العدة في أصول الفقه

المجلد الثاني
باب الأوامر
الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره
مسألة العبيد يدخلون في الخطاب المطلق
مدخل
...
باب الأوامر:
الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره:
مسألة 1 العبيد يدخلون في الخطاب المطلق: 2
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية إسماعيل بن سعيد3: تجوز شهادة المملوك، إذا كان عدلًا؛ لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 4، وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 5.
وقال أيضًا في رواية ابن منصور6: "على العبد إيلاء، وإيلاؤه أربعة أشهر". وإنما قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
__________
1 راجع في هذه المسألة "الواضح" الجزء الأول الورقة "301-303"، و"التمهيد" الورقة "38-39"، والمسودة ص"34"، و "شرح الكوكب المنير" ص"173"، وروضة الناظر "123-124".
2 وبهذا الرأي قال أكثر الأصوليين، واختاره الغزالي في "المنخول" ص"143"، وفي "المستصفى" "2/77-78"، والآمدي في "الإحكام" "2/248-250"، وهو الأصح عند الشافعية كما في جمع الجوامع "1/427".
3 هو: إسماعيل بن سعيد الشالنجي، أبو إسحاق. كان عالمًا بالفقه. وكان من أصحاب الإمام أحمد. وقد نقل عنه مسائل كثيرة ذات فائدة علمية كبيرة. له ترجمة في: طبقات الحنابلة "1/104-105".
4 ، 5 "282" سورة البقرة.
6 هو: إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج، أبو يعقوب المرزوي، من أصحاب الإمام أحمد الذين رووا عنه، ونقلوا عنه مسائل فقهية كثيرة، ثقة مأمون، كما يقول مسلم، قال فيه الخطيب: كان عالمًا فقيهًا. مات بنيسابور سنة "251هـ". له ترجمة في: تذكرة الحفاظ "2/524"، وتهذيب التهذيب "1/249"، وشذرات الذهب "2/123"، وطبقات الحفاظ ص"229"، وطبقات الحنابلة "1/113".

(2/348)


أَشْهُرٍ} 1، ولم يذكر العبيد، ولا اليهود2.
وقال في كتاب طاعة الرسول قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} 3، فالظاهر أنه على العبد والحر.
وقال أيضًا رحمه الله في رواية الميموني، وقد سأله عن المملوكين أو المملوك وتحته حرة يلاعنها: كل زوجين [يتلاعنان] على ظاهر الآية.
فظاهر كلام أحمد رحمه الله: أنه أدخلهم في عموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ 4 يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، وفي عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 5، وهو اختيار أبي بكر الباقلاني وأبي عبد الله الجرجاني6.
وحكى أبو سفيان عن الرازي: أنه ما تعلق بحقوق الآدميين؛ لم يدخل فيه، قال: ولهذا لم يجز أصحابنا شهادة العبد.
واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: يدخل فيه، ومنهم من يمنع7.
__________
1 "226" سورة البقرة.
2 هكذا في الأصل: "اليهود" ، وقد صوبه الناسخ في الهامش بقوله: "الشهور"، وهو خطأ؛ لأن المقصود أن الخطاب عام يشمل العبيد والكفار، كاليهود.
3 "226" سورة البقرة.
4 في الأصل: "الَّذِينَ يُؤْلُونَ" وهو خطأ.
5 "6" سورة النور.
6 هو: محمد بن يحيى بن مهدي، وقد سبقت ترجمته ص"269".
7 لكن الأصح عندهم: دخول العبيد في الأمر المطلق، صرح بذلك في: جمع الجوامع "1/427".

(2/349)


دليلنا:
أن العبد يصح تكليفه، والخطاب متناول له؛ فوجب دخوله فيه كالحر.
ولأنه يدخل في الخطاب الخاص؛ فوجب أن يدخل في الخطاب العام؛ [42/ب] لأن دخوله في الخاص لتناوله إياه، وهذا المعنى موجود في العام.
ولأن الرق حق يثبت للغير قبله؛ فلا يؤثر ذلك في خطابه، مثل من عليه دين أو قصاص.

(2/350)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن رقابهم ومنافعهم كلها مملوكة للمولى؛ فلا يجوز أن يتصرفوا في شيء إلا بإذنهم، وإذا لم يجز ذلك؛ لم يجز إدخالهم في الخطاب المطلق.
والجواب: أن ذلك لا يمنع من دخوله في الخطاب الخاص، وكل جواب عنه؛ فهو جوابنا عن العام.
ولأن فعل العبادة يصير مستثنى في حق مولاه، كما يكون مستثنى في حق الزوجة، وفي حق1 المستأجر.
واحتج: بأن العبد لا يملك فعل ما هو من حقوق الآدميين؛ لأنه لا يملك شيئًا من العقود، ولا الإقرار بالأموال؛ فلم يدخل تحت الخطاب الذي يتضمن حقوقهم؛ لأنه لا يملك فعل ما خوطب عليه2، ويفارق هذا الخطاب الذي يتضمن حقوق الله تعالى كالصوم والصلاة ونحوهما3؛ لأن
__________
1 مكررة في الأصل.
2 هكذا في الأصل، ولعل الأولى: "به".
3 في الأصل "ونحوها".

(2/350)


العبد يملك فعل ذلك من نفسه، بدليل أن المولى لا يملكه عليه.
والجواب: أنه إنما لم يملك حقوق الآدميين لدليل دل، وخلافنا في مطلق الأمر الخاص، ويلزم عليه أيضًا حقوق الله سبحانه؛ فإن منافعهم مملوكة لغيرهم، وتلزمهم.

