(1/210)
قال "الشافعي": قال لِي قائِلٌ: فَإنَّا
نَجِدُ مِن الأحاديثِ عَن رسولِ الله أحاديثَ في القُرَآن
مِثْلُها نَصًّا، وأخْرَى في القُرَآن مثلُها [ص:211] جُمْلةً،
وفي الأحاديث منها أكثرَ مِمَّا في القُرَآن، وأخرى ليس منها
شيء في القُرَآن، وأخرى مُوتَفِقَةٌ، وأخرى مُخْتلفةٌ: ناسِخة
ومَنْسوخَة، وأخرى مختلفة: ليس فيها دِلالةٌ على ناسخٍ ولا
منسوخ، وأخرى فيها نَهْيٌ لِرسول الله، فتقولون: ما نَهَى عنْه
حَرَامٌ، وأخرى لرسول الله فيها نهْيٌ، فتقولون: نَهْيُه وأمره
على الاختيار لا على التَّحْريمِ، ثم نَجِدُكم تذهبون إلى بعْض
المُخْتَلِفة مِن [ص:212] الأحاديث دون بعْضٍ، ونجدكم
تَقِيسُون على بعْضِ حَديثه، ثم يَخْتَلِف قِياسُكم عليها،
وتَتْرُكون بعْضاً فلا تَقِيسون عليه، فَمَا حُجَّتُكُمْ في
القياس وتَرْكِه؟ ثم تفْتَرِقون بعدُ: فمِنكُمْ مَنْ يَتْرُك
مِن حديثه الشيءَ ويَأْخُذ بمثل الذي تَرَكَ وأَضْعَفَ
إسْنادًا مِنه.
قال "الشافعي": فقلتُ له: كلُّ ما سَنَّ رسولُ الله مَعَ كِتاب
الله مِن سنةٍ فهي مُوَافِقة كتابَ الله في النصِّ بِمِثْلِهِ،
وفي الجُمْلة بالتَّبْيِينِ عَن الله، والتبيينُ يكون أكثرَ
تَفْسِيراً مِن الجُمْلة.
وما سَنَّ مِمَّا ليس فيه نصُّ كتابِ الله فبِفرض الله طاعتَه
عامَّةً في أمْرِه تَبِعْنَاه.
وأما الناسِخةُ والمنسوخة مِنْ حديثه فهي كما نَسَخَ اللهُ
الحُكْمَ في كِتابه بالحكم غيْرِه من كتابه عامةً في أمْرِه،
وكذلك سنةُ رسولِ الله تُنْسَخُ بِسنتِه.
[ص:213] وذَكَرْتُ له بعضَ ما كتبْتُ في كِتابي قَبْلَ هذا مِن
إيضَاح ما وَصَفْتُ.
(1/210)
فأمَّا المُخْتَلِفةُ التي لا دِلالةَ على
أيِّها ناسِخٌ ولا أيِّها مَنْسوخٌ، فكُلُّ أمْرِه مُوتَفِقٌ
صحيح، لا اختلافَ فيه.
ورسولُ الله عَرَبِيُّ اللِّسان والدَّار، فقدْ يقولُ القولَ
عامًّا يُريدُ به العامَّ، وعامًّا يريدُ به الخاصَّ، كما
وصفتُ لك في كتاب الله وسُنَنِ رسولِ الله قَبْلَ هذا.
ويُسْئَلُ عَن الشيءِ فَيُجيب على قَدر المَسْألَةِ، ويُؤَدِّي
عنه المُخْبِرُ عنه الخَبَرَ مُتَقَصًّى، والخَبَرَ
مُخْتَصَرًا، والخبَر فيأتِيَ بِبَعْض مَعْناه دون بعض.
ويُحَدِّثُ عنه الرجلُ الحَدِيثَ قَدْ أدْرَكَ جَوَابَه ولم
يُدْرك المسألَةَ فيَدُلَّه على حَقِيقَة الجَوَابِ،
بِمَعْرِفَته السَّبَبَ الذي يَخْرُجُ عليه الجواب.
[ص:214] ويَسُنُّ في الشَّيْء سُنَّة وفيما يُخَالِفه أخْرَى،
فلا يُخَلِّصُ بَعْضُ السَّامِعِين بَيْنَ اختلاف الحالَيْنِ
اللَّتَيْنِ سَنَّ فيهما.
ويسُنُّ سنَّةً في نصٍّ معناه، فَيَحْفَظُها حافِظٌ، ويَسُنُّ
في مَعْنًى يُخَالِفُهُ في معنى ويُجَامِعُه في معنى، سنةً
غيرَها، لاختلاف الحالَيْنِ، فيَحْفَظُ غيرُه تِلْكَ السنةَ،
فإذا أدَّى كلٌّ ما حَفِظَ رَآهُ بعضُ السامِعِينَ اختلافًا،
وليس منه شيءٌ مختلفٌ.
ويَسنُّ بِلَفْظٍ مَخْرَجُهُ عَامٌّ جملةً بتحريم شيء أو
بتَحْليله، ويسنُّ في غيره خلافَ الجمْلة، فَيُسْتَدَلُّ على
أنه لم يُرِدْ بما حَرَّمَ ما أحَلَّ، ولا بما أحَلَّ ما
حَرَّمَ.
ولكل هذا نظيرٌ فيما كَتَبْنَا مِن جُمَل أحكامِ الله.
ويسُنُّ السنةَ ثم يَنْسَخُهَا بِسُنَّتِهِ، ولم يَدَعْ أنْ
يُبَيِّنَ [ص:215] كلَّمَا نَسَخَ مِن سنته بسنته، ولكن ربما
ذَهَبَ على الذي سَمِعَ مِن رسولِ الله بعضُ علمِ الناسِخ أو
عِلمِ المَنْسوخ، فَحَفِظَ أحدُهما دون الذي سمِع مِن رسولِ
الله الآخَرَ، وليس يذهب ذلك على عامَّتهم، حتى لا يكون فيهم
موْجوداً إذا طُلِبَ.
وكلُّ ما كان كما وصفْتُ أُمْضِيَ على ما سَنَّهُ، وفُرِّقَ
بَيْنَ ما فَرَّقَ بينه منه.
وكانتْ طاعَتُه في تَشْعِيبِه على ما سَنَّهُ واجِبةً، ولم
يقل: ما فَرَّقَ بَيْنَ كذا كذا؟
لأنَّ قولَ: مَا فَرَّقَ بَيْنَ كَذَا كَذَا؟ فيما فَرَّقَ
بينه رسولُ الله، لا يَعْدُو أنْ يكونَ جَهْلًا ممن قاله، أو
ارتِياباً شَرًّا مِن الجَهْل، وليس فيه طاعةُ الله باتِّباعه.
(1/213)
وما لم يوجد فيه إلا الاختلافُ: فلا يعدو
أن يكونَ لم يُحْفَظْ مُتَقَصًّى، كما وصفتُ قَبْلَ هذا،
فَيُعَدُّ مُخْتَلِفًا، ويَغِيبَ عنَّا مِنْ سبَبِ تَبْيِينِهِ
ما علِمْنا في غَيْرِهِ، أو وَهمًا مِنْ مُحَدِّثٍ.
ولم نجِدْ عنه شَيْئًا مُخْتَلِفاً فَكَشَفْنَاه: إلا وجَدْنا
له وجهاً يحتمل به ألاَّ يكونَ مُخْتَلِفاً، وأن يكون داخلاً
في الوجوه التي وصفتُ لك.
أو نَجِدُ الدِّلالةَ على الثابِتِ منه دون غيره، بِثُبُوتِ
الحديثِ، فلا يكون الحديثان اللذان نُسِبَا إلى الاختلاف
مُتَكَافِيَيْنِ، فنَصِيرُ إلى الأثْبَتِ مِن الحَدِيثَيْنِ.
أو يكونُ على الأثبَتِ منهما دِلالةٌ مِن كتاب الله أو سنة
نبيه أو الشَّوَاهِدِ التي وَصَفْنا قَبْلَ هذا، فنصير إلى
الذي هو أقْوَى وأَوْلَى أنْ يَثْبُتَ بالدلايل.
ولم نجد عنه حَدِيثَيْنِ مُخْتلِفَيْن إلاَّ ولهما مَخْرَجٌ أو
على أحَدِهما دِلالةٌ بأحَدِ ما وصفْتُ: إما بِمُوَافَقَةِ
كتابٍ [ص:217] أو غَيْرِه من سنته أو بعض الدلايل.
وما نهى عنه رسولُ الله فهو على التحْرِيمِ، حتى تَأْتِيَ
دلالةٌ عنه على أنه أراد به غَيْرَ التحْريم.
(1/216)
قال: وأما القياس على سنن رسول الله
فأصْلُهُ وَجْهَانِ، ثم يَتَفَرَّعُ في أحَدِهما وجوه.
قال: وما هُمَا؟
قلت: إنَّ اللهَ تَعَبَّدَ خَلْقَهُ في كتابه وعلى لسان نبيه
بما سَبَقَ في قَضَائِه أنْ يَتَعَبَّدَهُمْ به، ولِمَا شاءَ،
لا مُعَقِّبَ لحُكْمه فيما تعبَّدَهم به، مما دلَّهم رسولُ
الله على المعنى الذي له تعبَّدَهم به، أو وَجَدُوه في الخبر
عنه لم يُنْزَلْ في شَيْءٍ في مِثْلِ المعنى الذي له تعبَّد
خلقَه، [ص:218] ووجب على أهل العلم أن يُسْلِكُوهُ سبيلً
السنَّةِ، إذا كان في معناها، وهذا الذي يتَفَرَّعُ تفرعاً
كثيراً.
والوجه الثاني: أن يكونَ أحَلَّ لهم شيئاً جُمْلَةً، وحَرَّمَ
منه شيئاً بِعَيْنِهِ، فيُحِلُّونَ الحلالَ بالجُمْلَةِ،
ويُحَرِّمون الشيءَ بعَيْنِهِ، ولا يَقِيسُونَ عليه: على
الأقَلِّ الحَرَامِ، لأنَّ الأكْثَرَ مِنْهُ حلالٌ، والقِياسُ
على الأكْثَرِ أوْلَى أنْ يُقَاسَ عليه مِن الأقَلِّ.
وكذلك إنْ حَرَّمَ جُمْلَةً وأحَلَّ بعضَها، وكذلك إنْ فَرضَ
شيْئاً وخصَّ رسولُ الله التَّخْفيفَ في بعضه.
وأمَّا القِياسُ فإنَّما أخَذْناه استدلالاً بالكتاب والسنة
والآثار.
(1/217)
وأمَّا أنْ نُخالِفَ حَديثا عن رسول الله
ثابِتًا عنه: فأرْجُو أنْ لا يُؤْخَذَ ذلك علينا إن شاء اللهُ.
وليس ذلك لأحد، ولكن قدْ يَجْهَلُ الرجُلُ السنةَ فيكونُ له
قوْلٌ يُخالِفُهَا، لا أنَّهُ عَمَدَ خِلافَها، وَقَدْ
يَغْفُلُ المرْءُ ويُخْطِئ في التَّأْوِيلِ.
(1/219)
قال: فقال لي قائلٌ: فَمَثِّلْ لِي كُلَّ
صِنْفٍ مِمَّا وصفْتَ مِثالاً، تَجْمَعُ لي فيه الإتْيانَ على
ما سَألْتُ عَنْهُ، بأمْرٍ لا تُكْثِرُ علَيَّ فأنْساهُ، وابدأ
بالناسِخ والمَنْسوخ مِن سُنَنِ النبي، واذكر منها [ص:220]
شيئاً مِمَّا معه القُرَآن، وإنْ كَرَّرْتَ بعْضَ ما ذَكَرْتَ.
فقلتُ له: كان أوَّلُ ما فَرَضَ اللهُ على رسوله في القِبْلة
أن يَسْتقبِل بيْتَ المَقْدِس للصَّلاة، فكان بَيْتُ المَقْدِس
القِبْلَةَ التي لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يُصَلِّيَ إلا إليها. في
الوقْتِ الذي اسْتَقبَلَها فيه رسولُ الله، فَلَمَّا نَسَخَ
اللهُ قِبلةَ بيْتِ المقدس ووَجَّهَ رسولَه والناسَ إلى
الكَعْبَةِ: كانت الكعبةُ القِبلةَ التي لا يحلُّ لمُسْلم أنْ
يسْتَقْبِلَ المكتوبَة في غيْرِ حالٍ مِن الخوْفِ، غيْرَها،
ولا يحل أن يستقبل بيتَ المقدِس أبداً.
وكلٌّ كان حَقًّا في وَقْتِه، بيتُ المقدس مِن حينِ
اسْتَقْبَلَهُ النبيُّ إلى أنْ حُوِّلَ عنه: الحَقُّ في
القِبْلَة، ثم البيتُ الحَرامُ - الحق في القبلة إلى يوْم
القيامة.
وهكذا كلُّ منسوخ في كتابِ اللهِ وسنَّةِ نَبِيِّه.
قال: وهذا - مع إبانته لك الناسخَ والمنسوخ من الكتاب والسنة
-: دليلٌ لك على أن النبي إذا سن سنَّةً حوَّلَهُ اللهُ
[ص:221] عنْها إلى غَيْرِها، سنَّ أخرى يَصِيرُ إليها الناسُ
بعْدَ التي حُوِّلَ عنها، لِئَلاَّ يذْهَبَ على عامَّتِهِم
الناسِخُ فَيَثْبُتُونَ على المَنْسوخِ.
ولئلا يُشَبَّهَ على أحَدٍ بأن رسولَ اللهِ يَسُنُّ فيكون في
الكتاب شيء يَرَى مَنْ جَهِلَ اللِّسَانَ أو العِلْمَ بموقع
السنة مع الكتاب أو إبانَتِها مَعانِيه: أنَّ الكتاب يَنْسَخُ
السُّنَّةَ.
(1/219)
فقال: أفَيُمْكِنُ أنْ تخالفَ السنَّةُ في
هذا الكتاب؟
قلت: لا، وذلك: لأنَّ اللهَ - جلَّ ثَنَاؤُه - أقام على
خَلْقِهِ الحُجَّةَ من وجْهَيْن، أصْلُهُما في الكتاب: كتابُه،
ثم سنةُ نبيه، بفرْضِه في كِتَابِه اتِّبَاعَهَا.
فلا يجوزُ أنْ يَسُنَّ رسولُ الله سنَّةً لازِمَةً فَتُنْسَخَ
فلا يَسُنَّ ما نَسَخَها، وإنما يُعْرَفُ الناسِخُ بالآخِرِ
مِن الأمْرَيْن، [ص:222] وأكثَرُ الناسخ في كتاب الله إنما
عُرِفَ بِدِلالة سُنَنِ رسولِ الله.
فإذا كانت السنة تدلُّ على ناسِخِ القُرَآن، وتُفَرِّقُ
بَيْنَهُ وبَيْنَ منسوخِهِ: لم يَكُنْ أن تُنْسَخَ السنَّةُ
بِقُرَآن إلا أحْدَثَ رسولُ الله مَعَ القُرَآن سنَّةً
تَنْسَخُ سنَّتَهُ الأُولَى، لِتَذْهَبَ الشُّبْهةُ عَنْ مَن
أقامَ اللهُ عليه الحُجَّةَ مِن خَلْقه.
(1/221)
قال: أفَرَأَيْتَ لَوْ قال قائل: حَيْثُ
وَجَدْتُ القُرَآن ظاهِراً عامًّا، ووَجَدْتُ سنةً تحْتَمِلُ
أنْ تُبَيِّنَ عَن القُرَآن، وتحتمل أن تكون بخلاف ظاهره،
عَلِمْتُ أنَّ السنةَ منسوخَةٌ بالقُرَآن؟
فقلتُ له: لا يقولُ هذا عالِمٌ.
