الرسالة للشافعي

باب: الفرائض التي أنزل الله نصاً.

(1/146)


قال الله - جل ثناؤه -: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) " [النور] .
قال "الشافعي": فالمُحْصنَات هاهنا البَوَالِغ الحرائر. وهذا يدل على أن الإحصان اسم جامع لمعاني مختلفة.
وقال: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ (9) " [النور] .
[ص:148] فلما فَرَقَ اللهُ بَيْن حُكم الزوجِ والقاذِف سِواه، فَحَدَّ القاذِفَ سِواه، إلا أنْ يَأْتِيَ بأربعة شُهَدَاء، على ما قال، وأخرجَ الزوجَ بالِّلعَان من الحَدِّ: دل ذلك على أنَّ قَذَفَةَ المُحْصَنات، الذين أُريدوا بالجلد: قذفةُ الحرائرِ البوالِغِ غير الأزْواجِ.
وفي هذا الدليلُ على ما وصفتُ، مِن أنَّ القُرَآن عَرَبي، يكون منه ظاهِرُه عامًّا، وهو يراد به الخاص، لا أنَّ واحِدَة من الآيتين نَسَخَتْ الأُخْرى، ولكن كلُّ واحدة منهما على ما حَكَمَ اللهُ به، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهما حيث فَرَقَ اللهُ، ويُجْمَعان حَيْث جَمَعَ اللهُ.
فإذا الْتَعَنَ الزوجُ خرج من الحد، كما يَخرج الأَجْنَبِيُّون بالشُّهود، وإذا لم يَلتعنْ - وزوجتُه حُرةٌ بالغة - حُدَّ.
قال: وفي "العَجْلَانِيِّ" وزوجتِهِ أُنزلت آيةُ اللَّعان، ولاَعَنَ النبيُّ بَيْنَهما، فَحَكَى اللعانَ بَيْنهما "سهل بن سعد الساعِدي"، [ص:149] وحَكاه "ابن عباس"، وحَكَى "ابن عمر" حضورَ لِعانٍ عندَ النبيِّ، فَمَا حَكَى مِنهم واحد كيفَ لَفْظُ النبيِّ في أمْرِهما باللِّعانِ.

(1/147)


وقد حَكَوْا معًا أحكاماً لرسول الله ليست نصًّا في القُرَآن، منها: تَفْريقه بَيْن المُتَلاعِنين، ونَفْيُه الولدَ، وقولُه: " إنْ جَاءَتْ بِهِ هَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي يَتَّهِمُهُ " فَجاَءَتْ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ، وَقَالَ: إنَّ أَمْرَهُ لَبَيِّنٌ لَوْلاَ مَا حَكَى اللهُ "، وحكى "ابن عباس" أنَّ النبي قال عند الخامسة: " قَفُوهُ فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ " (1) .
فاستَدْلَلْنا على أنهم لا يَحْكُونَ بَعضَ ما يُحتاج إليه مِن الحديث، ويَدَعُون بعضَ ما يُحتاج إليه مِنه، وأَوْلاَهُ أنْ يُحْكَى مِن ذلك، كيْفَ لاَعَنَ النبيُّ بَيْنهما: إلاَّ عِلماً بأنَّ أحَداً قَرَأ كتابَ [ص:150] الله، يَعْلم أنَّ رسولَ الله إنَّمَا لاَعَنَ كما أَنْزل اللهُ.
فَاكْتَفَوْا بإبانَةِ اللهِ اللعانَ بالعَدَد والشهادةِ لكلَّ واحدٍ مِنهما، دون حِكايةِ لفظِ رسول الله حِينَ لاَعَنَ بَيْنَهما.
قال "الشافعي": في كتاب الله غايةُ الكِفَايَة عَن اللعانِ وعدَدِهِ.
ثم حَكَى بعضُهم عَن النبيِّ في الفُرْقَة بَيْنهما كما وَصَفْتُ.
وقد وصفْنا سننَ رسولِ الله مَعَ كتابِ اللهِ قَبْلَ هذا.
__________
(1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4378؛ الترمذي: كتاب تفسير القُرَآن/3103؛
النسائي: كتاب الطلاق/3415؛ أبو داود: كتاب الطلاق/1923.

