الرسالة للشافعي [باب
الإجماع] :
(1/471)
قال "الشافعي": فقال لي قائل: قد فهمتُ
مذهبك في أحكام الله، ثم أحكام رسوله، وأن من قَبِل عن رسول
الله، فعن الله قَبِل، بأن الله افترض طاعة رسوله، وقامت الحجة
بما قلتَ بأن لا يحلَّ لمسلم عَلِمَ كتاباً ولا سنة أين يقول
بخلاف واحد منهما، وعلمتُ أن هذا فرضُ الله. فما حجتك في أن
تَتْبع ما اجتمع الناس عليه مما ليس فيه نص حكم لله، ولم يحكوه
عن النبي؟ أتزعُمُ ما يقول غيرك أن إجماعهم لا يكون أبداً إلا
على سنة ثابتة، وإن لم يحكوها؟!
[ص:472] قال: فقلت له: أمَّا ما اجتمعوا عليه، فذكروا أنه
حكاية عن رسول الله، فكما قالوا، إن شاء الله.
وأما ما لم يحكوه، فاحتمل أن يكون قالوا حكايةً عن رسول الله،
واحتمل غيره، ولا يجوز أن نَعُدَّه له حكايةً، لأنه لا يجوز أن
يحكي إلا مسموعاً، ولا يجوز أن يحكي شيئاً يُتَوَهَّم، يمكن
فيه غير ما قال.
فكنا نقول بما قالوا به اتباعاً لهم، ونعلم أنهم إذا كانت سنن
رسول الله لا تَعزُبُ عن عامتهم، وقد تعزُبُ عن بعضهم. ونعلم
أن عامّتهم لا تجتمع على خلافٍ لسنة رسول الله، ولا على خطأ،
إن شاء الله.
(1/471)
فإن قال: فهل من شيء يدل على ذلك، وتشدُّه
به؟
قيل: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد
الله بن مسعود عن أبيه: أن رسول الله قال: " نَصَّرَ الله
عبداً " (1)
أخبرنا سفيان عن عبد الله بن أبي لبيد عن ابن سليمان بن يسار
عن أبيه: " أن عمر بن الخطاب خطبَ الناسَ [ص:474] بالجابية،
فقال: إن رسول الله قام (2) فينا كمَقَامي فيكم، فقال: أكرموا
أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب، حتى
إن الرجل لَيَحْلف ولا يُستحلف، ويَشهد ولا يُستشهد، ألا فمن
سرَّه بَحبَحَة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفَذّ
وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلُوَنَّ رجل بامرأة، فإن الشيطان
ثالثهم، ومن سَرَّته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن" (3) .
[ص:475] قال: فما معنى أمر النبي بلزوم جماعتهم؟
قلت: لا معنى له إلا واحد.
قال: فكيف لا يحتمل إلا واحداً؟
قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان، فلا يقدر أحدٌ أن
يلزم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرقين، وقد وُجِدَت الأبدان تكون
مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفُجَّار، فلم يكن
في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا
يصنع شيئاً فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليهم جماعتهم
من التحليل والتحريم والطاعة فيهما.
ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن
خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ
[ص:476] بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفُرقة، فأما الجماعة
فلا يمكن فيها كافةً غفلةٌ عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس، إن
شاء الله.
__________
(1) سبق ص 401
(2) في الأصل ((قام الله فينا)) !
(3) الحديث مرسل فسليمان بن يسار لم يدرك عمر والحديث صح عن
عمر رواه أحمد 1/18، 26 والطيالسي ص 7 والترمذي، أبواب الفتن،
باب لزم الجماعة، والحاكم 1/113 - 115
(1/473)
[القياس]
(1)
(1/476)
قال: فمن أين قلت: يقال بالقياس فيما لا
كتابَ فيه ولا سنةَ ولا إجماعَ؟ أفالقياس نصُّ خبٍر لازمٍ؟
قلت: لو كان القياس نصَّ كتاب أو سنة قيل في كل ما كان نصَّ
كتاب "هذا حُكمُ الله "، وفي كل ما كان [ص:477] نصَّ السنة "
هذا حكم رسول الله "، ولم نَقُل له: "قياس".
قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان؟
قلت: هما اسمان لمعنىً واحد.
قال: فما جِماعهما؟
قلت: كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم، أو على سبيل الحقِّ فيه
دلالةٌ موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكمٌ: اتباعُه، وإذا
لم يكن فيه بعينه طُلِب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد.