قال: وَلِمَ؟
قلت: إذا كان الله فَرَضَ على نبيه اتِّباعَ ما أُنْزِل إليه،
وشَهِدَ له بالهُدَى، وفرض على الناس طاعَتَه، وكان اللِّسانُ
- كما وصفْتُ قبل هذا - مُحْتَمِلاً للمعاني، وأن يكون كتابُ
الله يَنْزِلُ عامًّا يُرَادُ به الخاصَّ، وخاصاً يراد به
العام، وفرْضًا جُمْلَةً بَيَّنَه رسولُ الله، [ص:223] فقامت
السنةُ مع كتاب الله هذا المقامَ: لم تكن السنةُ لِتُخَالِفَ
كتابَ الله، ولا تكونُ السنةُ إلا تَبعًا لِكتاب اللهِ،
بِمِثْلِ تَنْزِيلِه، أو مُبَيِّنَةً معنى ما أرادَ اللهُ، فهي
بكل حالٍ مُتَّبِعَةٌ كتابَ اللهِ.
قال: أفَتُوجِدُنِي الحُجَّةَ بما قلتَ في القُرَآن؟
فذكَرْتُ له بعضَ ما وصفتُ في كتاب: (السنَّةُ مع القُرَآن)
(1) ، مِن أنَّ الله فَرَضَ الصلاةَ والزكاة والحجَّ،
فَبَيَّنَ رسولُ اللهِ كيفَ الصلاةُ، وعَدَدَها، ومواقيتَها،
وسُنَنَها، وفي كَمْ الزكاةُ مِن المال وما يَسْقُطُ عنه مِن
المالِ ويَثْبُتُ عليه، ووقتَها، وكيف عَمَلُ الحجِّ، وما
يُجْتَنَبُ فيه ويُبَاحُ.
قال: وذكرتُ له قولَ الله: " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (38) " [المائدة] ، و" الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ (2) " [النور] ، وأنَّ رسولَ الله لَمَّا سَنَّ
القطْعَ على مَنْ بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ [ص:224] ربع دينار
فصاعِداً، والجَلْدَ على الحُرَّيْنِ البِكْرَيْنِ دون
الثَّيِّبَيْنِ الحريْن والمملوكيْنِ: دلَّتْ سنةُ رسولِ الله
على أنَّ الله أراد بها الخاصَّ من الزُّناة والسُّرَّاق، وإن
كان مَخْرَجُ الكلام عاماً في الظاهر على السراق والزناة.
قال: فهذا عنْدِي كما وصفْتَ، أفَتَجِدُ حُجَّةً على مَنْ
رَوَى أنَّ النبي قال: " مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوُه
عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَمَا وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَمَا
خَالَفَهُ فَلَمْ أَقُلْهُ " (2) .
[ص:225] فقلْتُ له: ما رَوَى هذا أحدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ في
شيء صَغُرَ وَلَا كَبُرَ، فيُقالَ لنا: قدْ ثَبَّتُّمْ حَدِيثَ
مَنْ رَوَى هَذا في شَيْءٍ.
وهذه أيضاً رِوايةٌ مُنْقَطِعة عَن رَجُلٍ مَجْهولٍ، ونحن لا
نَقْبَلُ مِثْلَ هذه الرِّوايَةِ في شيْءٍ.
__________
(1) لا أعرف له كتاباً بهذا الاسم ولعله يريد ما ذكر على
الجملة من أحوال السنة مع القرآن من هذا الكتاب والله أعلم.
(2) في "كشف الخفاء" لِلْعَجْلُونِيِّ: هذا حديث مِن أوْضَعِ
المَوْضُوعَاتِ.
(1/222)
قال: فَهَلْ عَن النبي رِوايةٌ بما
قُلْتُم؟
فقلتُ له: نعم.
أخبرنا "سفيان" قال: أخبرني "سالمٌ أبو النَّضْر" أنَّه سمِع
[ص:226] "عُبَيْد الله بن أبي رافِعٍ" يُحَدِّثُ عن أبيه: أنَّ
النبيَّ قال: " لاَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى
أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ
بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولَ: لاَ أَدْرِي، مَا
وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ " (1) .
قال "الشافعي": فَقَدْ ضَيَّقَ رسولُ الله على الناسِ أنْ
يرُدُّوا أمْرَهُ، بِفَرْضِ اللهِ عليهم اتِّباعَ أَمْرِهِ.
__________
(1) الترمذي: كتاب العلم/2587؛ أبو داود: كتاب السنة/3989؛ ابن
ماجه: المقدمة/13.
(1/225)
قال: فَأَبِنْ ليِ جُمَلًا أجْمَعَ لك أهلُ
العِلم، أو أكثَرُهم عليه مِن سنَّةٍ مع كتاب الله، يَحْتمل
أنْ تكون السنةُ مع الكتابِ دَليلاً على أنَّ الكتابَ خاصٌّ
وإنْ كانَ ظاهِرُه عامًّا.
فقُلْتُ له: نَعَمْ، ما سمِعْتَني حَكَيْتُ في كتابي.
قال: فَأَعِدْ منه شيئاً.
قلتُ: قال الله: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
[ص:227] وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ
وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ
الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، كِتَابَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (24) "
[النساء] .
قال: وذَكَرَ اللهُ مَنْ حَرَّمَ، ثم قال: " وَأُحِلَّ لَكُمْ
مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ "، فقال رسولُ الله: " لاَ يُجْمَعُ
بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلاَ بَيْنَ المَرْأَةِ
وَخَالَتِهَا " (1) ، فلمْ أَعْلَمْ مُخالِفًا في اتِّباعِه.
[ص:228] فكانَتْ فيه دِلالَتَانِ: دِلالَةٌ عَلَى أنَّ سنةَ
رسول الله لا تكون مُخالفةً لِكتاب اللهِ بِحَالٍ، ولكنَّها
مُبَيِّنَةٌ عامَّهُ وخاصَّهُ.
ودِلالةٌ على أنهم قَبِلوا فيه خَبَرَ الواحِدِ، فلا نَعْلَمُ
أحَداً رَواهُ مِن وَجْهٍ يَصِحُّ عَن النبي إلاَّ "أبا
هُرَيْرَة".
__________
(1) البخاري: كتاب النكاح/4718؛ مسلم: كتاب النكاح/2514؛
الترمذي: كتاب النكاح/1045؛ النسائي: كتاب النكاح/3236؛ أبو
داود: كتاب النكاح/1769؛
مالك: كتاب النكاح/977.
(1/226)
قال: أفيحتمل أن يكونَ هذا الحديثُ عِنْدَك
خِلَافًا لشيْءٍ مِن ظاهِرِ الكتاب؟
فقلتُ: لا، ولا غَيْرُهُ.
قال: فما مَعْنى قول الله: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ "، فقد ذَكَرَ التحريمَ وقال: " وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ "؟
[ص:229] قلتُ: ذكَرَ تحريمَ مَنْ هو حَرامٌ بِكلِّ حالٍ، مثل:
الأُمِّ والبِنْت والأخْت والعَمَّة وبَنَاتِ الأخ وبنات
الأخْت، وذكَرَ مَنْ حَرَّمَ بكل حال من النَّسَب والرَّضاعِ،
وذكر مَن حَرَّم مِن الجَمْعِ بَيْنَهُ وكان أصْلُ كلِّ واحدٍ
منهما مُباحًا على الانْفِرادِ، قال: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ "، يعني: بالحال التي أحلَّها بِه.
ألاَ تَرَى أنَّ قوله: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ " بمعنى: ما أحَلَّ به، لا أنَّ واحِدَةً مِن
النَّساءِ حَلالٌ بِغيرِ نِكاحٍ يَصِحُّ، ولا أنه يجوز نِكاحُ
خامِسَةٍ على أرْبعٍ، ولا جَمْعٌ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، ولا غيرُ
ذلِك مِمَّا نَهَى عنه.
(1/228)
فذكرتُ له فرْض اللهِ في الوُضوء، ومَسْحَ
النبي على الخُفَّيْنِ، وما صارَ إليه أكثرُ أهْلِ العِلم مِن
قَبُول المَسْحِ.
فقال: أفيُخالِفُ المسْحُ شيئا مِن القُرَآن؟
قلت: لا تخالفه سنةٌ بحالٍ.
قال: فما وَجْهُهُ؟
قلت: لَمَّا قال: " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
(6) " [المائدة] ، دلَّت السنةُ على أنَّ مَن كان على طَهارَةٍ
ما لمَْ يُحْدِثْ فقامَ إلى الصلاةِ لم يكنْ عليه هذا
الفَرْضُ، فكذلك دلت على أن فَرْضَ غَسْل القَدَمَيْنِ إنما هو
على المُتَوَضِّئ لا خُفَّيْ عليه لَبِسَهُمَا كاملَ الطهارةِ.
(1/230)
وذكرتُ له تحريمَ النبيِّ كلَّ ذِي نابٍ
مِن السِّباعِ، وقدْ قال الله: " قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا
أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ
خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ، فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ
فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) " [الأنعام] ، ثم
سَمَّى ما حَرَّمَ.
فقال: فما معنى هذا؟
قلنا: معناه: قل لا أجد فيما يوُحَى إلَيَّ مُحَرَّمًا مما
كنتم تأكلون إلا أن يكون مَيْتَةً وما ذُكِر بعدها، فأما ما
تَرَكْتم أنكم لم تَعُدُّوه مِن الطَّيِّبات فلم يُحَرِّم
عليكم مما كنتم تستحلون إلا ما سَمَّى اللهُ، ودلت السنةُ على
أنه حرَّم عليكم منه ما كنتم تُحَرِّمون، لِقول الله: "
وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ
الْخَبَائِثَ (157) " [الأعراف] .
[ص:232] قال: وذكرتُ له قولَ الله: " وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) " [البقرة] ، وقولَه: "
لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (29) " [النساء]
، ثم حَرَّم رسولُ الله بيوعاً، منها الدنانيرُ بالدَّراهم إلى
أجلٍ، وغيرُها: فحرَّمَها المُسْلِمون بتحريم رسولِ اللهِ،
فليس هذا ولا غيره خلافاً لكتاب الله.
قال: فَحُدَّ لي معنى هذا بأجْمَعَ منه وأخْصَرَ.
فقلتُ له: لَمَّا كان في كتاب الله دِلالة على أنَّ الله قد
وضَعَ رسولَه مَوْضع الإبانَةِ عنه، وفَرَض على خَلْقِه
اتِّباعَ أمره، فقال: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا (275) " [البقرة] ، فإنما يعْني: أحَلَّ اللهُ
البيْعَ إذا كان على غير ما نهى الله عنه في كتابه أو على لسان
نبيه، وكذلك قوله: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ
(24) [النساء] ، بما أحَلَّه اللهُ به [ص:233] مِن النكاح
ومِلْك اليمين في كتابه، لا أنه أباحَهُ بكلِّ وجهٍ، وهذا كلام
عربي.
وقلت له: لوْ جازَ أنْ تُتْرَكُ سنةٌ مما ذهب إليه من جَهِلَ
مكانَ السنَنِ مِن الكتاب، تُرك ما وصفْنا مِن المسح على
الخُفَّيْنِ، وإباحَةُ كلِّ ما لَزِمه اسمُ بيْعٍ، وإحلالُ أنْ
يُجْمَعَ بين المرْأَةِ وعَمَّتها وخالتها، وإباحةُ كلِّ ذي
نابٍ مِن السِّباع، وغيرُ ذلك.
ولَجاز أن يقال: سنَّ النبيُّ ألاَّ يُقْطَعَ مَن لمْ تبلغ
سرِقَتُه ربعَ دينارٍ قبْلَ التَّنْزيلِ، ثم نَزَل عليه: "
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (38) "
[المائدة] ، فمن لزِمه اسمُ سَرِقةٍ قُطِعَ.
ولجاز أن يقال: إنما سن النبي الرجمَ على الثَّيِّب حتى نزلتْ
عليه: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ [ص:234] جَلْدَةٍ (2) " [النور] ، فيُجْلَد
البِكرُ والثيبُ، ولا نرْجُمُهُ.
وأن يقال في البيوع التي حرَّم رسولُ الله: إنما حرَّمَها قبْل
التنزيل، فلما أُنْزِلتْ: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) [البقرة] ، كانت حَلالاً.
والرِّبا: أن يكونَ للرَّجُل على الرجلِ الدَّيْنُ فَيَحِلُّ
فيقولُ: أَتَقْضِي أمْ تَرْبِي؟ فيُؤَخِّرُ عنه ويزيده في
ماله. وأشباهٌ لهذا كثيرةٌ.
فمن قال هذا كان مُعَطِّلاً لِعَامَّة سنَنِ رسولِ الله، وهذا
القولُ جَهْلٌ مِمَّنْ قاله.
قال: أجَلْ.
وسنةُ رسولِ الله كما وصفْتُ، ومَنْ خالفَ ما قلْتُ فيها فقد
جمَعَ الجْهَل بالسنة والخَطَأَ في الكلام فيما يَجْهَلُ.
(1/231)
قال: فاذْكُرْ سنةً نُسِختْ بسنةٍ سِوى
هذا.
[ص:235] فقلتُ له: السننُ الناسِخَةُ والمنسوخةُ مُفَرَّقَةٌ
في مَواضِعِها، وإنْ رُدِّدَتْ طالَتْ.
قال: فيكفي منها بعضُها، فاذْكره مُخْتَصَرًا بَيِنًا.
فقلتُ: أخبرنا "مالك" عن " عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن
عمرو بن حَزْمٍ" عن "عبد الله بن واقِدٍ" عن "عبد الله بن
عُمر"، قال: " نَهَى رَسُوُل اللهِ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ
الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ "، قال "عبد الله بن أبي بكر":
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ "لِعَمْرَةَ"، فَقَالَتْ: صَدَقَ، سَمِعْتُ
"عَائِشَةَ" تقول: " دَفَّ (1) نَاسٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ
حَضْرَةَ الأَضْحَى فِي زَمَانِ النَّبِيِّ، فَقَاَل
النَّبِيُّ: ادَّخِرُوا لِثَلاَثٍ وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ.
قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قِيلَ: يَا رَسُولَ
اللهِ، لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ،
يُجْمِلُونَ [ص:236] مِنْهَا الوَدَكَ (2) وَيَتَّخِذُونَ
الأَسْقِيَةَ، فَقَالَ رسولُ اللهِ: ومَا ذَاكَ، - أوْ كَمَا
قَالَ -، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَهَيْتَ عَنْ إمْسَاكِ
لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ:
إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ
حَضْرَةَ الأَضْحَى، فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وادّخِرُوا " (3)
.
وأخبرنا "ابن عُيَيْنَة" عن "الزهري" عن "أبي عُبَيْد" مولى
"ابن أزْهَرَ"، قال: شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ "علي بن أبي طالب"
فسَمِعتُهُ يقول: لاَ يَأْكُلَنَّ أحَدُكُمْ مِنْ لَحْمِ
نُسُكِهِ بَعْدَ ثَلاَثٍ.
أخْبَرَنا الثِّقة عن "مِعْمَرٍ" عن "الزهري" عن "أبي عبيد"
[ص:237] عن "علي" أنه قال: قال رسول الله: " لاَ يَأْكُلَنَّ
أحَدُكُمْ مِنْ لَحْمِ نُسُكِهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ " (4) .
أخبرنا "ابن عيينة" عن "إبراهيم بن مَيْسَرَةَ" قال: سمعت "أنس
بن مالك" يقول: إنَّا لَنَذْبَحُ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ
ضَحَايَانَا، ثُمَّ نَتَزَوَّدُ بَقِيَّتَهَا إلىَ البَصْرَةِ.
قال "الشافعي": فهذه الأحاديث تَجْمع معانِيَ، منها: [ص:238]
أنَّ حديث "علي" عن النبي في النهي عَنْ إمْساك لُحُوم
الضَّحايا بعْد ثلاثٍ، وحديث "عبد الله بن واقِدٍ"،
مُوتَفِقَانِ عن النبي.
