العدة في أصول الفقه
باب الأوامر
1 : مسألة [صيغة الأمر]:
للأمر صيغة مبينة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرًا،
إذا تعرَّت عن القرائن. وهي قول القائل لمن دونه: افعل كذا
وكذا.
خلافًا للمعتزلة في قولهم: الأمر لا يكون أمرًا لصيغته،
وإنما يكون أمرًا بإرادة الآمر له2.
وخلافًا للأشعرية في قولهم: الأمر لا صيغة له3، وإنما هو
معنىً قائم
__________
1 راجع في هذا الباب: "الواضح في أصول الفقه" الجزء
الثاني، الورقة "1" وما بعدها، و"التمهيد" الورقة "18/ أ"
وما بعدها، و"المسودة" "ص: 4" وما بعدها، و"شرح الكوكب
المنير" "ص: 317- 337" من الملحق.
2 انظر "المغني" للقاضي عبد الجبار "17/ 107" "قسم
الشرعيات"، و"المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/ 50".
3 قوله: "خلافًا للأشعرية..." هذا القول غير محرر، فإن بعض
الأشاعرة قالوا: لا صيغة للأمر تخصه، وبعضهم قالوا: إن له
صيغة تخصه.
ونقل عن الشيخ أبي الحسن الأشعري القول بالنفي، وفسر ذلك
بتفسيرين: الأول: المراد به الوقف. =
(1/214)
في النفس لا
يفارق الذات، وهذه الأصوات عبارة عنه.
وخلافًا لبعض متأخري أصحاب الشافعي في قوله: الفعل يسمى
أمرًا في الحقيقة.
وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذه الفصول، فقال في رواية
حنبل1: "أمر الله -عز وجل- العباد بالطاعة، وكتب عليهم
[19/ ب] المعصية؛ لإثبات الحجة عليهم، وكتب الله على آدم
أنه يصيب الخطيئة قبل أن يخلقه"، وهذا يدل من قوله على أن
الأمر لا يعتبر فيه الإرادة للآمر؛ لأن كتبه المعصية ضد
الأمر بالطاعة؛ لأن ما كتبه حتم لا بد من وجوده، فعلم أن
ما أمر به من الطاعة لم يكن مريدًا له؛ لأنه كتب ضده.
وقال -في رواية يعقوب بن بختان والمروذي وعبد الله: "تكلم
ربنا -تبارك وتعالى- بصوت، وهذه الأحاديث كلها جاءت". وذكر
حديث
__________
= وتعقب بأن الوقف لا ينتج النفي.
وأجيب عن هذا: بأن المراد بالنفي ما يشمل عدم الجزم.
الثاني: بأنه قال ذلك؛ لوجود الاشتراك في المعاني التي ورد
بها.
وخَطَّأَ إمامُ الحرمين والغزاليُ من نقل ذلك عن الشيخ أبي
الحسن. وردَّه الآمدي ارجع إلى: "جمع الجوامع" مع شرح
الجلال عليه مع "حاشية البناني" "1/ 371، 372"، و"الإحكام"
للآمدي "2/ 131".
1 هو حنبل بن إسحاق بن حنبل، أبو علي الشيباني، ابن عم
الإمام أحمد وتلميذه. وثَّقَه الدارقطني، روى عن أحمد
مسائل جياد. توفي بواسط سنة: 273هـ.
له ترجمة في: الإنصاف للمرداوي "12/ 284"، وتاريخ بغداد
"8/ 286"، وتذكرة الحفاظ "2/ 600"، وطبقات الحفاظ "ص:
268"، وطبقات الحنابلة "1/ 143- 145"، والمدخل لابن بدران
"ص: 207".
(1/215)
عبد الله "إذا
تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء"1، وذكر الحديث.
وهذا يدل من قوله على أن الأمر هو الأصوات المسموعة؛ لأنه
بَيَّن أن كلام الله تعالى الذي هو الأمر والنهي كان بصوت
مسموع.
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم2: "الأمر من النبي سوى
الفعل؛ لأن النبي قد يفعل الشيء على جهة القصد، وقد يفعل
الشيء هو له خاص، وأمره بالشيء للمسلمين". وهذا يدل من
قوله -رضي الله عنه: أن الفعل ليس بأمر؛ لأنه فرق بين فعله
وبين قوله الذي هو الأمر، وجعل الأمر مقتضيًا للوجوب،
والفعل محتملا للخصوص.
والدلالة على أنه يكون أمرًا لصيغته لا لإرادة الآمر:
أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده، ولم يرد منه الذبح؛
لأنه لو أراد منه الذبح لم يجز أن يمنعه منه عند المخالف.
وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز في آخر "كتاب القدر" قصة
إبراهيم، وقال: قد يأمر بما لا يريد أن يكون، أو علم أنه
لا يكون، ولا يكون مغلوبًا ولا مقهورًا مع علمه به أنه لا
يكون، وإنما يكون مغلوبًا لو لم يعلم أنه لا يكون.
فإن قيل: لم يأمره بالذبح، وإنما كان أمره بمقدمات الذبح
من الإضجاع وغيره . قيل: هذا خلاف نص القرآن؛ لأن الله
تعالى أخبر
__________
1 هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-
مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في القرآن
"2/ 536، 537" وإسناده قوي.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: الفتح الكبير "1/ 95".
2 هو إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري، أبو يعقوب. من
أصحاب الإمام أحمد الذين خدموه، وتتلمذوا عليه، ونقلوا عنه
مسائل كثيرة. وصفه الخلَّال بالدين والورع. ولد سنة:
218هـ، ومات ببغداد سنة: 275هـ.
له ترجمة في طبقات الحنابلة "1/ 108، 109".
(1/216)
عنه بقوله:
{يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} 1، فدل على أنه كان مأمورًا
بذبحه؛
ولأن الله تعالى قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم} 2،
ولا يصح الفداء بالذبح إلا أن يكون مأمورًا بذبح الابن؛
ولأنه لو كان مأمورًا بمقدمات الذبح، لكان إبراهيم -صلى
الله عليه- قد فعل ما أمر به، فلا يكون للفداء معنى؛
ولأنه ليس في المقدمات بلاء مبين، فلما عظَّم الله سبحانه
البلوى به، فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ
الْمُبِين} 3، وقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ
الصَّابِرِين} ولا يحتاج في الإضجاع إلى الصبر، دلَّ على
أن المأمور به كان الذبح.
فإن قيل: نسلم أنه كان مأمورًا بالذبح، وقد فعله إبراهيم
-صلى الله عليه- ولكنه كلما قطع منه جزءًا التحم واندمل،
فلم يمت بالذبح.
قيل: لو كان كذلك لم يصح الفداء بالذبح؛ لأنه إذا فعل
المأمور به لم يكن له فداء؛ ولأن هذا لو كان صحيحًا لوجب
أن يكون قد فعل، ويكون له ذكر في القرآن؛ لأنه من الإعجاز،
مثل إحياء الموتى، ويكون ذكره أهم من ذكر سائر ما ذكر في
[120/ أ] القرآن، فدل على أنه لا أصل له.
وأيضًا قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا
أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 4 فمنها
دليلان:
__________
1 "102" سورة الصافات.
2 "107" سورة الصافات.
3 "106" سورة الصافات.
4 "40" سورة النحل. والآية في الأصل: "إنما أمرنا لشيء"،
وهو خطأ.
(1/217)
أحدهما: أنه
تعالى أخبر أن "كن" بمجردها أمر.
والثاني قوله: {إِذَا أَرَدْنَاه} وهذا يقتضي أنه قد يوجد
أمر بإرادة وغير إرادة، ولولا ذلك ما كان؛ لقوله: {إِذَا
أَرَدْنَاه} معنىً.
وعند المعتزلة: ذكره الإرادة لا تأثير له؛ لأنه لا أمر
يوجد إلا بإرادة الآمر.
فإن قيل: المراد بهذه ما ينشأ خلقه، ويستأنف إحداثه
وإيجاده، وليس المراد ما اختلفنا فيه.
قيل: هذا عام في الجميع.
وأيضًا: قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"من حلف، فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك" 1،
وهذا يدل على أنه إذا قال: لأقضين دينك غدًا -إن شاء الله-
ولم يقضه، أنه لا يحنث في يمينه، وكان مأمورًا بقضاء دينه،
فلو كان الله تعالى قد شاء ما أمره به، وجب أن يحنث في
يمينه.
وأيضًا: فإن استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه أمر، وكل
أمر استدعاء، وما ليس باستدعاء من أنواع الكلام فليس بأمر،
فدلَّ هذا على أن الأمر إنما كان أمرًا لكونه استدعاء،
وهذا كما نقول في الخبر: إنما كان خبرًا؛ لأنه يدخله الصدق
والكذب؛ لأنَّا وجدنا كل خبر يدخله الصدق أو الكذب. وكلما
يدخله الصدق أو الكذب فهو خبر. وما لا
__________
1 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور، باب
ما جاء في الاستثناء في اليمين عن ابن عمر -رضي الله
عنهما- مرفوعًا "4/ 108، 109"، ولفظه: "من حلف على يمين،
فقال: إن شاء الله، فقد استثنى، فلا حنث عليه" .
كما أخرجه في الباب نفسه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
مرفوعًا، ولفظه: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، لم
يحنث" .
(1/218)
يدخله الصدق أو
الكذب من أنواع الكلام فليس بخبر. كذلك في الأمر يجب
إثباته لما ذكرته.
واحتج المخالف: بأن لفظة: الأمر، ترد محتملة لوجوه كثيرة:
فمنه ما أريد به الوجوب مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} 1.
ومنه الإرشاد إلى الأحوط للعباد مثل قوله: {وَأَشْهِدُوا
إِذَا تَبَايَعْتُم} 2.
ومنه الإباحة: مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْض} 3، {وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 4.
ومنه التقريع والتعجيز، مثل قوله تعالى: {فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} 5.
ومنه التهديد، مثل قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} 6.
ومنه المسألة مثل قوله عز وجل: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا}
7.
ومنه الندب، مثل قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} 8، وقوله:
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 "282" سورة البقرة.
3 "10" سورة الجمعة.
4 "2" سورة المائدة.
5 "23" سورة البقرة.
6 "40" سورة فصلت.
7 "147" سورة آل عمرن.
8 "33" سورة النور.
(1/219)
{وَافْعَلُوا
الْخَيْر} 1 وقوله: {وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِين} 2.
ومنه الحثُّ على الإكرام، مثل قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
لا خَوْفٌ عَلَيْكُم} 3.
ومنه ما ورد على وجه الامتنان مثل قوله: {هُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي
مَنَاكِبِهَا} 4 الآية.
وصورة الجميع واحدة من طريق اللفظ، وإنما تختلف بالإرادة؛
لأن الله تعالى أراد فعل الصلاة والزكاة، ولم يرد فعل
الصيد، والانتشار في الأرض.
والجواب: أن الحكم إنما اختلف في هذه المواضع لاختلاف
الاستدعاء، فإن أحدهما استدعى الفعل، والآخر أباحه، وبعضه
تحذير وتهديد، وليس باستدعاء، وبعضه قام الدليل على أنه
ندب [20/ ب].
ومحصول هذا الجواب: أنه إنما عدل عن الصيغة لقرينة، ومسألة
الخلاف في الصيغة إذا تجردت عن القرائن.
وجواب آخر وهو: أن هذا يبطل بأسماء الحقائق، كالأسد
والحمار، حقيقة في البهيمة، وإن كان قد يعدل بها إلى الرجل
البليد، والشجاع بقرينة، كذلك ههنا.
واحتج بأن الأمر لا يخلو من أن يكون أمرًا؛ لأن الآمر أراد
إيجاد اللفظ وإحداثه؛ أو لأنه أراد أن يكون خطابًا لمن
دونه، أو لأنه أراد فعل
__________
1 "77" سورة الحج.
2 "93" سورة المائدة.
3 "49" سورة الأعراف.
4 "15" سورة الملك.
(1/220)
المأمور به
منه، ولا يجوز أن يكون القسمين الأولين؛ لأن ذلك موجود
فيما ليس بأمر، فدل على صحة القسم الثالث.
والجواب: أن ههنا قسمًا آخر وهو كونه استدعاء. ومحصول
الجواب: أنه أمر لإيجاد اللفظ، والموضع الذي عدل عنه
لقرينة.
واحتج: بأن النهي إنما كان نهيًا لكراهة الفعل، فوجب أن
يكون الأمر أمرًا لإرادة الفعل؛ لأن النهي ضد الأمر.
والجواب: أن حدَّ النهي كراهية أن يكون الفعل المنهي عنه
حسنًا، ولا نقول: إنه كان نهيًا لكراهية الفعل، فلم يكن
بينهما فرق من هذا الوجه.
وقد قيل: إن حدَّ النهي: المنع عما ينهى عنه من طريق
القول، لا للكراهة التي ذكرها المخالف.
واحتج: بأن أهل اللغة أجمعوا على أنه لا فرق بين قول
القائل: افعل كذا، وبين أن يقول: أريد أن تفعل كذا، ولهذا
نقول: إنه لا فرق بين أن يقول لعبده: اسقني ماءً، وبين أن
يقول: أريد أن تسقيني ماءً، وإذا كان قوله: أريد أن تسقيني
ماءً، إخبارًا عن إرادته، كذلك قوله: افعل، وجب أن يكون
إخبارًا عن إرادته الفعل.
والجواب: أن قوله: أريد أن تسقيني ماء، إخبارٌ عن إرادته،
ولهذا يدخله الصدق أو الكذب، وليس كذلك قوله: افعل، فإنه
ليس بخبر، وإنما هو استدعاء واقتضاء، ولهذا لا يحسن أن
يقول فيه، صدقت أو كذبت.
واحتج بأنه لا يخلو إما أن يجعلوا اللفظ أمرًا لصيغته، أو
لعدم القرينة، وباطل أن يجعل أمرًا لصيغته؛ لأن الصيغة
موجودة مع القرينة، التي هي التهديد والإباحة، وليس بأمر.
وباطل أن يجعل أمرًا لعدم القرينة؛ لأن
(1/221)
عدم القرينة
قرينة، فقد صح أن الأمر إنما يصح أمرًا لقرينة.
والجواب: أنَّا نجعله أمرًا لعدم القرينة، وليس عدم
القرينة قرينة، كما أن عدم الشيء ليس بشيء، ومثال هذا:
أسماء الحقائق: كالحمار والسبع، يستعمل فيما وضعت له حقيقة
بمجردها، وهو في البهائم، وقد يستعمل في غيرها بقرينة، وهو
في الرجل البليد، والشجاع، ولا يقال: إنها إذا استعملت
فيما وضعت له عند عدم القرينة، إنها مستعملة فيه بقرينة،
كذلك ههنا.
(1/222)
الأمر هو الأصوات المسموعة
مدخل
...
فصل:
والدلالة على أن [21/ أ] الأمر هو الأصوات المسموعة: هو أن
هذا كلام متعلق باللغة، فوجب أن يرجع فيه إلى أهلها، وقد
وجدناهم حدُّوا الأمر بقول القائل: افعل، إذا حصل على صفة،
فلم يجز العدول عما قالوه في لغتهم.
ولا يجوز أن يقال: إن ما ذكرتموه في حدِّ الأمر لم ينقل عن
العرب نقل تواتر؛ لأنه أمرٌ أَجْمَعَ عليه أهل العربية،
وهم قوم يقع بخبرهم العلم؛
ولأن ما طريقه اللغة لو اعتبر فيه النقل المتواتر لم يمكن
إثبات غريب القرآن ولا شواذ اللغة.
قيل: علمنا أن السلف كانوا يستشهدون بالبيت من الشعر على
ما يحكونه من اللغة دلالة على بطلان هذا القول.
ولأن ما تعم به البلوى من أمر الشريعة لا يعتبر فيه النقل
المتواتر، فكيف يصح اعتبار ذلك فيما طريقه اللغة؟!
ولأن الإنسان يسمى آمرًا عند وجود القول منه، ومتى انتفى
عنه القول
(1/222)
لم يسمِّ بهذا
الاسم فدل ذلك على اعتبار الأقوال.
واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِم}
1 وقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا
بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} 2، والعرب تقول:
في نفسي كلام أقوله لك3.
والجواب: أن هذا مجاز واتساع، والحقيقة ما ذكرنا.
__________
1 "8" سورة المجادلة.
2 "13" سورة الملك.
3 في الأصل: "أقول لك".
(1/223)
فصل: [الفعل لا
يسمى أمرًا]:
والدلالة على أن الفعل لا يسمى أمرًا: أن أهل اللغة قد
ذكروا في حدِّه قول القائل: افعل إذا كان على صفة، وهو من
الأعلى إلى الأدنى، فلم يجز نقله عمَّا حكموا عليه [في]
الوضع ، كما لا يجوز في سائر اللغات.
ولأنه لو كان حقيقة لم يصح نفيه؛ ولأنه لا يشتق لفاعله
أمر، فلو كان حقيقة فيه لصار مثل الأقوال.
واحتج المخالف بأنهم يقولون: أمر فلان سديد، ويريدون به
أفعاله وأقواله، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} 4، ومنه قوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ} 5، وقول الشاعر:
فقلتُ لها أمْرِي إلى اللهِ كلُّه ... وإنِّي إليهِ في
الإيَابِ لرَاغِبُ6
(1/223)
والجواب: أن
هذا كله على طريق المجاز، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ} 1، وكما قال الشاعر:
وَقَالَتْ لَهُ العَينَانِ سَمْعًا وطَاعَةً2
والعين لا تقول.
يبين صحة هذا، وأنه مجاز أنه يصح نفيه، فنقول: فلان لم
يأمر اليوم بأمر مع وقوع الفعل منه، وأسماء الحقائق لا
تتنافى.
واحتج بأن الأمر مأخوذ من الأمارة، وهي العلامة التي يقتدى
بها، والفعل قد يلزم الاقتداء به، فسمي لذلك أمرًا.
والجواب: أن هذه الصفة تحصل في الكتاب والإشارة، وإن لم
يطلق اسم الأمر عليهما، وليس يمتنع أن يوجد ذلك من
العلامة، ويخص بها الأقوال تعريفًا لها وتنبيهًا عليها.
__________
1 "82" سورة يوسف.
2 لم أقف على قائله.
(1/224)
مسألة: [الأمر
المطلق يقتضي الوجوب]:
إذا ورد لفظ الأمر متعريًا عن القرائن اقتضى وجوب المأمور
به.
وهذا ظاهر كلام أحمد [21/ ب] -رحمه الله- في مواضع:
فقال في رواية1 أبي الحارث2: إذا ثبت الخبر عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- وجب العمل به.
__________
1 هذه الرواية موجودة بنصها في "المسودة" "ص: 13، 15".
2 هو أحمد بن محمد أبو الحارث الصائغ. من أصحاب الإمام
أحمد المقربين إليه، كانت لديه مسائل كثيرة نقلها عن
الإمام أحمد.
له ترجمة في طبقات الحنابلة "1/ 74"، والإنصاف للمرداوي
"12/ 280".
(1/224)
وقال أيضًا
-رحمه الله- في رواية1 مهنا2 -وقد ذكر له قول مالك3 في
الكلب يلغ في الإناء لا بأس به- فقال: "ما أقبح هذا من
قولة! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يغسل سؤر الكلب
سبع مرات" 4.
__________
1 رواية "مهنا" هذه موجودة بنصها في المسودة "ص: 15".
2 هو مهنا بن يحيى الشامي السلمي، أبو عبد الله، روى عن
الإمام أحمد وعبد الرزاق وبقية بن الوليد. وعنه عبد الله
بن أحمد وسهل التُّستري وإبراهيم النيسابوري، من كبار
أصحاب أحمد الذين لازموه حتى مات.
له ترجمة في طبقات الحنابلة "1/ 345"، والإنصاف للمرداوي
"12/ 292".
3 هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي
الحميري، أبو عبد الله المدني، أحد الأئمة الأربعة، إمام
دار الهجرة، صاحب الموطأ خرَّج له الجماعة، ولد سنة: 96هـ،
وقيل غير ذلك، ومات سنة: 179هـ.
له ترجمة في "البداية والنهاية" "10/ 174"، وتذكرة الحفاظ
"1/ 207"، وشذرات الذهب "1/ 289"، وطبقات الحفَّاظ للسيوطي
"ص: 89"، وطبقات المفسرين للداودي "2/ 293"، والنجوم
الزاهرة "2/ 96"، ووفَيَات الأعيان "1/ 439".
4 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى
الله عليه وسلم:
أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به
شعر الإنسان "1/ 53".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب "1/
234، 235".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر
الكلب "1/ 151"، وقال فيه: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر
الكلب "1/ 17، 18". =
(1/225)
وكذلك نقل1
صالح2 عنه فيمن صلَّى خلف الصف وحده: يعيد الصلاة، أمر
النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا صلَّى خلف الصف أن يعيد
الصلاة3 . وهذا كثير في كلامه.
__________
= وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة ، باب غسل الإناء
من ولوغ الكلب "1/ 130".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب سؤر الكلب "1/
46، 47".
وأخرجه عنه البيهقي في السنن الكبرى، في كتاب الطهارة، باب
غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات "1/ 240".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ولوغ الكلب في
الإناء "1/ 63، 64".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في
آسار السباع والكلب والهر "1/ 21".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب تطهير نجاسة دم
الحيض وولوغ الكلب "1/ 43".
وأخرجه الطحاوي عنه في كتابه: شرح معاني الآثار، في كتاب
الطهارة، باب سؤر الكلب "1/ 21".
وأخرجه عنه الإمام مالك في باب جامع الوضوء "1/ 72" مطبوع
مع شرح الزرقاني،
وراجع في هذا الحديث: تيسير الوصول "2/ 295"، ونصب الراية
"1/ 132". وتلخيص الحبير "1/ 23"، والمنتقى من أحاديث
الأحكام "ص: 13".
1 ما نقله صالح عن الإمام أحمد هنا موجود في المسوَّدة
بنصه مع اختلاف طفيف "14، 15".
2 هو صالح بن الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أبو الفضل،
أكبر أولاد الإمام أحمد، وممن روى عنه مسائل كثيرة، صدوق
ثقة، تولى القضاء بطرسوس ثم بأصبهان، ولد سنة: 203هـ،
وتوفي بأصبهان سنة: 266هـ.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة "1/ 173- 176"، والإنصاف
"12/ 286".
3 هذا الحديث رواه وابصة بن معبد -رضي الله عنه- مرفوعًا.
أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الرجل يصلي وحده
خلف الصف "1/ 157". =
(1/226)
وقال -رضي الله
عنه- في كتاب طاعة الرسول1: "قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا
إِذَا تَبَايَعْتُمْ} 2 والظاهر3 يدل على أنه إذا ابتاع
شيئًا يشهد4. فلما تأول قوم من العلماء {فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا} 5،
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في
الصلاة خلف الصف وحده "1/ 445- 451"، وقد تكلم عن أسانيده
الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- باستفاضة في شرحه على
جامع الترمذي، فمن أراد معرفة ذلك فليرجع إليه.
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب صلاة الرجل خلف
الصف وحده "1/ 321".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب في صلاة الرجل خلف
الصف وحده "1/ 237".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة، باب كراهة الصف بين
السواري وحكم من صلَّى خلف الصف وحده "1/ 137".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب صلاة الإمام وهو
جنب أو محدث "2/ 236- 263".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" "4/ 228".
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى "3/ 104، 105".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتاب "شرح معاني الآثار" في كتاب
الصلاة، باب من صلَّى خلف الصف وحده "1/ 393، 394".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: تيسير الوصول "2/ 185، 186"،
ونصب الراية "2/ 38"، والمنتقى "ص: 234"، وبلوغ المرام "ص:
49".
1 صرح في المسوَّدة "ص: 14" بمن روى هذا عن الإمام أحمد
بأنه: صالح.
2 "282" سورة البقرة.
3 في المسوَّدة "ص: 14": "فالظاهر".
4 في المسوَّدة "ص: 14": "أشهد عليه".
5 "283" سورة البقرة.
(1/227)
استقر حكم
الآية على ذلك"1.
وقد علق القول في رواية2 الميموني3 وقد سأله عن قول النبي
-صلى الله عليه وسلم "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأتُوا
مِنْهُ ما استطعتُم، وما نَهَيتُكُم عنه فانتَهُوا" 4،
فقال: الأمر أسهل من النهي.
وكذلك نقل5 علي بن سعيد6 فقال: ما أمر به النبي -صلى الله
عليه وسلم- فهو
__________
1 في المسودة "ص: 14" تكملة النص هكذا: "فلما تبايع الناس
وتركوا الإشهاد استقر حكم الآية على ذلك".
2 رواية الميموني في المسودة "ص: 14".
3 هو عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي،
أبو الحسن، فقيه، من أصحاب الإمام أحمد الذين لازموه فترة
طويلة، كان من المقدمين عند الإمام أحمد وممن نقلوا عنه.
توفي سنة: 274هـ.
له ترجمة في شذرات الذهب "2/ 165، 166"، وطبقات الحنابلة
"1/ 212، 216".
4 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا:
أخرجه عنه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم "9/ 117" بلفظ: قال: "دعوني
ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على
أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر
فأتوا منه ما استطعتم" .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله
عليه وسلم "4/ 1830، 1831" بنحو لفظ البخاري مع فرق في
التقديم والتأخير.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج "5/
83".
وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله
-صلى الله عليه وسلم "1/ 31".
5 هذه الرواية موجودة بنصها في المسوَّدة "ص: 14".
6 هو علي بن سعيد بن جرير النسوي، أبو الحسن، من أصحاب
الإمام أحمد، وممن أخذوا عنه.
له ترجمة في: طبقات الحنابلة "1/ 224، 225".
(1/228)
عندي أسهل مما
نهى عنه. فقد سهَّل في الأمر وغلَّظ في النهي.
ولعله قصد بهذا أن الأمر أسهل من النهي على معنى أن جماعة
قالوا: إطلاق الأمر يقتضي الندب، وإطلاق النهي يقتضي
الحظر، وإطلاق الأمر لا يقتضي التَّكرار، والنهي يقتضي،
وهذا قول جمهور الفقهاء.
وقالت المعتزلة: هو محمول على الندب بإطلاق حتى يدل الدليل
على الوجوب.
وقالت الأشعرية: هو على الوقف على ما يبينه الدليل.
وذهب قوم إلى أنه على الإباحة حتى يدل الدليل.
فالدلالة على ما قلنا قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ
إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا
مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 1.
فوجه الدلالة: أن الله تعالى لما أَمَرَ الملائكة بالسجود
لآدم تبادروا إلى فعله، فعلم أنهم عقلوا من إطلاقه وجوب
امتثال المأمور به، ثم لما امتنع إبليس من السجود وبَّخَهُ
وعاقبه وأهبطه من الجنة، فلولا أن ذلك واجب عليه لما استحق
العقوبة والتوبيخ بتركه.
فإن قيل: يجوز أن يكون ذلك الأمر معه قرينة دلت على المراد
به، فلهذا عاقبه بالمخالفة.
قيل: لم يذكر في الآية إلا أمرًا مطلقًا، وعلَّق التوبيخ
والعقوبة بتركه، فمن ادَّعى أن هناك قرينة احتاج إلى دليل،
يبين صحة هذا أن قوله:
__________
1 "11، 12" سورة الأعراف.
(1/229)
{مَا مَنَعَكَ
أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك} مثل قوله: ما يمنعك أن لا
تسجد إذ قلت لك: اسجد، فإن الذم يتعلق بمجرد مخالفة القول،
كذلك ههنا. فإذا قيل: إنما عاقبه؛ لأنه استكبر وكان من
الكافرين، قيل: عاقبه على الأمرين جميعًا، على مخالفة
الأمر، وعلى الاستكبار والكفر.
فإن قيل: لا يجوز [22/ أ] أن يكون الأمر لإبليس بالسجود؛
لأن ذلك أمر للملائكة وإبليس ليس منهم، وإنما هو من الجن؛
لقوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ
عَنْ أَمْرِ رَبِّه} 1.
قيل: إبليس من الملائكة. وقد ذكر أبو بكر هذا فيما علَّقه
عنه أبو إسحاق2.
وهو قول ابن عباس فيما ذكره أبو بكر في كتاب التفسير فقال:
قال ابن حنبل: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال ابن عباس: كان
إبليس من أشراف الملائكة التي منهم قبيله، وكان خازنًا على
الجِنَان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان
الأرض.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} إنما
سمي الجنان: إنه كان خازنًا عليها، كما يقال للرجل عَدَني،
ومَكِّي، وكُوفِي، وبَصْرِي.
__________
1 "50" سورة الكهف.
2 هو إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقْلا -بسكون
القاف وفتح اللام- أبو إسحاق البزار الفقيه الأصولي
الحنبلي. سمع من أبي بكر عبد العزيز غلام الخلَّال وابن
الصوَّاف وغيرهما، مات سنة: 369هـ. وله من العمر "54" سنة.
له ترجمة في: طبقات الحنابلة "2/ 128- 139"، والمدخل لابن
بدران "ص: 306"، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي "ص: 516".
(1/230)
والذي يدل على
أنه منهم استثناؤه من جملتهم، وحقيقة الاستثناء أن يكون من
جنس المستثنى. ولأنه وبَّخَه وعاقبه على ترك السجود،
والأمر بالسجود كان للملائكة، فلولا أنه منهم لم يحصل
مخالفة بتركه.
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ} 1، فنفي التخيير في
الأمر وجعله ضالا مع التخيير، ومن قال: الأمر على الندب أو
الإباحة خَيَّرَه.
فإن قيل: إنما قال هذا فيما قضاه، وما قضاه واجب، وخلافنا
فيما أمر به.
قيل: ما قضاه لا صيغة له تدل على أنه واجب ولا ندب وهو دون
مرتبة الأمر، ومع هذا فلم يجعل له الخيرة، فأولى أن لا
يجعل له ذلك في الأمر، وعلى أن تعلقنا بقوله: {إِذَا قَضَى
أَمْرًا} فعاد الكلام إلى قوله: {أَمْرًا} .
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} 2، فتوعد على مخالفة
الأمر بالفتنة والعذاب، فلولا أن إطلاقه يقتضي الوجوب لم
يتوعد عليه.
وحكي عن الحسن البصري3، أنه لم يكن من الملائكة، يعني
إبليس.
__________
1 "36" سورة الأحزاب.
2 "63" سورة النور.
3 هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي،
زاهد، عالم. خرَّج له الجماعة، ولد بالمدينة المنورة
لسنتين بقيتا من خلافة عمر -رضي الله عنه. مات بالبصرة
سنة: 110هـ.
انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ "1/ 71"، وشذرات الذهب "1/
136"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/ 147"، وميزان
الاعتدال "1/ 527"، والنجوم الزاهرة "1/ 267"، ووفَيَات
الأعيان "1/ 354".
(1/231)
وهو ظاهر كلام
أبي إسحاق من أصحابنا؛ لأنه قال: سمعت الشيخ يقول: إبليس
من الملائكة. فقلت: أجمعنا على أن الملائكة لا تتناكح، ولا
تكون لها ذرية، وإبليس له ذرية قوله تعالى:
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ
دُونِي} 1 فدلَّ على أنه من غيرهم.
وهذا لا يدل على أنه لم يكن منهم حين الخطاب؛ لأنه لا
يمتنع أن يكون منهم حين الخطاب؛ لأنه لا يمتنع أن تكون
حاله تغيرت بعد المخالفة، كما تغيرت حال الملكين الذين
نزلا بأرض بابل لما خالفا، فأكلا الطعام وشربا الشراب
وحصلت فيهم شهوة النساء، وإن لم تكن هذه صفة الملائكة،
كذلك إبليس.
ويدل عليه قوله تعالى: {أَفَعَصَيتَ أَمْرِي} 2، فدلَّ على
أن مخالفة الأمر معصية، ولم يقل: أعصيت ما دلَّ على وجوب
الأمر؟ بل علَّق المعصية [22/ ب] بمخالفة الأمر، وليس له
صيغة غير لفظة: افعل، ألا ترى أن هذه اللفظة هي التي ترك
امتثالها إبليس، فَذُمَّ، وهو قوله للملائكة: {اسْجُدُوا
لِآدَمَ فَسَجَدُوا} فعلم أن هذه صيغة الأمر.
ويدلُّ عليه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه
قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"
3، ومعلوم أن السواك مستحب، فدل على أنه لو أمر به لوجب.
__________
1 "50" سورة الكهف.
2 "93" سورة طه.
3 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا:
أخرجه عنه البخاري في =
(1/232)
ويدل عليه قول
النبي -صلى الله عليه وسلم- لبريرة: "لو راجعتيه فإنه أبو
ولدك، فقالت: بأمرك يا رسول الله؟ فقال: إنما أنا شافع" 1
فموضع الدليل:
__________
= كتاب التمني باب ما يجوز من اللوم "9/ 105، 106":
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 220".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 11".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الرخصة في السواك
بالعشي للصائم "1/ 16".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في السواك
"1/ 34، 35".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب السواك "1/
105".
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الطهارة، باب ما جاء في
السواك "1/ 133".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطهارة، باب في السواك "1/
139".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب السواك
"1/ 27".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في
السواك والحث عليه "1/ 48".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: تيسير الوصول "2/ 309"، وتلخيص
الحبير "1/ 64"، وفيض القدير شرح الجامع الصغير "5/ 338"،
والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 32"، ونصب الراية "1/ 9".
1 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما:
أخرجه عنه البخاري في كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي -صلى
الله عليه وسلم- في زوج بريرة "7/ 62".