والاجتهادُ القياسُ. 0
قال: أفرأيت العالمين إذا قاسوا، على إحاطةٍ هم من أنهم أصابوا
الحقَّ عند الله؟ وهل يسعهم أن يختلفوا في القياس؟ وهل [ص:478]
كُلفوا كل أمر من سبيل واحد، أو سبل متفرقة؟ وما الحجةُ في أن
لهم أي يقيسوا على الظاهر دون الباطن؟ وأنه يسعهم أن يتفرقوا؟
وهل يختلف ما كُلفوا في أنفسهم، وما كُلفوا في غيرهم؟ ومن الذي
له أن يجتهد فيقيس في نفسه دون غيره؟ والذي له أن يقيس في نفسه
وغيره؟
فقلت: له العلم من وجوه: منه إحاطةٌ في الظاهر والباطن، ومنه
حق في الظاهر.
فالإحاطة منه ما كان نصَّ حكم لله أو سنة لرسول الله نقلها
العامة عن العامة. فهذان السبيلان اللذان يُشهد بهما فيما أُحل
أنه حلال، وفيما حُرم أنه حرام. وهذا الذي لا يَسَع أحداً
عندنا جَهْلُه ولا الشكُّ فيه.
وعلمُ الخاصة سنةً من خبر الخاصة يعرفها العلماء، [ص:479] ولم
يُكَلَّفها غيرهم، وهي موجودة فيهم أو في بعضهم، بصدق الخاص
المخبِرِ عن رسول الله بها. وهذا اللازم لأهل العلم أن يصيروا
إليه، وهو الحق في الظاهر، كما نقتل بشاهدين. وذلك حق في
الظاهر، وقد يمكن في الشاهدين الغلطُ.
وعلمُ إجماع.
وعلمُ اجتهادٍ بقياسٍ، على طلب إصابة الحق. فذلك حق في الظاهر
عند قايِسِه، لا عند العامة من العلماء، ولا يعلم الغيب فيه
إلا الله.
وإذا طُلب العلم فيه بالقياس، فقيس بصحةٍ: اِيْتَفَقَ
المقايسون في أكثره، وقد نجدهم يختلفون.
__________
(1) هذا العنوان زاده الشيخ أحمد شاكر.
(1/476)
والقياس من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء
في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه. وأن يكون الشيء له في
الأصول أشباهٌ، فذلك يُلحق بأولاها به وأكثرِها شَبَهاً فيه.
وقد يختلف القايسون في هذا.
قال: فأوجِدني ما أعرف به أن العلم من وجهين: أحدهما: إحاطةٌ
بالحق في الظاهر والباطن، والآخر إحاطةٌ بحق في الظاهر دون
الباطن: مما أعرفُ؟
فقلت له: أرأيت إذا كنا في المسجد الحرام نرى الكعبة:
أَكُلِّفْنا أن نستقبلها بإحاطة؟
قال: نعم.
قلت: وفُرِضَت علينا الصلوات والزكاة والحج، وغير ذلك:
أَكُلِّفنا الإحاطةَ في أن نأتي بما علينا بإحاطةٍ؟
قال: نعم.
قلت: وحين فُرِض علينا أن نجلدَ الزاني مائة، ونجلدَ القاذف
ثمانين، ونقتلَ مَن كَفَرَ بعد إسلامه، ونقطع من سرق:
أَكُلِّفْنا أن نفعل هذا بمن ثبت عليه بإحاطةٍ نعلم أنا قد
أخذناه منه؟
قال: نعم.
[ص:481] قلت: وسواءٌ ما كُلِّفنا في أنفسنا وغيرِنا، إذا كنا
ندري من أنفسنا بأنّا نعلم منها ما لا يعلم غيرنا، ومن غيرنا
ما لا يدركه علْمُنا كإدراكنا العلمَ في أنفسنا؟
قال: نعم.
قلت: وكُلِّفْنا في أنفسنا أين ما كُنا أن نَتَوَجه إلى البيت
بالقبلة؟
قال: نعم.
قلت: أفتجدنا على إحاطةٍ من أنا قد أصبنا البيت بتوجهنا؟
قال: أما كما وجدتكم حين كنتم ترون فلا، وأما أنتم فقد أدَّيتم
ما كُلِّفتم.
قلت: والذي كُلفنا في طلب العين المغيَّب غيرُ الذي كُلِّفنا
في طلب العين الشاهد. ِ
[ص:482] قال: نعم.
قلت: وكذلك كُلفنا أن نقبل عدل الرجل على ما ظهر لنا منه،
ونناكحَه ونوارثَه على ما يظهر لنا من إسلامه؟
قال: نعم.
قلت: وقد يكون غير عدل في الباطن؟
قال: قد يمكن هذا فيه، ولكن لم تُكَلفوا فيه الا الظاهر.
