العدة في أصول الفقه
باب ذكر حدود
مدخل
...
باب ذكر حدود 1 :
تحديد2 أصول الفقه من ألفاظها.
__________
1 راجع في هذا الباب "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول
الورقة "10/ ب" و"التمهيد" الورقة "6/ أ" و"شرح مختصر
الروضة" الجزء الأول الورقة "32/ ب" و"روضة الناظر" "ص:
5"، و"المسودة" "ص: 570" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 25".
2 هذه الكلمة غير واضحة في الأصل، إلا أنها دائرة بين كلمة
"تحد"، وكلمة "تحديد" ولعل الصواب ما أثبتناه.
(1/74)
فصل: [في
تعريف الحد]:
معنى الحد هو: الجامع لجنس ما فرقه التفصيل، المانع من
دخول ما ليس من جملته فيه1. ولذلك سمي البواب حدادًا؛ لأنه
يمنع من ليس من أهل الدار من الدخول إليها.
__________
1 الأصوليون في تعريف "الحد" على فريقين:
الفريق الأول: لم يعرفه؛ لأنه يستلزم الدور.
الفريق الثاني: عرفه؛ وهؤلاء اختلفوا على أقوال كثيرة، لا
داعي لذكرها، ومن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى المراجع
التي ذكرناها قريبًا.
(1/74)
وسموا الحديد
بهذا الاسم؛ لأنه يمنع من وصول السلاح إلى المتحصن به.
وسميت حدود الدار والأرض؛ لأنها تمنع أن يدخل في البيع ما
ليس [3/ أ] من البيع، وكذا يخرج منه ما ليس هو من المبيع،
وسميت العقوبة حدًّا؛ لما فيها من المنع من مواقعة
الفواحش.
ومنه إحداد المرأة في عدتها؛ [لأنها تمتنع به]1 من الطِّيب
والزنية.
والزيادة في الحد نقصان في المحدود؛ لأن الحد [متى جمع
ذواتًا كانت]2 متفرقة حال التفصيل، فمتى ضم إليه [قدر]3
زائد على المذكور خرج بعض الذوات من جملة الكلام، فيكون
الحد للبعض4، بعد أن كان للجميع.
وقال أبو بكر الباقلاني5: الزيادة فيه على ضربين:
__________
1 غير واضحة في الأصل، والقراءة اجتهادية.
2 هذه الكلمات غير واضحة في الأصل بسبب الرطوبة، وما
أثبتناه هو الأقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى؛ لأن
السياق يدل على ذلك؛ ولأن بعض الحروف الظاهرة تدل على ذلك
أيضًا.
3 القراءة لهذه الكلمة على وجه التقريب؛ لعدم وضوحها في
الأصل.
4 لا يجوز لغة دخول: "أل" على بعض؛ حيث لم يرد ذلك في لغة
العرب، خلافًا لابن درستويه. انظر: القاموس "2/ 324" مادة:
"بعض".
5 هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم
المعروف بالباقلاني أو ابن الباقلاني، أصولي متكلم، مالكي
المذهب، بصري الولادة، بغدادي السكنى والوفاة. توفي لسبع
بقين من شهر ذي القعدة سنة: 403هـ.
انظر ترجمته في : "تاريخ بغداد" "5/ 379" و"ترتيب المدارك"
"4/ 585" و"الديباج المذهب" "ص: 267" و"شذرات الذهب" "3/
168" و"وفيات الأعيان" "3/ 400".
(1/75)
منها ما هو
نقصان منه، ومنها ما هو ليس بنقصان.
فأما التي هي نقصان نحو قولك: حد الواجب أنه في فعله ثواب،
وفي تركه عقاب، فهذا يوجب خروج كل ما ليس بصيام عن كونه
واجبًا، فعادت بالنقصان.
وأما ليس بنقصان نحو قولك: حد الواجب: أنه فرض في فعله
ثواب، وفي تركه عقاب، فكل فرض واجب.
وأما النقصان من الحد فإنه أبدًا زيادة فيه، نحو قولك: حد
الواجب ما كان في فعله ثواب، ولا يقرن به في تركه عقاب،
فيدخل النفل في جملة الواجب؛ لأنه مما عليه ثواب.
(1/76)
فصل: [في
تعريف العلم]:
وحدُّ العلم: معرفة المعلوم على ما هو به1.
__________
1 هذا التعريف ذكره إمام الحرمين في كتابه: "البرهان"
الجزء الأول الورقة "10/ ب"، ونسبه للقاضي أبي بكر
الباقلاني، كما نسبه الغزالي إلى الباقلاني في كتابه:
"المنخول" "ص: 38".
وقد ساق ابن عقيل في كتابه "الواضح" الجزء الأول الورقة
"2/ ب، 3/ ب" كثيرًا من الحدود وناقشها، واختار التعريف
القائل: "العلم هو وجدان النفس الناطقة للأمور بحقائقها".
ولمزيد من الاطلاع راجع "التمهيد" لأبي الخطاب، الورقة "6/
ب، 7/ ب" فإنه اختار تعريفًا قريبًا من تعريف شيخه أبي
يعلى، وانتصر له.
وراجع أيضا: "شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "32/
ب، 33/ ب" و"المسودة" "ص: 575" و"شرح الكوكب المنير" "ص:
17- 19".
(1/76)
وقيل: تبين
المعلوم على ما هو به1.
وقيل: إثبات المعلوم على ما هو به.
وقيل: إدراك المعلوم على ما هو به2؛ لأن جميعه محيط بجميع
جملة المحدود، فلا يدخل ما ليس منه، ولا يخرج ما هو منه.
والحد الأول أصح3؛ لأن من حده: "بالتبين"4، يبطل بعلم الله
تعالى؛ لأنه لا يوصف بأنه مبين؛ لأن ذلك يستعمل في العلم
الذي يحصل عقيب الشك ولا يجوز ذلك عليه، ومع هذا فهو عالم.
ومن يحده "بالإثبات" لا يصح؛ لأن الإثبات هو الإيجاد5،
ولهذا يقال: أثبت السهم في القرطاس.
ومن حده "بالإدراك"، لا يصح؛ لأنه يستعمل في أشياء مختلفة
على طريق الحقيقة بالإدراكات الخمسة: الرؤية والسمع والشم
والذوق والبلوغ، فثبت أنه يستعمل في غير العلم.
ولو قيل: "معرفة المعلوم"، ولم يقل "على ما هو به" كفى،
ويكون ذلك تأكيدًا؛ لأن العلم لا يصح أن يتعلق بالمعلوم
ويكون معرفة إلا على ما هو به، ولو تعلق به على ما ليس به
لكان جهلا، وخرج عن كونه
__________
1 هذا التعريف نسبه أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة
"6/ ب" إلى بعض الأشعرية.
2 هذا التعريف نسبه أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة
"6/ ب" إلى بعض الأشعرية.
3 هكذا اختار القاضي هذا التعريف هنا، مع أنه اختار
تعريفًا آخر، هو بمعنى حد المعتزلة، ذكر ذلك عبد الحليم بن
عبد السلام في "المسودة" "ص: 575".
4 في الأصل: "التبيين"، والصواب ما أثبتناه,
5 يعني: أن "الإثبات" لفظ مشترك فهو مجمل في التعريف؛
ولذلك فالتعريف باطل. انظر "التمهيد" الورقة "7/ أ".
(1/77)
علمًا، فلهذا
صح أن نقتصر على قوله: "معرفة المعلوم".
وإنما عدلنا عن القول بأنه: معرفة الشيء، إلى القول بأنه
معرفة المعلوم؛ لأن: القول معلوم، أعم من: القول شيء؛ لأن
الشيء لا يكون إلا موجودًا، والمعلوم يكون معدومًا
وموجودًا، وقد ثبت أن المعدوم ليس بشيء
فإذا قيل: حده أنه: معرفة الشيء، خرج العلم بالمعدوم الذي
ليس بشيء عن أن يكون علمًا وانتقض الحد؛ لأنه علم بما ليس
بشيء، فوجبت الرغبة لما ذكرنا عن ذكر "الشيء" إلى ذكر
"المعلوم".
والدلالة على أن حده ما ذكرنا أن كل من عرف العلم فقد علم
أنه معرفة، وأنه هو الذي لأجله كان العالم عالِمًا، وكل من
عرف المعرفة التي صار العالم عالِمًا بها فقد عرف العلم
علمًا، فكان حدًّا صحيحًا [3/ ب] كما أن حد المحدث لما كان
هو الموجود عن عدم، كان كل من عرفه موجودًا عن عدم، فقد
علم أنه محدث.
وقالت المعتزلة1 [حَدُّ]2 العلم: "اعتقاد الشيء على ما هو
به فقط".
__________
1 المعتزلة إحدى الفرق الْمُبَدَّعة التي خالفت أهل السنة
في كثير من أصول العقيدة وفروعها، وقد تعددت فرقها حتى
بلغت عشرين فرقة، سميت بهذا الاسم؛ لأن رئيسها "واصل بن
عطاء الغزال" كان يرى أن الفاسق بين منزلتين لا كافر ولا
مؤمن، ولما سمع منه الحسن البصري هذا طرده من مجلسه،
فاعتزل عند سارية من سواري المسجد، وانضم إليه عمرو بن
عبيد، فلما اعتزلا قيل لهما ولمن تبعهما معتزلة. راجع:
"الفرق بين الفرق" "ص: 24، 114، 201"، و"الْمِلَلَ
والنِّحَل" للشهرستاني "1/ 43- 85".
2 غير واضحة في الأصل، ولكن السياق يدل عليها.
(1/78)
وقال بعضهم:
اعتقاد الشيء على ما هو به على غير [وجه]1 الظن والتقليد.
وقال آخرون منهم: حَدُّه اعتقاد الشيء على ما هو به، إذا
وقع عن ضرورة أو دليل.
وقال آخرون منهم: اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس
إلى معتقده.
وكل هذه الحدود باطلة؛ لأن من قال: اعتقاد الشيء على ما هو
به فقط، يوجب أن يكون المخمن والظّان -إذا اعتقد الشيء على
ما هو به- عالِمًا باعتقاد ذلك الشيء، وهذا باطل؛ للاتفاق
على أن العالم2 لا يجوز كونه على غير ما علمه، والظان بكون
الشيء يجد من نفسه تجويز كونه على خلاف من ظنه وتوهمه؛
ولأنه يبطل قوله وقول من قال: إذا وقع عن ضرورة أو دليل،
وقول من قال: "مع سكون النفس" بعلم الله تعالى؛ لأنه عالم
وليس بمعتقد، ولا علمه عن ضرورة ولا عن سكون النفس.
وعلى أن النفس عندهم هي الجملة المحسوسة، وسكون الجملة هو
سكون مكان، وذلك يقتضي أن الإنسان إذا كان ساكن الجملة كان
عالِمًا، وإذا لم يكن متحركًا فلا يكون عالِمًا، وذلك
باطل.
وعلى أن السكون يستعمل في زوال الغم وحصول الأنس، وهذا
يقتضي أن يكون الإنسان إذا زال غمه وأنس فهو عالم، وذلك
باطل.
__________
1 غير واضح في الأصل، ولكن السباق واللحاق يدلان عليها.
2 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "العلم".
(1/79)
فصل: [في
أقسام العلم]: 1
والعلم على ضربين: قديم ومحدث.
فأما القديم: فهو علم الله تعالى، وهو علم واحد يتعلق
بجميع المعلومات على ما هي به، لم يزل ولا يزال، ولا يجوز
عليه التغيير والبطلان، ولا يوصف بأنه ضروري، ولا بأنه
مكتسب، ولا استدلالي؛ لئلا يوهم كونه محتاجًا إلى العلم
لما يعلمه لدفع ضرر عنه، أو أنه ملجأ ومكره على العلم بما
هو عالم به، ومحال ذلك في صفته.
وأما المحدث2 فعلى ضربين: ضروري، ومكتسب.
فأما الضروري فحده: كل علم محدث لا يجوز ورود الشك عليه
ويلزم نفس المخلوق3. أو ما لا يمكنه معه الخروج عنه،
والانفصال منه، وإنما قلنا: ما لزم نفس المخلوق، ولم نقل:
ما لزم نفس العالم؛ لكي يخرج علم القديم سبحانه عن كونه
اضطرارًا؛ لأن عمله سبحانه بكل معلوم لازم لذاته على الوجه
الذي يلزم ذواتنا علوم الضرورات، وليس لأحد أن يقول: إنه
مضطر إلى العلم بمعلوماته.
__________
1 راجع في هذا الفصل كتاب: "الواضح" الجزء الأول الورقة
"4/ ب، 5/ ب" وكتاب "التمهيد" الورقة "7/ ب، 8/ ب"، فإن
أبا الخطاب ترسم خُطَا شيخه في هذا البحث مع فروق بسيطة،
وراجع أيضًا كتاب: "شرخ مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة
"33/ ب" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 19".
2 لم يذكر القاضي تعريف العلم المحدث كما ترى، غير أن
تلميذه أبا الخطاب عرفه بقوله: علم جميع المخلوقين من
الملائكة والإنس والجن وغير ذلك. انظر "التمهيد" الورقة
"7/ ب، 8/ ب".
3 هكذا عرفه القاضي غير أن أبا الخطاب عرفه بقوله: "هو ما
علم الإنسان من غير نظر ولا استدلال". انظر المرجع السابق.
(1/80)
وإنما سمي
ضرورة؛ لأنه مما تمس الحاجة إليه، أو مما يقع الإكراه عليه
والإلجاء إليه؛ ولهذا قال تعالى: {إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 1، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ وَلا عَادٍ} 2. وقالوا في المكره على الطلاق
والعتاق: إنه مضطر إليه ومحمول عليه ومكره عليه.
وعلم الضرورة على ضربين3: أحدهما لا يتعلق بسبب سابق،
والثاني يتعلق بسبب سابق.
فأما ما لا يتعلق بسبب سابق، فمثل علم الإنسان بأحوال [4/
أ] نفسه، من قيامه وقعوده، وحركاته وسكناته، وما يعرض في
نفسه من خير وشرور، وميل ونفور، ولذة وألم، وصحة وسقم،
ومثل ذلك علمه باستحالة اجتماع الضدين، والجسم في مكانين،
وأن الواحد أقل من الاثنين، فهذا كله علم مبتدأ في نفسه لا
يتعلق بسبب.
وأما ما يتعلق بسبب سابق فعلى ضربين: محسوس، وغير محسوس،
فأما المحسوس: فهو العلم الواقع عن الحواس الخمس وهي:
البصر
__________
1 "119" سورة الأنعام.
2 "173" سورة البقرة.
3 هكذا قسمه المؤلف إلا أن أبا الخطاب قسمه إلى أربعة
أقسام هي:
"الأول: ما يعلمه الإنسان من حال نفسه مثل الغم والسرور،
والصحة والسقم، والقيام والقعود...
الثاني: ومنه ما يعلم بطريق العقل، وهو مثل علمه باستحالة
اجتماع الضدين.
الثالث: ومنه ما علمه بالحواس الخمس.
الرابع: ومنه ما يعلمه بخبر التواتر، فيقع له به العلم
ضرورة، وهو مثل إخباره بالبلاد النائية والقرون
الخالية..." "التمهيد" الورقة "8/ أ"، وأنت ترى أن مؤدى
التقسيمين واحد.
(1/81)
والسمع والذوق
والشم واللمس، وذلك أن العلم يحصل عن الإدارك بهذه الحواس.
وأما غير المحسوس فهو: العلم الواقع عن الخبر المتواتر،
مثل العلم بالبلدان النائية والسير الماضية، فإذا سمع
الخبر المتواتر حصل العلم بمخبره.
وأما المكتسب: فحده كل علم يجوز ورود الشك عليه.
وقد قيل: ما وقع عن نظر واستدلال.
ومعنى الكسب: ما وجد بالموصوف به وله عليه قدرة محدثة.
ومعنى النظر والاستدلال: ما يحصل العلم به عن ابتداء نظر
وتفكر.
وعلم الكسب على ضربين: عقلي وشرعي:
فأما العقلي: فهو ما لا يفتقر إلى شرع، مثل العلم بحدوث
العالم، وإثبات محدثه وصفاته، وصدق من ظهرت المعجزة على
يده، وما أشبه ذلك مما لو نظر العاقل فيه وتدبره؛ لحصل له
العلم من غير شرع.
وأما الشرعي: فهو العلم الواقع عن الكتاب والسنة وإجماع
الأمة، والقياس على أحد هذه الأصول الثلاثة.
(1/82)
فصل: [في
تعريف الجهل والشك والظن]: 1
وحَدُّ الجهل: تبين المعلوم على خلاف ما هو به، ضد العلم2.
__________
1 راجع في هذا الفصل "التمهيد" الورقة "9/ ب".
2 لم يذكر القاضي أقسام الجهل، وهو ينقسم إلى قسمين:
الأول: الجهل المركب وهو: تصور الشيء على غير هيئته.
الثاني: الجهل البسيط وهو : انتفاء إدارك الشيء بالكلية.
انظر: "شرح الكوكب المنير" "ص: 23".
(1/82)
والشك: تجويز
أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
والظن1: تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر.
وغلبة الظن: قوة الظن، فإن الظن يتزايد، ويكون بعض الظن
أقوى من بعض.
والشك: ليس بطريق للحكم في الشرع، ولا يلزم على هذا الصيام
يوم الشك؛ لأنه ليس الموجب لصيامه الشك، وإما الموجب قيام
الدليل، ألا ترى أنه يوجد الشك ولا يجب الصيام، وهو ما إذا
كانت السماء مصحية، لعدم قيام الدليل.
والظن: طريق للحكم، إذا كان عن أمارة مقتضية للظن، ولهذا
يجب العمل بخبر الواحد، إذا كان ثقة، ويجب العمل بشهادة
الشاهدين وخبر المقومين، إذا كانا عَدْلَينِ، ويجب العمل
بالقياس، وإن كانت علة الأصل مظنونة، ويجب استصحاب حكم
الحال السابق في حال الشك، مثل الشك في الحدث بعد الطهارة،
والطلاق بعد النكاح، والشك في العتاق بعد الملك؛ لأن
الظاهر بقاؤه وعدم حدوث المشكوك فيه.
__________
1 في الأصل: "الظني".
(1/83)
فصل: [في
تعريف العقل]: 2
والعقل ضرب من العلوم الضرورية، وهو مثل العلم باستحالة
اجتماع الضدين، وكون الجسم في مكانين، ونقصان الواحد عن
الاثنين، والعلم
__________
1 في الأصل: "الظني".
2 راجع في هذا الفصل كتاب "المعتمد في أصول الدين" للقاضي
أبي يعلى "ص: 101، 102" في مبحث العقل، وكتاب "الواضح"
الجزء الأول، الورقة "5/ ب، 6/ ب" و"التمهيد": الورقة "8"،
و"شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "34"، و"شرح
الكوكب المنير" "ص: 23، 24" و"المسودة" "ص: 556، 559".
(1/83)
بموجب العادات،
فإذا أخبره مخبر بأن الفرات تجري دارهم راضية، لا يجوز
صدقه. ومن أخبر بنبات شجرة بين يديه، وحمل [4/ ب] ثمرة
وإدراكها من ساعته، لا ينتظر ذلك ليأكل منها، وإذا أخبر
بأن الأرض تنشق ويخرج منها فارس بسلاح يقتله، لا يهرب
فزعًا من ذلك، فإذا حصل له العلم بذلك، كان عاقلا ولزمه
التكليف.
وقال أبو الحسن التميمي عبد العزيز بن الحارث1 من أصحابنا
في "كتاب العقل": العقل ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر، وإنما
هو نور، فهو كالعلم"2.
وقال أبو محمد البربهاري3: وليس العقل باكتساب، وإنما هو
__________
1 هو عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو الحسن التميمي، من
أكابر علماء الحنابلة أصولا وفروعًا، متهم بالوضع، فقد وضع
حديثًا أو حديثين في مسند الإمام أحمد، نسأل الله السلامة،
ولد سنة: 317هـ، وتوفي سنة:371هـ.
انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "2/ 139"، والمغني في
الضعفاء للذهبي "2/ 396، 397"، ومناقب الإمام أحمد لابن
الجوزي "ص: 516"، وميزان الاعتدال للذهبي "2/ 624- 626"،
والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي "4/ 140"، وتنزيه الشريعة
المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة "1/ 80".
2 نقل أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" "8/ أ" تعريف أبي
الحسن هذا غير أنه لم يذكر فيه قوله: "ولا صورة" كما أنه
لم يذكر قوله: "فهو كالعلم" مع أنه أتى بزيادة على ما ذكره
القاضي وهي عبارة "في القلب" بعد قوله: "وإنما هو نور".
أما "المسوّدة" فقد نقل فيها تعريف أبي الحسن التميمي كما
هنا.
3 هو الحسن بن علي بن خلف أبو محمد البربهاري، شيخ
الحنابلة في وقته، صحب جماعة من أصحاب الإمام أحمد، منهم
المروزي وسهل التُّسْتُرِي. له مصنفات منها: شرح السنة.
توفي في بغداد في رجب سنة: 329هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب "2/ 319"، وطبقات الحنابلة
"2/ 18"، والمنتظم "6/ 323"، والنجوم الزاهرة "3/ 273".
(1/84)
فضل من الله1.
ذكره في "شرح السنة" في جزء وقع إليّ
وقال بعضهم: قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات.
وقال أبو بكر بن فورك2: هو العلم الذي يتمنع به من فعل
القبيح.
وقال بعضهم: ما حسن معه التكليف.
ومعنى ذلك كله متقارب، ولكن ما ذكرناه أولى3؛ لأنه مفسر،
وهو قول الجمهور من المتكلمين.
وقال أحمد فيما رواه أبو الحسن التميمي في "كتاب العقل" عن
محمد بن أحمد بن مخزوم4 عن إبراهيم الحربي5 عن أحمد أنه
قال: العقل
__________
1 هكذا جاء نص تعريف البربهاري في "المسوّدة" "ص: 556"
نقلا عن القاضي أبي يعلى، غير أن أبا الخطاب ذكر تعريف
البربهاري على النحو التالي: ليس بجوهر ولا عرض وإنما هو
فضل الله يؤتيه من يشاء "التمهيد"، الورقة "8/ أ".
2 هو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري ثم الأصبهاني، أبو
بكر، أصولي فقيه متكلم نحوي، درس بالعراق فنيسابور فغزنة،
وفي طريق عودته من غزنة إلى نيسابور سُمَّ فمات، فنقل إلى
نيسابور، ودفن بها سنة: 406هـ.
له ترجمة في: الأعلام "6/ 313" وشذرات الذهب "3/ 181"
ووفَيَات الأعيان "3/ 402" والنجوم الزاهرة "4/ 240".
3 وقد اختاره من الحنابلة أبو الوفاء بن عقيل في كتابه
"الواضح"، الجزء الأول، الورقة "5/ ب"، كما اختاره أبو
الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "8/ أ" ونقل عن شيخه
القاضي أبي يعلى أن ذلك اختيار الأصحاب.
4 أبو الحسين المقرئ، روى عن إبراهيم بن الهيثم البلدي
وأحمد بن محمد بن مسروق الطوسي، وعنه أبو بكر الأبهري وأبو
حفص الكتاني. قال حمزة السهمي: سألت أبا محمد بن علام
الزهري عنه فقال: ضعيف. كما سئل أبو الحسن التمار عنه
فقال: كان يكذب. ولد سنة: 268هـ، ومات بعد سنة: 330هـ. له
ترجمة في: "تاريخ بغداد" "1/ 362"، "وتنزيه الشريعة" لابن
عراق "1/ 100".
5 هو إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله بن
ديسم أبو إسحاق الحربي، =
(1/85)
غريزة، والحكمة
فطنة، والعلم سماع، والرغبة في الدنيا هوى، والزهد فيها
عفاف"1.
ومعنى قوله: غريزة، أنه خلق الله تعالى ابتداءً، وليس
باكتساب للعبد. خلافًا لما حكي عن بعض الفلاسفة: أنه
اكتساب.
وقال قوم: هو عرض مخالف لسائر العلوم والأعراض.
وقال قوم: هو مادة وطبيعة.
وقال آخرون: هو جوهر بسيط.
وهذا فاسد؛ لأن الدليل دلَّ على أن الجواهر كلها من جنس
واحد، خلافًا للمُلْحِدَةِ في قولهم: هي مختلفة؛ لأن معنى
المثلين: ما سد أحدهما
__________
= والحربي نسبة إلى محلة ببغداد، سميت بحربية، نسبة إلى
حرب بن عبد الله صاحب حرس المنصور، وقد كان إبراهيم الحربي
عالِمًا بالحديث والفقه، من أصحاب الإمام أحمد وممن نقل
عنه كثيرًا من المسائل. ولد سنة: 198هـ، وتوفي ببغداد يوم
الاثنين لتسع بقين من ذي الحجة سنة: 285هـ.
انظر ترجمته في: الأعلام "1/ 24"، والأنساب المتفقة لابن
القيسراني "ص: 41"، البداية والنهاية "11/ 79"، وتاريخ
بغداد "6/ 27"، وتذكرة الحفاظ "2/ 584"، وشذرات الذهب "2/
190"، وفوات الوفيات "1/ 5"، ومرآن الجنان "2/ 209"،
والنجوم الزاهرة "3/ 118".
1 كيف تصح نسبة هذا النقل إلى الإمام أحمد، مع أن في سنده
-كما ترى- أبا الحسن التميمي، وهو وضَّاع، ومحمد بن أحمد
بن مخزوم، وهو كذاب، ومن لا يتورع عن الكذب على رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- لا يتورع عن الكذب على غيره.
وقد نُقِل هذا القول منسوبًا إلى الإمام أحمد بالسند
المذكور في "المسودة" "ص: 556"، كما نقله أبو الخطاب في
كتابه "التمهيد" الورقة "8/ أ" عن إبراهيم الحربي عن أحمد
بلفظ: "العقل غريزة وحكمة وفطنة".
(1/86)
مسد صاحبه،
وناب منابه، والجواهر على هذا؛ لأن كل واحد منهما متحرك
وساكن وعالم، فلو كان العقل جوهرًا لكان من جنس العاقل،
ولاستغنى العاقل بوجود نفسه في كونه عاقلًا عن وجود مثله،
وما هو من جنسه، وقد ثبت أنه ليس بعاقل بنفسه، فمحال أن
يكون عاقلا بجوهر من جنسه؛ ولأنه لو كان جوهرًا لصحَّ
قيامه بذاته ووجوده، لا بعاقل ولصح أن يعقل ويكلف؛ لأن ذلك
مما يجوز على الجواهر وفي امتناع ذلك دليل، على أنه ليس
بجوهر، فثبت أنه عرض، ومحال أن يكون عرضا غير سائر العلوم؛
لأنه لو كان كذلك لصح وجود العقل مع عدم سائر العلوم، حتى
يكون الكامل العقل غير عالم بنفسه ولا بالمدركات ولا بشيء
من الضرورات؛ إذ لا دليل يوجب تضمن أحدهما للآخر. وذلك
نهاية الإحالة.
ومحال أن يكون اكتسابًا؛ لأنه يؤدي إلى أن الصبي وممن عدمت
منه الحواس الخمس ليسوا بعقلاء؛ لأنهم لا نظر لهم ولا
استدلال يكتسبون به العقل، وفي الإجماع على حصول العقل
منهم دليل على فساد هذا.
ولا يجوز أن يكون العقل هو الحياة؛ لأن العقل يبطل ويزول
[5/ أ] ولا يخرج الحي عن كونه حيًّا، وقد يكون الحي حيًّا
وإن لم يكن عالِمًا بشيء أصلا.
ولا يجوز أن يكون هو جميع العلوم الضرورية1، ولا العلوم
التي تقع عقيب الإدراكات الخمسة؛ لأن هذا يؤدي إلى أن
الخرس والطرش2 والأكمه ليسوا بعقلاء؛ لأنهم لا يعلمون
المشاهدات والمسموعات والمدركات
__________
1 في كتاب "المعتمد في أصول الدين، للمؤلف "ص: 102":
العلوم الضرورية والكسبية.
2 هكذا في الأصل، والذي في "المعتمد في أصول الدين" "ص:
102": الأخرس والأطرش.
(1/87)
التي تعلم
باضطرار ولا باستدلال1.
ولا يجوز أيضًا أن يكون العلم بِحُسْنِ حَسَنٍ وقُبْحِ
قبيح، ووجوب واجب وتحريم محرم من جملة العلوم التي هي عقل؛
لأن هذه الأحكام كلها معلومة من جهة السمع دون قضية العقل،
فوجب أن يكون بعض العلوم الضرورية، وهو ما ذكرنا في أول
الفصل وما كان في معناه من أن الموجود لا يخلو من أن يكون
لوجوده أول، وأن الموجود لا يكون معدومًا موجودًا في حالة
واحدة، وأن المتحرك عن المكان لا يجوز أن يكون ساكنًا فيه
في حالة واحدة، وأن الذات الواحدة لا تكون حية ميتة، ونحو
ذلك من الأوصاف المتضادة2.
__________
1 من قوله: "ولا يجوز أن يكون العقل هو الحياة" إلى هنا
موجود بنصه في كتاب "المعتمد في أصول الدين" "ص: 102".
2 من هذه التعريفات للعقل يتضح لنا أن كل من عرَّفَه
رَاعَى ناحيةً وغفل عن ناحية أخرى، وقد تفطن لذلك الشيخ
شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام في كتاب "المسودة"
"ص: 558، 559" حيث جاء فيه ما ملخصه: العقل لا يمكن إحاطته
برسم واحد، ولكن العقل يقع على أربعة معانٍ:
1 ضروري، وهو الذي عناه من قال: إنه بعض العلوم الضرورية.
قلت: وهذا العقل ما يتعلق به التكليف.
2 غريزة تقذف في القلب، وهذا النوع ينمو بنمو الإنسان، وبه
يقع الاختلاف بين الناس، فهذا بليد وذاك ذكي.
3 ما به ينظر صاحبه في عواقب الأمور، فلا يغتر بلذة عاجلة
تعقبها ندامة.
4 ما يستفاد من التجارب في حياة الإنسان. وهذا ما عناه من
قال: "إن العقل مكتسب.
قلت: وقد سبق حجة الإسلام الغزالي إلى هذا التقسيم، وذلك
في كتابه "إحياء علوم الدين" "1/ 145، 146".
(1/88)
فصل: [في محل
العقل]: 1
ومحل العقل القلب، ذكره أبو الحسن التميمي في "كتاب
العقل"، فقال: الذي نقول به: إن العقل في القلب يعلو نوره
إلى الدماغ، فيفيض [منه2] إلى الحواس ما جرى في العقل.
ومن الناس من قال: هو في الدماغ.
وقد نص أحمد -رحمه الله- على مثل هذا القول فيما ذكره أبو
حفص بن شاهين3 في الجزء الثاني من أخبار أحمد بإسناده عن
فضل بن زياد4 وقد سأله رجل عن العقل أين منتهاه من البدن؟
وقال5 سمعت أحمد بن
__________
1 راجع في هذا الفصل: "التمهيد" الورقة "8/ ب، 9/ أ"،
"المسودة" "ص: 559، 560"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 24".
2 ساقطة من الأصل، ولكن المقام يقتضيها، ويبدو أن الناسخ
قد أسقطها؛ لأنها ثابتة في "المسودة" "ص: 559" عند نقل
كلام أبي الحسن التميمي بنصه.
3 هو عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي أبو حفص ابن شاهين،
مفسر ومحدث ومؤرخ، ثقة، من الطبقة الثانية عشرة، عيب عليه
لحنه، وعدم بصره بالفقه. له مؤلفات منها: "كتاب الترغيب"،
و"كتاب التفسير الكبير"، و"كتاب التاريخ". توفي في ذي
الحجة سنة: 385هـ. انظر ترجمته في: تاريخ بغداد "11/ 265"،
وتذكرة الحفاظ "3/ 987"، وشذرات الذهب "3/ 117"، وطبقات
الحفاظ "ص: 392"، وطبقات المفسرين للداودي "2/ 2"، وغاية
النهاية في طبقات القراء "1 /588"، ولسان الميزان "4
/383"، ومرآة الجنان "2/ 826"، والمنتظم "7/ 152"، والنجوم
الزاهرة "4/ 173".