وفيها دِلالة على أنَّ "عَلِيَّاً" سمع النهيَ مِن النبي،
وأنَّ النهيَ بَلَغَ "عبدَ الله بن واقد".
ودلالةٌ على أن الرُّخْصَةَ مِن النبي لم تبلُغْ "علياً" ولا
"عبدَ الله بن واقد"، ولو بَلَغَتْهمَا الرُّخْصَةُ، مَا
حَدَّثاَ بالنهي، والنَّهْيُ منسوخ، وتَرَكا الرخصةَ، والرخصةُ
ناسخة، والنهي منسوخ لا يَسْتَغْنِي سامِعُه عَنْ علم ما
نَسَخَهُ.
وقولُ "أنس بن مالك": كنا نَهْبِطُ بِلحوم الضحايا البَصْرَةَ،
يَحْتَملُ أنْ يكونَ "أنس" سَمِعَ الرخصةَ ولم يسمَعْ النهيَ
قَبْلَهَا، فَتَزَود بالرخصة ولم يسمع نهياً أو سمع الرخصةَ
والنهيَ، فكان النهيُ منسوخاً، فلم يذكرْهُ.
فقال كلُّ واحِدٍ من المُخْتَلِفَينَ بما عَلِمَ.
وهكذا يجب على مَنْ سَمِعَ شيئاً مِن رسول الله، أو ثَبَتَ له
عنه: أنْ يقولَ بما سَمِعَ، حتى يعلَمَ غيرَه.
__________
(1) دَفَّ: (دَفَّت) الجماعةُ (تَدِفُّ) مِن باب: ضرب،
(دَفِيفًا) : سارتْ سيراً لَيِّنًا، فهي (دَافَّةٌ) [المصباح
المنير - الفَيُّومي] .
(2) الوَدَكُ: الدَّسَمُ [القاموس المحيط - فيروز آبادي] .
(3) مسلم: كتاب الأضاحي/3643؛ أبو داود: الضحايا/2429؛ مالك:
كتاب الضحايا/918.
(4) مسلم: كتاب الأضاحي/3639؛ النسائي: كتاب الضحايا/4347؛
أحمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة/1131؛ مسند الشافعي/470.
(1/234)
قال "الشافعي": فلما حَدَّثَتْ عائشةُ عَن
النبي بالنهي عَنْ إمْساك لُحوم الضحايا بعد ثلاثٍ، ثم بالرخصة
فيها بعد النهي، وأنَّ رسولَ الله أخْبَرَ أنَّه نهى عن إمساك
لحوم الضحايا بعد ثلاث للدَّافَّة: كان الحديث التَّام المحفوظ
أوَّلُه وآخِرُه وسَبَبُ التحريم والإحلال فيه: حديثُ عائشة عن
النبي، وكان على مَنْ عَلِمَهُ أنْ يصيرَ إليه.
وحديثُ عائشة مِنْ أبْيَنِ ما يوجَدُ في الناسخ والمنسوخ مِن
السُّنَنِ.
وهذا يَدل على أنَّ بعض الحديث يُخَصُّ، فيُحْفظ بعضُه دون
بعض، فيُحفظ منه شيء كان أوَّلاً ولا يُحفظ آخِرًا، ويُحْفظ
أخِراً ولا يُحفظ أوَّلاً، فيُؤَدِّي كلٌّ ما حَفِظَ.
فالرخصةُ بعْدَها في الإمساك والأكْل والصدقة مِن لحوم الضحايا
إنما هي لواحدٍ من مَعْنَيَيْنِ، لِاخْتِلَاف الحالَيْن:
فإذا دَفَّت الدَّافَّةُ ثَبَتَ النهيُ عَن إمْساك لحوم
الضحايا بعد ثلاثٍ، وإذا لم تَدِفَّ دافَّة فالرخصةُ ثابِتة
بالأكْل والتَّزَوُّدِ والادِّخارِ والصَّدَقَةِ.
[ص:240] ويُحتمل أنْ يكونَ النهي عَن إمْساك لحوم الضَّحايا
بَعْد ثلاث منسوخاً في كلِّ حالٍ، فيُمْسك الإنسان مِن
ضحيَّتِه ما شاء، ويتَصَدَّق بما شَاء.
(1/239)
وجهٌ آخَرُ مِن الناسخ والمنسوخ.
(1/242)
أخبرنا "محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيْكٍ"
عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "المَقْبُرِيِّ" عن "عبد الرحمن بن أبي
سعيد" عن "أبي سعيد [ص:243] الخُدْرِي"، قال: " حُبِسْنَا
يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ
المَغْرِبِ بِهَوِىٍ مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى كُفِينَا،
وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: " وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) "
[الأحزاب] ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ بِلاَلاً،
فَأَمَرَهُ فَأَقامَ الظُّهْرَ، فَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ
صَلاَتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ
أَقَامَ العَصْرَ فَصَلاَّهاَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقاَمَ
المَغْرِبَ فَصَلاَّهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أقَامَ العِشَاءَ،
فَصَلاَّهَا كَذَلِكَ أيْضًا، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أنْ
أَنْزَلَ اللهُ فِي صَلاَةِ الخَوْفِ: " فَرِجَالاً أَوْ
رُكْبَانًا (239) " [البقرة] " (1) .
"الشافعي": فَلمَّا حَكَى "أبو سعيد" أنَّ صَلاة النبي عامَ
الخنْدَق كانت قَبْل أنْ يُنْزَلَ في صلاة الخوف: " فَرِجَالاً
أَوْ رُكْبَانًا (239) " [البقرة] ، استدللنا على أنه لم يصل
صلاة الخوف إلا بعدها، إذْ حضرها "أبو سعيد"، وحكى تأخيرَ
الصَّلَوات حتى خَرَجَ مِن وَقْت عامَّتها، وحكى أنَّ ذلك قبْل
نُزُول صلاةِ الخوْفِ.
[ص:244] قال: فلا تُؤَخَّر صلاةُ الخوف بحالٍ أبداً عَن الوقت
إن كانتْ فِي حَضَرٍ، أو عن وقت الجَمْعِ في السَّفَرِ، بخوفٍ
ولا غيره، ولكن تُصَلَّى كما صَلَّى رسولُ الله.
والذي أخَذْنا به في صلاة الخوف أنَّ "مالكاً" أخبرنا عن "يزيد
بن رُومان" عن "صالح بن خَوَّاتٍ" عَن مَن صَلَّى مَعَ رسولِ
الله صلاة الخوف يوم ذات الرِّقاع: " أنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ
مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالذين
مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قاَئِمًا وأَتَمُّوا
لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وُجَاهَ
العَدُوِّ، وَجَاءَت الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ
الرَكعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاِتِه، ثُمَّ ثَبَتَ
جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ "
(2) .
قال: أخبرنا مَنْ سمع عبدَ الله بن عمر بن حفص" يُخْبِر عن
أخيه "عبيد الله بن عمر" عن "القاسم بن محمد" عن "صالح بن خوات
بن جبير" عن أبيه عن النبي مِثْلَهُ.
[ص:245] قال: وقَدْ رُوِىَ أنَّ النبي صَلَّى صَلاة الخوف على
غَيْرِ ما حَكَى "مالك".
وإنما أخذْنَا بهذا دونَه لأنه كان أشْبَهَ بالقُرَآن، وأقوى
في مكايدة العدوِّ.
وقد كتبنا هذا بالاختلاف فيه، وتَبَيُّنِ الحجَّة في {كتاب
الصلاة} ، وتركْنا ذكْرَ مَنْ خالَفَنا فيه وفي غيره من
الأحاديث، لِأنَّ ما خُولِفْنَا فيه منها مُفْتَرِقٌ في كتبه.
__________
(1) أحمد: باقي مسند المكثرين/10769؛ الدارمي: كتاب
الصلاة/1483؛ مسند الشافعي: 553.
(2) البخاري: كتاب المغازي/3817؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين
وقصرها/1390؛
النسائي: كتاب صلاة الخوف/1519؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1049؛
مالك: كتاب النداء للصلاة/394.
(1/242)
وجه آخر.
(1/245)
قال الله - تبارك وتعالى: " وَاللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا
فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ
تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا (16) " [النساء] .
فكان حدُّ الزانيين بهذه الآية الحبْسَ والأذى، حتى أنزلَ
اللهُ على رسوله حَدَّ الزنا، فقال: " الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ (2) " [النور] ، وقال في الإماء: " فَإِذَا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] ، فَنُسِخ
الحبس عَن الزُّناة، وثَبَتَ عليهم الحُدُودُ.
ودلَّ قولُ الله في الإماء: " فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] : على فَرْقِ
اللهِ بَيْنَ حدِّ المَماليك والأحْرار في الزِّنا، وعلى أنَّ
النصفَ لا يكونُ إلاَّ مِنْ جلْد، لأن الجلْدَ بِعَدَدٍ، ولا
يكون مِن رَجْمٍ، لأن الرَّجمَ إتْيانٌ على النِّفْس بلا عدد،
لأنه قد يُؤْتىَ عليها بِرَجْمَةٍ واحِدة، وبألفٍ وأكثرَ، فلا
نِصْف [ص:247] لمِا لا يُعْلَمُ بعدد، ولا نصف للنفس فيؤتى
بالرجم على نِصْف النفس.
واحتمل قولُ الله في سورة النور: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) "،
أن يكونَ على جميع الزُّناةِ الأحْرار، وعلى بَعْضِهِم دُون
بعض، فاسْتَدللنا بسنة رسولِ الله - بِأَبي هو وأُمِّي - على
مَنْ أُريدَ باِلمائة جَلدةٍ.
أخبرنا "عبد الوهاب" عن "يونس بن عُبَيْدٍ" عن " الحسن" عن
"عُبادَة بن الصَّامِت" أنَّ رسولَ الله قال: " خُذُوا عَنِّي،
خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً: البِكْرُ
بِاْلبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ
بِالثَِّّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " (1) .
قال: فدلَّ قولُ رسولِ الله: " قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ
سَبِيلاً "، على أنَّ هذا أولُ ما حُدَّ به الزُّناةُ، لأنَّ
اللهَ يقول: " حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) " [النساء] .
[ص:248] ثم رَجَمَ رسولُ الله "ماعِزاً" ولم يَجْلِده،
وامْرَأة "الأسْلَمي" ولم يجْلدها، فدلتْ سنة سول الله على أن
الجلد منسوخ عن الزانيين الثيبين.
قال: ولم يكن بين الأحرار في الزنا فَرْق إلا بالإحصان بالنكاح
وخلافِ الإحصان به.
وإذ كان قولُ النبي: " قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً،
البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ "، ففي
هذا دِلالة على أنَّه أوَّل ما نُسِخَ الحبْسُ عَن الزانيين،
وحُدَّا بعد الحبس، وأنَّ كلَّ حَدٍّ حَدَّهُ الزانيين فلا
يكون إلا بعد هذا، إذْ كان هذا أوَّلَ حَدِّ الزانيين.
أخبرنا "مالك" عن "ابن شهاب" عن "عُبَيْد الله [ص:249] بن عبد
الله" عن "أبي هُرَيْرَةَ" و"زيد بن خالد" أنهما أخْبَرَاهُ: "
أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ
أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللهِ! اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ
اللهِ؟ وَقَالَ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا -: أَجَلْ يَا
رَسُولَ اللهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَائْذِنْ
لِي فِي أنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: تَكَلَّمْ، قَالَ: إنَّ
ابْنِي كَانَ عَسِيفًا (2) عَلَى هَذَا، فَزَنَى
بِامْرَأَتِهِ، فَأُخْبِرْتُ أنَّ عَلَى اِبْنِي الرَّجْمُ،
(3) فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي،
ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ
عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وإنَّمَا
الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: والَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ [ص:250] بَيْنَكُمَا
بِكِتَابِ اللهِ، أمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ
إِلَيْكَ. وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا،
وَأَمَرَ "أَنِيسً (4) الأَسْلَمِيَّ" أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ
الآخَرِ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ
فَرَجَمَهَا " (5) .
أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر": " أَنَّ النَّبِيَّ
رَجَمَ يَهُودِيَيْنِ زَنَيَا " (6) .
قال: فثبت جلدُ مائة والنفيُ على البِكْرين الزانيين، والرجمُ
على الثيبين الزانيين.
وإنْ كانَا ممن أُرِيدا بالجلد فقد نُسِخ عنهما الجلد مع
الرجم، وإنْ لم يكونا أريدا بالجلد وأريد به البِكْران: فهُما
مخالفان لِلثَّيِّبَيْنِ.
[ص:251] ورَجْمُ الثيبين بَعْد آية الجلد، بما رَوَى رسولُ
الله عن الله، وهذا أشْبَهُ مَعانِيه وأوْلاَها به عندنا،
واللهُ أعْلَمُ.
__________
(1) مسلم: كتاب الحدود/1690؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2540؛
أحمد: مسند المكثرين/15345؛ مسند الشافعي: 252.
(2) العسيف: الأجير.
(3) هكذا ضُبطت بالرفع ولها وجهٌ فيكون الاسم ضمير الشأن.
(4) رسمها هكذا جائز وقدمنا شرحه.
(5) البخاري: كتاب الحدود/6337؛ النسائي: كتاب آداب
القضاة/5315؛ مالك: كتاب الحدود/1293، قال مالك: العسيف:
الأجير.
(6) البخاري: كتاب الحدود/6330؛ مسلم: كتاب الحدود/3211؛
الترمذي: كتاب الحدود/1356؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2546.
(1/245)
وجه آخر.
(1/251)
أخبرنا "مالك" عن "ابن شهاب" عن "أنس بن
مالك": " أنَّ النَّبِيَّ رَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ عَنْهُ،
فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ (1) ، فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ
الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَصَلَّيْنَا وَرَاءَه قُعُودًا،
فَلَمَّا انْصَرَفَ قال: إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ
بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا
رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإذَا
قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، [ص:252] فَقُولُوا:
رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا
جُلُوسًا أَجْمَعُونَ " (2) .
أخبرنا "مالك" عن "هشام بن عُرْوة" عن أبيه، عن "عائشة"، أنها
قالتْ: " صَلَّى رَسُولُ اللهِ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ،
فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَه قَوْمٌ قِيَامًا،
فَأَشَارَ إلَيْهِمْ: أنْ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ
قَالَ: إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا
رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا
صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا " (3) .
قال: وهذا مثل حديث "أنس"، وإنْ كان حديث "أنس" مُفَسَّرًا
وأوْضَحَ مِن تَفْسيرِ هذا.
أخبرنا "مالك" عن "هشام بن عروة" عن أبيه: " أنَّ رَسُولَ
اللهِ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ، فَأَتَى "أبَا بكر" وَهُوَ قَائِمٌ
يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَاسْتَأْخَرَ "أبو بكر"، فَأَشَارَ
إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ، [ص:253] فَجَلَسَ
رَسُولُ اللهِ إِلَى جَنْبِ "أبي بكر"، فَكَانَ "أبو بكر"
يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ، وَكَانَ النَّاسُ
يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ "أبي بكر" " (4) .
وبه يأخذ "الشافعي".
قال: وذَكَرَ "إبراهيم النَّخَعِيُّ" عن "الأسود بن يزيد" عن
"عائشة" عن رسول الله "وأبي بكر" مِثْل معنى حديث عروة: "
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى قَاعِدًا، و"أَبُو بَكْرٍ" قَائِمًا،،
يُصَلِّي بِصَلاَةِ النَّبِيِّ، وَهُمْ وَرَاءَه قِيَامًا "
(5) .
[ص:254] قال: فلما كانتْ صلاة النبي في مرضه الذي مات فيه،
قاعِداً والناس خلفه قياماً، استدللنا على أنَّ أمرَه الناسَ
بِالجُلوس في سَقْطَته عن الفرس: قبل مرضه الذي مات فيه، فكانت
صلاته في مرضه الذي مات فيه، قاعداً والناس خلفه قياماً:
ناسخةً، لأنْ يجلسَ الناس بجلوس الإمام.