وأخرجه الترمذي عنه في كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة
تعتق ولها زوج، "3/ 453".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق
وهي تحت حر أو عبد "1/ 517".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب القضاء، باب شفاعة الحاكم
للمحكوم قبل فصل الحكم "8/ 215".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأَمَة إذا
عتقت "1/ 671".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطلاق، باب في تخيير الأَمَة
تكون تحت العبد فتعتق "2/ 91".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب الخيار
للأمة إذا عتقت تحت عَبْدٍ "2/ 353، 354" وأخرجه عنه
الدارقطني "3/ 294".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 177، 178"،
و"نصب الراية" "3/ 206، 207". والمنتقى من أحاديث الأحكام
"ص: 550".
(1/233)
أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أخبر أنه شافع، وشفاعته تدل على الندب ومن
قال: الأمر على الندب، يقول: هو بمنزلة الشفاعة، فلو كان
الأمر والشفاعة سواء ما تبرأ من الأمر.
فإن قيل: فلا دلالة فيه؛ لأنه ما تضمن الأمر، وإنما سألها،
وشفع إليها.
قيل: احتجاجنا من قولها: بأمرك، فقال: "إنما أنا شافع" ،
فتبرأ عن الأمر إلى الشفاعة.
وفي هذا دلالة على من قال بالوقف أيضًا؛ لأن قولها:
"بأمرك" معناه: فأمتثله.
ويدل عليه أيضًا ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم: أنه
مر برجل يصلي فدعاه، فلم يُجِبْهُ، فلما فرغ من الصلاة
قال: "ما منعك أن تجيبني؟" قال: كنت في الصلاة، فقال عليه
السلام1: "أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُم} 2 " وهذا ظاهر، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-
عاتبه على مخالفة أمر الله تعالى المطلق، وهو قوله:
{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وإن كان في الإجابة
إليه ترك فريضة عليه، هو فيها.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو سعيد بن المعلى -رضي الله عنه-
مرفوعًا، وهو صاحب القصة:
أخرجه عنه البخاري في كتاب التفسير، باب سورة الأنفال "6/
77".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب فاتحة الكتاب "1/
336".
2 "24" سورة الأنفال.
(1/234)
وأيضا فهو
إجماع الصحابة، وذلك أنهم كانوا يرجعون إلى مجرد الأوامر
في الفعل والامتناع من غير توقف. مثل احتجاج أبي بكر على
عمر -رضي الله عنهما- بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1. ورجوع ابن عمر2 إلى حديث رافع3 في
المساقاة 4. وغير ذلك من القصص المشهورة.
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن،
صحابي جليل، هاجر إلى المدينة وعمره عشر سنوات، شهد
الخندق، كان من أهل الورع والعلم والعبادة، مات بمكة سنة:
73هـ.
له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 950"، والإصابة "4/ 107"،
وتذكرة الحفاظ "1/ 37"، وتاريخ بغداد "1/ 171"، وخلاصة
تذهيب الكمال "ص: 175"، وشذرات الذهب "1/ 81"، والنجوم
الزاهرة "1/ 192".
3 هو رافع بن خديج بن رافع بن عدي الأنصاري الأوسي
الحارثي، أبو عبد الله، صحابي جليل، شهد أُحُدًا وما
بعدها، مات سنة: 74هـ، بالمدينة متأثرًا من انتقاض جرح
أحدثه به سهم يوم أحد، وله من العمر "86" سنة.
له ترجمة في الاستيعاب "2/ 479"، والإصابة "2/ 86".
4 حديث رافع هذا أخرجه البخاري في كتاب المزارعة، باب ما
كان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يواسي بعضهم
بعضًا في الزراعة والثمرة "3/ 134".
وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب كراء الأرض "3/ 1181".
وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب التشديد في ذلك "1/
232".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الرهون، باب المزارعة بالثلث
والربع "2/ 819".
وأخرجه النسائي في أول كتاب المزارعة "7/ 43".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب التفليس والصلح وأحكام
الجوار والمزارعة والإجارة، باب المزارعة "1/ 275".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الشركة والقراض، باب ما جاء
في كراء الأرض "2/ 199". وأخرجه الطحاوي في كتابه شرح
معاني الآثار في كتاب المزارعة والمساقاة "4/ 105".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "4: 180".
(1/235)
وما كانوا عليه
عند ورود لفظ الأمر، والذي يعلم أنه كان متقررًا فيما
بينهم أن إطلاق ذلك يقتضي الوجوب والامتثال.
فإن قيل: يحتمل أن يكون رجوعها إلى غير ظاهر الأمر، وإنما
رجعوا إلى قرينة اقترن بها دلَّت على الوجوب.
قيل: الذي ظهر عنهم الاحتجاج بنفس الألفاظ، فلا يجوز حمله
على القرائن، وليس هذا إلا مثل من سمع خبرًا فصدق المخبر،
فالظاهر تعلق تصديقه به دون إخبار مخبر قبله.
وجواب آخر وهو: أن هذا الاعتبار لو صح لبطل حكم اللغة، ألا
ترى أن أسامي الأشخاص والأعيان تفيد مسمياتها بأنفسها، ولا
طريق إلى إثبات هذا المعنى إلا بالطريق الذي ذكرناه، فلو
أن قائلا قال: إن هذه الأسامي إنما يستدل بها على مسمياتها
بدلالة غير الظاهر، وكذلك سائر ألفاظ [23/ أ] اللغة، مثل:
أوجبت وفرضت وألزمت، وأسماء الأشخاص والأعيان، لم يمكن أن
تنفصل عنه بغير ما ذكرنا في لفظ الأمر.
وجواب آخر وهو: أن دلالة الحال ليس بعلة ملازمة للأمر حتى
لا تخلو منها، وإنما تقارن بعض الأوامر، فلو كان اللفظ لا
يفيده لحصل من جماعة الصحابة سؤال عن مقتضى الأمر في حال
من الأحوال في مدة حياته عليه السلام، لامتناع أن لا يكون
حصل له أمر في هذه المدة غير مقترن1 بدلالة.
وجواب آخر وهو: أنه لو كان المفيد لوجوب الفعل دلالة
الحال،
__________
1 في الأصل: "مقترنة".
(1/236)
لكان نقلها
أولى من لفظ الأمر، ولصار تركها تضييعًا لنقل الشريعة،
وغير جائز حمل أمر الصحابة على هذا المعنى.
فإن قيل: ما ذكرتموه ليس بلفظ عنهم يقع الاحتجاج به.
قيل: استعمالهم لذلك دلالة على إثبات لغة العرب، لأنها
الأصل في اللغة، يجري مجرى استعمالها للفظ الأمر
كاستعمالها لسائر ألفاظ اللغة.
فإن قيل: ما رويتموه عنهم لا يقع به العلم فلم يجز إثبات
مثل هذا الحكم الذي هو أصل به.
قيل: هذا القائل يجوز إثبات الأسامي الشرعية من جهة
الآحاد، فكان إثبات قول يعرب وقحطان أولى بالإثبات.
فإن قيل: فالصحابة قد كانت تعتقد الإباحة في بعض الأوامر،
ولم يدل هذا على أنه ظاهر اللفظ.
قيل: من أثبت غير الوجوب فإنما أثبته بدلالة.
فإن قيل: فقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم: دعى
المصلي وهو في صلاته، فلو كان قد اعتقد وجوب الأوامر بقوله
تعالى: { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } لم يترك
ذلك.
قيل: لا يمتنع أن يكون قد اعتقد وجوب ذلك، وقدم عليه قوله
تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 1 على إقامتها والمضي
فيها، دون تركها والاشتغال بغيرها.
وجواب آخر وهو: أن الأمر في الآية متعلق بشرط، فجائز أن
يكون السامع لم يعلم بوجوده، فلذلك أَخَّرَ الجواب.
__________
1 "43" سورة البقرة.
(1/237)
فإن قيل يجوز
أن يكون اعتقدوا وجوب أوامر رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ} 1.
قيل: قد كان تقدمت على هذه الآية أوامر كثيرة، لم يسأل عن
مقتضاها، فلو كان اعتقاد الوجوب لأجل هذه الآية لكان
السؤال يقع عما تقدم عليها.
وأيضًا فإن القائل إذا قال لعبده: افعل كذا وكذا اليوم،
فلم يفعل، حسن أن يلومه على ذلك ويعاقبه عليه، فلولا أنه
كان قد لزمه واستحق عليه فعله، لما حَسُنَ عقوبته على
تركه.
فإن قيل: من لم يسلم.
قيل: هذا رفع حكم المشاهدات، ورددناه في ذلك إلى العادات؛
لأن أحدًا لا يلوم سيدًا ضرب عبده [23/ ب] على مخالفة
أمره.
فإن قيل: هناك قرينة اقترنت بالأمر دلَّت على وجوبه.
قيل: تصور المسألة فيمن أمر عبده بأمر من وراء حجاب. وهو
لا يشاهده، ولا هناك ما ينبئ عنه لفظ الأمر، فلا يجوز أن
يُدَّعَى تعلُّقُ الوجوب بعده.
وأيضًا: فإن قول القائل: افعل، موضوع في اللغة للتَّفَعُّل
واستدعاء الفعل، وليس يحصل ذلك إلا بحمله على الوجوب.
فأما من حمله على الوقف فإنه لا يفيد شيئًا. وإذا حمل على
الندب جُوِّز تركه، وهذا ترك مقتضى ما وضع له.
فإن قيل: لا نسلم هذا.
__________
1 "63" سورة النور.
(1/238)
قيل: المرجع في
ذلك إلى مقتضى اللغة.
وأيضًا: فإن النهي يدل على وجوب الترك، كذلك الأمر يجب أن
يدل على وجوب الفعل. وهذا الدليل يختص من قال بالندب. وأما
من قال بالوقف فإنه يقف في النهي كما يقف في الأمر.
فإن قيل: لفظ النهي يقتضي قبح فعل المنهي عنه، فالقبيح
واجب اجتنابه، والأمر يقتضي حسن ما أمر به، وحسنه لا يقتضي
وجوب إتيانه، إذ ليس كل حسن يجب إتيانه.
قيل: لا فرق بينهما، وذلك أن من النهي ما لا يقتضي قبح
المنهي عنه، ولا يجب اجتنابه. مثل قوله تعالى: {وَلا
يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُم} 1، وقوله: {وَلا
يَأْبَ كَاتِبٌ} 2، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن
القران بين التمرتين3، وعن الزجر في الطرقات4، فهو
كالمأمور به، منه ما لا يجب فعله، ولا فرق بينهما في مطلق
اللفظ.
__________
1 "22" سورة النور.
2 "282" سورة البقرة.
3 هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا.
أخرجه عنه البخاري "2489" في الشركة، ومسلم "2045" "151"
في الأشربة والترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في
كراهية القران بين التمرتين "4/ 264".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب النهي عن قران
التمر "2/ 1106".
وأخرجه أبو داود عنه في كتاب الأطعمة، باب الإقران في
التمر عند الأكل "2/ 326".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الأطعمة، باب آداب الأكل "1/
331".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الأطعمة، باب النهي عن القران
"2/ 29".
وأخرجه عنه الخطيب البغدادي في تاريخه "14/ 443"، عن
المؤلف "أبي يعلى" عن شيخته أم الفتح، وذكر بقية السند.
وراجع في هذا الحديث: تيسير الوصول "2/ 348، 349".
4 لم أجده.
(1/239)
فإن قيل: هذا
إثبات لغة بقياس.
قيل: إنما استدللنا بما قلنا على موضوع الاسم، وهذا المعنى
لا يتوصل به إلا بالاستدلال.
وأيضًا: فإن لفظ التخيير يستعمل في الأمر المطلق كما
يستعمل في المقيد فيقول: افعل إن شئت، وإن شئت فاترك، كما
يقول: أوجبت عليك أو فرضت عليك إن شئت، فلو كان إطلاقه لا
يفيد الوجوب واللزوم لم يؤثر فيه التخيير.
يبين صحة هذا أن قول القائل: واجب، يحتمل وجوب الإرشاد،
مثل قوله عليه السلام: "غسل يوم الجمعة واجب" 1، وقوله:
"السواك
__________
1 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-
مرفوعًا:
أخرجه عنه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم
الجمعة "2/ 3". ولفظه: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"
.
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على
كل بالغ "2/ 580".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم
الجمعة "1/ 84" بلفظ: "الغسل يوم الجمعة على كل محتلم" .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الجمعة، باب إيجاب الغسل يوم
الجمعة "3/ 76" بمثل لفظ البخاري.
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الغسل
يوم الجمعة "1/ 246" بمثل لفظ البخاري.
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الغسل يوم الجمعة
"1/ 299" بمثل لفظ البخاري.
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الصلاة، باب العمل في غسل
يوم الجمعة "1/ 209" بمثل لفظ البخاري وزاد: "كغسل
الجنابة". وأخرجه الإمام الشافعي عنه في كتاب الصلاة، باب
ما جاء في غسل الجمعة "1/ 155" بمثل لفظ البخاري.
وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة، باب ما جاء
في الغسل للجمعة "1/ 142" بمثل لفظ البخاري، وزاد عليه.
وأخرجه عنه الطحاوي في كتاب الطهارة، باب غسل يوم الجمعة
"1/ 116" بمثل لفظ البخاري.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/ 86"، والمنتقى
"ص: 66".
(1/240)
واجب"1. وإن
شئت قلت: لو كان قوله: "افعل" يقتضي التخيير، بطل موضوع
التخيير، فلما كان لفظة: التخيير، معقولة، وهو قوله: افعل
إن شئت، لم يَجُزْ أن تحمل لفظة التجريد على ذلك.
وأيضًا: فإن أهل اللغة قسموا الكلام أربعة أقسام: أمر
ونهي، وخبر واستخبار. ومن قال بالوقف لا يفرق بين الأمر
والنهي؛ لأن كل واحد منهما لا يدل على شيء، فلا يدل الأمر
على إيجاد فعل، ولا النهي على ترك فعل. فإن قيل: ما
ذكرتموه من اللغة لا تثبت من جهة الآحاد.
قيل: علم الضرورة قد وقع باستعمال لفظ: افعل، في الأوامر
من العرف، ولأنَّا قد بيَّنَّا أنه إذا جاز إثبات الأسامي
[24/ أ] الشرعية من جهة الآحاد فإثبات كلام العرب أولى.
وأيضًا: كل لفظ أفاد معنىً في اللغة عند انضمام التأكيد
إليه، فإنه يفيد ذلك مع عدمه، مثل قولهم نفسه، فلما أفاد
قوله صم: فقد أوجبت عليك وجب أن يفيد إطلاقه ما أفاد
التأكيد.
واحتج من قال بالوقف:
__________
1 هذا الحديث رواه عبد الله بن عمرو بن حلحلة ورافع بن
خديج معًا -رضي الله عنهما.
أخرجه عنهما أبو نعيم في كتاب السواك بلفظ: "السواك واجب،
وغسل الجمعة واجب على كل مسلم". وهو ضعيف، انظر "فيض
القدير شرح الجامع الصغير" "4/ 148"، والفتح الكبير
للنبهاني "2/ 173".
(1/241)
بأن هذه الصيغة
ترد مشتركة بين الوجوب، نحو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، وبَيْنَ النَّدب، نحو
قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} 2، وبين
التهديد: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 3، فلم يكن حملها على
الوجوب بأولى من حملها على الندب، فوجب التوقف فيها،
كقوله: لون، لما لم يدل على شيء، وقف حتى يدل على المراد.
والجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الصيغة التي يختلف فيها لا ترد قط عندنا إلا وهي
على الوجوب، وإنما يعدل عنها إلى الندب والتهديد بدليل أو
بقرينة.
الثاني: أن هذا يبطل بأسماء الحقائق، وهو الأسد والحمار،
فإنه حقيقة في البهيمة، ويراد به الرجل بقرينة، ومع هذا لم
يمنع إطلاق4 الحقيقة في البهيمة.
وكذلك: العَشَرَة، حقيقة في العَشَرَةِ، وتستعمل في
الخَمْسَة بقرينة الاستثناء، وهو قوله: عشرة إلا خمسة.
الثالث: يبطل بقوله: فرضت وأوجبت وألزمت، فإن هذا يَرِدُ،
والمراد به الوجوب، ويَرِدُ والمراد به النَّدب كقوله:
"غُسْل الجمعة واجب على كل محتلم" 5، ومع هذا فإن إطلاقه
يُحْمَلُ على الوجوب، وكذلك: فرضت، تحتمل الوجوب، وتحتمل
التقدير، وإطلاقها يُحْمَلُ على الوجوب.
وكذلك ألفاظ الوعيد تحمل على الوجوب، وإن كانت تستعمل في
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 "32" سورة النور.
3 "40" سورة فصلت.
4 في الأصل: "إطلاقها".
5 مضى تخريجه في الصفحة السابقة.
(1/242)
غيره نحو قوله
تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ،
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} 1، فتوعدهم على منع الماعون،
وهو إعارة قماش البيت كالقر والدّلو ونحو ذلك، وكل هذا
مندوب.
وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من كان له إبل أو
بقر فلم يؤدِّ حقها، بُطِحَ يَومَ القِيَامَةِ بِقَاعٍ
قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ
بِأَظْلاَفِها، كلما نفذت أخراها عادت أولاها" قيل: يا
رسول الله، وما حقها؟ قال: "إعارة دَلْوها وإطْراقُ
فَحْلِها ومِنْحَة لبنها يوم وردها" 2 فتوعد على هذا وهو
مندوب، ومع هذا إطلاقه يقتضي الوجوب.
واحتج: بأن استعمال هذا اللفظ في النَّدب أكثر منه في
الوجوب، فلا يجوز أن يكون الأقل حقيقة والأكثر مجازًا.
والجواب: أن هذا إن كان صحيحًا فيجب أن يقولوا: إنها حقيقة
في
__________
1 "4، 5، 6" سورة الماعون.
2 هذا الحديث رواه جابر -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه
مسلم في كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة "2/ 685".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب من لم يؤدِّ زكاة
الإبل والبقر والغنم "1/ 318".
وقد أخرج البخاري التوعد هذا مع اختلاف في اللفظ أخرجه عن
أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا في كتاب الزكاة، باب إثم
مانع الزكاة "2/ 126"، كما أخرجه عنه مسلم في الموضع
السابق ذكره "2/ 685".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في حقوق المال
"1/ 385".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما جاء في منع
الزكاة "1/ 569".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في وجوبها
وعدم منعها "1/ 172".
(1/243)
الندب وموضوعة
له، وهم لا يقولون بذلك.
وجواب آخر وهو: أنه قد يكون اللفظ موضوعًا لشيء حقيقة، ثم
يستعمل في غيره مجازًا، ويغلب المجاز على الحقيقة
"كالغائط": هو اسم للموضع الواسع من الأرض، ومجاز في:
العَذِرَةِ، وهو [أكثر استعمالا]1، وكذلك: الوَطْءُ، حقيقة
في الدَّوْسِ بالرِّجل، ومجاز في [24/ ب] الجماع، وهو أكثر
استعمالا.
واحتج: بأن اللَّفظة الواحدة لا تقتضي شيئين مختلفين، وإذا
حملتم الأمر على الوجوب اقتضى وجوب فعله، والعقوبة على
تركه.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه باطل بقوله: أوجبت كذا، فإنه يثاب على فعله
ويعاقب على تركه.
وجواب آخر وهو: أن الكلمة ما دلَّت على أمرين؛ لأن موجبها
يدل على أنه يثاب على فعلها، ومخالفة موجبها يدل على
العقاب، فلم يكن الثواب والعقاب مستفادًا بمعنىً واحد.
واحتج: بأنها لو كانت موضوعة للوجوب حقيقة لكان إذا
استعملت في النَّدب أن يكون مجازًا، كالحمار، لما كان
حقيقة في البهيمة لم يكن حقيقة في الرجل البليد، فلما
قلتم: إنها حقيقة في الوجوب، حقيقة في النَّدب بطل أن يكون
على الوجوب.
والجواب: أنه إنما لم يكن مجازًا في النَّدب، وكان حقيقة
فيه أيضًا؛ لأن المجاز هو: أن يُحْمَلَ اللفظ على غير
مقتضاه، كالرجل البليد يسمَّى حمارًا، فأما إذا حُمِلَ على
بعض مقتضاه فلا يكون، كحمل العموم على الخصوص
__________
1 بياض في الأصل، يقدر بكلمتينن أثبتناهما، أو بدلهما،
مستعينين بالسياق.
(1/244)
هو حقيقة في
الجمع فيما دخله التخصيص وفيما لم يدخله. ووجدنا أن
المندوب بعض موجبات الواجب؛ لأنه مندوب إلى فعله كالواجب
فهو كبعض موجبات العموم.
واحتج: بأنه لو كان يقتضي الوجوب لما اختلف باختلاف
المخاطبين، ولما كانت هذه اللفظة توجد في العبد لسيده، ولا
يكون أمرًا، كذلك وجودها من السيد لعبده.
والجواب: أن ذلك لم يختلف باختلاف المخاطبين، وإنما اختلف
الحكم لقرينة، وهو: أنهم سموا ذلك من السيد لعبده أمرًا،
ولم يسموا ذلك من العبد لسيده أمرًا.
واحتج: بأنها لو كانت موضوعة للوجوب، لما حسن فيها
الاستفهام، فتقول: أمرتني به واجبًا [أو] ندبًا؟
والجواب: لا نسلم أنه يحسن الاستفهام إذا تعرى عن قرينة.
وعلى أن هذا باطل بأوجبت وفرضت، فإنه يحسن أن يقول: أوجبته
إلزامًا أو إجبارًا؟ وكذلك أسماء الحقائق، إذا قال: رأيت
حمارًا أو سبعًا. وكأن المعنى فيه أنه يصح استعماله في غير
الواجب بدليل أو قرينة، فأراد المخاطب أن يزيل بالاستفهام
كل الاحتمال1.
واحتج من قال: إطلاق الأمر يقتضي النَّدب:
بأن الأمر يدل على حسن المأمور به، وعلى أنه مراد الآمر،
وحسن الشيء لا يدل على وجوبه، كالمباحات فإنها حسنة وهي
غير واجبة، وكذلك النوافل مرادة له، ولا يدل ذلك على
الوجوب، فصار
__________
1 لو عبر المؤلف بقوله: "كل احتمال" أو "كل الاحتمالات"
كان أولى.
(1/245)
الوجوب صفة
زائدة على حسن الشيء، وعلى كونه مرادًا، فلا يجوز إثباته
بنفس الأمر.
والجواب: أن كونه حسنًا ومرادًا يدل على الوجوب، ما لم
[25/ أ] يدل دليل التخيير، وفي التخيير والمباحات قد دلَّ
الدليل، فلهذا لم يقتضِ الوجوب.
وجواب آخر وهو: أنا لا نسلم أن الأمر يدل على حسن المأمور
به. وإنما يدل على طلب الفعل واستدعائه من الوجه الذي
بَيَّنَّا، وذلك يقتضي الوجوب1، وهذا هو الجواب المعوَّل
عليه.
واحتج: بأن حَمْلَهُ على النَّدب أولى؛ لأنه أقل ما يقتضيه
الأمر.
والجواب: أنه يبطل بلفظ العموم، فإنه لا يجب حمله على
الخصوص وإن كان أقل ما يقتضيه.
وجواب آخر وهو: أن حمله على الوجوب أولى من وجهين:
أحدهما: أنه يتضمن الندب.
الثاني: أنه أسلم من الغرر والخطر.
واحتج بأن حمله على الوجوب يوجب العقوبة بنفس الأمر، ونفس
الأمر لم يتضمن العقوبة.
والجواب: أنه يبطل بالنهي، فإن النهي يتضمن الكفَّ عن
الشيء، وقد أوجبتم العقوبة، وكذلك قوله: أوجبت وفرضت يتضمن
الأمر والعقوبة جميعًا.
وجواب آخر وهو: أنَّا لم نعاقبه بالأمر؛ لأن موجبه
الإيجاب. وإنما عاقبناه بالتَّرك، والترك لم يتناوله
الأمر.
__________
1 في الأصل: "الواجب".
(1/246)
واحتج: بأن من
يقول: هو على الوجوب، يقول: هو نهي عن ضده، وليس في الأمر
نهي عن ضده.
والجواب: أنه إذا كان الأمر مضيقًا كان نهيًا عن ضده، ولكن
من حيث المعنى لا من حيث النطق، وعلى أن هذا موجود في
قوله: فرضت وأوجبت.
واحتج: بأن هذه اللفظة تَرِدُ، والمراد بها الوجوب بقرينة،
فإذا كانت على الوجوب مع القرينة، فإذا وردت عَرِيَّةً عن
القرينة وجب أن لا يكون على الوجوب.
والجواب: أنا لم نعلم بأنها على الوجوب بالقرينة، ولكن إذا
كان معها قرينة تدل على الوجوب كانت تأكيدًا.
على أنه باطل بالنهي، فإنه لو ورد مع قرينة الوعيد، كان
على الوجوب، ومع هذا إذا تجرد عنها كان على الوجوب.
وباطل بقوله: أوجبت وألزمت وفرضت، فإنها على الوجوب مع
القرينة، وإذا تجردت كانت على الوجوب.
واحتج: بأنه لو كان على الوجوب، كان حمله على النَّدب
نسخًا له، وإذا أفضى إلى أن يكون حمله على الندب نسخًا،
بَطَلَ أن يكون مطلقه على الوجوب.
والجواب: أن النسخ هو الرفع، وحمله على الندب رفع لبعض ما
تناوله اللفظ، وهو الإيجاب والاحتكام، دون الندب
والاستحباب، والوجوب قد تضمن المندوب، فرفع الوجوب رفع
لبعض ما تناوله، فلا يوجب نسخه. والعموم إذا دخله التخصيص
لا يوجب ذلك نسخه؛ لأنه رفع بعض موجباته، كذلك ههنا.
(1/247)
مسألة إذا لم يرد به الإيجاب
مدخل
...
مسألة: 1
في الأمر إذا لم يَرِد به الإيجاب [25/ ب]، وإنما أريد به
الندب:
فهو حقيقة في الندب، كما هو حقيقة في الإيجاب، نص عليه
أحمد -رحمه الله- في رواية إبراهيم2، فقال: "آمين" أمر من
النبي -صلى الله عليه وسلم، "فإذا أمن القارئ فأمنوا" 3،
فهو أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم.
__________
1 راجع هذه المسألة في: كتاب التمهيد، الورقة "23/ أ- 26/
أ"، والمسوَّدة "ص: 15".
2 في المسودة "ص: 15": "ابن إبراهيم"، وقد سبق للمؤلف في
مسألة: المندوب مأمور به، "ص: 158" أن ذكره كما في
المسوَّدة.
3 هذا جزء من حديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.
أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب جهر الإمام
بالتكبير بلفظ: "إذا أمَّن الإمام فأمنوا" "1/ 87".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد
والتأمين بمثل لفظ البخاري "1/ 307".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب التأمين وراء
الإمام بلفظ: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين" "1/ 214،
215".
وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل التأمين
"2/ 30".
وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب الجهر
بآمين "1/ 277".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب فضل التأمين "1/
228".
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده "2/ 238".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الصلاة، باب ما جاء
في التأمين خلف الإمام "1/ 179".
وراجع أيضًا: فيض القدير: 1/ 303"، ونصب الراية: "1/ 368".
(1/248)
وكذلك نقل
الميموني عنه: "إذا زنت الأَمَةُ الرَّابِعَةَ، كان عليه
أن يبيعها1، وإلا كان تاركًا للأمر"2.
وكذلك نقل حنبل عنه: "يقاد المذبوح قودًا رفيقًا، وتوارى
السكين ولا تظهر [إلا] عند الذبح، أمر بذلك رسول الله -صلى
الله عليه وسلم3".
__________
1 حديث الأمر بالبيع في الثالثة أخرجه البخاري عن أبي
هريرة في كتاب الحدود، باب إذا زنت الأَمَةُ "8/ 213"،
وأخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب رجم اليهود وأهل الذمة في
الزنى "3/ 1328". عن أبي هريرة أيضًا.
كما أخرجه البخاري ومسلم في الموضعين السابقين عن أبي
هريرة وزيد بن خالد، غير أن أحد رواة الحديث وهو: ابن شهاب
قال: "لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة" أي الأمر بالبيع،
وإن كان مسلم قد أخرجه عن أبي هريرة ولم يذكر شك ابن شهاب.
أما الأمر بالبيع في الرابعة فقد أخرجه أبو داود عن أبي
هريرة في كتاب الحدود، باب في الأَمَةِ تزني ولم تحصن "2/
470".
كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، "2/ 249، 376، 422، 494".
وأخرجه كذلك الطيالسي في كتاب الحدود، باب أمر السيد
بإقامة الحد على رقيقه "1/ 300".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحدود، باب حدِّ زنا
الرقيق وأن للسيد أن يقيم الحد على رقيقه "2/ 293".
2 في المسودة "ص: 15": "وإلا كان تاركًا لأمر النبي -صلى
الله عليه وسلم".
3 هذا إشارة إلى الحديث الذي رواه شداد بن أوس -رضي الله
عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب
الأمر بإحسان الذبح والقتل "3/ 1548" بلفظ: ثنتان حفظتهما
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللهَ
كَتَبَ الإحْسَانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قَتَلْتُم
فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُم فأحْسِنوا
الذَّبْحَ، وليُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه، وليرحْ
ذَبِيحَتَهُ" .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب النهي أن
تُصْبَر البهائم والرفق بالذبيحة "2/ 90".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الديات، باب ما جاء في النهي
عن المثلة "4/ 23".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الضحايا، باب الأمر بإحداد
الشفرة "7/ 199".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الذبائح، باب: إذا ذبحتم
فأحسنوا الذبح "2/ 1058".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الأضاحي، باب في حسن الذبحة
"2/ 9".
(1/249)
وقال أصحاب أبي
حنيفة: الكرخي1 والرازي2: لا يكون أمرًا في الحقيقة وحقيقة
الأمر ما أريد به الوجوب3.
واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم [من]
قال مثل قول أصحاب أبي حنيفة.
__________
1 هو أبو الحسن عبيد الله بن حسين بن دلال الكرخي، شيخ
الحنفية في وقته. كان عابدًا زاهدًا، له كتاب المختصر،
والجامع الكبير، والجامع الصغير، ولد سنة: 260هـ، ومات
سنة: 340هـ.
له ترجمة في: تاج التراجم في طبقات الحنفية" "ص: 39"،
و"شذرات الذهب" "2/ 358".
2 هو أحمد بن علي الرازي أبو بكر، المعروف بالجصاص، انتهت
إليه رئاسة المذهب الحنفي في وقته، عرف بالزهد والورع، عرض
عليه القضاء فامتنع منه. له كتاب: "أحكام القرآن"،
و"الفصول في أصول الفقه" وغيرهما، وافته منيته سنة: 370هـ،
وله من العمر "65" سنة.
3 هكذا صرَّح الرازي في كتابه: الفصول في أصول الفقه،
الورقة "92/ ب". حيث قال: "وقال آخرون: حقيقة الأمر ما كان
إيجابًا، وما عداه فليس بأمر على الحقيقة، وإن أجري عليه
الاسم في حال كان مجازًا، وكذلك كان يقول أبو الحسن -رحمه
الله- في ذلك، وهو القول الصحيح".
(1/250)
دليلنا:
أن المندوب طاعة، فوجب أن يكون مأمورًا به كالواجب.
(1/250)
يبين صحة هذا:
أن الواجب لم يكن مأمورًا به لجنسه ونفسه؛ لأن هذا المعنى
موجود في غيره من المباحات، ولم يكن مأمورًا به لكونه
مرادًا للمطاع؛ لأنه قد يريد المباح وما يقع من المحظورات،
وليس ذلك مأمورًا به، ولم يكن مأمورًا به لحصول الثواب؛
لأن المندوب إليه من فعل النوافل مثاب عليه أيضًا.
ولأنه لا يجوز أن يكون ذلك أمرًا لهذه العلة؛ لأنه قد ثبت
أنه لو أمر بطاعاته من الواجبات ولم يضمن عليها ثوابًا-
وَجَبَ أن يكون طاعة؛ لأن الثواب تفضل منه، وترغيب في
طاعته، فلم يبق إلا أنه طاعة، لكونه مأمورًا به.
فإن قيل: إنما كان طاعة لكونه مطلوبًا مرغبًا فيه، لا
لكونه مأمورًا به، والطلب والسؤال والترغيب مخالف للأمر،
وهذا كما تقول: إن قول العبد لربه: اغفر لي وتجاوز عني،
سؤال وليس بأمر.
قيل: لو كان طاعة لما ذكرته، لوجب أن يكون الله تعالى
مطيعًا لعبده إذا فعل ما سأله ورغب إليه.
فإن قيل: إنما لم يكن مطيعًا لعبده؛ لأن الطاعة تعتبر فيها
الرتبة، كما تعتبر في الأمر، فإذا سأل من1 دونه، يقال:
أطاعه، ولا يقال لمن فوقه، كما يقول في الأمر.
قيل: فالرتبة ههنا موجودة، وهو استدعاء الفعل من الأعلى
إلى الأدنى فيجب أن يكون أمرًا.
وأيضًا: فإن الطاعة والمعصية مقرونتان2 بالأمر، قال تعالى:
__________
1 في الأصل: "لمن".
2 في الأصل: "مقرونان".
(1/251)
{أَفَعَصَيتَ
أَمْرِي} 1، وقال: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} 2 وقال
الشاعر وهو الحباب بن المنذر3 ليزيد بن المهلب4.
أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني ... فأصبحت مسلوبَ الإمارةِ
نادما 5
__________
1 "93" سورة طه.
2 "50" سورة النحل.
3 الشاعر هو: حصين بن منذر، وليس الحباب بن المنذر، فلعل
ذلك تحريف من الناسخ، أو غفلة من المؤلف، كما سيأتي بيانه.
4 هو يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، أبو خالد، أمير
وابن أمير وقائد وابن قائد، اشتهر بالكرم، تولى إمرة
خراسان في عهد عبد الملك، ولكنه عزله بمشورة الحجاج، ثم
تولى لسليمان بن عبد الملك إمرة العراق، ثم خراسان ثم
البصرة، فأقام بها حتى عزله عمر بن عبد العزيز وحبسه، وبعد
موت عمر خرج من السجن، وغلب على البصرة، فدارت بينه وبين
مسلمة حروب انتهت بمقتل يزيد سنة: 102هـ.
انظر ترجمته في الأعلام "9/ 246"، وشذرات الذهب "1/ 124"،
ووفَيَات الأعيان "5/ 322- 352".
5 هذا البيت للشاعر حصين بن منذر، وليس الحباب بن المنذر،
كما ذكر المؤلف، وليتضح المقام نذكر قصة البيت وهي
باختصار:
أن يزيد بن المهلب كان أميرًا على خراسان، ولكن الحجاج لم
يكن راضيًا عنه فكان يكتب إلى الخليفة عبد الملك في ذم
يزيد، فرد عليه عبد الملك: سمِّ رجلا يكون بدله، فسمَّى
قتيبة بن مسلم، فوافق عبد الملك على توليته.
وكره الحجاج أن يكتب ليزيد بخلعه، وبدلا من ذلك كتب إليه:
أن خلف أخاك المفضل وأقبل، فاستشار يزيدُ الشاعرَ حصين،
فقال له: أقم، واعتل فإن أمير المؤمنين حسن الظن فيك،
وإنما أوتيت من الحجاج، فلم يقبل المشورة إيثارًا للطاعة
على المعصية، فخرج إلى الحجاج، فعزل الحجاج أخاه وولَّى
قتيبة، فقال الشاعر البيت، وبعده:
(1/252)
وقال آخر1:
ولو كنتُ ذا أمرٍ مُطاعٍ لما بدا ... تَوَانٍ2 من المأمور
في حال أمرك3
ويقولون: فلان مطاع الأمر، ومعصيّ الأمر، وأمر فأطيع، وأمر
فعصي، فلما ثبت أن المندوب [26/ أ] طاعة، علم أنه مأمور
به.
وأيضًا: فإن الطاعات لما انقسمت إلى واجب وندب، وكذلك
النهي لما انقسم إلى حظر وتنزيه، كذلك4 الأمر.
واحتج المخالف بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لولا أنْ
أَشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهُم بالسِّواكِ عندَ كُلِّ
صَلاةٍ" والسواك مستحب مندوب إليه، وقد أخبر النبي -صلى
الله عليه وسلم- أنه لم يأمر به.
وقال لبريرة: "لو راجعتيه فإنه أبو ولدك" فقالت: أبأمرك يا
رسول الله؟ قال: "لا، إنما أنا شافع" وشفاعته تقتضي طاعته
ندبًا واستحبابًا.
__________
=
فما أنا بالباكي عليك صبابةً ... وما أنا بالداعي لترجع
سالما
وفَيَات الأعيان "5/ 322".
وقد رأيت الجلال في شرحه على "جمع الجوامع" "1/ 369" ذكر
هذا البيت برواية أخرى هي:
أمرتُك أمْرًا جازمًا فعصيتني ... وكان من التَّوفيقِ قتلُ
ابنِ هاشمِ
وابن هاشم هذا كان قد خرج على معاوية -رضي الله عنه-
فأمسكه، فأشار عليه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بقتله،
ولكن معاوية أطلقه، فخرج عليه مرة أخرى، فقال عمرو هذا
البيت.
1 لم أقف على اسمه.
2 في الأصل: "تواني".
3 في الأصل: "أمركا".
4 في الأصل: "وكذلك" بإثبات الواو.
(1/253)
والجواب: أن
قوله: "لولا أن أشُقَّ على أمتي" لأمرت أمر إيجاب.
وكذلك قوله لبريرة لم آمر أمر إيجاب بدليل ما ذكرنا، يتبين
صحة هذا، وأنه أراد به أمر إيجاب؛ أنه امتنع منه لأجل
المشقة، والمشقة إنما تلحق فيما يلزم من فعله.
وكذلك قول بريرة: أبأمرك، تعني الأمر الواجب حتى فعله، وإن
كانت كارهة؛ لأنها كانت مبغضة له.
واحتج بأن المسلمين أجمعوا على أن من ترك المستحب لا يجوز
أن يقال له: خالف أمر الله تعالى وعصاه، كما لا يجوز أن
يقال ذلك لمن فعل المباح.
والجواب: أنه لا يقال خالف أمر الله وعصاه على الإطلاق،
لئلا يلتبس بالواجب، فأما مع التقييد فإنه يقول: خالف أمر
الله تعالى المندوب.
يبين1 صحة هذا على أصلنا قول أحمد -رضي الله عنه- فيمن ترك
الوتر: "هو رجل سوء". فذمَّه على ترك الوتر مع قوله: "إنه
سنة وليس بواجب".
واحتج بأن أهل اللغة يفرقون بين أن يقول القائل لمن دونه:
افعل كذا، أو لتفعل كذا، وبين أن يقول: أسألك أن تفعل كذا،
وأرغب إليك أن تفعل كذا، ويسمون أحدهما أمرًا والآخر سؤالا
وطلبًا، فدلَّ على أن المندوب إليه غير مأمور به.
والجواب: أن أهل اللغة يفرقون بينهما في باب الإيجاب،
فيسمون أحدهما أمر إيجاب والآخر أمر ندب واستحباب، فأما أن
يفرقوا 2 بينهما
__________
1 في الأصل "يتبين".
2 في الأصل: "يفرقون" بإثبات النون، وهو خطأ عربية لما هو
معلوم.
(1/254)
في كونه أمرًا
فلا.
واحتج بأن أسماء الحقائق لا يجوز نفيها عن مسمياتها، وقد
علمنا أن الندب يحسن أن ينتفي عنه اسم الأمر، فتقول: أنا
غير مأمور أن أصلي الساعة ركعتين، وإن كان مندوبًا إليها،
وأنا غير مأمور بصوم يوم الخميس، وإن كان مندوبًا إليه،
ويحسن أن يقول: أسألك وأرغب إليك ولا آمرك به، وإذا ثبت
هذا علمنا أن الندب ليس بمأمور به، ألا ترى أن الواجب لما
كان حقيقة في الأمر لم يصح نفيه.
والجواب: أنا لا نسلم أنه يصح نفيه على الإطلاق، وإنما
تنفيه بقيد، وهو أن يقول: أنا غيرُ مأمور بصلاةِ ركعتين،
وصيامِ يوم الخميس أمر إيجاب.
واحتج: بأنه قد ثبت من أصلنا وأصلكم: أن الأمر يجب حمله
على الوجوب، ولو كان الندب أمرًا لم يجز حمله على غير
الوجوب، ووجب التوقف فيه كما قال الأشعري1 [26/ ب].
والجواب: أن إطلاقه يقتضي الوجوب، وإنما يُحْمَلُ على
الندب بدلالة، وهذا لا يمتنع كونه أمرًا فيه. كما أن إطلاق
العموم يقتضي الاستغراق، ويحمل على الخصوص بدلالة، ولا
يمتنع كونه عمومًا في الأصل.
__________
1 هو علي بن إسماعيل بن إسحاق، أبو الحسن الأشعري، متكلم،
فقيه، أصولي، ولد في البصرة سنة: 260هـ، كان على مذهب
المعتزلة، ثم رجع عنه، وشدَّد النكير على معتنقيه، له كتب
منها: "الإبانة عن أصول الديانة"، و"مقالات الإسلاميين"،
توفي ببغداد سنة: 324هـ.
له ترجمة في: الأعلام "5/ 69"، وتاريخ بغداد "11/ 346"،
وتذكرة الحفاظ "3/ 821"، وشذرات الذهب "2/ 303"، والنجوم
الزاهرة "3/ 259".
(1/255)
فإن قيل: فلو
كان أمرًا لاقتضى الفور إلى فعل المندوب كالأمر الواجب،
قيل: هكذا نقول: هو على الفور.
(1/256)
مسألة في ورود الأمر بعد الحظر
مدخل
...
مسألة 1 : [في ورودِ الأمرِ بعدَ الحظرِ]:
صيغة الأمر إذا وردت بعد الحظر اقتضت الإباحة وإطلاق
محظور، ولا يكون أمرًا، نحو قوله تعالى: {وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 2، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانتَشِرُوا فِي الأَرْض} 3، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُن} 4، {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} 5،
"كنت نهيتكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي ألا فادَّخروها" ونحو
ذلك.
وقد نص أحمد -رضي الله عنه- في رواية صالح وعبد الله في
قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 6،
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ}
7، وقال8 "أكثر من سمعنا: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل،
كأنهم ذهبوا على أنه ليس بواجب، وليس هما على ظاهرهما"9.
__________
1 راجع هذه المسألة في المسودة "ص: 16- 20"، وروضة الناظر
"102، 103".
2 "2" سورة المائدة.
3 "10" سورة الجمعة.
4 "222" سورة البقرة.
5 "53" سورة الأحزاب.
وقد استدل المؤلف بهذه الآية: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ
فَانْتَشِرُوا} ، وتعقبه المجد بأنها ليست فيما نحن فيه،
ولم يعلِّل. قلت: لأن الأمر بالانتشار لم يأتِ بعد حظره
والله أعلم.
6 "2" سورة المائدة.
7 "10" سورة الجمعة.
8 في المسوَّدة "ص: 17": "فقال".
9 تعقب المجدُ في المسودة "ص: 17" المؤلِّفَ في وجه
استدلاله من كلام الإمام أحمد فقال: "هذا اللفظ يقتضي: أن
ظاهرهما الوجوب، وأنه من المواضيع المعدولة عن الظاهر
لدليل".
(1/256)
وذهب أكثر
الفقهاء والمتكلمين إلى أنه بمنزلة الأمر المبتدأ في أنه
يقتضي الوجوب على قول من قال بالوجوب، والندب على قول من
قال بالندب1.
__________
1 نقل المؤلف هذا عن أكثر الفقهاء والمتكلمين، تابعه في
ذلك المجد في "المسودة" وابن قدامة في "روضة الناظر"، إلا
أن الآمدي نقل عن أكثر الفقهاء والمتكلمين القول بالإباحة،
كما في "الإحكام" "2/ 165".
والقول بالإباحة نص عليه الإمام الشافعي، ونقله ابن برهان
في "الوجيز"عن أكثر الفقهاء والمتكلمين، خلاف ما ذكره
المؤلف هنا، والقول بالإباحة رجحه ابن الحاجب.
وهناك قول ثالث في المسألة هو: التوقف، وإليه ذهب إمام
الحرمين، واختاره الغزالي، وتذبذب الآمدي بينه وبين القول
بالإباحة، حيث قال: "فيجب التوقف، كيف وأن احتمال الحمل
على الإباحة أرجح".
وهناك قول رابع هو: إن وَرَدَ الأمر بصيغة: افعل، فهو
للإباحة، وإن ورد بغيرها فهو للوجوب.
وهناك قول خامس هو: أن الأمر بعد الحظر، يرجع إلى ما كان
عليه قبل الحظر إباحةً أو وجوبًا، وهو اختيار المجد ابن
تيمية والكمال بن الهمام.
راجع في هذا: المسوَّدة "ص: 16- 20"، وروضة الناظر "102،
103"، والمنخول "130، 131" و"الإحكام" للآمدي "2/ 165،
166"، ونهاية السول "2/ 272- 274"، وتيسير التحرير "1/
345- 347"، واللُّمع في أصول الفقه "ص: 8".
(1/257)
دليلنا:
أن عرف العادة في خطاب الناس ومحاوراتهم إذا أُمِرُوا بعد
الحظر كان على الإباحة، كقوله لغلامه: لا تدخل بستان فلان،
ولا تحضر دعوته، ولا تغسل ثيابك، ثم قال له بعد ذلك: ادخل،
واحضر، واغسل، كان
(1/257)
رفعًا لما1 حظر
عليه، ولم يكن أمرًا، كذلك ههنا.
وكذلك قول الرجل لضيفه: ادخل، ومن أنكر هذا فقد رَدَّ
المشاهدات
والذي يبين هذا: أنه لا يحسن ضربه وتونيبه2 عند مخالفة ذلك
في عرف الناس وعاداتهم.
فإن امتنع من تسليم هذا، كشفنا به إذا نهاه عن فعل شيء
فاستأذنه العبد في فعله، فقال له: افعل، إن هذا لا يقتضي
الوجوب بلا خلاف.
وقد قيل: إن السيد إنما يحظر على عبده ما تميل نفسه إليه،
لا ما تنفر نفسه عنه؛ لأن الحكيم لا يوجب على عبده ما [لا
تميل] نفسه إليه، فعلمنا أنه إباحة لا إيجاب.
فإن قيل: العادة غير هذا، ألا ترى أن يقول لعبده: لا تقتل
زيدًا، فيكون حظرًا، فإذا قال: اقتله، بعد هذا كان أمرًا
على الوجوب.
قيل: إن الأصل حظرُ قتلِ زيدٍ، فقوله: لا تقتل زيدًا،
تأكيد للحظر المتقدم، لا لأنه مستفاد به حظر، وفي مسألتنا
حظر وقع بالنهي، ثم رفع النهي، فيجب أن يعود إلى ما كان
إليه قبله3.
وأيضًا: فإن عرف الشرع قد ثبت أن الأمر إذا ورد بعد [27/
أ] الحظر اقتضى الإباحة نحو ما ذكرناه من قوله تعالى:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ
__________
1 في الأصل: "فيما".
2 هكذا في الأصل: "تونيبه"، ولعل الصواب: "تأنيبه".
3 كلام المؤلف هذا يشعر بأن هناك فرقا بين أن يكون الآمر
هو الناهي، وبين أن يكون الآمر هو غير الناهي، بينا كلامه
في أول المسألة يقتضي التسوية بينهما ومحل النزاع هو القسم
الأول، وقد أشار إلى ذلك المجد في المسودة ص"19".
(1/258)
فَاصْطَادُوا}
1 {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} 2 {فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} 3 "كنت نهيتكم عن زيارة
القبور"، "وعن ادِّخار لحوم الأضاحي ألا فادَّخروا"
و"وزوروا" فيجب أن يحمل ذلك على مقتضى عرف الشرع، وهو
الإباحة كما يحمل مطلق الأمر من الأسماء على عرف الشرع، في
الصلاة والزكاة والصيام والحج4.
فإن قيل: تلك المواضع حملناها على الإباحة بدليل، كما
حملنا ما لم يرد بعد الحظر من أوامر القرآن على غير الواجب
بدليل.
قيل: ليس ههنا دليل دلَّ على إباحة ذلك سوى هذه الألفاظ،
ولا يجوز أن يقال: الإجماع هو الدليل؛ لأن الإجماع حادث
بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- والإباحة مستفادة بهذه
الألفاظ في وقته.
فإن قيل: عرف الشرع في هذا مختلف، ففيه ما يقتضي الوجوب،
وهو قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 5، فأمر بقتل المشركين بعد
الحظر، وكان على الوجوب، وكذلك قوله عز وجل: {وَلا
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّه} 6.
__________
1 "2" سورة المائدة.
2 "10" سورة الجمعة.
3 "222" سورة البقرة.
4 من الأمثلة التي ذكرها المؤلف يتضح أن النهي على قسمين:
القسم الأول: النهي الْمُغَيَّى بِغَايَة كالإحلال في
الآية الأولى، أو قضاء الصلاة كما في الآية الثانية، أو
الطهر كما في الآية الثالثة، فهذا ليس بنسخ؛ لأن الدليل
المنسوخ لا بد أن يكون مؤبدًا في أوهام المخاطبين، كما في
حديث زيارة القبور، وحديث ادِّخار لحوم الأضاحي، وقد أشار
إلى ذلك المجد في المسوَّدة "19".
5 "5" سورة التوبة.
6 "196" سورة البقرة.
(1/259)
فجعل ذلك غاية
للحظر، وأمر به بعد الغاية، فكان واجبًا؛ لأن الحلق في وقت
النسك واجب.
قيل: لا نسلم أن وجوب قتل المشركين استفيد بقوله:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} بل استفدنا[ه] بقوله تعالى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِر} 1، وغيرها من الآيات التي لم يتقدمها
حظر2.
وكذلك الحلاق استفدنا وجوبه من موضع آخر، من قوله تعالى:
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُم} 3، ومن فعل النبي -صلى الله
عليه وسلم- وقوله: "خذوا عني مناسِكَكُم" .
إنه قد قيل: إن المراد بهذه الآية حلق المحصر. وذلك غير
واجب عند [نا].
وأيضًا فإن قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} 4، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ
فَاصْطَادُوا} 5، بمنزلة تعليق الأمر بالغاية، كقوله:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 6، ونحو
ذلك، وتعليق الأمر بالغاية يفيد زوال الحكم عند انقضائها،
كذلك تعليق
__________
1 "29" سورة التوبة.
2 جواب المؤلف هذا تعقبه المجد في المسوَّدة "ص: 19"
بقوله: وهذا ضعيف، بل الأمر بعد الحظر يرفع الحظر، ويكون
كما كان قبل الحظر، والأمر في هذه الآية كذلك.
3 "29" سورة الحج.
4 "10" سورة الجمعة.
5 "2" سورة المائدة.
6 "187" سورة البقرة.
(1/260)
حظر الاصطياد
والانتشار في الأرض بفعل [غاية]1 الإحرام والاشتغال
بالصلاة يفيد زوال الحظر عند تقضي غاية الأمر.
فإن قيل تعليق الأمر بالحظر أن يقول: امتنعوا من الفعل ما
بقي الحظر، فإذا أزلته فافعلوه، هذا 2 صورة الغاية وتعليق
الأمر بالحظر.
قيل: تعليق الأمر بالحظر، يفيد ما ذكرته، وما ذكرناه
أيضًا، كما كان قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ} 3، بمثابة قوله: فإذا جاء الليل أزلته.
واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 4، وقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أمرتُكُمْ بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتُم" ولم يفرِّق.
والجواب: أنا لا نسلم أن هذا أمر، وإنما هو صيغة الأمر،
فأما أن يكون أمرًا فلا [27/ ب]5.
واحتج: بأن صيغة الأمر قد وجدت متجردة، فوجب أن يحمل على
الوجوب، كما لو لم يكن حظر سابق.
والجواب: أنا لا نسلم أنها متجردة، بل نقول: تقدَّم الحظر
قرينة
__________
1 هذه الكلمة زادها الناسخ في الهامش، وأشار أنها من صنعه.
2 هكذا بالأصل، ولعل الصواب: "هذه".
3 "187" البقرة، والآية في الأصل: "ثم أتموا الصلاة.." وهو
خطأ.
4 "63" سورة النور.
5 كلام المؤلف هذا يفيد أن هناك فرقًا بين الأمر إذا جاء
بصيغة: افعل، وبَيَّنَهُ إذا جاء بلفظه صراحة، فالأول هو
محل النزاع، أما الثاني: فهو للوجوب، وقد صرَّح المجد في
المسوَّدة بأن ذلك هو المذهب حيث قال في المسوَّدة "ص:
20": "وعندي: أن هذا التفصيل هو كل المذهب، وكلام القاضي
وغيره يدل عليه..".
(1/261)
توجب صرفه عن
الوجوب.
فإن قيل: الحظر لا يفيد الإباحة بلفظه ولا بمعناه؛ لأن
لفظه يقتضي المنع والتحريم، ومعناه لا يوجب ذلك؛ لأنه لا
يمتنع أن يكون الشيء محرمًا، ثم يجعل واجبًا، فينسخ
التحريم بالإيجاب.
قيل: ليس نقول: إن لفظ الحظر أفاد الإباحة، وإنما حصلت
الإباحة به وبما بعده من صيغة الأمر، كما إذا استأذنه عبده
في فعل شيء، فقال له: افعل، حملناه على الإباحة بالأمرين
جميعًا: الإذن والاستئذان.
واحتج بأن النهي إذا ورد بعد الأمر اقتضى الحظر، كما لو
وَرَدَ ابتداءً كذلك الأمر إذا ورد بعد الحظر، وجب حمله
على الوجوب كما لو ورد ابتداءً.
والجواب: أن لفظة النهي المطلقة إذا وردت بعد الأمر، يحتمل
أن نقول فيها ما نقول في الأمر بعد الحظر، وأنها تقتضي
التخيير دون التحريم، لا أنها تحتمل الندب والحظر، وتحتمل
أن نفرق بينهما، ونقول في النهي بعد الأمر يقتضي الحظر،
وفي الأمر بعد الحظر لا يقتضي؛ لأن النهي آكد، ولهذا قال
مخالفونا: إن النهي يقتضي التكرار، والأمر المطلق لا
يقتضي.
ولأن الأمر أحد الطرق إلى الإباحة، فلهذا جاز أن يرد،
ويراد به الإباحة، وليس النهي طريقًا إلى الإباحة، فلم
يَجُزْ أن يُرَادَ به الإباحة1.
واحتج: بأن الأمر إذا كان مقتضاه الإيجاب، فوروده بعد
الحظر لا يؤثر في ذلك، ألا ترى أن وروده بعد الحظر، العقل
لا يمنع وجوبه. يبين ذلك: أن فعل الصلاة والصوم من جهة
العقل محظور، ثم ورد
__________
1 في الأصل: "إباحة".
(1/262)
الأمر بهما، لم
يمنع من وجوبهما، كذلك الحظر من جهة السمع لا يمنع أن يكون
الأمر الوارد بعده على الوجوب.
والجواب: أنا لا نسلم أن العقل يحظر شيئًا وعلى أن من قال
العقل يحظر، فنقول: إذا ورد الشرع بإباحة شيء، ثبت أن
العقل لم يحظره؛ لأن الشرع لا يَرِدُ بإباحة ما كان قبيحًا
في العقل، فورود الشرع بإباحة ذلك منع أن يكون قبيحًا
محرمًا، وليس كذلك ههنا، فإن ورود الشرع بإباحة الصيد لم
يمنع حصول تحريم سابق، فبان الفرق بينهما.
واحتج بأن الأمر فيما عدا الواجب لا يكون أمرًا على
الحقيقة، فلما ثبت أن هذا أمر وجب أن يكون على الوجوب.
والجواب: أن الأمر فيما عدا الواجب يكون أمرًا على الحقيقة
عندنا، وهو الندب، وقد بَيَّنَّا ذلك.
واحتج بأن الأمر بالمباح لا يحسن؛ لكونه عبثًا؛ لأن
المأمور لا يستحق عليه الثواب إذا فعله، فلا يجوز أن يكون
هذا الأمر مقتضيًا للإباحة.
والجواب: أن هذا ليس بأمر [28/ أ] عندنا، وإنما صيغته صيغة
الأمر، ومن سمَّاه أمرًا فإنما يسميه على طريق المجاز.
واحتج: بأن هذا لا يخرج على قولكم؛ لأن عندكم أن أصل
الأشياء على الحظر، فيقتضي أن يكون سائر الأوامر مبيحة لا
يثبت بشيء منها إيجاب؛ لأنها كلها ترد بعد حظر.
والجواب: أن المواضع التي حملناها على الوجوب لدليل دلَّ
عليها اقتضت الوجوب.
(1/263)
الأمر المعلق على شرط هل يقتضي التكرار
مدخل
...
فصل: [الأمر المعلق على شرط، هل يقتضي التكرار]؟:
والدلالة على أن الأمر المعلق بالشرط جارٍ مجرى الأمر
المطلق هو: أن الوجوب مستفاد من اللفظ دون الشرط، وإنما
يؤثر الشرط في منع تقديم المأمور به عليه، واعتبار وجوده
في وقوع الفعل عن الواجب. وإذا كان الحكم مستفادًا من
اللفظ، والمذكور عقيب الشرط كالمذكور ابتداءً من غير شرط،
ثم ثبت أن المعلق بالشرط يقتضي التكرار، كذلك المطلق.
وأيضًا: فإن ما لا يقتضي التَّكرار، يستوي فيه المطلق
والمعلق بالشرط، بدليل الأوامر فيما بينَّا، ألا ترى أنه
إذا وكَّلَ غيره بطلاق امرأته إن خرجت من الدار، لم يجزْ
أن يطلقها إلا مرة واحدة، عند أول خروج يوجد منها، ولو
أطلق التوكيل فكذلك. وكذلك لو أمر غلامه أن يشتري طعامًا
إذا دخل السوق، فاشترى مرة واحدة، لم يجزْ له أن يشتري
كلما دخل السوق، وكذلك لو أطلق. وكذلك الندب الموجب
بالشرط، والمطلق لا يوجب التكرار، وهو إذا قال: إن شفى
الله مريضي تصدقت بدرهم،
(1/275)
فشفي مريضه، لم
يتكرر، ولو أطلق فقال: لله عليَّ صدقة درهم، لم يتكرر، وما
اقتضى التكرار لا فرق فيه بين المطلق والمعلق بشرط وهو
النهي والاعتقاد، فإنه لا فرق بين أن يقول: لا تكلم زيدًا
عند دخولك الدار ، وبين أن يقول: لا تكلم زيدًا، في أن
جميع ذلك يقتضي التكرار، وكذلك لا فرق بين أن يقول: إذا
زالت الشمس فصلِّ، وبين أن يقول: صلِّ في أن الاعتقاد على
الدوام، فلما كان الأمر المعلق منه بالشرط يقتضي التكرار،
كذلك المطلق.
واحتج المخالف بأن قوله: صلِّ ركعتين عند الزوال، لما تكرر
الزمان الذي تكرر فيه الأمر كان ما قرن يجب أن يتكرر،
ويفارق هذا المطلق.
والجواب: أن المطلق يقتضي تكرار الزمان حكمًا، كما يقتضي
تكراره لفظًا.
واحتج بأن الأوامر المعلقة بشرط أو صفة في كتاب الله تعالى
تقتضي التَّكرار كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1،
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 2.
والجواب: أن الأوامر المطلقة بهذه المثابة، وهو قوله
تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3.
واحتج بأن الشرط كالعلة، والحكم المعلق بالعلة يتكرر
بتكرار العلة، كذلك المعلق بالشرط يتكرر بتكرر الشرط.
والجواب: أن الشرط ليس كالعلة؛ لأن العلة توجب الحكم،
والشرط [31/ أ] لا يوجبه، ومثل الشرط لا يكون شرطًا، ومثل
العلة لا يكون علة،
__________
1 "2" سورة النور.
2 "6" سورة المائدة.
3 "43" سورة البقرة.
(1/276)
يبين هذا: أن
ما كان شرطًا لطلاق أو نذر لا يكون شرطًا لطلاق آخر ونذر
آخر؛ ولأن الشرط لا يجب الحكم لوجوده، وإنما يجب عدمه
لعدمه، والعلة يجب وجود1 الحكم لوجودها، ويجب عدمه لعدمها،
ألا ترى أن الحياة شرط في العلم، فلا يجب لوجود الجسم
حيًّا أن يكون عالِمًا. ويجب عدم العلم لعدم الحياة.
والطهارة شرط في صحة الصلاة لوجود الطهارة، ويجب عدمها
لعدم الطهارة، وإذا كان وجود الشرط لا يوجب المشروط، وقد
وجب التكرار، كذلك عدمه؛ لأن الوجوب يتعلق بالأمر لا
بالشرط.
__________
1 في الأصل: "وجوب".
(1/277)
فصل:
والدلالة على أنه لا يوجب
الوقف أن قوله: افعل، تقديره: أوقع فعلا، فوجب أن
يحمل على الإمكان على ما نقول نحن، أو على المرة الواحدة
كما يقوله غيرنا، فمتى حملناه على الوقف أسقطنا فائدة
الأمر.
واحتج المخالف بأنه لما جاز أن يراد بهذه اللفظة التكرار،
ويراد بها المرة الواحدة، لم يكن لِلَّفظ ظاهر1.
والجواب: أن المرة الواحدة معلومة قطعًا، فكان يجب الإتيان
بها عليه، ويقف فيما زاد عليه، وعلى أن احتماله لما ليس
بظاهر منه لا يضر حال الإطلاق، ألا ترى أن اسم الدابة
حقيقة لما يدب على وجه الأرض وإن كان حال إطلاق اللفظة لا
يحمل عليه، كذلك ههنا، ويأتي الكلام في هذا الفصل مستوفى
في المسألة التي بعدها.
__________
1 راجع في هذه المسألة المسوَّدة "ص: 23"، والتمهيد في
أصول الفقه، الورقة "28/ ب- 29/ أ".
(1/277)
إذا تكرر لفظ الأمر فهل يتقضي التكرار
...
فصل: [إذا تكرر لفظ الأمر فهل يقتضي التَّكرار]:
واختلف القائلون في أن الأمر لا يقتضي التكرار في لفظ
الأمر إذا تكرر، هل يقتضي التكرار1؟
فقال أصحاب أبي حنيفة: إن ذكر في الثاني ما يوجب تعريف
الأول، مثل أن يقول: صلُّوا ركعتين، ثم يقول: صلُّوا
الصلاة، فلا يقتضي ذلك إلا ذلك الأول2، وإن كان الثاني
منكرًا كان أمرًا آخر غير الأول3.
وقد ذكر أبو حنيفة من أقر لرجل بعشرة، وكرر، أن عليه بكل
إقرار مقتضاه.
واختلف أصحاب الشافعي.
__________
1 محل النزاع في هذه المسألة هو: ما إذا تعاقب أمران غير
متعاطفين بمتماثلين، ولا مانع للتكرار.
انظر: تيسير التحرير "1/ 361، 362"، والتقرير والتحبير "1/
319، 320"، وشرح الجلال على جمع الجوامع "1/ 389، 390".
2 لأن النكرة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأول.
وهناك قيدان في المسألة لم يذكرهما المؤلف هما:
1 أن يكون المأمور به قابلا للتكرار، فإن كان غير قابل،
نحو: "صم اليوم، صم اليوم" فإن الثاني مؤكد للأول بغير
خلاف.
2 إذا دلَّت العادة على التأكيد كقولك: "اسقني ماءً، اسقني
ماءً" فإن العادة تقضي أن الحاجة تنقضي بالأمر الأول.
راجع: المراجع السابقة، بالإضافة إلى المسودة "ص: 24".
3 الحقيقة: أن الحنفية لهم ثلاثة آراء في المسألة، مثلهم
في ذلك مثل الشافعية.
راجع في هذا: التقرير والتحبير "1/ 319، 320"، وتيسير
التحرير "1/ 361 ، 362"، وفواتح الرحموت "1/ 391، 392".
(1/278)
فمنهم من قال1:
يكون أمرًا ثانيًا2.
ومنهم من قال: هو توكيد الأول.
ومنهم من قال: هو [على] الوقف3.
فمن قال: إنه أمر ثانٍ4، فوجهه: أنه لما تكرر المأمور به،
كان الظاهر أنه أمر آخر، ألا ترى أنه لو أراد الأول لذكر
ما يقتضي رجوعه إليه، والحكم يتعلق بظاهر الأمر، وليس كذلك
إذا عرف من الثاني؛ لأنه لا معهود غير الأول، فوجب أن يرد
إليه، مثل أن يكون بين المتخاطبين عهد في رجل، فإذا قال
أحدهما: كان الرجل كذا، عرف منه المعهود5.
ومن قال: هو توكيد للأول، قال: الأمر الثاني يحتمل أن يراد
به إيجاب مستأنف، ويحتمل أن يراد به تأكيد الأول، فلا يجوز
تعليق الإيجاب بالشك، ومن قال بالوقف [31/ ب] استدل بهذا،
وقال: يحتمل الإيجاب، ويحتمل التأكيد، فوجب الوقف فيه.
ولا حاجة بنا إلى الكلام في هذا الفصل؛ لأن عندنا الأمر
الأول اقتضى
__________
1 وبهذا قال القاضي عبد الجبار وأبو إسحاق الفيروزآبادي
والآمدي، وعزاه ابن عقيل إلى أبي بكر الباقلاني. وقد قال
في المسوَّدة: إن هذا القول أشبه بمذهبنا، أي المذهب
الحنبلي.
راجع: الإحكام للآمدي "2/ 172"، والمسودة "ص: 23".
2 في الأصل: "ثابتًا".
3 وعزاه ابن عقيل إلى أبي الحسن الأشعري كما في المسودة
"ص: 23".
4 في الأصل: "ثاني".
5 وقالوا أيضًا: حمله على أمر ثانٍ تأسيس، وهو أولى من
التأكيد؛ لأنه الأصل لما فيه من وضع الكلام لفائدة.
(1/279)
التكرار،
والثاني لم يُفِدْ غير ما أفاد الأول1، ولكن ذكرناه؛ لنعرف
الاختلاف على مذهب غيرنا2.
__________
1 هكذا اختار هنا، ولكنه في كتاب "الروايتين" و"مقدمة
المجرد" اختار أنه أمر ثانٍ، وليس مؤكدًا. انظر: المسودة
"ص: 23".