4 هو الفضل بن زياد أبو العباس القطان البغدادي، من أصحاب
الإمام أحمد المقدمين عنده، وممن نقلوا عنه مسائل كثيرة،
وكان يصلي الإمام أحمد خلفه، له ترجمه في: طبقات الحنابلة
"1/ 251- 253".
5 كان المناسب أن يقول: "فقال".
(1/89)
حنبل يقول:
العقل في الرأس، أما سمعت إلى قولهم: وافر الدماغ والعقل.
واحتج هذا القائل: بأن الرأس إذا ضرب زال العقل؛ ولأن
الناس يقولون: "فلان خفيف الرأس، وخفيف الدماغ"، ويريدون
به العقل.
وهذا غير صحيح؛ لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى
لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 1 وأراد به العقل، فدل على أن
القلب محله؛ لأن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان
مجاورًا له، أو كان بسبب منه.
واحتج أبو الحسن التميمي بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ
بِهَا} 2 وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ
بِهَا} 3.
واحتج أيضًا بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في
حديث المدائني4، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"والكبد رحمة، والقلب ملك، والقلب مسكن العقل"5.
__________
1 "37" سورة ق.
2 "46" سورة الحج.
3 "179" سورة الأعراف.
4 هو علي بن محمد أبو الحسن المدائني الأخباري. قال فيه
ابن عدي: ليس بالقوي في الحديث. وثَّقَه ابن معين فيما نقل
أحمد بن أبي خيثمة. روى عن جعفر بن هلال. وعنه الزبير بن
بكَّار وأحمد بن زهير وغيرهما. ولد بالبصرة سنة: 135هـ،
ومات ببغداد سنة: 228هـ. على الراجح.
له ترجمة في: تاريخ بغداد "12/ 54"، وميزان الاعتدال "3/
153"، وشيخ الإخباريين أبو الحسن المدائني للدكتور بدري
محمد فهد "ص: 16" وما بعدها، والكتاب كله دراسة عنه.
5 هذا الحديث ذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة "1/ 95"
بأطول مما هنا، غير أنه لم يذكر قوله: "والقلب مسكن
العقل"، وهو حديث موضوع؛ لأن فيه عطية ضعيف وكان يدلس عن
الكلبي بأبي سعيد، فيظن الخدري، راجع "المجروحين" "2/ 176"
لابن حبان. ثم عقب عليه السيوطي بعد ذلك، غير أنني لم أجد
المدائني في السند.
(1/90)
وروي أن عمر بن
الخطاب1 -رضي الله عنه- كان إذا دخل عليه ابن عباس2 قال:
"جاءكم الفتى الكهول له لسان قئول وقلب عقول"3. فنسب العقل
إلى القلب.
__________
1 هو عمر بن الخطاب بن نفيل، القرشي العدوي، أبو حفص. ثاني
الخلفاء الراشدين، وأحد المبشرين بالجنة. ولد سنة: "40"
قبل الهجرة. ومات شهيدًا سنة: 23هـ. له ترجمة في:
الاستيعاب "3/ 1144"، وأسد الغابة "4/ 145"، والإصابة "4/
279"، وتذكرة الحفاظ "1/ 5"، وشذرات الذهب "1/ 33"،
والنجوم الزاهرة "1/ 78".
2 هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف
الهاشمي أبو العباس، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- من
علماء الصحابة وفقهائهم الأجلاء، ولد في مكة المكرمة سنة
"3" قبل الهجرة على الأرجح، وتوفي بالطائف "سنة: 68هـ".
انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 933"، وأسد الغابة "3/
290"، والإصابة "4/ 90"، وتاريخ بغداد "1/ 173"، وتذكرة
الحفاظ "1/ 40"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 172"، وشذرات
الذهب "1/ 75"، وطبقات الحفاظ "ص: 10"، وطبقات الفقهاء
للشيرازي "ص: 48"،وطبقات القراء الكبار للذهبي"1/ 41"،
وطبقات المفسرين للداودي "1/ 232"، وغاية النهاية في طبقات
القراء لابن الجزري "1/ 425"، والنجوم الزاهرة "1/ 182"
ونكت الهميان "ص: 180".
3 هذا الأثر عن عمر -رضي الله عنه- أورده ابن عبد البر في
كتابه الاستيعاب "3/ 935" في ترجمة ابن عباس رضي الله عنه،
وقد أورده أبو الخطاب في كتابه التمهيد الورقة "9/ أ"،
بلفظ: "جاءكم الفتى الكهول ذو اللسان السئول والقلب
العقول".
(1/91)
وروى عياض بن
خليفة1 عن علي كرم الله وجهه2 أنه سمعه يوم صفين3 يقول:
"إن العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في
__________
1 أدرك عمر وعليًّا -رضي الله عنهما- وسمع منهما. روى عنه
الزهري ويعقوب بن عتبة وغيرهما.
له ترجمة في التاريخ الكبير للبخاري "4/ 20"، والجرح
والتعديل لابن أبي حاتم "3/ 407، 408".
2 هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هشام
بن عبد مناف الهاشمي أبو الحسن، ابن عم النبي -صلى الله
عليه وسلم- وزوج ابنته، ورابع الخلفاء الراشدين، صحابي
جليل، شهد المشاهد كلها إلا غزوة تبوك، حيث خلفه الرسول
-صلى الله عليه وسلم- في المدينة. ولد قبل البعثة بعشر
سنين، ومات مقتولا سنة: 40هـ.
انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 1089"، وأسد الغابة "4/
91"، والإصابة "4/ 269"، وتاريخ بغداد "1/ 133"، وتذكرة
الحفاظ "1/ 10"، وخلاصة تهذيب الكمال "ص: 232"، وشذرات
الذهب "1/ 49" وطبقات الحفاظ "ص: 4"، وطبقات الفقهاء "ص:
41"، وطبقات القراء الكبار "1/ 30"، والعبر "1/ 46"، وغاية
النهاية في طبقات القراء "1/ 546"، والنجوم الزاهرة "1/
119".
3 "يوم صفين" كان في غرة شهر صفر "سنة: 37هـ"، وقد دارت
فيه معركة حامية الوطيس بين علي بن أبي طالب -رضي الله
عنه- وبين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- وقد دارت
هذه المعركة في موقع يسمى: "صفين" يقع بالقرب من الرقة
بشاطئ الفرات بأرض العراق.
ارجع في هذا إلى معجم ما استعجم للبكري "3/ 837"، والقاموس
المحيط "4/ 242 " "مادة: صفن".
(1/92)
الطِّحال، وأن
النفس في الرئة"1.
وعن أبي هريرة2[5/ ب] وكعب3 أنهما قالا: العقل في القلب
وأيضًا فإن العقل ضرب من العلوم الضرورية، ومحل العلم
القلب.
وما ذكروه من زوال العقل بضرب الرأس، فلا يدل على أنه
محله،
__________
1 الأثر هذا أخرجه البخاري في الأدب المفرد "2/ 3" مطبوع
مع شرحه "فضل الله الصمد". وقد ذكره السيوطي في كتابه:
"اللآلئ المصنوعة" "1/ 97" عن البيهقي بسنده إلى عياض بن
خليفة. وأورده أبو الخطاب في التمهيد الورقة "9/ أ".
2 هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، أبو هريرة، صحابي جليل،
راوية الإسلام. وقع خلاف في اسمه واسم أبيه على أقوال
كثيرة، ذكرها الحافظ ابن حجر في كتابه "الإصابة". كما وقع
خلاف في سنة وفاته فقيل: "سنة: 57"، وقيل: "58"، وقيل:
"59"، وقد توفي بقصره بالعقيق، ثم حمل إلى المدينة. راجع
ترجمته في : الاستيعاب "4/ 1768"، وأسد الغابة "6/ 306"،
والإصابة "7/ 199"، وتذكرة الحفاظ "1/ 32"، وخلاصة تذهيب
الكمال "ص: 397"، وشذرات الذهب "1/ 63"، وطبقات القراء
الكبار للذهبي "1/ 40"، والعبر "1/ 62"، وغاية النهاية"1/
370"، والنجوم الزاهرة "1/ 151"، وقد ألَّف الدكتور محمد
عجاج الخطيب كتابًا أسماه" أبو هريرة رَاوِيةُ الإسلام"،
وهو مطبوع ضمن سلسلة "أعلام العرب". كما ألف الأستاذ عبد
المنعم صالح العلي كتابًا بعنوان: "دفاع عن أبي هريرة" .
3 هكذا في الأصل، وفي التمهيد لأبي الخطاب الورقة "9/ أ":
"أبي بن كعب"، ونحن نترجم له كما ورد في الأصل فنقول: هو
كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري السلمي، أبو عبد الله،
شاعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهد العقبة الثانية،
واختلف في شهوده بدرًا، أحد المخلفين عن غزوة تبوك، وقد
عفا الله عنه وعن صاحبيه. توفي سنة: 55هـ، وله من العمر
سبع وسبعون سنة. انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 1323"،
والإصابة القسم الخامس "ص: 610" طبعة دار نهضة مصر، وشذرات
الذهب "1/ 61" .
(1/93)
كما أن عصر
الخصية يزيل العقل والحياة، ولا يدل على أنها محلها.
وقول الناس: إنه خفيف الرأس، وخفيف الدماغ، فهو أن يبس
الدماغ يؤثر في العقل، وإن كان في غير محله، كما يؤثر في
البصر، وإن كان في غير محله.
(1/94)
فصل: [في
ذكر الخلاف في تفاوت العقول]: 1
وذكر أصحابنا أنه يصح أن يكون عقل أكمل من عقل وأرجح.
فقال أبو محمد البربهاري في "شرح السنة": العقل مولود أعطي
كل إنسان من العقل ما أراده الله تعالى، يتفاوتون في
العقول مثل الذرة في السموات، ويطالب كل إنسان على قدر ما
أعطاه الله تعالى من العقل.
وذكره أبو الحسن التميمي في كتاب "العقل" خلافًا للمتكلمين
من المعتزلة والأشعرية2 في قولهم: لا يصح أن يكون عقل أكمل
من عقل وأرجح.
والدلالة على صحة ذلك: ما روى أبو الحسن في كتاب "العقل"
بإسناده عن طاوس3، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حين قضى بين
__________
1 راجع في هذا الفصل الواضح الجزء الأول الورقة "6/ ب"،
والتمهيد الورقة "9/ أ- ب" والمسودة "ص: 560"، وشرح الكوكب
المنير "ص: 25".
2 الأشعرية: سميت بذلك، نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، الذي
ينتسب إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
انظر: الملل والنِّحل للشهرستاني "1/ 94".
3 هو طاوس بن كيسان الخولاني، الفارسي الأصل، الهمداني
بالولاء، اليمني الولادة والمنشأ، أبو عبد الرحمن، تابعي
جليل، فقيه ومحدث، أدرك نحوًا من خمسين صحابيًّا، ولد سنة:
33هـ، وتوفي حاجًّا بمنى سنة: 101هـ، وقيل سنة: 104 =
(1/94)
المهاجرين
والأنصار: "تبارك الذي قسم العقل بين عباده واستأثر، إن
الرجلين تستوي أعمالهما وبرهما وصلاتهما وصومهما، ويفترقان
في العقل حتى يكون بينهما كالذرة في جنب أحد"1.
وروى أبو الحسن بإسناده عن أنس2 قال: جاء ابن سلام3 إلى
__________
= انظر ترجمته في: التاريخ الصغير للبخاري "ص: 115"، تذكرة
الحفاظ "1/ 90"، وتعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين
بالتدليس الورقة "5/ ب"، وتهذيب التهذيب "5/ 8"، والثقات
لابن حبان "ص: 121"، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم "ج:1،
ق1، ص: 500"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 153"، وشذرات الذهب
"1/ 133"، وطبقات ابن سعد "5/ 391"، وطبقات الفقهاء
للشيرازي "ص: 73"، وغاية النهاية "1/ 341"، واللباب "1/
241"، والنجوم الزاهرة "1/ 260"، ووفَيَات الأعيان "2/
194".
1 هذا الحديث أخرجه الحكيم الترمذي في كتابه "نوادر
الأصول" "ص: 242"، عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
وتمامه عنده: "وما قسم الله تعالى لخلقه حظًّا هو أفضل من
العقل واليقين".
وقد أورده القاضي أبو يعلى عن أبي الحسن التميمي بسنده إلى
طاوس مرسلا، وأبو الحسن التميمي وضَّاع، كما سبق بيان ذلك.
2 هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، أبو حمزة،
خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم النبي -صلى الله
عليه وسلم- المدينة وعمره عشر سنين على الراجح، ومات
بالبصرة "سنة: 91هـ" أو "92هـ" أو "93هـ". له ترجمة في:
الاستيعاب "1/ 109"، وأسد الغابة "1/ 151"، والإصابة "1/
71"، وتذكرة الحفاظ "1/ 44"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 35"،
وشذرات الذهب "1/ 100"، وكتاب الطبقات لخليفة بن خياط "ص:
91"، وطبقات الحفاظ "ص: 11"، وطبقات الفقهاء "ص: 51"،
وغاية النهاية في طبقات القراء "1/ 172".
3 هو عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري،
أبو يوسف، أحد الأحبار، أسلم عند قدوم النبي -عليه الصلاة
والسلام- المدينة. توفي بالمدينة في خلافة معاوية -رضي
الله عنه- سنة: 43هـ. انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 921"،
وأسد الغابة "3/ 264" والإصابة "4/ 80". وتذكرة الحفاظ "1/
26"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 170"، وشذرات الذهب "1/ 53"
والنجوم الزاهرة "1/ 125".
(1/95)
النبي -صلى
الله عليه وسلم- فذكر الخبر إلى أن [قال]: قال النبي -صلى
الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: إني خلقت العقل أصنافًا
شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي من ذلك حبة واحدة،
وبعضهم الحبتين، والثلاث، والأربع، وبعضهم من أعطي فرقًا1،
وبعضهم أعطي وسقًا2، وبعضهم وسقين، وبعضهم أكثر من ذلك ما
شاء الله من التضعيف"3.
وروى4 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنا معشر
الأنبياء أمرنا أن
__________
1 الفرَْق: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة أصع وهو بسكون الراء
ويحرك وهو أفصح من إسكان الراء - أو يسع ستة عشر رطلا أو
أربعة أرباع جمع فرقان كبَطْنان. القاموس: "مادة: فرق".
2 الوَسْق ستون صاعًا، أو حمل بعير. القاموس: "مادة: وسق".
3 هذا الحديث أخرجه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" "ص:
242" مع اختلاف يسير في التقديم والتأخير والزيادة
والنقصان.
وقد ذكره حجة الإسلام الغزالي في كتابه: "إحياء علوم
الدين" "1/ 469" مطبوع مع شرحه إتحاف السادة المتقين، ذكره
مستدلا به على تفاوت العقل، وقد علق عليه الزبيدي في شرحه
المذكور بقوله: "قال العراقي: رواه داود بن المحبر في كتاب
العقل بسنده عن أنس بن مالك، مع اختلاف يسير في النص".
قلت: وداود بن المحبر هالك، وسيأتي الكلام عنه "ص: 98".
وقد ذكره ابن عراق في كتابه: تنزيه الشريعة "1/ 219" ضمن
الأحاديث الموضوعة في "العقل".
4 الضمير في "روى" يعود إلى أبي الحسن التميمي كما صرح
بذلك أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "9/ ب" وكذلك
الشأن في ضمير "روى" الآتية.
(1/96)
نكلم1 الناس
على قدر عقولهم"2. وروى يزيد عن أبي زياد3 عن ابن عباس
قال: "العقل عشرة أجزاء، تسعة في الأنبياء وواحد في سائر
الناس"4.
__________
1 في الأصل: "نكل" بحذف الميم. وهو خطأ.
2 بعد البحث الطويل لم أجد حديثًا بلفظ: "إنا معشر
الأنيباء أمرنا أن نكل الناس على قدر عقولهم" ولكن الذي
وجدته هو: "أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم"، فبان أن
في النسخة المخطوطة غلطًا، وذلك بحذف حرف الميم من كلمة
"نكلم"، فأصبحت: "نكل".
وهذا الحديث: "أمرنا أن نكلم..." ذكره الغزالي في كتابه:
"إحياء علوم الدين" "1/ 96"، وفي الحاشية: قال العراقي:
حديثُ "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.
ونكلمهم على قدر عقولهم" رويناه في جزء من حديث أبي بكر
الشخير من حديث عمر أخصر منه. وعند أبي داود من حديث عائشة
"أنزلوا الناس منازلهم".
وبهذا اللفظ الذي ذكره العراقي عن أبي دواد أخرجه أبو داود
في كتاب الأدب باب في تنزيل الناس منازلهم "2/ 560"، وقد
أخرجه عن يحيى بن إسماعيل بسنده إلى ميمون بن أبي شبيب عن
عائشة مرفوعًا. ثم عقب عليه أبو داود بقوله: "وحديث يحيى
مختصر. وميمون لم يدرك عائشة".
وقد أورد هذا الحديث أبو الخطاب في التمهيد الورقة "9/ ب"
نقلا عن أبي الحسن التميمي بسنده إلى ابن عباس -رضي الله
عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثنا معاشر
الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم". ولا يصح شيء من هذا
في المرفوع، وإنما هو من قول علي -رضي الله عنه- كما في
صحيح البخاري برقم: 127. "الفتح".
3 هو يزيد بن أبي زياد الكوفي، قال فيه ابن حبان: "صدوق
إلا أنه كبر وساء حفظه، وكان يتلقن". وقال فيه الذهبي:
"أحد علماء الكوفة المشاهير على سوء حفظه". وقد أخرج له
مسلم مقرونًا بآخر. وقال فيه يحيى: "لا يحتج به". وقال ابن
المبارك: "ارم به". توفي سنة: 136هـ، وله تسعون سنة
تقريبًا. انظر ترجمته في: خلاصة تذهيب الكمال "ص: 371"،
وشذرات الذهب "1/ 206"، وطبقات الحفاظ "ص: 61"، وطبقات ابن
سعد "6/ 237"، والعبر "1/ 187"، والمغني في الضعفاء "2/
749"، وميزان الاعتدال "4/ 423".
4 أورد هذا الأثر أبو الخطاب في التمهيد الورقة "9/ ب"،
ولم أجده في غيره.
(1/97)
وهذه الأخبار
كلها تدل على التفاضل في العقول1.
ولأنه إجماع الناس؛ فإنه مستفيض فيهم القول بأن أحد
العاقلين أكمل عقلا وأوفر وأرجح من الآخر. قال بعضهم:
__________
1 هذه الأحاديث لا تدل على شيء؛ لأنه لم يثبت منها شيء،
وكونها حجة فرع ثبوتها.
وأحاديث العقل حكم عليها المحدِّثون بالوضع، وأنه لم يصح
منها شيء، ولذلك قال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات "1/
177": "وقد رويت في العقول أحاديث كثيرة، ليس فيها شيء
يثبت"، كما قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه ابن عراق في
كتابه تنزيه الشريعة "1/ 213": "أحاديث في العقل أخرجها
داود بن المحبر في كتاب العقل، ومن طريقه الحارث بن أسامة،
وكلها موضوعة، كما قال الحافظ ابن حجر في المطالب
العالية".
ويصرح الدارقطني بأن كتاب العقل وضعه أربعة. أولهم: ميسرة
بن عبد ربه، ثم سرقه منه: داود بن المحبر، فركبه بأسانيد
أخرى غير مسانيد ميسرة. وكذلك فعل: عبد العزيز بن أبي رجاء
وسليمان بن عيسى السجزي. راجع الموضوعات لابن الجوزي "1/
176".
كل واحد من هؤلاء الأربعة مشهور بالوضع والكذب، ولمزيد من
الفائدة راجع في ترجمة:
1 مسيرة بن عبد ربه الفارس، تنزيه الشريعة لابن عراق "1/
121"، وكتاب المغني في الضعفاء للذهبي "2/ 689"،
والموضوعات لابن الجوزي "1/ 173"، وميزان الاعتدال "4/
230".
2 داود بن المحبر، راجع في ترجمته: تنزيه الشريعة "1/ 59"،
والمغني في الضعفاء "1/ 220"، والموضوعات لابن الجوزي "1/
176"، وميزان الاعتدال "2/ 20".
3 عبد العزيز بن أبي رجاء، راجع في ترجمته: تنزيه الشريعة
لابن عراق "1/ 80"، والموضوعات لابن الجوزي "1/ 176"،
وميزان الاعتدال "2/ 628".
4 أما سليمان بن عيسى السجزي فراجع في ترجمته: تنزيه
الشريعة "1/ 65"، والمغني في الضعفاء "1/ 282"، والموضوعات
لابن الجوزي "1/ 173"، وميزان الاعتدال "2/ 218".
(1/98)
يزين الفتى في
الناس كثرة عقله ... وإن لم يكن في أهله بحسيب1
فإن قيل: إنما يقال ذلك على معنى أنه أكثر استعمالا لعقله
وتيقظًا وتحذرًا.
قلنا: إنما كان أكثر استعمالا؛ لوفور عقله على غيره، ولقلة
عقل غيره، أنه لم يكثر استعماله لعقله.
ويدل على ذلك ما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال: "ما وجد من ناقصات العقول
والأديان أغلب للرجال 2 ذوي [6/ أ] الرأي 3 على أمورهم من
النساء، قالوا: يا رسول الله، ما نقصان عقلها ودينها؟ قال:
أما نقصان عقلها فجعل الله تعالى شهادة امرأتين برجل، وأما
نقصان دينها فإنها تمكث الثلاث والأربع لا تصلي لله تعالى
فيها سجدة 4 " . وهذا يدل على
__________
1 ذكر الناسخ بالحاشية البيت الذي يلي هذا البيت، وهو:
إذا حلً أرضًا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب
هذان البيتان ذكرهما ابن أبي الدنيا في كتابه "العقل
وفضله" "ص: 23" ولم ينسبهما إلى أحد. وقد أوردهما على
النحو التالي:
يعد عظيم القدر من كان عاقلا ... وإن لم يكن في فعله بحسيب
وإن حلّ أرضًا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب
وبعد طول البحث لم أقف على قائل هذين البيتين
2 في الأصل: "للرجل".
3 هكذا في الأصل، ولكن أغلب روايات الحديث جاءت بلفظ:
"أغلب لذي لب منكن" ، وفي سنن الدارمي في كتاب الوضوء باب
الحائض تسمع السجدة فلا تسجد "1/ 190" جاء الحديث بلفظ:
"أغلب للرجال ذوي الأمر على أمرهم من النساء" .
4 هذا الحديث روي بألفاظ متعددة، بل مختلفة أحيانًا، قلة
وكثرة، تقديمًا وتأخيرًا، انظر صحيح البخاري في كتاب
الحيض، باب ترك الحائضِ الصومَ "1/ 79"، وكتاب الصوم، باب
الحائض تترك الصوم والصلاة "3/ 43" وصحيح مسلم في =
(1/99)
نقصان عقل
النساء عن عقول الرجال مع وصفهن بالعقل.
واحتج من منع ذلك:
بأن العقل من العلوم الضرورية، وتلك لا تختلف في حق عاقل.
والجواب: أن تلك العلوم لم يختلف ما يدرك به من النظر
والشم والذوق، فلهذا لم تختلف هي في أنفسها، وليس كذلك
العقل؛ لأنه يختلف ما يدرك به وهو التمييز والفكر، فيقل في
حق بعضهم ويكثر؛ فلهذا اختلف.
واحتج بأنه لو كان أحدهما أكمل من الآخر لم يحصل لغير
الكامل الغرض، وهو تأمل الأشياء ومعرفتها؛ لأجل النقصان
الذي منه.
والجواب: أنه إنما لا يحصل له الغرض الكامل؛ لأنا نجد أن
من لم يكمل عقله لا تكمل أحواله، ولا يبلغ جميع أغراضه،
ومن الكامل عقله بلغ أكثر أغراضه وأكمل أكثر أحواله.
(1/100)
فصل: [في
تعريف البيان]: 1
وحد البيان2: إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب مفصلا مما
يلتبس به
__________
= كتاب الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات "1/
86"، وسنن أبي داود، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة
الإيمان ونقصانه "2/ 522"، وسنن ابن ماجه في كتاب الفتن
باب فتنة النساء "2/ 1326"، وسنن الدارمي كتاب الوضوء، باب
الحائض تسمع السجدة فلا تسجد "1/ 190"، والمستدرك باب
النساء أكثر أهل جهنم "1/ 190" ومسند الإمام أحمد "2/ 67"،
ونصب الراية "4/ 89". والمقاصد الحسنة "ص: 285"، وكشف
الخفاء "2/ 81".
1 راجع في هذا الفصل كتاب التمهيد الورقة "10/ أ"، وشرح
الكوكب المنير "ص: 227" ، والمسودة "ص: 572"، وقد ذكر فيها
تعريف المؤلف. وراجع أيضًا مبحث البيان في كتاب البرهان
لإمام الحرمين، الورقة "20/ ب- 23/ أ".
2 من أول هذا الفصل إلى قول المؤلف في آخر الفصل: "وذكر
أبو بكر في مجموع فيه مسائل..."، منقول من كتاب الفصول في
أصول الفقه للإمام أبي بكر أحمد بن على الرازي المعروف
بالجصاص، الورقة "76" وما بعدها، مخطوطة دار الكتب
المصرية، مع ملاحظة أن المؤلف يحذف بعض كلام الجصاص قليلا،
ويضيف بعض كلام كبار الحنابلة.
(1/100)
ويشتبه من
أجله. كما يقال: "بانَ الأمرُ إذا ظهرَ".
وأصله في اللغة من القطع والفصل، يقال1: "بان منه إذا
انقطع" قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما بان من البهيمة
وهي حية، فهو مَيتةٌ" 2.
"وبان: إذا فارق" قال جرير3:
__________
1 في الأصل: "ويقال".
2 حديث صحيح أخرجه عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه-
مرفوعًا أبو داود في كتاب الصيد، باب في صيد قطع منه قطعة
"2/ 100"، وأخرجه الترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما قطع من
الحي فهو ميت "4/ 74"، وقال فيه: "حديث حسن غريب، لا نعرفه
إلا من حديث يزيد بن أسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم".
وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الذبائح "4/ 239"،
وأخرجه الدارقطني في باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك
"4/ 292"، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب الصيد، باب في
الصيد يبين منه العضو "2/ 20".
وقد روى هذا الحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا.
أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيد باب ما قطع من البهيمة
وهي حية "2/ 1072"، وأخرجه الحاكم في المستدرك "4/ 124".
ورواه أيضًا أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا،
أخرجه عنه الحاكم في مستدركه "4/ 139" وقال: حديث صحيح على
شرط الشيخين.
كما رواه تميم الداري -رضي الله عنه- أخرجه عنه ابن ماجه
في كتاب الصيد باب ما قطع من البهيمة وهي حية "2/ 1073"،
وأخرجه أيضًا الطبراني في "معجمه الكبير" كما حكاه الزيلعي
في "نصب الراية" "4/ 318" والسيوطي في "الجامع الصغير" "5/
461" مطبوع مع شرحه "فيض القدير".
3 هو جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي التميمي أبو حَزْرة،
شاعر معروف، وقعت =
(1/101)
بان الخليط ولو
طوعت ما بانا ... وقطعوا من حبال الوصل أقرانا1
وبانت المرأة من زوجها بينونة، إذا فارقت زوجها وانقطع
النكاح بينهما، فسمي إظهار المعنى وإيضاحه بيانًا؛
لانفصاله مما يلتبس به من المعاني فيشكل من أجله.
وقد ذكر الشافعي2 البيان ووصفه3 فقال: "البيان اسم جامع
__________
= بينه وبين الفرزدق مهاجاة ونقائض. فضله جمهور الأدباء
على خصمه الفرزدق. له ديوان مطبوع. أخباره كثيرة حفلت بها
كتب الأدب. توفي سنة: 110هـ، وقيل سنة: 111هـ، باليمامة،
وقد نيف على الثمانين.
انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة "1/ 464"،
و"طبقات فحول الشعراء" للجمحي "ص: 49"، "315- 386"،
و"وفيات الأعيان" "1/ 286".
1 هذا البيت جاء في مطلع قصيدة موجودة في ديوان جرير "1/
160" بتحقيق الدكتور: نعمان محمد أمين طه. وهو موجود في
كتاب "الشعر والشعراء" "1/ 68"، و"الأغاني" "7/ 35".
2 هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي
القرشي المطلبي، أبو عبد الله. أحد الأئمة الأربعة، وأحد
أعلام الإسلام. مؤسس علم الأصول. ولد في غزة بفلسطين سنة:
150هـ، وتوفي بالقاهرة سنة: 204هـ.
انظر ترجمته في "البداية والنهاية" "10/ 251"، و"تاريخ
بغداد" "2/ 56"، و"تذكرة الحفاظ" "1/ 361" و"تهذيب
التهذيب" "9/ 35"، و"خلاصة تذهيب الكمال" "ص: 277"،
و"شذرات الذهب" "2/ 9"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 380"،
و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "ص: 71"، و"طبقات المفسرين"
للداودي "2/ 98"، و"طبقات الشافعية" للأسنوي "1/ 11"،
و"طبقات النحاة واللغويين" لابن قاضي شهبة "ص: 62"،
"وطبقات الشافعية" لابن هداية الله "ص: 11"، و"غاية
النهاية في طبقات القراء" "2/ 95"، و"مرآة الجنان" "2/
13"، و"النجوم الزاهرة" "2/ 176".
3 في كتابه: "الرسالة" "ص: 15".
(1/102)
لمعانٍ1 مجتمعة
الأصول متشعبة الفروع، فأقل ما في تلك المعاني المتشعبة أن
تكون بيانًا2 لمن خوطب ممن نزل القرآن بلسانه3، وإن كان
بعضها أشد تأكيد بيان من بعض". ثم جعله على خمسة أوجه4.
واعترض عليه أبو بكر بن داود5، وقال: البيان أبين من
التفسير الذي فسره.
واعترض غيره عليه أيضًا وقال: لم يصف البيان؛ لأنه ذكر
جملة مجهولة، فكان بمنزلة من قال: البيان اسم يشتمل على
أشياء، ثم لم يبين تلك الأشياء ما هي.
واعتذر أصحابه له، وقالوا: لم يقصد به حد البيان وتفسير
معناه، وإنما قصد به: أن البيان اسم عام جامع لأنواع
مختلفة من البيان، فهي
__________
1 في الأصل: "لمعاني".
2 في الرسالة "ص: 15": "أنها بيان".
3 هنا عبارة ساقطة هي: "متقاربة الاستواء عنده، وإن
كان..." الرسالة "ص: 15".
4 وقد تكلم عنها الإمام الشافعي في كتابه الرسالة "ص: 15-
25".
5 هو محمد بن داود بن علي الظاهري، أبو بكر. أحد فقهاء
الظاهرية، تصدر للفتوى ببغداد بعد موت أبيه. له كتاب
الزهرة. توفي سنة: 297هـ، وقد نيف على الأربعين.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" "5/ 256" و"دول الإسلام"
للذهبي "1/ 181". و"شذرات الذهب" "2/ 226"، و"فيات
الأعيان" "3/ 390". وقد ترجم له الدكتور: نوري القيسي في
كتابه: "أوراق من ديوان أبي بكر محمد بن داود الأصفهاني"
"ص: 7- 10".
