الرسالة للشافعي باب: فرض الصلاة الذي دلَّ الكتاب ثم السنة
على من تزول عنه بعذر، وعلى من لا تُكتب صلاته بالمعصية.
(1/117)
قال الله تبارك وتعالى: " وَيَسْأَلُونَكَ
عَنْ الْمَحِيضِ؟ قُلْ: هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ
فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ،
فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ
اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ (222) " [البقرة] .
قال "الشافعي": افترض الله الطهارةَ على المُصَلِّي، فِي
الوُضوء والغسل مِن الجنَابَة، فلم تكن لغير طاهر صلاةٌ.
وَلَمَّا [ص:118] ذكر اللهُ المَحِيضَ، فأمَرَ باعتزال النساء
حتى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرْنَ أُتِينَ: استدلَلْنا على
أنَّ تَطَهُّرَهُنَّ بالماء: بعد زوال المحيض، لأن الماء موجود
في الحالات كلها في الحَضَر، فلا يكون للحائض طهارة بالماء،
لأن الله إنما ذكَرَ التَّطَهُّرَ بعد أنْ يَطْهُرْنَ،
وَتَطَهُّرُهُنَّ: زَوالُ المحيض، في كتاب الله ثم سنة رسوله.
أخبرنا "مالك" عن "عبد الرحمن بن القاسم" عن أبيه، عن "عائشة"،
وذَكَرَتْ إحرامَها مع النبي، وأنَّها حاضتْ، فأمَرَها أن
تَقْضي ما يقضي الحاجُّ: " غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي
بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي " (1) .
[ص:119] فاستدللنا على أنَّ الله إنَّمَا أراد بفرض الصلاة
مَنْ إذا تَوَضَّأ واغتسل طَهُرَ؛ فأما الحائض، فلا تَطْهر
بواحد منهما، وكان الحيض شيئاً خُلِقَ فيها، لم تَجْتَلِبْهُ
على نفسها فتكون عاصية به، فزال عنها فرض الصلاة أيام حيضها،
فلم يكن عليها قضاءُ ما تركتْ منها في الوقت الذي يزول عنها
فيه فرضُها.
__________
(1) البخاري: كتاب الحيض/294؛ مسلم: كتاب الحيض/2115؛ أحمد:
مسند باقي الأنصار/25139؛ مالك: كتاب الحج/821.
(1/117)
وقلنا في المُغْمى عليه، والمغلوب على عقله
بالعارض من أمر الله، الذي لا جَنابة له فيه، قِياساً على
الحائض، إن الصلاة عنه مرفوعة، لأنه لا يعْقِلها، ما دام في
الحال التي لا يعقل فيها.
(1/119)
وكان عامًّا في أهل العلم أن النبي لم يأمر
الحائض بقضاء الصلاة، وعاماً أنها أُمِرَتْ بقضاء الصوم،
فَفَرَقْنَا بَيْنَ الفَرْضَيْنِ، استدلالاً بما وصفتُ مِن
نقْل أهل العلم وإجماعهم.
[ص:120] @وكان الصوم مفارقَ الصلاة في أن للمسافر تأخيرَه عن
شهر رمضان، وليس له ترك يوم لا يصلي فيه صلاة السَّفر، وكان
الصوم شهراً مِن اثني عشر شهراً، وكان في أحدَ عشر شهراً
خَلِيًّا مِن فرض الصوم، ولم يكن أحد من الرجال - مطيقاً
بالفعل للصلاة - خَلِيًّا من الصلاة.
(1/119)
قال الله: " لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلَا
جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (43) "
[النساء] .
فقال بعض أهل العلم: نزلتْ هذه الآية قبْلَ تحريم الخمر (1) .
فدل القُرَآن - والله أعلم - على ألا صلاة لسكرانَ حتى يعلمَ
ما يقول، إذْ بدأ بنهيه عن الصلاة، وذكر معه الجُنُبَ، فلم
يختلف أهل العلم ألا صلاة لجُنُب حتى يَتَطَهَّرَ.