2 تكرر الأمر إما أن يكون بعاطف أولا، أما في حالة عدم
العطف، فقد تكلم عنها المؤلف. أما في حالة العطف، فلم
يتكلم عنها، ويمكن إيجاز القول فيها في الصور الآتية:
1 إذا كان أحد الأمرين معطوفًا على الآخر، ولكن العقل يمنع
التكرار، نحو قولك: "اقتل زيدًا، واقتل زيدًا"؛ لأن قتل من
قتل مستحيل.
2 إذا كان أحدهما معطوفًا على الآخر، ولكن الشرع يمنع
التكرار، نحو قولك: "اعتق عبدك، واعتق عبدك".
3 إذا كان العطف متراخيًا، فإن الأمر الثاني غير الأول
باتفاق.
4 إذا كان المأمور به مختلفًا، فإن الأمر الثاني غير الأول
باتفاق، نحو قولك: "صلِّ ركعتين، وصم يومين".
5 أن يتماثل المأمور به، ولكن غير قابل للتكرار، كقولك:
"صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة"، فالأمر الثاني للتأكيد
اتفاقًا.
6 إذا كان المأمور به، قابلا للتكرار، والعادة لا تمنع
منه، وليس الثاني معرفًا نحو قولك: "صلِّ ركعتين، وصلِّ
ركعتين"، فقد اختلف فيها: فقال الآمدي: حكمها حكم ما لم
يكن حرف عطف.
أما الحنفية: فالوجه عندهم: أنه أمر ثانٍ.
وقيل: الثاني عين الأول: هذا إذا لم يوجد مرجح للتأكيد،
فإن وجد عمل به، وعند تعادل المرجحات يعمل بمرجح من خارج،
وإلا فالوقف.
وقيل: إنه أمر ثانٍ، لما فيه من الاحتياط. ورد بأن
الاحتياط قد يكون في التأكيد.
7 إذا كان المأمور به قابلا للتكرار، ولكن العادة تمنع
منه، كقولك: "اسقني ماء، اسقني ماء"، فذهب الآمدي: أن حكمه
كما لو لم يكن حرف عطف -أي مقتضى الثاني غير مقتضى الأول-
وذلك أن منع العادة للتكرار عارضه ظاهر حروف العطف الذي هو
التكرار.
أما في المسودة فقد حكم أنه يفيد التكرار في مثل هذه
الحالة.
العادة للتكرار عارضه ظاهر حروف العطف الذي هو التكرار.
أما في المسودة فقد حكم أنه يفيد التكرار في مثل هذه
الحالة.
(1/280)
مسألة الأمر المطلق يقتضي التكرار
مدخل
...
مسألة 1 : [الأمر المطلق يقتضي التكرار]:
الأمر المطلق يقتضي التكرار على الإمكان، سواء كان مقيدًا
بوقت يتكرر مثل قوله: إذا زالت الشمس فصلِّ، أو كان غير
مقيد، مثل قوله: صلِّ2.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية عبد الله3: "قوله
تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُم} 4، فإن ظاهرها يدل على أنه إذا قام فعليه ما
وصف، فلما كان يوم الفتح صلى النبي -صلى الله عليه وسلم-
بوضوء واحد 5". فقد نصَّ -رضي الله عنه- على أن الظاهر
دلَّ على أن كل قائم عليه
__________
1 راجع في هذه المسألة: "الواضح في أصول الفقه" الجزء
الأول، الورقة "260-266"، و"التمهيد في أصول الفقه"،
الورقة "26- 28"، و"المسوَّدة" "ص: 20-24"، و"روضة الناظر"
"ص: 103-105" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 328، 329" من
الملحق.
2 هذا القول رواية عن الإمام أحمد وعليها أكثر أصحابه، وهو
اختيار القاضي هنا، ولكن أبا البقاء الفتوحي حكى عنه -أي
عن القاضي- الاختلاف في الاختيار، بينا جزم ابن قدامة
بنسبة هذا القول إليه.
وهناك رواية أخرى، وهي: لا يقتضي التكرار إلا بقرينة، وعزا
ابن مفلح هذا القول إلى أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو
اختيار أبي الخطاب كما في كتابه التمهيد، الورقة "26/ أ"
وإليه مال ابن قدامة في "روضة الناظر"، راجع: المسودة
وروضة الناظر في المواضع السابقة.
3 في المسودة "ص: 21" من رواية صالح.
4 "6" سورة المائدة.
5 هذا الحديث رواه بريدة -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه
عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء
واحد "1/ 232".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في أنه
يصلي الصلوات بوضوء واحد "1/ 89"، وقال فيه: حديث حسن
صحيح. وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الرجل
يصلي الصلوات بوضوء واحد "1/ 39" وأخرجه عنه النسائي في
كتاب الطهارة، باب الوضوء لكل صلاة "1/ 73".
وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب الطهارة، باب الوضوء
لكل صلاة "1/ 54".
(1/264)
الوضوء حتى
خصَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعله.
خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في قولهم: لا يقتضي
التَّكرار1. وخلافًا لبعض الشافعية في قولهم: إن كان
معلقًا بشرط اقتضى التَّكرار، فأما المطلق فلا يقتضي
التَّكرار2.
وخلافًا للأشعرية في قولهم: هو على الوقف3.
__________
1 كون الأمر لا يقتضي التَّكرار رواية عن الإمام أحمد، وقد
اختارها أبو الخطاب وابن قدامة المقدسي.
وينبغي أن يعلم أن أصحاب هذا القول اختلفوا بعد ذلك على
ثلاثة أقوال:
الأول: أنه للمرة الواحدة ومحتمل للتكرار.
الثاني: أنه للمرة وغير محتمل للتكرار.
الثالث: أنه لطلب ماهية الفعل، لا بقيد مرة ولا بقيد
تكرار.
راجع: الإحكام للآمدي "2/ 143"، و"روضة الناظر" "103-
105"، و"المنخول" "ص: 108".
2 وقد اختار هذا القول المجد ابن تيمية، حيث قال بعد حكاية
هذا القول: "وهو أصح عندي" انظر: "المسودة" "ص: 20".
3 وإلى هذا القول مال إمام الحرمين، كما نقله الآمدي في
"الإحكام" "2/ 143"، وقد اختلف في معنى الوقف هنا:
فقيل: لا يعلم أوضع الأمر هنا للمرة، أو للتكرار، أو لمطلق
الفعل.
وقيل: لا يعلم مراد المتكلم؛ لاشتراك الأمر بين هذه
الثلاثة. انظر: "إرشاد الفحول" "ص: 98".
(1/265)
دليلنا:
أن الصحابة عقلت من ظاهر قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 أنه يقتضي
التكرار، ألا ترى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جمع
عام الفتح بطهارة واحدة بين صلوات، قال له عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه: أعمدًا فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال:
"نعم"، فعقلت من إطلاق الآية التكرار، فلما خالف النبي
-صلى الله عليه وسلم- ذلك وجمع بطهارة واحدة سألته عن ذلك
واستكشفت عن حاله.
وأيضًا: فإن الأمر كالنهي في باب أن النهي أفاد وجوب ترك
الشيء، والأمر أفاد وجوب فعله، ثم كان النهي أفاد وجوب
الترك على الاتصال أبدًا، وجب أن يكون الأمر يفيد وجوب
الإيجاب على الاتصال أبدًا.
وامتنع أبو بكر الباقلاني من تسليم هذا، وقال: يقتضي
الكفَّ عن مرة واحدة قدر ما إذا وقع منه من الكف.
قيل: قد [ر] النهي كالأمر سواء، وهذا قول مخالف الإجماع؛
لأن الفقهاء أجمعوا على أن النهي يقتضي التكرار2، وفرقوا
بين الأمر والنهي بفروق، ونحن نذكرها، وما خالف الإجماع لا
يلتفت إليه.
__________
1 "6" سورة المائدة.
2 القول بأن النهي يقتضي التكرار مجمع عليه، حكاه ابن
برهان أيضًا، كما حكى الآمدي أنه اتفاق العقلاء إلا من
شذَّ.
والواقع أن حكاية الإجماع غير صحيحة، فقد خالف أبو بكر
الباقلاني كما ذكر المؤلف، وقال صاحب المحصول: إن القول
بعدم التكرار هو المختار، وقال صاحب الحاصل: إنه الحق.
وقد بَيَّنَ الشيخ بخيت أن الخلاف لفظي، وأن النهي يكون
للدوام، مدة العمر في المطلق، ومدة القيد في المقيد. راجع:
الإحكام للآمدي: "2/ 180"، ونهاية السول شرح منهاج الأصول
مع حاشية الشيخ بخيت "2/ 294- 296".
(1/266)
فإن قيل:
كلامنا في موجب اللغة، وهذا إثبات لموجب اللغة بالقياس،
واللغة لا تقاس.
قيل: يجوز إثبات اللغة بالقياس. وقد ذكر هذا في باب
القياس، وأنه يجوز إثبات الأسماء قياسًا.
فإن قيل: البر في القسم يقتضي1 التَّكرار، وهو قوله: والله
لا دخلت هذه الدار. فأمسك عن [28/ ب] الدخول ساعة، ثم دخل،
حنث. ومن الفعل يقتضي فعل مرة، فإنه إذا قال: والله لأدخلن
هذه الدار. فدخلها مرة بَرَّ.
قيل: البر والحنث من أحكام الشرع، والخلاف في موجب الأمر
وموضعه في اللغة، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر.
فإن قيل: الشرع ورد باعتبار موجب اللفظ في اللغة فيما
يتعلق به من البر والحنث، فإذا جعلناه بارًّا في الشرع؛
فلأنه فعل ما أوجبه اللفظ من طريق اللغة، وإذا جعلناه
حانثًا في الشرع، فلأنه خالف ما أوجبه لفظه في اللغة.
قيل: لم يرد باعتبار موجب اللغة بدليل أن الله تعالى لو
حرم أكل الرءوس، حمل ذلك على مقتضى اللغة، فيحرم عليه كل
ما يسمى رأسًا، ولو قال: والله لا أكلت الرءوس، تناول رءوس
الأنعام عندهم.
فإن قيل الترك في الخبر يقتضي التكرار، وهو قولهم: "فلان
ما صلى"، وفي الفعل يقتضي مرة، وهو قولهم: "فلان صلى"
يقتضي صلاة واحدة.
__________
1 في الأصل: "بمقتضى".
(1/267)
قيل: الخبر في
الفعل إنما اقتضى فعل مرة واحدة؛ لأنه إخبار عن إيقاع فعل
في زمان قد شاهده فيه، وهذا لا صيغة له تقتضي العموم،
نظيره أن ترد لفظة الأمر قضية في عين، فلا تقتضي الصيغة
العموم.
فإن قيل: لو قال: افعل مرة، لم يقتضِ التكرار.
قيل: لا نسلم هذا، بل نقول: يقتضي الكفَّ مرة، فإذا فعل
مرة سقط النهي؛ لأن المنهي عنه قد يكون قبيحًا في وقت،
حسنًا في وقت آخر، كالأمر يكون حسنًا في وقت، قبيحًا في
وقت آخر. يبين صحة هذا: أنه لو قال لعبده: لا تدخل الدار،
ولا تكلم زيدًا إذا قام عمرو، اقتضى ذلك الكف عند وجود
الشرط، كالامر المعلق بشرط يقتضي وجوده عند وجود الشرط،
ولو أطلق النهي اقتضى الكفّ على الدوام كالأمر.
فإن قيل: النهي يقتضي قبح المنهي عنه، فأي وقت فعله كان
فاعلا للقبيح، وفعل القبيح يستوجب عليه الذَّم، والأمر
يقتضي حسن المأمور به وإيجاده، فإذا وجد كان مؤتمرًا، وإن
حصل تاركًا لما عداه.
قيل: قولك: "إن النهي يقتضي قبح المنهي عنه" غير مسلم؛ لأن
المنهي عنه قد يكون ندبًا وفضلا، وقد بَيَّنَّا ذلك فيما
تقدم، وقد يكون محرمًا كالأمر يكون ندبًا، ويكون موجبًا.
وقوله: "إن الأمر يقتضي حسن المأمور به، فلم يجب تكراره"،
غلط؛ لأن الحسن لا يجب فعله متكررًا أو مرة واحدة من حدث
كان حسنًا؛ لأن من الحسن ما يجب الدوام على فعله، كالصلاة،
ومنه ما لا يجب كالحج.
فإن قيل: حمل الأمر على الدوام فيه مشقة وتكليف لما لا
يطاق، وانقطاع عن المصالح، وترك العبادات والنسل، وليس في
حمل النهي على التَّكرار مشقة، وتكليف لما لا يطاق وانقطاع
عن المصالح.
(1/268)
قيل: هذا غلط؛
لأننا نقول بمقتضى التكرار على الإمكان [29/ أ] والوسع،
على وجه لا يفضي إلى الانقطاع عن الفروض والمصالح. وعندهم
يجب فعل مرة واحدة، وإن كان في الطوق والوُسْعِ أكثر منها.
ثم يبطل به إذا قال: صلِّ على الدوام، لزمه التكرار وإن
أفضى إلى ما ذكرت.
وأيضًا: فإن الأمر يتضمن ثلاثة أشياء: وجوب الفعل، ووجوب
الاعتقاد لوجوبه، ووجوب العزم على فعله. وقد ثبت أن
الاعتقاد والعزم يجب تكررهما كذلك الفعل.
وحكى الجرجاني1 عن بعض شيوخه: أنه لا يلزم تكرار الاعتقاد
وإنما عليه اعتقاد حكمه والبقاء على ذلك من غير أن يحدث ما
ينافيه، وبناه على الفعل، وأنه لا يلزمه تكراره، وشبهه
بالإيمان، وأن من اعتقده استحق المداومة عليه، وأن لا يحدث
ما ينافيه، وإن لم يكرره.
وهذا القائل إن لم يسلِّم الاعتقاد، فقد سلم وجوب دوام
البقاء على الاعتقاد، وهذا لا خلاف فيه؛ لأنه لو أبيح له
ترك اعتقاد وجوب ما كلف وجوبه، لكان قد أبيح له ترك العلم
بصدق الله تعالى في أخباره، وإذا ثبت وجوب المدوامة على
الاعتقاد وجب المداومة على الفعل؛ لتضمن الأمر لكل واحد
منهما2.
__________
1 هو محمد بن يحيى بن مهدي، أبو عبد الله الجرجاني، حنفي
المذهب، جرجاني الأصل، بغدادي السكنى، كان يدرس بمسجد:
قطيعة الربيع، ببغداد. له كتابان: "ترجيح مذهب أبي حنيفة"،
و"القول المنصور في زيارة القبور". مات سنة: 397هـ.
له ترجمة في: الأعلام "8/ 5"، وتاريخ بغداد "3/ 433"،
والجواهر المضية في طبقات الحنفية "2/ 143"، وطبقات
الفقهاء لطاش كبرى زاده "ص: 72"، والفوائد البهية في تراجم
الحنفية "ص: 202".
2 في الأصل: "منها".
(1/269)
فإن قيل: هذا
يبطل بالأمر المقيد بفعل مرة واحدة؛ لأنه إذا قال: حجوا في
العمر مرة واحدة، وجب العزم والاعتقاد على التكرار، ووجوب
الفعل مرة.
قيل: إنما كان الاعتقاد في الأمر المقيد بفعل مرة على
التكرار؛ لأن الأمر بالاعتقاد فيه على الإطلاق، فاقتضى
التكرار، لإطلاق الأمر فيه، وهو في الفعل مقيد بمرة فلم
يقتضِ التَّكرار، فنظيره أن يقول: اعتقد وجوبه مرة، فلا
يقتضي التكرار.
فإن قيل: المأمور1 إذا كان عالِمًا بما أمر به ذاكرًا له،
لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد والعزم، ولا يخلو من أن
يعتقد وجوبه أو غير وجوبه، أو يعزم على فعله أو تركه، ولا
يجوز اعتقاد غير الوجوب؛ لأن اللفظ يقتضي وجوب الفعل، فإن
كان كذلك، وجب اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل ما دام
الفعل واجبًا عليه، وليس كذلك الفعل، فإن تركه جائز إلى أن
يفعله، فدلَّ على الفرق بينهما.
قيل: قولك: "إنه لا يجوز اعتقاد غير الوجوب؛ لأن اللفظ
يقتضي الوجوب" لا يصح؛ لأنه كان يجب أن يعتقده مرة، ثم
يقطع الاعتقاد، ولا يكون قطع الاعتقاد في الثاني مانعًا من
الأول؛ لأن الأول قد صح ومضى، فاعتقاد غيره لا يمنعه طريان
النسخ في الثاني، [كما] لا يمنع صحة ما تقدم.
وقولك: "إن ترك الفعل لا يمنع صحة ما تقدم"، فهذا لا يمنع
التكرار كالنهي، فإن مخالفته في الثاني لا تمنع صحة ما
يدوم من الترك، ومع هذا تكرر.
وأيضًا فإن الواحد من أهل اللغة إذا قال لعبده: احفظ هذا
الفرس،
__________
1 في الأصل: "المأمور به".
(1/270)
[29/ ب] فحفظه
ساعة ثم تلاه، استحسن ذمه وتوبيخه، وكذلك المودع فدلَّ على
أن الأمر يقتضي التكرار. وأيضًا: فإنه لما لم يتعين بزمان،
وجب حمله على العموم في الأزمان في وجوب الفعل، كما أن لفظ
العموم يشمل1 جميع الأعيان؛ لأنه لم يخص ببعضها، كذلك
الأزمان.
واحتج المخالف: بأن الطاعة والمخالفة في الأمر والنهي
بمنزلة البر والحنث في القسم؛ لأن كل واحد منهما يعتبر فيه
موافقة موجب اللفظ ومخالفته، فإذا ثبت هذا وكان إذا قال:
والله لأصلين، أو لأصومنَّ، أو لأحجنَّ، أو قال لغيره:
والله لتصلين، أو لتصومن أو لتحجن، اقتضى فعلا واحدًا، فلا
يقتضي التكرار، ويكون من فعله بَرَّ في يمنيه [و] وجب أن
يكون مطيعًا لله تعالى به متمثلا لأمره. ويدل على أنهما
سواء أن النهي الذي هو متعلق بالترك والقسم في الترك سواء
في أن كل واحد منهما يقتضي التكرار، ويكون مخالفًا بفعل
مرة واحدة، وكذلك الأمر المقيد بوقت أو بعدد أو بصفة
بمنزلة القسم المقيد بذلك، فوجب أن يكون مطلق الأمر بمنزلة
مطلق القسم.
والجواب عنه ما تقدم وهو: أن البر والحنث من أحكام الشرع،
والخلاف في موجب الأمر وموضوعه في اللغة، فلم يجز اعتبار
أحدهما بالآخر، والثاني أن التكرار ليس بمراد للحالف.
وجواب آخر وهو: أن الترك في القسم إذا كان معلقًا بوقت،
وهو أن يقول: والله لا دخلت الدار عند زوال الشمس، لم
يقتضِ التكرار، حتى إنه إذا وجد الترك مرة عند الزوال سقطت
اليمين، والترك في ألفاظ صاحب الشريعة إذا علق بوقت اقتضى
التكرار2، فإذا قال: لا تزكوا
__________
1 في الأصل: "يشتمل".
2 في الأصل: "الدوام"، وهو خطأ، وقد صوَّبه الناسخ في
الهامش بما أثبتناه.
(1/271)
إذا زالت
الشمس، لم يسقط حكمه بترك مرة.
وجواب آخر: وهو أن اعتقاد الفعل في القسم لا يقتضي الدوام،
واعتقاد أداء الفعل في الأمر يقتضي الدوام.
وجواب آخر: وهو أن الترك في اليمين إذا حصلت المخالفة
بفعله مرة سقط حكم القسم، على معنى أنه إذا فعل المحلوف
على تركه ثانيًا، حنث ثانيًا، وليس كذلك في ألفاظ صاحب
الشريعة؛ لأنها لم يحنث، ولا تسقط بالمخالفة مرة، فبان
الفرق.
واحتج: بأنه إذا قال: صلى فلان، اقتضى صلاة واحدة، ولا
يقتضي التكرار، وإذا كان لفظ الخبر لا يقتضي التكرار،
فكذلك لفظ الأمر؛ لأن الأمرَ أمرٌ بإيقاع فعل، [و] الخبر
خبر عن وقوعه؛ ولأن قوله: صلِّ، بمنزلة: افعل صلاة، ولو
قال: افعل صلاة، اقتضى صلاة واحدة، ولا يقتضي التكرار،
فإذا قال: صلِّ، وجب أن يقتضي صلاة واحدة.
والجواب عنه ما تقدم من أن الخبر في الفعل إخبار عن إيقاع
الفعل في زمان قد شاهده، وهذا لا صيغة له، والأمر المطلق
له صيغة؛ ولأنه لا يجب تكرر [30/ أ] الاعتقاد في الخبر.
واحتج: بأن قوله لامرأته: طلقي نفسك، اقتضى طلاقًا واحدًا،
وكذلك إذا قالت له: طلِّقني بألف، فطلقها تطليقة واحدة
استحق الألف.
وكذلك إذا قال لوكيله: طلق فلانة، اقتضى طلاقًا واحدًا،
ولا يقتضي التكرار، إلا بقرينة تدل عليه.
وكذلك لو قال لعبده: تزوج، لم يملك أن يتزوج إلا امرأة
(1/272)
واحدة، نص
عليه1 في رواية بن بختان2، وكذلك في سائر الأوامر.
والجواب: أن هذا ثبت بالشرع، والخلاف في موجب الأمر
وموضوعه في اللغة.
فإن قيل: أوجب الشرع إثبات موجب اللفظ من طريق اللغة، ألا
ترى أنه إذا قال: طلق، وكرر الطلاق أو ما يثبت من العدد،
كان له أن يكرره؟
قيل: قد بَيَّنَّا أنه غير معتبر بموجب اللفظ من طريق
اللغة من الوجه الذي بينا؛ ولأن اعتقاد الفعل هناك لا
يقتضي الدوام، وفي مسألتنا يقتضي الدوام، وهو من جملة
الأوامر كما بَيَّنَّا.
واحتج: بأن قول القائل: صمْ، وصلِّ، أمر بما يسمى صلاة
وصومًا، فإذا فعل صومًا واحدًا، أو صلاة واحدة، فقد أتى
بما يتضمنه الأمر.
والجواب: أنه أمر بما يسمى صلاة على التكرار، كما كان
قوله: لا تزن، نهي عما يسمَّى زنا على التَّكرار، وكما كان
قوله: صلِّ، أمرًا باعتقاد ما يسمى صلاة على التكرار، كذلك
في الفعل.
واحتج: بأن كونه على التكرار يقتضي المناقضة، إذا كان
الأمر
__________
1 هذه الرواية هي -كما في رواية صالح ويعقوب بن بختان-:
إذا أذن له سيده يتزوج، قال: واحدة، وإن أراد أن يتزوج
أخرى استأذنه. وقال أيضًا: إذا خيَّر زوجته، لم يجز لها أن
تطلق نفسها إلا طلقة واحدة.
انظر: المسودة "ص: 21".
2 في الأصل غير معجم، والصواب ما أثبتناه كما في المسودة
"ص: 21"، وقد سبقت ترجمته "ص: 185".
(1/273)
بشيئين مختلفين
مثل الحج والجهاد؛ لأنه لا يمكنه أن يواصل كل واحد منهما
أبدًا.
والجواب: أنا نثبت التَّكرار على الإمكان، وإذا كان كذلك
لم يفضِ إلى المناقضة.
واحتج: بأنه لو اقتضى التكرار لم يحسن الاستفهام.
والجواب: أنا لا نسلم ذلك، وإن سلمناه فإنما ذلك على طريق
الاستثبات، كما يقال له: جاءك الملك، فيقول: جاءني الملك؟
على طريق الاستثبات.
واحتج: بأنه لو اقتضى التكرار لم يحسن تأكيده بالأبد،
فيقول: صلِّ أبدًا، وصُمْ أبدًا.
والجواب: أنا نقلب هذا فنقول: ولو اقتضى مرة لم يحسن
تأكيده بمرة واحدة، فنقول: صلِّ مرة واحدة، لم يحسن، وعلى
أن هذا يجوز على طريق التأكيد، ولقوله تعالى: {فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} 1، كذلك ههنا.
واحتج بأنه2 لو قال لرجل: كُلْ، ثم قال: كُلْ، كان أمرًا
بالأكل مرتين، فلو كان الأمر يقتضي الاتصال أبدًا، كان
قوله: ثم كل، تأكيدًا لا عطفًا، فلما قال الكل منهم: إنه
عطف أكله على أكله، ثبت أنه لا يقتضي الاتصال.
والجواب: أنه لا يمتنع أن نقول: إن الثاني تأكيد، لا عطف،
كما كان قوله: لا تَزْنِ، ثم قال: لا تَزْنِ، كان الثاني
تأكيدًا.
__________
1 "30" سورة الحجر.
2 في الأصل: "بأن".
(1/274)
واحتج بأنه لو
قال [30/ أ] لعبده: ادخل الدار، فدخل ثم استخبره فقال: قد
دخلت؟ صح أن يجيبه عنه بنعم، أو يقول: قد دَخَلْت، فلولا
أنه امتثل كل ما أمره به لما صح أن يخبره عنه.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يصح خبره في ذلك، ولا يكون
ممتثلا للأمر، كما لو قال: ادخل الدار مائة مرة، فدخلها
مرة، صح أن يخبر بالدخول ولا يكون ممتثلا، وكذلك الاعتقاد
يصح أن يخبر أنه معتقد، وإن كان ذلك على الدوام.
(1/275)
مسألة الأمر المطلق يتقضي الفور
مدخل
...
مسألة 1 : [الأمر المطلق يقتضي الفور]:
الأمر المطلق: يقتضي فعل المأمور به على الفور عقيب الأمر.
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- لأنه يقول: الحج على
الفور، وإنما يتصور الخلاف على قولنا إذا دلَّ الدليل على
أنه أريد به مرة، فأما
__________
8 إذا كان المأمور به قابلا للتكرار، ولكن الثاني معرف،
كقولك: صلِّ ركعتين صلِّ الصلاة.
فعند الآمدي: الحكم فيها كسابقتها، حيث تعارض الظاهر مع
حروف العطف مع اللام المعرفة، فتساقطا، ويكون الحكم كما لو
لم يوجدا.
وقد رأيت في المسوَّدة أنه يكون للتأكيد؛ لأجل التعريف،
ونسبه للقاضي أبي يعلى، وحكى بعد ذلك قولين بصيغة: "قيل"
أحدهما: أنه أمر ثانٍ، وثانيهما: الوقف.
9 إذا كان المأمور به قابلا للتكرار، ولكن العادة تمنع
منه، كما أن الثاني معرف كقولك: "اسقني ماء، واسقني ماء".
فقد توقف الآمدي في هذه الصورة؛ لأن ترجيح التأسيس على
التأكيد، وترجيح ظاهر حروف العطف، وقد قابلهما العادة
المانعة من التكرار والتعريف، فإن رجج بينهما، فالترجيح
لأمر خارج عنهما.
راجع: الإحكام للآمدي "2/ 172- 174"، وتيسير التحرير "1/
361، 362" والتقرير والتحبير "1/ 319، 320" وفواتح الرحموت
"1/ 391، 392" مطبوع مع المستصفى، والمسودة "ص: 23، 24"،
وشرح الجلال على جمع الجوامع مع حاشية البناني "1/ 389،
390".
1 راجع في هذه المسألة: الواضح في أصول الفقه، الجزء
الأول، الورقة "273- 281" ، والتمهيد الورقة "29- 34"،
وشرح مختصر الروضة، الجزء الأول الورقة "202- 205"،
والمسودة "ص: 24- 26".
(1/281)
إذا قلنا على
التكرار، فلا يتصور التأخير والتقديم. وهو قول أصحاب أبي
حنيفة1.
وقال الأكثر من أصحاب الشافعي: هو على التراخي2. وهو قول
المعتزلة3.
وقالت الأشعرية: هو على الوقف.
وكان أبو بكر الباقلاني ينصر أنه على التراخي4.
__________
1 نسبة القول بالفورية إلى الحنفية ليست على إطلاقها، وقد
توبع القاضي في هذا في المسودة حيث جاء فيها: "والفورية
معزوة إلى أبي حنيفة ومتَّبِعيه".
وقد وقع في هذا الخطأ كل من الآمدي في الإحكام "2/ 153"،
وابن قدامة في الروضة "105"، والبيضاوي في منهاج الأصول،
والأسنوي في "نهاية السول" "2/ 286"، وأبو البقاء الفتوحي
في شرح الكوكب المنير "ص: 329" من الملحق، والغزالي في
المنخول "ص: 111"، والقرافي في شرح تنقيح الفصول "ص: 128".
وقد خطَّأ الشيخ بخيت المطيعي في حاشيته على نهاية السول
"2/ 286" كلا من البيضاوي والأسنوي في ذلك.
والصحيح من المذهب الحنفي: أن المأمور به إذا لم يكن
مقيدًا بوقت يفوت الأداء بفواته، فإنه يجوز التأخير على
وجه لا يفوت المأمور به. ولم يقل بالفورية من الحنفية إلا
أبو الحسن الكرخي، كما صرح بذلك في "مسلم الثبوت" وشرحه
"1/ 387"، والشيخ بخيت في حاشيته على نهاية السول "2/
287". وراجع أيضًا : الفصول في أصول الفقه للجصاص، الورقة
"97/ أ".
2 وعزاه الغزالي في المنخول "111" إلى الشافعي. وهو الأصح
عند الشافعية كما صرح بذلك الشيرازي في اللُّمع "ص: 9".
إلا أن ابن برهان قال: "لم ينقل عن الشافعي وأبي حنيفة نص
عليه، وإنما فروعهما تدل عليه" فواتح الرحموت "1/ 387".
3 راجع في هذا: "المغني" للقاضي عبد الجبار، قسم الشرعيات
"ص: 102"، المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري "1/
120- 134".
4 وقد نقل ذلك القرافي في كتابه: شرح تنقيح الفصول "ص:
129".
(1/282)
وقد أَومَأَ
أحمد إلى هذا في رواية الأثرم1 وقد سئل عن قضاء رمضان
يفرق؟ فقال: نعم، قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} 2. فظاهر هذا أنه لم يحمل الأمر على
الفور؛ لأنه لو حمله على الفور منع التفريق، والمذهب: ما
حكينا أولا.
واختلف المتكلمون في هذه المسألة: هل معرفة ذلك المعقول أم
اللغة؟
فذهب بعضهم إلى أن طريق ذلك العقل؛ لأن هذا اختلاف في
أحكام، فليس بمأخوذ عن أهل اللغة.
وقال آخرون: معرفة ذلك اللغة؛ لأنهم يقولون: فعل ويفعل،
فيدل أحدهما على زمان ماضٍ، والآخر على زمان مستقبل.
__________
1 هو أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم الإسكافي أبو
بكر، من أصحاب الإمام أحمد الأجلاء، وممن أخذوا عنه. فقيه،
حافظ، ثقة، له كتاب "العلل" مات بعد "260هـ".
له ترجمة في: تاريخ بغداد "5/ 110"، وتذكرة الحفاظ "2/
570"، وتهذيب التهذيب "1/ 78"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص:
11"، وطبقات الحفاظ "ص: 256"، وطبقات الحنابلة "1/ 66"،
والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد "205".
2 "184" سورة البقرة.
(1/283)
دليلنا:
أنه لو كان على التراخي لم يَخْلُ المأمور به من أحد
أمرين: إما أن يكون له تأخيره أبدًا، حتى لا يلحقه
التفريط، ولا يستحق الوعيد إن مات قبل فعله. أو يكون
مفرطًا مستحقًا للوعيد إذا تركه حتى مات.
فإن قلنا: لا يكون مفرطًا بتركه في حياته، خرج عن حدِّ
الواجب،
(1/283)
وصار في حدِّ
النوافل1؛ لأن ما كان المأمور مخبرًا بين فعله وتركه، فهو
نافلة أو مباح2.
وإن قلنا: يلحقه الوعيد بالموت، أدى ذلك إلى أن يكون الله
تعالى ألزمه إتيان عبادة في وقت لم ينصب له عليه دليلا
يوصله إلى العلم به، ونهاه عن تأخيرها عنه، ولا يجوز أن
يتعبده الله بعبادة في وقت مجهول، كما لا يحوز أن يتعبده
بعبادة مجهولة، فإذا بطل هذان القسمان، صح ما ذهبنا إليه،
وهو كونه على الفور.
ولا يلزم عليه تكليف الوصية عند الموت للأقربين3، وإن كان
وقت الموت مجهولا؛ لأن الموت عليه أمارة وعلامة، تتعلق
الوصية بحضوره فلا4 يكون تعليقًا له بوقت مجهول لا دلالة
عليه؛ ولأن الوصية يمكن
__________
1 هذا الدليل منقول من كتاب الفصول في أصول الفقه، للجصاص،
الورقة "98/ أ" مع اختلاف بسيط، والعبارة فيه هكذا: "خرج
من حَيِّزِ الوجوب، وصار في حيز النوافل".
2 بقية الدليل في الفصول هي: "ولما ثبت وجوب الأمر بطل هذا
القول".
3 أصل التكليف بالوصية قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوف} الآية.
فذهب بعض العلماء إلى وجوبها مستدلين بالآية.
كما ذهب آخرون إلى أنها مندوبة مستدلين بالآية أيضًا.
والقائلون بوجوبها اختلفوا هل نسخ هذا الحكم أو لا؟.
والقائلون بالنسخ اختلفوا هل كلها منسوخة أو منسوخة في حق
من يرث؟
وإذا كانت منسوخة، فما هو الناسخ؟ هل هو آيات المواريث، أو
حديث:
"لا وصية لوارث" ؟ قولان.
