الرسالة للشافعي

 [باب الاجتهاد]

(1/486)


قال: أفتجد تجويز ما قلت من الاجتهاد، مع ما وصفتَ فتذكرَه؟
قلت: نعم، استدلالاً بقول الله: {ومن حيثُ خرجْتَ فَوَلِّ وجهَكَ شَطْرَ المسجدِ الحرامِ، وحيث ما كنتم فولُّوا وجوهَكم شَطْرَهُ} [البقرة 150]
قال: فما شطره؟
قلت: تلقاءَه قال الشاعر:
إن العسيبَ بها داءٌ مُخامِرُها فشَطْرَها بَصَرُ العَينين مَسجُورُ (1)
[ص:488] فالعلم يحيط أن مَن تَوَجه تلقاء المسجد الحرام ممن نَأَت داره عنه: على صواب بالاجتهاد للتوجه الى البيت بالدلائل عليه، لأن الذي كُلف التوجُّهُ إليه، وهو لا يدري أصاب بتوجهه قصْدَ المسجد الحرام أم أخطأه، وقد يَرَى دلائل يعرفها فيَتَوجه بقدر ما يعرف [ويعرف غيره دلائل غيرها، فيتوجه بقدر ما يعرف] وإن اختلف توجههما.
قال: فإن أجزتُ لك هذا أجزتُ لك في بعض الحالات الاختلافَ.
قلت: فقل فيه ما شئتَ.
قال: أقول. لا يجوز هذا.
قلت: فهو أنا وأنت، ونحن بالطريق عالمان، [ص:489] قلت: وهذه القبلةُ، وزعمتَ خِلافي على أيِّنا يتبع صاحبه؟
قال: ما على واحد منكما أن يتبع صاحبه.
قلت: فما يجب عليهما؟
قال: إن قلتُ لا يجب عليهما أن يصليا حتى يعلما بإحاطة: فهما لا يعلمان أبداً المغيَّب بإحاطة، وهما إذاً يَدَعان الصلاة، أو يرتفع عنهما فرضُ القبلة، فيصليان حيث شاءا، ولا أقول واحداً من هذين، وما أجد بُدَّاً من أن أقول: يصلي كل واحد منهما كما يرى، ولم يُكَلفا غير هذا، أو أقولَ كُلف الصوابَ في الظاهر والباطن، ووُضع عنهما الخطأ في الباطن دون الظاهر.
قلت: فأيَّهما قلتَ فهو حجة عليك، لأنك فرَّقت بين حكم الباطن والظاهر، وذلك الذي أنكرتَ علينا، وأنت: تقول إذا اختلفتم قلتُ ولا بد أن يكون أحدهما مخطئً؟
قلت: أجل.
قلت: فقد أجزتَ الصلاة وأنت تعلم أحدَهما [ص:490] مخطئً، وقد يمكن أن يكونا معاً مخطئين.
وقلت له: وهذا يلزمك في الشهادات وفي القياس.
قال: ما أجد من هذا بُدَّاً، ولكن أقول: هو خطأ موضوع.

(1/486)


فقلت له: قال الله: {ولا تقتلوا الصيدَ وأنتم حُرُم، ومَن قَتَلَه منكم متعمداً، فَجَزاءٌ مثلُ ما قَتَل من النَّعَم، يحكمُ به ذَوَا عَدْلٍ منكم، هَدْياً بالغَ الكعبةِ} [المائدة 95]
فأمرهم بالمِثل، وجعل المثل الى عدلين يحكمان فيه، فلما حُرِّم مأكولُ الصيد عامّاً كانت لِدَوَابِّ الصيد أمثالٌ على الأبدان.
فحَكَمَ مَن حَكَمَ من أصحاب رسول الله على ذلك، [ص:491] فقضى في الضَّبُع بكَبْشٍ، وفي الغزال بعَنْز، وفي الأرنب بعَنَاق، وفي اليَربوع بجَفْرَةٍ. (1)
والعلم يحيط أنهم أرادوا في هذا المثلَ بالبدن، لا بالقِيَم، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان وفي الأزمان، وأحكامُهم فيها واحدة.
والعلم يحيط أن اليربوع ليس مثل الجَفرة في البدن، ولكنها كانت أقربَ الأشياء منه شَبَهَاً، فجُعلت مثله، وهذا من القياس يَتَقَارب تقاربَ العنز والظَّبي، ويَبعد قليلاً بُعْد الجفرة من اليربوع.
ولما كان المثل في الأبدان في الدوابِّ من الصيد دون الطائر: لم يَجُز فيه إلا ما قال عمر - والله أعلم - من أن يُنظر الى المقتول من الصيد، فيُجزى بأقرب الأشياء به شَبَهَاً منه في البدن، [ص:492] فإذا فات منها شيئاً (2) رُفِع إلى أقرب الأشياء به شَبَهَاً، كما فاتت الضَّبُع العنز، فرُفِعت الى الكبش، وصَغُرَ اليربوع عن العَنَاق فخُفِضَ الى الجَفْرة.
وكان طائر الصيد لا مثل له في النَّعَم لاختلاف خِلقته وخلقته، فجُزِي خبراً وقياساً (3) على ما كان ممنوعاً لإنسان فأتلفه إنسان، فعليه قيمته لمالكه.
قال "الشافعي": فالحكم فيه بالقيمة يجتمع في أنه يُقَوَّم قيمةَ يومه وبلده، ويختلف في الأزمان والبلدان، حتى يكون الطائر ببلد ثمنَ درهمٍ، وفي البلد الآخر ثمنَ بعضِ ردهم.
__________
(1) العَنَاق: ما لم يتم له سنة من أنثى أولاد المعز. والجَفْرة: ما بلغ أربعة أشهر وفُصل عن أمه وأخذ في الرعي.
(2) أي جاوز شيئاً.
(3) أي فجزي استدلالاً بالخبر والقياس.