(1/149)


قال الله: " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ... (184) " [البقرة] ، " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا (185) " [البقرة] .
ثم بَيَّن أيَّ شهر هو، فقال: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرَآن هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) " [البقرة] .
قال "الشافعي": فما علمتُ أحداً مِن أهل العلم بالحديث [ص:158] قَبْلنا تكلَّفَ أنْ يرْوِيَ عن النبي أنَّ الشهر المفروض صومه شهرُ رمضان الذي بَيْن شعبان وشوالٍ، لمعرفتهم بشهر رمضان مِن الشهور واكتفاءً منهم بأن الله فَرَضَهُ.
وقد تَكَلَّفوا حفظَ صومه في السفر وفطرِه، وتكلَّفوا كيف قَضَاؤه، وما أشبهَ هذا، مما ليس فيه نص كتاب.
ولا علمْتُ أحداً من غير أهل العلم احْتَاجَ في المسألة عن شهر رمضان: أيُّ شهرٍ هو؟ ولا: هل هو واجب أم لا؟
وهكذا ما أنزل الله من جُمَل فَرَائضه، في أنَّ عليهم صلاةً وزكاةً وحجًا على مَنْ أطاقه، وتحريِمِ الزنا والقتل وما أشْبَهَ هذا.

(1/157)


قال: وقد كانت لرسول الله في هذا سُنَنًا (1) ليست [ص:159] نصًّا في القُرَآن، أبان رسولُ الله عَنْ الله معنى ما أراد بها، وتكلَّم المسلمون في أشياءَ مِن فُروعها، لمْ يَسُنَّ رسولُ الله فيها سُنَّة مَنْصوصةً.
- فمِنها: قولُ الله: " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا (230) " [البقرة] .
فاحتمل قولُ الله: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) : أن يتزوجها زوجٌ غيرُه، وكان هذا المعنى الذي يَسْبِق إلى مَنْ خوطب به: أنها إذا عُقِدَتْ عليها عُقْدةُ النكاحِ فقد نَكَحَتْ.
واحتمل: حتى يُصِيبها زوجٌ غيرُه لأن اسْم (النكاح) يَقَعُ بالإصابة، ويقع بالعقد.
فلَمَّا قال رسولُ الله لامْرأة طلَّقَها زوجُها ثَلَاثًا ونَكَحَها بَعْدَه رجلٌ: " لاَ تَحِلِّينَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ [ص:160] وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ "، يعني: يُصيبك زوج غيره؛ والإصابة: النكاح.
فإن قال قائل: فاذْكر الخبَرَ عَنْ رسولِ الله بما ذكرْتَ.
قيل: أخبرنا "سفيان" عن "ابن شهاب" عن "عروة" عن "عائشة": " أنَّ امْرَأةَ رِفَاعَةَ [ص:161] جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ، فَقَالَتْ: إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وَإنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَنِي، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ (2) ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " (3) .
قال "الشافعي": فَبَيَّن رسولُ الله، أنَّ إحلالَ الله إيَّاها للزوج المُطَلِّقِ ثلاثاً بَعْدَ زَوْجٍ بالنكاح: إذا كانَ مَع النِّكاحِ إصابَةٌ مِن الزوجِ.
__________
(1) هكذا ضُبط بالنصب ومضى نحو هذا ص 103 و 117 وسيأتي ص 174 وهذا يجعل تخطئته مجازفة كبيرة. قال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على ص 174 ((والذي يبدو لي أن تكون هناك لغة غريبة لم تنقل إلينا ... والظاهر أنه بنصب معمولي كان)) وهو ما أميل إليه.
(2) شَبَّهتْ ذَكَرَه - في الاسترخاء وعدم الانتشار عند الإفضاء -، بهدبة الثوب. [المصباح المنير - الفيومي] .
(3) البخاري: كتاب الشهادات/2445؛ مسلم: كتاب النكاح/2587؛ النسائي: كتاب الطلاق/3356؛ أبو داود: كتاب الطلاق/1965؛ الترمذي: كتاب النكاح/1037؛
ابن ماجه: كتاب النكاح/1922.

(1/158)


الفَرائض المَنْصُوصة التي سَنَّ رسول الله معها.

(1/161)


قال الله - تبارك وتعالى -: " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [ص:162] وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا (6) " [المائدة] .
وقال: " وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (43) " [النساء] .
فأبان أنَّ طهارَةَ الجُنُب الغُسْلُ دُون الوُضوء.