وكان في ذلك دليلٌ بما جاءت به السنة وأجمع عليه [ص:255]
الناس، مِن أن الصلاة قائماً إذا أطاقها المُصَلِّي، وقاعداً
إذا لم يُطق، وأنْ ليس للمطيق القيامَ مُنفرداً أنْ يُصَلِّيَ
قاعداً.
فكانت سنةُ النبي أنْ صلَّى في مَرَضه قاعداً ومَنْ خلْفه
قِياماً، مع أنها ناسخة لِسنته الأُولَى قبْلها: مُوافِقةً
سنتَه في الصحيح والمريض، وإجماعَ الناس أنْ يُصلي كلُّ واحد
مِنهما فرْضَه، كما يُصلي المريضُ خلْفَ الإمام الصحيح قاعدا
والإمام قائماً.
وهكذا نقول: يصلي الإمامُ جالِساً ومَنْ خلْفه مِن الأصِحَّاء
قِياماً، فيُصَلي كلُّ واحِد فرْضَه، ولوْ وَكَّلَ غَيْرَه كان
حَسَنًا.
__________
(1) أي: انْخَدَشَ جِلْده [النهاية - ابن الأثير] .
(2) البخاري: كتاب الأذان/648؛ مسلم: كتاب الصلاة/622؛
النسائي: كتاب الإمامة/823؛ أبو داود: كتاب الصلاة/509؛ ابن
ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1228؛ مالك: كتاب النداء
للصلاة/280.
(3) البخاري: كتاب الأذان/647؛ أحمد: مسند الأنصار/23994.
(4) البخاري: كتاب الأذان/642؛ مسلم: كتاب الصلاة/635؛ ابن
ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1223؛ مالك: كتاب النداء
للصلاة/282.
(1/251)
وقد أوْهَمَ بعضُ الناس، فقال: لا
يَؤُمَّنَّ أحَدٌ بعد النبي جالساً، واحتجَّ بحديثٍ رواه
مُنْقَطِعٍ عن رجل مَرْغوب [ص:256] الرِّواية عنه، لا يَثْبُتُ
بمثله حجة على أحدٍ، فيه: " لاَ يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي
جَالِسًا " (1) .
__________
(1) البيهقي: كتاب الصلاة/باب ما روي في النهي عن الإمامة
جالسا، ج 3/ص 80.
(1/255)
قال: ولهذا أشباهٌ في السنة مِن الناسخ
والمنسوخ.
وفي هذا دلالة على ما كان في مثل معناها، إنْ شاء الله.
وكذلك له أشباهٌ في كتاب الله، قد وصفنا بعضها [ص:259] في
كتابنا هذا، وما بقي مُفَرَّق في أحكام القُرَآن والسنة في
مواضعه.
(1/258)
قال: فقال: فاذكر من الأحاديث المُخْتلِفة
التي لا دِلالة فيها على ناسخ ولا منسوخ، والحجة فيما ذهبْتَ
إليه منها دون ما تركتَ.
فقلت له: قد ذكرتُ قبل هذا (1) : أنَّ رسولَ الله صَلَّى
صَلَاة الخوف يوم ذات الرِّقاع، فَصَفَّ بِطائفة، وطائفةٌ في
غير صلاة بِإزَاءِ العدُوِّ، فصلى بالذين معه ركعة، وأتموا
لأنفسهم، ثم انصرفوا فوقفوا بإزاء العدو، وجاءت الطائفة الأخرى
فصلى بهم الركعة التي بقِيَتْ، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم،
ثم سَلَّمَ بهم.
قال: وروى "ابن عمر" عن النبي: أنَّهُ صَلَّى [ص:260] صَلاَةَ
الخَوْفِ خِلاَفَ هَذِهِ الصَّلاَةِ فِي بَعْضِ أمْرِهَا،
فَقَالَ: صَلَّى رَكْعَةً بِطَائِفَةٍ، وَطَائِفَةٌ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ العَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي
وَرَاءَه، فَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ
الطَّائِفَةُ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ مَعَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ
الرّكعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ،
وَسَلَّمَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَقَضَوْا مَعًا.
قال: وروى "أبو عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ": " أنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى يَوْمَ عُسْفَانَ و"خالدُ بن الوليد" بَيْنَهُ وَبَيْنَ
القِبْلَةِ، فَصَفَّ بِالنَّاسِ مَعَهُ مَعًا، ثُمَّ رَكَعَ
وَرَكَعُوا مَعًا، ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ،
[ص:261] وَحَرَسَتْهُ طَائِفَةٌ، فَلَمَّا قَامَ مِنَ
السُّجُودِ سَجَدَ الَّذِينَ حَرَسُوهُ، ثُمَّ قَامُوا فِي
صَلاَتِهِ " (2) .
وقال "جابِرٌ" قَرِيباً مِنْ هذا المعنى.
قال: وقد رُوِيَ ما لا يَثْبُتُ مِثلُه بخلافها كلِّها.
__________
(1) في ص 182.
(2) النسائي: كتاب صلاة الخوف/1531؛ أبو داود: كتاب
الصلاة/1047.
(1/259)
فقال لي قائل: وكف صِرْتَ إلى الأخذ بصلاة
النبي ذات الرِّقاع دون غيرها؟
فقلت: أمَّا حديث "أبي عَيَّاش" و"جابر" في صلاة الخوف فكذلك
أقول، وإذا كان مثْلُ السبب الذي صلى له تلك الصلاةَ.
قال: وما هي؟
قلت: كان رسولُ الله في ألفٍ وأربعمائة، وكان "خالد بن الوليد"
في مائتين، وكان منه بعيداً في صحراءَ واسعةٍ، لا يُطْمَعُ
فيه، لقلةِ مَنْ معه، وكثرة مَنْ مع رسول الله، وكان الأغْلَب
منه أنَّه مَأْمون على أن يَحْمِل عليه، ولو حمَل مِن بيْن
يديْهِ رآه، وقد حُرِسَ منه في السجود، إذْ كان لا يَغِيبُ عنْ
طَرْفِهِ.
فإذا كانت الحال بِقِلة العدو وبُعْدِه، وأن لا حائلَ دونه
يستره، كما وصفتُ: أمَرْتُ بصلاة الخوف هكذا.
[ص:263] قال: فقال: قد عرفتُ أن الرواية في صلاة ذات الرِّقاع
لا تُخالف هذا، لاختلاف الحاليْن، قال: فكيف خالفْتَ حديث "ابن
عمر"؟
فقلت له: رواه عن النبي "خوَّات بن جُبَيْر"، وقال "سهل بن أبي
حَثْمَة" بِقريب مِن معناه، وحُفِظ عن "علي بن أبي طالب" أنه
صلى صلاة الخوف ليلة الهَرِيرِ كما روى "خوات بن جبير عن
النبي، وكان "خواتٌ" مُتَقَدِّمَ الصُّحْبَة والسِّنِّ.
فقال: فهل من حجة أكثرُ مِن تقدُّمِ صحبته؟
[ص:264] فقلت: نعم، ما وصفْتُ: فيه مِن الشَّبَه بمعنى كتاب
الله.
قال: فأيْنَ يُوافق كتابَ الله؟
قلت: قال الله: " وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ
الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ،
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا
مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ
يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ
عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ
مَيْلَةً وَاحِدَةً، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ
بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ، وَخُذُوا حِذْرَكُمْ (102) " [النساء] .
وقال: " فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، إِنَّ
الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا
(103) " [النساء] ، يعني - والله أعلم -: فأقيموا الصلاة كما
كنتم تصلون في غير الخوف.
فلما فرَّقَ الله بيْن الصلاة في الخوف وفي الأمْنِ، حِياطَةً
لأهل دينه أنْ يَنال منهم عدوُّهم غِرَّة: فتعقَّبْنا حديث
"خوات بن جبير" والحديث الذي يخالفه، فوجدنا حديث "خوات بن
جبير" [ص:265] أوْلَى بالحَزْمِ في الحَذَر منه، وأحْرَى أن
تَتَكَافَأ الطائفتان فيها.
وذلك أنَّ الطائفة التي تصلي مع الإمام أوَّلاً مَحْروسة
بطائفة في غير صلاة، والحارس إذا كان في غير صلاة كان
مُتَفَرِّغًا مِن فرض الصلاة، قائماً وقاعداً، ومنحرفاً يميناً
وشمالاً، وحاملاً إنْ حُمِل عليه، ومتكلِّما إنْ خاف عَجَلَةً
مِن عَدُوه، ومُقاتِلاً إنْ أمكنته فرصة، غير محُول بيْنه وبين
هذا في الصلاة، ويُخَفِّفُ الإمام بمن معه الصلاةَ إذا خاف
حمْلةَ العدُوِّ، بكلام الحارس.
قال: وكان الحقُّ للطائفتين مَعًا سَواءً، فكانت الطائفتان في
حديث "خوات" سَواءً، تَحْرُس كلُّ واحِدة مِن الطائفتين
الأُخْرى، والحارسة خارِجَة مِن الصلاة، فتكون الطائِفَة
الأُولَى قد أعْطَتْ الطائفةَ التي حرستْهَا مِثلَ الذي أخذتْ
منها، فحَرَسَتْها خَلِيَّةً مِن الصلاة، فكان هذا عدْلًا بيْن
الطائفتين.
قال: وكان الحديث الذي يخالف حديث "خوات بن جبير"، على خِلاف
الحَذَر، تَحْرسُ الطائفةُ الأُولى في ركعةٍ، ثم تنصرف
المحروسة قبْلَ تُكْمِلَُ (1) الصلاة، فتَحْرُس، ثم تصلي
[ص:266] الطائفة الثانية محروسةً بطائفة في صلاة، ثم يقْضيان
جميعاً، لا حارس لهما، لأنه لم يخرج من الصلاة إلا الإمام، وهو
وحْده ولا يُعني شيئاً، فكان هذا خِلاف الحذر والقوَّة في
المكيدة.
وقد أخبرنا الله أنه فرَّق بين صلاة الخوف وغيرها، نَظَرًا
لأهل دينه أنْ لا ينال منهم عدوُّهم غِرَّةً، ولم تأخذ الطائفة
الأولى مِن الآخرة مثلَ ما أخذتْ مِنها.
ووجدتُ اللهَ ذكَرَ صلاةَ الإمام والطائفتين مَعًا، ولم يَذْكر
على الإمام ولا على واحدة من الطائفتين قَضَاءً، فدل ذلك على
أن حال الإمام ومَنْ خلْفه، في أنَّهم يخرجون من الصلاة لا
قضاءَ عليهم، سواءٌ.
[ص:267] وهكذا حديث "خوات" وخلافُ الحديث الذي يخالفه.
__________
(1) هكذا هي بحذف (أن) وهو شاذ عند البصريين، منقاس عند
الكوفيين وأجازه الأخفش بشرط رفع الفعل ولذلك ضبطناه بالوجهين.
(1/262)
قال "الشافعي": فقال: فهل للحديث الذي
تركتَ وجهٌ غيرَ ما وصفْتَ؟
قلت: نعم، يحتمل أن يكونَ لَمَّا جازَ أنْ تُصَلَّى صلاةُ
الخوف على خِلاف الصلاة في غير الخوف: جاز لهم أن يُصلُّوها
كيْفَ ما تيَسَّر لهم، وبقدر حالاتهم وحالات العدو، إذا
أكمَلُوا العَدَدَ، فاختلف صلاتُهم، وكلُّها مُجْزِيَةٌ عنهم.
(1/267)
وجه آخر من الاختلاف
(1/267)
قال "الشافعي": قال لي قائل: قد اختُلِفَ
في التَّشَهُّدِ، فرَوَى "ابن مسعود" عن النبي: " أنَّهُ كَانَ
يُعَلِّمُهُمْ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ [ص:268]
السُّورَةَ مِنَ القُرَآن "، فقال في مُبْتَدَاهُ ثلاث كلماتٍ:
" التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ "، فَبِأيِّ التشهد أخَذْتَ؟
فقلت: أخبرنا "مالك" عن "ابن شهاب" عن "عروة" عن "عبد الرحمن
بن عبدٍ القارِيِّ" أنَّه سمع "عمر بن الخطاب" يقول على
المنبر، وهو يُعَلِّمُ الناس التشهُّدَ، يقول: قولوا: "
التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ
الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى
عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ
اللهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " (1)
.
قال "الشافعي": فكان هذا الذي عَلَّمَنا مَنْ سبَقَنا بالعلم
مِنْ فُقهائنا صِغاراً، ثم سمعناه بإسنادٍ وسمعنا ما خالَفَه،
فلم نسمع إسناداً في التشهد، يخالِفه ولا يُوافقه: أثْبَتَ
عِندنا منه، وإنْ كان غيرُه ثابِتًا.
[ص:269] فكان الذي نذهب إليه: أنَّ "عمر" لا يُعلِّم الناس على
المنبر بيْن ظَهْرَانَيْ أصحاب رسول الله، إلا على ما علَّمَهم
النبي.
فلَمَّا انتهَى إلينا مِن حديث أصحابنا حديثٌ يُثْبِته عن
النبي صِرْنا إليه، وكان أوْلَى بِنا.
قال: وما هو؟
قلت: أخبرنا الثقة، وهو "يحي بن حسَّان" عن "الليث بن سعد" عن
"أبي الزبير المكي" عن "سعيد بن جبير" و"طاوس" عن "ابن عباس"
أنَّه قال: " كَانَ رَسُولُ اللهِ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ
كَمَا يُعَلِّمُنَا القُرَآن، فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ
المُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، [ص:270]
سَلاَمٌ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ
وَبَرَكَاتُهُ، سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ
الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ " (2) .
__________
(1) مالك: كتاب النداء للصلاة/189.
(2) مسلم: كتاب الصلاة/610؛ الترمذي: كتاب الصلاة/267؛
النسائي: كتاب التطبيق/1161؛ أبو داود: كتاب الصلاة/828.
(1/267)
قال "الشافعي": فقال: فأنَّى تَرَى
الروايةَ اختلفَتْ فيه عَن النبي؟ فرَوَى "ابن مسعود" خِلافَ
هذا، ورَوَى "أبو موسى" خِلاف هذا، و"جابِرٌ" خلاف هذا،
وكلُّها قد يُخالِف بعضُها بعْضاً في شيء مِنْ لفْظِه، ثم
علَّمَ "عمر" خلاف هذا كلِّه في بعض لفظه، [ص:271] وكذلك
تشهُّدُ عائشة، وكذلك تشهد "ابن عمر"، ليس فيها شيء إلا في
لفظه شيء غيرُ ما في لفْظ صاحبِه، وقد يزيدُ بعضُها الشيءَ على
بَعْضٍ.
فقلت له: الأمرُ في هذا بَيِّنٌ.
قال: فأبِنْهُ لي.
قلت: كلٌّ كلامٌ أريدَ به تعْظيمُ الله، فعَلَّمَهُمْ رسولُ
الله، فلعلَّه جَعَلَ يعلِّمُه الرجلَ فيحفَظُهُ، والآخرَ
فيحفظه، [ص:272] وما أُخذ حفظاً فأكثرُ ما يُحْترس فيه منه
إحالةُ المعنى، فلم تكن فيه زيادة ولا نقصٌ ولا اختلافُ شيء
مِن كلامه يُحِيل المعنى فلا تَسَعُ إحالتُه.
فلعل النبي أجاز لِكل امرئٍ منهم كما حَفِظَ، إذ كان لا معنى
فيه يحيل شيئاً عن حكمه، ولعل من اختلفت روايته واختلف تشهده
إنما توسَّعوا فيه فقالوا على ما حفِظوا، وعلى ما حَضَرَهُم
وأُجِيزَ لهم.
قال: أفَتَجِدُ شيئا يدلُّ على إجازة ما وصفْتَ؟
فقلت: نعم.