(1/490)


وأمرنا بإجازة شهادة العدل، وإذا شُرط علينا أن نقبل العدل ففيه دلالة على أن نردَّ ما خالفه.
وليس للعدل علامة تفرِّق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه بما يُختَبر من حاله في نفسه.
فإذا كان الأغلب من أمره ظاهرَ الخير: قُبِلَ، وإن كان فيه تقصير عن بعض أمره، لأنه لا يُعَرَّى أحد رأيناه من الذنوب.
وإذا خَلَطَ الذنوب والعمل الصالح، فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره، بالتمييز بين حَسَنه وقبيحه، وإذا كان هذا هكذا، فلا بد من أن يختلف المجتهدون فيه.
وإذا ظهر حَسَنه فقبلنا شهادته، فجاء حاكم غيرُنا، فعلم منه ظهور السّيّء كان عليه ردُّه.
[ص:494] وقد حكم الحاكمان في أمر واحد برَدٍّ وقبولٍ، وهذا اختلاف، ولكن كلٌّ قد فعل ما عليه.

(1/493)


قال: فتذكر حديثاً في تجويز الاجتهاد؟
قلت: نعم، أخبرنا عبد العزيز عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بُسْر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله يقول: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر"
[ص:495] أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة (1)
فقال: هذه رواية منفردة، يردُّها علي وعليك غيري وغيرك، ولغيري عليك فيها موضعُ مطالبة.
قلت: نحن وأنت ممن يثبتها؟
قال: نعم.
قلت: فالذين يردونها يعلمون ما وصفنا من تثبيتها وغيرِه.
[ص:496] قلت: فأين موضعُ المطالبة فيها؟
فقال: قد سمى رسول الله فيما رويتَ من الاجتهاد "خطأً" و "صواباً"؟
فقلت: فذلك الحجةُ عليك.
قال: وكيف؟
قلت: إذ ذكر النبي أنه يثاب على أحدهما أكثرَ مما يُثاب على الآخر، ولا يكون الثواب فيما لا يسع، ولا الثواب في الخطأ الموضوع.
لأنه لو كان إذا قيل له: اجتهد على الخطأ، فاجتهد على [ص:497] الظاهر كما أُمر كان مخطئا خطأ مرفوعاً، كما قلت -: كانت العقوبة في الخطأ - فيما نُرى والله أعلم - أولى به، وكان أكثرَُ أمره أن يُغفر له، ولم يُشبه أن يكون له ثواب على خطأ لا يسعه.
وفي هذا دليل على ما قلنا: أنه إنما كُلف في الحكم الاجتهادَ على الظاهر دون المغيَّب، والله أعلم.
قال: إن هذا ليحتمل أن يكون كما قلتَ، ولكن ما معنى "صواب" "خطأ"؟
قلت له: مثل معنى استقبال الكعبة، يصيبها من رآها بإحاطة، ويتحراها من غابت عنه، بَعُدَ أو قَرُبَ منها، فيصيبها بعضٌ ويخطئها بعضٌ، فنفس التوجه يحتمل صواباً وخطأ، إذا قَصَدتَ بالإخبار عن الصواب والخطأ قَصْدَ أن يقول: فلان أصاب [ص:498] قَصْد ما طلب فلم يخطِئْه، وفلان أخطأ قصد ما طلب وقد جهِد في طلبه.