(1/161)


وسَنَّ رسولُ الله الوضوءَ كما أَنْزَلَ اللهُ: فَغَسَلَ وَجْهه ويَدَيْه إلى المِرْفَقَيْن، ومسح بِرَأسه، وغسَلَ رِجْليه إلى الكَعْبَيْن.
أخْبَرَنا "عبد العزيز بن محمد" عن "زيد بن أسْلَمَ" عن "عطاء بن يَسَارٍ" عن "ابن عباس" عن النبي: " أنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً " (1) .
أخْبَرنا "مالك عن عمرو بن يحيى" عن أبيه، أنه قال "لعبد الله بن زيد"، وهو جد "عمرو بن يحيى": " هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ [ص:163] تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ "عَبْدُ اللهِ": نَعَمْ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إلَى المِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاه، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ " (2) .
[ص:164] فَكان ظاهِرُ قولِ الله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، أقلَّ ما وَقع عليه اسم الغَسْل، وذلك مَرَّةٌ، واحْتَملَ أكثرَ.
فسَنَّ رسولُ الله الوُضوءَ مَرَّةً، فَوافَقَ ذلك ظاهرَ القُرَآن، وذلك أقلُّ ما يَقع عليه اسمُ الغَسْل، واحتمل أكثر، وسنَّهُ مَرَّتَيْن وثلاثاً.
فلمَّا سنَّهُ مرة استدللنا على أنَّه لوْ كانتْ مرَّةٌ لا تُجْزِئ: لم يتوضأْ مرةً ويُصَلي، وأنَّ ما جاوَزَ مرةً اخْتِيَارٌ، لا فرضٌ في الوضوء لا يجزئ أقلُّ مِنْه.
[ص:165] وهذا مثلُ ما ذكرتُ مِن الفرائض قَبْله: لو تُرِك الحديث فيه اسْتُغْنِيَ فيه بالكتاب، وحين حُكِيَ الحديثُ فيه دلَّ على اتباعِ الحديث كتابَ الله.
ولعلَّهم إنما حَكَوُا الحديثَ فيه لأنَّ أكثرَ ما تَوَضَّأَ رسولُ الله ثلاثاً، فأرادوا أن الوضوءَ ثلاثاً اختيارٌ، لا أنه واجبٌ لا يجزئُ أقلُّ منه، ولما ذُكِرَ منه في أنَّ " مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوءَه هَذَا - وَكَانَ ثَلاَثاً - ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا، غُفِرَ لَهُ " (3) ؛ فأرادوا طَلَبَ الفَضْل في الزيادة في الوضوء، وكانتْ الزيادةُ فيه نافِلَةً.
وغَسَلَ رَسُولُ الله في الوضوء المِرْفَقَيْنِ والكَعْبَين، وكانت الآية محتملةً أن يكونا مَغْسولين وأن يَكُونَ مغْسولاً إليهما، ولا يكونان مغسولَيْن، ولعلهم حَكَوا الحديثَ إبانَةً لهذا أيضاً.
وأشْبَهُ الأمريْن بظاهر الآية أن يكونا مغسولَيْن.
[ص:166] وهذا بيانُ السُّنَّة مع بَيانِ القُرَآن.
وسَوَاءٌ البيانُ في هذا وفيما قَبْله، ومُسْتَغْنىً بِفرْضه بالقُرَآن عند أهْل العلْم، ومُخْتلِفان عند غيْرِهم.
__________
(1) الترمذي: كتاب الطهارة/40؛ النسائي: كتاب الطهارة/79؛ أبو داود: كتاب الطهارة/119؛ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها/404؛أحمد: مسند العشرة المبشرين/144.
(2) النسائي: كتاب الطهارة/96؛ أبو داود: كتاب الطهارة/103؛ ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها/428؛ أحمد: مسند المدنيين/15836؛ مالك: كتاب الطهارة/29.
(3) البخاري: كتاب الوضوء/155؛ مسلم: كتاب الطهارة/332؛ النسائي: كناب الطهارة/83؛ أبو داود: كتاب الطهارة.

(1/162)


وسن رسول الله في الغسل من الجَنابَةِ غُسْلَ الفَرْج والوُضوءَ كوُضوءِ الصلاةِ ثم الغُسْلَ، فكذلك أحْبَبْنَا أنْ نَفْعلَ.
ولم أعلم مُخَالفًا حفظْتُ عنه مِن أهل العلم في أنَّه كيْف ما جاء بِغُسْلٍ وأتَى على الإسْباغ: أجْزَأهُ، وإنْ اختاروا غيْرَه، لأن الفرضَ الغُسْلُ فيه، ولم يُحَدَّدْ تحديدَ الوُضوءِ.
وسنَّ رسولُ الله فيما يَجِبُ منه الوضوءُ، وما الجنابةُ التي يَجِبُ بها الغُسْلُ، إذْ لم يكنْ بعضُ ذلك منصوصاً في الكتاب.