[ص:120] وإن كان نَهْيُ السكران عن الصلاة قبل تحريم الخمر:
فهو حين حُرِّم الخمرُ أَوْلى أن يكون منهياً، بأنه عاصٍ من
وجهين: أحدهما: أن يُصَلِّيَ في الحال التي هو فيها مَنْهِيٌّ،
والآخر: أنْ يَشْرَبَ الخمرَ.
والصلاة قول وعمل وإمساكٌ، فإذا لم يَعْقِل القول والعمل
والإمساك، فلم يأت بالصلاة كما أُمر، فلا تُجْزئ عنه، وعليه
إذا أفاق القضاءُ.
ويُفارق المغلوبُ على عقله بأمر الله الذي لا حِيلة له فيه:
السكرانَ، لأنه أدخل نفسه في السُّكر، فيكون على السكران
القضاء، دون المغلوب على عقله بالعارض الذي لم يَجْتَلِبْه على
نفسه فَيَكون عاصياً باجتلابه.
__________
(1) ثبت ذلك في حديثين عند أبي داود والترمذي والنسائي.
(1/120)
وَوَجَّهَ اللهُ رسوله للقبلة في الصلاة
إلى بيت المقدس، فكانت القبلةَ التي لا يحلُّ - قبل نسخها -
استقبالُ غيرها، ثم نسخ [ص:122] الله قبلة بيت المقدس،
ووجَّهَه إلى البَيْت، فلا يحل لأحد استقبال بيت المقدس أبداً
لَمَكْتوبةٍ، ولا يحل أن يستقبل غير البيت الحرام.
قال: وكلٌّ كان حقًّا في وقته، فكان التوجه إلى بيت المقدس -
أيامَ وجَّه اللهُ إليه نبيه - حَقًّا، ثم نَسَخَه، فصار
الحقُّ في التوجه إلى البيت الحرام أبداً، لا يحل استقبال غيره
في مكتوبة، إلا في بعض الخوْف، أو نافلةٍ في سفرٍ، استدلالاً
بالكتاب والسنة.
وهكذا كلُّ ما نسخ الله، ومعنى (نَسَخَ) : تَرَكَ فَرْضَه: كان
حقًّا في وقته، وترْكُه حقًّا إذا نسخه الله، فيكون من [ص:123]
أدرك فرضَه مُطيعاً به وبتركه، ومَن لم يُدْرِك فرضَه مُطيعاً
باتِّباع الفرْضِ الناسِخ له.
قال الله لنبيه: " قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (144) " [البقرة] .
فإن قال قائل: فأين الدلالة على أنهم حُوِّلوا إلى قِبْلةٍ بعد
قبلة؟
ففي قول الله: " سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ: مَا
وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؟
قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) " [البقرة] .
"مالك" عن "عبد الله بن دينار" عن "ابن عمر" [ص:124] قال: "
بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إذْ
جَاءَهمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ قَدْ أُنْزِلَ
عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرَآن، وَقَدْ أَُمِرَ أنْ يَسْتَقْبِلَ
القِبْلَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلىَ
الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إلىَ الكَعْبَةِ " (1) .
"مالك" عن "يحيى بن سعيد" عن "سعيد بن المُسَيِّب" [ص:125] أنه
كان يقول: " صَلَّى رَسُولُ اللهِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا
نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ حُوِّلَتْ القِبْلَةُ قَبْلَ
بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ " (2) .
__________
(1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4134؛ النسائي: كتاب
القبلة/737.
(2) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4132؛ النسائي: كتاب
الصلاة/484؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1000؛
أحمد: مسند بني هشام/2140؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/412.