(2/351)


مسألة دخول النساء في جمع الذكور
مدخل
...
مسألة [دخول النساء في جمع الذكور]: 1
يدخل النساء في جمع الذكور، نحو المؤمنين والصابرين2.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروزي في قوله: "من بدل دينه
__________
1 راجع في هذه المسألة: التمهيد الورقة "39-40"، وشرح الكوكب المنير "271-272"، وروضة الناظر "123-124".
2 هناك صور ثلاث من صور الجمع لا خلاف فيها، هي:
الأولى: أن يكون مفرد الجمع لا يصلح إطلاقه على النساء، كالرجال، فهو جمع خاص بالرجال اتفاقًا.
الثانية: "أن يكون مفرده لا يصلح إطلاقه على الرجال، كالبنات، فهو جمع خاص بالنساء اتفاقًا.
الثالثة: أن يكون ذلك الجمع متناولًا للذكور والإناث لغة ووضعًا، كالناس؛ فإنه يتناول الذكور والإناث بالاتفاق.
أما الصورة التي فيها الخلاف فهي: إذا كان علامة الذكور فيها واضحة بينة، كجمع المذكر نحو المؤمنين، وقد ذكر المؤلف الخلاف في ذلك.
راجع في هذا: التمهيد الورقة "39/أ"، والإحكام للآمدي "2/244"، ونهاية السول "1/360"، وتيسير التحرير "1/231-235".

(2/351)


فاقتلوه" 1 على الرجال والنساء2. خلافًا لأصحاب
__________
1 هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب "الجهاد" باب لا يعذب بعذاب الله "5/75"، وفي كتاب "استتابة المرتدين" باب حكم المرتد والمرتدة "9/18-19".
وأخرجه الترمذي في كتاب "الحدود" باب ما جاء في المرتد، وقال فيه: "هذا حديث صحيح حسن" "4/59".
وأخرجه أبو داود في كتاب "الحدود" باب الحكم في من ارتد "2/440".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب "الحدود" باب المرتد عن دينه "2/848".
وأخرجه النسائي في كتاب "تحريم الدم" باب الحكم في المرتد "7/96-97".
وأخرجه الطيالسي في كتاب "الحدود" باب عدم الشفاعة في إقامة الحد وما جاء في حد الردة "1/296".
وأخرجه الطبراني عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أخرجه في معجمه الكبير، كما أخرجه عن عائشة رضي الله عنها في معجمه الأوسط. انظر: نصب الراية "3/456".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: فيض القدير "6/95"، والمنتقى "668".
2 والقول بالدخول ذهب إليه بعض الشافعية وبعض المالكية، وهو قول الحنيفة، كما جزم بذلك الكمال في تحريره، وتابعه مؤلف تيسير التحرير "1/234"، وإن كان صاحب مسلم الثبوت اختار القول بعدم الدخول "1/273".
وهذا القول الذي اختاره القاضي، هو رواية عن الإمام أحمد، وعليه أكثر الأصحاب، وقد اختاره الموفق ابن قدامة في الروضة "123-124"، وهناك رواية أخرى: أن النساء لا يدخلن في ذلك، واختارها من الحنابلة أبو الخطاب في كتابه التمهيد الورقة "39/أ" واختاره أيضًا الطوفي كما نقل ذلك عنه أبو البقاء الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير ص"171".
ومن هنا يتبين خطأ من نسب القول بالدخول إلى كل الحنابلة، مثل الآمدي في الإحكام "2/244"، والإسنوي في نهاية السول "2/360"، والكمال بن الهمام في تحريره "1/231-234" مطبوع مع شرحه تيسير التحرير، وأبي السعود في تفسيره في أول تفسير سورة النساء.

(2/352)


الشافعي1 والأشعرية2 في قولهم: لا يدخلون في ذلك.
__________
1 هذا النقل غير محرر، فالواقع: أنه قول أكثر أصحاب الشافعي، لا كلهم وهو الرأي الأصح عند الشافعية، كما في "جمع الجوامع" مع حاشية البناني "1/428-429" وكما في نهاية السول ومنهاج الأصول "2/359-360" .
2 وهكذا نسبة الآمدي في الإحكام "2/244".

(2/353)


دليلنا:
اتفاق أهل اللغة على أن الذكور والإناث إذا اجتمعوا1 غلب الذكور على الإناث، كما أنه إذا أخرج من يعقل مع ما لا يعقل؛ غلب من يعقل على ما لا يعقل، يبين ذلك قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} 2، كان ذلك خطابًا لآدم وزوجته والشيطان، الذي أزلهما عنه3، فغلب الذكر على الأنثى، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ 4 دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} ؛ فغلب من5 يعقل على ما لا يعقل، وهي الحية.
ويقال: رأيت فلانًا وفلانة قائمين، وقاعدين، فيغلب اسم التذكير
__________
1 في الأصل: "اجتمعن".
2 "36" سورة البقرة.
3 وهناك ثلاثة آراء في الآية:
الأول أن المراد: آدم وزوجته والحية.
الثاني: أن المراد: آدم وزوجته وذريتهما.
الثالث: أن المراد: آدم وزوجته؛ لأن أقل الجمع اثنان.
راجع تفسير الرازي "مفاتيح الغيب" "2/16-17".
4 هي قراءة حمزة والكسائي، وقرأ الباقون: {خَلَقَ كُلَّ} .
5 في الأصل "ما".