قال: وما هو؟
[ص:273] قلت: أخبرنا "مالك" عن "ابن شهاب" عن "عروة" عن "عبد
الرحمن بن عبدٍ القارِيِّ" قال: سمعت "عمر بن الخطاب" يقول: "
سَمِعْتُ "هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ" يَقْرَأُ
سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأُهَا، وَكَانَ
النَّبِيُّ أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أعْجَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ
أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ
(1) فَجِئْتُ بِهِ إلَى النَّبِيِّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللهِ، إنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ
عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللهِ: اقْرَأْ، فَقَرَأَ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ
يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ
قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ،
إنَّ هَذَا القُرَآن أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ،
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ " (2) .
[ص:274] قال: فإذ كان الله لِرَأْفته بخلْقِه أنزل كتابَه على
سبْعة أحْرف، معرفةً منه بأنَّ الحفْظَ قدْ يَزِلُّ، لِيُحِلَّ
لهم قراءته وإنْ اختلف اللفظُ فيه، ما لم يكن في اختلافهم
إحالةُ معنى: كان ما سِوَى كتابِ الله أوْلَى أنْ يجوز فيه
اختلاف اللفظ ما لم يُحِلْ معْناه.
وكل ما لم يكن فيه حُكْمٌ، فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه.
[ص:275] وقد قال بعضُ التابعين: لَقِيتُ أُناساً مِن أصحاب
رسول الله، فاجتمعوا في المعنى واختلفوا عليَّ في اللفظ،
فقلْتُ لبعضهم ذلك، فقالَ: لا بأس ما لمْ يُحِيلُِ (3) المعنى.
__________
(1) لَبَّبْتُهُ: أخذتُ مِن ثيابه، ما يقع على اللُّبة، وهي
المَنْحَر [المصباح المنير - الفيومي] .
(2) البخاري: كتاب الخصومات/2241؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين
وقصرها/1354؛ الترمذي: كتاب القراءات/2827؛ النسائي: كتاب
الافتتاح/928.
(3) هكذا هو بالياء على صورة المرفوع ويجوز رفعُه على إهمال
(لم) كما هي لغة قومٍ، وكسرُه تخلصاً من التقاء الساكنين
والياء إشباع لحركة الحاء.
(1/270)
قال "الشافعي": فقال: ما في التشهد إلا
تعظيم الله، وإنِّي لأرْجو أن يكون كلُّ هذا فيه واسِعاً، وأن
لا يكون الاختلافُ فيه إلاَّ مِن حيْثُ ذكرْتَ، ومثلُ هذا _
كما قلْتَ _ يُمْكِن في صلاة [ص:276] الخوف، فيكون إذا جاء
بكمال الصلاة على أي الوجوه رُوِيَ عن النبي أجْزَأَهُ، إذ
خالَفَ اللهُ بيْنها وبيْن ما سِواها مِن الصلوات، ولكن كيْف
صِرْتَ إلى اختيار حديث "ابن عباس" عن النبي في التشهد دون
غيره؟
قلتُ: لَمَّا رأيته واسعا، وسمعتُه عن "ابن عباس" صحيحاً، كان
عندي أجمعَ وأكثرَ لفْظًا مِن غيْرِه، فأخذْتُ به، غيرَ
مُعَنِّفٍ لِمَن أخذ بغيره مما ثبت عن رسول الله.
(1/275)
اختلاف الرواية على وجهٍ غير الذي قبله.
(1/276)
أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "أبي سعيد
الخدري" أنَّ رسولَ الله قال: " لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ
بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا (1)
بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الوَرِقَ (2)
بِالوَرِقِ إلاَّ مِثْلًا [ص:277] بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا
بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا شَيْئًا مِنْهَا
غَائِبًا بِنَاجِزٍ (3) " (4) .
أخبرنا "مالك" عن "موسى بن أبي تميم" عن "سعيد بن يسار" عن
"أبي هريرة" أنَّ رسولَ الله قال: " الدِّينَارُ
بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْلَ
بَيْنَهُمَا " (5) .
أخبرنا "مالك" عن "حُمَيْد بن قَيْسٍ" عن "مجاهد" عن "ابن عمر"
أنه قال: " الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ
بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا عَهْدُ
نَبِيِّنَا إلَيْنَا، وَعَهْدُنَا إِلَيْكُمْ " (6) .
قال "الشافعي": وروَى "عثمان بن عفَّان" و"عبادة [ص:278] بن
الصَّامِت" عن رسول الله النَّهْيَ عَنِ الزِّيادَةِ فِي
الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، يَدًا بِيَدٍ (7) .
قال "الشافعي": وبهذه الأحاديث نأخذ، وقال بمثل معناها
الأكابِرُ مِن أصحاب رسول الله، وأكثرُ المُفْتِيِّيَن
بِالبُلدان.
__________
(1) الشِّفُّ: الربح والزيادة [النهاية - ابن الأثير] .
(2) الوَرِقُ: الدراهم المضروبة [مختار الصحاح - الرازي] .
(3) النَّاجِزُ: الحاضر [القاموس المحيط - فيروزآبادي] .
(4) البخاري: كتاب البيوع/2031؛ مسلم: كتاب المساقاة/2964؛
الترمذي: كتاب البيوع/1162؛ النسائي: كتاب البيوع/4494؛ مالك:
كتاب البيوع/1145.
(5) مسلم: كتاب المساقاة/2974؛ النسائي: 4491؛ ابن ماجه: كتاب
التجارات/2247؛ مالك: كتاب البيوع/1144.
(6) النسائي: كتاب البيوع/4492؛ مالك: كتاب البيوع/1146.
(7) مسلم: كتاب المساقاة/2970؛ الترمذي: كتاب البيوع/1161؛
النسائي: كتاب البيوع/4484؛ أبو داود: كتاب البيوع/2907.
(1/276)
أخبرنا "سفيان" أنه سمع "عبيد الله بن أبي
يزيد" يقول: سمعت "ابن عباس" يقول: أخبرني "أسامة بن زيد" أن
النبي قال: " إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيَّةِ (1) " (2) .
[ص:279] قال: فأخذ بهذا "ابن عباس" ونفَرٌ من أصحابه المكيين
وغيرُهم.
قال: فقال لي: قائل هذا الحديث مخالف للأحادِثِ قبْلَه؟
قلت: قد يحتمل خِلافها ومُوافقَتَها.
قال: وبأي شيء يحتمل موافقتها؟
قلت: قد يكون "أسامة" سَمِعَ رسولَ الله يُسأَلُ عن [ص:280]
الصِّنفَيْن المختلفين، مثل الذهب بالوَرِقِ، والتمر
بالحِنْطَة أو ما اختلف جِنْسه مُتَفاضِلاً يداً بيد، فقال: "
إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيَّةِ "، أو تكونُ المسألة
سبقَتْهُ بهذا وأدْرَكَ الجوابَ، فرَوَى الجواب ولم يَحْفظ
المسألة، أو شكَّ فيها، لأنه ليس في حديثه ما يَنْفِي هذا عن
حديث "أسامة"، فاحتمل موافقتها لهذا.
فقال: فلِمَ قلْتَ: يحتمل خلافها؟
قلت: لأن "ابن عباس" الذي رَواه، وكان يذهب فيه غيرَ هذا
المَذْهب، فيقول: لا ربا في بيعٍ يداً بيد، إنما الربا في
النسِيَّة.
فقال: فما الحجة إن كانت الأحاديث قبله مخالِفةً: في تركِه إلى
غيرِه؟
فقلت له: كل واحد ممن روى خلافَ "أسامة"، وإن لم يكن أشهرَ
بالحفظ للحديث من "أسامة"، فليس به تقصير عن حفظه، و"عثمانُ بن
عفان" و"عبادة بن الصامت" أشدُّ تقَدُّمًا بالسِّن [ص:281]
والصُّحْبة من "أسامة"، و"أبو هريرة" أسَنُّ وأحفَظُ مَنْ روَى
الحديث في دَهْرِهِ.
ولَمَّا كان حديثُ اثنين أوْلَى في الظاهر بالحفظ، وبأن
يُنْفَى عنه الغَلَطُ من حديثٍ واحد: كان حديثُ الأكثر الذي هو
أشبه أن يكون أوْلَى بالحفظ مِن حديث مَن هو أحدَثُ منه، وكان
حديث خمسةٍ أولى أن يُصارَ إليه مِن حديث واحد.
__________
(1) النَّسِيئَةُ: التأخير [المصباح المنير - الفيومي] .
(2) مسلم: كتاب المساقاة/2991؛ الترمذي: كتاب البيوع/1162؛
النسائي: كتاب البيوع/4505؛ ابن ماجه: كتاب التجارات/2248.
(1/278)
وجه آخر مما يُعَد مختلفاً، وليس عندنا
بمختلف.
(1/282)
أخبرنا "ابن عيينة" عن "محمد بن
العَجْلانِ" عن "عاصم بن عمر بن قَتَادَةَ" عن "محمود بن
لَبِيد" عن "رافع بن خَدِيج" أنَّ رسولَ الله قال: " أسْفِرُوا
بِالفَجْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أعْظَمُ لِلْأَجْرِ، أَوْ:
أَعْظَمُ لأُجُورِكُمْ " (1) .
[ص:283] أخبرنا "سفيان" عن "الزهري" عن "عروة" عن "عائشة"
قالت: " كُنَّ النِّسَاءُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ يُصَلِّينَ مَعَ
النَّبِيِّ الصُّبْحَ، ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ وَهُنَّ
مُتَلَفِّعاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ (2) ، مَا يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ
مِنَ الغَلَسِ (3) " (4) .
قال: وذكَرَ تَغْلِيسَ النبي بالفجر "سهلُ بن سعد" وزيد بن
ثابت" وغيرُهما مِن أصحاب رسول الله، شبيهٌ بمعنى "عائشة".
__________
(1) الترمذي: كتاب الصلاة/142؛ النسائي: كتاب المواقيت/545؛
أحمد: مسند الشاميين/16641.
(2) تَلَفَّعَتِ المرأة بِمِرطِهَا: مثلُ: تَلَحَّفَتْ به -
وزناً ومعنى -؛ والمِرْطُ: كساء من صوف أو خَزٍّ، يُؤْتَزَرُ
به، وتتلفع المرأة به [المصباح المنير - الفيومي] .
(3) الغَلَسُ: ظلام آخر الليل [المصباح] .
(4) البخاري: كتاب الصلاة/359؛ النسائي: كتاب المواقيت/543؛
أحمد: مسند الأنصار/22967.
(1/282)
قال "الشافعي": قال لي قائل: نحن نرى أن
نَسْفِرَ [ص:284] بالفجر اعتماداً على حديث "رافع بن خديج"
ونزْعُمُ أن الفضْل في ذلك، وأنت ترى أنْ جائِزًا لنا إذا
اختلف الحديثان أنْ نأخذَ بأحدهما، ونحن نَعُدُّ هذا مخالفاً
لحديث "عائشة".
قال: فقلت له: إن كان مخالفاً لحديث "عائشة"، فكان الذي
يَلْزَمنا وإيَّاكَ أن نصير إلى حديث "عائشة" دونه، لأن أصل ما
نبْنِي نحن وأنتم عليه: أن الأحاديث إذا اختلَفَت لم نذهب إلى
واحد منها دون غيره إلا بسبب يدل على أن الذي ذهبنا إليه أقوى
من الذي تَرَكْنا.
قال: وما ذلك السبب؟
قلت: أن يكون أحدُ الحديثين أشْبَهَ بكتاب الله، فإذا أشبه
كتابَ الله كانت فيه الحجةُ.
قال: هكذا نقول.
قلنا: فإن لم يكن فيه نصُّ كتاب كان [ص:285] أوْلاهما بِنا
الأثبتُ منهما، وذلك أن يكون مَن رواه أعرفَ إسنادا وأشهرَ
بالعلم وأحفظَ له، أو يكونَ رُوِيَ الحديثُ الذي ذهبنا إليه
مِن وجهين أو أكثرَ، والذي تركْنا مِن وجهٍ، فيكونَُ الأكثر
أولى بالحفظ مِن الأقل، أو يكونَ الذي ذهبنا إليه أشبهَ بمعنى
كتابِ الله، أو أشبهَ بما سِواهما مِن سُنَنِ رسول الله، أوْ
أَوْلى بما يَعرف أهلُ العلم، أو أصحَّ في القياس، والذي عليه
الأكثرُ مِن أصحاب رسول الله.
قال: وهكذا نَقول ويقول أهلُ العلم.
قلت: فحديث "عائشة" أشبه بِكتاب الله، لأن الله يقول: "
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى (238) "
[البقرة] ، فإذا حَلَّ الوقت فأَوْلَى المُصلِّين بالمحافظة
المُقَدِّمُ الصلاةِ.
[ص:286] وهو أيضاً أشهرُ رجالاً بالثِّقة وأحْفَظُ، ومع حديث
"عائشة": ثلاثةٌ كلُّهم يَرْوُونَ عن النبي مثلَ معنى حديث
"عائشة": "زيدُ بن ثابت" و"سهل بن سعد".
وهذا أشبه بسنن النبي مِن حديث "رافع بن خَدِيج".
(1/283)
قال: وأيُّ سننٍ؟
قلت: قال رسول الله: " أَوَّلُ الوَقْتِ رِضْوَانُ اللهِ،
وَآخِرُهُ عَفْوُ اللهِ " (1) .
[ص:287] وهو لا يُؤْثِر على رضوان الله شيئاً، والعفو لا يحتمل
إلا معنيَيْنِ: عفْوٌ عن تقْصيرٍ، أو توْسِعَةٌ، والتوسعة
تُشْبِه أن يكون الفضْل في غيرِها، إذْ لم يُؤْمَرْ بترك ذلك
الغير الذي وُسِّع في خلافها.
قال: وما تريد بهذا؟
[ص:288] قلت: إذْ لم نؤمر بترك الوقت الأول، وكان جائزاً أنْ
نُصَلِّيَ فيه وفي غيره قبْلَهُ، فالفضْل في التَّقْديم،
والتأخيرُ تقصيرٌ مُوَسَّعٌ.
وقد أبانَ رسولُ الله مثْلَ ما قلنا، وسُئِلَ: أيُّ الأعْمَالِ
أَفْضَلُ؟ فقال: " الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا " (2) .
وهو لا يدع موضع الفضل، ولا يأمر الناس إلا به.
وهو الذي لا يجهله عالم: أنَّ تقديمَ الصلاة في أول وقتها أولى
بالفضل، لِمَا يَعْرِضُ للآدمِيِّينَ مِن الأشغال والنِّسْيان
والعِلَل.
[ص:289] وهذا أشبه بمعنى كتاب الله.
قال: وأيْن هو من الكتاب؟
قلت: قال الله: " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ
الْوُسْطَى (238) " [البقرة] ، ومَن قدَّمَ الصلاةَ في أوَّل
وقْتِها كان أولى بالمحافظة عليها ممن أخَّرَها عَن أوَّل
الوقت.
وقد رأينا الناس فيما وجب عليهم وفيما تَطَوَّعُوا به
يُؤْمَرُون بتعجيله إذا أمْكَن، لِمَا يعرض للآدميين من
الأشغال والنِّسْيان والعلل، الذي لا تَجْهَلُه العُقول.
وإن تقديم صلاة الفجر في أوَّل وقتها عن "أبي بكر" و"عمر"
و"عثمان" و"علي بن أبي طالب" و"ابن مسعود" "وأبي موسى
الأشْعَرِي" و"أنس بن مالك" وغَيْرِهم: مُثْبَتٌ.
__________
(1) الترمذي: كتاب الصلاة/158.
(2) أبو داود: كتاب الصلاة/362.
(1/286)
فقال: فإن "أبا بكر" و"عمر" و"عثمان" دخلوا
في الصلاة مُغَلِّسِيَن وخرجوا منها مُسْفِرِينَ، بإطالة
القِراءة؟
[ص:290] فقلت له: قد أطالوا القراءة وأوْجَزُوهَا، والوقتُ في
الدخول لا في الخروج مِن الصلاة وكلُّهم دخل مُغَلِّسًا، وخرج
رسول الله منها مُغَلِّسًا.