(1/120)
قال: والاستدلال بالكتاب في صلاة الخوف
قولُ الله: " فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا
(239) " [البقرة] ، وليس لِمُصَلي المكتوبةِ أن يُصَلِّيَ
رَاكِبًا إلا في خوْف، ولم يذْكر الله أن يتَوجه القبلةَ. (1)
[ص:126] وروى "ابن عمر" عن رسول الله صلاةَ الخوفِ، فقال في
روايته: " فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا
رِجَالاً وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ وَغَيْرَ
مُسْتَقْبلِيهَا " (2) .
وصلى رسول الله النافلةَ في السَّفَرِ على راحلته أيْن
تَوجَّهتْ به؛ حَفِظَ ذلك عنه "جابر ابن عبد الله"، و"أنس بن
مالك" وغيرهما، وكان لا يصلي المكتوبة مُسافِراً إلاَّ بالأرض
مُتوجِّهاً للقبلة.
"ابن أبي فُدَيْك" عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "عثمان بن عبد الله
بن سُراقة" عن "جابر بن عبد الله": " أنَّ النَّبِيَّ كَانَ
يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُوَجِّهَةً بِهِ قِبَلَ
المَشْرِقِ فِي غَزْوَةِ بَنِي أنْمَارٍ " (3) .
__________
(1) منصوب بنزع الخافض: إلى القبلة.
(2) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4171؛ مالك كتاب النداء
للصلاة/396.
(3) مسند الشافعي: 192، 194؛ مسند أبي حنيفة: كتاب
المغازي/3909 وروي من طرق عن جابر رواه أحمد والالبخاري ومسلم
وأبو داود والترمذي يألفاظ مختلفة.
(1/125)
قال الله: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) " [الأنفال]
.
ثم أبان في كتابه: أنه وضَع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة،
وأَثْبَتَ عليهم أنْ يقوم الواحد بقتال الاثنين، فقال: "
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفًا، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
(66) "بالأنفال] .
أخبرنا "سفيان" عن "عمرو بن دينار" عن "ابن عباس" قال: "
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: " إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ [ص:128] يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (65) "
[الأنفال] ، كُتِبَ عَلَيْهِمْ ألاَّ يَفرَّ العِشْرِونَ مِنَ
المِائَتَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: " الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا " إلى: " يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ "، فَكَتَبَ أنْ لاَ يَفِرَّ المِائَةُ مِنَ
المِائَتَيْنِ " (1) .
قال: وهذا كما قال "ابن عباس" إن شاء الله، وقد بيَّن اللهُ
هذا في الآية، وليستْ تَحْتاج إلى تَفْسِيرٍ.
__________
(1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4285؛ الشافعي: كتاب
الجهاد/386.
(1/127)
قال: " وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ
مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ [ص:129] يَأْتِيَانِهَا
مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا، فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمَا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) "
[النساء] .
ثم نَسَخ الله الحبسَ والأذى في كتابه، فقال: " الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ (2) " [النور] .
فدلت السنة على أن جلد المِائة للزَّانِيَيْنِ البِكْرَيْن.
أخبرنا "عبد الوهاب" عن "يونس بن عُبَيْد" عن "الحَسَن" عن
"عُبادَة ابن الصامِت"، أنَّ رسولَ الله قال: " خُذُوا عَنِّي،
خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ
بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ
بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " (1) .
أخبرنا الثقة من أهل العلم، عن "يونس بن عُبَيْد" [ص:130] عن
"الحسن" عن "حِطَّانَ الرَّقَاشِيِّ" عن "عُبادة بن الصامت"،
عن النبي مِثْلَهُ.
[ص:131] قال: فدلّتْ سنةُ رسول الله أنَّ جَلْدَ المائة ثابت
على البِكْرين الحُرَّيْن، ومنسوخ عن الثَّيِّبَيْنِ، وأن
الرجْمَ ثابِت على الثَّيِّبَيْنِ الحُريْن.