راجع في هذا: أحكام القرآن للجصاص "1/ 102- 107".
4 في الأصل: "فلا لا"، و"لا" الثانية مكررة، لا معنى لها،
ولذلك حذفناها.
(1/284)
فعلها عند حضور
الموت، وفعل العبادات لا يمكن في الغالب عند حضور الموت.
فإن قيل: إن غلب على ظنه في وقت أنه إن أخر عنه فإنه يضيق
عليه وقته لزمه1 تعجيله، وإن لم [32/ ب] يغلب على ظنه ومات
فجأة، لم يعص، ويفارق هذا النوافل؛ لأنه يجب تعجيلها إذا
غلب على ظنه فواتها.
قيل: لا يلغب على الظن ضيق الوقت إلا في وقت لا يمكن فيه
أداء العبادة بشرائطها، وهو عند المرض المتلف، وفي تلك
الحال لا يمكنه أن يحج بنفسه ولا الصيام.
وأيضًا فإن النهي أمر بالترك، والأمر [بالترك] أمر بالفعل،
ثم كان النهي على الفور، كذلك الأمر بالفعل.
فإن قيل: النهي يقتضي التكرار والدوام فاقتضى الفور،
والأمر يقتضي فعلا واحدًا، فلم يقتضِ الفور.
قيل: ليس إذا لم يقتضِ التكرار لم يقتضِ الفور، كالجزاء لا
يقتضي التكرار ويقتضي الفور عند وجود شرطه، وعلى أنه لا
فرق بينهما، وذلك أن مطلق الأمر يقتضي التكرار، ويقتضي فعل
مرة بقرينة، ومثله قد حكينا في النهي.
وأيضًا: فإن الأمر بالفعل يتضمن ثلاثة أشياء: الأمر
بالفعل، والأمر بالاعتقاد، والأمر بالعزم عليه، ثم ثبت أن
الأمر بالعزم، والأمر بالاعتقاد على الفور، كذلك الأمر
بالفعل وجب أن يكون على الفور.
فإن قيل: لو [قال له]: صلِّ بعد شهر، كان الاعقتاد والعزم
على
__________
1 في الأصل: "ولزمه"، وهو خطأ، والصواب: حذف الواو، كما
يتضح من السياق.
(1/285)
الفور، وإن لم
يجب الفعل في هذه الحال، فدل على الفرق بينهما.
قيل: ليس إذا تأخر الفعل بالشرط، تأخر في حال الإطلاق،
بدليل الجزاء، لو قال: إذا دخلت الدار فلك درهم، استحق
الجزاء عند وجود شرطه وهو الدخول، ولو قال له: لك درهم بعد
شهر، تأخر، كذلك الفعل، وعلى أن مثله يقول في الاعتقاد،
وأنه يجوز تأخيره بالشرط.
وقد ذكر ابن عبد الجبار1 في شرحه : أن الأمر يتعلق بأول
الشروط على قول أصحاب الفور، ويتعلق بجميعها على قول أصحاب
التراخي.
فإن قيل: لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد والعزم مع ذكره
الأمر، ولا يجوز أن يعتقد غير الواجب، ولا أن يعزم على
تركه، فوجب اعتقاد وجوبه والعزم على فعله لما ذكرنا لا
باللفظ.
قيل: كما لا يجوز أن يعتقد غير الوجوب، كذلك لا يجوز2 له
تأخير الفعل، وإذا لم يَجُزْ له [تأ]خيره وجب فعله، كما
أنه لما لم يجز اعتقاد غير الوجوب، وجب اعتقاد الوجوب.
وأيضًا: فإن الأمر المطلق في الشاهد يقتضي التعجيل، وهو
الواحد منا إذا أمر عبده بفعل، فأخره، فإنه يحسن توبيخه،
كذلك حكم الأمر في الغائب.
فإن قيل: إنما يحسن توبيخه إذا اقترن بالأمر ما دلَّ على
قصد الآمر، فأما إذا لم يقترن به، فلا يحسن توبيخه.
قيل: من يظهر التوبيخ والذم لا يرجع إلى القرينة، وإنما
يرجع إلى اللفظ فيقول: آمره بكذا فلم يفعل.
__________
1 لم أتوصل إلى معرفة "ابن عبد الجبار" هذا بعد البحث
الكثير.
2 في الأصل: "يجب"، والصواب ما أثبتناه؛ لدلالة السباق
واللحاق.
(1/286)
وأيضًا: فإن
وقوع ما يفيد الإيجاب مطلقًا يفيد الفور، دليله: التمليكات
بعقود البياعات والإجارات والأنكحة وجزاء الشرط، فإن الملك
يحصل بذلك في الحال [32/ ب] وإنما يتأخر بدليل، وهو شرط
الأجل.
واحتج المخالف بقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 1.
وروي أن عمر قال لأبي بكر وقد صُدَّ عام الحديبية: "أليس
قد وعدنا الله تعالى بالدخول فكيف صددنا؟ فقال: إن الله
تعالى وعد بذلك، ولم يقل في وقت دون وقت"2.
قالوا: وهذا يدل على ما قلناه؛ لأنه خبر عين بوقوع فعل
مطلق لا ذكر للوقت فيه، فلم يختص بوقت، فكذلك الأمر؛ لأنه
أمر بإيقاع فعل مطلق من غير توقيت، فيجب أن لا يختص بوقت.
والجواب: أن ذلك وعد بالدخول، وليس بأمر، وخلافنا في لفظة
الأمر؛ ولأن ذلك تعلق بشرط وهو المشيئة، فمتى لم يوجد
الدخول علمنا أن المشيئة لم توجد، وخلافنا في أمر مطلق.
واحتج: أن قول القائل: افعل، استدعاء للفعل، وليس فيه ذكر
الوقت، حتى أي وقت فعله يجب أن يكون ممتثلا للأمر، كما أنه
لم يكن فيه ذكر الحال، فعلى أي حال فعله قائمًا أو قاعدًا،
مستقبلا3 للقبلة أو
__________
1 "27" سورة الفتح.
2 قصة صلح الحديبية، وما جرى في ذلك أخرجها البخاري في
كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية "5/ 162"، وتحدث عن ذلك
الحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" "4/ 168-
170".
3 في الأصل: "أو مستقبلا".
(1/287)
مستدبرها،
متطهرًا أو محدثًا، كان مطيعًا، ولذلك لما لم يكن فيه ذكر
المكان، ففي أي مكان فعله كان ممتثلا، كذلك الوقت.
والجواب: أن الأمر استدعاء على صفة هي الفور، إلا أنه لم
يكن منطوقًا فإنه مقدر1 فيه لا من طريق المعنى، كما اقتضى
وجوب اعتقاد على صفة هي الفور، وكما اقتضى النهي الكفَّ
على صفة هي الفور، وكذلك الجزاء والثمن في المبيع، وليس
إذا لم يكن ذكر الحال والمكان مقدرًا معينًا يجب أن يكون
في الزمان مقدرًا، كما قلنا في الاعتقاد والنهي والجزاء
والأثمان في البياعات.
واحتج: بأن الطاعة والمعصية في الأمر بمنزلة البر والحنث
في القسم، ثم ثبت أنه إذا قال: والله لأفعلن كذا، أنه لا
يختص بوقت، ولكنه في أي وقت فعله كان بارًّا في يمينه،
كذلك يجب أن يكون مطيعًا في الأمر.
والجواب: أن اليمين لا توجب على الحالف شيئًا لم يكن
واجبًا عليه، وإنما هو مخبر بين الوفاء والكفارة، وبين
الامتناع والكفارة، وليس كذلك ههنا؛ لأن هذا لفظ إيجاب،
فنظيره النذر، وهو: أن ينذر صلاة ركعتين، أو صيام يوم ونحو
ذلك، ولا يمتنع أن يقول: يجب على الفور، كما يقول في
مسألتنا، على أن خلافنا في مقتضى الأمر في اللغة، والشرع
قد غَيَّر النذر عن مقتضى اللغة، ولهذا لو نذر عتق عبد، لم
يجزئه2 إلا مسلمًا، وإن كان مقتضاه في اللغة يعم الجميع،
وكذلك لو نذر صلاة أو صيامًا، اقتضى خلاف موجبه في اللغة.
واحتج: بأنه لو كان الأمر يفيد الفور لما حسن الاستفهام.
والجواب: أنه إذا كان الآمر ممن لا يضع الشيء في [غير]
موضعه، لم يحسن منه الاستفهام.
__________
1 في الأصل: "مقدم".
2 في الأصل: "لم يجزه".
(1/288)
واحتج: بأنه لو
خصه بوقت متأخر، وحب تأخيره [33/ أ] كما إذا خصه بوقت
متقدم وجب تقديمه، فإذا لم يكن الوقت مذكورًا، فليس هو
بالتعجيل أولى منه بالتأخير.
والجواب: أنه ليس من حيث لو خصه بزمان متأخر وجب تأخيره،
ما دل على أنه إذا أطلق لا يقتضي التعجيل ألا ترى أن
الجزاء إذا شرط تأخره عن الشرط تأخر، وإذا أطلق لزم ذلك
عقيب الشرط، وكذلك الأبدال في العقود إذا شرط فهيا التأجيل
تأجل، ثم لا يدل ذلك على أنه إذا أطلق لم يكن البدل عقيب
العقد، كذلك ههنا.
واحتج: بأن الأمر بالفعل يتضمن إيقاعه في مكان وزمان، ثم
ثبت أنه لا يختص بمكان بعينه، كذلك لا يختص بزمان بعينه،
وعندكم يختص بزمان بعينه، وهو عقيب الأمر.
والجواب: أن النهي لا يختص بمكان، ويختص بزمان، وهو عقيب
النهي، وعلى أنه لا يمتنع أن يقال: يختص بالمكان الذي أمر
بالفعل فيه؛ لأنه على الفور.
(1/289)
فصل: والدلالة على فساد قول من قال بالوقف:
أنا نقول لهذا القائل: ما تقول في قول الله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1، هل يجب
أن يتوقفوا ويطلبوا صفات البقرة من الرسول عليه السلام؟!.
فإن قال: لا يجب، فقد سلم المسألة، فإنه لا فرق بين
البقرة، وبين سائر الأفعال؛ لأن البقرة لا تخلو من صفة
ولون، كما أن الفعل لا يخلو من
__________
1 "67" سورة البقرة.
(1/289)
وقت، وإذا لم
يجز التوقف لاحتمال صفات البقرة، لم يجب التوقف لاحتمال
أوقات الفعل.
فإن قال: يجب التوقف؛ لأنها تحتمل البكر وهي الصغيرة التي
لم تلد والفارض وهي المسنة، تقول العرب: فرضت البقرة، إذا
أسنت. والعوان: هي بين الصغيرة والكبيرة، والصفراء الفاقع
لونها، والسوداء الحالك لونها، والملمعة والتي لا شية
فيها، والذلول البينة الذل، والمسلَّمة من العمل، والتي
[لا] تثير الأرض ولا يستقى عليها، فتسقي الحرث.
قيل: هذا خلاف الشرع؛ لأن الله تعالى خَطَّأ بني إسرائيل
في هذا التوقف بطلب هذا البيان، فقال: {فَافْعَلُوا مَا
تُؤْمَرُونَ} 1، وقال: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا
يَفْعَلُونَ} 2؛ ولأن موسى -عليه السلام- المنبَّأ عن الله
تعالى لم يسأل عنها، ولو كان ذلك موضع السؤال لَسَأَلَهُ.
فإن قيل: فقد سأله، فلو كان هذا خطأ لكان موسى لا يسأل ربه
تعالى بعد سؤال بني إسرائيل.
قيل: لم يسأل عنه، وإنما راجع ربه -عز وجل- بما عليه بنو
إسرائيل من المخالفة، والوقف في غير موضعه.
ويدل عليه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"شدد بنو إسرائيل على أنفسهم، فشدد الله عليهم، أما إنهم
لو ذبحوا أي بقرة لأجزأت عنهم"3،
__________
1 "68" سورة البقرة
2 "71" سورة البقرة.
3 هذا الحديث أخرجه الطبري في تفسيره "2/ 205" عن ابن جريج
مرسلا، ولفظه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما
أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدَّد الله
عليهم، وايم الله لو أنهم لم يستثنوا، لما بينت لهم آخر
الأبد" وقد عقب الشيخ أحمد شاكر على هذا بقوله -في هامش
المرجع المذكور-: "وهو مرسل، لا تقوم به حجة".
(1/290)
وهذا يدل على
خطئهم، وأن صفات البقرة زيدت عليهم [33/ ب] بعد وقفهم،
تغليظًا عليهم، وتشديدًا في التكليف.
ويدل عليه على أن الأمر يقتضي الفعل، وليس فيه ذكر الوقت
ولا دليل، فوجب أن يكون الوقت شرطًا لما فيه، وإنما لا
يمكن الفعل في غير الوقت مع هذه العادة، ولو أمكن الفعل في
غيره هذا الوقت كان فعله بهذا الأمر في غيره، ولم يجز أن
يجعل شرطًا، فإذا كان كذلك وجب الفعل من غير اعتبار الوقت.
ويدل عليه أنه لا يجوز الوقف لاعتبار المكان واعتبار
الحال، والمعاني التي لا ذكر لها في لفظ الأمر.
وكذلك إذا قال: امكثوا في المسجد يومًا، لزمهم المكث فيه،
ولم يَجُزْ التوقف عنه، بأن يقولوا: أنمكث صائمين أو
مفطرين. مصلين أو غير
__________
= وأخرجه الطبري أيضًا عن قتادة مرسلا "2/ 206"، كما أخرجه
عن ابن عباس -رضي الله عنه- موقوفًا "2/ 204"، وقد عقب ابن
كثير في تفسيره "1/ 110" على أثر ابن عباس بقوله: "إسناده
صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس".
وأخرجه ابن مردويه في تفسيره -كما نقل ذلك ابن كثير في
تفسيره "1/ 111"- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا
ولفظه: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: "وإنا إن شاء الله
لمهتدون"، ما أعطوا أبدًا، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر
فذبحوها، لأجزأت عنهم، ولكن شددوا، فشدد الله عليهم"، ثم
عقب ابن كثير على هذا الحديث بقوله: "وهذا حديث غريب من
هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما
تقدم مثله عن السدي والله أعلم".
وقد ذكر السيوطي في كتابه: الدر المنثور "1/ 77" أن البزار
وابن أبي حاتم أخرجا هذا الحديث عن أبي هريرة -رضي الله
عنه.
كما ذكر أن الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر أخرجوه عن
عكرمة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم.
(1/291)
مصلين، قائمين
أو قاعدين، مستقبلين أو مستدبرين؟ وما أشبه ذلك.
فإن قيل: يجب التوقف لهذا كله حتى يقع البيان للمأمور من
جهة الرسول أو من جهة الدلائل المقررة في الأصول.
قيل: هذا [مردود] بتخطئة الله -سبحانه- بني إسرائيل في
مثله.
وجواب آخر: وهو أن ذلك يؤدي إلى ترك طاعة الله تعالى في
أمره وامتثاله؛ لأنه ليس معنى من المعاني إلا ويجوز أن
يكون شرطًا، وفي طلب بيان ذلك ترك الفعل وامتثال الأمر.
ويدل عليه: أن بني إسرائيل لو سألوا لكان ما تركوه أكثر ما
سألوا بيانه وأنهم كان يمكنهم أن يقولوا: ما العوان التي
بين البكر والفارض؟ وما الشية التي نفاها؟، وما لونها
وقدرها وموضعها؟ وهل تكون سمينة أو هزيلة؟ من العراب أو من
أي نتاج البقر؟ ومن يذبحها؟، وبأي آلة؟ وعلى أي جنب؟ وما
أشبه ذلك مما لا يتناهى ذكره، ولا ينحصر وصفه، ولا يمكن
ضبطه.
واحتج المخالف: بأن اللفظ يحتمل الفور والتراخي بدليل أنه
يصلح أن نفسره بكل واحد منهما، فنقول: افعلوا على الفور،
أو نقول على التراخي، ونقول افعلوا في كذا، وإذا كان مجملا
وجب الوقف فيه1، لاحتماله2، للخصوص والعموم، كذلك ههنا.
والجواب: أنا لا نسلم أن إطلاق الأمر محتمل للتراخي، بل
إطلاقه يقتضي الفور على العموم، على أن هذا مخالف له؛ لأن
هذا اللفظ محتمل للعموم والخصوص، والأمر لا يحتمل الوقف
ولا يقتضيه، فلا يجوز أن
__________
1 في الأصل: "فيها".
2 في الأصل: "لاحتمالها".
(1/292)
يجعل شرط فيه
إلا بدليل يدل عليه. وعلى أنا لو سلمنا أنه محتمل للفور
والتراخي كان على أحدهما دليل1، وهو ما تقدم من لغة العرب،
وغير ذلك.
__________
1 في الأصل: "دليل".
(1/293)
الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته
مدخل
...
مسألة 1 : [الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته]:
إذا كان الأمر مؤقتًا بوقت ففات الوقت، لم يسقط الأمر
بفواته، ويكون عليه فعله بعد الوقت، بذلك الأمر الأول،
ويكون تقديره: افعله في الوقت الأول ولا تؤخره، فإن لم
تفعل فافعله في الوقت الثاني، وهكذا تقديره في سائر عمره
2.
وكذلك الأمر المطلق إذا لم يفعل المأمور به عقيب الأمر، لم
يسقط وإن شئت عبرت عنها بعبارة أخرى [34/ أ]فقلت: القضاء
لا يحتاج إلى دليل.
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية إسحاق بن هانئ في
الرجل ينسى الصلاة في الحضر، فيذكرها في السفر: "يصلِّيها
أربعًا، تلك وجبت عليه أربعًا". فأوجب القضاء بالأمر
الأول، الذي به وجبت عليه في الحضر؛ لأنه قال: تلك وجبت
عليه أربعًا، معناه حين المخاطبة بها.
وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين في الأمر المؤقت: إنه يسقط
بفوات
__________
1 راجع هذه المسألة في: الواضح، الجزء الأول، الورقة
"286"، والتمهيد الورقة "34"، والمسودة "ص: 27".
2 وهذا الرأي نقله في المسودة "ص: 27"، ونسبه للقاضي
والحلواني، وهو رأي ابن قدامة كما في الروضة "ص: 107"،
ونسبه الغزالي في المنخول "121" إلى الفقهاء. أما الآمدي
فقد عزاه إلى الحنابلة وكثير من الفقهاء وذلك في كتابه
الإحكام "2/ 166".
(1/293)
الوقت، ويجب
القضاء بأمر ثانٍ1.
واختلف أصحاب أبي حنيفة في الأمر المطلق إذا لم يفعله
المأمور به عقيب الأمر، هل يسقط؟
فقال الرازي: لا يسقط ويفعله في الزمان الثاني، والثالث،
وسائر عمره، بخلاف المؤقت2.
وقال غيره من أصحابه: يسقط، كالأمر المقيد بوقت.
__________
1 وقد نسبه الآمدي إلى المحققين من الشافعية. الإحكام "2/
166".
2 قال الرازي في كتابه الفصول، الورقة "109/ ب" ما نصه:
"فصل كل أمر مضمن بوقت بعينه، فهو واجب في ذلك الوقت،
يستوعب الفعل، كصوم رمضان مؤقت بالشهر، فعليه فعله فيه،
ولا يسعه التأخير إلا من عذر.
وإن كان الوقت متسعًا لأن يفعله ذلك الفعل مرارًا كثيرة،
فوجوبه متعلق بأول أوقاته، حتى تقوم الدلالة على جواز
تأخيره. ويكون حينئذٍ فائدة ذكر الوقت من أوله إلى آخره.
أنه إن أخره عن الوقت الأول، لزمه فعله في الثاني والثالث
إلى آخر الوقت، وإن لم يفعله في هذه الأوقات لم يكن عليه
فعله بعد خروج الوقت بالأمر الأول".
من هذا النص نرى أن التفصيل المذكور عن الرازي إنما هو في
الأمر المؤقت بوقت متسع، وليس في الأمر المطلق، كما نقل
المؤلف.
(1/294)
دليلنا:
أنه لو سقط بفوات وقته؛ لسقط المأثم بفوات الوقت كما يسقط
الوجوب. ولما لم يسقط المأثم كذلك الوجوب.
ولأن الأصل ثبوته في ذمته، فمن زعم إبطاله بخروج الوقت؛
فعليه الدليل.
ولأن النذر المؤقت لا يسقط بفوات وقته، كذلك ما وجب
بالشرع.
(1/294)
ولأنه حق واجب؛
فلم يسقط بمضي الوقت. دليله الدَّين المؤجَّل وهو: إذا باع
بثمن مؤجل إلى شهر، ثم انقضى الشهر؛ فإن الحق لا يسقط،
كذلك ههنا.
فإن قيل: الأجل المضروب لتأخير المطالبة به والدين1 في
ذمته؛ فإذا وجب الأداء فلم يفعل، زال الوقت وصار كالعقد
المطلق من غير أجل، فلزمه قضاء ما فات أداؤه في وقته، وليس
كذلك إذا أمر الله تعالى بأمر في وقت محدد؛ لأن الوجوب ما
لزمه إلا في الوقت الذي تناوله الأمر.
قيل: وكذلك المطالبة بالدين ما لزم إلا عند انقضاء الشهر،
ثم تأخيرها عن آخر الشهر لا يوجب إسقاطها، كذلك تأخير
العبادة عن وقتها.
فإن قيل: إنما لم يسقط الحق؛ لأن وقت المطالبة موسَّع.
قيل: وقت الأداء في ذمة من عليه الحق مضيق؛ لأنه إذا لم
يؤجل الأجل وجب الأداء على الفور، كما أن وجوب العبادة
عليه على الفور إذا وقَّتها، ثم ثبت أن تأخر الأداء لا
يسقط، كذلك العبادة.
وأيضًا فإن الوقت شرط من شرائط العبادة؛ ففقدانه لا يوجب
إسقاطها.
__________
1 في الأصل: "والذي".
(1/295)
دليله:
الطهارة والستارة والتوجه والقراءة وغير ذلك من الشرائط؛
ولأن الوقت ليس بمقصود، وإنما المقصود نفس العبادة بدليل
أنه لا فائدة في إثبات وقت خالٍ1 عن عبادة، وقد ثبتت
العبادة في ذمته من غير قت وهو أنه يؤمر بعبادة مطلقة؛ فلم
يكن فواته موجبًا للإسقاط.
__________
1 في الأصل: "خالي".
(1/295)
ولأن الأمر
بالفعل يتضمن الأمر بالفعل والأمر بالاعتقاد، ثم ثبت أن
خروج الوقت لا يوجب إسقاط [34/ ب] الاعتقاد، كذلك لا يوجب
إسقاط الفعل.
وقد ذكر في المسألة طرق أخر، وهو: أنه لو كان خروج الوقت
علمًا على الإسقاط؛ لكان له أن يسقط الإيجاب عن نفسه
بالتأخير إلى آخر الوقت.
ألا ترى أنه لما جعل وجود الفعل علمًا على سقوط الوجوب،
كان له أن يسقط الإيجاب عن نفسه بالفعل؛ فلما لم يَجُزْ له
التأخير، علمنا أن خروجه غير مسقط.
وقيل أيضًا: بأنه لو كان بعد خروج الوقت يجب القضاء بأمر
مبتدأ ما سمي قضاء، كالذي يجب بالأمر الأول؛ لأنه مثله في
أنه إيجاب فرض مبتدأ.
فإن قيل لو كان هو الفرض لم يسمَّ قضاء.
قيل: قد بينَّا أن اختلاف النية لا يوجب اختلاف الفرض،
بدليل المقصورة والتمام، والجمعة والظهر.
وقيل: لما لم يكن الوقت موجبًا؛ وإنما الوجوب واقف على
الدليل، لم يكن خروج الوقت مسقطًا، بل يقف إسقاطه على
الدليل.
وقيل: إن أكثر ما في خروج الوقت: أن العبادة تصير في وقت
غير معين، وهذا لا يمنع الوجوب، كما لو أوجب عبادة غير
معينة بزمان.
فإن قيل: إن عرف الشرع قد ثبت أن الأمر إذا ورد بفعل عبادة
متعلقة بوقت؛ فإنه يجب فعلها قضاء، كالصلاة والصيام والحج
وغير ذلك.
والمخالف يجيب عن هذا: بأنني عرفت ذلك بدليل؛ لا بأصل
الأمر،
(1/296)
مع أن الشرع
مختلف في ذلك؛ فإن الجمعة لا تقضى، وكذلك رمي الجمار،
وكذلك المحصر إذا تعذر عليه ذبح الهدي في الحرم، جاز ذبحه
في الحل ولا قضاء.
وقيل أيضًا: بأن فعلها بعد الوقت يطلق1 عليه اسم القضاء،
وإذا ثبت هذا ، ثبت أنه قضى بعد الوقت ما كان مأمورًا به
في الوقت.
وهذا لا يلزم أيضًا؛ لأنه لا يمتنع أن يقال: قضى بعد
الوقت، وإن كان بأمر ثانٍ2 وفرض مبتدأ.
واحتج المخالف بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من نام عن
صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها" 3، فأمر بفعلها بعد
الوقت، فلو كان الأمر يفيد امتثاله بعد الوقت لم يأمر به
ثانيًا.
والجواب: أن الخبر حجة لنا؛ لأنه قال: "فليصلها" ، وهذا
كناية
__________
1 في الأصل: "يبطل"، وقد صحح الناسخ في الهامش بما
أثبتناه.
2 في الأصل: "ثاني".
3 هذا الحديث رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا،
أخرجه عنه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة
فليصلِّها إذا ذكرها "1/ 146".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء
الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها "1/ 477".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من نام عن صلاة
أو نسيها "1/ 105".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل
ينسى الصلاة "1/ 335، 336"، وقال فيه: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب فيمن نسي صلاة "1/
236".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب من نام عن الصلاة
أو نسيها "1/ 227".
وراجع في الحديث أيضًا: نصب الراية "2/ 162- 164"، وفيض
القدير "6/ 231".
(1/297)
عما أمر به
بحكم أن الذي يفعله بعد الوقت هو المأمور به في الوقت. مع
أنه قصد بهذا رفع الإشكال؛ لئلا يظن ظان أنها تسقط بفوات
وقتها.
واحتج: بأن صيغة الأمر تتناول زمانًا محصورًا؛ فإذا فات
الوقت قبل فعله لم يبق زمان أمر يفعله فيه؛ فهو كما لو قيل
له: صلِّ في المسجد الفلاني أربعًا، ففات فعله فيه، لم يجز
فعله في غيره، وكذلك لو قال: أعط زيدًا ألفًا، فمات زيد،
لم يدل على جواز إعطاء غيره.
والجواب: أن [هناك] فرقًا بين تعلق الأمر بزمان، وبين فعله
بمكان معين، ألا ترى أن حقوق الآدميين المتعلقة بزمان لا
تسقط بفوات [35/ أ] الزمان، ولو تعلق بعين ففاتت العين
سقطت، ألا ترى أن الرهن إذا تلف سقط حق المرتهن من
الوثيقة، وكذلك العبد الجاني، إذا مات سقط الحق؛ فكذلك
ههنا.
واحتج بأن القضاء بدل، والبدل لا يجب إلا بدليل، والذي يدل
عليه أنه محتاج إلى نية القضاء.
والجواب: أنا لا نسلم أنه بدل، بل هو الواجب عليه بالأمر
الأول واختلاف النيتين لا يدل على أنهما غيران، بدليل
المقصورة والتامة، والظهر والجمعة، وعلى أن نية القضاء ليس
بشرط في صحة الفعل؛ لأن أحمد -رضي الله عنه- قال في
الأسير، إذا اشتبهت عليه الأشهر؛ فصام شهرًا يريد به رمضان
فوافق ما بعده أَجْزَأَهُ، وإن لم يوجد منه نية القضاء؛
وإنما يستحب ذلك للخروج من الخلاف، وعلى أن نية القضاء لا
تدل على البدل؛ لأنه قد يجب البدل من غير نية القضاء،
كالطهارة إذا أخَّرها عن وقت وجوبها، والكفارة والحج
والزكاة والنذر.
ولأن القضاء تسمية شرعية، فتستعمل بحيث أطلقتها الشريعة.
(1/298)
واحتج بأن
المفعول في الوقت الثاني غير المفعول في الوقت الأول؛
فيحتاج وجوب الفعل في الوقت الثاني إلى دلالة، كما احتاج
في وجوبه في الوقت الأول إلى دليل.
والجواب: أنه إنما يقال: المفعول في الوقت الثاني غير
المفعول في الوقت الأول إذا وجد منه فعل في الوقت الأول،
فيكون الثاني غيره؛ فأما إذا لم يوجد منه فعل، فلا تصح هذه
العبادة 1، وقد بينَّا أن الثاني هو الفرض الأول.
واحتج بأن المصالح تختلف باختلاف الأوقات، وقد علمنا كون
الفعل مصلحة في الوقت الذي خص به، ولا نعلم كونه مصلحة في
الزمان الثاني، فلا يجوز مع جواز كونه مفسدة.
والجواب: أن هذا لا يصح أن لو كان الأمر متعلقًا بما فيه
مصلحة، فنكون لا نعلم وجودها في الوقت الثاني.
فأما على قولنا فالأمر غير موقوف على المصالح، وقد يتضمن
المصلحة والمفسدة.
فأما من فرَّق بين المقيد2 والمطلق فلا وجه له؛ لأن المطلق
والمقيد سواء في تعلقهما3 بالوقت؛ لأن المطلق يختص أول
أوقات الإمكان عنده وعند القائل؛ فإذا لم يسقط أحدهما بمضي
وقته وجب أن لا يسقط الآخر.
يبين ذلك: أن ما ثبت من جهة النطق بمنزلة ما ثبت بدليل،
ألا ترى أن عقد البيع لما أوجب سلامة المبيع كان شرط
المشتري لذلك وسكوته عنه
__________
1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "العبارة".
2 في الأصل: "المؤقت".
3 في الأصل: "تعليقها".
(1/299)
بمنزلة في أنه
يعتبر صحة المبيع بجميع أجزائه.
واحتج بأن تقيد المأمور به بالوقت يوجب له صفة زائدة على
كونه مطلقًا؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يكن لتقييده بالوقت
معنى؛ فإذا كان المطلق كالمقيد في أنه لا يجوز تأخيره عن
وقت الوجوب، لم يجز أن [35/ ب] يختلفا إلا في باب سقوط
المقيد منهما بفوات وقته، وبقاء حكم المطلق بعد الوقت
الأول.
والجواب: أن نقول بموجب هذا، وأنه قد أوجب له صلة زائدة
وهو إنما أفاده تأخيره الوجوب عقيب الخطاب.
(1/300)
مسألة الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئا
مدخل
...
مسألة: 1
الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئًا، وهو قول جماعة الفقهاء
وأكثر المتكلمين والأشعرية وغيرهم2.
وقالت طائفة من المعتزلة3: لا يقتضي ذلك، وأن كونه مجزئًا
يعلم بدلالة غير الأمر.
__________
1 هذه المسألة موجودة في المسودة "ص: 27". وروضة الناظر
"ص: 107، 108"، والتمهيد الورقة "42"، والواضح، الجزء
الأول، الورقة "288".
2 وقد اختاره ابن قدامة في كتابه الروضة "ص: 107، 108".
كما اختاره الآمدي في كتابه الإحكام "2/ 162".
3 "راجع في هذا: كتاب المعتمد في أصول الفقه "1/ 99-101".
(1/300)
دليلنا:
إن الأمر بالعبادة اقتضى وجوب فعلها وإيجاده، فإذا فعل
المأمور به فقد امتثل ما اقتضاه الأمر، فخرج عن عهدته،
وعاد إلى ما كان عليه قبل
(1/300)
الأمر، فبرأت
ذمته كما لو أمر السيد عبده بفعله شيء ففعله، لم يبق عليه
شيء من ناحية أمرهن، ويبين صحة هذا أنه يصح أن يخبر عن
نفسه بأن يقول: قد فعلت كذا وكذا، فلو كان قد بقي عليه شيء
من حكم المأمور به، لما صح أن يخبر بذلك.
ولأن جواز الفعل حكم تعلق بالمأمور به، كما أن استحقاق
الثواب حكم تعلق به، فإذا كان فعل المأمور به على شرائط
يدل على استحقاق الثواب، كذلك يجب أن يدل على جوازه.
ولأنه لا طريق إلى معرفة جوازه إلى وقوعه على الوجه
المأمور به، ألا ترى أنه يستحيل أن تكون الدلالة على جوازه
وقوعه على غير الوجه المأمور به، فدل ذلك على ما قلناه.
واحتج المخالف: بأن معنى قولنا: يجزئه، أنه لا تجب عليه
الإعادة، وقد علمنا أنه غير ممتنع بأن يأمر الحكيم بفعل من
الأفعال، ويقول: إذا فعلتموه فقد فعلتم الواجب واستحققتم
الثواب، وعليكم الإعادة مع ذلك، ألا ترى أن الحَجَّة
الفاسدة مأمور بالمضي فيها، ويستحق الثواب على فعلها، ومع
ذلك فعليه الإعادة، وكذلك من ظن أنه على طهارة وهو في آخر
الوقت، فأن الصلاة واجبة عليه، وهو مأمور بها1، ومع ذلك
فعليه الإعادة إذا علم أنه كان على غير طهر.
والجواب: أنه2 هناك لم يأت بالعبادة على الوجه المأمور به،
بل أَخَلَّ بشرط، فلهذا لم يقع موقع المأمور به، وكلامنا
فيما يأتي به على الوجه المأمور به من غير إخلال ببعض
شرائطه3.