(2/353)


حال التثنية، وإذا صح هذا وكان خطاب الله تعالى في صورة "افعلوا" خطابًا لجميع الناس؛ لأن هذا خطاب لحاضر، وجب أن يكون متناولًا لسائر المكلفين من الرجال والنساء.
فإن قيل: لو كان اللفظ متناولا للذكور والإناث معًا لما غلب أحدهما، بل كانا يتساويان فيه؛ فلما غلب التذكير ثبت أن اللفظ موضوع للذكور، فيجب حمله عند الإطلاق على موضوعه.
قيل: ليس إذا غلب أحدهما كان الخطاب، [42/أ] لأحدهما دون الآخر، كما قلنا: إذا اجتمع من يعقل مع ما لا يعقل، وإذا اجتمع الأيام مع الليالي؛ فإنه يغلب أحدهما واللفظ شامل لهما، كذلك ههنا، وكما يقال: فلان وفلانة قائمان؛ فيغلب التذكير وإن تناولهما.
وأيضًا: فإن الآمر إذا قال لمن بحضرته من الرجال والنساء: "قوموا واقعدوا" ؛ كان ذلك خطابًا لهم جميعًا باتفاق أهل اللغة. ولو قال: "قوموا وقمن؛ كان ذلك لكنة وعيًّا، فعلم أن الخطاب يصلح لهما، ويشتمل عليهما.
فإن قيل: لو كان أوامر الله تعالى بمنزلة أمر الآمر لمن بحضرته؛ لما حق وروده بلفظ الأمر للغائب؛ فلما وجدنا الله تعالى قد أمر الغائب بقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} 1، وقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} 2 علمنا أن أمره مخالف للآمر يأمر من بحضرته3.
قيل: إن كان لفظ الأمر للغائب؛ فالمراد به الحاضر، كما تقول: "اللهم اغفر"، بمنزلة خطاب الحاضر، وتقول: "غفر الله لي"، بمنزلة
__________
1 "5" سورة الطارق.
2 "4" سورة قريش.
3 في الأصل "أن أمره مخالف للآمر من يأمر بحضرته".

(2/354)


خطاب الغائب، وهما سواء، كذلك أوامره.
ولأن ألفاظ الأوامر مثل قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، ونظائره، وألفاظ الوعد والوعيد، والمدح والذم، والثواب والعقاب، بلفظ المذكر وهي عامة؛ لعلمنا بمراد الله تعالى الفريقين، وليس لأحد أن يقول: عرفنا ذلك بدليل؛ لأنه لم يرد لفظ يختص بالنساء، ولو كان لظهر.
__________
1 "43" سورة البقرة.

(2/355)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 2. وأن ذلك مختص بالذكور دون الإناث.
والجواب: أن ذلك اختص الذكور بدلالة الإجماع، ولولا ذلك كان الخطاب للرجال والنساء جميعًا.
واحتج: بأن للذكور علامة يتميزون بها من الإناث، كما أن للمؤمنين علامة يتميزون بها من الكافرين؛ فلما كان المؤمن لا يدخل تحت اسم الكافر، ولا الكافر تحت اسم المؤمن؛ كذلك لا يجوز أن تتناول لفظة: "افعلوا" ، غير الذكور؛ لأن الواو في ذلك علامة للذكور، والنون في: "افعلن" ، علامة للإناث.
والجواب: أنا لا ننكر أن يكون لكل فريق علامة يميز بها حال الانفراد؛ وإنما الكلام في حال الاجتماع، هل يغلب خطابه بلفظ: "افعلوا"، فيكون خطابا للفريقين، كما يكون حال الاجتماع للمسلمين والكفار خطابا لهم جميعًا.
__________
1 "5" سورة التوبة.
2 "216" سورة البقرة.

(2/355)


واحتج بما روي عن أم سلمة؛ أنها قالت: "إن النساء قلن: يا رسول [الله] ما نرى الله يذكر إلا الرجال؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 1"، وهذا يدل على أن النساء لا يدخلن في جمع الذكور.
__________
1 "35" سورة الأحزاب.
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، كما في الفتح الرباني، وذلك في كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب، باب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ... الآية "18/238-239".
وأخرجه عنها النسائي كما حكى ذلك الشيخ البنا في كتابه الفتح الرباني "18/239"، وابن كثير في تفسيره "487/13"، والسيوطي في الدر المنثور "5/200"، ولم أجده في سننه في حاشيته على تفسير ابن جرير "7/487".
وأخرجه عنها ابن جرير الطبري كما نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "3/487"، وكما نقله السيوطي في الدر المنثور "5/200".
وأخرجه الحاكم في مستدركه "2/426"، وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، وقد وافقه الذهبي على ذلك.
وقد أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه عن قتادة، نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "3/487"، السيوطي في الدر "5/200".
وقد أخرجه عنها - كما عزاه السيوطي في الدر "5/200" - ابن المنذر وابن مردويه والطبراني، كما عزاه إلى الفريابي وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وغيرهم.
وأخرجه الترمذي عن أم عمارة رضي الله عنها في كتاب التفسير باب: ومن سورة الأحزاب "5/354". وقال: "حديث حسن غريب".
وقد أخرجه عنها - كما يقول السيوطي في الدر "5/200" - الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والطبراني وابن مردويه.
وذكره الواحدي في أسباب نزول القرآن ص"375" عن أسماء بنت عميس.. أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء لفي خيبة وخسار قال: "ومم ذلك؟" قالت: لأنهن لم يذكرن بالخير كما يذكر الرجال، فنزلت.

