناً لكل شيء، وهُدًى ورحمةً، وفرض
فيه فرائض أثبتها، وأُخْرَى نسَخَها، رحمةً لِخَلْقه، بالتخفيف
عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به مِن نِعَمه.
وأثابَهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم: جَنَّتَه، والنجاة
من عذابه؛ فعَمَّتْهم رحمتُه فيما أثبت ونسخ، فله الحمد على
نعمه.
وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن
السنةَ لا ناسخةٌ للكتاب، وإنما هي تَبَع للكتاب، يُمَثِّلُ ما
نَزل نصاً، ومفسِّرةٌ معنى ما أنزل الله منه جُمَلاً.
قال الله: " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ
قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ
غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
[ص:107] أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي؛ إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) " [يونسٍ] .
فأخبر الله أنه فرَضَ على نبيه اتباعَ ما يوحَى إليه، ولم يجعل
له تبديله مِن تِلْقاء نفسه.
وفي قوله: " مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ
نَفْسِي (15) " [يونس] ، بيانُ ما وصفتُ، مِن أنه لا يَنْسخ
كتابَ الله إلا كتابُه، كما كان المُبْتدىءَ لفرضه، فهو
المُزيلُ المثبت لِما شاء منه، جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من
خلقه.
وكذلك قال: " يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ،
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) " [الرعد] .
وقد قال بعضُ أهل العلم: في هذه الآية - والله أعلم - دِلاَلة
على أن الله جعَل لرسوله أنْ يقولَ مِن تِلقاء نفسه بتوفيقه
فيما لم يُنْزِلْ فيه كتاباً، والله أعلم.
وقيل في قوله: " يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ... (39) "
[الرعد] : يمحو فَرْض ما يشاء، ويُثبت فرض ما يشاء، وهذا يُشبه
ما قيل، والله أعلم.
[ص:108] وفي كتاب الله دِلالة عليه، قال الله: " مَا نَنسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (106) " [البقرة] .
فأخبر الله أنَّ نسْخَ القُرَآن، وتأخيرَ إنْزالِه لا يكون إلا
بِقُرَآن مثلِه.
وقال: " وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ: قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ
(101) " [النحل] .
وهكذا سنة رسول الله، لا يَنْسَخُها إلا سنةٌ لرسول الله؛ ولو
أحدث الله لرسوله في أمر سنَّ فيه، غيَر ما سنَّ رسول الله:
لَسَنَّ فيما أحدث الله إليه، حتى يُبَيِّنَ للناس أن له سنةً
ناسخةَ لِلَّتي قّبْلَها مما يخالفها. وهذا مذكور في سنته -
صلى الله عليه وسلم -.
(1/106)
فإن قال قائل: فقد وجدنا الدِّلالة على
أنَّ القُرَآن يَنْسخ القُرَآن، لأنه لا مثلَ للقرآن،
فأوْجِدْنا ذلك في السنة؟
قال "الشافعي": فيما وصفتُ مِن فرْضِ الله على الناس [ص:109]
اتباع أمر رسول الله: دليلٌ على أن سنة رسول الله إنما
قُبِلَتْ عن الله، فَمَنْ اتبعها فبِكتاب الله تَبِعَها، ولا
نجد خبراً ألزمه الله خلْقَه نصاً بَيِّناً إلا كتابَه ثم سنةَ
نبيه. فإذا كانت السنة كما وصفتُ، لا شِبْهَ لها مِنْ قول
خَلْقٍ من خلق الله: لَمْ يَجُزْ أن ينسخها إلا مثلُها، ولا
مثل لها غيرُ سنة رسول الله، لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما
جعل له، بل فرَض على خلقه اتباعَه، فألزمهم أمره، فالخلْق كلهم
له تبعٌ، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فُرِضَ عليه اتباعُه،
ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافُها، ولم
يقُمْ مَقامَ أنْ ينسخ شيئاً منها.
فإن قال: أفيَحْتَمِلُ أنْ تكون له سنة مأثورة قد نُسِخَتْ،
ولا تُؤْثَرُ السنة التي نَسَخَتْها؟
فلا يحتمل هذا، وكيف يَحْتَمِلُ أنْ يُؤثر ما وُضِع فرضُه،
ويُتْرَكَ ما يَلْزَم فرضُه؟! ولو جاز هذا خرجتْ عامةُ السنن
من أيدي الناس، بِأنْ يقولوا: لَعَّلها مَنْسوخَة، وليس
يُنْسَخُ فرضٌ أبداً إلا أُثْبِتَ مكانَه فرضٌ. كما نُسختْ
قِبْلة بيْت المَقْدِس، فأُثْبِتَ [ص:110] مكانَها الكعبةُ،
وكلُّ منسوخ في كتاب وسنة هكذا.
(1/108)
فإن قال قائل: هل تُنْسَخ السنةُ
بالقُرَآن؟
قيل: لو نُسخَت السنة بالقُرَآن، كانت للنبي فيه سنةٌ
تُبَيِّنُ أنَّ سنته الأولى منسوخة بسُنته الآخِرة حتى تقوم
الحجةُ على الناس، بأنَّ الشيء يُنْسَخ بِمِثْله.
[ص:111] فإنْ قال: ما الدليل على ما تقول؟
فما وصَفْتُ مِنْ مَوْضعه من الإبانة عن الله معنى ما أراد
بفرائضه، خاصاً وعاماً، مما وصفت في كتابي هذا، وأنه لا يقول
أبداً لِشيء إلا بحُكْم الله. ولو نسخ الله مما قال حكْماً،
لَسنَّ رسول الله فيما نسخه سنة.
ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله ثم نسخ سنتَه بالقُرَآن،
ولا يُؤْثَرُ عن رسول الله السنةُ الناسخةُ: جاز أن يقال فيما
حرم رسول الله من البُيوع كلِّها: قد يحتمل أن يكون حرَّمَها
قبل أن يُنزل عليه: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا (275) " [البقرة] ؛ وفيمن رجَم مِن الزناة: قد يحتمل
أن يكون الرجم منسوخاً لقول الله: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) "
[النور] ؛ وفي المَسْح [ص:112] على الخُفَّيْن: نَسَخت آيةُ
الوُضوء المسحَ؛ وجاز أن يقال: لا يُدْرَأُ عن سارق سرق من غير
حِرْزٍ، وسرِقَتُهُ أقلُّ من ربع دينار، لقول الله: "
السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (38) "
[المائدة] ، لأن اسم {السرقة} يَلْزَم من سرَق قليلاً وكثيراً،
ومن حِرز، ومن غيِر حرز؛ ولجاز رَدُّ كل حديث عن رسول الله،
بأن يقال: لم يقله، إذا لم يَجِدْه مثلَ التنزيل؛ وجاز رد
السنن بهذين الوجهين، فتُرِكَتْ كلُّ سنة معها كتابٌ جملةً
تحتمل سنتُه أنْ تُوَاِفقه، وهي لا تكون أبداً [ص:113] إلا
موافِقة له، إذا احتمل اللفظ فيما رُوِي عنه خلافَ اللفظ في
التنزيل بوجه، أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه أكثرُ مما في
اللفظ في التنزيل، وإنْ كان مُحتمِلا أن يخالفه من وجه.
وكتابُ الله وسنةُ رسوله تدل على خلاف هذا القول، وموافِقةٌ ما
قلنا.
وكتاب الله البيانُ الذي يُشْفى (1) به من العَمى، وفيه
الدلالة على موضع رسول الله من كتاب الله ودينه، واتباعِه له
وقيامه بتَبْيِينِه عن الله.
__________
(1) في النسخة المعتمدة بالياء والنون.
(1/110)
الناسخ والمنسوخ
الذي يدل الكتاب على بعضه، والسنة على بعضه.
(1/113)
قال "الشافعي": مما نَقَل بعضُ مَن سمعتُ
مِنه مِن أهل العلم، أن الله أنزل فَرْضاً في الصلاة قبل فرض
الصلوات الخمس، [ص:114] فقال: " يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ
مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ القُرَآن
تَرْتِيلًا (4) " [المزمل] ، ثم نَسَخَ هذا في السورة معه،
فقال: " إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ
ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ
الَّذِينَ مَعَكَ، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ،
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ القُرَآن، عَلِمَ أَنْ
سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ
مِنْهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (20) "
[المزمل] .
ولما ذكر الله بعد أمْره بقيام الليل نصْفِه إلا قليلاً، أو
لزيادة عليه، فقال: " أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ
(20) " [المزمل] ، فخَفَّفَ، فقال: " عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ
مِنْكُمْ مَرْضَى " قرأ إلى: " فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ
مِنْهُ (20) " [المزمل] .
قال "الشافعي": فكان بيِّناً في كتاب الله نسخُ [ص:115] قيام
الليل ونصفِه والنقصانِ من النصف، والزيادة عليه بقول الله: "
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (20) " [المزمل] .
فاحتمل قول الله: " فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (20) "
[المزمل] : معنيين:
- أحدهما: أن يكون فرضاً ثابتاً، لأنه أزِيل به فرض غيره.
- والآخر: أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره، كما أُزيل به
غيره، وذلك لقول الله: " وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا (79) " [الإسراء] ، فاحتمل قوله: " وَمِنْ
اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ "، أن يتهجَّد بغير
الذي فُرِض عليه، مما تَيَسَّرَ مِنه.
قال: فكان الواجب طلبَ الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين،
فوجدنا سنة رسول الله تدل على ألاَّ واجب من الصلاة إلا
الخَمسُ، فصِرنا إلى أن الواجب الخمسُ، وأن ما سواها من واجب
[ص:116] مِن صلاة قبلَها، منسوخ بها، استدلالاً بقول الله: "
فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ (79) " [الإسراء] ، وأنها
ناسخة لقيام الليل ونصفِه وثلثِه وما تيسر.
ولَسْنَا نُحِبُّ لأحد تركَ أن يتهجد بما يسره الله عليه من
كتابه، مُصَلِّيًا به، وكيف ما أكْثَرَ فهو أحبُّ إلينا.
أخبرنا "مالك" عن عمه "أبي سُهَيْل بن مالك" عن أبيه، أنه سمع
"طلحة بن عبيد الله" يقول: " جَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ
نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ
نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ
عَنْ الإسْلَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي
اليَوْمِ وَاللَّيْلَة، قاَلَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟
فَقَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ
رَسُولَ اللهِ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَان، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ
غّيْرُهُ؟ قَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ، فَأَدْبَرَ
الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلاَ
أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُوُل اللهِ: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ
" (1) .
[ص:117] ورواه "عُبادة بن الصامِت" عن النبي، أنَّهُ قال: "
خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَمَنْ
جَاءَ بِهِنَ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا،
اْسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ: كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا
(2) أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ " (3) .
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان/44؛ مسلم: كتاب الإيمان/12؛
النسائي: كتاب الصلاة/454؛
أبو داود: كتاب الصلاة/331؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/382.
(2) هكذا هي النصب وتقدم توجيه نحوها ص 103 غير أن ذاك التوجيه
لا يصلح هنا وانظر توجيه الكلام في ص 158
(3) النسائي: كتاب الصلاة/457؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1210؛
ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1391؛ أحمد: باقي
مسند الأنصار/21635؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/248.
(1/113)
|