لأنَّ قولَ رسول الله: " خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ
[ص:132] لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ باِلبِكْرِ، جَلْدُ
مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ
مِائَةٍ وَالرَّجْمُ "، أوَّلُ ما نَزَلَ، فنُسخ به الحبسُ
والأذى عن الزانِيَيْن.
فلَمَّا رجَمَ النبي "ماعِزاً" ولمْ يجْلِده، وأمر "أُنَيْسًا"
أن يَغْدُوَ على امرأة "الأسْلَمِي"، فإنْ اعترَفَتْ
رَجَمَهَا: دلَّ على نَسْخِ الجَلْد عن الزانيين الحُرَّيْن
الثَّيِّبَيْنِ، وثبتَ الرجمُ عليهما، لأن كل شيء أبداً بعد
أوَّلٍ فهو آخِرٌ.
[ص:133] فدل كتاب الله، ثم سنة نبيه، على أن الزانيين
المَمْلوكَيْن خارِجان من هذا المعنى.
__________
(1) مسلم: كتاب الحدود/1690؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2540؛
أحمد: مسند المكثرين/15345؛ مسند الشافعي: 252.
(1/128)
قال الله - تبارك وتعالى - في المَمْلوكات:
" فَإِذَا أُحْصِنَّ: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ
الْعَذَابِ (25) " [النساء] .
والنِّصْف لا يكون إلا من الجَلْدِ، الذي يَتَبَعَّضُ، فأما
الرَّجْم - الذي هو قتل - فلا نصفَ له، لأن المرجوم قد [ص:134]
يموت في أوَّل حَجَرٍ يُرْمى به، فلا يُزاد عليه، ويُرْمى
بألفٍ وأكثر فيُزادُ عليه حتى يموت، فلا يكون لهذا نِصف محدود
أبداً.
والحدود مُوَقَّتة بإتْلاف نفْسٍ، والإتلاف مُوَقَّتٌ بِعَدَدِ
ضَرْبٍ أو تحديد قطعٍ، وكل هذا معروف، ولا نصف للرجمِ
مَعْروفٌ.
[ص:135] وقال رسول الله: " إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ،
فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا " (1) ، ولم يقل:
(يَرْجُمْهَا) ، ولم يختلف المسلمون في ألاَّ رَجْمَ على
مَمْلُوكٍ في الزِّناَ.
وإحصانُ الأمة إسلامُها.
وإنما قلنا هذا استدلالاً بالسنة وإجماعِ أكْثرِ أهْل العِلْم.
ولَمَّا قال رسول الله: " إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ
فَتَبَيًّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا "، ولم يقل:
(مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةً) ، استدللنا
[ص:136] على أنَّ قول الله في الإماء: " فَإِذَا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] ، إذا
أسْلَمْنَ، لا إذا نُكِحْنَ فأُصِبْنَ بالنكاح، ولا إذا
أَعتَقْنَ وإنْ لَمْ يُصَبْن.
فإن قال قائل: أراكَ تُوقِع الإحْصان على معاني مختلف؟
قيل: نَعَم، جِماعُ الإحصان أن يكون دون التحصين مانعٌ من
تناول المُحَرَّم. فالإسلام مانع، وكذلك الحُرية مانعة، وكذلك
الزوجُ والإصابةُ مانع، وكذلك الحبس في البيوت مانع، وكلُّ ما
مَنَعَ أَحْصَنَ. قال الله: " وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ
لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ (80) " [الأنبياء] ،
وقال: " لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى
مُحَصَّنَةٍ (14) " [الحشر] ، يعني: ممنوعة.
قال: وآخِرُ الكلام وأوَّلُه يَدُلان على أن معنى الإحصان،
المذكورِ عامًّا في موضع دون غيره: أن الإحصان [ص:137] هاهُنَا
الإسلامُ، دون النكاح والحرية والتحصينِ بالحبس والعفاف. وهذه
الأسماءُ التي يَجْمعها اسم الإحصان.
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع/2080؛ مسلم: كتاب الحدود/3215؛ أحمد:
باقي مسند المكثرين/7088.