(2/356)


والجواب: أنهن إنما شكون أن الله تعالى لم يخصهن [43/ب] بالذكر الذي وضع لهن في الأصل، وأردن1 أن يكون لهن في الكتاب2 [أ]لا ترى أنهن كن يصلين ويزكين قبل ذلك بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3 فدل ذلك على ما ذكرنا.
فإن قيل: هذا لا يختص به النساء؛ فإن الرجال أيضًا ما أفردوا بلفظ يخصهم؛ فإن لفظ التذكير يدخل فيه التأنيث.
قيل: إلا أن علامة التذكير وهي: الواو والنون، قد وردت، وهي دالة على الرجال، ولم ترد علامة التأنيث وهي الألف والتاء4.
واحتج: بأن الآحاد من جميع الذكور لا يدخل فيه الإناث، نحو مؤمن وكافر، وقاتل، كذلك يجب أن لا يدخلن في جمعه؛ لأن الجمع إنما تناوله من يصح تناول آحاده له، ألا ترى أن المؤمن لما لم يصح دخوله في قولك: كافر؛ لم يصح دخوله في قوله: كوافر، وأنها5 لا تدخل في جمع المؤنث، مثل المسلمات والتائبات والصابرات والذاكرات؛ لأنه لا يدخلونه في المسلمة والتائبة والصابرة.
والجواب: أنا إن سلمنا هذا، فليس إذا لم يدخل في آحاد جميع الذكور ما يمنع من دخوله في الجمع، كما قلنا في آحاد الأيام والليالي،
__________
1 في الأصل: "وأفردن".
2 والمعنى: أن يكون لهن ذكر في كتاب الله تعالى، كما للرجال.
3 "43" سورة البقرة.
4 في الأصل: "الياء".
5 الضمير في "أنها" يعود إلى الآحاد من جميع الذكور.

(2/357)


لا يتبعه الآخر، وفي الجمع يتبع أحدهما الآخر، وكذلك من1 يعقل وما لا يعقل، آحاده لا ينتظم الآخر، وجمعه ينتظم؛ كذلك هذا.
وجواب آخر وهو: أن لفظ الجمع يحتمل المذكر والمؤنث في الخطاب، وإنما غلب المذكر؛ ولفظ الواحد لا يحتمل أن يجتمع فيه المذكر والمؤنث، فغلب فيه وضع اللفظة.
جواب آخر وهو: أنا لو حملنا الواحد على المذكر والمؤنث، لم يمتز المذكر والمؤنث، وليس كذلك إذا حمل لفظ الجمع عليهما؛ لأنه يحصل الامتياز بينهما في حال أخرى وهو لفظ الواحد.
__________
1 في الأصل: "ما".

(2/358)


مسألة دخول الكفار في الأمر المطلق
مدخل
...
مسألة [دخول الكفار في الأمر المطلق]: 1
الأمر المطلق يتناول الكافر كتناوله المسلم، نحو قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 2 و: {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 3 و: {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 4، ويكون مخاطبًا بالعبادات كالمسلمين في أصح الروايتين.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب في اليهودية والنصرانية تلاعن المسلم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 5، فهي من الأزواج،
__________
1 راجع هذه المسألة في: المسودة ص"46-47" ، وروضة الناظر ص"27-28"، وشرح الكوكب المنير ص"173".
2 "21" سورة البقرة.
3 "179" سورة البقرة.
4 "2" سورة الحشر.
5 "6" سورة النور.

(2/358)


وهي بمنزلة المسلمة المحصنة1.
وظاهر كلامه: أنه جعلها داخلة في عموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} .
وقد صرح بذلك في كتاب "طاعة الرسول"، فقال: قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} ؛ فالظاهر يقع على الأمة واليهودية والنصرانية وغير ذلك2.
وإلى هذا ذهب المتكلمون من الأشعرية والمعتزلة3.
وفيه [44/أ] رواية أخرى: "لا يتناولهم الأمر، ولا هم مخاطبون بالعبادات، وإنما هم مخاطبون بالإيمان والنواهي"4.
__________
1 هذه الرواية ذكرها ابن قدامة في كتابه المغني "8/5" ؛ حيث قال: "قال أحمد في رواية ابن منصور جميع الأزواج يلتعنون، الحر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، وكذلك العبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، وكذلك المسلم من اليهودية والنصرانية".
2 عدم اشتراط الحرية والإسلام في اللعان، هو المشهور من المذهب الحنبلي، وقد عقب ابن قدامة على الرواية التي لا تشترط ذلك بقوله في المغني "8/5": "وهذه الرواية هي المنصوصة عن أحمد في رواية الجماعة؛ وما يخالفها شاذ في النقل" .
3 راجع في هذا "المغني" لعبد الجبار قسم الشرعيات "17/116-117" .
4 وبناء على هذا، جاءت الرواية الثانية التي تشترط الحرية والإسلام في اللعان، وهو رأي الزهري والثوري والأوزاعي وحماد، كما نقل ذلك عنهم ابن قدامة في المغني "8/5" .
وهذه المسألة متفرعة عن مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو لا؟
وقد نقل ابن قدامة في المغني "1/352" عن الإمام أحمد روايتين، كما نقل مثل ذلك في كتابه الروضة "27-28". وهناك رواية ثالثة، لم يذكرها المؤلف، ولا ذكرها ابن قدامة، وإنما ذكرت في المسودة ص"46-47"، وهي: أنهم غير مخاطبين بشيء.

(2/359)


وقد قال أحمد رحمه الله في يهودي أسلم في نصف شهر رمضان: "يصوم ما بقي، ولا يقضي ما مضى؛ لأنه لم يجب عليه شيء من ذلك؛ وإنما وجب عليه الأحكام من الطهر والصلاة بعد ما أسلم" ؛ فقد صرح رحمه الله: أنه لم يكن واجبًا عليه في حال كفره.
واختلف أصحاب أبي حنيفة:
فذهب الكرخي والرازي وجماعة من أصحابه إلى أنهم مخاطبون بالعبادات.
وذهب الجرجاني: إلى أنهم غير مخاطبين بها؛ وإنما خوطبوا بالنواهي والإيمان1.
واختلف أصحاب الشافعي أيضًا:
فمنهم من قال: هم مخاطبون، وهو الأشبه عندهم2.
ومنهم من منع.
فالدلالة على أنهم مخاطبون:
قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ 3 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 4، فتوعد المشركين على شركهم،
__________
1 راجع في هذا تيسير التحرير "2/148-150" ، وشرح التلويح "1/213-215" .
2 قال الإسنوي: وهو أصحها، ونقل عن صاحب البرهان قوله: إنه ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله. انظر نهاية السول "1/370".
3 كلمة "للمشركين" ساقطة من الأصل، وقد أثبتها الناسخ في الهامش.
4 "6، 7" سورة فصلت.