(1/103)
متفقة في أن
اسم البيان يقع عليها، ومختلفة في مراتبها، فبعضها أجلى
وأبين من بعض؛ لأن من البيان ما يدرك معناه من غير تدبر
وتفكر فيه من صفة ما [6/ب] يحتاج إلى تفكر وتدبر، ولهذا
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا" 1
فأخبر أن بعض البيان أبلغ من بعض. ولأن الله تعالى ورسوله
-صلى الله عليه وسلم- خاطبنا بالنص والعموم والظاهر ودليل
الخطاب وفحواه. وجميع ذلك بيان، وإن اختلفت مراتبها فيه.
__________
1 هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا، وقد
أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الطب، باب من البيان
سحر "7/ 178". وأخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب الأدب،
باب ما جاء في المتشدق في الكلام "2/ 597". وأخرجه عنه
الترمذي في سننه في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في أن من
البيان سحرًا "4/ 376" وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرج مالك
في "الموطأ" في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله "4/
403" مطبوع مع شرح الزرقاني. وعن عمار بن ياسر -رضي الله
عنه- مرفوعًا أخرجه مسلم في "صحيحه" في كتاب الجمعة، باب
تخفيف الصلاة والخطبة "2/ 594". وأخرجه الدارمي في سننه
عنه في كتاب الصلاة، باب في قصر الخطب "1/ 303".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، أخرجه أبو داود في
كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر "2/ 598"، ولفظه: "إن من
البيان سحرًا، وإن من الشعر حكمًا" . وعن بريدة -رضي الله
عنه- مرفوعًا أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما جاء في
الشعر "2/ 598" بلفظ: "إن من البيان سحرًا، وإن من العلم
جهلا، وإن من الشعر حكمًا، وإن من القول عيالا"، وقد رمز
له السيوطي بالضعف، وراجع في ذلك أيضًا: "كشف الخفاء" "1/
296".
(1/104)
وقال أبو بكر
الصيرفي : البيان2: "إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى
[حيّز] 3 التجلي". وهو اختيار أبي بكر4 من أصحابنا فيما
وجدته بخطه في مجموع فيه مسائل.
وفي هذه العبارة خلل؛ لأن هذا الوصف إنما يوجد في بعض
أقسام البيان، وهو بيان المجمل الذي لا يستقل بنفسه.
فأما الخطاب المبتدأ من الله تعالى ومن الرسول -صلى الله
عليه وسلم- ومن سائر
__________
1 هو محمد بن عبد الله الصيرفي البغدادي الشافعي، أبو بكر،
أصولي فقيه متكلم. تفقه على ابن سريج. من تصانيفه: "شرح
الرسالة"، وكتاب "الإجماع" وكتاب في "الشروط". توفي بمصر
سنة: 330هـ.
له ترجمة في "تاريخ بغداد" "5/ 449" و"شذرات الذهب" "2/
325" و"طبقات الشافعية" للأسنوي "2/ 122" و"طبقات
الشافعية" للسبكي "3/ 186"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "ص:
111"، "والعبر" للذهبي "2/ 221"، و"الفهرست" "ص: 213"
و"الوافي بالوفيات" "3/ 346".
2 تعريف الصيرفي في هذا ذكره الغزالي في "المنخول" "ص:
63"، وفي "المستصفى" "1/ 365"، ولم يعزه لأحد. وذكره في
"المسودة" "ص: 572" بأخصر مما هنا، وذكره في "شرح الكوكب
المنير" "ص: 227" إلا أنه أبدل كلمة: "الشيء" بكلمة:
"المعنى"، وذكره أيضًا الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص:
168".
3 هذه الكلمة ساقطة من الأصل، وهي مثبتة في جميع المصادر
التي ذكرناها آنفًا عدا "المسوَّدة".
4 هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف، أبو
بكر الحنبلي المعروف بغلام الخلال. أصولي فقيه كان ذا دين
وورع. علَّامة بمذهب أحمد. له تصانيف منها: "المقنع"،
و"تفسير القرآن". توفي سنة: 363هـ.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" "10/ 459"، و"شذرات الذهب"
"3/ 45" و"طبقات الحنابلة" "2/ 119"، و"المنتظم" "7/ 71".
(1/105)
المخاطبين إذا
كان ظاهر المعنى بَيِّن المراد، فهو بيان صحيح، وإن لم
يشتمل عليه هذا الوصف، ألا ترى أن قوله تعالى:
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ} 2، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}
3 قد حصل به البيان، وإن لم يكن قبل ظهور ذلك إشكال أخرجه
إلى التجلي، بل قد علمنا: أن الغسل لم يكن واجبًا، فبين
وجوبه بالآية.
وقال قوم من المتكلمين: البيان، هو الدلالة؛ لأن البيان
يقع بها، وهو ظاهر كلام أبي الحسن التميمي؛ فإنه قال في
جزء وقع إليَّ من كلامه: باب في البيان، ثم قال: البيان
عن4 الشيء يجري مجرى الدلالة5، وهذا أيضًا فيه خلل؛ لأن من
الدلائل ما لا يقع به البيان، كالمجمل ونحوه.
وقال قوم منهم: البيان هو العلم الذي يتبين [به]6
المعلوم7.
__________
1 "6" سورة المائدة.
2 "23" سورة النساء.
3 "3" سورة المائدة.
4 في الأصل "من" وهو خطأ، والتصويب من "المسودة" "ص: 572".
5 هكذا نقل المؤلف تعريف أبي الحسن التميمي للبيان، غير أن
أبا الخطاب نقله عنه بلفظ: "الدليل المظهر للحكم". انظر
"التمهيد" الورقة "10/ أ".
6 ساقطة من الأصل. والتصويب من "إرشاد الفحول" "ص: 168".
7 نقل هذا التعريف في "المسودة" إلا أنه اقتصر على قوله:
"البيان: هو العلم" "ص: 572" وقد ذكره الغزالي في كتابه:
"المنخول" وعزاه لبعض الشافعية "ص: 64". أما الشوكاني في
"إرشاد الفحول" "ص: 168" فقد نقله معزوًّا إلى أبي بكر
الدقاق.
(1/106)
وإليه ذهب أبو
بكر الدقاق1.
والذي ذكرناه أولى؛ لأن أصله في اللغة كذلك.
__________
1 هو محمد بن محمد بن جعفر البغدادي، أبو بكر المعروف
بالدقاق، ويلقب بـ"خباط" الشافعي المذهب الفقيه الأصولي.
تولى القضاء بكرخ بغداد. وكان عالِمًا فاضلا.
ولد سنة: 306هـ، وتوفي سنة: 392هـ. له ترجمة في "تاريخ
بغداد" "3/ 229"، و"طبقات الشافعية" للأسنوي "1/ 522"،
و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "صفحة: 118"، و"المنتظم" "7/
222"، و"النجوم الزاهرة" "4/ 206"، و"الوافي بالوفيات" "1/
116".
(1/107)
فصل: [في
وجوه البيان]: 1
وأما وجوه البيان. فهو في الشرع على وجوه:
منها: الأحكام المبتدأة.
ومنها: تخصيص العموم الذي يمكن استعماله على ظاهر ما
ينتظمه الاسم، فيبين أن المراد البعض.
ومنها: صرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز، وصرف الأمر إلى
الندب والإباحة، وصرف الخبر إلى الأمر.
ومنها: بيان الجملة التي لا تستغني عن البيان في إفادة
الحكم. وهذا البيان ليس بتخصيص؛ لكنه تفسير مراد بالجملة،
كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 2. فبين
النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد: العشر ونصف
__________
1 راجع في هذا الفصل "التمهيد" الورقة "10/ أ"، و"المسودة"
"ص: 573" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 228".
2 "141" سورة الأنعام.
وقد اختلف العلماء في هذه الآية، أمكية هي أم مدنية؟
أمحكمة أم منسوخة؟ وما المراد بالحق هنا، أهو الزكاة
المفروضة أم حق غيرها ونسخ بها، أم حق غيرها ولم ينسخ؟
ولعل الظاهر أن البيان سابق على هذه الآية كما يتضح من
كلام الفخر الرازي، في "تفسيره" "13/ 213، 214"، و"تفسير
القرطبي" "7/ 99". و"تفسير أبي السعود" "1/ 473".
(1/107)
العشر1.
ومنها: النسخ، وهو رفع الحكم بعد أن كان في توهمنا
وتقديرنا بقاؤه.
__________
1 سيأتي تخريج هذا في قوله -صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت
السماء العشر". "ص: 621".
(1/108)
فصل: [فيما
يحتاج إلى البيان]
وأما ما يحتاج إلى البيان فكل لفظ لا يمكن استعمال حكمه،
نحو قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1،
وقوله: {وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} 2، وقول
النبي -صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى
يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم
وأموالهم إلا بحقها" 3، ونحو قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
__________
1 "141" سورة الأنعام.
2 "24" سورة المعارج.
3 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا، وقد
أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، باب وجوب
الزكاة "2/ 125"، وفي كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"9/ 115".
وأخرجه عنه مسلم في "صحيحه" في كتاب الإيمان، باب الأمر
بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله "1/ 51، 52".
وأخرجه عنه أبو داود في "سننه" في كتاب الجهاد باب علام
يقاتل المشركون؟ "2/ 41، 42".=
(1/108)
.....................................................
__________
= وأخرجه عنه ابن ماجه في "سننه" في المقدمة، باب الإيمان
"1/ 28"، كما أخرجه عنه في كتاب الفتن، باب الكفِّ عمن
قال: لا إله إلا الله "2/ 1295".
وأخرجه عنه الترمذي في "سننه" في كتاب التفسير، باب من
سورة الغاشية "5/ 439".
وأخرجه عنه النسائي في "سننه" في كتاب الزكاة، باب مانع
الزكاة "5/ 10".
وأخرجه عنه الدارقطني في "سننه" في كتاب الزكاة "2/ 89".
وأخرجه عنه الشافعي، انظر "بدائع المنن في جمع وترتيب مسند
الشافعي والسنن" "1/ 223" في كتاب الزكاة، باب ما ورد في
فضلها ووجوبها وقتال مانعها. ورواه أيضًا ابن عمر -رضي
الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب
الإيمان باب: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
فخلوا سبيلهم" "1/ 14".
وأخرجه عنه مسلم في "صحيحه" في كتاب الإيمان، باب الأمر
بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله
"1/ 53".
وقد رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه
البخاري في "صحيحه" في كتاب الصلاة، باب فضل استقبال
القبلة "1/ 103"، وأخرجه عنه أبو داود في "سننه" في الكتاب
والباب السابق ذكرهما "2/ 42".
ورواه جابر -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في
"صحيحه" في الكتاب والباب السابق ذكرهما "1/ 53"، وأخرجه
ابن ماجه في "سننه" في كتاب الفتن، باب الكف عمن قال: لا
إله إلا الله "2/ 1295".
ورواه معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مرفوعًا أخرجه عنه ابن
ماجه في المقدمة باب الإيمان "1/ 28".
ورواه أوس بن أبي أوس -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه
أبو داود الطيالسي، انظر "منحة المعبود" كتاب الإيمان، باب
حكم الإقرار بالشهادتين "1/ 26". وأخرجه عنه الدارمي في
"سننه" في كتاب السير، باب في القتال على قول النبي -صلى
الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله
إلا الله" "2/ 137". ويظهر من كلام المؤلف: أن هذا الحديث
مجمل، ومن ثم فلا يعمل به إلا فيما بين به، وهذا أحد
الآراء. على أن هناك رأيًا آخر هو: أن الحديث عام، ويعمل
به في أفراده الباقية التي لم تخص.
راجع: "فتح الباري" "1/ 75- 77، 496، 497".
(1/109)
بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} 1.
وأما ما يمكن استمعاله على ظاهره وحقيقته، فلا يحتاج إلى
البيان، إلا أن يريد به المخاطب بعض ما انتظمه، أو كان
مراده غير حقيقته، فيحتاج إلى بيان المراد به، نحو قوله
تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2، و {وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ} 3 و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ} ، فهذه الألفاظ معانيها معقولة ظاهرة، فهي
غير مفتقرة إلى البيان.
__________
1 "24" سورة النساء.
ما ذهب إليه المؤلف من أن هذه الآية مجملة، لا يمكن أن
تستغني عن البيان هو أحد الاتجاهين في فهم الآية. وأما
الاتجاه الثاني فهو: أن الآية عامة مبينة، وقد دخلها
التخصيص كما هو مسطور في كتب التفسير. انظر "تفسير
القرطبي" "5/ 120- 135"، و"تفسير أبي السعود" "1/ 288".
2 "5" سورة التوبة.
3 "275" سورة البقرة.
4 "23" سورة النساء.
(1/110)
[7/أ] فصل: [فيما
يقع به البيان]:
وأما ما يقع به البيان فهو الكتاب والسنة والإجماع
والقياس، والبيان يقع من الله تعالى بالقول وبالكتاب،
فالقول نحو: سائر الفروض المعقول معانيها من ظاهر الخطاب.
ويقع بالكتاب أيضًا؛ لأن القرآن كلام الله تعالى. وكتابه
في اللوح
(1/110)
المحفوظ وفي
غيره، فيقع منه البيان بهذين الوجهين، فيكون منه تخصيص
العموم، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ} 1، خص منه المحرمات بالآية الأخرى وهي قوله
تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 2، ونحو
بيان الجملة كقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا
تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 3، ثم بينه بقوله
تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 4.
ويكون منه أيضًا: بيان مدة الفرض، وهو نسخ [نحو] قوله
تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} 5،
ثم قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
6، ونحو قوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى
الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} 7، ثم نسخ منه ما عدا أربعة
الأشهر والعشر، بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 8.
وكان حد الزانيين الحبس والأذى بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} 9، إلى آخره، ثم
قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 10، فنسخ به الحبس
__________
1 " 3" سورة النساء.
2 " 23" سورة النساء.
3 " 7" سورة النساء.
4 "11 " سورة النساء.
5 "144 " سورة البقرة.
6 "149 " سورة البقرة.
7 "240 " سورة البقرة.
8 "234 " سورة البقرة.
9 "15 " سورة النساء.
10 "2 " سورة النور.
(1/111)
والأذى
المذكورين في الآية الأخرى من غير المحصن.
ويكون البيان من الرسول بالقول. نحو سائر السنن المبتدأة،
ونحو تخصيصه لعموم القرآن، عن بيع ما ليس عنده1، وبيع ما
لم يقبض2.
__________
1 حديث النهي عن بيع ما ليس عنده، صحيح، رواه حكيم بن حزام
-رضي الله عنه- أخرجه عنه أبو داود في كتاب التجارة، باب
الرجل يبيع ما ليس عنده "2/ 254". وأخرجه عنه الترمذي في
كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك "3/
525"، وقال: "حديث حسن". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب
التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك "2/ 737".
وأخرجه الطيالسي في "مسنده" عنه في كتاب البيوع، باب النهي
عن بيع الولاء والمحاقلة والمزابنة وبيع ما ليس عنده "1/
264".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب النهي عن
بيع الطعام قبل قبضه "2/ 156".
ورواه أيضًا عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أخرجه عنه
أبو داود في الكتاب والباب المذكورين آنفًا.
وأخرجه عنه الترمذي في الكتاب والباب المذكورين "3/ 526"،
وقال "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه النسائي في الموضع السابق "7/ 259".
وأخرجه ابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "2/ 737".
راجع في ذلك أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 5"، و"تيسير الوصول
إلى جامع الأصول" "2/ 54" و"ذخائر المواريث" "1/ 198"،
و"نصب الراية" "4/ 18"، ومجمع الزوائد" "4/ 85".
2 حديث النهي عن بيع ما لم يقبض في الطعام وغيره، أخرجه
الدارقطني في "سننه" في كتاب البيوع "3/ 8" عن حكيم بن
حزام -رضي الله عنه- بلفظ: "أنه -أي حكيم- قال: يا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- إني رجل أشتري هذه البيوع فما
تحل لي منها، وما تحرم عليّ؟ قال: "يابن أخي إذا اشتريت
بيعًا، فلا تبعه حتى تقبضه" . =
(1/112)
وأحلَّت لنا
ميتتان1.
__________
= وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده" في كتابه البيوع، باب
النهي عن بيع الولاء والمحاقلة والمزابنة وبيع ما ليس عنده
"1/ 264".
وأخرجه عنه البيهقي في "سننه" باب النهي عن بيع ما لم
يقبض، وإن كان غير طعام "5/ 313" ، وراجع في هذا أيضًا:
نصب الراية" "4/ 32"، و"تلخيص الحبير" "3/ 25".
ومما يلاحظ هنا: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه قد جاء
في أحاديث صحيحة، منها المتفق عليها، غير أن النهي عن بيع
ما لم يقبض وإن كان غير طعام، هو الذي يوحي به كلام المؤلف
هنا، وهو الذي لاحظناه عند العزو، والله أعلم.
1 حديث: "أحلت لنا ميتتان" رواه ابن عمر -رضي الله عنهما-
مرفوعًا أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب الكبد
والطِّحال "2/ 1102" بلفظ: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم: "أحلت لكم ميتتان ودمَان، فأما الميتتان فالحوت
والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال" .
وأخرجه عنه الشافعي، انظر: كتاب الأطعمة، باب ما جاء في
السمك والجراد "2/ 425".
وأخرجه عنه الدارقطني في سننه، في باب الصيد والذبائح
والأطعمة "4/ 270". وأخرجه عنه أيضًا أحمد والبيهقي وعبد
بن حميد، كما نقل ذلك الزيلعي في "نصب الراية" "4/ 270".
ورفع هذا الحديث مداره على ثلاثة رواة هم: عبد الرحمن وعبد
الله وأسامة أبناء زيد بن أسلم، وهؤلاء الثلاثة ضعفهم ابن
معين غير أن الإمام أحمد وثق عبد الله.
وقد تابعهم شخص رابع هو أبو هاشم كثير بن عبد الله الأيلي،
كما أخرج ذلك عنه ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام، وهو
ضعيف أيضًا.
وقد رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه
عنه الخطيب بسنده. وفيه المسور بن الصلت، وهو كذاب.
وقد روي هذا الحديث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- موقوفًا،
فقد روي من =
(1/113)
ويكون البيان
بالكتابة أيضًا: كنحو كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم1 في
الصدقات والديات وسائر الأحكام2، وكتابه الذي كتبه لأبي
بكر
__________
= رواية سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن ابن عمر
موقوفًا، قال الدارقطني: هو الصواب، وصحح الوقف أبو زُرعة
وأبو حاتم.
والموقوف هنا له حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا،
أو حرم علينا بمنزلة قوله: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا.
راجع: "نصب الراية" "4/ 202"، و"تلخيص الحبير" "1/ 25"،
و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 768".
1 هو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الخزرجي الأنصاري، أبو
الضحاك، صحابي، شهد الخندق وما بعدها. روى عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- كتابًا كتبه له ، فيه كثير من الأحكام،
كان عاملا للنبي -صلى الله عليه وسلم- على نجران. مات
بالمدنية سنة: 51هـ.
له ترجمة في "الاستيعاب" "3/ 1172"، و"الإصابة" "4/ 293".
و"شذرات الذهب" "1/ 59".
2 حديث عمرو بن حزم -رضي الله عنه- الذي أشار المؤلف إليه
أخرجه عنه النسائي في "سننه" في كتاب الديات، باب ذكر حديث
عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له "8/ 51"، وقد
ذكر أن يونس -أحد رواة الحديث- قد رواه عن الزهري مرسلا.
وأخرجه عنه الدارقطني في "سننه" في كتاب الحدود والديات
"3/ 209". وأخرجه الحاكم في "مستدركه" "1/ 395"، كما أخرجه
الإمام مالك في أول كتاب العقول "4/ 175".
وأخرجه الدارمي في "سننه" في كتاب الديات، باب كم الدية من
الإبل "2/ 113". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الديات،
باب جامع دية النفس وأعضائها "2/ 260".
وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في مصنفه وابن حبان في صحيحه
والبيهقي في سننه نقل ذلك الزيلعي في نصب الراية "2/ 339-
342"، كما نقل عن ابن الجوزي عن الإمام أحمد قوله: "كتاب
عمرو بن حزم صحيح". =
(1/114)
الصديق1 في
الصدقات2. وقال عبد الله بن عَكيم3: ورد علينا
__________
= وقال يعقوب الفسوي: "لا أعلم في الكتب المنقولة أصح
منه".
ونقل الزيلعي عن بعض المتأخرين قولهم: "حديث ابن حزم تلقاه
الإئمة الأربعة بالقبول".
والذين صححوا الحديث بنوا ذلك على أن: سليمان، أحد رواته
هو ابن داود الدمشقي، الثقة، ولكن كثيرًا من المحققين
خالفوهم، وقالوا: إنه سليمان بن أرقم، الضعيف. راجع تفصيل
ذلك في "الجوهر النقي" "4/ 86، 87".
1 هو الصحابي الجليل عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر
القرشي، شهد بدرًا. رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في
الغار، وصاحبه الوحيد في الهجرة، أحد المبشرين بالجنة،
خليفة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من بعده، مات
بالمدنية في شهر جمادى الآخرة سنة: 13هـ، ودفن بجوار قبر
النبي -صلى الله عليه وسلم.
له ترجمة في "الاستيعاب" "3/ 963"، و"الإصابة" "4/ 101"،
"والأعلام" للزركلي " "4/ 237"، و"دول الإسلام" "1/ 12"،
و"شذرات الذهب" "1/ 24".
2 حديث أبي بكر -رضي الله عنه- في الصدقات طويل، ونستغني
عن إيراد نصه بذكر من أخرجه، فقد أخرجه البخاري في "صحيحه"
في كتاب الزكاة، باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست
عنده "2/ 138"، وفي باب زكاة الغنم "2/ 139"، وفي باب لا
يؤخذ في الصدقة هرمة"2/ 140" وأخرجه أبو داود في "سننه" في
كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة "1/ 358"
وأخرجه النسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل "5/ 13".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب إذا أخذ المصدق سنًّا
دون سن أو فوق سن "1/ 575". وأخرجه الدارقطني في كتاب
الزكاة، باب زكاة الإبل والغنم "2/ 113".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "2/ 150"،
و"تيسير الوصول" "2/ 58"، و"ذخائر المواريث" "3/ 144"،
و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 311"، و"نصب الراية" "2/
335- 337".
3 هو عبد الله بن عكيم الجهني أبو معبد. اختلف في سماعه من
النبي -صلى الله عليه وسلم، يعد في الكوفيين.
له ترجمة في: الاستيعاب" "3/ 949"، و"طبقات خليفة بن خياط"
"ص: 121".
(1/115)
كتاب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قبل موته بشهر: "أن لا تنتفعوا من
الميتة بإهاب ولا عصب" 1. وقال الضحاك بن سفيان الكلاب2:
كتب إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أورث امرأة
أشيم الضبي من دية زوجها3، فثبت أن الكتابة
__________
1 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في
جلود الميتة إذا دبغت "4/ 222" وقال: هذا حديث حسن. وليس
العمل على هذا عند أكثر أهل العلم.
وأخرجه أبو داود في كتاب اللباس من روى أن لا ينتفع بإهاب
الميتة "2/ 387".
وأخرجه النسائي في "سننه" في كتاب الفرع، باب ما يدبغ به
جلود الميتة "7/ 155". وأخرجه ابن ماجه في كتاب اللباس،
باب من قال: "لا يتنفع من الميتة بإهاب ولا عصب" "2/
1194". وأخرجه الرامهرمزي في كتابه: "المحدث الفاصل" "ص:
453". ورواه القاضي عياض في كتابه "الإلماع" "ص: 88".
وراجع بالإضافة إلى ما سبق "تيسير الوصول" "2/ 296"،
و"تلخيص الحبير" "1/ 46- 48"، و"ذخائر المواريث" "2/ 76"،
و"نصب الراية" "1/ 120- 122".
وهذا الحديث مضطرب سندًا ومتنًا، مع الاختلاف في صحبة
راويه: عبد الله بن عكيم، فقد قال البيهقي: "إنه غير
صحابي".
2 هو الضحاك بن سفيان بن عوف بن أبي بكر بن كلاب الكلبي،
أبو سعيد، كان واليًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- على من
آمن من قومه، وجابيًا للصدقات منهم، مات سنة: 11هـ.
له ترجمة في "الاستيعاب" "2/ 742"، و"الإصابة" "3/ 267"،
و"الأعلام" "3/ 308".
3 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء
في ميراث المرأة =
(1/116)
يقع بها البيان
كوقوعه بالقول.
ويكون من النبي -صلى الله عليه وسلم- بيان المجمل في
الكتاب بهذين الوجهين، نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1 وقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ
__________
= من دية زوجها "4/ 425"، وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه أبو داود في كتاب الفرائض، باب المرأة ترث من دية
زوجها "2/ 117".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الديات، باب الميراث من الدية "2/
883".
وأخرجه مالك في الموطأ مع شرح الزرقاني. وأخرجه الإمام
الشافعي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة من
دية زوجها "2/ 229".
وأخرجه الدارقطني في كتاب الفرائض "4/ 77". وراجع أيضًا:
"تيسير الوصول" "3/ 146"، و"ذخائر المواريث" "1/ 272"،
و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 523"، و"تحفة الأحوذي"
"4/ 674"، و"عون المعبود" "8/ 144".
1 "103" سورة التوبة. وللعلماء في تفسير هذه الآية
اتجاهان:
الاتجاه الأول: أن المراد بها أخذ الصدقة من الذين تابوا؛
لأنهم بذلوا أموالهم صدقة لله تعالى، وليس المراد بها
الزكاة الواجبة، وهو قول الحسن.
الاتجاه الثاني: أن المراد بالصدقة في الآية الزكاة،
والقائلون بهذا على فريقين: الفريق الأول: أن المراد أخذ
الزكاة من التائبين المذكورين في الآية السابقة.
الفريق الثاني: أنه كلام متبدأ، والمراد الزكاة الواجبة.
والذي يهمنا هو معرفة البيان في الآية، هل هو سابق أو
لاحق، والذي يشعر به كلام الفخر الرازي أن البيان سابق،
بمعنى أن الآية نزلت بوجوب الزكاة التي كانت معروفة لديهم.
راجع "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي "8/ 244- 250"،
و"مفاتيح الغيب" للفخر الرازي "16/ 177- 180.
(1/117)
يَوْمَ
حَصَادِهِ} 1، وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ
مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ} 2.
ويكون منه البيان بالفعل، نحو فعله لأعداد الركعات في
الصلوات المفروضات وأوصافها، وقع به البيان لقوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 3. ونحو فعله في المناسك بيان
لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
4.
وقد أكد ذلك بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 5 وقوله:
"خذوا
__________
1 "141"سورة الأنعام.
2 "267" سورة البقرة.
ما المراد بالآية؟ هل المراد الزكاة المفروضة، أو صدقة
التطوع، أو كلاهما؟ ثلاثة آراء، والأمر في الآية على الأول
للوجوب، وفي الثاني للندب، وفي الثالث لترجيح جانب الفعل
على الترك، فعلى القول الأول والثالث، الآية تحتاج إلى
بيان، وقد بيَّنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقول
والفعل والكتابة مثل كتاب أبي بكر وعمرو بن حزم رضي الله
عنهما.
راجع في هذا "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي "3/ 320،
321"، و"مفاتيح الغيب" للرازي "7/ 64- 67".
3 "43" سورة البقرة.
4 "97" سورة آل عمران.
5 هذا جزء من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه-
مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان
للمسافر إذا كانوا جماعة "1/ 153" كما أخرجه عنه في كتاب
الأدب، باب رحمة الناس والبهائم "8/ 11" وأخرجه عنه في باب
ما جاء في إجازة خبر الواحد "9/ 107".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من
أحق بالإمامة "1/ 465".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة
"1/ 139". =
(1/118)
عني مناسككم"1.
وليس كل فعله في الصلاة أو الصدقة بيانًا للجملة التي في
الكتاب؛ لأنه لو صلى لنفسه، لم يدل ذلك على أنه بيان لقوله
تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 2، ولو تصدق بصدقة لم يدل
على أنها مرادة بقوله:
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب الأذان في السفر
"1/ 399"، وأخرجه عنه النسائي في كتاب الإمامة، باب تقديم
ذوي السن "2/ 60".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها،
باب من أحق بالإمامة "1/ 313".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في
الإمامة ومن أحق بها "1/ 128" بدائع المنن.
وأخرجه عنه الدارمي في "سننه" في كتاب الصلاة، باب من أحق
بالإمامة "1/ 229".
والحديث قد روي مطولا ومختصرًا، مع ملاحظة أن كل من أخرجه
ممن سبق ذكرهم عدا البخاري والشافعي والدارمي، لم يذكروا
قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" .
راجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام"
"ص: 225" و"ذخائر المواريث" "3/ 89"، و"نصب الراية" "1/
290"، "2/ 26"، و"تلخيص الحبير" "2/ 122".
1 هذا جزء من حديث رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-
مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي
جمرة العقبة يوم النحر راكبًا "2/ 943".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في رمي الجمار
"1/ 456". وأخرجه عنه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب
الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم "5/ 219".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "1/ 276"،
و"ذخائر المواريث" "1/ 162"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام"
"ص: 407".
2 "43" سورة البقرة.
(1/119)
{وَآتُوا
الزَّكَاةَ} 1. وإنما وجه [7/ ب] البيان: ما يجمع الناس
على أنه من المكتوبات؛ لأنه2 ما يفعله في نفسه [و] لم
يثبت3 أنه فعله فرضًا، فلا يكون فيه دلالة على أنه فعلها
بيانًا.
ويكون منه أيضًا بيان مدة الفرض المنصوص عليه في الكتاب،
كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث" 4 قد قيل: إنه
نسخ به الوصية
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 في الأصل: "لأنه".
3 في الأصل: "لم يثبت"، وقد صوب ذلك الناسخ في الهامش بما
أثبتناه.
4 هذا جزء من حديث صحيح بل مشهور أخرجه أبو داود عن أبي
أمامة الباهلي -رضي الله عنه- في كتاب الوصايا، باب ما جاء
في الوصية للوارث "2/ 103"، وأخرجه عنه في كتاب البيوع،
باب في تضمين العارية"2/ 266"، وأخرجه عنه الترمذي في كتاب
الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، كما أخرجه عن عمرو بن
خارجة -رضي الله عنه- وعلى كلا الحديثين يعقب بقوله: حديث
حسن صحيح، "4/ 433، 434".
وأخرجه ابن ماجه عن أبي أمامة في كتاب الوصايا، باب لا
وصية لوارث وأخرجه أيضًا عن عمرو بن خارجة -رضي الله عنه-
كما أخرجه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- "2/ 905، 906".
وأخرجه النسائي عن عمرو بن خارجة في كتاب الوصايا، باب
إيصال الوصية للوارث "6/ 207".
وأخرجه عنه الدارمي في "سننه" في كتاب الوصايا، باب الوصية
للوارث "2/ 301" وأخرجه أيضًا عن ابن عباس في الموضع
السابق كما أخرجه عنه في كتاب الفرائض "4/ 98" وأخرجه عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وعن علي بن أبي طالب وعن جابر
-رضي الله عنهم- وذلك في كتاب الفرائض "4/ 97، 98". وقد
أخرجه عن جعفر بن محمد عن أبيه مرفوعًا بلفظ: "لا وصية
لوارث ولا إقرار =
(1/120)
للوالدين
والأقربين1. وقوله في الرجم2 نسخ به الحبس والأذى عن
__________
= بدين"، وفي سنده "نوح بن دراج"، وهو متهم بالوضع. انظر
كتاب الوصايا "4/ 152".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي أمامة وعمرو بن
خارجة -رضي الله عنهما "4/ 186، 187"، "5/ 267".
وأخرجه الإمام الشافعي عن مجاهد مرسلا، انظر كتاب الوقف
والوصايا، باب ما جاء في الوصية "2/ 221" من "بدائع
المنن".