(1/166)


الفرْضُ المنصوص الذي دلَّتْ السنةُ على أنه إنما أراد الخاصَّ.

(1/166)


قال الله - تبارك وتعالى -: " يَسْتَفْتُونَكَ. قُلْ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ، إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ (176) " [النساء] ،
وقال: " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) " [النساء] .
وقال: " وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ. آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً [ص:168] مِنْ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ (12) " [النساء] .
وقال: " وَلَهُنَّ الرُّبُعُ (12) " [النساء] ، مع آيِ المَوارِيثِ كلِّها.
فدلَّتْ السنة على أن الله إنما أراد مِمَّنْ سمَّى له المواريثَ، من الإخوة والأخواتِ، والولد والأقارب، والوالدَيْنِ والأزواج، وجَمِيع مَنْ سمَّى له فريضةً في كتابه، خاصَّا مِمَنْ سمى.
وذلك أن يجتمع دينُ الوارثِ والمَوْروث، فلا يختلفان، ويكونان مِن أهْل دار المسلمين، ومن له عَقْدٌ من المسلمين يَأْمَنُ به على ماله ودَمِه، أو يكونان من المُشْركين، فيَتَوَارَثان بالشِّرْك.
أخْبَرَنا "سفيان" عن "الزهري" عن "علي بن حسين" [ص:169] عن "عمرو بن عثمان بن أسامة بن زيد"، أنَّ رسولَ الله قال: " لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ " (1) .
[ص:170] وأن يكون الوارِثُ والمَوْرُوثُ حُرَّيْنِ مع الإسلام.
__________
(1) البخاري: كتاب الفرائض/6267؛ مسلم: كتاب الفرائض/3027؛ الترمذي/2033؛
أبو داود: كتاب الفرائض/2521؛ ابن ماجه: كتاب الفرائض/2719.

(1/167)


أخبرنا "ابن عُيَيْنَة" عن "ابن شهاب" عن "سالم" عن أبيه، أنَّ رسولَ الله قال: " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالُ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلاَّ أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ " (1) .
قال: فلما كان بَيِّنًا في سنة رسول الله أنَّ العبدَ لا يَمْلِكُ مالاً، وأن مَا مَلَكَ العبدُ فإنما يَمْلِكُهُ لِسَيِّدِهِ، وأن اسمَ المالِ له إنما هو إضافةُ إليه، لأنه في يَدَيْهِ، لاَ أنَّهُ مالكُ لَه، ولا يكون مَالِكًا له وهو لا يَمْلِك نفْسَهُ، وهو مملوكٌ، يُبَاعُ ويُوهَبُ ويُورثُ، [ص:171] وكان الله إنما نَقَلَ مِلْكَ الموْتَى إلى الأحياءِ، فملكوا منها ما كان الموْتى مالكِينَ، وإنْ كان العبدُ أبًا أو غيرَه مِمَنْ سُمِّيَتْ له فَريضةٌ، فكان لوْ أُعْطِيَهَا مَلَكَها سيِّدُهُ عليه، لم يكن السيدُ بِأَبِي الميِّتِ ولا وارثاً سُميتْ له فريضةٌ، فَكُنَّا لو أعْطَيْنَا العبدَ بأنه أب، إنما أعْطَيْنَا السيدَ الذي لا فريضةَ له، فَوَرَّثْنَا غيرَ مَن وَرَّثَهُ اللهُ، فلم نُوَرِّثْ عبداً لِمَا وصفتُ، ولا أحداً لم تجتمعْ فيه الحُرِّيَّةُ والإسلامُ والبراءةُ من القتل، حتى لا يكونَ قاتلاً.
وذلك أنه رَوَى "مالك" عن "يحيى بن سعيد عن عمرو بن شُعَيْبٍ"، أنَّ رسول الله قال: " ليس لقاتل شيء " (2) .
[ص:172] فلم نُوَرِّثْ قاتِلاً ممن قتل، وكان أخفُّ حالِ القاتل عَمْداً أنْ يُمْنَعَ الميراثَ عُقُوبةً، مع تَعَرُّضِ سَخَط اللهِ، أنْ يُمْنَعَ ميراثُ مَنْ عَصَى اللهَ بالقتل.
__________
(1) مسلم: كتاب البيوع/2854؛ الترمذي: كتاب البيوع/1165؛ النسائي: كتاب البيوع/4557؛ أبو داود: كتاب البيوع/2977؛ أحمد: مسند المكثرين من الصحابة/4324؛ مالك: كتاب البيوع/1119.
(2) أبو داود: كتاب الديات/3955؛ أحمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة/329؛ مالك: كتاب العقول/1365.