فخالفتَ الذي هو أولى بك أنْ تصير إليه، مما ثَبَتَ عَنْ رسول
الله، وخالفْتَهم، فقلْتَ: يدخل الدَّاخل فيها مُسْفِرًا ويخرج
مُسْفِرًا ويُوجِز القِراءة، فخالفتهم في الدخول وما
احْتَجَجْتَ بِهِ مِنْ طُولِ القراءة، وفي الأحاديث عن بعضهم
أنه خرجَ منها مُغلِّساً.
قال: فقال: أفَتَعُدُّ خَبَرَ "رافع" يُخالِف خبَرَ "عائشة"؟
فقلتُ له: لا.
فقال: فبِأيِّ وجْهٍ يُوافقه؟
فقلت: إن رسول الله لَمَّا حَضَّ الناسَ على تقديم الصلاة،
وأخبر بالفضل فيها: احتمل أن يكون من الرَّاغِبِين مَنْ
يُقَدِّمها قبْل الفجر الآخِرِ، فقال: " أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ
"، يعني: حتى يَتَبَيَّنَ الفَجْرُ الآخِر مُعْتَرِضًا.
[ص:291] قال: أفيحتمل معنىً غيرَ ذلك؟
قلت: نعم، يحتمل ما قلتَ، وما بَيْنَ ما قُلْنا وقلْتَ، وكلَّ
معنى يقع عليه اسم {الإسفار} .
قال: فما جعَلَ معْناكم أوْلَى مِنْ معْنانا؟
فقلت: بما وصفْتُ مِنَ التَّأويل، وبأنَّ النبي قال: " هُمَا
فَجْرَانِ، فَأَماَّ الَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَبُ السِّرْحَانِ
(1) ، فَلَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلاَ يُحَرِّمُهُ، وَأَمَّا
الفَجْرُ المُعْتَرِضُ فَيُحِلُّ الصَّلاَةَ وَيُحَرِّمُ
الطَّعَامَ " (2) ، يعني: على مَنْ أرادَ الصِّيام.
__________
(1) السِّرْحَانُ: الذئب وقيل: الأسد، ويقال للفجر الكاذب:
سرحان - على التشبيه [المصباح المنير - الفيومي] .
(2) سنن البيهقي: كتاب الصلاة/باب: الفجر فجران، ج 2/ص 377.
(1/289)
وجه آخر مما يُعَدُّ مختلفاً.
(1/292)
أخبرنا "سفيان" عن "الزهري" عن "عطاء بن
يزيد اللَّيْثِيِّ" عن "أبي أيُّوبَ الأنْصاري" أنَّ النّبِيَّ
قَالَ: " لاَ تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ وَلاَ
تَسْتَدْبِرُوهَا لِغَايِطِ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا
أَوْ غَرِّبُوا. قَالَ أَبُو أَيُّوب: فَقَدِمْنَا الشَّامَ،
فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ صُنِعَتْ، فَنَنْحَرِفُ
وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ " (1) .
أخبرنا "مالك" عن "يحيى بن سعيد" عن "محمد بن يحيى بن
حَبَّانَ" عن عَمِّهِ "واسع بن حبانط عن "عبد الله بن عمر"
أنَّه كان يقول: " إنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إذَا قَعَدْتَ
عَلَى حَاجَتِكَ فَلاَ تَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَلاَ بَيْتَ
المَقْدِسِ، فَقَالَ "عبد الله": لَقَدْ ارْتَقَيْتُ عَلَى
[ص:293] ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأْيْتُ رَسُولَ اللهِ عَلَى
لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ المَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ "
(2) .
قال "الشافعي": أدَّبَ رَسولُ الله مَن كان بيْن
ظَهْرَانَيْهِ، وهم عَرَب، لا مُغْتَسَلاَتِ لَهُمْ أو لأكثرهم
في منازلهم، فاحتمل أدَبُه لهم معنيين:
- أحدهما: أنهم إنما كانوا يذهبون لحوايجهم في الصحراء، فأمرهم
ألاَّ يستقبلوا القبلة ولا يستدبروها، لِسَعَة الصحراء،
ولِخِفَّةِ المَؤُونَةِ عليهم، لسعة مذاهبهم عن أنْ تُسْتقبل
القبلة أو تُستدبر لحاجة الإنسان مِن غايط أو بول، ولم يكن لهم
مِرْفَقٌ (3) في استقبال القبلة ولا استدبارِها أوْسَعَ عليهم
مِنْ تَوَقِّى ذلك.
[ص:294] وكثيراً ما يكون الذاهبون في تلك الحال في غير سِتْر
عن مصلِّي (4) ، يرى عوراتهم مُقبلين ومُدْبرين، إذا استقبل
القبلة، فأُمِروا أن يُكْرموا قِبْلَةَ الله ويستروا العورات
مِنْ مُصَلي، إنْ صلَّى حيث يراهم، وهذا المعنى أشبه معانيه،
والله أعلم.
وقد يحتمل أن يكون نهاهم أن يستقبلوا ما جُعِلَ قِبْلةً في
صحراء لغائط أو بول، لِئَلاَّ يُتَغَوَّطَ أو يُبالَ في
القِبلة، فتكونَ قَذِرَةً بِذلك، أوْ مِن وَرَائِها، فيكونَ
مِنْ ورائِها أذًى للمصلين إليها.
قال: فسمع "أبو أيوب" ما حَكَى عن النبي جُمْلَةً، فقال
[ص:295] به على المذهب في الصحراء والمنازل، ولم يُفَرِّقْ في
المذهب بين المنازل التي للناس مَرَافِقُ في أنْ يضعوها في بعض
الحالات مُسْتَقْبِلَةَ القِبلة أو مستدبرتها، والتي يكون فيها
الذاهبُ لحاجته مُسْتَتِرًا، فقال بالحديث جملةً، كما سمعه
جملةً.
وكذلك ينبغي لمن سمع الحديث أن يقول به على عُمُومِه وجملته،
حتى يجد دِلالة يُفَرِّق بها فيه بينه.
__________
(1) البخاري: كتاب الصلاة/380؛ مسلم: كتاب الطهارة/388؛
الترمذي: كتاب الطهارة/8؛ النسائي: كتاب الطهارة/21.
(2) البخاري: كتاب الوضوء/142؛ النسائي: كتاب الطهارة/23؛
مالك: كتاب النداء للصلاة/408.
(3) مرفق بوزن مجلس ومنبر: مصدر رفق به.
(4) هكذا هي في الأصل بإثبات الياء. قال الشيخ أحمد شاكر: وهو
جائز فصيح خلافاً لما يظنه أكثر الناس.
(1/292)
قال "الشافعي": لما حكى "ابن عمر" أنه رأى
النبي مستقبلاً بيت المقدس لحاجته، وهو إحدى القبلتين، وإذا
استقبله استدبر الكعبة: أنْكَرَ على مَنْ يقول لا يستقبِلِ
القِبْلَةَ ولا [ص:296] تستدبِرْها لحاجة، ورَأَى أنْ لا
ينبغيَ لأحد أن يَنْتَهِيَ عَن أمْرٍ فعله رسول الله.
ولم يسمع - فيما يُرَى - ما أمَرَ به رسولُ الله في الصحراء،
فَيُفَرِّقَ بيْن الصحراء والمنازل، فيقولَ بالنهي في الصحراء
وبِالرخصة في المنازل، فيكون قد قال بما سمع ورأى، وفرَّقَ
بالدلالة عن رسول الله على ما فرق بينه، لافتراق حال الصحراء
والمنازل.
وفي هذا بَيانُ أن كُلَّ مَن سَمِعَ مِن رسول الله شيئاً
قَبِلَه عنه وقال به، وإن لم يُعرف حيثُ يَتَفَرَّقُ لمْ
يتفرَّقْ بيْنَ ما لمْ يُعْرَفْ إلاَّ بِدِلالةٍ عن رسول الله
على الفرق بَيْنَهُ.
[ص:297] ولهذا أشباهٌ في الحديث، اكتفينا بما ذَكَرْنَا مِنها
مِمَّا لم نَذْكر.
(1/295)
وجه آخر من
الاختلاف.
(1/297)
أخبرنا "ابن عيينة" عن "الزهري" عن "عبيد
الله بن عبد الله بن عُتْبَة" عن "ابن عباس" قال: أخبرني
"الصَّعْبُ بن جَثَّامَةَ" " أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ
يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِ الدَّاِر مِنَ المُشْرِكِينَ
يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: هُمْ مِنْهُمْ ". وَزَادَ "عمرو بن
دينار" عن "الزهري" " هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ " (1) .
[ص:298] أخبرنا "ابن عيينة" عن "الزهري" عن "ابن كَعْب بن
مالك" عن عَمِّهِ: " أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا بَعَثَ إِلَى
"ابن أبي الحُقَيْقِ"، نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ
وَالوِلْدَانِ " (2) .
قال: فكان "سفيان" يذهب إلى أنَّ قولَ النبي: " هُمْ مِنْهُمْ
" إباحَةٌ لِقَتْلِهم، وأنَّ حديث "ابن أبي الحُقَيْقِ" ناسخ
له، وقال: كان "الزهري" إذا حدَّثَ حَديثَ "الصَّعْب بن
جَثَّامَةَ"، أتْبَعَهُ حديث "ابن كعب".
[ص:299] قال "الشافعي": وحديث "الصَّعْب بن جَثَّامَةَ" في
عُمْرَةِ النبي، فإنْ كان في عُمرته الأولى فقد قيل: أمرُ "ابن
أبي الحُقَيْقِ" قَبْلَهَا، وقيل: في سَنَتِها، وإنْ كان في
عُمرته الآخِرة، فهو بعْدَ أمْرِ "ابن أبي الحُقَيْقِ" غَيْرَ
شَكٍّ، والله اعلم.
ولم نَعْلَمْه - صلى الله عليه - رخَّص في قتل النساء
والوِلْدان ثم نهى عنه.
ومعنى نهيه عندنا - والله أعلم - عن قتل النساء والوِلدان: أن
يَقْصِدَ قَصْدَهُمْ بِقتل، وهم يُعْرفون مُتَمَيِّزين ممن
أمَرَ بقتله منهم.
ومعنى قوله: هُمْ مِنْهُمْ: أنهم يجمعون خَصْلَتَيْنِ: أنْ
[ص:300] ليس لهم حُكْم الإيمان الذي يُمْنَع به الدَّمُ، ولا
حكمُ دار الإيمان الذي يُمنع به الإغارةُ على الدَّارِ.
وإذْ أباحَ رسولُ الله البَيَاتَ والإغارة على الدار، فأغار
على بني المُصْطَلِقِ غارِّين: فالعلم يحيط أن البيات والإغارة
إذا حَلَّ بإحلال رسول الله لم يمتنع أحدٌ بَيَّتَ أوْ أغارَ
مِن أن يُصيب النساء والوِلدان، فيسقط المَأْثَمُ فيهم
والكفارةُ والعقْلُ والقَوَدُ عَن من أصابهم، إذ أُبيح له أن
يُبَيِّتَ ويُغير، وليست لهم حُرْمة الإسلام.
ولا يكون له قتْلُهم عامِداً لهم متميزين عارفاً بهم.
فإنما نهى عن قتل الوِلدان: لأنهم لم يَبْلُغوا كُفْرًا
فيَعملوا به، وعن قتل النساء: لأنه لا معنى فيهن لقتالٍ وأنهن
والوِلدان يُتَخَوَّلُون (3) فيكونون قوَّةً لأهل دين الله.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد والسير/2790؛ مسلم: كتاب الجهاد
والسير/3281؛ أبو داود: كتاب الجهاد/2298؛ ابن ماجه: كتاب
الجهاد/2829.
(2) أبو داود: كتاب الجهاد/2298؛ مالك: كتاب الجهاد/856.
(3) يُتَّخذون خولاً أي عبيداً وإماءً.
(1/297)
فإن قال قائل: أبِنْ هذا بغيره.
قيل: فيه ما اكتفى العالم به مِنْ غَيْرِه.
فإن قال: أفتجد ما تَشُدُّه به غيرَه، وتُشَبِّهُهُ مِنْ كتاب
الله؟
قلت: نعم، قال الله: " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ
مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، وَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ، وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا (92) " [النساء] .
قال: فأوجب الله بقتل المؤمن خطأً الدِّية وتحريرَ رقبةٍ، وفي
قتل ذي الميثاقِ الديةَ وتحريرَ رقبةٍ، إذا كانا معاً ممنوعَي
الدم، بالإيمان والعهد والدار معاً، فكان المؤمن في الدار غيرِ
[ص:302] الممنوعة وهو ممنوعٌ بالإيمان، فَجُعِلَتْ فيه الكفارة
بإتلافه، ولم يُجْعَلْ فيه الدِّيةُ، وهو ممنوع الدم بالإيمان،
فلما كان الوِلْدانُ والنساء مِن المشركين لا ممنوعين بإيمان
ولا دار: لم يكن فيهم عَقْلٌ ولا قَوَدٌ ولا دية ولا مأثم - إن
شاء الله - ولا كفارةٌ.
(1/301)
في غسل الجمعة
(1/302)
فقال: فاذْكر وجوهاً مِن الأحاديث المختلفة
عند بعض الناس أيضاً.
فقلت: أخبرنا "مالك" عن "صفوان بن سُلَيْم" عن "عطاء بن يسار"
عن "أبي سعيد الخُدري"، أنَّ رسولَ الله قال: " غُسْلُ يَوْمِ
الجُمْعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ " (1) .
أخبرنا "ابن عيينة" عن "الزهري" عن "سالم" عن أبيه، [ص:303]
أنَّ النبي قال: مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الجُمْعَةَ
فَلْيَغْتَسِلْ " (2) .
قال "الشافعي": فكان قولُ رسول الله في: ((غسل يوم الجمعة
واجب)) ، وأمْرُه بالغسل، يحتمل معنيين: الظاهرُ منهما أنه
واجب، فلا تجزئ الطهارَةُ لِصَلاة الجُمْعَةِ إلاَّ بالغسل،
كما لا يجزئ في طهارة الجُنُبِ غيْرُ الغسل، ويحتمل واجبٌ في
الاختيار والأخْلاق والنَّظافة.
أخبرنا "مالك" عن "الزهري" عن "سالم" قال: " دَخَلَ رَجُلٌ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ يَوْمَ الجُمْعَةِ، و"عُمُرُ بْنُ
الخَطَّابِ" يَخْطُبُ، فَقَالَ "عُمَرُ": أَيَّتُ سَاعَةٍ
هَذِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، انْقَلَبْتُ مِنَ
السُّوقِ، فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَمَا زِدْتُ عَلَى أَنْ
تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ "عُمَرُ": [ص:304] الوُضُوءُ أَيْضًا!
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ يَأْمُرُ
بِالْغُسْلِ؟! " (3) .
أخبرنا الثِّقة عن "مَعْمَرٍ" عن "الزهري" عن "سالم" عن أبيه
مثلَ معنى حديث "مالك"، وسَمَّى الدَّاخِلَ يَوْمَ الجمعة
بِغَيْرِ غُسل: "عثمان بن عَفَّانَ".
قال: فلَمَّا حَفِظَ "عمر" عن رسول الله أنه كان يأمر
بالغُسْلِ، وعلم أنَّ "عثمان" قد عَلِمَ مِنْ أمْر رسول الله
بالغسل، ثم ذكر "عمر" "لعثمان" أمْرَ النبي بالغُسل، وعلِمَ
"عثمان" ذلك: فلو ذهب [ص:305] على مُتَوَهِّمٍ أنَّ "عثمان"
نسِيَ، فقد ذكَّرَه "عمر" قبْلَ الصلاة بِنسيانِه، فلَمَّا لم
يتركْ "عثمان" الصلاة للغسل، ولمَّا لمْ يأمره "عمر" بالخروج
للغسل: دلَّ ذلك على أنهما قد عَلِمَا أن أمْرَ رسول الله
بالغسل على الاختيار (4) ، لا على أنْ لا يُجْزِئَ غيُره، لأن
"عمر" لم يكن لِيَدَعَ أمْرَه بالغسل، ولا "عثمان" إذْ علمنا
أنه ذاكِرٌ لِترك الغُسل، وأمرِ النبي بالغسل: إلاَّ والغُسْلُ
- كما وصفْنَا - على الاختيار.