ومن حديث عمرو بن خارجة، أخرجه البزار وأبو يعلى الموصلي،
والحارث بن أسامة في مسانيدهم، والطبراني في "معجمه"
مقلوبًا عن خارجة بن عمرو، والصواب: عمرو بن خارجة كما
نبَّه على ذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص"، ومن حديث ابن
عمر -رضي الله عنهما- أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده،
كما أخرجه ابن عدي من حديث جابر وزيد والبراء وعلي -رضي
الله عنهم.
راجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق : "نصب الراية"
"4/ 403- 405" و"تلخيص الحبير" "3/ 92"، و"المنتقى من
أحاديث الأحكام" "ص: 509"، و"تيسير الوصول" "3/ 168"،
و"ذخائر المواريث "3/ 64، 135"، و"فيض القدير شرح الجامع
الصغير" "2/ 244، 245"، و"كشف الخفاء" للعجلوني "2/ 514".
1 هذا إشارة للآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} "180 سورة
البقرة". والذي ذكره المؤلف في الناسخ أحد الأقوال، وهناك
أقوال أخرى في المسألة راجعها إن شئت في "تفسير الفخر
الرازي" "5/ 62، 63".
2 هذا إشارة إلى حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني،
قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة،
والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" رواه الجماعة إلا البخاري
والنسائي . انظر "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 639"،
وسيأتي تخريجه بالتفصيل "ص: 798".
(1/121)
المحصن1.
[و] في السنة: نحو قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور،
فزوروها2" .
__________
1 في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ
مِنْ نِسَائِكُمْ} الآيتان "15"، "16" من سورة النساء.
وما ذهب إليه المؤلف من أن حديث عبادة بن الصامت ناسخ
لآيتي النساء، هو أحد الأقوال، غير أن الظاهر أنه لا يوجد
نسخ في المسألة؛ لأن الحكم المنسوخ لابد أن يكون مؤبدًا في
أذهان المخاطبين عند تشريع الحكم، وهذا غير موجود في
الآية، إذ إن الآية تشعر بأن العقوبة التي نصت عليه عقوبة
مؤقتة، ستبدل بغيرها، {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا} .
على أن هناك آراء أخرى في المسألة بيَّنها الفخر الرازي في
"تفسيره" "9/ 219- 225".
2 هذا جزء من حديث رواه بريدة -رضي الله عنه- أخرجه عنه
مسلم في كتاب الجنائز، باب استئذان النبي -صلى الله عليه
وسلم- ربه عز وجل في زيارة قبر أمه "2/ 672". وفي كتاب
الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي
بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه."3/ 1564".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور
"2/ 195"، كما أخرجه عنه في كتاب الأشربة، باب في الأوعية
"2/ 298".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الجنائز، باب الرخصة في زيارة
القبور، وقال: حديث حسن صحيح، "3/ 361".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور
"4/ 73"، وأخرجه عنه في كتاب الأضاحي، باب الإذن في ذلك،
أي: الإذن في الأكل من لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وفي ادخاره
"7/ 207"، كما أخرجه عنه في كتاب الأشربة، باب الإذن في
شيء منها "8/ 278".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأشربة، باب ما رخص فيه من
ذلك، أي: من نبيذ الأوعية "2/ 1127"، وقد أخرجه مختصرًا
بلفظ: "كنت نهيتكم عن الأوعية، فانتبذوا فيه، واجتنبوا كل
مسكر" . كما أخرجه عن ابن مسعود -رضي =
(1/122)
"وكنت نهيتكم
عن ادخار لحوم الأضاحي، فكلوا وادخروا" 1.
__________
= الله عنه- في كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور
"1/ 501" بلفظ مثل اللفظ الذي ساقه القاضي أبو يعلى غير
أنه زاد فيه: "فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة" .
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" عن أبي سعيد الخدري -رضي
الله عنه- وفي آخره: "ولا تقولوا هجرًا" ، وذلك في كتاب
الضحايا، باب ادخار لحوم الضحايا "3/ 76، 77" مطبوع مع شرح
الزرقاني،
وأخرجه الإمام الشافعي عن أبي سعيد الخدري في كتاب
الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر وزيارة القبور "1/ 220"
"بدائع المنن".
وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن بريدة -رضي الله
عنه- بلفظ: رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زيارة
القبور. وذلك في كتاب الجنائز، باب كراهة نقل الميت بعد
دفنه وما جاء في زيارة القبور "1/ 170".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "2/ 137"،
و"ذخائر المواريث" "1/ 112"، و"كشف الخفاء" للعجلوني "2/
188، 198"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" "5/ 55، 56"
و"الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير" وضع
الشيخ النبهاني "2/ 334". و"المنتقى من أحاديث الأحكام"
"ص: 307، 308".
1 النهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم الرخصة في ذلك قد جاء
جزءًا من حديث بريدة السابق تخريجه، غير أنه قد جاء من
رواية غير بريدة. فقد أخرجه مسلم عن عائشة وجابر وأبي سعيد
الخدري -رضي الله عنهم- وذلك في كتاب الأضاحي، باب بيان ما
كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام
وبيان نسخه "3/ 1561، 1562".
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" من حديث أبي سعيد الخدري،
وقد مر الإشارة إلى ذلك في حديث بريدة.
وأخرجه ابن ماجه عن عائشة ونبيشة الباهلي -رضي الله عنهما-
في كتاب الأضاحي، باب ادخار لحوم الأضاحي "2/ 1055".
وأخرجه الدارمي عن عائشة ونبيشة الباهلي -رضي الله عنهما-
في كتاب الأضاحي، باب في لحوم الأضاحي "2/ 6". =
(1/123)
ويكون عنه
البيان بالإشارة أيضًا كقوله: "الشهر هكذا وهكذا [وهكذا]1
وأشار بأصابعه العشر" 2 فأفاد أنه ثلاثون يومًا ثم قال:
"الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وخنس الإبهام في الثالثة" 3
فأفاد أنه تسعة وعشرون يومًا.
__________
= وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن جابر بن عبد
الله وعائشة -رضي الله عنهما- في كتاب الهدايا والضحايا،
باب النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ونسخه "1/ 230،
231".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الهدايا والضحايا، باب
النهي عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، ونسخ ذلك عن جابر بن
عبد الله ونبيشة -رضي الله عنهما "2/ 88".
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الأضاحي عن أبي سعيد
الخدري "4/ 232".
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" في كتاب الصيد
والذبائح والأضاحي عن أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب
وعبد الله بن مسعود وبريدة وجابر ونبيشة وعائشة -رضي الله
عنهم "4/ 185، 186".
راجع في هذا الحديث علاوة على ما سبق ذكره: "نصب الراية"
"4/ 218"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 429، 430"،
"وتلخيص الحبير" "4/ 144"، و"الفتح الكبير" وضع الشيخ
النبهاني "2/ 334"، و"فيض القدير "5/ 55".
1 ساقطة من الأصل، والصواب إثباتها كما هو ظاهر.
2 في الأصل: "العشرة" بإثبات التاء، وهو خطأ؛ لأن مثل هذه
التاء تحذف في التأنيث وتثبت في التذكير.
3 هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أخرجه عنه
البخاري في كتاب الصيام، باب قول النبي -صلى الله عليه
وسلم- لا نكتب ولا نحسب "3/ 34". وأخرجه عنه مسلم في كتاب
الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية
الهلال "2/ 761". =
(1/124)
وقال تعالى
لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ
أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} 1، ثم قال: {فَخَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ
سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 2 يعني: أشار إليهم، فقامت
إشارته مقام القول في بلوغ المراد.
وحكى الله تعالى عن مريم {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} 3 فبينت
لهم مرادها بالإشارة.
ويكون منه البيان أيضًا بالدلالة والتنبيه على الحكم من
غير نص، نحو قوله لفاطمة بنت أبي حبيش4 في دم الاستحاضة:
"إنها دم عرق، وليس بالحيضة" 5. فدلَّ على وجوب اعتبار
خروج دم العرق في نقض الطهارة.
__________
= وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف
على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه "4/ 113".
وأخرجه أبو داود عنه في كتاب الصيام، باب الشهر يكون تسعًا
وعشرين "1/ 542".
وأخرجه أبو داود الطيالسي عنه في كتاب الصيام، باب ما جاء
في نقص الشهر ووقت نية الصوم "1/ 183".
1 "41" سورة آل عمران.
2 "11" سورة مريم.
3 "29" سورة مريم.
4 في الأصل: "فاطمة بنت أبي جحش"، وهو خطأ، والصواب ما
أثبتناه، ولعل الخطأ من الناسخ. وهي فاطمة بنت أبي حبيش بن
المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، القرشية، الأسدية،
صحابية جليلة، ثبتت صحبتها في الصحيحين وغيرهما.
لهما ترجمة في: "الاستيعاب" "4/ 1892"، و"الإصابة" "8/
161".
5 هذا الحديث رَوَتْهُ عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا،
أخرجه عنها البخاري في كتاب =
(1/125)
وقوله حين سئل
عن سمن ماتت فيه فأرة فقال: "إن كان جامدًا فألقوها وما
حولها وإن كان مائعًا فأريقوه" 1، فدل بتفريقه بين المائع
__________
= الوضوء، باب غسل الدم "1/ 64"، وفي كتاب الحيض، باب
الاستحاضة "1/ 80، 81"، وفي باب إقبال المحيض وإدباره "1/
83، 84".
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها
وصلاتها "1/ 262".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب من روى أن
الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة "1/ 65".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في
المستحاضة "1/ 217"، وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ما جاء في
المستحاضة "1/ 203، 204".
وأخرجه عنها النسائي في كتاب الطهارة باب ذكر الأقراء "1/
100، 101"، وباب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة "102،
103".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 6/ 304، 323".
وأخرجه الدارمي في كتاب الطهارة باب في غسل المستحاضة "1/
163".
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في باب في المستحاضة "1/
121".
وأخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب الحيض "1/ 214".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحيض والاستحاضة، باب في
المستحاضة تنبي على عادتها "1/ 39" "بدائع المنن".
وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب
الطهارة باب المستحاضة كيف تتطهر "1/ 102".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية" "1/ 199"،
و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "78". و"تلخيص الحبير" "1/
167".
1 هذا الحديث روته أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها-
أخرجه عنها البخاري في كتاب الوضوء، باب ما يقع من
النجاسات في السمن والماء "1/ 66"، وفي كتاب =
(1/126)
والجامد: على
أن سائر المائعات تنجس بمجاورة أجزاء النجاسة إياها. وغير
ذلك من الوجوه المستنبطة.
وقد يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- بيان الحكم
بالإقرار على فعل شاهده من فاعل يفعله على وجه من الوجوه،
فترك النكير عليه، فيكون ذلك بيانًا في جواز فعل ذلك الشيء
على الوجه الذي أقره عليه، أو وجوبه إن كان شاهده يفعله
على وجهه [و] لم ينكره، وذلك نحو علمنا أن عقود الشرك
والمضاربات والقروض، وما جرى مجرى ذلك، قد كانت في زمن
النبي -صلى الله عليه وسلم- وبحضرته مع علمه بوقوع ذلك
منهم واستفاضتها فيما بينهم، ولم ينكرها على فاعلها، فدل
على إباحة ذلك من إقراره؛ لأنه لا يجوز على النبي -صلى
الله عليه وسلم- أن يرى منكرًا فلا ينكره؛ إذ كان ذلك من
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله الحظ الأوفر في ذلك.
وليس لأحد أن يقول: إن ترك النكير لا يدل على الإباحة،
لأنه ترك النكير اكتفاء بما تقدم من النهي عنه من جهة النص
أو الدلالة، كما أقر اليهود والنصارى على الكفر، ولم يدل
ذلك على جوازه عنده، وذلك أن قتاله لهم حتى يعطوا الجزية
أشد نكيرًا، فجعل أخذ الجزية عقوبة لهم على إقرارهم على
الكفر.
__________
= الذبائح، باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب
"7/ 126".
وأخرجه أبو داود عنها في كتاب الأطعمة، باب الفأرة تقع في
السمن "2/ 327".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الأطعمة باب ما جاء في الفأرة
تموت في السمن "4/ 256" وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي عنها في كتاب الفرع، باب الفأرة تقع في
السمن "7/ 157". وأخرجه عنها الإمام مالك في "الموطأ" في
كتاب الجامع باب الفأرة تقع في السمن "4/ 378" مطبوع مع
شرح الزرقاني.
وأخرجه عنها الدارمي في "سننه" في كتاب الأطعمة باب الفأرة
تقع في السمن فتموت "2/ 35".
(1/127)
ولأنه لا يجوز
أن يقول أحد: إنه كان في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-
جائز أن يرى رجلًا يزني أو يقتل النفس، فلا ينكر عليه
اكتفاءً بنهي الله تعالى [8/ أ] عن ذلك؛ ولأن ترك ذلك يؤدي
إلى إسقاط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال
-صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم
يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 1.
وقد يقع بيان المجمل بالإجماع، نحو إجماعهم على أن دية
الخطأ على العاقلة، والذي في كتاب الله: {فَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 2، ولم يذكر وجوبها على
العاقلة3.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-
مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون النهي
عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص "1/ 69".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الخطبة يوم العيد
"1/ 260". كما أخرجه عنه في كتاب الفتن، باب الأمر والنهي
"2/ 437".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في تغيير
المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب "4/ 469" وقال: حديث
حسن صحيح.
وأخرجه النسائي في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان
"8/ 98".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام"
"ص: 265"، و"ذخائر المواريث" "3/ 180"، و"فيض القدير" "6/
130".
2 "92" سورة النساء.
3 هذه الآية ليست مجملة -كما ذهب إليه المؤلف- وإنما هي
عامة، تفيد هي وغيرها من النصوص أن الدية على القاتل،
جزاءً لما فعل، سواء كان القتل عمدًا أو خطأ، ولكن الخطأ
خص بالنص، حيث قد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى
بدية الخطأ على العاقلة كما في قصة حمل بن مالك، ثم وقع
الإجماع على ذلك، كما حكاه القرطبي في تفسيره، وإن كان أبو
بكر الأصم وجمهور الخوارج أوجبوا الدية على القاتل في كلا
الحالتين. راجع "تفسير القرطبي" "5/ 311- 328"، و"تفسير
الفخر الرازي" "10/ 115- 124".
(1/128)
وكإجماعهم على
أن للجدة مع الولد الذكر السدس إذا لم يكن أب، وأن للجدتين
إذا اجتمعتا السدس، وهو ما وقع به بيان قوله: {لِلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 1،
كما بين تعالى بعضه بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2
الآية. وكما بينت السنة بعضه فأعطى النبي -صلى الله عليه
وسلم- للجدة السدس3.
وقد4 يكون بيان الإجماع لحكم مبتدأ، كما يكون بيان حكم
الكتاب والسنة، نحو إجماع السلف على أن حد الخمر ثمانون
على ما بيناه في
__________
1 "7" سورة النساء.
وقد نص القرطبي في "تفسيره" "5/ 47"، والفخر الرازي في
"تفسيره" "9/ 186" على أن هذه الآية مجملة. يدل على ذلك ما
جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أرسل إلى سويد
وعرفجة أن لا يفرقا من مال أوس شيئًا، فإن الله جعل لبناته
نصيبًا، ولم يبين كم هو، حتى أنظر ما ينزل ربنا... الحديث.
2 "11" سورة النساء.
3 حديث توريث النبي -صلى الله عليه وسلم- الجدة السدس رواه
المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة -رضي الله عنهما- مرفوعًا.
أخرجه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة
"4/ 419، 420".
وأخرجه أبو داود في كتاب الفرائض، باب في الجدة "2/ 109".
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة "2/
909- 910".
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب المواريث، باب
ميراث الجدة "3/ 110- 112".
وأخرجه الدارمي في كتاب الفرائض، باب قول أبي بكر الصديق
في الجدات "2/ 259".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 82"،
و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 517" و"ذخائر المواريث"
"3/ 94".
4 في الأصل "أوقد"، والصواب: حذف الهمزة، كما أثبتناه.
(1/129)
غير هذا
الكتاب، وإجماعهم على تأجيل امرأة العنين.
وقد يكون بيان خصوص العموم بالإجماع، نحو قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 1، وأجمعت على أن العبد يجلد
خمسين.
والإجماع وإن لم يخل من أن يكون عن توقيف أو رأي، فإنه أصل
برأسه يجب اعتباره فيما يقع البيان به.
وقد يتعلق بهذا التفصيل: الكلام في جواز تأخير البيان،
وذكر الاختلاف فيه، ويأتي الكلام في ذلك2.
وذكر أبو بكر في مجموع فيه مسائل بخطه: البيان على خمسة
أوجه:
الأول: هو المؤكد، وهو أعلى ما يفهم به الخطاب وأشده
وضوحًا.
والثاني: القائم بنفسه، وإن كان التأكيد لم يقع به.
الثالث: الخطاب الذي يحتاج أن يقرر بدليل معه.
الرابع: هو ما انفرد النبي بإيجاب حكمه، أو يزيد بقوله دون
أن يكون له أصل في الكتاب.
الخامس: من علم الاستخراج من النصوص3.
__________
1 "2" سورة النور.
2 انظر: "ص: 724".
3 قد سبق الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- إلى هذا
التقسيم، وقد نبَّه على ذلك في "المسودة" "ص: 573"
وبمراجعة كتاب الرسالة للإمام الشافعي "ص: 15- 26" تجد ذلك
واضحًا.
(1/130)
فصل: [في
تعريف الدليل]: 1
الدليل هو: المرشد إلى المطلوب2.
وقيل: هو الموصل إلى المقصود.
ولا فرق بين أن يكون قديمًا أو محدثًا؛ لأن القرآن كلام
الله تعالى، وليس بمخلوق، وهو دليل على الأحكام، وقول رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- دليل على الأحكام، وهو مخلوق
محدث.
ولا فرق بين أن يكون موجودًا أو معدومًا؛ لأن عدم الشرع
يدل على براءة الذمة وانتفاء الوجوب، كما يدل وجود الشرع.
ولا فرق بين أن يكون معلومًا وبين أن يكون مظنونًا.
وحُكي عن بعض المتكلمين: أن الدليل اسم لما كان موجبًا
للعلم، فأما ما كان موجبًا للظن فهو أمارة.
وهذا غير صحيح2؛ لأن ذلك اسم لغوي، وأهل اللغة لا يفرقون
بينهما.
__________
1 راجع في هذا الفصل من كتب أصول الحنابلة: "التمهيد في
أصول الفقه" الورقة: "10/ أ"، و"الواضح في أصول الفقه"
الجزء الأول الورقة "8/ أ"، و"المسودة" "ص: 573، 574"،
و"شرح الكوكب المنير" "ص: 15، 16".
2 هذا التعريف إنما هو تعريف للدليل في اللغة.
أما تعريفه في الاصطلاح: فهو ما يمكن التوصل بصحيح النظر
فيه إلى مطلوب خبري. وهو شامل للدليل الظني والقطعي على
الصحيح، ويحصل المطلوب منه عقب النظر في العادة. وقيل حصول
ذلك ضرورة. راجع "شرح الكوكب المنير" "ص: 15، 16"، و"حاشية
البناني" "1/ 124- 133".
3 هذا خلاف ما ذهب إليه في كتابه "الكفاية" - كما نقل في
"المسودة" "ص: 574" حيث جاء فيها: "فالدلالة هي الكتاب
والسنة المقطوع بها، والإجماع المقطوع به. والأمارة: خبر
الواحد والقياس".
(1/131)
وأيضًا: فإنه
مرشد إلى المطلوب، فوجب أن يكون دليلا كالموجب للعلم.
وأيضًا: فإن اعتقاد موجبهما والعمل بهما واجب، فلا فرق
بينهما.
ولا فرق بين ما دل بنفسه مثل دلالة [8/ ب] الفعل على
الفاعل، والإحكام والإتقان على قصده إليه وعلمه به، وبين
ما دل بالمواضعة مثل: الفعل والقول الدَّالَّين على ما
وضعا له من المعاني.
والرجل الدال على الطريق يسمى دليلا، وهو مجاز؛ لأن شخصه
ليس بدليل، وإنما الدليل قوله أو فعله.
والاستدلال: طلب الدليل.
والمستدل هو: الطالب للدليل. فإذا طالب السائل المسئول
بالدليل فهو مستدل؛ لأن السائل يطلبه من المسئول، والمسئول
يطلبه من الأصول.
والمستدل عليه هو: الحكم.
والمستدل له يحتمل الحكم، ويحتمل الخصم المطالب بالدليل.
(1/132)
فصل: [تعريف
في الدلالة]:
وأما الدلالة1: فهي مصدر قولهم: دلَّ يدلُّ دلالة، ويسمى
__________
1 عرف أبو البقاء الفتوحي الدلالة بقوله: ما يلزم من فهم
شيء فهم شيء آخر. انظر: "شرح الكوكب المنير" "ص: 38".
(1/132)
الدليل دلالة
على طريق المجاز؛ لأنهم يسمون الفاعل باسم المصدر كقولهم:
رجل صائم وصَوْم، وزائر وزَوْر، قال الله تعالى:
{أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} 1، وأراد
به غائرًا2.
وأما الدال فقد قيل: هو الدليل، إلا أن فيه ضربًا من
المبالغة كقولهم: عالم وعليم، وقادر وقدير، وسامع وسميع.
ومنهم من قال: هو الناصب للدليل، وهو الله تعالى الذي نصب
أدلة العقل والشرع، وكل من نصب لغيره دليلا على شيء، فهو
دال بما نصبه من الدليل.
وأما الحجة والبراهين فذلك اسم للدليل، ولا فرق بين الدليل
من الحجة والبرهان.
وقيل: ذلك اسم لما دل على صحة الدعوى، ولهذا سمي بينة
المدعي حجته وبرهانه، وليس كل دليل حجة.
__________
1 "30" سورة الملك.
2 لم يذكر المؤلف أقسام الدلالة؛ ولإتمام الفائدة نقول
باختصار:
الدلالة تنقسم إلى قسمين: لفظية، وغير لفظية.
فأما غير اللفظية، فتنقسم إلى قسمين: وضعية، وعقلية.
وأما اللفظية، فتنقسم إلى ثلاثة أقسام: طبيعية، وعقلية،
ووضعية.
والوضعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مطابقة، وتضمن، والتزام.
وأما الدلالة باللفظ: فهي استعمال اللفظ، إما في موضوعه،
وإما في غير موضوعه لعلاقة. والأول يسمى حقيقة، والثاني
يسمى مجازًا. راجع "شرح الكوكب المنير" "ص: 38- 40"، و"شرح
الأسنوي لمنهاج الوصول" "1/ 178- 181".
(1/133)
وسمعت أخي أبا
حازم1 -رحمه الله- يقول: سمعت أبا نصر أحمد بن علي بن
عبدوس المعدل بالأهواز2 قال: سمعت سليمان بن أحمد بن أيوب
الطبراني3 يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل4 يقول:
__________
1 هكذا في الأصل: "أبو حازم" بالمهملة، وقد وضع الناسخ
علامة "ح" تحت حرف الحاء، ولكن الكنية في مصادر الترجمة
"أو خازم" بالخاء المعجمة.
وهو محمد بن الحسين بن خلف بن الفراء، أبو خازم، أخو
القاضي أبي يعلى، سمع الدارقطني وابن شاهين وغيرهما. كان
يميل إلى الاعتزال. محدث خلط في التحديث لما كان في مصر،
مات سنة: 430هـ.
له ترجمة في : "تاريخ بغداد" "2/ 252" و"لسان الميزان" "5/
141". و "المنتظم" "8/ 102"، و"ميزان الاعتدال" "3/ 524".
2 الجصاص الأهوازي. سمع الطبراني وأبا بكر بن خلاد
وغيرهما. حدث عنه محمد بن أبي الفوارس والخطيب البغدادي
وغيرهما. وثَّقه الخطيب البغدادي. مات بالأهواز سنة:
423هـ. له ترجمة في : تاريخ بغداد "4/ 323".
3 اللخمي، أبو القاسم، المحدث الحافظ. سمع الحديث وعمره
ثلاث عشرة سنة وسمعه بالشام والحجاز واليمن وبغداد وغيرها.
حدث عما يزيد عن ألف شيخ له كتاب: "المعجم الكبير"،
و"الأوسط"، و"الصغير" وغير ذلك. مات سنة: 360، وله من
العمر مائة سنة.
له ترجمة في: "البداية والنهاية" "11/ 270"، و"تذكرة
الحفاظ" "3/ 912"، و"شذرات الذهب" "3/ 30"، و"طبقات
الحفاظ" "ص: 372"، و"طبقات الحنابلة" "2/ 49"، و"طبقات
المفسرين" للداودي "1/ 198"، و"لسان الميزان" "3/ 73"،
و"المنتظم" "7/ 54"، و"ميزان الاعتدال" "2/ 195"، و"النجوم
الزاهرة" "4/ 59".
4 أبو عبد الرحمن البغدادي. روى عن أبيه وابن معين
وغيرهما. وعنه النسائي والطبراني وغيرهما. ثقة حافظ نقل عن
أبيه الحديث والفقه. ولد سنة: 213هـ. ومات سنة: 290هـ. له
ترجمة في: "تاريخ بغداد" "9/ 375"، و"تذكرة الحفاظ" "2/
565"، و"خلاصة تذهيب الكمال" "ص: 161"، و"شذرات الذهب" 2/
203"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 180".
(1/134)
سمعت أبي يقول:
قواعد الإسلام أربع: دال ودليل ومبين ومستدل. فالدال: الله
تعالى، والدليل: القرآن، والمبين: الرسول -صلى الله عليه
وسلم- قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ} 1. والمستدل: أولو الألباب وأولو العلم الذين
يجمع المسلمون على هدايتهم، ولا يقبل الاستدلال إلا ممن
كانت هذه صفته2.
__________
= له ترجمة في: "تاريخ بغداد" "9/ 375"، و"تذكرة الحفاظ"
"2/ 565"، و"خلاصة تذهيب الكمال" "ص: 161"، و"شذرات الذهب"
2/ 203"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 180".
1 "44" سورة النحل.
2 كلام الإمام أحمد هذا ذكره أبو البقاء الفتوحي في كتابه
"شرح الكوكب المنير" "ص: 16".
(1/135)
فصل: [في
تعريف الأمارة وأقسامها]:
وأما الأمارة فهي: الدليل المظنون، كخبر الواحد والقياس،
وليس بدليل مقطوع عليه. وهذه عبارة وضعها أهل النظر للفرق
بين ما يفضي إلى العلم وبين ما يؤدي إلى غلبة الظن.
والأمارات على ضربين:
أحدهما: ما له أصل يرجع إليه في الشريعة مثل: القياس ووجوه
الاستدلال التي نذكرها في الفقه.
والثاني: ما لا أصل له في الشريعة وهذا على وجوه.
منها: ما أمرنا فيه بالرجوع إلى العادة الجارية1 مثل تقويم
__________
1 العادة في اللغة: تطلق على تكرار الشيء مرة بعد أخرى.
انظر: اللسان "4/ 311"، = والقاموس "1/ 319"، ومعجم مقاييس
اللغة "4/ 181- 182".
وأما لدى الأصوليين فهي -كما عرفها ابن أمير الحاج- في
كتابه التقرير والتحبير "1/ 282" بقوله: "الأمر المتكرر من
غير علاقة عقلية".
ولمزيد من الفائدة راجع: العرف وأثره في الشريعة والقانون
-رسالتنا للماجستير- "ص: 21- 23".
(1/135)
المستهلكات
يعتبر به أمثاله مما تجري فيه المبتاعات، وكأروش الجنايات
التي ليس فيها أَرَش مقدر، يرجع في تقويمه إلى أقرب الشجاج
إليه، فصار ما يقرب إليه ويعتبر به كأصول الشريعة الموضوعة
في الشرع، وهذا أظهر في الشجاج؛ لأن ما يعتبر به من الشجاج
المقدورة أصول [9/ أ] في الشريعة، مثل أصول الحوادث.
وكذلك الاجتهاد في القبلة والاستدلال مما أجرى الله تعالى
به العادة كهب الرياح ومطالع النجوم.
ومن ذلك الفرق بين القليل والكثير مما قامت عليه الدلالة،
من ذلك: أن الجمعة لا تجب على من هو خارج المصر على بعد،
وتجب على من هو قريب منه، فجعلنا الحد الفاصل سماع النداء.
وكذلك الفاصل بين العمل القليل والكثير مما يفسد الصلاة من
المشيء وغيره، وما يرفع هيئة الصلاة.
وكذلك الحد الفاصل بين يسير النوم وكثيره ما يلقى معه عن
الجهة التي هو عليها1.
__________
1 صرح المؤلف -رحمه الله تعالى- بأن العادة أمارة لا أصل
لها في الشريعة، وفي رأيي أن الأمر ليس كذلك، بل العادة
لها أصل تعتمد عليه من السنة التقريرية، والإجماع العملي،
والمصلحة المرسلة، والأدلة المطلقة التي أحالت عليها. وقد
استوفينا الكلام في ذلك في رسالتنا العرف وأثره في الشريعة
والقانون "ص: 64- 82".
(1/136)
فصل: [تعريف
النص]:
فقيل فيه: ما رفع في بيانه إلى أقصى غايته و[منه] سميت
منصة العروس؛ لأن العروس ترتفع عليها على سائر النساء،
وتنكشف لهن بذلك. قال امرؤ القيس1:
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل2
ومعناه: إذا كشفته.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفع من عرفات، كان
يمشي عنقًا، فإذا وجد فجوة نصَّ3 ، يعني: رفع في السير.
__________
1 هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو الكندي. اختلف
في اسمه، فقيل: حندج، وقيل: مليكة، وقيل: عدي، والأول
أشهر. زعيم الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، الملك
الضلِّيل، ذو القروح، شاعر ماجن. ولد سنة: 497م تقريبًا،
وتوفي سنة: 545 م، تقريبًا أيضًا.
له ترجمة في: "الأعلام" للزركلي "1/ 352"، و"الأغاني" "9/
77"، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة "1/ 105- 136"، و"طبقات
الشعراء" للجمحي "ص: 43، 67، 80".
2 هذا البيت موجود في ديوان الشاعر "ص: 16" ضمن معلقته
المشهورة التي يقول في مطلعها:
قِفَا نبكِ من ذِكْرى حبيبِ ومنزلِ ... بسقطِ اللِّوى بين
الدَّخولِ فحَومَلِ
3 هذا الحديث رواه أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أخرجه عنه
البخاري في كتاب المناسك، باب السير إذا دفع من عرفة "2/
190".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى
المزدلفة "2/ 936". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك،
باب الدفعة من عرفة "1/ 447". =
(1/137)
وقيل: كل لفظ
لا يحتمل إلا معنى واحدًا.
وقيل: ما استوى ظاهره وباطنه.
وقيل: ما عري لفظه عن الشركة، وخلص معناه من الشبهة.
وقيل: ما تأويله يزيله. وهذا فاسد؛ لأن التأويل لا يستعمل
إلا في الاحتمال.
والصحيح أن يقال: النص ما كان صريحًا في حكم من الأحكام،
وإن كان اللفظ محتملا في غيره.
وليس من شرطه أن لا يحتمل إلا معنىً واحدًا؛ لأن هذا يعز
وجوده، إلا أن يكون نحو قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}
1، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} 2، وإنما حده ما ذكرنا.
__________
= وأخرجه عنه النسائي في كتاب المناسك، باب كيف السير من
عرفة "5/ 208".
وأخرجه الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب كيف السير في
الإفاضة من عرفة "1/ 385".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده": "5/ 310".
وأخرجه الإمام مالك في "موطئه" في كتاب المناسك، باب السير
في الدفعة "2/ 342"، مطبوع مع شرح الزرقاني.