(1/170)


وما وصفتُ، مِنْ ألا يَرِثَ المُسلمَ إلا مسلمُ حرٌّ غيرُ قاتلٌ عَمْداً، مَا لاَ اختلافَ فيه بَيْنَ أحدٍ مِن أهل العلم حفظتُ عنه بِبَلدنا ولا غَيْرِهِ.
وفي اجتماعهم على ما وَصَفْنَا مِنْ هذا حجةٌ تَلْزمهم [ص:173] ألا يَتَفَرَّقوا في شيء مِنْ سُنَنِ رسولِ الله، بأنَّ سننَ رسول الله إذا قامتْ هذا المَقام فيما لِلَّهِ فيه فرضٌ منصوص، فدلتْ على أنه على بعضِ من لَزِمَهُ اسمُ ذلك الفرْضِ دون بعض: كانت فيما كان مِثْلَه مِن القُرَآن: هكذا، وكانت فيما سَنَّ النبيُّ فيما ليسَ فيه لله حُكْمٌ منصوص: هكذا.

(1/172)


وأوْلَى أنْ لا يَشُكَّ عالمٌ في لزومها، وأنْ يعْلم أنَّ أحكامَ اللهِ ثمَّ أحكامَ رسولِه لا تختلف، وأنها تجري على مثال واحد.
قال الله - تبارك وتعالى -: " لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (29) " [النساء] .
وقال: " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) " [البقرة] .
ونَهَى رسولُ الله عَن بُيُوعٍ تَرَاضَى بِها المُتَبَايِعان، [ص:174] فحُرِّمتْ، مثلُِ الذَّهَبِ بِالذهبِ إلا مِثْلاً بِمِثلٍ، ومثلُِ الذهب بالوَرِق وأحدُهُما نَقْدٌ والآخر نَسِيَّةٌ (1) ، وما كان في معنى هذا، مما ليس في التَّبَايعِ به مُخَاطَرَة، ولا أمرٌ يَجْهَلُه البائِع ولا المُشْتَرِي.
فدلتْ السنةُ على أنَّ الله - جل ثناؤه - أرادَ بإحْلالِ البَيْعِ ما لم يُحَرِّمْ مِنْهُ، دون ما حَرَّمَ على لسان نَبِيِّه.
ثم كانت لرسول الله فِي بيوعٍ سِوَى هذا سُنَنًا (2) مِنْها: [ص:175] العبدُ يُباعُ، وقد دلَّسَ البائعُ المُشْتَرِيَ بِعَيْبٍ، فَلِلْمُشترِي ردُّه، وله الخَراجُ بِضَمَانِهِ. ومنها: أنَّ مَن باع عبْداً وله مال، فمالُهُ للبائِعِ إلا أن يشترطه المبتاعُ. ومنها: من باع نَخْلًا قدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرُها للبائعِ إلا أن يشترط المبتاع، لَزِمَ الناسَ الأخذُ بِها، بما ألْزَمَهم اللهُ مِن الانتهاءِ إلى أمره.
__________
(1) أي نسيئة سُهِّلت وقرأ ورش وأبو جعفر (إنما النَّسِيُّ) [التوبة 37]
(2) تقدم توجيه هذا ونحوه من العربية.

(1/173)


جُمَلُ الفَرَائِضِ.