__________
1 في الأصل: "به".
2 في الأصل "أن".
3 كلام المؤلف هنا تحرير لمحل النزاع، وحبذا لو وضعه في
أول المسألة.
(1/301)
واحتج بأن
اللفظ تضمن إيجاب الفعل فحسب، ولم يتضمن إجزاءه وسقوط
الفرض، فاحتاج في ذلك إلى دليل.
والجواب: أن اللفظ تضمن إيجاده، فإذا أوجده امتثل ما أمره
به وبرأت ذمته من1 حكم الأمر، فعاد إلى ما كان عليه قبل
توجه الأمر ولم يبق شيء يحتاج فيه إلى دليل.
__________
1 في الأصل "عن".
(1/302)
مسألة 2 : [الواجب
المخير]:
إذا ورد الأمر بأشياء على طريق التخيير، كالكفارات3 الثلاث
ونحوها، فالواجب واحد [36/ ب] منها بغير عينه، فيتعين ذلك
بفعله، فيصير كأنه الواجب عليه بنفس السبب.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية البغوي4: كل شيء في
كتاب الله تعالى "أو" فهو تخيير وهو قول جماعة الفقهاء
وأصحاب الأشعري.
وذهب المعتزلة إلى أن الجميع واجب على طريق التخيير5.
__________
1 في الأصل "عن".
2 راجع في هذه المسألة: التمهيد، الورقة "44/ ب-46/ ب"،
والمسودة "ص: 27-28"، روضة الناظر "ص: 17"، وشرح الكوك
المنير "ص: 118- 120" والفصول في أصول الفقه، للجصاص،
الورقة "105" وما بعدها.
3 في الأصل: "كالعبادات".
4 هو إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن أبو يعقوب، المعروف
بالبغوي، يلقب "لؤلؤًا"، من أصحاب الإمام أحمد الذين
تفقهوا عليه، ونقلوا عنه فقهه. صدوق، ثقة. مات سنة: 259هـ.
له ترجمة في "طبقات الحنابلة "1/ 109، 110".
5 هكذا صرح به عبد الجبار في المغني، قسم الشرعيات "ص:
123"، كما صرح به أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد في
أصول الفقه" ونقله عن شيخيه أبي علي وأبي هشام "1/ 87".
(1/302)
وكان الكرخي
مرة ينصر هذا، ومرة ينصر مثل ما حكيناه عن جماعة الفقهاء1.
ومن الناس من قال: هذا خلاف في عبارة، لا في معنى؛ لأنهم
وإن قالوا: الجميع واجب، فإنه إذا أتى بواحدة أجزأه. وإذا
فعل الجميع في وقت واحد، فإن الواجب منها واحد، والثواب
يستحق على واحد، وإذا ترك الجميع استحق العقوبة على واحد.
وهذا القائل يقول: وإن كان كلامنا في عبارة فهو مفيد؛
لأنَّا نخطئهم في إطلاق اسم الواجب على الجميع.
ومنهم من قال: خلاف في معنى؛ لأن من قال: الواجب منها واحد
بغير عينه، فإنه يجعل من حلف أنه لم يجب عليه بالحنث جميع
الأشياء الثلاثة بارًّا في يمينه.
ومن أوجبها جعله حنثًا في يمينه.
ولأن من قال: الواجب واحد من الجملة غير معين، فإنه يقول:
المراد من المكلف واحد من الجملة، وفي معلوم الباري تعالى
أنه لا يعدل عنه إلى غيره.
ومن زعم أن الجميع واجب، فإنه يقول: إنه قد أراد كل واحد
من الثلاثة كما أراد الآخر، وكره ترك كل واحد كما لو كره
ترك الآخر، وهذا خلاف في المعنى.
__________
1 هكذا في المسودة "ص: 27"، وقد نقله من "العدة" على ما
يظهر.
(1/303)
دليلنا على أن
الواجب واحد منها أشياء:
منها: أن من قال لآخر: الْقِ زيدًا أو عمرًا، لم يفهم أحد
وجوب لقائهما، ولو قال: تصدق من مالي بدرهم أو دينار، لم
يعلم وجوب فعلهما، ولهذا المعنى استحق المأمور أن يذم
بإخراج الأمرين من ماله، ولو كانا واجبين لم يستحق الفاعل
ذمًّا بفعل الواجب؛ ولأن الأمر بالشيء بمنزلة الإخبار عنه.
ثم ثبت أن القائل إذا قال: ضرب زيد عمرًا أو خالدًا، كان
إخبارًا عن ضرب واحد، وكذلك الأمر إذا كان على هذا الوجه.
وأيضًا لو فعل الجميع لم يكن الواجب إلا واحدًا من الجملة،
فلو كان الجميع واجبًا قبل الإيقاع، لكان متى تعين بالفعل
وقع على الصفة التي كان عليها قبل الإيقاع، ألا ترى الذي
تعين فعله لا يجوز أن تخالف صفته حال الإيقاع لما تعلق به
الأمر، مثل سائر الواجبات التي ثبتت من غير تخيير، ولما
ثبت أن الواحد منها يقع واجبًا دلَّ على أن الواجب واحد
منها.
فإن قيل: إنما لم يقع جميعها واجبًا؛ لأنها كانت واجبة على
التخيير.
قيل: المفعول يقع عن1 الواجب كما يقع لو لم يكن مخيرًا
فيه، ألا ترى أن من خير في تعيين الحرية في أحد عبديه
وأداء الصلاة في أول الوقت، فإنه واجب مخير فيه، ولو فعله
لوقع ذلك عن الواجب، كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه.
فإن قيل: الثلاث كفارات قبل الإيقاع، [36/ ب] ومتى أوقعها
كانت الكفارة واحدة كذلك حكم الوجوب.
__________
1 في الأصل: "من".
(1/304)
قيل: قولنا:
كفارة عبارة عن الواجب، وهذا الاسم لا يصح إطلاقه، وإنما
يتجوز بالعبارات، فنقول: إنها كفارات، بمعنى أن كل واحد
منها1 يقع به التكفير متى اختاره المكلف. ويجوز أن يسمى
الجميع كفارات، ويراد به في حق المكلفين؛ لأن الواحد قد
يختار العتق، وآخر الإطعام، فأما حق الواحد فلا يقال ذلك
فيه إلا على طريق الاتساع.
وأيضًا: فإنه لو ترك الثلاثة استحق العقاب على واحد،
فدلَّ: أن الواجب واحد منها، يدل على صحة ذلك: أن فرض
الكفاية على التخيير؛ لأن كل واحد منهم إذا فعله أجزأه،
ومع ذلك إذا تركه الكل حرجوا وأثموا واستحقوا العقاب، كما
إذا كان واجبًا على الجميع، وكذلك لو كان له على رجل ألف
درهم، فضمنه عنه ضامن، وجب له الألف على كل واحد منهما على
التخيير، وإذا تركا جميعًا قضاءه استحقا العقوبة، فلو كان
جميع الثلاثة واجبًا، لوجب أن يستحق تاركها العقاب على
جميعها، ولما أجمعنا على أنه يستحق العقاب على واحد منها2،
وجب أن يكون الواحد منها3 واجبًا.
فإن قيل: إذا فعل الجميع أو واحدًا استحال التخيير، فلو
قلنا: إن الجميع واجب؛ لأدى إلى أن يكون واجبًا على طريق
الجميع، وكذلك إذا ترك الجميع لو قلنا: يعاقب على ترك
الجميع أدى إلى هذا المعنى، وهذا غير سائغ، وإنما يسوغ
التخيير فيما لم يوجده، وهو قادر على إيجاده.
قيل: قد أجبنا عن هذا فيما تقدم، وقلنا: المفعول في
المتروك يقع عن الواجب، كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه، ألا
ترى أن من خُيِّر في
__________
1 في الأصل: "منهما".
2 في الأصل "منهما".
3 في الأصل: "منهما".
(1/305)
تعيين الحرية
في أحد عبديه وأداء الصلاة في أول الوقت، فإنه واجب مخيَّر
فيه، ولو فعله أو تركه، كان حكمه حكم ما لم يكن مخيرًا؟
فإن قيل: لا يحوز اعتبار الوجوب باستحقاق العقاب؛ لأنه إذا
أمكنه فعل كل واحد من الأنواع، فلم يخرج تعلق العقاب
بأقلها، وهذا متعين قبل تركها، والواجب منها غير معين، فلم
يجز اعتبار أحدهما بالآخر.
قيل: لا نعين العقاب في واحد منها1. ثم نقول: يستحق على
واجب واحد بغير عينه عقابًا، هو بقدر أقلها عقابًا، فأما
أن نعين الاستحقاق في أقلها عقابًا فلا.
وأيضًا: فإن هذا القول يؤدي إلى أن من وجب عليه مُدٌّ من
طعام وفي ملكه عشرة آلاف2 مد، وهو مخيَّر في إخراج كل واحد
منها: أن يكون الواجب عليه عشرة آلاف3 مد، وأن من وجب عليه
شراء رقبة للكفارة، وهو يقدر على شراء كل واحدة من رقاب
البلد: أن يكون قد وجب عليه أن يشتري للكفارة جميع رقاب
البلد. وإذا وجبت عليه خمسة دارهم في مائتي درهم وجب أن
يكون قد وجب إخراج جميع [37/ أ] المائتين؛ لأنه مخير في
إخراج كل خمسة منها، وهذا خلاف إجماع المسلمين، وكل قول
أدى إلى ذلك فهو باطل مردود.
واحتج المخالف:
بأن الأمر يتناول كل واحد كتناوله للآخر، فقد تساويا من
هذا الوجه، وتساويا في أن المصلحة في كل واحد كالمصلحة في
الآخر، وفي
__________
1 في الأصل: "منهما".
2 في الأصل: "ألف" بالإفراد.
3 في الأصل: "ألف" بالإفراد.
(1/306)
أن الآمر
أراده، وأنه إذا كفر وقع موقعه، فإذا كان أحدهما واجبًا
كان الآخر كذلك.
والجواب عن قولهم: أن الأمر تناول كل واحد، وأن ذلك مراد
للآمر، فلا نسلم هذا، بل الأمر تناول واحدًا لا بعينه،
والآمر أراد واحدًا لا بعينه، وعلى أن الأمر والإيجاب لا
يدلان على الإرادة عندنا.
وقولهم: إن المصلحة في كل واحد كالمصلحة في الآخر، فهذا لا
يدل على أن الوجوب يعمها1، ألا ترى أن الله تعالى قد تعهد
بإخراج الصدقات إلى المساكين، وجعل الخيار في وضعها فيهم
إلى أرباب الأموال، فيكون له أن يعطي من يشاء من المساكين
كالمصلحة في دفعها إلى غيره منهم.
وكذلك يجب عليه في مائتين خمسة دراهم شائعة، ولرب المال
إخراج أي خمسة شاء منها، ولا يكون هذا دلالة على إيجاب
إخراج كل خمسة منها مع تساويها في المصلحة.
وقولهم: إنه إذا كفر بأحدهما وقع موقعه، كما لو كفر
بالآخر، فهذا لا يدل على إيجابهما كما ذكرنا في الدفع إلى
أحد الفقراء، الأداء يقع بالدفع إلى كل واحد، ولا يجب
الدفع إلى الجميع. وكذلك إخراج خمسة من مائتين كل خمسة من
ذلك مساوية للأخرى في الأداء. ولا يجب إخراج الجميع.
واحتج بأنه لو كان الواجب واحدًا لنصب الله عليه دليلا،
وميَّزه عما ليس بواجب، ولهذا يطلبه.
والجواب: أنه إنما يجب هذا إذا كان الواجب معينًا قبل
الفعل، فينصب عليه دليلا؛ ليتوصل المأمور إلى معرفته، فأما
إذا لم يكن معينًا وإنما
__________
1 في الأصل: "يعمهما".
(1/307)
يتعين بفعله
فلا حاجة به إلى تبين؛ لأن ما يؤدي به فرضه هو الذي يختار
فعله منها.
وجواب آخر وهو: أن ما يستحق العقاب على تركه والثواب على
فعله واحد، ولم يجب نصب الدليل عليه، فكل جواب لك عنه فهو
جوابنا عن الواجب الواحد.
وجواب آخر وهو: أن المستحق عتق عبد من عبيد الدنيا، وإطعام
عشرة من فقراء دار الإسلام، وإن لم يدل الأمر على أعيانهم،
وكذلك تعتبر الزكاة في خمس من ماله لم يدل عليه، وإن كان
هذا القدر هو الواجب عليه.
وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن يكون الواجب واحدًا من
الجملة، وفي معلوم الله تعالى أن المكلف لا يعدل عنه إلى
غيره، فيجوز أن يخيَّره في ذلك، ويكون القصد تعريضه للثواب
في طلبه لما هو الأولى [37/ ب] والأفضل عنده، ويصير بمنزلة
فرض الإمامة أنه يتعلق بواحد والخيار إلى الأمة في اختياره
وتعيينه، وإن لم تقم دلالة على عينه، وكذلك العدل من
الشهود.
واحتج بأنه لا يجوز أن يقال: إن الواجب واحد من الجملة؛
لأنه لا يعرف ما هو الأصلح.
والجواب: أن الباري -سبحانه- لو نصَّ فقال: أوجبت عليك
أيها المكلف واحدًا من هذه الجملة، وقد علمت أنك لا تختار
إلا ما هو المراد منك والواجب عليك، جاز.
فإن قيل: فيجب أن يخبر الإنسان بين تصديق المنبأ ومن هو
متنبئ، قيل: لو لزم هذا للزم المخالف، إذا قال في مقدار
الزكاة: الخيار إلى المالك في أن يعينه في أي مال شاء،
وكذلك إذا قال: الخيار إليه في تعيين.
(1/308)
الدفع إلى أي
فقير شاء. وكذلك في اختيار الإمام وتمييزه ممن ليس بإمام.
ومن الناس من أجاز ذلك إذا كان في معلوم الله تعالى: أن
المكلف لا يختار إلا الإيمان بمن هو نبي، مثل الإمامة، ومن
منع ذلك فرَّق بين الأمرين: بأن تصديق المتنبئ معصية وكذب،
فغير جائز أن يخير بين أن يكذب أو يصدق، وبين أن يطيع أو
يعصي، وأما في الأشياء المأمور بها على وجه التخيير
فجميعها يجوز أن تجمع في الفعل، فجاز أن يقف على اختياره.
واحتج: بأن التخيير يقع بين الأشياء المتساوية، ومتى لم
تكن واجبة زال هذا المعنى.
والجواب: أن الجملة متساوية في أن كل واحد منهما يجزئ عن
الواجب متى اختاره المكلف. فإن قيل: المكلف قد يختار
واحدًا من الجملة ثم يعدل عنه إلى غيره.
قيل: متى اختار تعيين الواجب في واحد وقف حكمه على إيجاده،
فإذا أوجد الثاني تبينَّا أن الذي أريد ذلك دون غيره، مثل
أن يعطي زكاة ماله أي فقير، بعد أن أراد تعيينه إلى آخر،
وكذلك إذا أرادت الأمَّةُ تقليدَ واحد الإمامةَ فرأت غيره
أحق منه بعد ذلك.
واحتج: بأنه لو كان الواجب واحدًا من الجملة، كان إذا فعل
غيره لم يقع موقع الواجب.
والجواب أنا نقول: الواجب غير معين، وهو ما يختاره المكلف،
فتعينه بفعله، فيقول القائل: إذا عدل عن غيره أو فعل غيره
محال، وإذا كان تعيين الوجوب موقوفًا على فعله وتعيينه بطل
اعتبار العدول، ولو صح هذا الاعتبار لوجب إذا نذر الواحد
عتق عبد من عبيده أن يكون الواجب عليه عتق جميع عبيده، ومن
طلق واحدة من نسائه أن يكون
(1/309)
الواجب عليه
طلاق جميعهن، وكذلك من وجب [عليه] زكاة خمسة دراهم، أن
يكون الواجب عليه أن يتصدق بها على جميع فقراء الدنيا،
وكذلك من وجبت عليه خمسة دراهم أن يلزمه أن يتصدق بجميع
ماله؛ لأن له العدول من بعض إلى بعض، [38/ أ] فسقط ما
قالوه.
(1/310)
الواجب الموسع
مدخل
...
مسألة: [الواجب الموسَّع]: 1
العبادة إذا تعلقت بوقت موسع كالصلاة، فإن وجوبها يتعلق
بجميع الوقت وجوبًا موسعًا، وله تأخيرها إلى آخره.
وقد نص أصحابنا على هذا في الصلاة، خلافًا لأصحاب أبي
حنيفة: يتعلق الوجوب بآخر الوقت.
واختلفوا فيما يفعله في أوله.
فمنهم من قال: إنه تطوع يقع2 الواجب في آخره.
ومنهم من قال: إن ذلك يقع مراعًا، فإن جاء آخر الوقت، وهو
من أهل تلك العبادة، علمنا أنه فعله واجبًا، وإن كان بخلاف
ذلك [علمنا] أنه فعله نفلا.
وقال الكرخي: الوجوب يتضمن تأخر الوقت، أو بالدخول في
العبادة قبل ذلك3.
__________
1 راجع هذه المسألة في: كتاب التمهيد، الورقة "32/ ب-34/
أ"، وكتاب الواضح، الجزء الأول، الورقة "280/ أ-283/ ب"،
والمسودة "ص: 28، 29"، وروضة الناظر "ص: 17"، وشرح الكوكب
المنير "ص: 118-120".
2 في الأصل: "يمنع"، وقد صوبه الناسخ في الهامش بما
أثبتناه.
3 عبارة الكرخي في المسودة "ص: 29" هكذا: "وقال الكرخي:
الوجوب يتعلق بآخر الوقت، أو بالدخول في الصلاة قبله"، وهي
أوضح مما هنا.
(1/310)
وهذا الخلاف
يفيد حكمين، وليس بخلاف في عبارة؛ لأنَّا لا نجيز له تأخير
الفعل عن أول الوقت إلى آخره، إلا بشرط العزم1.
والثاني: أن الفعل إذا كان مما يجب قضاؤه، فإذا دخل الوقت
ثم زال التكليف بجنون أو بحيض حتى فات وقته، وجب قضاؤه على
قولنا. وعندهم له التأخير بغير عزم، ولا قضاء عليه.
وحكي عن بعض المتكلمين أنه غير متعين2، وإنما يتعين بالفعل
كالكفارات.
دليلنا:
أن فعلها في أول الوقت بحكم الأمر، ألا ترى أن ما قبل
الوقت وبعده لما لم يتناوله الأمر لم يجز له فعلها فيه بحق
الأمر، وإذا كانت مفعولة بحق الأمر وجب أن يكون الفعل
واجبًا؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب، ولا يلزم عليه فعل الزكاة
قبل الحول أنه يجوز، ولا يقتضي الوجوب؛ لأن تحصيلها لم
يحصل بحكم الأمر المقتضي للوجوب، وإنما كان بحكم الأمر
المقتضي للرخصة، وهو حديث العباس3، لما سأل النبي -صلى
الله عليه وسلم- في تعجيل الصدقة
__________
1 يظهر من كلام المؤلف هنا: أنه يشترط العزم على الفعل في
حالة ما إذا لم يفعل الواجب الموسَّع في أول وقته، وهذا
خلاف ما اختاره في كتاب الكفاية، كما نقل عنه في المسودة
"ص: 29" فإنه لم يشترط العزم.
2 ومعنى هذا أنه يجب في جزء من الوقت غير معين.
3 هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، عم النبي
-صلى الله عليه وسلم- أبو الفضل، كان مكرمًا عظيم المنزلة
عند النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه، مات بالمدينة
سنة: 32هـ، ودفن بالبقيع، وعمره: "88" سنة. وصلى على
جنازته عثمان، رضي الله عن الجميع.
له ترجمة في: الاستيعاب "2/ 810-817" والإصابة، القسم
الثالث "ص: 631" طبعة دار نهضة مصر.
(1/311)
قبل أن تحل،
فرخص له في ذلك1، وليس كذلك ههنا، فإنها تفعل في أول الوقت
بالأمر الذي يفعل [به] في آخره، وذلك مقتضى الوجوب.
وليس لهم أن يقولوا: إن الأمر بتناول الوقت في باب الجواز،
لما بينَّا، وهو أنه تناول بالأمر الذي تناول آخره، وهو
قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 2، أو صلاة
جبريل في أول الوقت وآخره 3.
ولأن إطلاق الأمر يقتضي الوجوب، وإطلاقه يقتضي الفور عندنا
__________
1 هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-
مرفوعًا. أخرجه عنه:
أبو داود في كتاب الزكاة، باب في تعجيل الزكاة "1/ 376".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في تعجيل
الزكاة "3/ 54".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب تعجيل الزكاة "1/
72- 75".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب تعجيل الصدقة
قبل الحول "2/ 122".
2 "78" سورة الإسراء.
3 حديث صلاة جبريل -عليه السلام- بالنبي -صلى الله عليه
وسلم- رواه جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس وابن مسعود
وابن عمر وأبو هريرة وجابر وأبو سعيد الخدري وبريدة وأنس
بن مالك، رضي الله عنهم أجمعين.
ارجع في ذلك إلى: سنن الترمذي، في كتاب الصلاة، باب ما جاء
في مواقيت الصلاة "1/ 278- 283". وسنن أبي داود في كتاب
الصلاة، باب المواقيت "1/ 93، 94"، وسنن ابن ماجه في كتاب
الصلاة، باب مواقيت الصلاة "1/ 220"، وسنن النسائي في أول
كتاب المواقيت "1/ 197"، وفي باب: آخر وقت الظهر، وفي باب:
أول وقت العصر "1/ 200، 201"، وسنن الشافعي مع مسنده
"بدائع المنن" في كتاب الصلاة، باب جامع أوقات الصلاة "1/
46- 48"، وسنن الدارقطني في كتاب الصلاة "1/ 250"، وسنن
الدارمي في كتاب الصلاة، باب في مواقيت الصلاة "1/ 213،
214"، وتلخيص الحبير "1/ 173، 174". ونصب الراية "1/ 221-
226".
(1/312)
وعندهم، وهذا
قد وجد في أول الوقت.
وأيضًا: فإنها إذا فعلت في أول الوقت لم يَخْلُ: إما أن
تكون مفعولة في وقت وجوبها الموسع، أو في وقت وجوبها
المضيق، كما حكي عن بعض، أو وقعت نفلا، أو قبل الوجوب
فيراعى حالها، ولا يجوز أن تكون فعلت في أول وقت الوجوب
المضيق؛ لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يجوز فعلها بنية
النفل، ويكون ذلك أولى بالجواز من نية الفرض؛ ولأنها لو
كانت نفلا لم يسقط بها فرض كمن تصدق عن نافلة لا تسقط
زكاته، وكذلك من صلى نافلة في أول الوقت لم يسقط بها الفرض
في أول الوقت، [38/ ب] فلا يجوز أن تقع مراعاة؛ لأن عبادات
الأبدان المقصودة لا يجوز تقديمها على حالة وجوبها من غير
عذر، وإذا بطل هذا ثبت أنها فعلت في وقت وجوبها الموسَّع،
ولا يلزم عليه الطهارة1؛ لأنها غير مقصودة، ولا يلزم عليه
الصيام في الكفارة؛ لأنه غير مقصود، ألا ترى أنه لا يثبت
حكمه إلا بعد عدم المال؟
__________
1 في الأصل: "الطهارة"، وقد صوب الناسخ ذلك في الهامش كما
أثبتناه.
(1/313)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لو تعلق وجوبها بأول الوقت، لم يجز1 تركها لا إلى
بدل؛ لأن هذه صفة الوجوب، وفي اتفاقهم على جواز تأخيرها في
الوقت الأول لا إلى بدل دليل على أن الوجوب [لا] يتعلق
بأول الوقت.
والجواب: أنا لا نسلم أنه يجوز تركها لا إلى بدل، بل له أن
يؤخرها بشرط أن يعزم على فعلها في الوقت الثاني، فيكون
عزمه على ذلك بدلا عنها.
فإن قيل: الأبدال لا يجوز إثباتها من غير دلالة تدل عليها،
ألا ترى
__________
1 في الأصل: "يجب".
(1/313)
أنه لا يجوز
إثبات بدل من الماء غير التيمم، وكذلك سائر العبادات لا
يجوز إثبات بدل عنها بغير دلالة.
قيل: الدلالة على ذلك أنا لو قلنا: له التأخير من غير شرط
العزم، سوَّينا بينها وبين النافلة والمباح؛ لأن له
تأخيرها من غير شرط العزم، وقد أجمعنا على الفرق بين
الواجب وبين النافلة والمباح، فلا يحصل الفرق إلا بما
ذكرنا.
فإن قيل: البدل: ما يفعل لتعذر المثل، وفعل الصلاة في أول
الوقت ليس بمتعذر، فلا يكون له بدل.
قيل: المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، وكذلك المسح
على العمامة، ويجوز فعلها مع القدرة على المبدل.
وجواب آخر عن أصل الدليل وهو: أنه منتقض بالمسافر، فإنه
مخيَّر بين فعل صوم رمضان وبين تركه لا إلى بدل على ما قرر
المخالف، ومع هذا فهو واجب، وكذلك قضاء رمضان يجوز تقديمه
وتأخيره، وهو واجب في ذمته، ولأن ترك النافلة جائز، وما
خيِّر بين فعله وتركه لا يكون واجبًا، وليس كذلك هذا
الفعل، فإنه مخيَّر بين تقديمه وتأخيره، ولا يجوز تركه
أصلا، فدل على الفرق بينهما.
واحتج: بأنها لو كانت واجبة في أول الوقت لأثم بتأخيرها
عنه كتأخير الصوم والزكاة والحج.
والجواب: أنه إنما لم يأثم بتأخيرها عن أول وقتها؛ لأن
وجوبها موسَّع، وتلك العبادات وجوبها مضيق، وعلى أن هذا لو
كان صحيحًا لوجب أن يثبت الوجوب في الحالة التي يلحقه
المأثم، وهو إذا بقي من الوقت قدر ما يصلي فيه الصلاة،
وعندهم يأثم بالتأخير عن هذه الحالة، والوجوب متبقٍ1 كذلك
ههنا.
__________
1 في الأصل: "متبقي".
(1/314)
وأما من شبَّه
ذلك بالكفارة، فهو الدليل عليه؛ لأن الكفارة واجبة عليه من
حين الحنث في يمينه، وبأي نوع من أنواع الكفارة كفر [39/
أ] كان وجوب الكفارة سابقًا لفعله، وكان مؤديًا لما سبق
وجوبه، كذلك يجب أن يكون في أول وقت من أوقاته فعل، أن
يكون فاعلا لما سبق وجوبه.
(1/315)
مسألة المريض ومن في حكمه يجب عليهم الصيام في وقته مع
جواز التأخير
مدخل
...
مسألة: [المريض ومن في حكمه يجب عليهم الصيام في وقته مع
جواز التأخير]: 1
المريض والمسافر والحائض يلزمهم الصيام، وإن جاز لهم
تأخيره، وإذا فعلوا بعد زوال العذر كان قضاء عن الواجب
الذي لزمهم.
وقد قال أحمد -رضي الله عنه- في رواية الأثرم، وقد سئل عن
المجنون يفيق يقضي ما فاته من الصوم؟ فقال: "المجنون غير
المغمى عليه، قيل له: لأن المجنون رفع عنه القلم، قال:
نعم." فأسقط القضاء عن المجنون، وجعل له فيه رفع القلم،
فاقتضى أنه غير مرفوع عن المغمى عليه.
وقال أيضًا -رحمه الله- في رواية حنبل في النصراني يسلم في
النصف من رمضان، واليهودي، أو الصبي يدرك في آخر الشهر من
رمضان؟ فقال: "يصوم ما بقي ولا يقضي ما مضى؛ لأنه لم يجب
عليه شيء، إنما حدثت الأحكام عليه." فأسقط القضاء عنهم،
وجعل العلة عدم الإيجاب، فاقتضى هذا أن من وجب عليه
القضاء، قد كان واجبًا عليه.
خلافًا لأصحاب أبي حنيفة في قوله: الصوم غير واجب عليهم في
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" "ص: 29"، و"الواضح" لابن
عقيل، الجزء الأول، الورقة "288".
(1/315)
الحال، وإنما
يلزمهم عند زوال العذر 1.
وخلافًا للأشعرية في قولهم: المسافر يلزمه الصيام، فإن
فعله أجزأه وإن أخره عنه جَازَ. وأما المريض والحائض فلا
يلزمهم قضاء الصيام، إنما يلزمهم2 بعد ذلك.
__________
1 راجع في هذا: التقرير والتحبير "2/ 188"، وتيسير التحرير
"2/ 280، 281".
2 هكذا في الأصل في الموضعين، والأولى الإتيان بالضمير
مثنى فيقال: "يلزمهما" في الموضعين.
(1/316)
دليلنا:
قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} 1 وتقدير الآية: فأفطر،
فأوجب العدة بالفطر، وعندهم: ما وجبت بالفطر، وإنما وجبت
بمعنىً آخر، وهذا دلالة على وجوب الصوم على المريض
والمسافر.
ولأن العبادة إذا كانت مأمورًا بها في وقت محصور، فإذا لم
يجب فعلها فيه، لم يجب عليه أن لا يعود وقت مثلها، كالصلاة
في حق الحائض، لما لم تجب في وقت، لم تجب حتى يعود وقت
مثلها، فلما ثبت في الصوم أنه يجب قبل مجيء وقت مثله2، ثبت
أنه وجب القضاء بالتأخير، فهو كما لو أفطر بغير عذر.
وأيضًا: فإنما يأتي به المريض والمسافر والحائض من الصوم
بعد زوال العذر، يسمى قضاء، فلولا أنه بدل عن واجب تقدم
لما سُمِّيَ بذلك.
[فإن قيل: إنما سمي بذلك]3 مجازًا.
__________
1 "185" سورة البقرة.
2 في الأصل: "مثلها".
3 ما بين القوسين ليس في الأصل، وإنما صححه ابن حمدان بخط
يده، كما ذكر الناسخ ذلك في الهامش.
(1/316)
قيل: الأصل في
كلامهم الحقيقة، فمدعي المجاز يحتاج إلى دليل.
وقد روي عن عائشة1 -رضي الله عنها- أنها قالت: كنا نقضي ما
فاتنا من رمضان في شعبان اشتغالا برسول [الله]2.
وفي خبر آخر: كنا نؤمر بقضاء رمضان"3، وظاهر التسمية
الحقيقة.
__________
1 هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق -رضي الله
عنهما- تزوج بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة
بثلاث سنوات، وأعرس بها في المدينة بعد ثمانية عشر شهرًا
من الهجرة. مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمرها ثماني
عشرة سنة. ماتت سنة: 57هـ، بالمدينة.
لها ترجمة في الاستيعاب "4/ 1881"، والإصابة، القسم
الثامن، "ص: 16" طبعة دار نهضة مصر.
2 حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا، أخرجه عنها البخاري في
كتاب الصوم، باب متى يقضى قضاء رمضان "3/ 43".
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الصيام، باب قضاء رمضان في شعبان
"2/ 802".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الصيام، باب تأخير قضاء
رمضان "1/ 559".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في تأخير
قضاء رمضان "3/ 143".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في قضاء
رمضان "1/ 533".
وأخرجه عنها النسائي في كتاب الصيام، باب وضع الصيام عن
الحائض "4/ 162".
3 هذا الخبر روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا. أخرجه
عنها مسلم في كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض
دون الصلاة "1/ 265".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الحائض لا
تقضي الصلاة "1/ 60".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في قضاء
الحائض الصيام دون الصلاة "3/ 145".
وأخرجه عنها النسائي في كتاب الصيام، باب وضع الصيام عن
الحائض "4/ 162".
(1/317)
ولأن ما فعل
بعد زوال العذر يعتبر قدره بقدر الأصل، ويؤتى به على
مثاله، فثبت أنه بدل عنه؛ ولأنه يؤمر بنية القضاء.
واحتج المخالف:
بأنه لو كان واجبًا لما جاز تركه، ولأَثِمَ بتأخيره.
والجواب [39/ ب] أنه إنما جاز تأخيره؛ لأن وجوبه موسَّع،
وعلى أنَّا قد أبطلنا هذا في المسألة التي قبلها.
واحتج: بأن الحائض لا يتأتى منها فعل الصوم بحال، فلا يجوز
أن تؤمر بما لا يتأتى منها.
والجواب: أنه قد يؤمر في الشرع بفعل عبادة، وإن كان في
الحال لا يصح منه فعلها، كالمحدث يؤمر بفعل الصلاة، ولا
يصح منه الفعل.
(1/318)
مسألة الأمر للنبي أمر لأمته
مدخل
...
مسألة: [الأمر للنبي أمر لأمته]: 1
إذا أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بفعل عبادة
بلفظ ليس فيه تخصيص، نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ} 2، و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} 3، أو فعل
النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلا قد عرف أنه واجب أو ندب
أو مباح، فإن أمته يشاركونه في حكم ذلك الأمر والفعل، حتى
يدل دليل على تخصيصه.
وكذلك الحكم إذا توجه على واحد دخل غيره في حكمه، نحو:
__________
1 راجع هذه المسألة في: المسودة "ص: 31، 32"، وروضة الناظر
"108-110"، وشرح الكوكب المنير "ص: 167-169"، فإن مؤلفيها
قد اعتمدوا على القاضي أبي يعلى كثيرًا.
2 "1" سورة المزمل.
3 "64" سورة الأنفال.
(1/318)
رَجْمِ1 ماعز2،
وقطع سارق3 رداء صفوان4 ونحو ذلك.