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب وقت الدفع من
عرفة إلى مزدلفة "2/ 58".
وأخرجه أبو داود الطيالسي في كتاب الحج، باب الإفاضة من
عرفة إلى مزدلفة "1/ 221".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب في الدفع من عرفة
"2/ 1004".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "1/ 273، 274"،
و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 406"، و"ذخائر المواريث"
"1/ 13".
1 "64" سورة الأنفال.
2 "1" الإخلاص.
(1/138)
ومثل هذا في
الشرع أكثر من أن يحصى، فلهذا نقول: إن قوله تعالى:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} 1 إنه نص في قدر المدة، وإن كان
محتملا في غيره, وقوله عليه السلام: "في أربع وعشرين من
الإبل فما دون الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا
وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض" 2، وهذا نص في قدر
النصب وأسنان الفرض.
ونهيه عن المزابنة، إلا أنه رَخَّصَ في بيع العَرَايَا3،
في أن العرية بيع وليست بهبة، كما قال أصحاب أبي حنيفة.
__________
1 "226" سورة البقرة.
2 هذا جزء من حديث جاء في كتاب أبي بكر في الصدقات، وكتاب
النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم وقد مضى تخريجهما
"ص: 115".
3 هذا الحديث رواه سهل بن أبي حثمة -رضي الله عنه-
مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الثمر
على رءوس النخل بالذهب والفضة "3/ 94".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب
بالتمر إلا في العرايا "3/ 1170".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في بيع العرايا
"2/ 226".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب بيع العريا بالرطب
"7/ 236".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب منه، أي من باب ما
جاء في العرايا والرخصة في ذلك "3/ 587"، وقال: هذا حديث
حسن صحيح غريب من هذا الوجه".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب الرخصة في
العرايا "2/ 170".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب
البيوع، باب في العرايا "4/ 30".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "1/ 56"،
و"ذخائر المواريث" "1/ 256". و"المنتقى من أحاديث الأحكام"
"ص: 452"، و"نصب الراية" "4/ 13"، و"تلخيص الحبير" "3/
29".
(1/139)
في تعريف العام والظاهر
مدخل
...
فصل: [في تعريف العام والظاهر]: 1
والعموم: ما عم شيئين فصاعدًا 2.
والظاهر: ما احتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر.
والفرق بين العموم والظاهر: أن العموم ليس بعض ما تناوله
اللفظ
__________
1 راجع في هذا الفصل: "التمهيد" لأبي الخطاب الورقة
"50-55"، و"الواضح" لابن عقيل، الجزء الأول، الورقة "8"،
و"المسودة" "ص: 574"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 343" من
الملحق، و"روضة الناظر" "ص: 115".
2 عرَّفه أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد" "1/ 203"
بقوله: هو كلام مستغرق لجميع ما يصلح له. وقد تابعه أبو
الخطاب الحنبلي في ذلك. انظر التمهيد، الورقة "50/ أ".
واختاره الرازي وزاد عليه قوله: بحسب وضع واحد. وارتضاه
الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول" "ص: 112، 113" وزاد عليه
قوله: "دفعة".
أما الغزالي فقد عرّفه في كتابه "المستصفى" "2/ 32" بقوله:
"اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدًا".
وقد ذكر في "المسودة" "ص: 574" تعريف القاضي أبي يعلى،
وعزاه إليه وإلى أبي الطيب ثم قال بعد ذلك: "وهو مدخول من
وجوه"، ولم يذكر شيئًا من هذه الوجوه. وأول ما يلاحظ عليه
وعلى تعريف الغزالي: أنهما جعلا في التثنية عمومًا.
ولمزيد من الاطلاع راجع: "المنخول" "ص: 138"، و"الإحكام"
لابن حزم "1/ 39"، و"نهاية السول"، شرح "منهاج الأصول" "2/
312".
(1/140)
بأظهر من بعض
وتناوله للجميع تناول واحد، فيجب حمله على عمومه، إلا أن
يخصه دليل أقوى منه.
و[أما] الظاهر فإنه يحتمل معنيين، إلا أن أحدهما أظهر وأحق
باللفظ من الآخر، فيجب حمله على أظهرهما، ولا يجوز صرفه
عنه إلا بما هو أقوى منه. وكل عموم ظاهر، وليس كل ظاهر
عمومًا؛ لأن العموم يحتمل البعض، إلا أن الكل أظهر.
فالعموم مثل قوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1،
[9/ ب] ومثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً} 2 فكانا عامين في جميع ما تناولاه. ومثل ذلك
أكثر من أن يحصر.
والظاهر: مثل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ} 3، فإنه يحتمل الندب، إلا أن ظاهره
الوجوب؛ لأنه أمر وظاهر الأمر الوجوب، فسمي ظاهرًا لذلك4.
وكذلك كل لفظ محتمل لمعنيين أحدهما أظهر من الآخر من طريق
اللغة، أو من طريق الاستدلال. من ذلك ما روي عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أنه قال للمرتهن: "ذهب حقك" 5 فيحتمل أن
يكون المراد به الدين، ويحتمل
__________
1 "5" سورة التوبة.
2 "103" سورة التوبة.
3 "33" سورة النور.
4 هل الأمر للوجوب أو للندب؟ قولان: الأول للشافعي،
والثاني لمالك وأبي حنيفة، وحجة الشافعي: ظاهر الآية. وحجة
أبي حنيفة: السنة والقياس. انظر: "تفسير الفخر الرازي"
"23/ 219، 220".
5 هذا الحديث قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- للمرتهن لما
نفق فرس الرهن عنده. وهو حديث مرسل. أرسله عطاء، كما صرح
بذلك أبو داود في "مراسيله" "ص: 21". ونقل الزيلعي في "نصب
الراية "4/ 321" عن عبد الحق قوله: "إنه مرسل وضعيف" وقد
بَيَّن ابن القطان الضعف بأن فيه: مصعب بن ثابت بن عبد
الله بن الزبير، وهو ضعيف، كثير الغلط، وإن كان صدوقًا.
ومصعب هذا قال عنه الذهبي في كتابه "المغني" "2/ 660":
ضعفه ابن معين وأحمد وأبو حاتم.
(1/141)
حقه من
الوثيقة، إلا أن الظاهر حقه من الوثيقة؛ لأنه لم يسأل عن
مقدار قيمة الرهن، ومن يسقط الدين فإنما يسقطه بقدر قيمة
الرهن، فدل على أن مراده به حقه من الوثيقة.
وكذلك قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "هما علي يا
رسول الله، وأنا لهما ضامن"1؛ فيحتمل أن يكون إخبارًا عن
ضمان سابق، ويحتمل أن يكون ابتداء ضمان، ولكن الظاهر منه
ابتداء ضمان؛ لأن حمله على الإخبار يؤدي إلى خطأ النبي
-صلى الله عليه وسلم- فإنه ترك الصلاة على من كان قد خلف
ضامنًا، والضامن بمنزلة الوفاء.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أخرجه
عنه الدارقطني والبيهقي بأسانيد كلها -كما يقول الحافظ ابن
حجر- ضعيفة. انظر: "تلخيص الحبير" "3/ 47".
(1/142)
المجمل: 1
وأما المجمل2 فهو ما لا ينبئ عن المراد بنفسه، ويحتاج إلى
قرينة تفسره.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "التمهيد" لأبي الخطاب، الورقة "76/
ب" وما بعدها، و"روضة الناظر" "ص: 93"، و"شرح الكوكب
المنير" "ص: 219"، و"أصول الجصاص" مبحث المجمل، الورقة
"19- 32"، ومبحث حكم المجمل
من "274- 284" الجزء الأول، مخطوطة الأزهر.
2 المجمل لغة: المجموع، من أجملت الحساب، إذا جمعته. أو
المحصل: من أجملت الشيء إذا حصلته. أو المبهم: من أجمل
الأمر إذا أبهم. والأخير أشهر. راجع: "التمهيد" الورقة
"76/ ب" و"إرشاد الفحول" "ص: 167"، و"شرح الكوكب المنير"
"ص: 219".
(1/142)
أولا يعرف
معناه من لفظه، وهو أصح، وذلك مثل قوله تعالى: {وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1 فإنه مجمل في جنس الحق وفي
قدره، ويحتاج إلى دليل يفسره ويبين معناه.
فأما قوله تعالى: {أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ وَآَتُوا
الزَّكَاةَ} 2 فإن ذلك مجمل3؛ لأن الصلاة في اللغة: دعاء،
فكا[ن] كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ
الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} 4. وفي الشريعة هي
: التكبير والقيام والقراءة والركوع والسجود والتشهد
والسلام، ولا يقع على شيء من ذلك اسم الصلاة.
فإذا كان اللفظ لا يدل على المراد به ولا ينبئ عنه وجب أن
يكون مجملا.
وكذلك الزكاة في اللغة: النَّمَاء والزيادة، من قولهم: زكا
الزرع إذا زاد ونما. والمراد في الشريعة بالزكاة غير ذلك،
واللفظ لا يدل عليه ولا ينبئ عنه.
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- ذكره في كتاب طاعة الرسول
-صلى الله عليه وسلم-
__________
1 "141" سورة الأنعام.
2 "43" سورة البقرة.
3 قال في المسودة "ص: 177": "هذا ظاهر كلام أحمد، بل نصه،
ذكره ابن عقيل والقاضي أيضًا في أول العدة".
4 الآية "35" من سورة الأنفال.
والمكاء هو: الصفير، والتصدية هي: التصفيق. راجع: "تفسير
الفخر الرازي" "15/ 159".
(1/143)
{أَقِيمُوا
الْصَّلاَةَ} 1، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدال
على إقامتها: إن الفجر ركعتان يجهر فيهما بالقراءة ،
والظهر أربع، والعصر أربع، لا يجهر فيهما، والمغرب ثلاث
يجهر بالقراءة فيها.
وقوله: {وَآَتُوا الْزَّكَاةَ} 2 هل فسر ذلك إلا رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ثم أصحابه من بعده؟
ومن أصحاب الشافعي من قال: ليست بمجمل وإن الصلاة في
اللغة: دعاء، فكل دعاء يجوز، إلا أن يخصه الدليل. وكذلك
يجب إخراج الزيادة من الزكاة، إلا ما خصه الدليل.
وأما قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى الْنَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ} 3، فهو مجمل أيضًا، ولا يدل على أن الحج الشرعي
كما ذكرنا في الصلاة والزكاة.
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- أيضًا في كتاب "طاعة
الرسول" فقال: قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى الْنَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاَ} [10/ أ]
فقالوا: السبيلُ الزادُ والراحلة4، وحج رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ووقَّت المواقيت للإحرام. فيما تقول
للمدعي للظاهر من أين تأخذ هذا؟!
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 "43" سورة البقرة.
3 "97" سورة آل عمران.
4 تخصيص السبيل بالزاد والراحلة، فيه نظر؛ لأن هناك أشياء
لا بد من توفرها، حتى يستطيع الإنسان الحج، كالصحة في
البدن، وكون الطريق مأمونة، راجع: "تفسير الفخر الرازي"
"8/ 162، 163"، و"تفسير القرطبي" "4/ 147- 149".
(1/144)
ومن أصحاب
الشافعي من قال: الحج هو التردد في القصد، فهو على عمومه
إلا ما خصه الدليل.
وأما قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ} 1، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمْهَاتُكُمْ} 2
فهذا أيضًا من المجمل3؛ لأن تحريم الأعيان لا يصح، وإنما
يحرم أفعالنا في العين، وليس لأفعالنا ذكر في اللفظ،
والمذكور فيه متروك بالإجماع، فوجب التوقف فيه، وطلب دليل
يدل على المراد.
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- أيضًا في كتاب "طاعة
الرسول" فقال: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 4، وقال:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ
دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} 5، فلما نهى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل
ذي مخلب من الطير"6، دلت أحكام رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- على أن الآية ليست على
__________
1 "3" سورة المائدة.
2 "23" سورة النساء.
3 هذه الآية ومثيلاتها قد حكم المؤلف "ص: 106" بأنها
مبينة، ثم حكم هنا، أنها مجملة. ولم يتفطن أحد إلى سبب هذا
التناقض. والذي أعتقده أن القاضي أبا يعلى نقل في الأول
كلام الجصاص -رحمه الله- في أصوله بنصه، وكان فيه: أن هذه
الألفاظ مبينة. ولما جاء إلى هنا، وكان مستقلا في رأيه حكم
بأنها مجملة. وسنتعرض لذلك عند دراستنا للمخطوطة إن شاء
الله تعالى.
4 "3" سورة المائدة.
5 "145" سورة الأنعام.
6 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا،
أخرجه عنه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم كل ذي
ناب من السباع، وكل ذي مخلب من =
(1/145)
................................
__________
= الطير "3/ 1533- 1535".
وأخرجه عنه أبو دواد في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل
السباع "2/ 319". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيد، باب
أكل كل ذي ناب من السباع "1/ 1077".
وأخرجه النسائي في كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة أكل
لحوم الدجاج "7/ 182".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الأضاحي، باب ما لا يؤكل من
السباع "2/ 12".
وأخرجه عنه أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الأطعمة،
باب النهي عن أكل كل ذي ناب من السبع وكل ذي مخلب من الطير
"1/ 327".
وأخرجه الدارقطني في "سننه" عن خالد بن الوليد -رضي الله
عنه- مرفوعًا بلفظ: نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل،
والبغال، والحمر، وكل ذي ناب من السبع أو مخلب من الطير"
"4/ 287",
وأخرجه الترمذي عن جابر -رضي الله عنه- في كتاب الأطعمة،
باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب "4/ 73".
كما أخرجه عنه أبو داود في الكتاب والباب المذكورين سابقًا
"2/ 320".
أما النهي عن الجزء الأول من الحديث، وهو قوله: نهى عن أكل
كل ذي ناب من السباع. فقد أخرجه البخاري عن أبي ثعلبة
الخشني في كتاب الطب، باب ألبان الأتن "7/ 181".
وأخرجه مسلم عن أبي ثعلبة في الكتاب والباب المذكورين
سابقًا، كما أخرجه عن أبي هريرة بلفظ: "كل ذي ناب من
السباع فأكله حرام" .
كما أخرجه الترمذي عن أبي ثعلبة وأبي هريرة في الموضع
المذكور سابقًا، وعن أبي ثعلبة أيضًا في كتاب السير، باب
ما جاء في الانتفاع بآنية المشركين "4/ 129".
وأخرجه ابن ماجه عن أبي ثعلبة وأبي هريرة في الموضع السابق
.
وأخرجه الدارمي عن أبي ثعلبة الخشني في الموضع السابق
أيضًا.
وأخرجه النسائي عن أبي ثعلبة وأبي هريرة في الكتاب المذكور
سابقًا، باب تحريم أكل السباع "7/ 177". =
(1/146)
ظاهرها، وأنه
هو المعبر عما في كتاب الله تعالى، ومن لزم ظاهر الآية
لزمه أن يبيح لحم الكلاب والهرر والفيل والفأر والقرد وغير
ذلك مما نهى عنه1.
وقال تعالى في سورة النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
أُمْهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ} 2 كما يقول في البنت من الرضاعة، وبنت الأخ
والعمة والخالة من الرضاعة، ولم يذكروا، أليس يرجع إلى قول
النبي -صلى الله عليه وسلم؟! وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ
لَكُمْ مَا وَرَاءَ
__________
= وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الصيد، باب
تحريم كل ذي ناب من السباع، عن أبي ثعلبة وأبي هريرة -رضي
الله عنهما "3/ 90، 91".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل
كل ذي ناب من السباع، عن أبي ثعلبة وأبي هريرة "2/ 429".
وأخرجه الطيالسي عن أبي ثعلبة في الموضع السابق.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "2/ 357- 358"،
و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 755"، و"تلخيص الحبير"
"4/ 151- 152".
1 للعلماء في التوفيق بين الآية والحديث أقوال:
الأول: أن الآية منسوخة بهذا الحديث؛ لأنها مكية، والحديث
قاله الرسول -عليه الصلاة والسلام- في المدينة.
الثاني: أن الآية محكمة، ولا حرام إلا ما فيها.
الثالث: أن الآية محكمة، وما حرمته فهو حرام، بالإضافة إلى
تحريم ما حرمته الأحاديث، وعليه جمهرة العلماء، وهو مدلول
كلام أحمد هنا.
الرابع: أن هناك سؤالا خاصًّا، جاءت الآية جوابًا عنه،
فكانت خاصة. راجع: "الجامع لأحكام القرآن" "7/ 115- 119"،
و"التفسير الكبير" للفخر الرازي "14/ 218- 223".
2 "24" سورة النساء.
(1/147)
ذَلِكُمْ} أليس
الظاهر يدل على أن ما وراء ما حرم مباح؟ فكيف يقول في
تزويج المرأة على عمتها أو خالتها؟ أليس يرجع في هذا إلى
قول النبي -صلى الله عليه وسلم؟!1.
ومن أصحاب الشافعي من قال: المراد به أفعالنا في الأمهات
والميتة، والعرب تحذف بعض الكلام إذا كان فيما أبقت دليل
على ما ألقت.
وأما قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} 2 فهذا أيضًا من
المجمل3؛ لأن الله تعالى حكى عنهم -وهم أهل اللسان- أنهم
قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ، وإذا كان
__________
1 قلت: وكلام الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- لا يدل على أن
الآيات المذكورة مجملة، بل يدل على أنها كانت عامة، يعمل
بها، حتى جاءت النصوص الأخرى، فزادت عليها أحكامًا أخرى.
ويدل لما ذهبت إليه أمور:
أولا: قوله: فلما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن
كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، دلت أحكام
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن الآية ليست على
ظاهرها، والظاهر غير المجمل؛ لأن الظاهر يجب العمل به
بخلاف المجمل.
ثانيًا: قوله: "ومن لزم ظاهر الآية لزمه أن يبيح لحم
الكلاب"، يفيد أن النصوص المذكورة دالة على أحكامها ملزمة
بها، والمجمل لا يدل دلالة معينة، ولا إلزام بما جاء به.
ثالثًا: قوله: "وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أليس الظاهر يدل على أن ما وراء ما حرم
مباح؟"، ولو كانت مجملة لما دلت على شيء ، ولما أطلق عليها
اسم: الظاهر.
2 "275" سورة البقرة.
3 ذكر المؤلف "ص: 110" أن هذه الآية مبينة، وقد سبق قريبًا
ذكر السبب في ذلك.
(1/148)
كذلك افتقر إلى
قرينة تفسره، وتميز بينه وبين الربا.
ومن أصحاب الشافعي من قال: البيع هو الإيجاب والقبول
عندهم، فهو على عمومه إلا ما خصه الدليل.
وأما قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1، فليس من المجمل2، وإنما هو
من العموم، ويجوز الاحتجاج به.
وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في كتاب "طاعة الرسول"
فقال: قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} ، فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم
سارق، وإن قل، فقد وجب عليه القطع، أيستعمل
__________
1 "38" سورة المائدة.
2 هذه الآية احتدم الخلاف فيها بين العلماء، هل هي مجملة،
أو مبينة؟ فذهب الجمهور إلى: أنها عامة مبينة، وقد دخلها
التخصيص، وهو رأي الشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض
الحنفية.
وذهب بعض الحنفية -ومن بينهم أبو الحسن الكرخي- إلى أنها
مجملة.
والإجمال عند القائلين به في قدر المسروق الذي يجب فيه
القطع، وفي القطع، حيث يطلق على الإبانة، وعلى الجرح، وعلى
الموضع الذي يقع عليه لفظ اليد، حيث تطلق عليها من المنكب
إلى أطراف الأصابع، كما تطلق على بعضها، وعلى المخاطب
بتنفيذ القطع، هل هو شخص معين أو الأمة، أو الإمام؟
وقد أجاب القائلون بالعموم بما محصله: أن الآية عامة في كل
ما ذكر، ولكن الأحاديث القولية والفعلية خصصت العموم
ولولاها لعمل بالآية على عمومها، راجع في هذا: "التفسير
الكبير" للفخر الرازي "11/ 224، 225"، و"الجامع لأحكام
القرآن" "6/ 159- 176"، و"تيسير التحرير" "1/ 170، 171"،
و"إرشاد الفحول" "ص: 170"، و"مناهج العقول" و"نهاية السول"
كلاهما شرح "لمنهاج الأصول" "2/ 146- 148"، و"المسودة" "ص:
101، 102"، و"أصول الجصاص" الجزء الأول، الورقة "22، 23"
مخطوطة الأزهر.
(1/149)
الظاهر، أو
يستعمل ما سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم: القطع في
ربع دينار1. وفي المجمل دل على [10/ ب] أنه ليس على ظاهرها
وأنها على بعض السراق.
__________
1 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-
مرفوعًا، أخرجه عنها البخاري في كتاب الحدود، باب قول الله
تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} "8/ 199، 200".
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها
"3/ 1312، 1313".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الحدود، باب فيما يقطع فيه
السارق "2/ 448".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في كم
تقطع يد السارق "4/ 50" وقال فيه: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنها النسائي في كتاب السرقة، باب القَدْرِ الذي
إذا سرقه السارق قطعت يده "8/ 70".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الحدود باب حد السارق "2/
862".
وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الحدود، باب ما يقطع فيه اليد
"2/ 94".
وأخرجه عنها الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الحدود، باب
ما يجب فيه القطع "4/ 155".
وأخرجه عنها الدارقطني في كتاب الحدود "3/ 189".
وأخرجه عنها أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الحدود،
باب حد السارق وفي كم تقطع يده؟ "1/ 301".
وأخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده" "6/ 36، 80، 81، 104".
وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب
الحدود، باب المقدار الذي يقطع فيه السارق "3/ 164".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "4/ 64"،
و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 650".
(1/150)
وحكي عن عيسى
بن أبان1 أنها من المجمل2، وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة3؛
لأن المراد به سارق مخصوص لقدر مخصوص من حرز مخصوص واللفظ
لا يدل عليه.
وهذا غير صحيح ؛ لأن السارق معلوم في اللغة، وهو من أخذ
الشيء مستترًا مستخفيًا به، فيجب حمله على عمومه إلا ما
خصه الدليل، كقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4.
__________
1 هو عيسى بن أبان صدقة، أبو موسى، أحد فقهاء الحنفية
المشهورين، وَلِيَ قضاءَ البصرة عشرين سنة، مع العفة
والنزاهة. له كتب منها: "الجامع في الفقه" و"اجتهاد
الرأي". مات بالبصرة سنة: 221هـ.
له ترجمة في "الأعلام" "5/ 283"، و"تاريخ بغداد" "11/
175".
2 قال الجصاص في أصوله الجزء الأول، الورقة "18" ما نصه:
"وقد ذكر أبو موسى عيسى بن أبان العام في مواضع، فسماه
مجملا، وهذا كلام في العبارة ولا يقع في مثله مضايقة".
3 هذا العزو غير محرر، وتحريره أنه لبعض أصحاب أبي حنيفة،
انظر المراجع التي ذكرناها قريبًا عند تعليقنا على آية
السرقة "ص: 149".
4 "5" سورة التوبة.
(1/151)
[تعريف
المفسر]:
فأما المفسر: فما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعرف معناه من
لفظه ولا يفتقر إلى قرينة تفسره، وهذه صفة النص، وقد
ذكرناه 1.
__________
1 سبق ذكره "ص: 137".
(1/151)
وحد ذلك: ما
بقي حكمه، أو تأبد حكمه.
وقد يعبر به عن المفسر، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 1، وأراد
بالمحكمات المفسرة المستغنية في معرفة معانيها عما يفسرها.
وحد ذلك ما ذكرته، وهو ما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعقل
معناه من لفظه.
__________
1 "7" سورة آل عمران.
(1/152)
[تعريف
المتشابه]:
وأما المتشابه فهو: المشتبه المحتمل الذي يحتاج في معرفة
معناه إلى تأمل وتفكر وتدبر وقرائن تُبَيِّنُه وتزيل
إشكاله. ونعيد ذكره في موضع آخر ونحكي الخلاف فيه1.
__________
1 وذلك "ص: 684- 693".
(1/152)
[تعريف
مفهوم الخطاب]: 1
وأما مفهوم الخطاب فهو التنبيه بالمنطوق به على حكم
المسكوت عنه، مثل حذف المضاف كقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ} 2، ومعناه:
__________
1 راجع هذا الفصل في كتاب "المسودة" "ص: 350" فإنه نقل
أكثر كلام القاضي هنا، كما تراجع "شرح الكوكب المنير" "ص:
238" وما بعدها.
2 "197" سورة البقرة.
(1/152)
أفعال الحج في
أشهر1. وقوله: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ} 2، فتقديره: في إحرام الحج3. وقوله: {فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ} 4، ومعناه: فحلق ففدية5، وكقوله تعالى: {فَلاَ
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 6، فنبه بذلك على تحريم الضرب
والشتم؛ لأنه إنما منع من التأفيف لما فيه من الأذى، وذلك
في الضرب أعظم، وجب أن يكون بالمنع أولى، ويسمى هذا القسم:
فحوى الخطاب.
وقال بعض أهل اللغة: اشتق ذلك من تسميتهم الأبزار فحافحًا،
ويقال: "فح قدرك يا هذا"، فسمي فحوى؛ لأنه يظهر معنى اللفظ
كما تظهر الأبزار طعم الطبيخ ورائحته.
ويسمى أيضًا لحن القول؛ لأن لحن القول ما فهم منه بضرب من
الفطنة. يقال: لحنت فلانًا إذا كلمته بكلام يعلمه ولا
يعلمه غيره. ورجلان تلاحنا، إذا فعلا مثل ذلك. ومنه قوله
تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} 7.وقال
الشاعر:
__________
1 وهناك تقديران آخران هما:
أولا: الحج حج أشهر معلومات.
ثانيًا: أشهر الحج أشهر معلومات.
على أنه يمكن أن تفهم الآية من غير تقدير، وذلك بجعل
الأشهر نفس الحج؛ لأن الحج يقع فيها. راجع" التفسير
الكبير" للفخر الرازي "5/ 160".
2 "196" سورة البقرة.
3 وقدَّرَهُ الفخر الرازي بقوله: فعليه ثلاثة أيام وقت
اشتغاله بالحج "5/ 155" من تفسيره.
4 "196" سورة البقرة.
5 قدَّر ذلك الفخر الرازي في تفسيره "5/ 151" بقوله: "فحلق
فعليه فدية".
6 "23" سورة الإسراء.
7 "30" سورة محمد.
(1/153)
منطقٌ صائبٌ
وتلحَنُ أحيَا ... نًا وخيرُ الحديثِ ما كان لحنًا1
وقيل: لحن القول ما دل عليه، وحذف استغناء عنه بدليل
الكلام عليه نحو قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى
لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ} 2. فدل على أنه ضرب، فانفجرت. ونحو قوله:
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 3، ولم يذكر
أنهما ذهبا، اكتفاء بما حكاه من جواب فرعون لهما حتى4 قال:
{فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 5. [11/ أ]
وأشباه ذلك.
__________
1 هذا البيت قاله الشاعر مالك بن أسماء في جارية له ضمن
ثلاثة أبيات هي:
أمغطي مني على بصري للـ ... ـحب أم أنت أكمل الناس حسنا
وحديث ألذه هو مما ... يشتهي الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا ... نًا وأحلى الحديث ما كان لحنا
ويلاحظ أنه أتى بكلمة: أحلى، بدل كلمة: خير، التي أتى بها
المصنف.
راجع: "عيون الأخبار" لابن قتيبة، المجلد الثاني، ص: 161،
162"، و"معجم الشعراء" للمرزباني "ص: 266"، و"البيان
والتبيين" للجاحظ "1/ 147" وروايته للبيت المستشهد به
كرواية ابن قتيبة، وقد رواه الجاحظ أيضًا في كتابه المذكور
"1/ 228" وروايته للبيت مثل رواية المؤلف.
2 "60" سورة البقرة.
3 "43" سورة طه.
4 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "حين".
5 الآيتان "49، 50" سورة طه.
(1/154)
[تعريف
دليل الخطاب]:
وأما دليله فهو دليل الخطاب، وذلك إذا علق بصفة فيدل على
أن الحكم فيما عدا الصفة بخلافه.
(1/154)
وكذلك إذا علق
بعدد، وهذا فصل فيه خلاف، وكلام كثير، يأتي الكلام عليه في
موضع آخر1.
__________
1 وذلك "ص: 448" وما بعدها.
(1/155)
في تعريف التخصيص
مدخل
...
فصل: [في تعريف التخصيص]:
وأما التخصيص فهو تمييز بعض الجملة بحكم1.
وقيل: إخراج بعض ما تناوله العموم2.
وقيل: بيان المراد باللفظ العام.
وهذا حد تخصيص العموم، وليس بحد تخصيص مطلق؛ لأنه لا فرق
بين أن يكون داخلا في حكم عموم مخالف له وبين أن يكون
داخلا فيه؛ لأنا نقول خص الأحرار بأحكام، وخص الرجال
بأحكام وخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأحكام وخُصَّ
ذو القربى بأحكام، وخص الوالد بالرجوع في الهبة، وخص
المستطيع بإيجاب الحج، وخص العلماء بكذا، وخص بلد كذا
بكذا، وخص السلطان فلانًا بإلاكرام والعطاء.
__________
1 هذا التعريف ذكره الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول"ص:
142"، ونسبه لابن السمعاني. وقد ذكره الشيرازي في كتابه
"اللُّمع" "ص: 17"، ولم ينسبه لأحد.
2 هذا التعريف لأبي الحسين البصري كما في كتابه "المعتمد
في أصول الفقه" "1/ 251" غير أن فيه كلمة: الخطاب، بدل
كلمة: العموم.
(1/155)
[تعريف
النسخ]: 1
وأما النسخ فحده: بيان انقضاء مدة العبادة التي ظاهرها
الإطلاق.
__________
1 سيأتي الكلام عن النسخ في بحث مستقل مستفيض "ص: 768-
838".
(1/155)
وإن شئت قلت:
بيان ما لم يرد باللفظ العام في الأزمان.
وقد قيل: التخصيص تقليل، والنسخ تبديل. وهذا غير صحيح؛ لأن
الردة تبديل، وتغيير العهد والوصية تبديل وليس بنسخ، قال
الله سبحانه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ
فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} 1،
وقال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} 2.
وفيما ذكرنا من الحد احتراز من الحكم المعلق على زمان
مخصوص، وأن انقضاءه ليس بنسخ له؛ لأن الحكم لم يكن مطلقًا،
وذلك مثل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ} 3، وليس انقضاء الليل نسخًا للحكم
المأذون فيه، ولا انقضاء النهار نسخًا للصوم المأمور به
فيه.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ
مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ 4
أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي
الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
__________
1 "181" سورة البقرة.
2 "23" الأحزاب.
3 "187" سورة البقرة.
4 كلمة: "عليهن" ساقطة من الأصل.
(1/156)
سَبِيلاً} 1
ليس بمطلق، وقد قلتم إنه منسوخ بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ} 2 قيل: هذه الغاية مشروطة في كل حكم مطلق؛ لأن
غاية كل حكم إلى موت المكلف أو إلى النسخ.
__________
1 "15" سورة النساء.
2 "2" سورة النور.
(1/157)
تعريف الأمر
مدخل
...
فصل: [تعريف الأمر]: 1
الأمر اقتضاء الفعل أو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه.
وإنما قلنا: "بالقول"؛ لأن الرموز والإشارات ليست بأمر
حقيقة، وإنما سمي أمرًا على طريق المجاز.
وقولنا: "ممن هو دونه"؛ لأن قول العبد لربه: اغفر لي،
وتجاوز عني، وكفر سيئاتي، فإنه2 ليس بأمر، وإنما هو سؤال
[11/ ب] وطلب. وكذلك قول المملوك لمالكه: أطعمني، واكسني،
سؤال وطلب، وليس بأمر ؛ولهذا لايجوز أن يقال: إن المالك
مأمور، وإنه مطيع بفعله. فإن قيل: قد يأمر بالكلام وتبليغ
الرسالة، وهذا أمر، وليس بأمر بالفعل.