(2/360)


وعلى ترك إيتاء الزكاة؛ فدل [على] أنهم مخاطبون بالإيمان وإيتاء الزكاة؛ لأنه لا يتواعد على ترك ما لا يجب على الإنسان، ولا يخاطب به.
فإن قيل: ليس المراد بالآية أننا لم نؤد الزكاة؛ لأنها ما كان1 يتأتى منهم فعلها؛ وإنما المراد أننا لم نكن معترفين بالزكاة ولا مقرين، وقد يعبر بالفعل عن الإقرار بالشيء وإلزام حكمه، كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2، يعني: حتى يضمنوا.
قيل: حقيقة الكلام تقتضي أن الوعيد على ترك إيتاء الزكاة؛ فوجب حمله على الحقيقة.
فإن قيل: ظاهر الكلام يقتضي أنه جعله صفة للمشركين؛ فكأنه قال: فويل للمشركين الذين هم على صفة لا يؤتون الزكاة.
قيل: هما صفتان، وتقديره: فويل للقوم المشركين، وقوله: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} صفة ثانية لهم، ويكون ذلك مثل قوله: فويل للسارقين الذين لا يؤدون المسروق؛ فيكون الوعيد على الصفتين جميعًا.
فإن قيل: لو كان كذلك؛ لوجب أن يكون الوعيد على اجتماع الصفتين، وقد أجمعنا على أن المشرك الذي لم يكن له مال متواعد على شركه.
قيل: الوعيد على كل واحد من الصفة بانفرادها دون اجتماعها، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وهذا توعد على كل
__________
1 في الأصل: "كانت" .
2 "29" سورة التوبة.
3 "115" سورة النساء.

(2/361)


واحد من المشاقة، واتباع غير سبيل المؤمنين.
ويدل عليه أيضًا: قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ 1 مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} 2، وهذا يدل على [44/ب] أنهم دخلوا النار لتركهم إطعام المسكين وتركهم الصلاة.
فإن قيل: المراد به أنا لم نكن من المعتقدين بالصلاة ولا مقرين بها.
قيل: قد أجبنا عن هذا، وقلنا: حقيقة التوعد على ترك الفعل للصلاة والإطعام.
فإن قيل: هذا حكاية عن قول أهل النار؛ فلا حجة فيه.
قيل: إنما حكى ذلك عنهم ردعًا وزجرًا لغيرهم، ولو لم يكن فيه حجة؛ لم يصح الردع والزجر؛ ولأنه لو يكن صحيحًا؛ لوجب أن يعقبه بذم ونكير، كما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} 3.
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} 4، وهذا يدل على أن الكفار مأمورون بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وسائر العبادات.
__________
1 في الأصل: "نكن" بإثبات النون فيهما، وهو خطأ؛ فلم أجد أحدًا من القراء، قرأ بإثبات النون. فلعل ذلك من صنع الناسخ.
2 "42-46" سورة المدثر.
3 "120" سورة النساء.
4 "1-5" سورة البينة.

(2/362)


وأيضًا: فإن الخطاب متناول لهم بإطلاقه؛ فوجب أن يكونوا داخلين، فيه كالمسلمين، ونريد بالخطاب المطلق نحو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 2، ولسنا نريد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} 3 و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} 4؛ لأن ذلك خاص في المؤمنين.
وأيضًا5 فإن الكفار يدخلون في النواهي؛ لأن الذمي يحد بالزنى والسرقة؛ فوجب أن يدخلوا في الأوامر؛ لأن من دخل في أحد الخطابين؛ دخل في الآخر.
فإن قيل: فلم لا يحد بشرب الخمر كما يحد المسلمون؟
قيل: لأنه قد أعطي الأمان على أن يقر على شربه، كما أعطي الأمان على أن يقر على اعتقاده الكفر. ثم لا يدل هذا على أنه غير مأمور بالإيمان ومنهي عن الكفر، كذلك لا يدل ترك إقامة حد الشرب على أنه غير منهي عنه.
فإن قيل: إنما كلف النواهي؛ لأنه يصح منهم أن يمتنعوا عن فعل النواهي؛ فلذلك صح أن يخاطبوا بها، ولما لم يصح منهم فعل الأوامر؛ لم يصح أن يخاطبوا بها.
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 "97" سورة آل عمران.
3 "6" سورة المائدة.
4 "77" سورة الحج.
5 في الأصل: "فإن قيل: إن الكفار..." وهو خطأ لأمرين:
الأول: أن الكلام يؤيد ما ذهب إليه المصنف من أن الكفار داخلون في الأمر المطلق، فكيف يعترض على نفسه بما يؤيد قوله.
الثاني: أنه لو كان الكلام مساقًا على سبيل الاعتراض لأجاب عنه.

(2/363)


قيل: الترك يحصل منهم ولا يكون طاعة، ويحصل الفعل كذلك، فلا فرق بينهما.
وأيضًا: لما كان مخاطبًا بشرط هذه العبادات، وهو الإيمان وجب أن يكون مخاطبًا بالمشروط، كما أن من خوطب بالطهارة كان مخاطبًا بالصلاة.
فإن قيل: إنما خوطب بالإيمان؛ لأنه يتأتى منه، ولم يخاطب بالعبادات، لأنها [لا] تتأتى منه.
قيل: هذا لا يمنع التكليف، كالمحدث هو مخاطب بالعبادة في حال حدثه وإن لم تصح1 منه.
__________
1 في الأصل: "يصح".