__________
1 قصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي -رضي الله عنه- أخرجها
البخاري في كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك
لمست أو غمزت عن ابن عباس -رضي الله عنهما "8/ 207".
وأخرجها مسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه
بالزنا عن ابن عباس وعن أبي سعيد الخدري "3/ 1320، 1321".
وأخرجها الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحد
عن المعترف إذا رجع، عن أبي هريرة "4/ 36".
وأخرجها أبو داود في كتاب الحدود، باب الرجم عن ابن عباس
وأبي هريرة وغيرهما "2/ 456".
وأخرجها ابن ماجه في كتاب الحدود، باب الرجم عن أبي هريرة
"2/ 854".
وأخرجها الطيالسي في كتاب الحدود، باب اعتبار الإقرار
بالزنا وتكراره أربعًا، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله
وغيرهما "1/ 299".
وراجع أيضًا: نصب الراية "3/ 312- 317".
2 هو ماعز بن مالك الأسلمي، أبو عبد الله، صحابي جليل،
عداده في المدنيين. روى عنه ابنه عبد الله حديثًا واحدًا.
له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 1345"، والإصابة، القسم الخامس
"ص: 705" طبعة دار نهضة مصر.
3 حديث قطعه صلى الله عليه وسلم يدَ سارقِ رداءِ صفوانَ،
رواه صفوان بن أمية -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه أبو
داود في كتاب الحدود، باب فيمن سرق من حرز "2/ 450".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب من سرق من الحرز
"2/ 865".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب قطع السارق، باب الرجل يتجاوز
للسارق عن سرقته "8/ 60، 61".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الحدود، باب ترك
الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان "4/ 158".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/ 368، 369".
4 هو صفوان بن أمية بن خلف. القرشي الجمحي، أبو وهب،
ويقال: أبو أمية. أسلم بعد الفتح. أحد المؤلفة قلوبهم، وقد
حسن إسلامه. مات بمكة المكرمة سنة: 42هـ، له ترجمة في:
الاستيعاب "2/ 718"، والإصابة، القسم الثالث، ص: 432، طبعة
دار نهضة مصر.
(1/319)
وكذلك إذا توجه
الخطاب إلى الصحابة -رضي الله عنهم- دخل فيه النبي -صلى
الله عليه وسلم- نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض
عليكم" 2،ونحو ذلك.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية أبي طالب3 في رجل قال:
إن أكلت هذا الطعام فهو علي حرام، فإن أكله عليه كفارة
يمين، حديث عائشة وحفصة4، لما قالتا للنبي -صلى الله عليه
وسلم: نشم منك رائحة معافر5، قال: "لا،
__________
1 "103" سورة التوبة.
2 هذه العبارة تَرِدُ في عدة أحاديث، ومنها على سبيل
المثال: ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في
كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، بلفظ: "يا أيُّهَا
الناسُ قد فُرِضَ عليكم الحجُّ، فحجوا..." "2/ 975"، وكلام
المؤلف يشعر بأنها آية، حيث عطف كلمة "قوله" على: "قوله
تعالى"، وليس الأمر كذلك.
3 هو أحمد بن حميد أبو طالب المشكاتي، من أصحاب الإمام
أحمد الذين رَوَوْا عنه مسائل كثيرة، كان أحمد يكرمه، كما
كان رجلا صالِحًا زاهدًا. مات قريبًا من موت الإمام أحمد.
انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "1/ 39".
4 هي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-
تزوجها الرسول -عليه الصلاة والسلام- سنة: 3هـ، عند
الأكثر، ماتت سنة: 41 هـ، وقيل سنة: 45هـ.
انظر ترجمتها في الاستيعاب: "4/ 1811"، والإصابة، القسم
السابع، ص: 581، طبعة دار نهضة مصر.
5 هكذا في الأصل: "معافر" بالعين المهملة على وزن: مفاعل،
والذي في صحيح البخاري ومسلم: "مغافير" بالغين المعجمة على
وزن: مفاعيل، وكذلك الشأن في محاسن التأويل للقاسمي: "16/
5853"، وأحكام القرآن للجصاص "5/ 362"، ومفاتيح الغيب
للفخر الرَّازي "3/ 41". و"المغافير" -كما قال القاسمي في
المرجع السابق-: "صمغ حلو، له رائحة كريهة، ينضحه شجر يقال
له: العُرْفُطُ.
(1/320)
بل شربت عسلا،
ولن أعود إليه" ، فأنزل الله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} 1،
وإنما كان شرب عسلا2.
وقال أيضًا فيمن حرم أَمَته: عليه كفارة.
واحتج: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرم مارية
القبطية3، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} 4. وهذا يدل من
__________
1 "1" سورة التحريم.
2 هذه الرواية في سبب نزول الآية، أخرجها البخاري في كتاب
التفسير، باب سورة التحريم "6/ 194".
كما أخرجها مسلم في كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من
حرم امرأته ولم يَنْوِ الطلاق "2/ 1100".
وراجع في سبب نزول هذه الآية: تفسير القرآن العظيم لابن
كثير "4/ 387".
3 هي مارية بنت شمعون القبطية، مولاة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وأم ولده إبراهيم، أهداها إليه المقوقس. توفيت
سنة: 16هـ، ودفنت بالبقيع، وصلى عليها عمر بن الخطاب -رضي
الله عنه.
انظر ترجمتها في: الاستيعاب "4/ 1912، 1913"، والإصابة،
القسم الثامن "ص: 111" طبعة دار نهضة مصر.
4 "1" سورة التحريم.
وكون هذه الآية نزلت في قصة مارية القبطية -رضي الله عنها-
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، إلا أن إسناده صحيح،
كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره "4/
386". وقد رجح كون قصة مارية سببًا لنزول الآية -جمالُ
الدين القاسمي في تفسيره محاسن التأويل "16/ 5855". =
(1/321)
كلام أحمد رحمه
الله: أن النبي إذا أمر بفعل شيء شاركته أمَّته فيه؛ لأنه
احتج في إيجاب الكفارة على من حرم طعامه: بأمر الله تعالى
نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالكفارة، لما حرم العسل، ولم
يجعل ذلك خاصًّا في حقه؛ لأن الخطاب تناوله.
وقال أيضًا في رواية الأثرم: لا يتطوع قبل صلاة العيد ولا
بعدها، وذكر الحديث يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم
يصلِّ قبلها ولا بعدها1، فجعل فعله حجة على أمته.
__________
= وهناك رأي لابن جرير الطبري مَفَاده: أن النبي -عليه
الصلاة والسلام- حرم شيئًا على نفسه كان حلالا له. وهذا
الحلال جائز أن يكون مارية، وجائز أن يكون شيئًا من
الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، فأنزل الله تعالى الآية.
تفسير الطبري "28/ 158" طبعة الحلبي.
وقد قال بعضهم: إنهما واقعتان، وقد ذكر ذلك ابن كثير،
وأَرْدَفَهُ بقوله: إلا أن كونهما سببًا لنزول هذه الآية
فيه نظر. تفسير ابن كثير "4/ 387".
وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن
سبب نزول الآية: قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي -صلى
الله عليه وسلم، نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "4/ 387،
388"، وعقَّب عليه بقوله: وهذا قول غريب. والذي يفهم من
الروايتين المذكورتين عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه يقول
بأن كلتا الحادثتين سبب لنزول الآية.
1 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه
البخاري في كتاب العيدين، باب الصلاة قبل العيد وبعدها "2/
29".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب صلاة العيدين، باب ترك الصلاة قبل
العيد وبعدها في المصلى "2/ 606".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء لا صلاة
قبل العيد ولا بعدها "2/ 417".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد صلاة
العيد "1/ 364".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب صلاة العيدين، باب الصلاة قبل
العيدين وبعدها =
(1/322)
وقال أيضًا في
رواية محمد بن موسى1، وقد سئل عن قوم ينهون عن رفع اليدين
في الصلاة، فقال: لا ينهاك إلا مبتدع، فعل النبي -صلى الله
عليه وسلم- ذلك2.
__________
1 هو محمد بن موسى بن أبي موسى النهرتيري البغدادي. من
أصحاب الإمام أحمد، وكان ثقة صالِحًا جليلا، نقل عن الإمام
أحمد مسائل كبار جِيَاد.
انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "1/ 323، 324".
2 الأحاديث الواردة في رفع اليدين في الصلاة كثيرة، ربما
تبلغ حدَّ التواتر كما يقول السيوطي.
ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح "2/ 220" عن شيخه العراقي:
"أنه تتبع من رواه من الصحابة، فبلغوا خمسين رجلا".
وقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأذان، باب رفع اليدين
في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء عن ابن عمر ومالك بن
الحويرث -رضي الله عنهما- ولفظ حديث ابن عمر هو: رأيت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى
يكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل
ذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول: "سمع الله لمن حمده" ،
ولا يفعل ذلك في السجود" "1/ 178".
وأخرجه عنهما مسلم في كتاب الصلاة، باب في استحباب رفع
اليدين "1/ 292، 293". وعن ابن عمر أخرجه الترمذي في كتاب
الصلاة، باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع "2/ 35-40".
وعن ابن عمر ووائل بن حجر أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة،
باب رفع =
(1/323)
خلافًا
للأشعرية وبعض الشافعية في قولهم: يختص ذلك بالنبي -صلى
الله عليه وسلم- ولمن واجهه بالخطاب، ولا يدخل النبي فيما
كان خطابًا للصحابة1.
وذكر أبو الحسن التميمي من أصحابنا من جملة مسائل من
الأصول: أن الأمر إذا توجه إلى واحد، لم يدخل غيره فيه
بإطلاقه.
فالدلالة على أن الصحابة تشارك النبي -صلى الله عليه وسلم-
فيما أمر به وفي أفعاله قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ
أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} 2 فأخبر
أنه زوَّجَه من كانت امرأة من قد تَبَنَّاه، لكي يقتدي
الناس به في ذلك، فلا يمتنعوا من التزويج بنساء من تبنوه،
فثبت
__________
= اليدين في الصلاة "1/ 166".
وأخرجه النسائي عن ابن عمر في كتاب الافتتاح، باب العمل في
افتتاح الصلاة، وباب رفع اليدين قبل التكبير، وباب رفع
اليدين حذو المنكبين.
كما أخرجه عن مالك بن الحويرث في الكتاب المذكور، باب رفع
اليدين حيال الأذنين "2/ 93، 94".
وعن ابن عمر ووائل بن حجر وغيرهما أخرجه ابن ماجه في كتاب
إقامة الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من
الركوع "1/ 279- 281".
وعن ابن عمر ومالك بن الحويرث أخرجه الطيالسي في مسنده في
كتاب الصلاة، باب ما جاء في تكبيرات الانتقال ورفع اليدين
عندها "1/ 95".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/ 308- 311".
1 راجع في هذا: المستصفى "2/ 80 ، 81"، وشرح البدخشي مع
شرح الأسنوي وهذا القول نسبه أبو البقاء الفتوحي في كتابه
شرح الكوكب المنير "168"، إلى بعض أصحاب الإمام أحمد.
2 "37" سورة الأحزاب.
(1/324)
بهذا أنهم
مشاركون له فيما فعله1.
واحتج أبو إسحاق الزَّجاج2 في كتاب المعاني3 بقوله تعالى:
{يا أيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} 4،
فأول الخطاب مُواجَهٌ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان
المراد به أمته بقوله: {طَلَّقْتُمْ} ، {فَطَلِّقُوهُنَّ}
5.
وأيضًا: فإنما اختص به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
الشريعة ورد فيه بلفظ التخصيص، مثل قوله تعالى: {خَالِصَةً
لَكَ} 6، و {نَافِلَةً لَكَ} 7، فلو كان منفردًا بما يتوجه
إليه من الشرع، لم يكن لتخصيصه فائدة8.
__________
1 أجاب المانعون عن هذه الآية، كما في نهاية السول "2/
360": "بأنه تنصيص على ثبوت الحكم للاتباع، وإشارة إلى
الإلحاق بالقياس".
2 هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزَّجاج، عالم
بالنحو واللغة والعروض، كان يعمل في خرط الزُّجاج، فنسب
إليه. تعلم النحو على المبرد. له كتب كثيرة منها: معاني
القرآن، والاشتقاق، وكتاب في العروض. ولد ومات ببغداد،
وكانت سنة وفاته: 310هـ، على الأرجح، وقد نيف على "80"
سنة.
له ترجمة في: الأعلام "1/ 33"، وبغية الوعاة "1/ 411"،
وتاريخ بغداد "6/ 89"، ونزهة الألباء في طبقات الأدباء
"308"، ووفَيَات الأعيان "11/ 11".
3 هذا الكتاب طبع منه جزءان، يشتملان على معاني القرآن
وإعرابه، من أول القرآن الكريم إلى آخر سورة براءة، وذلك
بتحقيق الدكتور عبد الجليل عبده شلبي، نشر المكتبة العصرية
ببيروت وصيدا.
4 "1" سورة الطلاق.
5 أجاب المانعون عن هذه الآية، كما في نهاية السول "2/
360" بأن ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- للتشريف،
والمقصود ذكر الخطاب العام.
6 "50" سورة الأحزاب.
7 "79" سورة الإسراء.
8 أجاب المانعون عن هذه الآية، كما في نهاية السول "2/
670" بقولهم: بأن الفائدة المنع عن الإلحاق بالقياس. وقد
ردَّ ابن عبد الشكور في "مسلم الثبوت" "1/ 282"، مطبوع مع
"المستصفى" على هذه الأجوبة السالفة الذكر بقوله: واعلم أن
المراد بيان التناول العرفي واستقراره في النفوس، وهذه
أمارات مفهمة، فمناقشات المخالفين طائحة.
(1/325)
ولأن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قد كان يسأل عن الأمر فيجيب عن حال
نفسه، مثل سؤال الرجل عن القُبْلَةِ في حال الصوم، فقال:
"أنا أفعل ذلك" 1.
ومثل قوله لأم سلمة2 حين سألته عن الاغتسال من الجنابة:
"أما أنا فأفيض الماء على رأسي"3، فلو كان مخصوصًا بحكم
الشرع، لم يكن لهذا الفعل معنىً.
__________
1 هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في "موطئه" في كتاب
الصيام، باب ما جاء في الرخصة في القبلة في الصوم بسنده
إلى عطاء بن يسار مرسلا، وله قصة وفيها: قال النبي -صلى
الله عليه وسلم- لأم سلمة: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك" ؛
لأن المرأة قبَّلها زوجها وهو صائم، فبعثها لتسأل عن ذلك
"2/ 163" مطبوع مع شرح الزرقاني.
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الصيام، باب ما جاء في
تقبيل الرجل زوجته وهو صائم "بدائع المنن" "1/ 258، 259"
عن الإمام مالك وذكر بقية سند مالك.
وقد ذكر الزرقاني في "شرحه على الموطأ" "2/ 163": أن عبد
الرزاق قد أخرجه موصولا عن عطاء عن رجل من الأنصار.
2 هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة القرشية
المخزومية، أسلمت قديْمًا وهاجرت إلى الحبشة صحبة زوجها
الأول، ثم هاجرت إلى المدينة، مات عنها زوجها، فتزوجها
النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة أربع، وقيل ثلاث من
الهجرة.
ماتت سنة: 59 هـ، وقيل سنة: 61 هـ، وهي آخر أمهات المؤمنين
موتًا كما جزم بذلك الحافظ ابن حجر.
لها ترجمة في: "الاستيعاب" "4/ 1939" و"الإصابة" "8/
240-242".
3 ليس هذا جواب النبي -عليه الصلاة والسلام- لأم سلمة -رضي
الله عنها- وإنما =
(1/326)
ولأن الصحابة
قد كانت ترجع إلى أفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فيما يُخْتلف فيه من أحكام الشرع، مثل ما روي عن اختلافهم
في الغسل من التقاء
__________
= جوابه هو: "قالت -أي أم سلمة- : قلت يا رسول الله إني
امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: "لا إنما
يكفيك أن تحثين على رأسك ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضين على
سائر جسدك الماء فتطهرين" .
وهذا الحديث أخرجه مسلم عنها في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر
المغتسلة "1/ 259".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الطهارة، باب هل تنقض المرأة
شعرها عند الغسل "1/ 175".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة هل
تنقض شعرها عند الغسل "1/ 58".
وأخرجه عنها النسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر ترك المرأة
نقض ضفر رأسها عند اغتسال الجنابة "1/ 108، 109".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتابه الطهارة، باب ما جاء في غسل
النساء من الجنابة "1/ 198"، وراجع نصب الراية "1/ 80".
أما الحديث الذي أشار إليه المصنف -رحمه الله- فإن النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال لما ذكر أناس عنده غسل الجنابة
فقال: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا" .
وقد أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب من أفاض على رأسه
ثلاثًا، عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه "1/ 70".
وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب استحباب إفاضة الماء على
الرأس وغيره ثلاثًا "1/ 258، 259" ، وقد ذكر في بعض
رواياته: أن السائلين له عن ذلك وفد من ثقيف.
وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل من الجنابة
"1/ 55".
وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر ما يلقى الجنب من
إفاضة الماء على رأسه "1/ 112".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب في الغسل من الجنابة
"1/ 190، 191"، وعنده في بعض الطرق: أن ذلك جواب لسؤال
وجِّه للنبي -صلى الله عليه وسلم.
(1/327)
الختانين من
غير إنزال1، ومثل وجوب الوضوء من المسيس2، فلو
__________
1 هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من
الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين "1/ 271، 272"، وذكر
فيه قصة اختلاف فريق من الأنصار مع فريق من المهاجرين في
أنه لا يجب الغسل إلى من تدفق الماء أو يكفي في وجوبه
المخالطة.
وقد أخرجه الترمذي عن عائشة في كتاب الطهارة، باب ما جاء:
"إذا التقى الختانان وجب الغسل" "1/ 180، 181".
وأخرجه ابن ماجه عنها وعن غيرها في كتاب الطهارة، باب ما
جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان "1/ 199، 200".
وأخرجه أبو داود عن أبي هريرة في كتاب الطهارة، باب في
الاغتسال "1/ 49". ويلاحظ أن استدلال المؤلف بالحديث لا
يتم إلى على الرواية التي أخرجها الترمذي وابن ماجه عن
عائشة -رضي الله عنها- السابق الإشارة إليها، ولفظ ابن
ماجه: قالت -أي عائشة-: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل،
فعلته أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلنا. أما
غير هذه الرواية فإن الرجوع كان إلى قول الرسول -عليه
الصلاة والسلام- لا إلى فعله.
2 الوضوء من مس المرأة، رواه معاذ بن جبل -رضي الله عنه-
مرفوعًا: أخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة
هود "5/ 291" ولفظه: .. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ
قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ، فقال: يا رسول
الله، أرأيت رجلا لقي امرأة، وليس بينهما معرفة، فليس يأتي
الرجل شيئًا إلى امرأته، إلا وقد أتى هو إليها، إلا أنه لم
يجامعها، قال: فأنزل الله: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِي
النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}
فأمره أن يتوضأ، ويصلي، قال معاذ: فقلت: يا رسول الله، أهي
له خاصة أم المؤمنين عامة؟ قال: "بل للمؤمنين عامة" .
قال الترمذي بعد ذلك: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، عبد
الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ.
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب صفة ما ينقض
الوضوء، وما =
(1/328)
كان مخصوصًا
بحكم الشريعة لم يصح رجوعهم إلى فعله، فدل على مساواته
بغيره في أحكام الشرع.
فإن قيل: الصحابة صاروا إلى هذين الفعلين بدلالة خاصة
مقتضية للأمرين.
قيل: خاص الدلائل يختص بمعرفته بعض الناس، فلو كان الأمر
على ما قالوه لذكروها، وسألوا عنها، ولو لم يكن عندها
دلالة عامة تشترك الجماعة في العلم بها لسألوا عنها
كسؤالهم عن نفس الدلالة.
وأيضًا: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أمرني
الله بشيء إلا وقد أمرتكم به، ولا نهاني عن شيء إلا وقد
نهيتكم عنه"، فدلَّ على أن الأصل ما ذكرنا.
__________
= روي في الملامسة والقبلة "1/ 134"، بسنده إلى عبد الرحمن
بن أبي ليلى عن معاذ، ثم قال بعد ذلك: صحيح.
وأخرجه عنه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الطهارة، باب
الدليل على أن اللَّمس ما دون الجماع والوضوء منه "1/ 135"
وسكت عنه.
وقد أخرج الإمام مالك في كتاب الطهارة، باب الوضوء من قبلة
الرجلِ امرأتَه "1/ 89"، مطبوع مع شرح الزرقاني، أخرج عن
ابن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: قبلة الرجلِ امرأتَه،
وجَسَّها بيده من الملامسة، فمن قبَّل امرأته أو جسَّها
بيده فعليه الوضوء.
وأخرج الإمام الشافعي ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنه- في
كتاب الطهارة، باب ما جاء في نواقض الوضوء "1/ 34".
راجع في هذا أيضًا: تلخيص الحبير "1/ 132".
(1/329)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن لفظ الأمر وقع خاصًّا، فلم يكن هناك لفظ يتناول غيره،
فلا يجوز إثباته.
(1/329)
والجواب: أن
خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحكم خطاب لأمته؛ لأنه
صاحب الشرع ومنه يوجد، ولأنه قد أوجب عليهم اتباعه بقوله:
{وَاتَّبِعُوهُ} 1، وبقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 2.
واحتج: بأنه لا يمتنع أن يكون مصلحة لعين دون عين، فلا
يتعدى إلى غيرها إلا بدلالة.
[40/ ب] والجواب: أنا لا نمنع أن يكون هذا مصلحة في العقل،
وكلامنا فيما يقتضيه الشرع، وقد بينَّا أن الشرع يقتضي
وجوب التَّأَسِّي في أفعاله.
واحتج: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كان مخصوصًا
بأشياء لا يشاركه غيره فيها3، كالموهوبة والعدد وغير ذلك،
فلم يَجُزْ حمله على المشاركة إلا بدليل.
والجواب: أن الفعل المطلق لا يقع إلا وهو دالٌّ على
الاشتراك، وإنما يختص ببعض الأفعال بدليل، وكلامنا في
الفعل المطلق.
واحتج: بأن لفظ الواحد له صيغة تخالف لفظ الجمع، فإذا
حملنا لفظ الواحد على الجمع، خلطنا باب الواحد بباب الجمع،
وهذا لا يحوز.
والجواب: أن خطاب الله تعالى لنبيِّه في حكم خطاب الجماعة؛
لأنه قد أوجب عليهم اتباعه بقوله: {وَاتَّبِعُوهُ} 4،
وقوله: {فَلْيَحْذَرِ
__________
1 "158" سورة الأعراف.
2 "63" سورة النور.
3 في الأصل: "فيه".
4 "158" سورة الأعراف.
(1/330)
الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1، وكذلك خطاب النبي للواحد
من الجماعة بقوله صلى الله عليه وسلم: "خطابي للواحد خطاب2
للجماعة"3.
__________
1 "63" سورة النور.
2 في الأصل: "خطابي".
3 انظر تخريجه هامش: "7" من هذه الصفحة.
(1/331)
فصل: الحكم على
واحد من الصحابة حكم على غيره:
والدلالة على أن الحكم إذا توجه إلى واحد من الصحابة دخل
فيه غيره قوله تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 4
فظاهره يفيد أن ما كان من الحكم الخاص لشخص بعينه في
القرآن، فجميع الناس منذَرون5 به، ولا يكون إلا مع تكليفهم
لفظه وإيقاعه.
وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً
لِلنَّاسِ} 6، والإرسال يتضمن ما أرسل من الأحكام، ومرسلا
إليه، وأَكَّدَ ذلك بقوله تعالى: {نَذِيرًا} ، والإنذار
يقع بالعبادات.
وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خطابي
للواحد خطاب للجماعة، وحكمي على الواحد حكم على الجماعة"
7.
__________
4 "19" سورة الأنعام.
5 في الأصل: "منذرين به".
6 "28" سورة سبأ.
7 هذا الحديث بهذا اللفظ: لا أصل له، كما قال العراقي،
وأنكره المزي والذهبي، وقال الزركشي: لا يعرف. راجع: كشف
الخفاء للعجلوني "1/ 436، 437"، والأسرار المرفوعة في
الأحاديث الموضوعة لعلي القارئ "188".
وقال الشوكاني في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث
الموضوعة "ص: 200: "وقد ذكره أهل الأصول في كتبهم
الأصولية، واستدلوا به، واخطئوا". غير أن معنى الحديث هذا
له أصل، وهو ما رواه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في
بيعة النساء عن أميمة بنت رقيقة -رضي الله عنها- "4/ 151،
152"، وفيه: "إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة"
وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرج ابن ماجه طرفًا منه، وليس فيه محل الشاهد، وذلك في
كتاب الجهاد، باب بيعة النساء عن أميمة -رضي الله عنها "2/
959".
(1/331)
فإن قيل هذا من
أخبار الآحاد.
قيل: يجوز الاحتجاج به في مثل ذلك؛ ولأن الأمور التي خص
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها الواحد، قد بيَّن عن
وجه التخصيص فيها، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي
بردة1: "الجذع من الماعز يجزئ عنك، ولا يجزئ عن أحد بعدك"
2، وقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي تزوج بما معه من
__________
1 هو هانئ بن نيار الأنصاري، اختلف في اسمه واسم أبيه، شهد
بدرًا وأُحُدًا وبقية المشاهد، شهد مع علي حروبه كلها،
توفي في أول خلافة معاوية -رضي الله عن الجميع.
انظر ترجمته في: الاستيعاب "4/ 1608، 1609" والإصابة،
القسم السادس "ص: 523". طبعة دار نهضة مصر.
2 هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب العيدين، باب كلام
الإمام والناس في خطبة العيد "2/ 27". وفي كتاب الأضاحي
باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بردة: "ضَحِّ
بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك" "7/ 131".
وأخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب وقتها "3/ 1552-1555".
وأخرجه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب ما يجوز في الضحايا
من السن "2/ 87".
وأخرجه الترمذي في كتاب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد
الصلاة "4/ 93".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الأضاحي، باب النهي عن ذبح
الأضحية قبل الصلاة "2/ 1053".
وأخرجه النسائي في كتاب الأضاحي، باب ذبح الأضحية قبل
الإمام "7/ 196".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الضحايا، باب النهي
عن ذبح الضحية قبل انصراف الإمام "3/ 72، 73" =
(1/332)
القرآن: "هذا
لك، وليس لأحد بعدك" 1، وكذلك تخصيصه
__________
= وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الهدايا والضحايا، باب
وقت الذبح والترخيص، لأبي بردة بن نيار وعقبة بن عامر في
التضحية بالجذع من المعز.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "4/ 207".
وقد وردت الرخصة لعقبة بن عامر -رضي الله عنه- في أن يضحي
بالجذعة، فروى البخاري في كتاب الأضاحي، باب قسمة الإمام
الأضاحي بين الناس بلفظ: قسم النبي -صلى الله عليه وسلم-
بين أصحابه ضحايا، فصارت لعقبة جذعة، فقلت: يا رسول الله،
صارت لي جذعة، قال: "ضحِّ بها" .
وقد أخرج ذلك مسلم في كتاب الأضاحي، باب سن الضحية "3/
1556".
كما أخرج ذلك الطيالسي في مسنده في كتاب الهدايا والضحايا،
باب وقت الذبح والترخيص لأبي بردة وعقبة بن عامر في
التضحية بالجذع من الماعز "1/ 230".
ومن جهة أخرى فقد جاءت الرخصة بالتضحية بالجذع لزيد بن
خالد الجهني، كما في سنن أبي داود في كتاب الأضاحي، باب ما
يجوز في الضحايا من السن "2/ 86، 87".
وقد زاد البيهقي بعد أن روى الرخصة في ذلك لعقبة بن عامر:
"ولا رخصة فيها لأحد بعدك".
وعلى هذه الرواية يكون هناك تعارض بين القصتين: قصة أبي
بردة، وقصة عقبة، وقد جمع بينهما البيهقي بأن هذه رخصة
لعقبة، كما كانت لأبي بردة، ورده الحافظ ابن حجر.
وذهب بعضهم: إلى أن خصوصية الأول نسخت بخصوصية الثاني.
وهناك فريق ثالث: يرى تقديم حديث أبي بردة على حديث عقبة،
وبخاصة أن الزيادة: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك" في حق عقبة،
لم ترد في الصحيحين.
راجع: شرح الزرقاني على الموطأ "3/ 73".
ومن هنا نتبين أن تعبير المؤلف بالتخصيص لأبي بردة لم يكن
دقيقًا.
1 قصة تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل بما معه من
القرآن ثابتة صحيحة: أخرجها البخاري في كتاب النكاح، باب
تزويج المعسر "7/ 8، 9". =
(1/333)
للزبير1 بلبس
الحرير2.
__________
= وأخرجها مسلم في كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه
تعليم القرآن "2/ 1040".
وأخرجها الترمذي في كتاب النكاح، باب منه "أي مهور النساء"
"3/ 412، 413".
وأخرجها أبو داود في كتاب النكاح، باب التزويج على العمل
يعمل "1/ 487".
وأخرجها ابن ماجه في كتاب النكاح، باب التي وهبت نفسها
للنبي -صلى الله عليه وسلم: "1/ 644، 645".
وأخرجها النسائي في كتاب النكاح، باب عرض المرأة نفسها على
من ترضى "6/ 64، 65"، وفي باب هبة المرأة نفسها لرجل بغير
صداق "6/ 100، 101".
وأخرجها الطيالسي في مسنده "بدائع المنن" في كتاب النكاح،
باب جعل العتق صداقًا، وجعل تعليم بعض القرآن صداقًا "1/
307".
وأخرجها مالك في الموطأ في كتاب النكاح، باب ما جاء في
الصداق والحياء "3/ 128، 129". وراجع أيضًا: نصب الراية
"3/ 199، 200".
ويلاحظ أن قوله: "هذا لك وليس لأحد بعدك" لم أَرَهَا فيما
رجعت إليه من المصادر، غير أن ابن قدامة، ذكر في كتابه
المغني "7/ 141"هذا الحديث بلفظ: إن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- زوَّج رجلا على سورة من القرآن، ثم قال: "لا
تكون لأحد بعدك مهرًا" ثم قال ابن قدامة بعد ذلك: رواه
النجاد بإسناده.
1 هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي، ابن
عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- أول من سلَّ سيفًا في سبيل
الله تعالى، أحد المبشرين بالجنة، شهد بدرًا والحديبية
والمشاهد كلها، مات مقتولا سنة: 36هـ، وله من العمر "67"
سنة.
انظر ترجمته في: الاستيعاب "2/ 510-516"، والإصابة، القسم
الثاني، "ص: 553" طبعة دار نهضة مصر.
2 حديث الترخيص في لبس الحرير رواه أنس بن مالك -رضي الله
عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب اللباس، باب ما
يرخص للرجال من الحرير للحكة "7/ 195"، ولفظه: رخَّص رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير وعبد الرحمن في لبس
الحرير لحكة بهما. =
(1/334)
فبان أن الأصل
اشتراك الجماعة في الحكم، حتى يثبت للتخصيص فائدة في موضعه
الذي ورد فيه.
ويدل عليه إجماع الصحابة في أحكام الحوادث، مثل رجوعهم في
__________
= وأخرجه عنه مسلم في كتاب اللباس، باب إباحة لبس الحرير
للرجل إذا كان به حكة "3/ 1646".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في الرخصة
في الحرير "4/ 218" وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب اللباس، باب في لبس الحرير
لعذر "2/ 372".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب اللباس، باب الرخصة في لبس
الحرير "8/ 178".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب من رخص له في لبس
الحرير "1/ 1188".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب اللباس والزينة، باب
الرخصة في استعمال الذهب والحرير عند الضرورة "1/ 356،
357".
ولي على المؤلف هنا ملاحظات:
الأولى: أنه عبر بالتخصيص، وهو مشعر بأن ذلك الحكم خاص
بالزبير -رضي الله عنه- لا يتعداه إلى غيره، وليس الأمر
كذلك، بل هو ترخيص له ولكل من أصيب بمرضه.
الثانية: أن الترخيص الوارد في الحديث لاثنين هما: الزبير
وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- وليس للزبير وحده،
كما ذهب إليه المؤلف.
الثالثة: أن الواجب أن يذكر علة الترخيص، وهي الحكة، حتى
يدخل في الحكم من توفرت فيه العلة.
وبعد: فالحديث لا يدل على ما ذهب إليه المؤلف؛ لأنه ترخيص،
وليس بتخصيص، كما عرفت.
(1/335)
أمر الزنى إلى
قصة ماعز 1، وفي الجنين إلى قصة2 حمل بن مالك3، ورجوع ابن
مسعود4 في المفوضة إلى
__________
1 قد مضى تخريج قصة ماعز -رضي الله عنه- كما مضت ترجمته
قريبًا "ص: 319.
2 وهذه القصة رواها حمل بن مالك وأبو هريرة وغيرهما.
أخرجها الترمذي في كتاب الديات، باب ما جاء في دية الجنين
"4/ 23، 24" عن أبي هريرة ثم عقب على ذلك بقوله: وفي الباب
عن حمل بن مالك.
وأخرجها أبو داود في كتاب الديات، باب دية الجنين "2/ 497-
499".
وأخرجها النسائي في كتاب الديات، باب دية جنين المرأة "8/
41- 44".