(1/175)


قال الله - تبارك وتعالى -: " إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) " [النساء] .
وقال: " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (43) " [النساء] .
وقال لِنَبِيِّهِ: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (103) " [التوبة] .
وقال: " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (97) " [آل عمران] .
قال "الشافعي": أحكمَ اللهُ فرضَه في كتابِهِ [ص:177] في الصَّلاةِ والزكاةِ والحجِّ، وَبَيَّنَ كيْف فَرَضَهُ على لسان نَبِيِّهِ.
فأخْبَرَ رسولُ اللهِ أنَّ عَدَدَ الصلواتِ المفروضاتِ: خَمْسٌ، وأخبر أن عدد الظهر والعصر والعشاء في الَحَضَرِ: أرْبَعٌ أرْبَعٌ، وعددَ المغرب: ثلاثٌ، وعددَ الصبْح: ركعتان.
وسَنَّ فيها كلِّها قِراءةً، وسنَّ أنَّ الَجْهَر مِنها بالقِراءة: في المغرب والعشاء والصبح، وأنَّ المخافتةَ بالقِراءة: في الظهر والعصر.
وسَنَّ أنَّ الفرْضَ في الدخول في كلِّ صلاة بِتَكْبِير، والخُروجَ مِنها بتَسْليمٍ، وأنه يُؤْتَى فيها بتكبير، ثم قِراءةٍ، ثم رُكُوعٍ، ثم سَجْدَتَيْن بعد الرُّكوع، وما سِوَى هذا مِنْ حُدُودِها.

(1/176)


وسَنَّ في صلاة السفر قَصْرًا، كلَّما كان أرْبَعًا من الصلواتِ، إنْ شاءَ المُسافِرُ، وإثباتَ المَغْرب والصبح على حالها في الحضر.
وأنها كلَّها إلى القِبْلَة، مسافراً كان أوْ مُقِيماً، إلا في حالٍ مِن الخَوْفِ واحدةٍ.

(1/177)


وسن أنَّ النَّوَافِلَ في مِثْل حالها، لا تَحِلُّ إلاَّ بِطُهُورٍ، ولا تجوز إلا بقِراءة، وما تجوز به المكتوباتُ من السجود والركوع واستقبال القبلة في الحَضر وفي الأرْض وفي السفر، وأنَّ للرَّاكِب أنْ يصلِيَ في النَّافِلة حيث توجَّهَتْ بِه دابَّتُهُ.
أخْبَرَنا "ابن أبي فُدَيْكٍ" عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "عثمان بن عبد الله بن سُراقَةَ" عن "جابر بن عبد الله": " أنَّ رسولَ اللهِ فِي غَزْوَةِ بَنِي أنْمَارٍ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا قِبَلَ المَشْرِقِ " (1) .
أخبرنا "مسلم (2) " عن "ابن جُرَيْجٍ" عن "أبي الزبير" عن "جابر" عن النَّبِيِّ مِثْلَ مَعْناه، لا أدْرِي، أسَمَّى بَنِي أنْمَارٍ أو لا؟ أو قال: " صَلَّى فِي سَفَرٍ ".
__________
(1) مسند الشافعي: 192، 194؛ مسند أبي حنيفة: كتاب المغازي/3909.
(2) هو ابن خالد الزنجي.

(1/178)