(2/364)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما بعث معاذًا1 إلى اليمن قال له: "ادعهم [45/أ] إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن أجابوك فأعلمهم: أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" 2؛ فلو كان الخطاب يتوجه عليهم بهذا الإيمان لأمره أن يدعوهم إليه.
__________
1 هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها، كان واليًا للنبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، وولاه عمر الشام بعد موت أبي عبيدة، مات بناحية الأردن في طاعون عمواس سنة "18هـ"، وقيل سنة "19هـ" وله من العمر "38"، وقيل "28" سنة. له ترجمة في الاستيعاب "3/1402".
2 حديث معاذ هذا رواه ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة "2/124".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام "1/150".

(2/364)


والجواب: أنه لم يأمره بأن يدعوهم إلى ذلك؛ لأنه لا يصح منهم فعله في حال كفرهم؛ فبدأ بما يصح فعله، وهو الإيمان.
واحتج: بأنه كتب إلى كسرى وقيصر1، ودعاهما إلى التوحيد،
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب "الزكاة" باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة "3/12" ، وفي كتاب "البر والصلاة" باب ما جاء في دعوة المظلوم "4/368" .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/366" .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/568" .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة "5/3" .
وأخرجه عنه الدارمي في الكتاب المذكور باب فضل الزكاة "1/318" .
وأخرجه عنه الإمام أحمد كما في الفتح الرباني في كتاب الزكاة، باب افتراض الزكاة والحث عليها والتشديد في منعها "8/188-190" .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي كما في "بدائع المنن" في كتاب الزكاة باب ما ورد في فضلها ووجوبها وقتل مانعها "1/123" .
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "2/327" .
ويلاحظ: أن جميع من أخرج الحديث ممن سبق ذكرهم، لم يذكروا قوله: "فإن أجابوك، فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم" ، وإنما رأيت أبا داود ذكر ذلك في آخر حديث أنس رضي الله عنه الذي أخرجه في كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون "2/41-42" ، ولفظه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين" .
1 كتابة النبي صلى الله عليه وسلم لكسرى رواها ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في كتاب العلم باب ما يذكر في المناولة بلفظ: "أن رسول صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلًا، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه..." . "1/26" ، كما أخرجه عنه في =

(2/365)


ولم يذكر في كتابه إليهما شيئًا من الشرائع؛ فلو كانا1 متعبدين بها لذكرها.
والجواب عنه: ما تقدم.
واحتج بأن الكافر لا يصح منه فعل الصلاة والصيام في حال كفره؛ فإذا أسلم سقطت عنه؛ فلا يتأتى منه الفعل في الحال، ولا في المآل؛ فلو قلنا: إنه مخاطب بها؛ لكان تكليف الزمن فعل الصلاة قائمًا، والحائض فعل الصلاة في حال حيضها.
والجواب: أنه وإن كان لا يتمكن من فعلها مع الكفر؛ فقد جعل له
__________
= كتاب الجهاد باب دعوة اليهودي والنصراني "4/54" ، وأخرجه أيضًا في كتاب المغازي باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، وفيه سمي الرجل الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه: عبد الله بن حذافة السهمي "6/10" ، وأخرجه رابعة في كتاب أخبار الآحاد باب ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل واحدًا بعد واحد "9/111" .
وأخرجه القاضي عياض في كتابه الإلماع ص"81" .
وأما كتابة النبي عليه الصلاة والسلام لقيصر فقد أخرجها البخاري عن ابن عباس في كتاب العلم باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام "4/54-57" ، وفيه قصة سفيان بن أبي سفيان مع هرقل عظيم الروم، وفيه: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .
1 في الأصل: "كانوا".

(2/366)


السبيل إلى التوصل إليها؛ بأن يقدم الإيمان ثم يفعل العبادات، كالمحدث الذي لا طريق له إلى فعل الصلاة؛ إلا بأن يقدم الوضوء أو الغسل؛ وإنما الذي يمنع وجوب العبادة أن لا يتمكن من فعلها، ولا يكون له طريق إلى التوصل.
فإن قيل: إنما كان المحدث مخاطبًا بفعل الصلاة، والحائض بفعل الصيام، وإن لم يصح الفعل منهما؛ لأن الحدث لا ينفي فعل الصلاة؛ فإنه إذا تطهر لم تسقط عنه الصلاة التي لزمته في حال الحدث، بل يفعلها بعد طهر، وكذلك الحائض.
فأما الكافر فإنه لا يتأتى منه في حال كفره، وفي حال إسلامه يسقط عنه القضاء؛ فلا يتأتى منه الفعل بحال.
قيل: إنما لم يجب القضاء؛ لأن الإسلام جعل مسقطًا لما سلف؛ لئلا يكون وجوب القضاء تنفيرًا عن الإسلام؛ لأن الكافر ربما أراد الإسلام وهو شيخ؛ فإذا علم أنه يلزمه قضاء ما ترك في عمره من صلاة أو صيام أو زكاة؛ نفره ذلك عن اختيار الإسلام واعتقاده.
ويدل على أنه بهذا المعنى قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" 2، وهذا يدل على أن الإسلام هو المسقط ما سبقه من الواجب.
__________
1 "38" سورة الأنفال.
2 هذا الحديث رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه أخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج "112/1" بلفظ طويل وفيه: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله...؟"
وأخرجه عنه الإمام أحمد كما في الفتح الرباني في كتاب الإيمان باب في كون الإسلام يجب ما قبله من الذنوب "1/93-94" بلفظ: "الإسلام يجب ما قبله من الذنوب" .
وقد نسبه الشيخ البنا إلى سعيد بن منصور كما في الفتح الرباني "1/94".
وأخرجه الطبراني عنه كما أشار إلى ذلك العجلوني في كشف الخفاء "1/140".
وأخرجه ابن سعد في طبقاته عن الزبير بن العوام وجبير بن مطعم؛ حكى ذلك العجلوني في كشف الخفاء "140/1"، والسيوطي في جامعه الصغير "3/179-180" مطبوع مع شرحه فيض القدير.