قيل: الكلام فعل، وتسميته قولا وكلامًا ونطقًا، لا يمنع من
أن يكون فعلا؛ لأن الكتابة والإشارة والأكل والشرب والقيام
والقعود فعل، وإن اختص كل واحد منهما باسم، فإذا كان كذلك،
كان الحد حاصرًا لجنس الأمر.
__________
1 سيأتي بحث الأمر باستفاضة وتفصيل "ص: 214- 424".
2 كلمة: "فإنه" قلقة، فكان الأولى حذفها.
(1/157)
وحكي عن أبي
بكر بن فورك أنه قال: الأمر ما يكون المأمور بامتثاله
مطيعًا.
والأول أصح؛ لأن عبارة الحد يجب أن تكون أظهر من عبارة
المحدود؛ لتنفيذ بيانه وتفسيره، فأما إذا كانتا في الإجمال
سواء، لم تصح عبارة الحد.
(1/158)
[المندوب
مأمور به]: 1
وإذا ثبت هذا فإن مذهب أحمد -رحمه الله- أن المندوب إليه
مأمور به.
وقد نص على ذلك في رواية ابن إبراهيم2 فقال: "آمين" أمر من
النبي -صلى الله عليه وسلم-3. وعلى هذا لا يحتاج إلى
الزيادة فيما ذكرنا من حد الأمر.
ومنهم من قال: المندوب ليس بمأمور به.
فعلى هذا يجب أن يقال في حد الأمر: اقتضاء الفعل، أو
استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على وجه لا يتضمن
التخيير بين فعله وتركه وهذا فصل يأتي الكلام فيه4.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" "ص: 6- 8"، و"روضة الناظر"
"ص: 20، 21".
2 "ابن إبراهيم" لم نستطع تعيين المراد بابن إبراهيم؛ لأن
هناك كثيرين ممن صحبوا الإمام أحمد، ممن أبوهم إبراهيم.
3 ستأتي هذه الرواية "ص: 248"، ولفظها: "آمين أمر من النبي
صلى الله عليه وسلم، "فإذا أمن القارئ فأمنوا"، فهو أمر من
النبي صلى الله عليه وسلم". وهناك سيخرج الحديث.
4 وذلك "ص: 248".
(1/158)
[تعريف
النهي]: 1
والنهي: اقتضاء أو استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه.
وقيل: المنع من طريق القول. وإنما قيل: من طريق القول؛ لأن
من قيَّد عبده، أو أغلق عليه بابه، فقد منعه، وليس ذلك
بنهي.
__________
1 سيأتي الكلام عن النهي "ص: 425- 447".
(1/159)
تعريف الواجب
مدخل
...
فصل: [تعريف الواجب]:
والواجب: ما في فعله ثواب، وفي تركه عقاب. ولا يحتاج إلى
ذكر الثواب؛ لأن الندب فيه ثواب. وإنما يبين الواجب عن
المستحب والمباح، بما في تركه عقاب.
وقيل الواجب: ما لا يجوز تركه من غير عزم على فعله، وهذا
حده الذي يميزه عما ليس بواجب؛ لأن المستحب يجوز تركه من
غير عزم على فعله، وكذلك المباح. وأما ما كان واجبًا فإنه
لا يجوز تركه إذا كان وقته مضيقًا، وإن كان وقته موسعًا لم
يجز تركه إلا بشرط العزم على فعله في آخر الوقت.
وقيل الواجب: ما لا يجوز تركه إلى غير بدل، فإن كل واجب لا
يجوز تركه إلى غير بدل، وتأخيره عن أول الوقت إلى آخره
فإنما يجوز بشرط العزم على فعله في الثاني، والعزم بدل من
تقديمه في أول الوقت.
وحكي عن أبي بكر بن فورك أنه قال: الواجب ما لا بدَّ من
فعله.
وقال كثير من الفقهاء: ما لا يجوز إخراجه عن وقته من غير
عذر، أو ما يعصى بإخراجه عن وقته من غير عذر.
(1/159)
وفيه احتراز من
ترك المسافر صوم رمضان، فإنه يتركه لعذر.
فإن قيل: هذا ليس بخاص لجنس الواجب، وإنما هو تحديد للمؤقت
منه.
قيل: كل واجب مؤقت؛ لأنه لا يخلو: إما [12/ أ] أن يكون
مؤقتًا بوقت معلوم الطرفين مثل الصلاة والصيام، أو يكون
على الفور، مثل الزكاة والحج والعمرة، فيكون وقته زمان
الإمكان.
والوجوب في اللغة، عبارة عن السقوط، من قولهم: وجبت الشمس،
ووجب القمر، ووجب الحائط إذا سقط.
وقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 1 أي سقطت.
فسمى ما لا بد من فعله واجبًا؛ لأن تكليفه سقط عليه سقوطًا
لا ينفك منه إلا بفعله2.
__________
1 "36" سورة الحج.
2 هناك تعريفات للواجب راجع فيها: "شرح الكوكب المنير" "ص:
108، 109". و"المسودة" "ص: 575، 576"، و"روضة الناظر" "ص:
16"، و"الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "27/ ب-
28/ أ".
(1/160)
[تعريف
الفرض]: 1
وأما الفرض: فهو عبارة عن أشياء:
فهو في عبارة اللفظ: ما كان في أعلى منازل الوجوب، مثل ما
ثبت بنص القرآن وخبر التواتر، والإجماع.
__________
1 راجع في هذا "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة
"28/ أ"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 109".
(1/160)
قال الله تعالى
: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 1، وأراد أوجب الحج،
وقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} 2،
ومعناه: أوجبتم لهن فريضة.
وهو عبارة عن النزول؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 3، وأراد:
أنزل عليك القرآن.
وهو عبارة عن الإحلال؛ قال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى
النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} 4،
وأراد به: أحل الله له.
وهو عبارة عن البيان؛ قال تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا
وَفَرَضْنَاهَا} 5 وأراد: بينَّاها.
وهو عبارة عن التقدير؛ يقال: فرض الحاكم على فلان لزوجته
كذا وكذا من النفقة. ويراد به قدّر.
وهو في اللغة: عبارة عن التأثير، يقال: فرض القوس، إذا حز
طرفيه، وفرضة النهر: الموضع الذي يجتمع فيه الماء.
__________
1 "197" سورة البقرة.
وراجع في تفسيرها: "مفاتيح الغيب" للفخر الرزاي "5/ 162".
2 "237" سورة البقرة.
وراجع في تفسيرها: "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي "6/ 140".
3 "85" سورة القصص. وراجع في تفسيرها: "مفاتيح الغيب" "26/
20".
4 "38" سورة الأحزاب. وراجع تفسيرها في: "مفاتيح الغيب"
"25/ 212".
5 "1" سورة النور. وراجع تفسيرها في: "مفاتيح الغيب" "23/
119- 130".
(1/161)
[معنى
الْحَتْمِ]:
والحتم: عبارة عن الفرض؛ لأنه يعبر به عن الواجب الذي يراد
تأكيده، فيقول القائل عند تأكيد المأمور [به]: حتمت عليك
كذا. والمكتوب واللازم عبارة عن الفرض أيضًا.
(1/162)
[هل
هناك فرق بين الفرض والواجب؟]:
وقد اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في الفرض والواجب
هل حدُّهما في الشرع حدٌّ واحد، أم بينهما فرق؟ فيه
روايتان:
أحدهما: أن حدَّهما واحد.
والثانية: أن الواجب ما ثبت وجوبه بخبر الواحد والقياس،
وما اختلف في وجوبه، والفرض ما ثبت وجوبه من طريق مقطوع
به، كالخبر المتواتر، أو نص القرآن، أو إجماع الأمة.
وفي هذا خلاف بين الفقهاء، ويأتي ذكره إن شاء الله فيما
بعد1.
__________
1 وذلك ص: "376".
(1/162)
تعريف الندب
مدخل
...
فصل: [تعريف النَّدب]: 1
الندب اقتضاء الفعل بالقول ممن هو دونه على وجه يتضمن
التخيير بين الفعل والترك. وفي اللغة هو: الدعاء إلى
الفعل، يقال: ندبه لكذا، إذا دعاه إليه.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول،
الورقة "28/ أ" و"المسودة" "ص: 6، 7"، "576"، و"شرح الكوكب
المنير" "ص: 125، 127"، و"روضة الناظر" "ص: 20، 21".
(1/162)
فأما المندوب
إليه فقد قيل: ما في فعله ثواب، وليس في تركه عقاب.
وقيل: ما في فعله أجر، وليس في تركه وزر.
(1/163)
[تعريف
الطاعة والمعصية]: 1
وأما الطاعة: فهي2 موافقة الأمر.
والمعصية: مخالفة الأمر.
وقالت المعتزلة: الطاعة موافقة المراد، والمعصية مخالفة
المراد.
وهذا غلط؛ لأن الله تعالى إذا فعل ما يريده عبيده لا يكون
مطيعًا لهم وإن كان فعله موافقًا لإرادتهم.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول،
الورقة "29". و"المسودة" "ص: 576".
2 في الأصل: "فهو".
(1/163)
[تعريف
العبادة]: 1
وأما العبادة فكل ما كان طاعة لله تعالى، أو قربة إليه، أو
امتثالا لأمره، ولا فرق بين [12/ ب] أن يكون فعلا أو
تركًا.
فأما الفعل فمثل الوضوء، والغسل من الجنابة، والصلاة،
والزكاة، والحج، والعمرة، وقضاء الدين، وما أشبه ذلك.
وأما الترك فمثل: ترك الزنا، وترك أكل المحرم وشربه، وترك
القتل
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول،
الورقة "29/ ب"، و"المسودة" "ص: 43، 44".
(1/163)
المحرم، وترك
الربا1. وإزالة النجاسة طريقها الترك، فلا تفتقر إلى نية2،
وتكون بمنزلة رد المغصوب وإطلاق المحرم الصيد، وغسله الطيب
عن بدنه أو ثوبه؛ لأن ذلك كله طريقه الترك، فإن العبادة في
تجنبه، فإذا أصابه ولم يمكنه تركه إلا بالفعل كان طريقه
الترك، ويخالف الوضوء؛ لأنه فعل مجرد ليس فيه ترك.
وقال أصحاب أبي حنيفة: الوضوء ليس بعبادة؛ لأنه ليس من
شرطها النية3.
والدليل على أنها عبادة قول النبي -صلى الله عليه وسلم:
"الوضوء شطر الإيمان" 4.
__________
1 في الأصل: "وترك الزنا" بزاي بعدها نون، والصواب ما
أثبتناه؛ لأمرين: أولهما: أن ترك الزنا، قد تقدم ذكره
قريبًا.
ثانيهما: أنه قد جاء هكذا "الربا" بالراء المهملة في
المسودة "ص: 43" عندما نقل كلام القاضي بنصه.
2 هكذا في الأصل، وفي "المسودة" "ص: 43": "فأما الترك فلا
يفتقر إلى النية".
3 من أول الفصل إلى هنا منقول بنصه في "المسودة" "ص: 43،
44"، ثم بعد ذلك قفز، فنقل رد القاضي على دليل الحنفية.
4 هذا الحديث رواه أبو مالك الأشعري -رضي الله عنه-
مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء
بلفظ: "الطهور شطر الإيمان" "1/ 203". وأخرجه عنه الترمذي
في كتاب الدعوات، باب...."5/ 535، 536"، وقال حديث صحيح،
ولفظه مثل لفظ المؤلف.
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء شطر
الإيمان "1/ 102، 103" بلفظ: "إسباغ الوضوء شطر الإيمان" .
وأخرجه عنه ابن ماجه بمثل لفظ أبي داود وذلك في كتاب
الطهارة، باب الوضوء شطر الإيمان "1/ 102".
وأخرجه عنه النسائي بمثل لفظ أبي داود وذلك في كتاب
الزكاة، باب وجوب الزكاة "5/ 5". وراجع في هذا الحديث
أيضًا: "ذخائر المواريث" "3/ 214"، و"فيض القدير شرح
الجامع الصغير" "6/ 376".
(1/164)
والإيمان1
عبادة، فوجب أن يكون شطره عبادة؛ ولأنه طاعة أو قربة فوجب
أن يكون عبادة قياسًا على ما شرط فيه النية.
ولأن هذا يؤدي إلى أن يكون ترك الزنا والقتل وشرب الخمر
عبادة؛ لأن ذلك يصح من غير النية، ويؤدي إلى أن تكون إقامة
الحدود عبادة، والكفارة عبادة؛ لأنها تفتقر إلى القصد
والنية، ولا تكون الطهارات عبادة، وهذا ظاهر الفساد.
وأما سقوط النية في صحة الفعل المأمور به، لا2 يدل على أنه
ليس بطاعة وقربة.
__________
1 في الأصل: "والوضوء"، والصواب ما أثبتناه؛ لأن الوضوء
شطر الإيمان، وليس العكس.
2 كان الأولى الإتيان بالفاء في جواب: "أما".
(1/165)
[تعريف
السنة]:
وأما السنة: فما رسم ليحتذى، ولهذا قال النبي -صلى الله
عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى
يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها
إلى يوم القيامة" 1، ولا فرق بين
__________
1 هذا الحديث رواه جرير بن عبد الله البجلي مرفوعًا، أخرجه
عنه مسلم في كتاب العلم، باب من سنَّ سنة حسنة أو سيئة "4/
2059"، كما أخرجه عنه في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة
ولو بشق تمرة. "2/ 702".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء فيمن دعا
إلى هدى فاتبع أو إلى ضلالة "5/ 43"، وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب من سنَّ سنة حسنة أو
سيئة "1/ 74".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب التحريض على
الصدقة "5/ 56".
وأخرجه عنه الدارمي في المقدمة، باب من سنَّ سنة حسنة أو
سيئة "1/ 107".
وراجع أيضًا: "ذخائر المواريث" "1/ 181"، و"كشف الخفاء"
للعجلوني "2/ 353".
(1/165)
أن يكون هذا
المرسوم واجبًا أو غير واجب. يدل عليه ما روي عن عبد الله
بن عباس: أنه صلى على جنازة جهر بقراءة فاتحة الكتاب،
وقال: إنما فعلت ذلك لتعلموا أنها سنة1. وقراءة الفاتحة
واجبة في صلاة الجنازة.
وأما الغالب على ألسنة الفقهاء إطلاق2 السنة على ما ليس
بواجب، وعلى هذا ينبغي أن يقال: ما رسم ليحتذى استحبابًا.
__________
1 هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب قراءة
فاتحة الكتاب على الجنازة بسنده إلى ابن عباس -رضي الله
عنهما- "2/ 107".
وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في القراءة
على الجنازة بفاتحة الكتاب "3/ 337" وقال عقبة: حديث حسن
صحيح.
وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب الدعاء "4/ 61".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الجنائز، باب صفة الصلاة
على الجنازة "1/ 215".
وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب ما يقرأ على الجنازة
"2/ 187".
وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الجنائز، باب
صفة الصلاة على الجنازة "1/ 164".
وقد تكلم عنه الحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري" "3/
203، 204".
وراجع فيه أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 292"،
و"تيسير الوصول" "2/ 219".
2 الجادة أن يؤتى بالفاء في جواب "أما".
(1/166)
[معنى
المكتوبة]:
والمكتوبة هي الواجبة يدل عليه قوله تعالى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 1، وقوله: {كُتِبَ
عَلَيْكُمْ الْصِّيَامُ} 2، ومعناه: أوجب عليكم. وأصل هذه
اللفظة من الكتابة في اللوح المحفوظ، ثم استعملت في
الواجب.
__________
1 "178" سورة البقرة.
2 "183" سورة البقرة.
(1/167)
تعريف الإباحة
مدخل
...
فصل [تعريف الإباحة]: 1
الإباحة: مجرد الإذن، يدل عليه أن من أذن لغيره بأن يأكل
طعامه، أو يسكن داره، أو يركب دابته، فقد أباحه له، فدل
على أن الإباحة هي الإذن.
والمباح: كل فعل مأذون فيه لفاعله، لا ثواب له في فعله،
ولا عقاب في تركه، وفيه احتراز من فعل المجانين والصبيان
والبهائم؛ لأنه لا يصح إذنهم وإعلامهم به. ولا يدخل على
ذلك أفعال الله تعالى؛ لأنه لا يجوز أن [13/ أ] يوصف بأنه
مأذون له في فعله.
__________
1 راجع: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "29/
أ"، و"المسودة" "ص: 573"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 130-
132"، و"روضة الناظر" "ص: 21، 22".
(1/167)
[تعريفُ
الحَسَنِ والقَبِيحِ]: 1
وأما الحسن والقبيح فقد قيل في العبارة عنه: الحسن ما له
فعله، والقبيح ما ليس له فعله.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول،
الورقة "6/ ب - 7/ أ" و"المسودة" "ص: 577"، و"شرح الكوكب
المنير" "ص: 96- 98".
(1/167)
وقال هذا
القائل: المباح من جنس الواجب1.
وقيل: الحسن ما مدح به فاعله، والقبيح ما ذم به فاعله.
وقال هذا القائل: لا يوصف المباح بأنه حسن.
__________
1 يظهر أن في العبارة تحريفًا، ولعل الصواب: "وقال هذا
القائل: المباح من جنس الحسن"، يدل على ذلك أمران:
الأول: أن المؤلف ذكر بعد هذا تعريفًا للحسن والقبح، ثم
عقَّب على ذلك بقوله: "وقال هذا القائل: لا يوصف المباح
بأنه حسن".
الثاني: أنه ذكر في "المسودة" "ص: 577" بعد نقل التعريف
الأول منسوبًا إلى القاضي، قال: وقيل المباح من الحسن.
(1/168)
[تعريفُ
الْجَائزِ]: 1
والجائز: ما وافق الشريعة، فإذا قلنا: صلاة جائزة، وصوم
جائز وبيع جائز، فإنما نريد أنه موافق للشريعة.
وقد يقول الفقهاء: الوكالة عقد جائز، وكذلك عقد الشركة
والمضاربة، يريدون أنه ليس بلازم. ويكون حدُّ ذلك: كل عقد
للعاقد فسخه بكل حال، أو لا يئول إلى اللزوم، ولا يدخل على
ذلك البيع المشروط فيه الخيار، أو إذا كان في المبيع عيب،
فإنه يَئُول إلى اللزوم، وكذلك الرهن، فإنه من العقود
اللازمة؛ لأنه يَئُول إلى اللزوم.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح" الجزء الأول، الورقة "30/
أ"، و"المسودة" "ص: 577".
(1/168)
[معنى الظُّلمِ
والجَورِ]: 1
والظلم مجاوزة الحد.
وقيل: وضع الشيء في غير موضعه. ولهذا قالوا: "من أشبه أباه
فما ظلم"؛ أي: لم يضع نسبه في غير موضعه. وتقول العرب: بئر
مظلومة، إذا حفرت في أرض ليس فيها محفر. والجور هو: العدول
عن الحق، من قوله: جار السهم" إذا عدل عن قصده.
__________
1 راجع هذا في: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول،
الورقة "33/ ب".
(1/169)
فصل: [تعريف
الخبر]: 1
الخبر: ما دخله الصدق والكذب، يدل عليه أن من قام وقعد
وأكل ومشى وركب لما لم يكن خبراً لم يدخله الصدق والكذب،
ولم يحسن أن يقال له فيه: صدقت أو كذبت.
وكذلك القول إذا كان أمرًا أو نهيًا لم يدخله الصدق أو
الكذب، فدل على أن حد الخبر ما ذكرته.
والصدق: كل خبر مخبره على ما أخبر به.
والكذب: كل خبر مخبره على خلاف ما أخبر به.
والآحاد: ما لم تبلغ حد التواتر.
والمرسل: ما انقطع إسناده، وهو أن يكون في رواته من يروي
عمن لم يره.
والمسند: ما اتصل إسناده.
__________
1 سيأتي الكلام عن "الأخبار" في كتاب مستقل "ص: 839-
1019".
(1/169)
فصل: [تعريف
الإجماع]: 1
الإجماع: اتفاق علماء العصر على حكم النازلة.
ويُعْرَفُ اتفاقُهُم: بقولِهِم، أو قول بعضهم وسكوت
الباقين، حتى ينقرض العصر عليه.
وقيل: هو مأخوذ من العزم على الشيء، يقال: أجمع فلان على
كذا ومعناه: عزم عليه.
ومنه قوله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ
وَأَسَرُّوا الْنَّجْوى} 2 معناه: عزموا عليه.
ومنه قوله عليه السلام: "لا صيامَ لمن لم يجمع 3
الصِّيَامَ من اللَّيلِ" 4، ومعناه: يعزم عليه.
__________
1 سيأتي الكلام عن "الإجماع" في كتاب مستقل ورقة "158/ ب"
فما بعدها.
2 "62" سورة طه. وقد وردت هذه الآية محرَّفة في الأصل، حيث
جاءت هكذا: "فأجمعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى" والآية
كما أثبتناها، غير أنه على هذا لا يبقى في الآية دليل على
ما أراد المؤلف الاستدلال له. ولعل المقصود هو آية:
{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ
أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} "71" يونس؛ لأن هذه الآية
هي التي يستدل بها في هذا الموضع، وقد ذكرها المؤلف في هذا
الكتاب عندما تكلم عن الإجماع بالتفصيل، الورقة "158/ ب-
159/ أ".
3 في الأصل: "يبيت"، ولعله من تحريف النُّساخ، فإن المؤلف
استدل بالحديث لبيان معنى الإجماع.
4 هذا الحديث روته أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها-
مرفوعًا وموقوفًا، أخرجه عنها الترمذي مرفوعًا في كتاب
الصوم، باب ما جاء: لا صيام لمن لم يعزم من الليل "3/ 99"
ولفظه: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له" ، ثم
عقب عليه بقوله: حديثُ حفصةَ حديثٌ لا نعرفه مرفوعًا إلا
من هذا الوجه. وقد =
(1/170)
..................................
__________
= روى عن نافع عن ابن عمر قوله، وهو أصح. وهكذا روي هذا
الحديث عن الزهري موقوفًا، ولا نعلم أحدًا رفعه إلا يحيى
بن أيوب".
وقد نقل ابن حجر في كتابه تلخيص الحبير "2/ 188" ما ذكره
الترمذي عن البخاري أنه قال في هذا الحديث: هو خطأ، وهو
حديث فيه اضطراب والصحيح عن ابن عمر موقوف.
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الصيام، باب النية في الصيام
"1/ 571"، وقد نقل عنه ابن حجر في "التلخيص" أنه قال: لا
يصح رفعه.
وأخرجه عنها النسائي في كتاب الصيام، باب النية في الصيام
"4/ 166" مرفوعًا وموقوفًا، مع أنه صرح بعدم رفعه، وصوَّب
أنه موقوف كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الصوم، باب ما جاء في فرض
الصوم من الليل "1/ 542"، بلفظ: "لا صيام لمن لم يفرضه من
الليل".
وأخرجه عنها الإمام أحمد "6/ 287"، وقد نقل عنه ابن حجر في
"التلخيص" قوله: "ما له عندي ذلك الإسناد".
وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الصوم، باب من لم يجمع الصوم
من الليل "1/ 339".
وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب
الصيام، باب الرجل ينوي الصيام بعدما يطلع الفجر "2/ 54".
وأخرجه عنها الدارقطني في كتاب الصيام "2/ 172"، كما أخرجه
عن عائشة من طريق آخر، وقال: كل رجالها ثقات.
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الصيام، باب من
أجمع الصيام قبل الفجر "2/ 156، 157" عن عبد الله بن عمر
وحفصة وعائشة -رضي الله عنهم- موقوفًا.
وخلاصة القول:
أن هناك بين العلماء في رفع هذا الحديث ووقفه:
فذهب فريق إلى أنه مرفوع، وبه قال الحاكم، والدارقطني،
وابن خزيمة، =
(1/171)
وقيل: معنى
الإجماع والاجتماع مختلف؛ لأن الإجماع يضاف إلى الواحد
فيقال: قد أجمعت على كذا، ولا يقال: اجتمعت إلا مع آخر.
والاختلاف مخالفة من هو من أهل الاجتهاد، مثل وجود
الاتفاق.
(1/172)
تعريف الحقيقة والمجاز وأقسامهما
مدخل
...
فصل: [تعريف الحقيقة والمجاز وأقسامهما]:
الحقيقة: تستعمل في شيئين:
أحدهما: في العبارة عن صفة الشيء ومعناه، فيقال: حقيقة
العلم كذا، وحقيقة العالم كذا، وحقيقة المحدث كذا. وهذا
يرجع إلى حده وحصره، وليس لهذا النوع [13/ ب] من الحقيقة
مجاز.
والثاني: حقيقة الكلام وحَدُّه: كل لفظ بقي على موضوعه.
ولهذه الحقيقة مجاز، وحَدُّه: كل لفظ تجوز به عن موضوعه،
وصح نفيه عنه، مثل الجد، يصح نفي الأب عنه.
وذلك بأربعة وجوه:
أحدهما: بالزيادة فيه، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ} 1،
__________
= وابن حزم، وابن حبان وغيرهم.
وذهب فريق إلى أنه موقوف، ولا يصح رفعه، وبه قال البخاري،
والترمذي وأبو داود، والنسائي وغيرهم.
راجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "2/ 229"
و"تلخيص الحبير" "2/ 188" و"المنتقى من أحاديث الأحكام"
"ص: 336، 337"، و"نصب الراية" "2/ 433- 435" و"فتح الباري"
"4/ 142"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" "6/ 222".
1 "11" سورة الشورى.
(1/172)
الكاف زائدة
فإنه قال: ليس مثله شيء ، ووصفت الزيادة: إنها مجاز؛ لأنها
وردت غير مفيدة1.
والثاني: بالنقصان منه، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ} 2، معناه: أهلها فاقتصر على ذكر القرية
اكتفاء بدلالته على ما لم يذكره.
والثالث: بالتقديم والتأخير، كقوله: {مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 3 تقديره: من بعد دين
أو وصية. وقوله: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ،
خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 4، وتقديره:
الرحمن خلق الإنسان علمه القرآن والبيان؛ لأن تعلمه قبل
خلقه لا يصح.
والرابع: بالاستعارة، وهي تسمية الشيء باسم غيره، إذا كان
مجاورًا له، أو كان فيه سبب، كقوله تعالى: {جِدَارًا
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} 5. والإرادة للآدمي دون الجمادات.
وقوله: {لَهُدِّمَتْ
__________
1 قوله: "غير مفيدة"، هذا لا يليق بكلام الله تعالى؛ لأن
كل ما فيه مفيد، بدون شك.
فالذين يقولون: إن في القرآن مجازًا، يقولون: هنا الزيادة
للتأكيد، والذين يقولون: إنه ليس في القرآن مجاز، يجيبون
بعدة أجوبة:
أظهرها: أن المراد بالمثل: الذات، والمعنى: ليس كذاته شيء.
راجع: "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي "27/ 150- 153"، و"شرح
الكوكب المنير" "ص: 53- 55".
2 "82" سورة يوسف.
3 "11" سورة النساء.
4 "1- 4" سورة الرحمن.
5 "77" سورة الكهف.
(1/173)
صَوَامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ} 1، ومعناه: مكان الصلوات؛ لأن الهدم
يختص المكان دون الفعل.
__________
1 "40" سورة الحج.
(1/174)
[معنى
المجاز]:
والمجاز مأخوذ من جاز1؛ لأنه سار به كلام العرب وخطابهم،
والاستعارة أكثر الأنواع في الاستعمال، ثم يليه النقصان.
__________
1 في الأصل: "مجاز".
(1/174)
تعريف القياس
مدخل
...
فصل: [تعريف القياس]: 1
القياس: رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما.
وقيل: حمل الفرع على الأصل بعلة الأصل.
وقيل: موازنة الشيء بالشيء.
وقيل: اعتبار الشيء بغيره.
وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال في ميقات
أهل المشرق: "ما حياله من المواقيت؟ فقالوا: قَرْن، فقال:
قيسوا به"2.
__________
1 سيأتي بحث القياس في باب مستقل، الورقة "193- 237".
2 هذا الأثر عن عمر -رضي الله عنه- أخرجه البخاري عن ابن
عمر -رضي الله عنهما- قال: "لما فتح هذان المصران، أتوا
عمرَ فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- حدّ لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، فإنا
إن أردنا شق علينا، قال: "انظروا حذوها من طريقكم، فحدّ
لهم ذات عرق" ، هكذا لفظ البخاري، ولم أجد لفظ المؤلف:
"قيسوا به" فيما رجعت إليه من الكتب.
راجع في هذا الأثر أيضا: "تيسير الوصول" "1/ 238"، و"تلخيص
الحبير" "2/ 229"، و"فتح الباري" "3/ 389 - 391"،
و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص "369"، و"نصب الراية" "3/
14 - 15".
(1/174)
والأول والثاني
صحيحان.
وأما الثالث والرابع ففيهما احتمال؛ لأنهما لا يعبران عن
صفة القياس في أحكام الشريعة، والمقصود ها هنا العبارة عن
القياس في الأحكام الشرعية، وهو على التفسير الذي ذكرناه.
وإذا ثبت هذا فإن القياس يستعمل على أربعة أشياء: أصل،
وفرع، وعلة، وحكم.
(1/175)
[تعريف
الأصل]:
فأما الأصل فهو: ما ثبت حكمه بنفسه، ومعناه: أنه ثبت حكمه
بلفظ تناوله باسمه.
وقيل الأصل: ما ثبت به حكم غيره.
وهذا صحيح على أصلنا، ولهذا نقول: إن العلة يجب أن تتعدى
إلى فرع، ولا تقف1. مثل علتنا في تحريم التفاضل في الذهب
والفضة بالوزن؛ لأنها تتعدى، ولا نقول: كونها قيم
المتلفات؛ لأنها لا تتعدى.
__________
1 في الأصل: "يقف". بالمثناة التحتية.
(1/175)
[تعريف
الفرع]:
وأما الفرع فحده: ما ثبت حكمه بغيره.
(1/175)
[تعريف
العلة]:
وأما العلة: فهي المعنى الجالب للحكم.
(1/175)
وقيل: المعنى
الذي تعلق به الحكم.
وقيل: الصفة المقتضية للحكم.
(1/176)
[تعريفُ
الحكمِ]:
وأما الحكم: فما جلبته العلة، أو ما اقتضته [14/ ب] العلة،
من تحريم وتحليل وصحة وفساد، ووجوب وانتفاء وجوب، وما أشبه
ذلك.
والعلة الواقفة: هي التي لا تتعدى إلى فرع.
والعلة المتعدية: هي التي تتعدى إلى فرع أو أكثر.
والمعلول: هو الحكم؛ لأن تأثير العلة فيه.
وقيل: هو الذات التي حلتها العلة، مثل الخمر وسائر
الأشربة، والبر والشعير وسائر المكيلات، والذهب والفضة؛
لأن الجسم التعليل، والمعلول هو الذي حلته العلة.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن تأثير العلة في الجسم، وههنا في
الحكم، فالمعلول ما أثرت فيه العلة.
(1/176)
[تعريف
المعتل والمعلل والمعتل به والمعتل له]:
والمعتل: هو المحتج بالعلة.
والمعلل: هو المعتل؛ لأنه يقال: اعتل بكذا، أو علل بكذا،
فدل على أنهما سواء.
وقيل: المعتل هو الناصب للعلة، مثل المحرك هو الفاعل
للحركة، والمسود هو الفاعل للسواد.
والمعتل به: هو العلة.
والمعتل له: هو الحكم.
(1/176)
[تعريف
الطرد والعكس]:
والطرد: وجود الحكم بوجود العلة.
والطرد شرط في صحة العلة. وهل هو دليل على الصحة؟ فيه
اختلاف.
ونحن نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه1.
والعكس: عدم الحكم لعدم العلة.