وسنَّ رسولُ الله في صَلاة الأعْيَاد، والاسْتِسْقَاءِ سنة الصلوات في عدد الركوع والسجود، وسنَّ في صلاة الكسوف، فزاد فيها ركعةً على ركوع الصلوات، فجَعَلَ في كل ركعة ركعتَيْنِ.
قال: أخبرنا "مالك" عن "يحيى بن سعيد بن عَمْرَةَ" عن "عائشة" عن النّبِيِّ.
وأخبرنا "مالك" عن "هشام" عن أبيه، عن "عائشة" عن النبي.
قال: "مالكٌ" عن "زيد بن أسْلَمَ" عن "عطاء بن يَسَار" عن "ابن عباس" عن النبي مِثْلَه.
قال: فَحُكِيَ عن "عائشة"، و"ابن عباسٍ" في هذه الأحاديث، صلاةُ النبي بِلَفْظٍ مختلفٍ، واجتمع في حديثهما معاً على أنه صَلَّى صلاةَ الكُسُوفِ ركعتين، في كل ركعة ركعتين.
[ص:180] وقال الله في الصلاة: " إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) " [النساء] .
فَبَيَّنَ رسولُ الله عَن الله تِلك المَوَاقيتَ، وصلى الصلوات لوقتها، فحُوصرَ يومَ الأحْزابِ، فلم يَقْدر على الصلاة في وقتها، فأخَّرَها للعُذْر، حتى صَلَّى الظهرَ والعصرَ والمغرِبَ والعشاءَ في مَقَامٍ واحِدٍ.
أخبرنا "محمد بن إسماعيلَ بن أبي فُدَيْكٍ" عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "المَقْبُرِيِّ" عن "عبد الرحمن بن أبي سعيد" عن أبيه، قال: " حُبِسْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، حَتّى كَانَ بَعْدَ المَغْرِبِ بِهَوِيٍّ (1) مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: " وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) " [الأحزاب] ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ بِلَالاً فَأَمَرَهُ، فَأَقَامَ الظُّهْرَ فَصَلَّاها، [ص:181] فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا، كَمَا كَانَ يُصَلِيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ العَصْرَ فَصَلَّاهَا هَكَذَا، ثُمَّ أَقَامَ المَغْرِبَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ العِشَاءَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ فِي صَلَاةِ الخَوْفِ: " فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (239) " [البقرة] (2) .
قال: فَبَيَّنَ "أبو سعيد" أنَّ ذلك قَبْل أنْ يُنَزِّلَ اللهُ على النبي الآيةُ التي ذُكرتْ فيها صلاةُ الخوْف.
والآيةُ التي ذُكِرَ فيها صَلَاةُ الخوف قوْلُ اللهِ: " وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا [ص:182] لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) " [النساء] ، وقال: " وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ، فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ (102) " [النساء] .
أخبرنا "مالك" عن "يزيد بن رُومَانَ" عن "صالح بن خَوَّاتٍ" عَنْ مَنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَاةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقاَعِ: " أنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وُجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَت الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكعَةَ التَّيِ بَقِيَتْ مِنْ َصَلاَتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ " (3) .
[ص:183] أخبرني مَنْ سَمِعَ "عبدَ الله بن عمر بن حَفْصٍ" يَذْكُرُ عن أخيه "عُبَيْدِ الله بن عمرَ" عن "القاسم بن محمد" عن "صالح بن خَوَّاتٍ" عن أبيه "خوَّات بن جُبَيْرٍ" عن النبي مِثْلَ حديثِ "يزيد بن رومان".
__________
(1) بفتح الهاء ويجوز ضمها.
(2) أحمد: باقي مسند المكثرين/10769؛ الدارمي: كتاب الصلاة/1483؛ مسند الشافعي: 553.
(3) البخاري: كتاب المغازي/3817؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1390؛
النسائي: كتاب صلاة الخوف/1519؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1049؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/394.

(1/179)


وفي هذا دلالة على ما وصفتُ قبْلَ هذا في (هذا الكتاب) : مِنْ أن رسول الله إذا سَنَّ سنةً فأحدَثَ اللهُ إليه [ص:184] في تلك السنَّةِ نَسْخَهَا أو مَخْرَجًا إلى سَعَةٍ منها: سنَّ رسولُ الله سنةً تقومُ الحجةُ على الناس بها، حتى يكونوا إنَّمَا صاروا من سُنَّتِهِ إلى سُنَّتِهِ التي بَعْدَهَا.
فنَسَخَ اللهُ تأخير الصلاة عَنْ وَقْتِها في الخوف إلى أنْ يُصَلُّوها - كما أنزل الله وسنَّ رسولُه - في وَقْتها، ونسخ رسول اللهُ سنتَه في تأخيرها بِفَرْض الله في كتابه ثم بِسُنته، صَلاها رسول الله في وقتها كما وصفتُ.
أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر"، أُرَاهُ عن النبي، [ص:185] فَذَكَرَ صلاةَ الخوف، فقال: " إنْ كَانَ خَوْفٌ أشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالاً وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلِةِ أوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا " (1) .
أخبرنا رجلٌ عن "ابن أبي ذِئْب" عن "الزهري" عن "سالم"، عن أبيه، عن النبي مِثْلَ مَعْناه، ولم يَشُكَّ أنه عن أبيه، وأنه مَرْفوع إلى النبي.
[ص:186] قال: فدلتْ سنةُ رسول الله على ما وصفتُ، مِن أن القِبلة في المكتوبة على فَرْضِها أبَداً، إلا في الموضع الذي لا يُمْكِن فيه الصلاةُ إليها، وذلك عند المُسَابقَةِ والهَرَب وما كان في المعنى الذي لا يُمْكن فيه الصلاة إليها.
وثبتت السنة في هذا، ألاَّ تُتْرَكَ الصلاةُ في وَقْتها، كيف ما أمْكَنَتْ المُصَلِّي.
__________
(1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4171؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/396.

(1/183)