الرسالة للشافعي

الجزء الثاني.

(1/203)


[ ... قال أنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي قال:]
بسم الله الرحمن الرحيم.
فإن قال قائلٌ: ما دلَّ على هذا؟
فإن النِّساءَ المُباحاتِ لا يَحلُّ أن يُنْكح مِنهنَّ أكثرُ مِن أرْبَعٍ، ولو نَكَحَ خامِسةً فُسِخ النِّكاحُ، فَلا تحلُّ مِنهن واحدةٌ إلا بنِكاحٍ صحيحٍ، وقَدْ كانت الخامسةُ مِن الحَلالِ بِوَجْهٍ، وكذلك الواحِدة، بِمَعْنَى قول الله: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ "، بالوجه الذي أُحِلَّ به النكاحُ، وعلى الشرط الذي أحَلَّه به، لا مُطْلَقًا.
فيكون نكاحُ الرجلِ المرأةَ لا يُحَرِّمُ عليه نكاحَ عمَّتها ولا خالَتِها بكُلِّ حال، كما حَرَّمَ اللهُ أمَّهاتِ النساءِ بِكُلِّ حال، فتكون العَمَّةُ والخالةُ داخِلَتَيْنِ في معنى مَنْ أَحَلَّ بالوجْه الذي أحلَّها به.
[ص:206] كما يَحِلُّ له نكاحُ امرأةٍ إذا فارَق رابِعَةً: كانت العمَّةُ إذا فُورِقَت ابْنَتُ أخيها، حَلَّتْ.

(1/205)


[في محرمات الطعام] .

(1/206)


وقال الله لنبيه: " قُلْ: لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ (145) " [الأنعام] .
فاحتملتْ الآيةُ مَعْنَيَيْنِ: أحدُهما: أنْ لا يَحْرُمَ على طاعِمٍ أبَداً إلا ما اسْتَثْنَى اللهُ.
وهذا المعنى الذي إذا وُجِّهَ رجلٌ مُخَاطَبًا به كانَ الذي [ص:207] يَسْبِقُ إليه أنَّه لا يَحْرُمُ غيرُ ما سَمَّى اللهُ مُحَرَّمًا، وما كان هكذا فهو الذي يقولُ له: أظْهَرُ المعاني وأعمُّها وأغْلَبُها، والذي لو احتملت الآيةُ معنى سِواه كان هو المعنى الذي يَلْزَمُ أهلَ العِلْم القوْلُ به، إلا أنْ تأتِيَ سنةُ النبي تدُلُّ على معنىً غيْرِهِ، مما تحتمله الآية، فيقولَ: هذا معنى ما أراد الله تبارك وتعالى.
ولا يقال بخاصٍّ في كتاب الله ولا سُنةٍ إلا بِدِلالةٍ فيهما أو في واحِدٍ مِنهما. ولا يقال بخاصٍّ حتى تكون الآية تحتمل أن يكون أُرِيدَ بها ذلك الخاصُّ، فأمَّا ما لم تكنْ مُحْتَمِلةً له فلا يقال فيها بما لم تحتمل الآيةُ.
ويحتمل قولُ الله: " قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ (145) " [الأنعام] ، من شيء سُئِلَ عنْه رسولُ الله دون غَيْرِه.
[ص:208] ويَحْتمل: مِمَّا كُنْتُمْ تأكُلُونَ. وهذا أَوْلَى مَعَانِيه، استدلالاً بالسُّنة عليه، دون غَيْرِه.
أخبرنا "سفيان" عن "ابن شهاب" عن "أبي إدريسَ الخَوْلَانِيِّ" عن "أبي ثَعْلَبَةَ": " أنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ " (1) .
أخبرنا "مالك" عن "إسماعيلَ بن أبي حَكِيم" عن عَبِيدَةَ بن سفيان الحَضْرَمِيِّ" عن "أبي هُرَيْرَةَ"، عن النبي قال: " أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ " (2) .
__________
(1) البخاري: كتاب الذبائح والصيد/5101؛ مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوانات/3570؛ الترمذي: كتاب الصيد/1397؛ النسائي: كتاب اليد والذبائح/4251؛
أبو داود: كتاب الأطعمة/3308؛ ابن ماجه: كتاب الصييد/3223؛ أحمد: مسند العشرة/1179.
(2) مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوانات/3573؛ النسائي: كتاب الصيد والذبائح/4250؛ ابن ماجه: كتاب الصيد/3224؛ مالك: كتاب الصيد/940.

(1/206)


[فيما تُمْسَكُ عَنْه المُعْتَدَّةُ مِن الوَفَاةِ] .

(1/209)


قال الله: " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) " [البقرة] .
فذَكَر اللهُ أنَّ على المُتَوَفَّى عَنْهُنَّ عِدَّةً، وأنهُنَّ إذا بَلَغْنَهَا فَلهُنَّ أنْ يَفْعلْنَ في أنْفُسهِنَّ بالمَعْروف، ولم يَذْكر شيئاً تجتنبه في العِدة.
قال: فكان ظاهرُ الآية أنْ تُمْسِكَ المعتدَّةُ في العِدَّة عَن الأزواج فَقَطْ، مع إقامتها في بَيْتها -: بالكِتاب.
وكانتْ تَحْتمل أن تُمْسِكَ عن الأزواج، وأن يكون عليها في الإمساك عن الأزواج إمساكٌ عَنْ غَيْرِه، مِمَّا كان مُباحا لها قَبْلَ العِدَّة مِنْ طِيبٍ وَزِينَة.
[ص:210] فلَمَّا سَنَّ رسولُ الله على المُعْتَدَّة مِن الوفاة الإمساك عن الطِّيبِ وغَيْرِه، كان عليها الإمساكُ عن الطيب وغيره بِفَرْض السُّنَّة، والإمساكُ عن الأزواج والسُّكْنَى في بَيْت زوْجها بالكتاب ثم السُّنة.
واحتملت السنةُ في هذا المَوْضِع ما احتملتْ في غيره: مِنْ أن تكونَ السنةُ بَيَّنَتْ عَنِ الله كَيْف إمساكُها، كما بَيَّنَت الصلاةَ والزكاةَ والحَجَّ، واحتملتْ أنْ يكونَ رسولُ الله سَنَّ فيما ليس فيه نصُّ حُكْمٍ لِلَّهِ.

(1/209)