فإذا قلنا لا زكاة في الخيل؛ لأنه حيوان لا تجب الزكاة في
ذكوره، فلم يجب في إناثه. أصله: البغال والحمير، وعكسه:
الإبل والبقر والغنم.
وسبيل العاكس أن يبدأ بموضع العلة، فيقول: فإن الزكاة لما
وجبت في ذكورها، وجبت في إناثها.
__________
1 وذلك في الورقة "215" من هذه المخطوطة.
(1/177)
[تعريف
النقض]:
وأما النقض: فهو وجود العلة مع عدم الحكم.
وقد نقض أبو حنيفة2 علته في تحريم النساء فقال: أحد وصفي
علة
__________
1 هو الإمام النعمان بن ثابت التميمي الكوفي، أحد الأئمة
الأربعة، فقيه العراق وإمامهم. روى عن عطاء والزهري وقتادة
وغيرهم. وعنه عبد الرزاق ووكيع ومحمد بن الحسن وغيرهم. ولد
سنة: 80 هـ، ومات سنة: 150هـ، رحمه الله تعالى.
انظر ترجمته في: "البداية والنهاية" "10/ 107"، و"تاريخ
بغداد" "13/ 323"، و"تذكرة الحفاظ" "1/ 168"، و"تهذيب
التهذيب" "10/ 449" و"شذرات الذهب" "1/ 227"، و"طبقات
الحفاظ" "ص; 73"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "ص: 86"،
و"غاية النهاية في طبقات القراء" "2/ 342". و"مرآة الجنان"
"1/ 309"، و"ميزان الاعتدال" "4/ 265"، و"النجوم الزاهرة"
"2/ 12". "الفقهاء" للشيرازي "ص: 86"، و"غاية النهاية في
طبقات القراء" "2/ 342". و"مرآة الجنان" "1/ 309"، و"ميزان
الاعتدال" "4/ 265"، و"النجوم الزاهرة" "2/ 12".
(1/177)
تحريم التفاضل
علة لتحريم النساء، ثم أجاز إسلام الدراهم والدنانير في
الموزونات مع وجود أحد وصفي علة تحريم التفاضل، وهو الوزن.
(1/178)
فصل: [العلة
منطوق بها ومجتهد فيها]:
والعلة التي يتعلق بها الحكم على ضربين: منطوق بها ومجتهد
فيها.
وقال بعض الخراسانية: مسطورة ومسبورة.
فأما المنطوق بها فهي: التي دلَّ كلام صاحب الشريعة عليها.
مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "أينقصُ الرطبُ إذا يبس؟"
1، وقوله صلى الله عليه وسلم في لحوم الأضاحي:
__________
1 هذا الحديث رواه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-
مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في التمر
بالتمر "2/ 225".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي
عن المحاقلة والمزابنة، وقال: حديث حسن صحيح"3/ 519".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب بيع الرطب
بالتمر "2/ 761".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب اشتراء التمر
بالرطب "7/ 236".
وأخرجه عنه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب البيوع، باب
ما يكره من بيع التمر "3/ 265، 266" مطبوع مع شرح
الزرقاني.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب البيوع، باب النهي عن
بيع الكالئ بالكالئ "2/ 57".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب تحريم المفاضلة
في الطعام إذا كان من جنس واحد "2/ 182"
وأخرجه الدارقطني في كتاب البيوع "3/ 49". راجع في هذا
الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 9"، و"نصب الراية" "4/
40- 42"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 452".
(1/178)
"إنما نهيتكم
من أجل الدّافة" 1.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ} 2، فدلّ على [أن] المنع لأجل الحيض. وقوله
تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 3 قد دلّ
على أن الطهارة لأجل الجنابة. وقوله: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4.
وقوله عليه السلام: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى
يستوفيه" 5، ونهيه
__________
1 هذا جزء من حديثٍ قد مضى تخريجه "ص: 123".
2 "222" سورة البقرة.
3 "6" سورة المائدة.
4 "38" سورة المائدة.
5 هذا الحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما-
في كتاب البيوع، باب الكيل على البائع والمعطي "3/ 83"،
وفي باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك "3/ 85".
كما أخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في باب ما يذكر في
بيع الطعام والحكرة "3/ 85".
وأخرجه مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب البيوع،
باب بطلان بيع المبيع قبل القبض كما أخرجه عن ابن عباس
وأبي هريرة -رضي الله عنهم- بألفاظ متقاربة "3/ 1159-
1162".
وأخرجه أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب
البيوع، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى. كما أخرجه عن
ابن عباس -رضي الله عنهما "2/ 251، 252".
وأخرجه ابن ماجه عن ابن عمر وابن عباس أيضًا في كتاب
التجارات، باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض "2/ 749".
(1/179)
عن بيع ما لم
يقبض1، وربح ما لم يضمن2. و "الثيب أحق بنفسها" 3.
__________
= وأخرجه النسائي عنهما في كتاب البيوع، باب بيع الطعام
قبل أن يستوفى "7/ 251، 252".
وأخرجه الدارمي في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الطعام
قبل أن يستوفى "2/ 168" عن ابن عمر -رضي الله عنهما.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده" عن ابن عمر في كتاب البيوع،
باب النهي عن بيع الولاء والمحاقلة والمزابنة وبيع ما ليس
عنده "1/ 264".
وأخرجه الإمام الشافعي عن ابن عمر وابن عباس في كتاب
البيوع، باب النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وهل غير الطعام
مثله "2/ 156، 157".
1 مضى تخريجه "ص: 112".
2 مضى تخريجه ضمن حديث "لا تَبِعْ ما ليس عندك" "ص: 112".
3 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا.
أخرجه عنه مسلم في كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في
النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت "2/ 1037".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب النكاح، باب في الثيب "1/
484".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء في استئمار
البكر والثيب "3/ 407" وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب استئمار البكر
والثيب "1/ 601".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب النكاح، باب استئذان البكر في
نفسها، وباب استئمار الأب البكر في نفسها "6/ 69، 70".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب النكاح، باب استئمار البكر
والثيب "2/ 63".
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب النكاح، باب استئذان البكر
والأيم في أنفسهما "3/ 126".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب النكاح "3/ 239".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب خطبة
الصغيرة إلى وليها والرشيدة إلى نفسها "2/ 321". وراجع في
هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 540"،
و"تيسير الوصول" "3/ 346".
(1/180)
و "ليس للولي
مع الثيب أمر" 1 وقوله صلى الله عليه وسلم [14/ ب]: "لا
يقضي القاضي وهو غضبان" 2، وما أشبه ذلك مما دل كلام صاحب
الشريعة على علة الحكم.
فإذا ثبت هذا، فإنه ينظر فيه. فإن كان مطردًا علم أنه كمال
العلة، وإن انتقض وجب ضم وصف آخر إليه، وعلم أن صاحب
الشريعة لم ينص على كمال العلة، وإنما نص على بعضها ووكل
الباقي إلى اجتهاد أهل العلم، وهذا جائز؛ لأنه إذا جاز أن
يكل الجميع إلى اجتهادهم، جاز أن
__________
1 هذه إحدى روايات الحديث المخرج آنفًا، وبها أخرجه أبو
داود والنسائي في الموضعين السابقين.
2 هذا الحديث رواه أبو بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه
عنه البخاري في كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي
وهو غضبان "9/ 81، 82".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي
وهو غضبان "3/ 1342، 1343".
وأخرجه أبو داود عنه في كتاب الأقضية، باب القاضي يقضي وهو
غضبان "2/ 271".
وأخرجه الترمذي عنه في كتاب الأحكام، باب ما جاء لا يقضي
القاضي وهو غضبان وقال: حديث حسن صحيح "3/ 611".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب لا يحكم الحاكم
وهو غضبان "2/ 776".
وأخرجه النسائي عنه في كتاب آداب القضاة، باب ذكر ما ينبغي
للحاكم أن يجتنبه "8/ 209".
وأخرجه الإمام الشافعي عنه في كتاب القضاء والشهادات "2/
232".
وأخرجه الطيالسي في كتاب القضاء والدعاوي "1/ 286".
وراجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "تيسير الوصول"
"3/ 182". و"المنتقى" "ص: 811"، و"تلخيص الحبير" "3/ 189".
(1/181)
ينص على البعض
ويكل الباقي إلى اجتهادهم.
ومثال ذلك ما احتج به أصحاب أبي حنيفة وقالوا: روي عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لبريرة1: "ملكت بضعك
فاختاري"2، وهذا يقتضي أن الأمة إذا أعتقت تحت حر كان لها
الخيار، فقلنا لهم: إن ثبت هذا اللفظ كان معناه: ملكت بضعك
تحت العبد، فضممنا إليه وصفًا آخر.
وأما العلة المجتهد فيها، فمثل سائر العلل المستنبطة،
وطريق ثبوتها: التأثير، أو شهادة الأصول، ويأتي الكلام على
ذلك في باب: العلم الدال على صحة العلة3.
__________
1 هي بريرة مولاة عائشة -رضي الله عنهما- اشترتها من بعض
بني هلال، وأعتقتها وكان في قصة عتقها كثير من الأحكام.
لها ترجمة في "الاستيعاب" "4/ 1795"، و"الإصابة" "7/ 535"
القسم السابع "ص: 535" طبعة دار نهضة مصر.
2 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-
مرفوعًا. أخرجه عنها الدارقطني في كتاب النكاح "3/ 290"
بلفظ: "اذهبي فقد عتق معك بضعك".
وأخرجه ابن سعد في "طبقاته" في ترجمة بريرة -رضي الله عنها
"8/ 189" عن الشعبي مرسلا بلفظ: "قد عتق بضعك معك،
فاختاري".
راجع أيضا: "تلخيص الحبير" "3/ 177، 178"، و"نصب الراية
"3/ 204، 205".
3 وذلك في الورقة "220" من هذه المخطوطة.
(1/182)
فصل: [تعريف
السبب]:
والسبب: ما يتوصل به إلى الحكم ويكون طريقًا لثبوته، سواء
كان دليلا أو علة أو شرطًا أو سؤالا مثيرًا للحكم.
والدليل عليه: أن الله تعالى سمى الطريق سببًا، فقال عزَّ
من قائل:
(1/182)
{فَأَتْبَعَ
سَبَبًا} 1، أي: طريقًا.
وسمي الطريق سببًا؛ لأنه يتوصل بسلوكه إلى المقصود. وسمي
الباب سببًا؛ لأنه يدخل منه إلى المقصود. قال تعالى:
{لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ الْسَّمَوَاتِ
فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 2 وأسباب السموات:
أبوابها، قال زهير3:
ومن هاب أسباب السماء ينلنه ... ولو نال أسباب السماء
بسلم4
وسمي الحبل سببًا؛ لأنه يتوصل به إلى الماء وغيره، قال
تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} 5، يعني
بحبل.
__________
1 "85" سورة الكهف.
2 "36، 37"، سورة غافر.
3 هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن قرط المزني. شاعر جاهلي
مشهور. لم يدرك الإسلام. صاحب الحَوْلِيَّات. مدح هرم بن
سنان، وأجاد، خلف ولدين: كعبًا وبجيرًا، أدركا الإسلام
وأسلما.
له ترجمة في: "الأغاني" 9/ 139- 151"، و"الشعر والشعراء"
"1/ 137- 153"، و"طبقات فحول الشعراء" 43، 52- 54".
4 رواية البيت في شرح ديوان زهير لأبي العباس الشيباني "ص:
20":
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه...
ولأبي عمرو رواية أخرى هي:
ومن يبغ أطراف الرماح ينلنه ... ولو رام أن يرقى السماء
بسلم
5 "15" سورة الحج.
(1/183)
أقسام النظر
مدخل
...
فصل: [أقسام النظر]:
والنظر ضربان: ضرب هو النظر بالعين فهذا حدُّه: الإدراك
بالبصر.
(1/183)
والثاني: النظر
بالقلب، وهذا حدُّه: الفكر في حال المنظور فيه.
والمنظور فيه: هو الأدلة والأمارات الموصلة إلى المطلوب.
والمنظور له: هو الحكم؛ لأنه ينظر لطلب الحكم.
والناظر: هو الفاعل للفكر.
(1/184)
[تعريف
الجدل]:
وأما الجدل: فهو تردد الكلام بين اثنين، إذا قصد كل واحد
منهما إحكام قوله ليدفع به قول صاحبه. وهو مأخوذ من
الإحكام، يقال: درع مجدولة، إذا كانت محكمة النسج، وحبل
مجدول، إذا كان محكم الفتل. والأجدل، هو الصقر عندهم.
والجدالة: وجه الأرض، إذا كان صلبًا.
ولا يصح الجدل إلا بين اثنين. ويصح النظر من واحد [15/ أ].
والسؤال، هو الاستخبار. والجواب: هو الإخبار. فإذا سأل
السائل المسئول فقال: ما تقول في كذا؟ فإنه مستخبر عن
مذهبه فيما سأله عنه، وإذا أجابه فهو مخبر عنه.
والجدل كله سؤال وجواب.
(1/184)
[تعريف
الرأي]:
وأما الرأي: فاستخراج صواب العاقبة.
فمن وضع الرأي في حقه، واستعمل النظر في وضعه، سدده إلى
الحق المطلوب، كمن قصد الجامع يسلك طريقه ولم يعدل عنه
أداه إليه وأورده عليه.
(1/184)
وإنما كان
كذلك؛ لأن الحق عند أحمد -رحمه الله- في واحد، وما عداه
باطل.
وعلى الحق دليل يوصل إليه، فإذا وصل إلى الدليل أوصله إلى
الحكم.
(1/185)
الكلام وأقسامه
مدخل
...
فصل: [الكلام وأقسامه]:
والكلام في اللغة: عبارة عن أصوات وحروف. وقد نص أحمد
-رحمه الله- على هذا في كلام الله تعالى، وأن الله تعالى
تكلم بصوت، في رواية يعقوب بن بختان1 والمروذي2 وعبد
الله3.
وقال الأشعرية: الكلام معنىً قائم في النفس يعبر عنه بهذه
الأصوات المقطعة. والكلام في هذا يأتي في باب الأوامر4.
__________
1 في الأصل: "بجيان" بدون إعجام، والصواب "بختان" كما
أثبتنا.
وفي المسودة "ص: 90/ 481": بجيان، وهذا خطأ أيضًا. وهو:
يعقوب بن إسحاق بن بختان، أبو يوسف. كان صالِحًا ثقة. من
أصحاب الإمام أحمد الذين تفقهوا عليه، ونقلوا عنه، وبخاصة
في الورع.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" "1/ 415".
2 في الأصل: "المرودي" بدون إعجام، والصواب: المروذي، كما
أثبتناه.
وهو: أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز، أبو بكر
المروذي، أحد أصحاب أحمد الفضلاء، الموصوفين بالورع
والزهد. كان مقربًا عند الإمام أحمد. نقل كثيرًا من
المسائل عنه. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" "1/ 56".
3 المراد: عبد الله بن أحمد بن حنبل، وقد سبقت ترجمته "ص:
134".
4 وذلك "ص: 214- 223".
(1/185)
وإذا ثبت هذا
فالكلام على ثلاثة أوجه: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى ليس
باسم ولا فعل.
فالاسم: مأخوذ من السمة، وهي العلامة؛ وحقيقته: ما أفاد
معنىً غير مقترن بزمان مخصوص، والأسماء على وجوه يأتي
شرحها.
والفعل -على ما يذكره النحويون- فإنه عبارة عما دلَّ على
زمان محدود.
والحرف: هو عبارة عن شيئين: أحدهما معنىً، والآخر عبارة.
فالمعنى: هو الحرف الذي هو طرف الشيء ونهايته، ومنه: حرف
الوادي.
والثاني: ما يقصد به النحْويون، وهو ما أفاد معنىً في
غيره.
فهذا تقسيم كلام العرب. وقد ذكر بعضهم تقسيمه على المعاني،
فحصره بستة عشر وجهًا، فقال: الأمر وما في معناه، وهو
السؤال والطلب والدعاء، ومن ذلك النهي ويدخل فيه الإخبار
والجحود والقسم والأمثال والتشبيه وما أشبه ذلك، ومنه
الاستخبار، والنهي منه الإخبار والاستفهام1.
__________
1 النص في الأصل مشوش، والستة عشر وجهًا التي يشير المؤلف
إليها هي: الأمر، والنهي، والخبر والاستخبار، والطلب،
والجحود، والتمني، والإغلاظ، والتلهف، والاختبار، والقسم،
والتشبيه، والمجازاة، والدعاء، والتعجب، والاستثناء.
انظر في تقسيم الكلام عند العرب: "الصاحبي في فقه اللغة"
لابن فارس "ص: 179- 188" و"الأمالي الشجرية" "1/ 277-
281"، و"الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي "3/ 256" وما
بعدها، و"همع الهوامع" للسيوطي أيضًا "1/ 12".
(1/186)
والأسماء على
وجوه: منها: أعلام وألقاب وضعت في اللغة للتمييز بين
المسمى وغيره، تقوم مقام الإشارة إلى الغير مثل: زيد
وعمرو.
ومنها: ما وضع لإفادة صورة وبنية مخصوصة، مثل: إنسان.
ومنها: ما وضع لإفادة جنس مثل: علم وإرادة.
ومنها: ما وضع لإفادة أمر تعلق بالمسمى مثل: والد وأخ،
وفوق وتحت.
والاسم المفيد لمعنىً يتعلق بالمسمى، قد يكون على وجه
الاشتقاق، مثل قولنا: مقتول ومضروب. ومنه ما هو مشتق مثل
قولنا: قاتل وضارب.
وقد يتفق الاسمان في الصورة والدلالة، مثل قولنا: الوطء
بالنكاح وبملك اليمين حلال.
وقد يتفق الاسمان في الصورة ويختلفان في المعنى مثل:
القرء، يراد به الحيض والطهر.
وقد يختلفان في اللفظ والمعنى مثل قولنا: الخمر محرمة،
والخل مباح.
وقد يختلفان في الصورة ويتفقان [15/ ب] في المعنى، مثل
زكاة وصدقة.
والأسماء على ضربين: منه ما هو عام، ومنه ما هو خاص.
فالعام على ضربين: منه ما هو عام ليس فوقه ما هو أعم منه.
ومنه ما هو عام بالإضافة إلى ما هو أخص منه، وإن كان
خاصًّا فبالإضافة إلى ما هو فوقه.
فالعام الذي ليس فوقه أعم منه مثل معلوم ومذكور.
والخاص الذي هو عام في نفسه مثل قولنا: عَرَض، هو عام في
(1/187)
جميع الأجناس،
وهو خاص بالإضافة إلى قولنا: معلوم ومذكور.
والخاص الذي هو في الحقيقة خاص، مثل أسماء الأعيان.
وإذا كان الاسم عبارة عن شيئين متضادين جاز أن يكون حقيقة
فيهما، مثل أسماء الأضداد.
وكذلك إن عبَّر عن مسمين مختلفين، مثل قولنا للباري تعالى:
عالم، وللمحدث: عالم.
والأسماء المشتقة التي هي مقيدة على ضربين:
منها ما هو مشتق من معاني متماثلة، مثل قولنا: أسود.
ومنها: ما هو مشتق من معنى وصفة لا يجب تماثلها، مثل
متلوّن. فالأسماء التي ليست بمشتقة منها: ما يتفق لفظه
ومعناه، مثل: سواد وسواد.
ومنها: ما يتفق لفظه ويختلف معناه، مثل جارية للعين
المعروفة، وجارية للسفينة.
والمقيد من الأسماء على ضربين: منه ما هو حقيقة في بابه،
ومنه ما هو مجاز.
فالحقيقة: هو اللفظ المستعمل في موضعه.
والمجاز: هو اللفظ المعدول عن جهته.
والاسم متى كان مشتركًا في أشياء، مفيدًا في جميعها فائدة
واحدة، حمل على جميعها كاللون. فإن كان يفيد في أشياء
مختلفة، فقد قيل: لا تحمل على جميعها وشبهه بعضهم به إذا
قال: "أوصيت لموالي فلان"، وله مولى أعلى ومولى أسفل، لم
يحمل عليهما لتنافي معناهما؛ لأن أحدهما منعِم، والآخرُ
منعَمٌ عليه.
(1/188)
ولا يجوز حمل
الاسم على معنيين مختلفين أحدهما حقيقة والآخر مجاز، إذ لا
يحمل على الصريح والكناية. وهذا إجماع الصحابة حين لم
يحملوا اسم القرء على الأمرين، ولو حمل اللفظ عليهما لم
يتمنعوا منه من غير دلالة.
(1/189)
[الأسماء
الشرعية]:
والاسم المستعمل في الشريعة على غير ما كان عليه في موضوع
اللغة، مثل اسم المؤمن، هو في اللغة: عبارة عن كل مصدق.
واختص في الشريعة من آمن بالله، حتى لا يجوز استعماله في
غيره.
وكذلك اسم الكافر عبارة: عن كل مغطَّى، وقد اختص ذلك الاسم
في الشرع بمن كان كافرًا بالله تعالى.
ومثل اسم الصلاة، فإنه في اللغة: الدعاء، وفي الشرع:
لأفعال حصل معها دعاء.
وكذلك الزكاة في اللغة: عبارة عن النَّماء. وفي الشريعة :
عبارة عن إخراج ماله.
وكذلك الربا، في اللغة: عبارة عن الزيادة. وفي الشريعة
عبارة عن أمور قد لا يحصل معها زيادة.
وكذلك الصوم عبارة: عن الإمساك في اللغة. وفي الشريعة:
إمساك بصفة، وهو عن الأكل والشرب والجماع مع النية.
وكذلك الاعتكاف، في اللغة: عبارة عن اللّبث. وهو في الشرع:
لبث في مكان مخصوص متى انضمت إليه النية.
وكذلك الوضوء، هو [16/ أ] عبارة عن: الوضاءة في اللغة، وهو
في الشريعة عبارة عن غسل أعضاء مع النية.
(1/189)
وكذلك الحج
عبارة: عن القصد في اللغة، وهو في الشريعة: عبارة عن أفعال
مخصوصة، فهو في الشريعة كما كان في اللغة، وضمت إليه شروط
شرعية، ولا نقول: بأنها منقولة من اللغة إلى معاني أحكام
الشريعة.
وقالت المعتزلة: هي منقولة ومعدولة عن موجباتها في اللغة.
وهذا قول فاسد؛ لأنه لو نقل الأسماء اللُّغوية إلى أحكام
شرعية كان مخاطبًا لهم بغير لغتهم، وقد قال تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 1،
وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2.
ولأنه لو كان منقولا لحصل البيان من النبي -صلى الله عليه
وسلم- في ذلك، كما حصل منه في غيره من الأشياء، ولما لم
ينقل ذلك، دل على أنه لم ينقل.
__________
1 "4" سورة إبراهيم.
2 "195" سورة الشعراء.
(1/190)
فصل:
في أسماء الأشياء هل حصلت عن
توقيف أم مواضعة؟:
فقيل في ذلك: يمكن أن يكون عرف ذلك بالتوقيف والوحي من
الله تعالى.
ويحتمل أن يكون عرف ذلك بمواضعة أهل اللغة ومواطأتهم على
ذلك.
ويمكن أن يكون بعضها مأخوذًا عن توقيف، وبعضها بالمواضعة.
وبعضها مستعملا بقياس على ما تكلم به أهل اللغة.
ويجوز أن يتفق لأهل اللغة أو لبعضهم: أن يتواطئوا على وضع
اسم لشيء قد وقف اللهُ عليه بعضَ من أعلمه ذلك، فتكون
المواضعة منهم موافقة للتوقيف.
(1/190)
ويجوز أن
يسمُوا الأشياء بغير الأسماء التي وصفها الله تعالى لها،
إذا لم يحصل منه حظر لذلك، فإن حظر ذلك لم يَجُزْ مخالفة
الاسم، ومتى لم يحظر ذلك كان للشيء اسمان: أحدهما موقف
عليه، والآخر متواضع عليه.
وقال قوم: جميع أسماء الأشياء في كل لغة أخذ من جهة توقف
الله تعالى لآدم، والتعليم له، إما بتولي خطابه، أو الوحي
إليه على لسان من يتولى خطابه وإفهامه.
وقال آخرون: جميع ذلك عرف من جهة مواطأة أهل اللغة.
والذي نختاره: ما ذكرناه أولا، وهو كلام أبي بكر عبد
العزيز من أصحابنا؛ لأنه فسر قوله تعالى: {وَعَلَّمَ
آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1، بما نذكره فيما بعد، ولم
يحمل الآية على عمومها.
فالدلالة على فساد قول من قال: إن جميعها توقيف هو: أنهم
إذا كانوا أحياء ناطقين، وكان الكلام والنطق منهم صحيحًا،
ويعرفون المعلومات، البعض منها ضرورة، والبعض منها نظرًا
وبحثًا، ويعرفون لما يعلمونه أمثالا، وربما غاب عنهم
الحاضر واحتاجوا إلى طلبه، وجب عند ذلك صحة نطقهم للحاجة
لمعرفة ذلك، وجرى مجرى اجتماع الخلق على أكل الطعام عند
الجوع، وشرب الماء واتقاء الحر والبرد.
فإن قيل: كيف يعرف مراد النطق بالأصوات، وهو لم يسبق له
التوقيف بمعرفة ذلك؟ قيل: يعرف ذلك ضرورة عند قوله: رجل
وإنسان، إذا تكرر ذلك وأتبعه [16/ ب] بالإشارة إليه
والإقبال عليه.
__________
1 "31" سورة البقرة.
(1/191)
ويبين صحة هذا
أنه لا يجوز أن تكون أحوال الناطقين الأصحاء العقلاء
أَدْوَنَ من الخرس في تأتي المواضعة منهم على معاني رموزهم
وإشاراتهم، وإن لم يتقدم لهم إشارات أُخَرُ وقفوا على
معناها؛ ولأن الله تعالى إذا أراد توقيفهم للمواضعة على
ذلك جمع عليها هممهم، ووفر دواعيهم، وسهل سبيل ذلك لهم.
وأما قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
: فذكر أبو بكر في كتاب التفسير فقال: وأولى بالصواب:
أسماء ذريته وأسماء الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق،
قال: وذلك أن الله تعالى قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ
هَؤُلاَءِ} يعني بذلك: أعيان المسمين؛ إذ لا تكاد العرب
تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، فأما
إذا كنّت عن أسماء البهائم، وسائر الخلق، سوى من وصفها،
فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت:
"عرضهن"، أو "عرضها". وكذلك تفعل إذا كنّت عن أصناف من
الخلق والبهائم والطير وسائر أصناف الأمم، وفيها أسماء بني
آدم والملائكة، تكني عنها بما وصفنا من الهاء والنون
والهاء والألف، لا كل بني آدم نحو قوله تعالى: {وَاللهُ
خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي
عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}
1، فكنى عنها بالهاء والميم؛ لأنها أصناف مختلفة، فيها
الآدمي.
وقيل في جواب ذلك: أن يدل على أنه علمها آدم ووقفه عليها،
وذلك لا يمنع المواضعة عليها مع تعليم آدم إيَّاها، ومع
بدل تعليمه لو ترك ذلك.
وقيل: إنه لم يخبر تعالى أنه وقف جميع الخلق على الأسماء،
وإنما أخبر أنه وقف آدم على ذلك، وليس فيه ما يمنع أن يكون
قد اتفق لأهل كل اللغة تواضعهم بما في مثل ما وقفه الله
عليه أو كثير منه.
__________
1 "45" سورة النور.
(1/192)
وقيل: يحتمل أن
يكون علّم آدم الأسماء كلها بلغة من اللغات مبتدأة له لم
ينطق بها أحد، وأن تكون الملائكة المخلوقة قبله قد كانت
تواضعت على أسماء لتلك الأشياء وتخاطب يتفاهمون به غير
الأسماء المبتدأة لآدم، فتكون لها أسماء وقف الله آدم
عليها، لا تعرفها الملائكة، وأسماء لها قد عرفتها الملائكة
بطريق التواضع.
وقيل: يحتمل أن يكون الله تعالى علّمه اسم كل شيء خلقه ذلك
الوقت من الملائكة والسموات وما خلقه في الجنة، ولم
يعلِّمه أسماء ما يحدثه ويخلقه من بعد، ويكون قوله:
{كُلَّهَا} على طريق التأكيد، أو يكون قوله: {كُلَّهَا} في
ذلك الوقت.
وقيل: إنه لم يخبر كيف علمه بأن وقفه أو أنطقه أو أقدره
على النطق وجميع دواعيه على مواضعة الملائكة على دلالة ما
ينطبق به، فإذا أقدره على ذلك، وخلق فيه العلم به وجمع همه
عليه كان له الأسماء، وإن لم يعلمه ذلك توقيفًا.
وهكذا الجواب عن قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1، و
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، معناه سمى
بعضه ، ودلّ على بعضه.
والذي يدل على أن الملائكة [17/ أ] كانوا مخاطبين
ومتواضعين على تخاطب أسماء يعرفونها قبل خلق آدم؛ قوله
تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} 3، الآية، وقوله لما خلقه وأحياه
وعلمه: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ
مَا عَلَّمْتَنَا} 4، فلو لم يكونوا عالمين بالخطاب
وبأسماء الأشياء، كيف كانوا يفهمون، ويجيبون، ويقولون؟!
__________
1 "89" سورة النحل.
2 "38" سورة الأنعام.
3 "30" سورة البقرة.
4 "32" سورة البقرة.
(1/193)
فصل 1 :
في حروف تتعلق بها أحكام
الفقه، ويتنازع في موجباتها المتناظران:
["الواو"]:
فمنها "الواو"، وله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون في العطف مثل قوله سبحانه: {فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} وهي توجب الجمع على قول
أصحابنا، ولهذا قالوا فيمن قال لامرأته التي لم يدخل بها:
أنت طالق وطالق، وقع عليها تطليقتان، كما لو قال: أنت طالق
طلقتين، وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من
قال: إنها توجب الترتيب.
والوجه في أنها لا توجب الترتيب: أنها تستعمل فيما لا يقع
فيه الترتيب، وهو قولهم: اشترك فلان وفلان، ولا يجوز أن
يقولوا: اشترك فلان ثم فلان.
ولأن قائلا لو قال: رأيت زيدًا وعَمْرًا، لم يفهم منه أنه
رأى زيدًا قبل عمرو3، ولو كان المفهوم منه الترتيب لوجب
إذا رآهما معًا أو رأى عمرًا قبل زيد، أن يكون كاذبًا في
خبره، ولوجب إذا قال: رأيت
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول،
الورقة "25"وما بعدها، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة
"16"، ما بعدها، و"أصول الجصاص" الجزء الأول "33" مخطوطة
الأزهر.
2 الآية "6" من سورة المائدة.
3 هذا معنى كلام المبرد الذي ساقه الجصاص في "أصوله" الجزء
الأول، الورقة "34"، إلا أن القاضي أبا يعلى أطال في
بيانه، وأدخل عليه الصناعة المنطقية.
(1/194)
زيدًا وعمرًا
معًا، أن يكون مناقضًا في كلامه، كما لو قال: رأيت زيدًا
ثم عمرًا، كان مناقضًا.
وأيضًا روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلا يقول:
ما شاء الله وشئت، فقال: "أمثلان أنتما؟! قل: ما شاء الله
ثم شئت"1، فلو كان الواو توجب الترتيب لكان قوله: وشئت،
وقوله: ثم شئت- سواء، وقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم-
بينهما، وأمره بأحدهما ونهاه عن الآخر، فعلم أن أحدهما
يوجب الجمع والآخر الترتيب.
واحتج من قال: إنها للترتيب، بما روي عن عدي بن حاتم2 أنه
قال: خطب رجل عند رسول الله
__________
1 هذا حديث روته: قتيلة بنت صيفي الجهنية. ويقال:
الأنصارية، مرفوعًا. أخرجه عنها النسائي في كتاب الأيمان
والنذور، باب الحلف بالكعبة "6/ 7" ولفظه: أن يهوديًّا جاء
إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنكم تنددون، وإنكم
تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة"
فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أرادوا أن يحلفوا
أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقولوا: ما شاء الله ثم شئت.