(1/133)
الناسخ والمنسوخ الذي تدلُّ عليه السنة
والإجماع.
(1/137)
قال الله - تبارك وتعالى -: " كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ
خَيْرًا: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) " [البقرة] .
قال الله: " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
[ص:138] أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى
الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ،
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) " [البقرة] .
فأنزل الله ميراثَ الوالِدَيْن ومن ورث بعدَهما ومَعَهما من
الأقْرَبِين، وميراثَ الزوج من زوجته، والزوجةِ من زوجها.
فكانت الآيتان محتملتين لأن تُثْبِتا الوصيةَ للوالدَيْن
والأقربين، والوصيَّةَ للزوج، والميراثَ مع الوصايا، فيأخذون
بالميراث والوصايا، ومحتملةً بأن تكون المواريث ناسخةً
للوَصَايَا.
فلَمَّا احتملتْ الآيتان ما وصفنا كان على أهل العلم طَلَبُ
الدِّلالة من كتاب الله، فما لم يجدوه نصاً في كتاب الله،
طَلَبُوه [ص:139] في سنة رسول الله، فإن وَجَدوه فما قَبِلُوا
عن رسول الله، فَعَنْ اللهِ قَبِلُوهُ، بما افْتَرَضَ مِن
طاعته.
ووَجدْنا أهلَ الفُتْيَا، ومَنْ حَفِظْنَا عنه مِنْ أهل العلم
بالمَغَازِي، مِنْ قُريش وغيرهمْ: لا يختلفون في أنَّ النبي
قال عامَ الفَتْحِ: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلاَ يُقْتَلُ
مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ "، ويَأْثُرُونه عَنْ مَنْ حَفظوا عنه
مِمَّنْ لَقُوا من أهل العلم بالمغازي.
فكان هذا نَقْلَ عامَّةٍ عنْ عامَّة، وكان أقوى في بعض الأمْرِ
من نقْلِ واحد عن واحد، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مُجتمعين.
قال: ورَوَى بعضُ الشَّامِيِّين حديثاً ليس مما يُثْبِتُه أهل
الحديث، فيه: أنَّ بعضَ رِجاله مجهولون، فَرَوَيْناه عن النبي
منقطِعًا.
[ص:140] وإنما قَبِلْنَاه بما وَصَفْتُ من نقْل أهل المغازي
وإجماع العامة عليه، وإن كُنَّا قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا
على حديثِ أهل المغازي عامًّا وإجماع الناس.
أخْبَرنا "سفيان" عن "سليمان الأحْوَل" عن "مجاهد"، أنَّ رسولَ
الله قال: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " (1) .
[ص:142] فاستدللنا بما وصفتُ، من نقْلِ عامَّة أهل المغازي عن
النبي أن: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "، على أنَّ المواريث
ناسخة للوصية للوالدين والزوجة، مع الخبر المُنْقَطع عن النبي،
وإجماعِ العامَّة على القول به.
وكذلك قال أكثرُ العامَّة: إن الوصية للأقربين [ص:143] منسوخة
زائلٌ فَرْضُها، إذا كانوا وارثين فبالميراث، وإن كانوا غَيْرَ
وارثين فليس بِفَرض أنْ يُوصي لهم.
إلاَّ أنَّ "طاوسًا" وقليلاً معه قالوا: نُسِخت الوصية
للوالدين، وَثَبَتَتْ للقرابة غير الوارثين، فَمَنْ أوْصَى
لغير قرابة لم يَجُزْ.