قال: ورَوَى "البصْرِيُّونَ" أنَّ النبي قال: " مَنْ تَوَضَّأَ
يَوْمَ الجُمْعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَةْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ
فَالغُسْلُ أَفْضَلُ " (5) .
[ص:306] أخبرنا "سفيان" عن "يحيى" عن "عَمْرةَ " عن "عائشة"
قالت: " كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا
يَرُوحُونَ بِهَيْآتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوْ اغْتَسَلْتُمْ
" (6) .
__________
(1) البخاري: كتاب الجمعة/830؛ مسلم: كتاب الجمعة/1397؛
النسائي: كتاب الجمعة/1360؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/210.
(2) البخاري: كتاب الجمعة/845؛ مسلم: كتاب الجمعة/1394.
(3) البخاري: كتاب الجمعة/829؛ مسلم: كتاب الجمعة/1395.
(4) لم ينفرد الشافعي بهذا التأويل فقد ذهب إليه مالك أيضاً
وغيره. وردَّه ابن حزم في المحلى 2/19 وابن دقيق العيد في شرح
عمدة الأحكام 2/109، 111 رداً بليغاً ومال إليه الشيخ أحمد
شاكر في تعليقه على الرسالة ص 306 وفرَّق بين وجوبه وبين
شرطيته لصحة الصلاة فأثبت الأول ونفى الثاني.
(4) الترمذي: كتاب الجمعة/457؛ النسائي: كتاب الجمعة/1363؛
أبوداود: كتاب الطهارة/300؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة
والسنة فيها/1081.
(5) البخاري: كتاب الجمعة/853؛ أبو داود: كتاب الطهارة/298؛
أحمد: باقي مسند الأنصار/23203.
(1/302)
النهي عن معنىً دلَّ عليه معْنًى في حديثٍ
غيره.
(1/306)
أخبرنا "مالك" عن "أبي الزِّنَاد" و"محمد
بن يحيى بن حَبّان" عن "الأعرج" عن "أبي هريرة" أنَّ رسولَ
الله قال: " لاَ يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ "
(1) .
أخبرنا مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر" عن النبي، أنه قال: " لاَ
يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ " (2) .
قال "الشافعي": فلو لم تأت عن رسول الله دِلالة على أن نهيه عن
أنْ يَخْطُب عَلَى خطبة أخيه على معنى دون معنى: [ص:308] كان
الظاهِرُ أنَّ حراماً أنْ يخطب المرء على خِطبة غيره مِن حينِ
يبتدئُ إلى أنْ يدعَها.
قال: وكان قول النبي: " لاَ يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى
خِطْبَةِ أَخِيهِ " يحتمل أن يكون جوابًا أراد به في معنى
الحديث، ولم يسمع مَنْ حدَّثَه: السببَ الذي له قال رسول الله
هذا، فأدَّيَا بَعْضَهُ دون بعْض، أو شَكَّا في بعْضه وسَكَتَا
عَمَّا شَكَّا فيه.
فيكون النبي سُئل عن رجل خطب امرأة فَرَضِيَتْهُ وأذِنت في
نكاحه، فخَطَبَها أرْجَحُ عندها منه، فرجعت عن الأول الذي
أذِنَتْ في إنْكاحه، فنهى عن خِطبة المرأة إذا كانت بهذه
[ص:309] الحال، وقد يكون أن ترجع عن من أذنت في إنكاحه، فلا
يَنْكحُها من رجعت له، فيكونُ فَسَاداً عليها وعلى خاطبها الذي
أذنت في إنكاحه.
__________
(1) البخاري: كتاب النكاح/4747؛ النسائي: كتاب النكاح/3188؛
أبو داود: كتاب النكاح/1782؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/9572.
(2) مالك: كتاب النكاح/965.
(1/307)
فإن قال قائل: لِمَ صِرت إلى أن تقول إنَّ
نهي النبي أنْ يخطب الرجل على خطبة أخيه: على معنىً دون معنىً؟
فبِالدِّلالة عنه.
فإن قال: فأين هي؟
قيل له - إن شاء الله -: أخبرنا "مالك" عن "عبد الله بن يزيد"
مولى "الأسود بن سفيان" عن "أبي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن" عن
"فاطمة بنت قَيْسٍ": " أنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، فَأَمَرَهَا
رَسُولُ اللهِ أنْ تَعْتَدَّ فِي [ص:310] بَيْتِ "ابْنِ أُمِّ
مَكْتُومٍ"، وَقَالَ: إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، قَالَتْ:
فَلَمَّا حَلَلَتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ "مُعَاوِيَةَ بن أبي
سُفْيَانَ" و"أبَا جَهْمٍ" خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ:
فَأَمَّا "أَبُو جَهْمٍ" فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ،
وأمَّا "مُعَاوِيَةُ" فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ، اِنْكِحِي
"أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ"، قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ، فَقَالَ:
اِنْكِحِي" أُسَامَةَ"، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ
خَيْرًا، واغْتَبَطْتُ بِهِ " (1) .
قال "الشافعي": فبهذا قُلْنَا.
ودلَّت سنةُ رسول الله في خِطبته "فاطمةَ" على "أسامة" بعد
إعْلامِها رسولَ الله أنَّ "معاوية" و"أبا جهم" خطباها، على
أمْرين:
- أحدهما: أنَّ النبي يعلم أنهما لا يخطُبانها إلاَّ وخِطبةُ
أحدهما بعد خطبة الآخر، فَلَمَّا لم يَنْهَهَا ولم يَقُلْ لها
ما كان لِواحِدٍ [ص:311] أنْ يَخْطُبَكِ حتى يترك الآخَرُ
خِطْبَتَكِ، وخطبها على "أسامة بن زيد" بعد خطبتهما: فاستدللنا
على أنها لم ترضى، (2) ولو رَضِيَتْ واحِداً منهما أمرها أن
تتزوج مَنْ رضيت، وأن إخبارَها إياهُ بمن خطبها، إنما كان
إخباراً عَمَّا لم تأذن فيه، ولعلها استشارةٌ له، ولا يكون أن
تستشيره وقد أذِنَتْ بأحدهما.
فلما خطبها على "أسامة" استدللنا على أنَّ الحال التي خطبها
فيه غيرُ الحال التي نهى عن خطبتها فيها، ولم تكن حالٌ
تُفَرِّقُ بين خطبتها حتى يَحِلَّ بعضها ويحرُمَ بعضها، إلا
إذا أذنت للولي أن يزوجها، فكان لزوجها - إن زوَّجها الولي -
أن يُلْزِمها التزويجَ، وكان عليه أن يُلزمَه، وحَلَّتْ له،
فأما قبل ذلك فحالها واحدة: ليس لوليها أن يزوجها حتى تأذن،
فرُكُونها وغيرُ ركونِها سَواءٌ.
__________
(1) مسلم: كتاب الطلاق/2709؛ النسائي: كتاب النكاح/3193؛ أبو
داود: كتاب الطلاق/1944؛ مالك: كتاب الطلاق/1064.
(2) هكذا هو في الأصل بإثبات الألف وقد قدَّمنا توجيه نحوه
وأنه جائز في التعليق على ص 275
(1/309)
فإن قال قائل: فإنها راكِنةً مخالِفَةٌ
لِحَالِها غيرَ راكِنة.
فكذلك هي لو خُطِبتْ فَشَتَمَت الخاطب وتَرَغَّبَتْ عنه ثم عاد
عليها بالخطبة فلم تشتمه ولم تظهر تَرَغُّبًا ولم تركن: كانتْ
حالها التي تَرَكَتْ فيها شَتْمه مخالفةً لحالها التي شتمته
فيها، وكانت في هذه الحال أقربَ إلى الرضا، ثم تنتقلُ
حالاتُها، لأنها قبل الرُّكون إلى مُتَأَوَّلٍ، بعضُها أقْرَبُ
إلى الرُّكون منْ بعض.
[ص:313] ولا يصح فيه معنى بحال - والله أعلم - إلاَّ ما وصفْتُ
مِن أنه نهى عن الخطبة بعد إذنها للولي بالتزويج، حَتَّى
يَصِيرَ أمْرُ الولي جائزاً، فأما ما لم يَجُز أمر الولي
فأوَّلُ حالها وآخرُها سواءٌ، والله أعلم.
(1/312)
النهي عن معنىً أوضحَ من معنىً قَبْلهُ.
(1/313)
أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر" أنَّ
رسولَ الله قال: " المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إلاَّ
بَيْعَ الخِيَارِ " (1) .
[ص:314] أخبرنا "سفيان" عن "الزهري" عن "سعيد بن المسيب" عن
"أبي هريرة" أنَّ رسولَ الله قال: " لاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ
عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ " (2) .
قال "الشافعي": وهذا معنى يُبَيِّنُ أن رسول الله قال:
"المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا"، وأنَّ نهيه عن أن يبيع
الرجل على بيع أخيه، إنما هو قبل أن يتَفَرَّقا عن مقامهما
الذي تبايعا فيه.
وذلك أنهما لا يكونان متبايعين حتى يَعْقدا البيْعَ معاً، فلو
كان البيع إذا عَقَداه لزم كلَّ واحد منهما، ما ضَرَّ البائِعَ
أن يبيعه رجلٌ سِلْعَةً كسلعته أو غيرَها، وقد تمَّ بيعه
لِسِلْعته، ولكنه لَمَّا كان لهما الخِيار كان الرجل لو اشترى
من رجلٍ ثَوْبًا بِعشرة دنانِيرَ فجاءه آخر فأعطاه مثله بتسعة
دنانير: أشْبَهَ أن يَفْسَخَ البيعَ، إذا كان له الخيارُ قبل
أن يفارقه، ولعله يفسخه ثم لا يَتِمُّ [ص:315] البيع بينه
وبَيْنَ بَيِّعِهِ الآخر، فيكونُ الآخَرُ قد أفسد على البائع
وعلى المشتري، أو على أحدهما.
فهذا وجْهُ النهي عن أن يبيع الرجلُ على بَيْعِ أخيه، لاَ
وَجْهَ له غيرُ ذلك.
ألاَ تَرَى أنه لوْ باعَهُ ثوباً بعشرة دنانيرَ، فلزمه البيع
قبل أن يتفرقا من مقامهما ذلك، ثم باعه آخر خيراً منه بدينار:
لم يَضُرَّ البائِعَ الأوَّلَ، لأنه قد لَزِمَهُ عَشْرَةُ
دنانيرَ لا يستطيع فسخَها؟!
قال: وقد رُوِيَ عن النبي أنه قال: "لاَ يَسُومُ أَحَدُكُمْ
عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ " (3) ، فإن كان ثابتاً، ولسْتُ أحفظه
ثابتاً، فهو مثل: " لاَ يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ
أَخِيهِ "، لا يسوم على سومه إذا رضي البيعَ وأذِنَ بأن يُباعَ
قبل البيع، حتى لوْ بِيعَ لَزِمَهُ.
فإن قال قائل: ما دل على ذلك؟
فإن رسول الله باع فيمن يزيد، وبيْعُ مَنْ يَزيدُ سَوْمُ رجُلٍ
على سوم أخيه، ولكن البائع لم يرْضَ السَّوْمَ الأوَّلَ حتى
طَلَبَ الزِّيَادَةَ.
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع/1969؛ مسلم: كتاب البيوع/2721؛
النسائي: كتاب البيوع/4404؛ مالك: كتاب البيوع/1177.
(2) البخاري: كتاب البيوع/1996؛ الترمذي: كتاب النكاح/1053؛
النسائي: كتاب البيوع/4430.
(3) مسلم: كتاب النكاح/2519؛ الترمذي: كتاب البيوع/1213؛ ابن
ماجه: كتاب التجارات/2163؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/8966.
(1/313)
النهي عن معنى يُشْبِه الذي قبلَه في شيء
ويفارقه في شيء غيره
(1/315)
أخبرنا "مالك" عن "محمد بن يحيى بن
حَبَّان" عن "الأعرج" عن "أبي هريرة": " أنَّ رَسُولَ اللهِ
نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ
الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى
تَطْلُعَ الشَّمْسُ " (1) .
أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر" أن رسول الله قال:
[ص:317] " لاَ يَتَحَرَّى (2) أَحَدُكُمْ بِصَلاَتِهِ عِنْدَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ عِنْدَ غُرُوبِهَا " (3) .
أخبرنا "مالك" عن "زيد بن أسلم" عن "عطاء بن يسار" عن "عبد
الله الصُّنَابِحِيِّ"، أنَّ رسولَ الله قال: " إنَّ الشَّمْسَ
تَطْلُعُ [ص:320] وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا
ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا،
فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ
قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرُبَتْ فَارَقَهَا، وَنَهَى رَسُولُ
اللهِ عَنِ الصَّلاَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ " (4) .
فاحتمل النهي من رسول الله عن الصلاة في هذه الساعات معنيين:
- أحدهما: - وهو أعَمُّهما - أنْ تكون الصلوات كلها، واجِبها
الذي نُسي ونيم عنه، وما لزم بوجه من الوجوه منها: مُحَرَّمًا
في هذه الساعات، لا يكون لأحد أن يُصلي فيها، ولو صلى لم يؤدي
(5) ذلك عنه ما لزمه من الصلاة، كما يكون مَنْ قدَّم صلاةً
قبْل دخول وقتها لم تُجْزي عنه.
[ص:321] واحتمل أن يكون أراد به بعض الصلاة دون بعض.
فوجدنا الصلاة تتفرق بوجهين: أحدهما: ما وجب منها فلم يكن
لمسلم تركُه في وقته، ولو تركه كان عليه قَضَاهُ، والآخر: ما
تقرب إلى الله بالتنقل فيه، وقد كان للمتنقل تركُه بلا قَضًا
له عليه.
ووجدنا الواجب عليه منها يُفارق التَّطَوُّع في السَّفر إذا
كان المرء راكباً، فيصلي المكتوبة بالأرض، لا يجزئه غيرُها،
والنافلةَ راكباً مُتَوجهاً حيث شاء.
ومُفَرَّقان في الحضر والسفر، ولا يكون لِمَنْ أطاق [ص:322]
القيامَ أن يصلي واجِبًا من الصَّلاة قاعداً، ويكون ذلك له في
النافلة.
فلَمَّا احتمل المعنيين، وجب على أهل العلم أن لا يحملوها على
خاصٍّ دون عامٍّ إلا بدِلالة، مِن سنة رسول الله، أو إجماع
علماء المسلمين، الذين لا يمكن أنْ يُجْمِعُوا على خلاف سنةٍ
له.
__________
(1) البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/553؛ مسلم: كتاب صلاة
المسافرين وقصرها/1366؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/461.
(2) هكذا هو بإثبات الألف وتكرر غير مرة نحوه وتمحّل الشرّاح
في تأويله فعدوا (لا) نافية وهو غير سديد وقدّمنا توجيه نحوه
في التعليق على ص 275 وأنه إشباع للحركة قبل الحرف.
(3) البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/550؛ مسلم: كتاب صلاة
المسافرين وقصرها/1369؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/460.
(4) النسائي: كتاب المواقيت/556؛ مالك: كتاب النداء
للصلاة/457.
(5) هكذا ثبت بالياء وانظر التعليق على ص 275
(1/315)
قال: وهكذا غير هذا من حديث رسول الله، هو
على الظاهر من العامِّ حتى تأتي الدِّلالة عنه كما وصفْتُ، أو
بإجماع المسلمين: أنه على باطنٍ دون ظاهِرٍ، وخاصٍّ دون عامٍّ،
فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة عليه، ويطيعونه في الأمرين
جميعاً.