وأخرجها ابن ماجه في كتاب الديات، باب دية الجنين "2/
882".
وأخرجها مالك في الموطأ في كتاب العقول، باب عقل الجنين
"4/ 181، 182"، ولم يذكر فيها حمل بن مالك.
وأصل القصة في صحيح البخاري ومسلم، فالبخاري في كتاب
الديات، باب جنين المرأة، وفي باب جنين المرأة وأن العقل
على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد "8/ 14، 15".
ومسلم في كتاب الديات، باب دية الجنين "3/ 1309".
وراجع في هذه القصة أيضًا: نصب الراية "4/ 381- 384"،
الاستيعاب "1/ 376".
3 هو حمل بن مالك بن النابغة بن جابر بن ربيعة الهذلي، أبو
نضلة، صحابي استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدقات
هذيل، عاش إلى خلافة عمر -رضي الله عنه.
له ترجمة في: الاستيعاب "1/ 336"، والإصابة "2/ 38، 39".
4 هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد
الرحمن، صحابي جليل. كان كثير الملازمة للنبي -صلى الله
عليه وسلم- ولي بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- بيت
مال الكوفة. توفي بالمدينة سنة: 32هـ، وقيل: 33هـ، وقيل:
توفي بالكوفة، والأول أثبت كما يقول الحافظ ابن حجر.
له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 987"، والإصابة "4/ 129، 130"،
وتاريخ بغداد "1/ 147"، وتذكرة الحفاظ "1/ 31"، وخلاصة
تذهيب الكمال "ص: 181"، وشذرات الذهب "1/ 38"، وطبقات
القراء للذهبي "1/ 33"، وطبقات الحفاظ "5"، والنجوم
الزاهرة "1/ 89".
(1/336)
قصة1 بروع بنت
واشق2. ورجوعهم في وضع الجزية على مجوس هجر3. ولم يَدَّعِ
أحد تخصيص الواحد من الجماعة التي خرج عليها الخطاب، فدل
على تساوي الجميع في ذلك.
__________
1 خلاصة هذه القصة: أن امرأة تزوجت، ولم يفرض لها صداق،
ومات زوجها قبل الدخول بها، وقد سئل ابن مسعود عن حكمها،
فقال: لها مثل صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة،
ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في بروع بنت واشق مثل ما قضيت،
ففرح ابن مسعود بذلك.
والحديث أخرجه الترمذي في كتاب النكاح، باب: ما جاء في
الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها "3/ 441"،
وقال فيه: حديث حسن صحيح.
وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب من تزوج ولم يُسَمِّ
صداقًا حتى مات "1/ 487، 488".
وأخرجه النسائي في كتاب النكاح، باب إباحة التزويج بغير
صداق "6/ 98- 100".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب الرجل يتزوج ولا يفرض
لها فيموت على ذلك "1/ 609".
وأخرجه الطيالسي في كتاب النكاح، باب من تزوج ولم يسمِّ
صداقًا ثم توفي قبل الدخول "1/ 307، 308".
وراجع في هذا الحديث: نصب الراية "3/ 201، 202".
2 هي بروع بنت واشق الرواسية الكلابية، أو الأشجعية،
صحابية.
لها ترجمة في: الاستيعاب "4/ 1795"، والإصابة "8/ 29".
3 حديث وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- الجزية على مجوس
هجر، رواه عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- ولم يكن عمر
-رضي الله عنه- أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عنده عبد
الرحمن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذها من مجوس
هجر. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، باب
الجزية والموادعة مع أهل الحرب "4/ 117".
وأخرجه أبو داود في كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب أخذ
الجزية من المجوس "1/ 150".
وأخرجه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في أخذ الجزية
من المجوس "4/ 146، 147".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الجهاد، باب ما جاء في
الجزية "1/ 240".
وراجع أيضًا: نصب الراية "3/ 447- 450".
(1/337)
وذهب [41/ أ]
المخالف إلى الذي ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا من الأدلة،
وقد أجبنا عنه.
واحتج: بأنه لو كان له عبيد، فقال لواحد منهم: اسقني ماء،
لم يدخل فيه1 بقية العبيد، كذلك أوامر صاحب الشريعة إذا
توجهت إلى واحد، لا يدخل فيه غيره.
والجواب: أن لفظ صاحب الشريعة أدخل في العموم من لفظ غيره،
ألا ترى أنه لو قال الله تعالى لنبيِّه، أو قال النبي لبعض
أمته: صُمْ؛ لأنك صليت، دخل في ذلك كل مصلٍّ، اعتبارًا
بتعليله، وكذلك لو قال: حرمت السكر؛ لأنه حلو، حرم كل حلو،
ولو قال السيد لبعض عبيده: اسقني ماء؛ لأنك صليت؛ لم يدخل
غيره من عبيده المصلين في ذلك، وكذلك لو قال: والله لا
أكلت السكر؛ لأنه حلو، لم يدخل في يمينه غيره من الحلاوات.
__________
1 في الأصل "في".
(1/338)
مسألة: دخول النبي في أمره لأمته
مدخل
...
مسألة: [دخول النبي في أمره لأمته]: 1
إذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بأمر، دخل هو في
الأمر2.
وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في مواضع:
فقال في رواية الأثرم، وقد سأله عن حديث أم سلمة: "إذا دخل
__________
1 راجع في هذه المسألة: الواضح، الجزء الأول، الورقة "300،
301"، التمهيد الورقة "36، 37"، والمسودة "ص: 32-34"، وشرح
الكوكب المنير "ص: 169، 170".
2 نقل في المسودة "ص: 32، 33" للقاضي في هذه المسألة ثلاثة
نصوص هي:
1 قال القاضي في مختصر له في أصول الفقه: "الآمر لا يدخل
تحت أمره؛ لأن الآمر يجب أن يكون فوق المأمور. فأما النبي
-صلى الله عليه وسلم- فيما يبلغ عن الله تعالى، فهو وغيره
فيه سواء إلا ما خصه الدليل.
وأما ما أمر به من ذات نفسه فلا يدخل فيه؛ لأن الأصل أن
المخاطب لا يدخل تحت خطابه إلا بدليل، ولهذا إذا قال: أنا
ضارب من في البيت، لا تدخل نفسه فيه".
2 وقال أيضًا في كتابه "الكفاية": "والآمر يدخل تحت الأمر،
خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في قولهم: لا يدخل".
3- وقال أيضًا في مقدمة المجرد: "وإذا أمر الرسول بأمر،
فإنه يدخل هو -صلى الله عليه وسلم- في حكم ذلك الأمر، إلا
أن يكون في مقتضى اللفظ ما يمنع دخوله فيه".
فمقتضى كلام القاضي في كتابه: "العدة" و"الكفاية" و"مقدمة
المجرد" أن النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا أمر بأمر،
فإنه داخل فيه، إلا أن يدل الدليل على خلافه، سواء كان
مبلِّغًا عن الله تعالى ابتداء، أم أمر به من نفسه، ثم أقر
عليه، أو لم يقر.
ومقتضى كلامه في مختصره كذلك، إلا في حالة ما إذا أمر من
ذات نفسه، وقبل أن يقر عليه، فلا يكون مأمورًا به والحالة
هذه.
(1/339)
العشر، وأراد
أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره، ولا من أظفاره" 1، كيف
هو؟ فذكر إسناده، فقيل له: فحديث عائشة خلاف هذا 2، فقال:
لا، ذاك إذا بعث بالهدي وأقام، لم يجتنب شيئًا، وهذا إذا
أراد
__________
1 حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أخرجه الجماعة إلا
البخاري، وكلهم أخرجوه في كتاب الأضاحي، فمسلم أخرجه في
باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن
يأخذ من شعره أو أظفاره "3/ 1565". والترمذي في باب: ترك
أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي "4/ 102". وأبو داود في باب:
الرجل يأخذ من شعره في العشر وهو يريد أن يضحي "2/ 85".
وابن ماجه في باب: من أراد أن يضحي فلا يأخذ في العَشْر من
شعره وأظفاره "2/ 1052". والنسائي في أول كتاب الضحايا "7/
186، 187"، والدارمي في باب: ما يستدل من حديث النبي -صلى
الله عليه وسلم: أن الأضحية ليست بواجبة "2/ 3".
وأخرجه الإمام أحمد في كتاب الهدايا والضحايا، باب ما
يجتنبه في العَشْر من أراد التضحية "13/ 69" من الفتح
الرباني. كما أخرجه عنها الدارقطني في كتاب الصيد والذبائح
والأطعمة وغير ذلك "4/ 278".
وراجع: نصب الراية "4/ 206" والمنتقى من أحاديث الأحكام
"ص: 424".
2 حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا أخرجه الجماعة، وكلهم
أخرجوه في كتاب الحج، فالبخاري أخرجه عشر مرات في صحيحه
منها: في كتاب الحج باب: من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم
بلفظ: "فتلت -أي عائشة- قلائد بدن النبي -صلى الله عليه
وسلم- بيدي، ثم قلدها وأشعرها وأهداها، فما حرم عليه شيء
كان أحل له" "2/ 197". وانظر: فتح الباري "3/ 542، 543".
ومسلم في باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد
الذهاب بنفسه، واستحباب تقليده "2/ 957". والترمذي في باب:
ما جاء في تقليد الهدي للمقيم "3/ 242". وأبو داود في باب:
من بعث بهديه وأقام "1/ 407". والنسائي في باب: فتل
القلائد "5/ 133، 134". وابن ماجه في باب: تقليد البدن "2/
1033، 1034". والإمام أحمد في باب: أن من بعث بهدي لم يحرم
عليه شيء مما يحرم على الحاج "13/ 31" الفتح الرباني.
وأخرجه الطيالسي في كتاب الهدايا والضحايا، باب ما جاء في
إشعار البدن، وتقليد الهدي كله "1/ 228، 229".
وراجع نصب الراية "3/ 115"، والمنتقى من أحاديث الأحكام
"ص: 423".
(1/340)
أن يضحي في
مصره، ودخل العَشْر، لم يمس من شعره ولا من أظفاره، فقد
عارض نهيه وهو قوله: "لا يمس من شعره، ولا من بشره" بفعله،
وهو أنه ما كان يمتنع عن شيء مما كان عليه، فلو كان نهيه
لغيره مما يختص به الغير، وفعله مما يختص به هو، لم يقابل
النهي بالفعل؛ إذ كل واحد منهما لا يلزمه حكم الخطاب
الآخر1.
وكذلك قال -رحمه الله- في رواية الميموني وقد سأله رجل:
أيتوضأ بالنبيذ؟ فقال: كل شيء غير الماء لا يتوضأ به. فقيل
له: فحديث ابن مسعود؟ فقال: يرويه هذا الرجل الواحد ليس
بمعروف2، يمنع من الوضوء بالنبيذ. واحتج في ذلك بالآية،
فعورض بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو
__________
1 تعقبه أبو الخطاب في استدلاله بما روي عن أحمد بقوله:
"وجميعها لا تدل على هذه المسألة، بل تدل على أن فعله يجب
أن يتبع فيه، كما أن أمره ونهيه يتبع فيه، فيتعارضان، فأما
أن يدل على أنه يدخل في الأمر، أو لا يدخل فلا" التمهيد
الورقة "36/ ب".
2 حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي يشير إليه السائل
أخرجه الترمذي وأبو دواد وابن ماجه وأحمد والدارقطني
والطحاوي، وكلهم أخرجوه في كتاب الطهارة.
فالترمذي أخرجه في باب: ما جاء في الوضوء من النبيذ "1/
147" وفي إسناده: أبو زيد، وهو مجهول، كما أن في إسناده:
أبا فزارة، وهو مجهول عند بعضهم، وسيأتي بيان ذلك.
وأخرجه أبو داود في باب: الوضوء بالنبيذ "1/ 20" وفي
إسناده: أبو زيد وأبو فزارة.
وأخرجه ابن ماجه في باب: الوضوء بالنبيذ، بإسنادين الأول
فيه: أبو زيد، وأبو فزارة، كما سبق وفي الثاني: ابن
لَهِيْعَةَ وهو ضعيف "1/ 135، 136". =
(1/341)
.........................................
__________
= وأخرجه أحمد كما في الفتح الرباني، باب حكم الطهارة
بالنبيذ إذا لم يوجد الماء "1/ 204، 205" من ثلاث طرق:
طريقان فيهما أبو زيد، وأبو فزارة، والثالثة فيها: ابن
لهيعة.
وأخرجه الدارقطني في باب: الوضوء بالنبيذ "1/ 75" من عدة
طرق فيها المرفوع والموقوف والمقطوع وكلها لا تقوم بمثلها
حجة.
وأخرجه الطحاوي في باب الرجل لا يجد إلا نبيذ التمر هل
يتوضأ به أو يتيمم؟ "1/ 94، 95"، بإسنادين في أحدهما: علي
بن زيد بن جدعان، وهو متكلم فيه: قال فيه أحمد: ليس بشيء.
وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال حماد بن زيد: كان يقلب
الأحاديث. وقال شعبة: إنه اختلط. وقال الذهبي: صالح
الحديث. وقد أخرج له مسلم مقرونًا. راجع في هذا: المغني في
الضعفاء للذهبي "2/ 447".
أما الإسناد الثاني ففيه: ابن لهيعة.
ثم عقب الطحاوي على ذلك بقوله: "وليست هذه الطرق طرقًا
تقوم بها الحجة عند من يقبل خبر الواحد، ولم يجئ أيضًا
المجيء الظاهر".
والرجل المجهول هو: أبو زيد. قد تكلم فيه علماء الجرح
والتعديل، إليك بعض أقوالهم: نقل الزيلعي في نصب الراية
"1/ 137" عن ابن عبد البر قوله في كتابه "الاستيعاب":
"وأما أبو زيد مولى عمرو بن حريث، مجهول عندهم، لا يعرف
بغير رواية أبي فزارة، وحديثه عن ابن مسعود في الوضوء
بالنبيذ، منكر لا أصل له، ولا رواه من يوثق به، ولا يثبت".
ونقل الزيلعي أيضًا عن ابن حبان قوله في كتابه الضعفاء:
"أبو زيد شيخ، يروي عن ابن مسعود، ليس يدرى من هو؟، ولا
يعرف أبوه، ولا بلده، ومن كان بهذا النعت، ثم لم يَرْوِ
إلا خبرًا واحدًا، خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع
والقياس، استحق مجانبة ما رواه".
كما نقل عن ابن عدي عن البخاري قوله: "أبو زيد الذي روى
حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ، مجهول لا يعرف بصحبة
عبد الله، ولا يصح هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- وهو خلاف القرآن". =
(1/342)
حديث ابن
مسعود، فتكلم عليه، ولم ينكر على السائل هذه المعارضة،
فلولا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان داخلا في عموم
الآية لأنكر عليه ذلك، خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في
قولهم: لا يدخل في الأمر1.
__________
= وقال ابن أبي حاتم في كتابه علل الحديث "1/ 17": "سمعت
أبا زرعة يقول: حديث أبي فزارة ليس بصحيح، وأبو زيد مجهول،
يعني في الوضوء بالنبيذ". ونقل الساعاتي في كتابه الفتح
الرباني "1/ 205" عن القارئ قوله: "قال السيد جمال: أجمع
المحدثون على أن هذا الحديث ضعيف".
كما نقل عن الحافظ قوله: "هذا الحديث أطبق علماء السلف على
تضعيفه".
وقيل: الرجل المجهول هو أبو فزارة، فهو ليس راشد بن كيسان
الثقة المشهور، إنما هو رجل آخر مجهول.
وهو رأي نقل عن الإمام أحمد وعن الإمام البخاري.
وتعقب الزيلعي ما نقل عنهما بأنه قد روى عنه جماعة، فيخرج
بذلك من الجهالة إلا أن يراد جهالة الحال. كيف وقد صرح ابن
عدي وابن عبد البر بأن أبا فزارة اسمه: راشد بن كيسان.
وحكي عن الدارقطني مثل ذلك.
وخلاصة القول في ذلك: أن الحديث مردود لثلاث علل كما ذكر
الزيلعي في نصب الراية "1/ 137- 148".
الأولى: جهالة أبو زيد.
الثانية: التردد في جهالة أبي فزارة.
الثالثة: جاء في حديث: "الوضوء بالنبيذ" أن ابن مسعود شهد
ليلة الجن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والثابت في
صحيح مسلم وغيره خلاف ذلك، حيث ثبت أنه لم يكن معه -عليه
الصلاة والسلام- أحد في هذه الليلة.
ولو سلم صحة الحديث، فهو منسوخ بآيتي النساء والمائدة:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}
["43" النساء، و"6" المائدة]؛ وذلك لأن قصة ابن مسعود وقعت
ليلة الجن، وذلك قبل الهجرة، وآيتا النساء والمائدة
مدنيتان بلا خلاف. انظر: تعليق الشيخ أحمد شاكر على سنن
الترمذي "1/ 149".
1 وبهذا قال أبو الخطاب من الحنابلة كما في كتابه التمهيد
الورقة "37/ ب"، وبه قال أبو الطيب، كما نقل ذلك في
المسودة "ص: 34".
(1/343)
دليلنا:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمر الصحابة بالفسخ،
قالوا: أتأمرنا بالفسخ وأنت لا تفسخ، فقال: "لو استقبلت من
أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولحللت كما تحلون" 1، فلولا
أنه داخل في الأمر، لم يستدعوا الفعل منه، ولم يقرهم على
ذلك، ويعتذر إليهم بعذر منعه من دخوله فيه.
[و] [41/ ب] رواه الأثرم في مسائله بإسناده عن ابن عمر
قال: "لما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحل
بعمرة، قلنا: فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا؟ قال:
"إني أهديت ولبدت، فلا أحل حتى أنحر هديي" 2.
__________
1 هذا الحديث أخرجه البخاري عن جابر -رضي الله عنه- في
كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج
لمن لم يكن معه هدي "2/ 167، 168".
وعنه أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام،
وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران "2/ 883-855".
وعنه أخرجه أبو داود في كتاب الحج، باب إفراد الحج، كما
أخرجه عن عائشة -رضي الله عنها "1/ 414، 415".
وعنه أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الحج والعمرة، باب
فسخ الحج إلى العمرة "1/ 217".
وعنه أخرجه الشافعي في كتاب الحد، باب ما جاء في فسخ الحج
إلى العمرة "1/ 309، 310".
وراجع في هذا أيضًا: تيسير الوصول "1/ 255"، والمنتقى "ص:
379"، والتلخيص "2/ 231".
2 حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أخرجه البخاري عنه عن حفصة
-رضي الله عنها- وذلك في كتاب الحج، باب التمتع والإقران
بالحج "2/ 167، 168" وفي باب قتل القلائد للبدن والبقر "2/
197"، وفي باب من لبد رأسه عن الإحرام وحلق "2/ 203".
وأخرجه كذلك أبو داود في كتاب الحج، باب في الإقران "1/
420".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في فسخ
الحج إلى العمرة "1/ 312".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/ 104".
(1/344)
ولأن النبي
-صلى الله عليه وسلم- مبلغ عن الله تعالى أمره، فيكون
بمنزلة قول الله تعالى: افعلوا كذا، فيجب أن يدخل فيه.
فإن قيل: لو قال الله تعالى: قل لأمتك: افعلوا كذا، لم
يدخل هو في الخطاب، ولا فرق بينهما.
قيل له: قد بينَّا في المسألة التي قبلها فساد هذا، وقلنا:
إن تخصيص النبي بالخطاب يوجب دخول أمته، وتخصيص بعض
الصحابة يوجب دخول الباقين فيه، كذلك أمره لغيره يوجب
دخوله فيه؛ لأن الجميع شرع، فلا يختص به بعض المخاطبين.
فإن قيل: الأمر مضاف إلى الأقوال، قال الله تعالى:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1،
وليس بمضاف إلى الله تعالى.
قيل: إنما أضافه إليه لوجوده من جهته.
فإن قيل: ما اجتهد فيه النبي هو غير مبلغ فيه عن الله
تعالى أمره، فكان يجب أن لا يدخل فيه.
قيل: إذا اجتهد فيه وأقر عليه، فهو مبلغ فيه عن الله
تعالى؛ لأن إقراره عليه أمر به.
__________
1 "63" سورة النور.
(1/345)
فإن قيل: فقد
نقل الميموني عن أحمد -رحمه الله- في قوم يقولون: ما كان
في القرآن أخذنا به1، ففي القرآن تحريم لحوم الحمر
الأهلية؟!.
وهذا من أحمد -رحمه الله- يمنع أن يكون جميع كلام النبي عن
الله تعالى.
قيل: هذا يمنع أن يكون جميع كلامه في القرآن، وغير ممتنع
أن يكون لله تعالى أمر غير القرآن.
__________
1 هذه فرقة ضالة مضلة، ترمي من وراء ذلك إلى التنصل من
الأحكام الشرعية، التي جاءت بها السنة المحمدية الشريفة،
وهي تظهر في كل زمان وفي كل مكان. وقد ظهرت في زماننا هذا،
وهم في هذا يتعلقون بأسباب، هي أَوْهَى من بيت العنكبوت،
وتصورها ممن لديه أدنى فهم، يكفي في دحضها والرد عليها.
(1/346)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن النبي آمر، فلا يجوز أن يكون مأمورًا به؛ لأنه لا يجوز
أن يكون مأمورًا به بما هو آمر به، كما لا يحوز أن يكون
آمرًا بما هو مأمور به؛ ولأنه لا يجوز أن يكون مطلوبًا بما
هو طالب به، ومسئولا بما هو سائل به، كذلك لا يجوز أن يكون
مأمورًا بما هو آمر به.
والجواب: أنا لا نسلم أنه أمره، وإنما هو من جهة الله
تعالى وهو مخبر عنه.
واحتج: بأنه لا يجوز أن يكون آمرًا نفسه بلفظ يخصه، كذلك
لا يجوز أن يكون آمرًا نفسه بلفظ يعمه وغيره.
والجواب: أنه ليس بآمر نفسه، وإنما الأمر من جهة الله
تعالى له ولغيره، على أنه قد قيل: إن ذلك جائز أن يقول
لنفسه: افعل، ويريد منها الفعل.
(1/346)
واحتج: بأن من
شرط الأمر أن يكون الآمر أعلى من المأمور، وهذا الشرط
مفقود ههنا؛ لأنه لا يكون أعلى رتبة من نفسه.
والجواب: أن هذا يصح إذا كان هو الآمر، فأما والآمر هو
الله تعالى فلا يلزم هذا.
واحتج: [42/ أ] بأن الأمر يتضمن إعلام المأمور به وجوب
الفعل، ولا يجوز أن يكون معلمًا نفسه بلفظه، فلم يَجُزْ أن
يكون آمرًا نفسه.
والجواب: أن الله تعالى هو المعلم له، وليس هو المعلم
نفسه.
واحتج: بأن المأمور عليه أن يمتثل الأمر، سواء كان عليه
فيه ضرر أو له فيه نفع، والإنسان يتوقى ما يضره ويأتي ما
ينفعه قبل الأمر، فثبت أن الآمر لا يدخل في الأمر.
والجواب: أن هذا يصح لو كان هو الآمر لنفسه.
واحتج: بأن الأمر في اللغة، لاقتضاء الفعل من غيره، ألا
ترى إذا قال: افعل كذا، صلح أن يقول له المخاطب: قد فعلت،
ويكون امتثالا فلا يصح أن يقول هو: قد فعلت.
ولأنه لو قال لعبده: اسقني ماء، كان الأمر متوجهًا إلى
غلامه، دون نفسه؛ لأنه لا يأمر نفسه أن يسقيه ماء.
والجواب: أنا هكذا نقول، وأن الفعل مقتضاه من غيره، وهو
الله سبحانه، ولا يشبه هذا، إذا قال لعبده: اسقني الماء؛
لأن الأمر من جهته صدر، فلا يدخل هو فيه.
فإن قيل: فهل يدخل المخبر تحت الخبر؟
قيل: لا يدخل؛ لأنه لا فائدة أن يخبر نفسه؛ لأنه ليس يخفى
عنه حال المخبر عنه، والأمر بخلافه.
(1/347)
فهرس موضوعات المقدمة:
الموضوع الصفحة
الافتتاحية 7
التعريف بالمؤلف 15- 30
اسمه ونسبه 15
مولده 18
نشأته، وطلبه العلم، وأهم أعماله 19
تولِّيه التدريس 22
توليه القضاء 23
زهده، وورعه، وثناء الناس عليه 24
وفاته، ورثاء الناس له 27
أولاده 29
التعريف بالكتاب 31- 56
اسم الكتاب 31
نسبة الكتاب إلى المؤلف 31
وصف مخطوطة الكتاب 32
منهج المؤلف في هذا الكتاب 34
مصادر المؤلف في هذا الكتاب 37
(1/349)
الموضوع الصفحة
مصادر في العقيدة 37
مصادر في التفسير وعلومه 38
مصادر في الحديث وعلومه 40
مصادر في الفقه وأصوله 42
مصادر لُغَوية ونحْوية 44
مصادر متنوعة 45
تقويم الكتاب 48
محاسن الكتاب 48
المآخذ على الكتاب 51
منهج التحقيق 57
صورة المخطوطة 61
(1/350)
فهرس موضوعات
الكتاب
الموضوع الصفحة
افتتاحية الكتاب 67
تعريف الأصول في اللغة 67
تعريف الفقه في اللغة 68
تعريف الفقه في الاصطلاح 69
تعريف أصول الفقه في الاصطلاح 70
وجوب معرفة الفروع قبل الأصول 70
أدلة الشرع ثلاثة أضرب 71
تقسيم الأصل إلى ثلاثة أضرب 72
أقسام المفهوم 72
أقسام الاستصحاب 72
باب ذكر الحدود 74- 193
تعريف الحد 74
الزيادة في الحد 75
أقسام الزيادة في الحد عند الباقلاني 75
تعريف العلم عند المؤلف 76
(1/351)
الموضوع الصفحة
ذكر التعريفات الأخرى ومناقشتها 77
تقسيم العلم إلى قديم ومحدث 80
يقسم العلم المحدث إلى ضروري ومكتسب 80
تعريف العلم الضروري وذكر قسميه 80
تعريف العلم المكتسب وذكر قسميه 82
تعريف الجهل 82
تعريف الشك 83
تعريف الظن 83
الظن طريق للحكم بخلاف الشك 83
تعريف العقل 83
الخلاف في محل العقل 89
أدلة من قال: إنه في الرأس 90
أدلة من قال: إنه في القلب 90
رد أدلة من قال: إنه في الرأس 93
تفاوت العقول في بني البشر 94
ذهب بعض المعتزلة وبعض الأشعرية إلى تساوي العقول 94
أدلة من قال بالتفاوت 94
دليل من قال بعدم التفاوت والرد عليه 100
تعريف البيان في الاصطلاح 100
تعريف البيان في اللغة 101
تعريف الإمام الشافعي للبيان 102
اعتراض ابن داود على تعريف الشافعي 103
تعريف الصيرفي للبيان والرد عليه 105
الخطاب المبتدأ الظاهر المعنى يطلق عليه البيان 105
(1/352)
الموضوع الصفحة
تعريف البيان عند المتكلمين 106
وجوه البيان في الشرع 107
ما يحتاج إلى البيان 108
ما يقع به البيان 110
البيان من الله -تعالى- بالقول وبالكتاب 110
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقول 112
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالكتابة 114
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالفعل 118
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإشارة 124
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدلالة
والتنبيه على الحكم من غير نص 125
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإقرار 127
وقوع بيان المجمل بالإجماع 128
قسم أبو بكر غلام الخلال البيان إلى خمسة أقسام 130
تعريف الدليل 131
معنى الاستدلال 132
معنى المستدل عليه 132
معنى المستدل له 132
معنى الدلالةِ لغةً 132
معنى الدَّال 133
قول أحمد: قواعد الإسلام أربع 135
تعريف الأمارة 135
أقسام الأمارة 135
تعريف النص 137
(1/353)
الموضوع الصفحة
تعريف العموم 140
تعريف الظاهر 140
الفرق بين العموم والظاهر 140
تعريف المجمل 142
آية: {وآتوا حقه يوم حصاده} مجملة 143
آية: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} مجملة 143
آية: {ولله على الناس حج البيت} مجملة 144
آية: {حرمت عليكم الميتة} مجملة 145
آية: {حرمت عليكم أمهاتكم} مجملة 145
آية: {وأحل الله البيع} مجملة 148
آية: {السارق والسارقة} ليست بمجملة 149
تعريف المفسر 151
تعريف المحكم 151
تعريف المتشابه 152
تعريف مفهوم الخطاب 152
تعريف دليل الخطاب 154
تعريف التخصيص 155
تعريف النسخ 155
تعريف الأمر 157
المندوب مأمور به حقيقة 158
تعريف النهي 159
تعريف الواجب 159
العبارات التي يطلق عليها "الفرض" 160
الحتم مرادف للفرض 162
(1/354)
الموضوع الصفحة
هل هناك فرق بين الفرض والواجب 162
تعريف الندب 162
تعريف الطاعة والمعصية 163
تعريف العبادة 163
تعريف السنة 165
معنى المكتوبة 167
تعريف الإباحة 167
تعريف الحَسَن والقبيح 167
تعريف الجائز 168
معنى الظلم والجور 169
تعريف الخبر 169
تعريف الإجماع 170
تعريف الحقيقة 172
تعريف المجاز 172
للإطلاق المجازي أربعة وجوه 172
تعريف القياس 174
تعريف الأصل 175
تعريف الفرع 175
تعريف العلة 175
تعريف الحكم 176
تعريف العلة الواقفة 176
تعريف العلة المتعدية 176
ما هو المعلول، الحكم أم الذات التي حلتها العلة؟ 176
تعريف "المعتل" و"المعلل" و"المعتل به" و"المعتل له" 176
(1/355)
الموضوع الصفحة
تعريف الطرد والعكس 177
تعريف النقض 177
انقسام العلة إلى منطوق به ومجتهد بها 178
تعريف السبب 182
أقسام النظر 183
تعريف الجدل 184
تعريف الرأي 184
تعريف الكلام 185
تقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف 186
ذكر بعض الوجوه التي تأتي عليها الأسماء 187
الأسماء نوعان: عام وخاص 187
الأسماء المقيدة المشتقة على قسمين 188
لا يحمل الاسم على الحقيقة والمجاز معًا 188
الأسماء التي استعملها الشرع غير منقولة خلافًا للمعتزلة
189
ثبوت الأسماء هل كان عن توقيف أو عن مواضعة؟ 190
الكلام في بعض حروف تتعلق بها الأحكام 194-212
حرف "الواو" وله ثلاث حالات: 194
الحالة الأولى: أن تكون عاطفة 194
الخلاف في كونها تقتضي الترتيب 194
الحالة الثانية: أن تكون للقسم 197
الحالة الثالثة: أن تكون بدل "رب" 197
قد تأتي الواو بمعنى "أو" 198
حرف "الفاء" 198
حرف "ثم" 199
(1/356)
الموضوع الصفحة
حرف "أو" ولها ثلاث حالات: 199
الحالة الأولى: تكون للشك 199
الحالة الثانية: تكون للتخيير 200
الحالة الثالثة: تكون للجمع، على رأي 200
قد تكون للإباحة 200
حرف "الباء" 200
وهي للإلصاق خلافًا لبعض الشافعية فيما لو تعدى الفعل
بغيرها 200
حرفا "من، وإلى" 202
حرف "على" 203
حرف "في" 204
حرف "اللام" 204
حرف "إنما" 205
قيام بعض الحروف عن بعض 208
قيام " في" عن "على " 208
قيام "الباء" مكان "عن" 209
قيام "عن" مكان "الباء" 209
قيام "اللام" مكان "على" 210
قيام "إلى" مكان "مع" 210
قيام "اللام" مكان "إلى" 210
قيام "على" مكان "من" 210
قيام "مِنْ" مكان "الباء" 211
قيام "الباء" مكان "مِن" 211
قيام "مِن" مكان "في" 212
(1/357)
الموضوع الصفحة
قيام "مِنْ" مكان "على" 212
قيام "عن" مكان "من" 212
قيام "من" مكان "عن" 212
قيام "على" مكان "عند" 212
قيام "الباء" مكان "اللام" 212
بيان أبواب أصول الفقه 213
باب الأوامر 214-424
الكلام في صيغة الأمر 214
الدليل على أن الأمر يكون كذلك لصيغته لا لإرادة الآمر 216
أدلة من قال: "لا بد من الإرادة في الأمر"، ورد ذلك 219
الدليل على أن الأمر هو الأصوات المسموعة 222
الفعل لا يسمى أمرًا ودليل ذلك مع ذكر الخلاف 223
الأمر المتعري عن القرائن للوجوب عند الجمهور 224
إذا أريد بالأمر: الندب، فهو حقيقة فيه 248
الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة 256
الأمر المطلق يقتضي التكرار 264
الأمر المعلق بالشرط يقتضي التكرار 275
الأمر المتكرر هل يقتضي التكرار 278
الأمر المطلق يقتضي الفور 281
الأمر المؤقت، لا يسقط بفوات وقته 293
الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئًا 300
(1/358)
الموضوع الصفحة
الواجب المخير 302
الواجب الموسَّع 310
مسألة: المريض والمسافر والحائض يلزمهم الصيام.. إلخ 315
الأمر المطلق للرسول -صلى الله عليه وسلم- يعم أمته
وكذلك الأمر لواحد من الأمة يدخل الرسول
-صلى الله عليه وسلم- في حكمه 318
إذا أمر النبي أمته بأمر دخل هو في الأمر 339
(1/359)
|