(2/367)


واحتج: بأن الكفر يمنع صحة العبادة، ويمنع قضاءها في الثاني؛ فصار كالجنون.
والجواب: أن الجنون يمنع الخطاب بالنواهي وبالإيمان، والكفر لا يمنع ذلك.

(2/368)


مسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده
مدخل
...
مسألة 1 [الأمر بالشيء نهي عن ضده]:
الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى، سواء كان له ضد واحد، أو أضداد كثيرة، وسواء كان مطلقًا أو معلقًا بوقت مضيق؛ لأن من أصلنا: أن إطلاق الأمر يقتضي الفور2.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب: لا يتنحنح في صلاته فيما نابه3؛ فإن النبي [45/ب] صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نابكم في صلاتكم
__________
1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"49-50"، وشرح الكوكب المنير ص"330-331" من الملحق، وروضة الناظر ص"25-26".
2 قد مضى في مسألة: الأمر الملطق هل يقتضي الفور؟ أن للإمام أحمد روايتين في هذه المسألة.
3 هذه الرواية ذكرها الموفق ابن قدامة في كتابه المغني "2/46" في كتاب الصلاة فصل: وأما النحنحة.. كما أنه ذكر رواية أخرى نقلها المروزي عن الإمام أحمد أنه كان يتنحنح في صلاته، ليعلمه أنه يصلي.

(2/368)


شيء، فليسبح الرجال، ولتصفق النساء" 1، فجعل أمره بالتسبيح نهيًا عن ضده الذي هو التصفيق.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في أبواب العمل في الصلاة، باب التصفيق للنساء "2/76".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة باب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في الصلاة "1/318-319".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء أن التسبيح للرجال والتصفيق للنساء "2/205-206" ، وقال فيه: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب التصفيق في الصلاة، كما أخرجه عنه سهل بن سعد الساعدي "1/215-216".
وأخرجه عن أبي هريرة ابن ماجه في كتاب الصلاة باب التسبيح للرجال في الصلاة والتصفيق للنساء، كما أخرجه عن سهل بن سعد الساعدي وعن ابن عمر رضي الله عنهما "1/ 329-330".
وأخرجه عن أبي هريرة النسائي في كتاب السهو باب التصفيق في الصلاة، وباب التسبيح في الصلاة "3/11".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة باب التسبيح للرجال والتصفيق للنساء "1/257".
وأخرجه عند الدارقطني في كتاب الصلاة باب الإشارة في الصلاة "2/83".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة باب ما يجوز فعله في الصلاة "1/109".
وأخرجه الإمام الشافعي عنه في كتاب الصلاة باب ما يبطل الصلاة وما يكره وما يباح فيها "1/98-99". كما أخرجه عن سهل بن سعد الساعدي.

(2/369)


وهو قول أصحاب أبي حنيفة1 وأصحاب الشافعي2.
وقال الأشعرية3: هو نهي عن ضده من طريق اللفظ، وهذا بنوه على أصلهم: أن4 الأمر لا صيغة له.
وقالت المعتزلة: الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده؛ لا من جهة اللفظ ولا من طريق المعنى، وبنوا هذا على أصل: أن5 النهي لا يكون نهيًا لصيغته، حتى تنضم إليه قرينة، وهي6: إرادة الناهي، وذلك غير معلوم عندهم.
ويفيد الخلاف: توجه المأثم عليه بفعل صلاة بمجرد الأمر.
__________
1 راجع في هذا: مسلم الثبوت مع شرحه "فواتح الرحموت" مسألة: وجوب الشيء يتضمن حرمة ضده "1/97" ، وتيسير التحرير مسألة: الأمر يقتضي كراهة الضد "1/373" .
2 الحقيقة: أن أصحاب الشافعي لم يتفقوا على هذا الرأي؛ بل هناك لهم قولان آخران هما:
الأول: أن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده.
الثاني: أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، لا عينه ولا يتضمنه.
راجع في هذا: الإحكام للآمدي "2/159" ، وجمع الجوامع وشرحه مع حاشية البناني "1/385-388" .
3 نقل ابن السبكي في جمع الجوامع "1/385-386" عن الشيخ أبي الحسن الأشعري قوله: "إن الأمر النفسي بشيء معين نهى عن ضده الوجودي" .
4 في الأصل "وأن" بإثبات الواو، والصواب: حذفها، وقد حذفها ابن تيمية الجد - "المسودة" ص"49" - عند نقله كلام القاضي في هذه المسألة.
5 في الأصل "وأن" بإثبات الواو، والصواب: حذفها، والكلام فيه كسابقه.
6 في الأصل: "وهو".

(2/370)


دليلنا:
أن الأمر عندنا يقتضي الوجوب والفور، وقد دللنا على صحة ذلك.