قلت: وحلالٌ لنا أن نناكحه، ونوارثه، ونجيز شهادته، ومحرمٌ
علينا دمه بالظاهر؟ وحرامٌ على غيرنا إن عَلم منه أنه كافر إلا
قتلَه ومنعَه المناكحةَ والموارثةَ وما أعطيناه؟
قال: نعم.
قلت: وُجِدَ الفرض علينا في رجل واحد مختلفاً على مبلغ علمنا
وعلم غيرنا؟
[ص:483] قال: نعم، وكلكم مؤدي ما عليه على قدر علمه.
قلت: هكذا قلنا لك فيما ليس فيه نص حكم لازمٍ، وإنما نطلب
باجتهادِ القياسِ، وإنما كُلفنا فيه الحقَّ عندنا.
(1/479)
قال: فتجدُك تحكم بأمر واحد من وجوه
مختلفة؟
قلت: نعم، إذا اختلفت أسبابه.
قال: فاذكر منه شيئاً.
قلت: قد يُقِرّ الرجل عندي على نفسه بالحق لله، أو لبعض
الآدميين، فآخذه بإقراره، ولا يقر، فآخذه بِيَنِّة تقوم عليه،
ولا تقوم عليه بينة، فَيُدَّعى عليه، فآمره بأن يحلف
ويَبرَْأَ، فيَمتنعُ، فآمر خصمَه بأن يحلف، ونأخذُه بما حلف
عليه خصمه، إذا أبى اليمين التي تُبرِئه، ونحن نعلم أن إقراره
على نفسه - بِشُحِّه على [ص:484] ماله، وأنه يُخاف ظَلمُه
بالشحِّ عليه -: أصدَقُ عليه من شهادة غيره، لأن غيره قد
يَغلِط ويكذب عليه، وشهادةُ العدول عليه أقربُ من الصدق من
امتناعه من اليمين ويمينِ خصمه، وهو غيرُ عدل، وأُعطي منه
بأسبابٍ بعضُها أقوى من بعض.
قال: هذا كله هكذا، غيرَ أنا إذا نَكِل عن اليمين أعطينا منه
بالنكول.
قلت: فقد أعطيتَ منه بأضعفَ مما أعطينا منه؟
قال: أجل، ولكني أخالفك في الأصل.
قلت: وأقوى ما أعطيتَ به منه إقرارُه، وقد يمكن أن يُقِر بحق
مسلم ناسياً أو غلطاً، فآخذُه به؟
قال: أجل، ولكنك لم تُكَلف إلا هذا.
[ص:485] قلنا: فلستَ تراني كُلِّفت الحقَّ من وجهين: أحدهما:
حقٌّ بإحاطةٍ في الظاهر والباطن، والآخر: حق بالظاهر دون
الباطن؟
قال: بلى، ولكن هل تجد في هذا قوةً بكتاب أو سنة؟
قلت: نعم، ما وصفتُ لك مما كُلفت في القبلة وفي نفسي وفي غيري.
قال الله: {ولا يحيطونَ بشيء من علمِهِ إلا بما شاءَ} [البقرة
255] فآتاهم من علمه ما شاء، وكما شاء، لا مُعَقِّبَ لحُكمه،
وهو سريعُ الحساب.
وقال لنبيه: {يسئلونك عن الساعة أَيَّانَ مُرْساها فيمَ أنتَ
من ذِكراها إلى ربك مُنْتَهَاها} [النازعات 42 - 44]
سفيانُ عن الزُّهري عن عُروة قال: " لم يَزَل رسول الله يَسأل
عن الساعة، حتى أنزل الله عليه {فيم أنت من ذكراها} فانتهى".
[ص:486] وقال الله: {قل لا يعلمُ من في السماوات والأرضِ
الغيبَ إلا اللهُ} [النمل 65]
وقال الله تبارك وتعالى: {إن الله عنده عِلمُ الساعةِ،
ويُنزِّلُ الغيث، ويَعلمُ ما في الأرحامِ، وما تَدري نفسٌ ماذا
تَكْسِبُ غداً، وما تدري نفس بأيِّ أرض تموت، إن الله عليمٌ
خبير} [لقمان 34]
فالناس مُتَعَبَّدون بأن يقولوا ويفعلوا ما أُمروا به، وينتهوا
إليه، لا يُجاوزونَه، لأنهم لم يُعطوا أنفسَهم شيئاً، إنما هو
عطاء الله. فنسأل الله عطاءاً مؤدِّياً لحقه، موجِباً لمزيده.
(1/483)
|