فلَمَّا احتملت الآية ما ذهب إليه "طاوس"، مِن أنَّ الوصيَّة
للقرابة ثابتة، إذْ لم يكن في خبر أهل العلم بالمغازي إلاَّ
أنَّ النبي قال: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "، وَجَبَ عِندنا
على أهل العلم طلبُ الدِّلالة على خِلاف ما قال "طاوس" أو
مُوَافَقَتِه:
فوجدنا رسول الله حَكَمَ في سِتَّةِ مَمْلُوكِينَ كانوا لرجل
لا مالَ له غيرُهم، فَأَعْتَقَهُم عند الموت، فَجَزَّأَهُم
النبيُّ ثلاثةَ أجزاء، فَأَعْتَقَ اثنين، وَأَرَقَّ أربعةً.
[ص:144] أخْبَرَنا بذلك "عبد الوهاب" عن "أيوب" عن "أبي
قِلابَة" عن "أبي المُهَلَّبِ" عن "عِمران بن حُصَينٍ" عن
النبي.
قال: فكانت دِلالة السنة في حديث "عِمران بن حُصَيْنٍ"
بَيِّنَةً بأن رسول الله أَنْزَلَ عِتْقَهم في المرض وصيَّةً.
[ص:145] والذي أعْتَقَهُمْ رجل من العَرَب، والعربيُّ إنَّما
يَمْلِكُ مَن لا قَرابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِن العَجَم، ِ
فأجازَ النبي لهم الوصيةَ.
فدلَّ ذلك على أن الوصية لو كانت تَبْطُلُ لِغير قرابة:
بَطَلَتْ لِلْعبيد المُعْتَقين، لِأنَّهم ليسوا بِقَرَابة
للمُعْتِق.
ودلَّ ذلك على أنْ لا وصيةَ لِمَيِّت إلا في ثُلُثِ ماله، ودل
ذلك على أنْ يُرَدَّ ما جَاوَزَ الثلثَ في الوصية، وعَلَى
إبْطال الاستسعاء، وإثْبَات القَسْمِ والقُرْعَة.
وبَطَلَتْ وصية الوالدين، لأنهما وارِثان، وثَبَتَ مِيراثُهما.
ومَن أوْصَى له المَيِّتُ مِن قَرَابةٍ وغيرِهِم، جَازَتْ
الوصيةُ، إذا لم يكن وارِثاً.
وأحَبُّ إليَّ لوْ أوْصى لِقَرابَته.
__________
(1) الترمذي: كتاب الوصايا/2046؛ النسائي: كتاب الوصايا/3581؛
أبو داود: كتاب الوصايا/2486؛ ابن ماجه: كتاب الوصايا/2704.
(1/137)
وفي القُرَآن ناسخٌ ومنسوخٌ غيرُ هذا،
مُفَرَّقٌ في مَواضِعِهِ، في كتاب (أحكام القُرَآن) .
وإنما وصفتُ مِنه جُمَلًا يُسْتدل بها على ما كان في [ص:146]
معناها، ورأيت أنها كافِيَةٌ في الأصل مِمَّا سَكَتُّ عنه،
وأسْألُ اللهَ العِصْمةَ والتوْفيقَ.
وأتْبَعْتُ ما كتبتُ منها علمَ الفرائض التي أَنْزلها الله
مُفَسَّرَاتٍ وجُمَلًا، وسُنَنَ رسول الله معها وفيها
لِيَعْلَمَ مَنْ عَلِم هذا مِن علم (الكتاب) ، الموضعَ الذي
وَضَعَ الله به نَبِيَّه مِن كتابِه ودينِه وأهلِ دينِه.
ويَعْلمون أن اتِّباعَ أمْره طاعةُ الله، وأنَّ سُنَّتَه
تَبَعٌ لكتاب الله فيما أنْزَلَ، وأنها لا تخالف كتاب الله
أبداً.
ويَعْلَمُ مَنْ فَهِمَ (هذا الكتاب) أنَّ البيان يكون من وجوه،
لا مِن وَجْهٍ واحد، يَجْمَعُها أنها عند أهل العلم بَيِّنَةٌ
ومُشْتَبِهَةُ البَيَانِ، وعند مَن يُقَصِّرُ عِلْمُه مُخْتلفة
البَيَانِ.
(1/145)
|