وأخرج أبو داود في كتاب الأدب، باب ما لا يقال: خبثت نفسي
"2/ 591" عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه
وسلم: أنه قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن
قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان" . وأخرجه عنه الإمام
أحمد "5/ 384، 394، 398" وإسناده صحيح.
2 هو عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، أبو طريف. أحد
المهاجرين، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة سبع،
كان سيدًا في قومه، وافر العقل، حاضر الجواب، كما كان
كريْمًا فاضلا، شهد مع علي -رضي الله عنه- الجمل وصفين
والنهروان، نزل الكوفة، وسكنها، وبها مات سنة: 68هـ، وله
مائة وعشرون سنة تقريبًا.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/ 1057"، و"الإصابة" القسم
الرابع، ص: 469" طبعة دار نهضة مصر.
(1/195)
صلى الله عليه
وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد
غوى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت، قل:
ومن يعص الله ورسوله" 1، وهذا يدل على أن الواو ترتيب؛ لأن
قوله: ومن يعصهما جمع من غير شك، ولا يجوز أن يكون المنهي
عنه هو المأمور [به].
والجواب: أنه إنما أمره بذلك لئلا يجمع بين ذكر الله تعالى
وذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كتابة واحدة؛ لأن ذلك
منهي عنه، ولهذا قال تعالى: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ
أَنْ يُرْضُوهُ} 2، ولم يقل يرضوهما3.
واحتج بما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال
لعبد بني الحسحاس4، لما أنشده [17/ ب]:
__________
1 هذا الحديث رواه عدي بن حاتم -رضي الله عنه- مرفوعًا.
أخرجه عنه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة
"2/ 594".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب منه، أي: من باب
لا يقال.. "2/ 952".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب النكاح، باب ما يكره من الخطبة
"6/ 74".
وراجع فيه أيضًا: "نيل الأوطار" "3/ 301".
2 "62" سورة التوبة. وقد نقل الآية هكذا: "أن ترضوه"
بالتاء والآية في المصحف كما أثبتناها.
3 في الأصل: "ترضوهما" بالتاء، غير أن الآية بالياء.
4 في الأصل "الجسجاس" بالجيم فيهما، وهو خطأ، والصواب: ما
أثبتناه. وهو سحيم عبد بني الحسحاس الحبشي، أدرك النبي
-صلى الله عليه وسلم، شاعر مخضرم، أنشد عمر بن الخطاب -رضي
الله عنه، له ديوان مطبوع. قيل: إنه قتل في خلافة عثمان
-رضي الله عنه- على يد بعض مواليه من بني الحسحاس؛ بسبب
تغزله في امرأة منهم.
له ترجمة في "الإصابة" "3/ 163، 164"، و"الأغاني" "20/ 2-
9"، و"طبقات الشعراء" "ص: 43، 156، 157".
(1/196)
عميرة ودع إن
تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا1
لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، وهذا يدل على أن الواو
للترتيب.
والجواب: أنه لم يقل هذا لأجل الترتيب، وإنما قال ذلك؛ لأن
البداية يجب أن تكون بالأهم فالأهم والأشرف، والإسلام أهم
وأشرف وأولى.
واحتج: بأن من أنفذ رسولين، وكتب بذكرهما كتابًا وقال:
أنفذت إليك فلانًا وفلانًا، اعتقد كل عالم باللغة أن
المبتدأ بذكره مقدم على الآخر في القدر والمحل.
والجواب: أنا لا نسلم هذا، بل نقول: إن المفهوم من هذا
الجمع بينهما في الرسالة.
الحال الثانية من أحوال الواو: أن يكون في القسم، فيكون
بدلا من الباء؛ لأن الأصل في القسم: أَحْلِفُ، أو أقسمُ
بالله، ثم حذفوا فقالوا: بالله لقد كان كذا، ثم جعلوا
"الواو" بدلا من "الباء"؛ لأن مخرجهما من الشفتين، فقالوا:
والله.
الحال الثالثة من أحوالها: أن تكون الواو في ابتداء الكلمة
مثل قولهم:
__________
1 هذا البيت مطلع قصيدة قالها الشاعر سحيم عبد بني
الحسحاس، ورواية الديوان "ص: 16" للبيت موافقة لما أورده
المؤلف، غير أن ابن حجر ذكر البيت في كتابه: "الإصابة" "3/
163، 164" هكذا:
ودع سليمى إن تجهزت غاديا....
والبيت مذكور في: "حاشية الأمير" على المغني "1/ 99".
(1/197)
ومهمهٍ
مغبرَّةٍ أرجاؤه1
وهذه الواو بدل من "رب"، فكأنه قال: رب مهمه، ولا يجوز هذا
إلا في الشعر، ولا يجوز في غيره.
وقد تكون بمعنى "أو"، قال تعالى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ
وَرُبَاعَ} 2.
__________
1 هذا الرجز للشاعر رؤبة بن العجاج، وبعده:
كأن لون أرضه سماؤه
انظر: "ديوان رؤبة" "ص: 4"، و"التصريح على التوضيح" "2/
339".
2 "3" سورة النساء.
(1/198)
[الفاء]:
وأما "الفاء" فللتعقيب، قال سيبويه1: إذا قال: رأيت زيدًا
فعَمْرًا، يجب أن تكون رؤيته لعمرو عقيب رؤيته لزيد، ولأن
"الفاء" تدخل في الجزاء والشرط؛ لأن مثل الجزاء أن يكون
عقيب الشرط، فلما كان "الفاء" للتعقيب اختص به دون الواو،
فقيل: إذا فعل فلان كذا، فافعل كذا، ولا يجوز أن يقال
بالواو؛ لأن الواو لا توجب التعقيب2.
__________
1 هو عمرو بن عثمان بن قنبر، أبو بشر، المعروف بسيبويه،
إمام المدرسة البصرية في النحو بلا منازع، أخذ عن الخليل
وأبي الخطاب الأخفش وغيرهما.
أَلَّفَ "الكتاب" في النحو. مات سنة: 180، بالبيضاء وعمره
اثنان وثلاثون عامًا. وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "بغية الوعاة" "2/ 231"، و"البداية والنهاية"
"10/ 176"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء" "ص: 71".
2 ومن معانيها أيضًا: الترتيب معنوي أو ذكري, وأنكره
الفراء. واستثنى الجرمي من إفادتها الترتيب البقاع
والأمطار، لمجيء الأول في قول امرئ القيس: "بين الدخول
فحومل"، ولمجيء قولهم: مطرنا مكان كذا، فكان كذا. ومن
معانيها: السببية كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى
عَلَيْهِ} "15" سورة القصص.
انظر: "المغني" لابن هشام بحاشية الأمير "1/ 139- 143"،
و"شرح الكوكب المنير" "ص: 75، 76".
(1/198)
[ثم]: 1
وأما "ثم" فهو للفصل مع الترتيب2، فإذا قال: رأيت فلانًا
ثم فلانًا، اقتضى أن
يكون الثاني متأخرًا عن الأول في الرؤية.
ولهذا يحتج أصحابنا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
قَالُوا} 3، أن ذلك يقتضي أن يكون العود: العزم على الوطء.
__________
1 راجع: مبحث "ثم" في "أصول الجصاص" "1/ 39" مخطوطة
الأزهر، أو "ص: 9" مخطوطة الدار، وهناك اختلاف كبير بين ما
هنا، وبين ما هناك، وراجع أيضًا: "المسودة" "ص: 356".
2 قوله: "مع الترتيب" خالف في ذلك قوم. انظر: "المغني"
لابن هشام مع حاشية الأمير "1/ 107"، و"جمع الجوامع" وشرحه
"1/ 345".
3 "3" سورة المجادلة.
(1/199)
[أو]: 1
وأما "أو" فله ثلاثة أحوال:
إذا كان في الخبر والاستخبار فهو للشك، تقول: أعندك زيد
أو عمرو؟ وتقول: عندي
زيد أو عمرو، فيكون المخبر والمستخبر شاكين فيه.
__________
1 انظر "أصول الجصاص" الورقة "9" مخطوطة الدار.
(1/199)
وإذا كان في
الأمر والطلب1 يكون للتخيير2 كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ
إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ} 3.
وإذا كان في النهي4 فقد قيل: يكون للجمع كقوله تعالى:
{وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} 5.
وقيل: يكون للتخيير؛ لأن النهي أمر بالترك، وأينما تركه
كان مطيعًا، وهو الصحيح6.
وقد تكون للإباحة، تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين.
__________
1 عطف الطلب على الأمر، من عطف العام على الخاص، وإلا
فالأمر نوع من أنواع الطلب.
2 قد قيل في ضبطه: ما يمتنع فيه الجمع.
3 "89" سورة المائدة.
4 وفي هذا يقول ابن هشام: وإذا دخلت "لا" الناهية، امتنع
فعل الجميع..." "المغني" مع "حاشية الأمير" "1/ 60".
5 "24" سورة الإنسان.
6 مراد المؤلف: الاستعمال في اللغة بغض النظر عن وجود مانع
شرعي كما في الآية التي مثل بها. وإذا أردت الاستزادة في
بيان معاني "أو" فراجع: "المغني" لابن هشام "1/ 59، 60"،
و"شرح الكوكب المنير" "ص: 83، 84"، و"الإحكام" للآمدي "1/
65، 66"، و"جمع الجوامع" مع شرح الجلال عليه "1/ 336-
338"، و"المنخول" "ص: 90، 91".
(1/200)
[الباء]:
1
وأما "الباء" فهي للإلصاق2 [18/ أ] فإذا قلت: مررت بزيد،
__________
1 تكلم عنها الجصاص في "أصوله" بكلام مختصر، وذلك في
الورقة "10" مخطوطة دار الكتب المصرية.
2 أي حقيقة كان الالصاق أم مجازًا، مثال الأول:
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ومثال الثاني: "مررت بزيد".
وهي تأتي للإلصاق خالصة، وتأتي لغيره مشوبة به، ولذلك
اقتصر سيبويه عليه.
(1/200)
فإن الباء تلصق
المرور بزيد. وإذا قلت: كتبت بالقلم، فإن الباء تلصق
الكتابة بالقلم1.
ولهذا منع أصحابنا الاحتجاج بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ} 2 على جواز مسح بعض الرأس، وقالوا: الباء
تفيد الإلصاق دون التبعيض؛ لأن الباء تستعمل فيها فيما لا
يصلح فيه التبعيض وهو قولهم: استعنت بالله، وتزوجت بامرأة،
ولا يجوز أن يقال: "استعنت ببعض الله"؛ لاستحالة ذلك عليه
سبحانه، ولا: مررت ببعض امرأة. ومنه قوله -صلى الله عليه
وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين" 3، ولا يجوز التبعيض في
ذلك.
__________
1 الأظهر فيها هنا: أن تكون للاستعانة؛ لأنها داخلة على
آلة الفعل، وهذا لا ينفي وجود معنى الملاصقة. "المغني"
لابن هشام "1/ 97".
2 "6" سورة المائدة.
3 حديث صحيح بطرقه وشواهده، رواه ابن عباس -رضي الله
عنهما- أخرجه عنه الدارقطني في "سننه" في كتاب النكاح "3/
221، 222" بلفظ: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وأيما
امرأة أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل" ثم قال: رفعه
عدي بن الفضل، ولم يرفعه غيره.
وأخرجه عنه الشافعي في كتاب النكاح، باب لا يصح النكاح إلا
بولاية رجل "2/ 317" بلفظ: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"
.
وأخرجه ابن حبان بسنده إلى عائشة -رضي الله عنها- وذلك في
كتاب النكاح، باب ما جاء في الولي والشهود من: "زوائد ابن
حبان للهيثمي "ص: 305".
وأخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنه- البيهقي في كتاب
النكاح، باب لا نكاح إلا بولي "7/ 112"، كما أخرجه عن علي
-رضي الله عنه "7/ 111".
وانظر: "نصب الراية" "3/ 183، 190"، و"تلخيص الحبير" "3/
162"، و"المستدرك" "2/ 169"، و"سنن البيهقي" "7/ 105،
107".
(1/201)
ومن أصحاب
الشافعي من قال: إذا كان الفعل يتعدى من غير الباء، فلا
يحتاج إليها للإلصاق، فوجب حمله على التبعيض1؛ لأن حمل كل
حرف من القرآن على ما يفيد أولى، وقد استوفينا الكلام على
هذا في غير هذا الموضع2.
__________
1 وممن قال بأن الباء تأتي للتبعيض الأصمعي والفارسي
والقتيبي وابن مالك، كما ذكر ذلك ابن هشام في "المغني" "ص:
1/ 98" مع حاشية الأمير.
2 هناك معانٍ كثيرة للباء، فصَّل القول فيها ابن هشام في
"المغني" "1/ 95- 103".
(1/202)
[من،
وإلى]:
وأما "من" فهي لابتداء الغاية، و"إلى" لانتهاء الغاية،
تقول: سرت من الكوفة إلى البصرة، أي: ابتدأت بالسير من
الكوفة وانتهيت إلى البصرة1.
وقد تستعمل من للتبعيض كقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 2، وكقولك: اختر من هؤلاء الرجال،
واقبض من هذه الدراهم، وكل من هذا الطعام، واشرب من هذا
الماء.
وإذا حلف لا يأكل من هذا الرغيف، ولا يشرب من هذا الماء،
حنث بالبعض.
__________
1 "من" تكون لابتداء الغاية في المكان باتفاق، وفي الزمان
عند الكوفيين والأخفش والمبرد وابن درستويه، واختاره ابن
مالك وأبو حيان، وذلك كقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى الْتَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ، راجع: "المغني"
لابن هشام "2/ 14"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 77".
2 "6" سورة المائدة.
(1/202)
وتستعمل "إلى"
بمعنى "مع" كقوله1: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}2
معناه: مع المرافق. وهذا المعنى يحتاج إلى الدليل، ولهذا
إذا قال: بعتك كذا على أنك بالخيار إلى الليل، أن الليل لا
يدخل في الخيار، خلافًا لأبي حنيفة3، وإحدى الروايتين عن
أحمد -رحمه الله- أنه يدخل فيه؛ لأن الظاهر من "إلى"
لانتهاء الغاية4.
__________
1 كان الأولى أن يمثل المؤلف بقوله تعالى: {وَلاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي، مع
أموالكم.
وفي الآية التي مثل بها المؤلف في كون "إلى" بمعنى "مع"
خلاف:
1- فذهب القاضي أبو يعلى وآخرون إلى أنها بمعنى "مع".
2- وذهب آخرون إلى أنها ليست بمعنى "مع". ووجهوا الآية
بتوجيهات منها:
أ - أن ما بعد "إلى" إنما أدخل من باب الاحتياط.
ب- أو أن اليد مشتبكة مع العظم، ولا يمكن غسلها إلا بغسله.
ج- أو أن الآية مجملة، بيَّنَها الرسول -صلى الله عليه
وسلم- بفعله.
د - أو أن "إلى" غاية للسقوط، وذلك أن صدر الكلام متناول
للغاية وهو اليد، فإنها اسم لها من أطراف الأصابع، فكانت
"إلى" لإسقاط ما وراء المرافق لا لمد الحكم إليها. أفاده
التفتازاني في "شرح التنقيح" "1/ 117".
2 "6" سورة المائدة.
3 راجع: "التلويح" على "شرح التوضيح" "1/ 117، 118"، فإنه
ذكر ذلك ووجَّهَهُ.
4 هناك معانٍ كثيرة لمن، فصَّل القول فيها ابن هشام في
"المغني" "2- 14- 16".
(1/203)
[على]:
وأما "على" فإنه للإيجاب، فإذا قال رجل: لفلان عليَّ كذا،
حكم
(1/203)
بوجوبه عليه1.
__________
1 هناك معانٍ أُخَرُ لعَلَى، راجعها -إن شئت- في "المغني"
لابن هشام "1/ 125- 127".
(1/204)
[في]:
وأما "في" فهو للظرف1، فإذا قال: لفلان عليّ ثوب
في منديل أو تمر في
جراب، لم يدخل الظرف في الإقرار2.
__________
1 ذكر ابن هشام لـ"في"، عشرة معانٍ، وذلك في كتابه
"المغني" "1/ 145، 146".
2 وعند الحنفية يدخل الظرف. انظر: "أصول الجصاص" الورقة
"10/ أ" مخطوطة دار الكتب المصرية.
(1/204)
[اللام]:
و"اللام"1 تكون للتمليك كقولك: دار لزيد2.
وتكون للتعليل كقوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللهِ حُجَّةٌ} 3.
وتكون للعاقبة والصيرورة كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 4،
ومعناه: صار في العاقبة عدوًّا وحزنًا.
__________
1 اللام الجارة، لها
اثنان وعشرون معنىً: انظر "المغني" لابن هشام "1/ 175-
183".
2 في الأصل "دار زيد" والصواب: ما أثبتناه. ثم هذا المثال
إنما يصلح للتملك، أما مثال التمليك فهو: وهبت المال لزيد.
3 "165" سورة النساء.
4 "8" سورة القصص.
(1/204)
وتكون للجهة؛
قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينَ} 1 الآية أحكم2 جهة للمصرف.
والنكرة في النفي تقتضي جميع الجنس، وفي الإثبات بعض
الجنس، فإذا قال: والله لا آكل طعامًا، كفَّ عن جميع الجنس
قليله وكثيره، فأي قدر من الطعام أكل، حنث. وإذا قال:
والله لآكلن طعامًا، لم يجب أن [18/ ب] يأكل جميع الجنس.
وإذا أكل ما يقع عليه اسم الطعام برَّ في يمينه.
__________
1 "60" سورة التوبة.
2 قراءة هذه الكلمة اجتهادية.
(1/205)
[إنما]:
و"إنما" للحصر1. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "وإنما
لكل امرئ ما نوى" 2 يقتضي أن جميع ما للمرء هو الذي نواه،
وأن ما لم ينوه ليس
__________
1 خالف الآمدي وأبو حيان والطوفي في إفادتها للحصر. وما
ذكره المؤلف هو رأي الجمهرة من العلماء، ولم يصرح المؤلف
هنا بأي جهة تفيد الحصر: أبجهة النظق أم بجهة الفهم؟ ولكن
أبا البقاء الفتوحي نقل عنه أنه يقول: إنها تفيد الحصر
بطريق الفهم. وهذا هو رأي ابن عقيل والحلواني الحنبليين.
وهناك من الحنابلة من قال: إنها تفيد الحصر بطريق النطق،
ومنهم: أبو الخطاب وابن المنى والموفق والفخر وأبو البقاء
الفتوحي. راجع: "شرح الكوكب المنير" "ص: 250، 251".
2 هذا جزء من حديث رواه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في باب كيف كان بدء الوحي "1/
4"، وأخرجه عنه في كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في
العتاق والطلاق ونحوه "3/ 180، 181"، كما أخرجه عنه في
كتاب الإيمان، باب النية في الإيمان "8/ 175".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإمارة، باب قوله -صلى الله عليه
وسلم: "إنما الأعمال
(1/205)
له. وكذلك قوله
عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق" 1، يقتضي أن جنس
الولاء للمعتق، ومن لم يعتق فليس له ولاء.
__________
= بالنية" وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال "3/ 1515،
1516".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطلاق، باب فيما عني به
الطلاق والنيات "1/ 510".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب النية "2/ 1413".
وأخرجه الترمذي عنه في كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن
يقاتل رياء وللدنيا "4/ 179" وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء
"1/ 51"، وفي كتاب الطلاق، باب الكلام إذا قصد به فيما
يحتمل معناه "6/ 129"، وفي كتاب الأيمان والنذور، باب
النية في اليمين "7/ 12".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" "1/ 25، 43".
وأخرجه الطيالسي عنه في القسم الرابع من الكتاب، قسم
الترغيب في الأعمال الصالحة "2/ 27".
وأخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب الطهارة، باب النية
"1/ 50، 51",
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية" "1/ 301"،
و"تلخيص الحبير" "1/ 55"، و"ذخائر المواريث" "3/ 44".
1 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-
مرفوعًا. أخرجه عنها البخاري في عدة مواضع هي:
1 في كتاب الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في
المسجد "1/ 116، 117".
2 في كتاب الشروط، باب الشروط في البيع "3/ 234، 235"، وفي
باب مايجوز من شروط المكاتب إذا رضي بالبيع على أن يعتق
"3/ 237"، وفي باب الشروط في الولاء "3/ 237" وفي باب
المكاتب وما لا يحل من الشروط "3/ 245".
3 في كتاب الأطعمة، باب الأدم "7/ 100".
(1/206)
..........................................
__________
4 في كتاب الفرائض، باب الولاء لمن أعتق عن ابن عمر -رضي
الله عنهما "8/ 191".
5 في كتاب الفرائض، باب ما يرث النساء من الولاء "8/ 193".
6 في كتاب الفرائض، باب إذا أسلم على يديه الرجل "8/ 193".
7 في كتاب الطلاق، باب لا يكون بيع الأمة طلاقًا "7/ 61".
8 في كتاب الكفارات، باب إذا أعتق في الكفارة لمن يكون
ولاؤه "8/ 182".
9 في كتاب النكاح، باب الحرة تحت العبد "7/ 11".
10 في كتاب الزكاة، باب الصدقة على أموال أزواج النبي -صلى
الله عليه وسلم "2/ 150، 151".
11 في كتاب البيوع، باب البيع والشراء مع النساء "3/ 89".
12 في كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل
"3/ 91".
وأخرجه عنها مسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق
"2/ 1141- 1145".
وأخرجه الترمذي عنها في كتاب الولاء والهبة، باب ما جاء أن
الولاء لمن أعتق "4/ 437".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا
عتقت "1/ 671".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب العتق، باب بيع المكاتب إذا
فسخت الكتابة "2/ 346، 347".
وأخرجه عنها النسائي في كتاب البيع، باب المكاتب يباع قبل
أن يقضي من كتابته شيئًا "7/ 269".
وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الطلاق، بابُ تخييرِ الأَمَةِ
تكون تحت العبد فتعتق "2/ 90، 91".
وأخرجه الدارقطني عنها في كتاب النكاح "3/ 294".
وأخرجه الطيالسي عنها في كتاب العتق، باب الشروط في العتق
"1/ 244".
وأخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب العتق، باب ما جاء في
ولاء المعتق ولمن يكون "1/ 140" .
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية" "4/ 149، 150"
و"تلخيص الحبير" "4/ 213"، و"بلوغ المرام" "ص: 181"،
و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 529، 530".
(1/207)
وقال بعض أهل
خراسان: "إنما" لإثبات ما اتصل به ونفي ما عداه.
ومنهم من قال: لتحقيق المتصل به، وتمحيق المنفصل عنه.
ويرجع معنى الجميع إلى ما ذكرته من الحصر.
(1/208)
فصل:
في قيام بعض حروف الصفات مقام
بعض:
قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}
1، أي: على جذوع النخل. وقال العبد2:
هُمُ صلبوا العبدي3 في جذع نخلة4.
__________
1 "71" سورة طه.
2 الشاعر ليس العبد، كما ذكر المؤلف، وإنهما هو سويد بن
أبي كاهل، كما سيأتي بيان ذلك.
3 في الأصل: "العمري"، والتصويب من المراجع الآتي ذكرها في
تخريج البيت.
4 هذا صدر بيت، وعجزه هو:
فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
والبيت ذكره ابن جرير الطبري في تفسيره عند الكلام على
قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}
"16/ 188"، ولم ينسبه لأحد. كما ذكر البيت ابن منظور في
كتابه: اللسان، مادة "عبد" "4/ 267" ونسبه إلى سويد بن أبي
كاهل. والبيت عنده: وهم صلبوا... إلخ بزيادة "واو" في
أوله.
وقد استشهد به ابن هشام على مجيء "في" للاستعلاء "ص: 224"
من كتابه المغني، تحقيق الدكتور: مازن المبارك وصاحبه.
(1/208)
"الباء" مكان
"عن" قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} 1، أي اسأل
عنه. قال علقمة بن عبدة2:
فإنْ تَسْأَلُوني بِالنِّساءِ فإِنَّني ... عليمٌ
بأدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ3
"عن" مكان "الباء" قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوَى} 4، أي: بالهوى5، والعرب تقول: رميت بالوتر6.
__________
1 "59" سورة الفرقان.
2 هو علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس بن عبيد، شاعر جاهلي،
عدَّه ابن سلام من الطبقة الرابعة، ينازع امرأ القيس
الشعر. يسمى: علقمة الفحل؛ لتفضيل زوج امرئ القيس له على
زوجها، فطلقها امرؤ القيس، فتزوجها علقمة من بعده.
انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" "1/ 218- 222"، وطبقات
الجمحي "ص: 115- 117".
3 هذا البيت ذكره ابن قتيبة في ترجمة علقمة، مع بيتين
آخرين وقال: إنها من جيد شعره، إلا أنه أتى بكلمة: بصير،
بدل كلمة: عليم ، والبيتان الآخرن هما:
إذا شابَ رأْسُ المرءِ أو قلَّ مالُهُ ... فليسَ لهُ في
وُدِّهِنَ نَصِيبُ
يردنَ ثَراءَ المالِ حَيثُ علِمْنَهُ ... وشَرْخُ
الشَّبابِ عِندهُنَّ عجيبُ
انظر: الشعر والشعراء "1/ 218- 222"، والبيان والتبيين "3/
329"، والمفضليات "ص: 329"، وشرح اختيار المفضل "ص: 1582".
4 "3" سورة النجم.
5 وقيل: إن "عن" على أصلها، والمعنى: ما يصدر قوله عن هوى،
المغني لابن هشام "1/ 130".
6 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "عن الوتر" حتى يتم
الاستدلال.
(1/209)
"اللام" مكان
"على" قال تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْل} 1 أي:
لا تجهروا عليه بالقول. والعرب تقول: سقط فلان لِفِيهِ،
أي: على فيه. قال الشاعر:
فخرَّ صريعًا لليدين وللفَمِ2
"إلى" مكان "مع" قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم} 3 أي: مع أموالكم.
ومثله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} 4. تقول العرب:
"الذود إلى الذود إبل" أي: مع الذود.
"اللام" مكان "إلى" قال تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى
لَهَا} 5 أي: إليها.
"على" مكان "من" قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا
عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} 6، أي: من الناس. ومنه قوله
تعالى: {الَّذِينَ اسْتَحَق
__________
1 "2" سورة الحجرات.
2 هذا عجز بيت جاء في عدة قصائد لعدة شعراء، ولذلك اختلف
صدر البيت، فقد نسب لربيعة بن مكدم، وروايته:
وهَتَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ إِهَابَهُ ... فهَوى
صَرِيعًا لليدَينِ وَلِلْفَمِ
ونسب لجابر بن حني التغلبي، وروايته:
تناوله بالرُّمْحِ ثمَّ انْثَنَى لَهُ ... فَخَرَّ
صَرِيعًا لليدَينِ ولِلْفَمِ
ونسب إلى عكبر بن حديد، وروايته:
وضَمَمْتُ إِلَيهِ بالسِّنانِ قَمِيصَهُ...
انظر: الأمالي "2/ 272"، وشرح اختيارات المفضل الضبي "ص:
955". والمغني لابن هشام مع حاشية الأمير "ص: 781".
3 "2" سورة النساء.
4 "52" سورة آل عمران.
5 "5" سورة الزلزلة.
6 "2" سورة المطففين.
(1/210)
عَلَيْهِمُ
الأَوْلَيَانِ} 1 أي: استحق منهم.
"من" مكان "الباء" قال تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ
اللَّه} 2، أي: بأمر الله.
وقال سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ} 3، أي :
بكل أمر.
"الباء" مكان "من" تقول العرب: شربت بماء كذا، أي: من ماء
كذا.
قال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه} 4.
معناه: يشرب منها. قال عنترة 5:
شَرِبَتْ بِمَاءِ الدُّحرضين فَأَصْبَحَت ... زوراءَ تنفر6
عن حياض الديلم7
__________
1 "107" سورة المائدة.
2 "11" سورة الرعد.
3 "4" سورة القدر.
4 "6" سور الإنسان.
5 هو عنترة بن عمرو بن شداد بن عمرو بن قراد العبسي، فارس
مشهور. يضرب به المثل في الشجاعة، شاعر جاهلي، أمه حبشية،
اسمها: زبيبة. كان كريمًا جوادًا، عشق ابنة عمه عَبْلة،
وقصتهما مشهورة، له ديوان مطبوع، مات سنة: 600م، تقريبًا.
انظر ترجمته في: الأعلام "5/ 269"، والشعر والشعراء "1/
250".
6 في الأصل: "تنفي"، والتصويب من مصدري تخريج البيت
الآتيين.
7 هذا البيت موجود في ديوان عنترة "ص: 21"، كما هو موجود
في شرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري "ص: 324".
(1/211)
والديلم:
الأعداء.
وقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ
اللَّهِ} 1 أي من2 علم الله.
"من" مكان "في" قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا
مِنْ الأَرْض} 3، أي: في الأرض.
"من" مكان "على" قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ
الْقَوْم} 4، أي: على القوم.
"عن" مكان "من" قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ
التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} 5، أي: من عباده.
"من" مكان "عن" [19/ أ] تقول: من لفلان، أي: عنه.
"على" مكان "عند" قال تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} 6
أي: عندي.
"الباء" مكان "اللام" قال تعالى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا
إِلاَّ بِالْحَقِّ} 7، أي: إلا للحق.
__________
1 "14" سورة هود.
2 في الأصل: "في"، وهو خطأ؛ لأن التمثيل لإنابة "الباء" عن
"من".
3 "40" سورة فاطر.
4 "77" سورة الأنبياء.
5 "25" سورة الشورى.
6 "14" سورة الشعراء.
7 "39" سورة الدخان.
(1/212)
فصل:
في بيان أبواب أصول الفقه:
من ذلك الأمر والنهي؛ لأنه وضع للإيجاب والإلزام، وهو أبلغ
منازل الخطاب؛ ولأن الأمر قد يقع خاصًّا، وأصل الكلام
الخصوص، والعموم داخل عليه، كما أن أصله التخفيف، والتثقيل
داخل عليه، وتقديم ما هو أصل الكلام أولى، ثم يليهما
العموم، ثم الخصوص، ثم المجمل، ثم المفسر، ثم الناسخ
والمنسوخ، ثم الأخبار، ثم بيان الأفعال، ثم الإجماع، ثم
القياس والاجتهاد وما يتعلق بذلك من الاستخراج، ثم بيان
صفة المفتي والمستفتي، ثم بيان الحظر والإباحة، فكان
الواجب تقديم ما هو أهم فيما يقصد بذكر أصول الفقه، وتأخير
ما يعود إلى العقول، مثل إثبات حجج العقول وإثبات أحكامها.
والأولى في هذا الباب تقديم الكلام في المعاني؛ لأن أصول
الفقه إذا كانت أصول الشرع، والأقوال في الشريعة هي أصول
الفقه، والمعاني مفهومة بها، إما باستخراج منها أو تنبيه.
والأولى تقديم الأصل مثل الأمور العقلية إذا وقع الكلام
فيها، كان تقديم الكلام في أصولها أولى.
ولا يجوز أن يقال: لما كان الكلام متى وقع في الدليل وجب
تقديم المعاني، كذلك في مسألة الأوامر؛ لأن ما يستفاد
بالدليل طريقه النظر والاستدلال، فالواجب أن يعلم أولا، ثم
يعبر عنها. فكان الكلام في معنى الدليل الذي هو الأصل أولى
من العبارة عنه. كذلك الأصل في المعاني الشرعية، لما كان
الأقوال كان تقديمها أولى.
(1/213)
|