أخبرنا "مالك" عن "زيد بن أسلم" عن "عطاء بن يسار" وعن "بُسْر
بن سعيد" وعن "الأعرج" يحدثونه عن "أبي هريرة" أنَّ رسول الله
[ص:323] قال: " مَنْ أَدْرَكَ رَكعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ
أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ
أَدْرَكَ رَكعْةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ
الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ " (1) .
قال "الشافعي": فالعلم يحيط أن المُصلي ركعةً من الصبح قبل
طلوع الشمس والمصلي ركعة من العصر قبل غروب الشمس، قد صلَّيَا
معًا في وقتين يجمعان تحريمَ وقتين، وذلك أنهما صليا بعد الصبح
والعصر، ومع بُزُوغ الشمس ومَغِيبها، وهذه أربعةُ أوْقات
مَنْهِيٌّ عن الصلاة فيها.
لَمَّا جعَلَ رسول الله المصلين في هذه الأوقات مُدْرِكين
لصلاة الصبح والعصر، استدللنا على أن نهيه عن الصلاة في هذه
الأوقات على النوافل التي لا تَلْزَمُ، وذلك أنه لا يكون
[ص:324] أن يُجْعل المَرْءُ مُدْرِكًا لصلاةٍ في وقتٍ نُهِيَ
فيه عن الصلاة.
أخبرنا "مالك" عن "ابن شهاب" عن "ابن المسيب" أنَّ رسولَ الله
قال: " مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا،
فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: " أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي (14) "
[طه] " (2) .
وحدّثَ "أنس بن مالك" و"عمران بن حصين" عن النبي مِثل معنى
حديث "ابن المسيب"، وزاد أحدُهما: " أوْ نَامَ عَنْهَا ".
قال "الشافعي": فقال رسول الله: " فَلْيُصَلِّهَا إذَا [ص:325]
ذَكَرَهَا "، فجعل ذلك وقتاً لها، وأخبر به عن الله - تبارك
وتعالى - ولم يستثني (3) وقتاً مِن الأوقات يَدَعُها فيه بعْد
ذكرها.
أخبرنا "ابن عيينة" عن "أبي الزبير" عن "عبد الله بن باباه" عن
"جبير بن مُطْعِمٍ" أن النبي قال: " يَا بَنِي عَبْدِ منَاَفٍ،
مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَلاَ
يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بَهَذَا البَيْتِ وَصَلَّى، أَيَّ
سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ " (4) .
أخبرنا "عبد المجيد" عن "ابن جريج" عن [ص:326] "عطاء" عن النبي
مثل معناه، وزاد فيه: " يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يَا
بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ "، ثم ساق الحديث.
قال: فأخبر "جُبَيْرٌ" عن النبي، أنَّهُ أَمَرَ بِإِبَاحَةِ
الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَالصَّلاَةِ لَهُ فِي أَيِّ سَاعَةٍ
شَاءَ الطَّائِفُ وَالمُصَلِّي.
وهذا يبين أنه إنما نهى عن المواقيت التي نهى عنها، عن الصلاة
التي لا تلزم بوجه من الوجوه، فأما ما لزم فلم يَنهَ عنه، بل
أباحه، صلى الله عليه.
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة/956؛ أحمد: باقي مسند
المكثرين/9575؛ مالك: كتاب وقوت الصلاة/4.
(2) البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/562؛ النسائي: كتاب
المواقيت/615؛ أبو داود: كتاب الصلاة/371؛ ابن ماجه: كتاب
الصلاة/689؛ الدارمي: كتاب الصلاة/1201.
(3) هكذا هي بالياء وكثر مجيء نحوها كثرة يُطمأن إلى صحتها
ويُركن إلى مذهبها. وانظر ص 275
(4) الترمذي: كتاب الحج/795؛ النسائي: كتاب المواقيت/581؛ أبو
داود: كتاب المناسك/1618؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة
فيها/1244؛
(1/322)
وصلى المسلمون على جنائزهم عامةً بعد العصر
والصبح، لأنها لاَزِمة.
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن "عمر بن الخطاب" [ص:327] طاف بعد
الصبح، ثم نَظَرَ فلم يرى (1) الشمْسَ طلعتْ، فركِب حتى أتى ذا
طوًى وطلعت الشمس، فأناخ فصلى: فنهى عن الصلاة للطواف بعد
العصر وبعد الصبح، كما نهى عما لا يلزم مِن الصلاة.
قال: فإذا كان "لِعُمر" أن يؤخر الصلاة للطواف، فإنما تركها
لأن ذلك له، ولأنه لو أراد منزلاً بذي طوى لحاجةٍ كان واسعاً
له - إن شاء الله -، ولكن سمع النهيَ جملةً عن الصلاة، وضرب
"المنكدِرَ" عليها بالمدينة بعد العصر، ولم يسمع ما يدل على
أنه [ص:328] إنما نهى عنها للمعنى الذي وصفنا، فكان يجب عليه
ما فعل.
ويجب على من علم المعنى الذي نَهَى عنه والمعنى الذي أبيحت
فيه: أن إباحتها بالمعنى الذي أباحها فيه خلاف المعنى الذي نهى
فيه عنها، كما وصفتُ مما رَوَى "علي" عن النبي مِن النهي عن
إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاثٍ، إذْ سمع النهي ولم يسمع سبب
النهي.
__________
(1) انظر الحاشية (3) من المقطع السابق مباشرة.
(1/326)
قال: فإن قال قائل: فقد صنع "أبو سعيد
الخدري" كما صنع "عمر"؟
قلنا: والجواب فيه كالجواب في غيره.
[ص:329] قال: فإن قال قائل: فهل مِن أحد صَنَعَ خِلاف ما
صَنَعَا؟
قيل: نعم، "ابنُ عمر"، و"ابن عباس"، و"عائشة"، و"الحسن"،
و"الحسين"، وغيرهم، وقد سمع "ابن عمر" النهي من النبي.
أخبرنا "ابن عيينة" عن "عمرو بن دينار" قال: رأيت أنا و"عطاء
بن أبي رَباحٍ" "ابنَ عمرَ" طاف بعد الصبح، وصلى قبل أن تطلع
الشمس.
"سفيان" عن "عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ" عن "أبي شعبة": أنَّ
"الحسن" و"الحسين" طافا بعد العصر وصَلَّيَا.
[ص:330] أخبرنا "مسلم" و"عبد المجيد" عن "ابن جريج" عن "ابن
أبي مُلَيْكَةَ" قال: رأيتُ "ابن عباس" طاف بعد العصر وصلَّى.
قال: وإنما ذكرْنا تَفَرُّقَ أصحاب رسول الله في هذا
ليَسْتَدِلَّ مَن عَلِمَهُ على أنَّ تفرُّقهم فيما لرسول الله
فيه سنةٌ: لا يكون إلا على هذا المعنى، أو على أنْ لا تبلغ
السنة مَن قال خلافها منهم، أو تأويلٍ تحتمله السنة، أو ما
أشبه ذلك، مما قد يرى قائله له فيه عُذْرًا، إن شاء الله.
وإذا ثَبَتَ عن رسول الله الشيءُ فهو اللازم لجميع مَنْ
عَرَفَهُ، لا يُقَوِّيه ولا يُوهِنُه شيءٌ غيره، بل الفرْضُ
الذي على الناس اتِّباعه، ولم يجعل اللهُ لِأَحَدٍ معه أمْرًا
يخالف أمْرَهُ.
(1/328)
باب آخر.
(1/330)
أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر": "
أَنَّ رَسُولَ اللهِ نَهَى عَنِ المُزَابَنَةِ.
والمُزَابَنَةُ: بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا،
وَبَيْعُ الكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً " (1) .
أخبرنا "مالك" عن "عبد الله بن يزيد" مولى "الأسود [ص:332] بن
سفيان" أنَّ "زيْدًا أبا عيَّاشٍ" أخبره عن "سعد بن أبي وقاص":
" أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ سُئِلَ عَنْ شِرَاءِ التَّمْرِ
بِالرُّطَبِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا
يَبِسَ؟ قاَلُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ " (2) .
[ص:333] أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر" عن "زيد بن
ثابت": أنَّ رَسُولَ اللهِ رَخَّصَ لِصَاحِبِ العَرِيَّةِ أنْ
يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا " (3) .
أخبرنا "ابن عيينة" عن "الزهري" عن "سالم" عن أبيه عن "زيد بن
ثابت": " أنَّ النَّبِيَّ رَخَّصَ فِي العَرَايَا " (4) .
[ص:334] قال "الشافعي": فكان بيع الرُّطَبِ بالتَّمْرِ
مَنْهِيًّا عنه، لنهي النبي، وبَيَّنَ رسولُ الله أنه إنما نهى
عنه لأنه ينقص إذا يَبِسَ، وقد نهى عن التمر بالتمر إلاَّ
مثلاً بمثل، فلَمَّا نظَرَ في المُتَعَقَّبِ مِن نُقْصان الرطب
إذا يبس، كان لا يكون أبداً مثْلاً بمثل، إذْ كان النُّقْصَانُ
مُغَيَّبًا لا يُعْرَفُ، فكان يجمع معنيين: أحدهما التَّفاضُل
في المَكِيلَة؛ والآخر المُزَابَنَة، وهي بيع ما يُعْرف كيْلُه
بما يُجْهل كيْله مِنْ جنسه، فكان مَنْهِيًّا لمعنيين
فَلَمَّا رخَّصَ رُسولُ الله في بيع العَرَايَا بالتمر كيْلاً
لم تعْدُوا العرايا أن تكون رخصة مِن شيء نُهِيَ عنه، أو لم
يكن النهي عنه: عن المزابنة والرطب بالتمر: إلاَّ مَقْصُوداً
بهما إلى غير [ص:335] العرايا، فيكونَ هذا مِن الكلام العام
الذي يراد به الخاصُّ.
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع/2026؛ مسلم: كتاب البيوع/2846؛ مالك:
كتاب البيوع/1140.
(2) الترمذي: كتاب البيوع/1146؛ النسائي: كتاب البيوع/4469؛
أبو داود: كتاب البيوع/2915؛ ابن ماجه: كتاب التجارات/2255؛
مالك: كتاب البيوع/1139.
(3) البخاري: كتاب البيوع/2039؛ مسلم: كتاب البيوع/2838؛ مالك:
كتاب البيوع/1131.
(4) البخاري: كتاب البيوع/2028؛ مسلم: كتاب البيبوع/2043؛
النسائي: كتاب البيوع/4460.
(1/331)
وجه يشبه المعنى
الذي قبله.
(1/335)
وأخبرنا "سعيد بن سالم" عن "ابن جُرَيْجٍ"
عن "عطاء" عن "صفوان بن مَوْهَبٍ" أنه أخبره عن "عبد الله بن
محمد بن صَيْفِيِّ" عن "حكيم بن حِزَامٍ" أنه قال: " قَالَ لِي
[ص:336] رَسُولُ اللهِ: أَلَمْ أُنَبَّأْ، - أَوْ أَلَمْ
يَبْلُغْنِي، أَوْ كَمَا شَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّكَ
تَبِيعُ الطَّعَامَ؟ قال "حكيم": بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: لاَ تَبِيعَنَّ طَعَامًا حَتَّى
تَشْتَرِيَهُ وَتَسْتَوْفِيَهُ " (1) .
أخبرنا "سعيد" عن "ابن جُرَيج" قال: أخبرني "عطاء" ذلك أيضاً
عن "عبد الله بن عِصْمَة" عن "حكيم بن حزام" أنه سمعه منه عن
النبي.
أخبرنا الثقة عن "أيوب بن أبي تميمة" عن "يوسف [ص:337] بن
مَاهَكَ" عن "حكيم بن حزام" قال: " نَهَانِي رَسُولُ اللهِ
عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي" (2) .
يعني بيعَ ما ليس عندك، وليس بمضمونٍ عليك.
أخبرنا "ابن عيينة" عن "ابن أبي نَجِيحٍ" عن "عبد الله بن
كثير" عن "أبي المِنْهَالِ" عن "ابن عباس" قال: " قَدِمَ
رَسُولُ اللهِ [ص:338] المَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي
التَّمْرِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ:
مَنْ سَلَّفَ فَلْيُسَلِّفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ووزن معلوم
وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ " (3) .
قال "الشافعي": حِفْظِي: " وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ ".
وقال: غَيْرِي قَدْ قال ما قلْتُ، وقال: " أوْ إِلَى أَجَلٍ
مَعْلُومٍ ".
[ص:339] قال: فكان نهي النبي أنْ يَبِيعَ المَرْءُ مَا لَيْسَ
عِنْدَهُ، يحتمل أن يبيع ما ليس بحضرته يراه المشتري كما يراه
البائع عند تَبَايُعِهِمَا فيه، ويحتمل أن يبيعه ما ليس عنده:
ما ليس يملك بعينه، [ص:340] فلا يكون موصوفاً مضموناً على
البائع يُؤْخَذُ به، ولا في مِلْكِهِ: فيلزم أن يُسَلِّمَهُ
إليه بعينه، وغيْرَ هذين المعنيين.
فَلَمَّا أَمَرَ رسولُ الله مَنْ سلَّف أن يُسَلِّفَ في كيْلٍ
معلوم ووَزْنٍ معلوم وأجَلٍ معلوم، أو إلى أجل معلوم: دخل هذا
بيعُ ما ليس عند المرء حاضراً ولا مملوكاً حين باعه.
ولَمَّا كانَ هذا مضْموناً على البائع بصفة يؤخذ بها عند
مَحَلِّ الأجل: دلَّ على أنه إنما نهى عن بيع عين الشيء في ملك
البائع، والله أعلم.
وقد يحتمل أو يكون النهيَ عن بيع العين الغائبة، [ص:341] كانتْ
في ملك الرجل أو في غير ملكه، لأنها قد تَهْلِكُ وتنقص قبل أن
يراها المشتري.
__________
(1) النسائي: كتاب البيوع/4523؛ أحمد: مسند المكثرين/14789.
(2) الترمذي: كتاب البيوع/1153؛ أحمد: مسند المكيين/14774.
(3) البخاري: كتاب السلم/2085؛ مسلم: كتاب المساقاة/3010؛
الترمذي: كتاب البيوع/1232؛ النسائي: كتاب البيوع/4537.
(1/335)
قال: فكل كلام كان عاماً ظاهراً في سنة
رسول الله فهو على ظهوره وعمومه، حتى يُعْلَمَ حديثٌ ثابِتٌ عن
رسول الله - بأبي هو وأمي - يدل على أنه إنما أريد بالجملة
العامة في الظاهر بعضُ الجملة دون بعض، كما وصفتُ من هذا وما
كان في مثل معناه.
ولزم أهلَ العلم أنْ يُمْضُوا الخبرين على وجوههما، ما وجدوا
لإمضائهما وجهاً، ولا يَعُدُّونهما مختلفين وهما يحتملان أن
يُمْضيَا، وذلك إذا أمكن فيهما أن يُمْضَيَا مَعًا، أو وُجِد
السبيلُ إلى إمضائهما، ولم يكن منهما واحد بأوْجَبَ مِن الآخر.
[ص:342] ولا يُنْسَب الحديثان إلى الاختلاف، ما كان لهما وجهاً
(1) يمضَيَان معاً، إنما المختلِف ما لم يُمْضَى (2) إلا بسقوط
غيره، مثل أن يكون الحديثان في الشيء الواحد، هذا يُحِلُّهُ
وهذا يُحَرِّمه.
__________
(1) هكذا بالنصب وهو تِرْبٌ لشواهد سبقت انظر ص 158
(2) هذا من الكثرة التي أشرنا إليها في التعليق على ص 325
وانظر ص 275
(1/341)