(1/494)


فقال: هذا هكذا، أفرأيت الاجتهاد، أيقال له "صواب " على غير هذا المعنى؟
قلت: نعم على أنه إنما كُلف فيما غاب عنه الاجتهادَ، فإذا فعل فقد أصاب بالإتيان بما كُلف، وهو صواب عنده على الظاهر، ولا يعلم الباطن إلا الله.
ونحن نعلم أن المختلفَين في القبلة، وإن أصابا بالاجتهاد إذا اختلفنا يريدانِ عيناً: لم يكونا مصيبَين للعين أبداً، ومصيبان في الاجتهاد. وهكذا ما وصفنا في الشهود وغيرهم.
قال: أفتوجدني مثل هذا؟
قلت: ما أحسِب هذا يُوضَح بأقوى من هذا!

(1/498)


قال: فاذكر غيره؟
قلت: أحل الله لنا أن ننكح من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيماننا، وحرّم الأمهات والبنات والأخوات.
قال: نعم.
قلت: فلو أن رجلاً اشترى جارية، فاستبرأها أَيحَلُّ له إصابتها؟
قال: نعم.
قلت: فأصابها وولَدَت له دهراً، ثم علم أنها أختُه، كيف القول فيه؟
قال: كان ذلك حلالاً حتى علم بها، فلم يَحِل له أن يعود إليها.
قلت: فيقال لك في امرأة واحدة حلالٌ له حرامٌ [ص:500] عليه، بغير إحداث شيء أحدثه هو ولا أحدثَتْه؟
قال: أما في المغيَّب فلم تزل أختَه أولاً وآخراً، وأما في الظاهر، فكانت له حلالاً ما لم يعلم، وعليه حرامٌ حين علم.
وقال: إن غيرنا ليقول: لم يزل آثماً بإصابتها، ولكنه مأثَم مرفوع عنه.
فقلت: الله اعلم، وأيَّهما كان، فقد فرَّقوا فيه بين حكم الظاهر والباطن، وألغوا المأثم عن المجتهد على الظاهر، وإن أخطأ عندهم، ولم يُلغوه عن العامد.
قال: أجل.
وقلت له: مَثَلُ هذا الرجل ينكح ذاتَ مَحرَم منه، ولا يعلم، وخامسةً وقد بلغته وفاة رابعة كانت زوجة له، وأشباهٌ لهذا.
[ص:501] قال: نعم أشباه هذا كثير.
فقال: إنه لَبَيِّن عند من يثبت الرواية منكم أنه لا يكون الاجتهاد أبداً إلا على طلب عينٍ قائمة مُغَيَّبة بدلالة، وأنه قد يسع الاختلاف مَن له الاجتهاد.

(1/499)


فقال: فكيف الاجتهاد؟
فقلت: إن الله جل ثناؤه مَنَّ على العباد بعقول، فدلهم بها على الفَرْق بين المختلف، وهداهم السبيل إلى الحق نصاً ودلالةً.
قال: فَمَثِّل من ذلك شيئاً؟
قلت: نَصَبَ لهم البيت الحرام، وأمرهم بالتوجه إليه إذا رأوه، وتَأَخِّيه إذا غابوا عنه، وخَلَقَ لهم سماء وأرضاً وشمساً وقمرا ونجوماً وبحاراً وجبالاً ورياحاً.
[ص:502] فقال: {وهو الذي جَعَلَ لكم النجومَ لتهتدوا بها في ظلمات البر ِّوالبحرِ} [الأنعام 97]
وقال: {وعلاماتٍ وبالنجمِ هم يهتدون} [النحل 16]
فأخبر أنهم يهتدون بالنجم والعلامات.
فكانوا يعرفون بمنِّه جهة البيت بمعونته لهم، وتوفيقه إياهم، بأن قد رآه من رآه منهم في مكانه، وأخبر من رآه منهم من لم يره، وأبصر ما يُهتَدَى به إليه، من جَبَل يُقصد قَصده، أو نجمٍ يُؤْتمّ به وشمال وجنوبٍ، وشمسٍ يُعرف مَطلِعُها ومَغرِبها، وأين تكون من المصلَّى بالعشي، وبحورٍ كذلك.
وكان عليهم تَكَلف الدلالات بما خلق لهم من العقول التي رَكَّبها فيهم، ليقصدوا قصد التوجه للعين التي فرض عليهم استقبالها.
[ص:503] فإذا طلبوها مجتهدين بعقولهم وعلمهم بالدلائل، بعد استعانة الله، والرغبةِ إليه في توفيقه، فقد أدَّوا ما عليهم.
وأبان لهم أن فرْضَه عليهم التوجُّه شطر المسجد الحرام، والتوجه شطره لا إصابةُ البيت بكل حال.
ولم يكن لهم إذا كان لا تُمْكنهم الإحاطة في الصواب إمكانَ مَن عايَنَ البيت: أن يقولوا نتوجه حيث رأينا بلا دلالة.

(1/501)