(2/370)


وإذا كان كذلك؛ وجب أن يكون تركه محرمًا، وتركه: فعل ضده؛ فوجب أن يكون فعل ضده منهيًا عنه، فكان الأمر باللفظ متضمنًا لتحريم فعل ضده.
فإن قيل: يجوز أن يكون تاركًا لفعل من غير أن يكون فاعلًا لضده؛ لأن السكون معنى يبقى، فلا يكون فاعلًا له في حال بقائه.
قيل: السكون لا يبقى، وكل تارك للفعل؛ فإنما هو تارك بفعل ضده، فالتارك للحركة فاعل للسكون، والتارك للسكون فاعل للحركة.
ولأن قولهم: أمر بالقيام، ولا يمكنه فعله إلا بترك القعود، فثبت أنه ممنوع من القعود.
ولأن من أذن لغيره في دخول الدار، ثم قال له: اخرج، تضمن هذا القول منعه من المقام فيها، واللفظ إنما هو أمر بالخروج، وقد عقل منه المنع من المقام الذي هو ضده.
ولأن السيد إذا قال لعبده: قم، فقعد؛ صلح أن يعاقبه على القعود، فلولا أن أمره تضمن رد ذلك لما صلح توبيخه.
ولأن الأمر بالشيء لو لم يكن نهيًا عن ضده لصلح أن يبيح له ضده مع الأمر به، وفي اتفاق الجميع على امتناع ذلك دليل على ما قلناه.
ولأن الأمر بالشيء لو لم يكن نهيًا عن ضده؛ لما كان الكافر منهيًا عن الكفر، وحيث كان مأمورًا بالإيمان، وفي اتفاق الجميع على أن كون الكافر منهيًا عن الكفر لكونه مأمورًا بالإيمان؛ دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.

(2/371)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن لفظ النهي قوله: "لا تفعل"، ولفظ الأمر قوله: "افعل"، فلا يجوز أن يجعل الأمر نهيًا.

(2/371)


والجواب: أنه نهى عن ضده من طريق المعنى دون اللفظ؛ فلا يلزمنا ذلك. وعلى أن اللفظ قد يدل على الشيء، وإن لم يكن عبارة عنه، مثل قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1، أن هذه الصيغة لا يعبر بها عن الضرب والقتل، وإن كانت دالة2 على نفيهما.
واحتج: بأن النوافل مأمور بها، وضدها وهو الترك غير منهي [46/أ] عنه.
والجواب أنا لا نسلم هذا؛ بل نقول: ضدها منهي عنه، لا يستحب تركه؛ فيكون الأمر الذي هو ندبه يتضمن النهي، وكل أمر يتضمن النهي على حسب الأمر، إن كان الأمر إيجابًا؛ كان النهي محرمًا، وإذا كان الأمر استحبابًا؛ كان النهي تنزيهًا، فسقط ما قاله.
واحتج بأن النهي عن الشيء ليس بأمره بضده3، كذلك الأمر بالشيء؛ ليس بنهي عن ضده.
والجواب: أن هذا على وجهين: إن كان له ضد واحد؛ كان النهي عنه أمر بضده، كالكفر منهي عنه ويتضمن الأمر بضده من جهة المعنى، وهو الإيمان، وكذلك النهي عن الحركة يتضمن الأمر بضدها، وهو السكون. وإن كانت له أضداد كثيرة؛ فهو مأمور بضد من أضداده، يترك به النهي عنه، ويكون مخيرًا فيها، مثل النهي عن القيام، له أضداد من النوم والقعود والمشي؛ فهو مأمور بواحد منها4؛ لأنه لا يكون ممتنعًا عن المنهي عنه بفعل ضد واحد من أضداده، ولا يكون ممتثلًا للمأمور به إلا بترك جميع أضداده، فلا فرق بينهما.
__________
1 "23" سورة الإسراء.
2 في الأصل: "دلالة".
3 في الأصل: "عن ضده".
4 في الأصل: "منهما".

(2/372)


واحتج بأنه إذا لم يكن العلم بالشيء جهلًا بضده، والقدرة على الشيء عجزًا عن ضده، وإرادة الشيء1 كراهة لضده، كذلك الأمر بالشيء؛ وجب أن لا يكون نهيًا عن ضده.
والجواب: عن العلم: فهو أنه لا يمتنع أن يكون عالمًا بالشيء وبضده، ويمتنع أن يكون الشيء واجبًا، ولا يكون ضده محرمًا، أو يكون مستحبًا، ولا يكون ترك ضده مستحبًا؛ فإذا كان كذلك؛ فبان الفرق2.
وأما القدرة على الشيء؛ فإنها ليست بعجز عن ضده؛ لأن الاستطاعة عندنا مع الفعل، فيكون القادر على الشيء هو الفعل التارك لضده، والتارك للشيء لا يكون عاجزًا عنه، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإنه لا يجوز أن يكون مأمورًا بالفعل؛ إلا وهي منهي عن فعل ضده.
وأما إرادة الشيء؛ فهي كراهية لضده عندنا.
فإن قيل: أليس لو قال لزوجته: أنت طالق إن أمرتك بأمر فخالفتيني، ثم قال: لا تكلمي أباك؛ فكلمته؛ لم يحنث؛ لأنه إنما نهاها ولم يأمرها، فدل على أن الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده.
قيل: الأيمان محمولة على العرف، والعرف في الأمر: صيغة الأمر وهو قوله: افعلي، فلهذا لم تحمل يمينه على صيغة النهي؛ لأنه ليس صيغة النهي صيغة الأمر، ولهذا قلنا: الأمر بالشيء؛ نهي عن ضده من طريق الحكم لا من طريق اللفظ.
فأما من قال: الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق اللفظ فغير
__________
1 في الأصل "الشرك"، والصواب: "الشيء" كما أثبتناه؛ لأن المؤلف قد أتى بالصواب في معرض الرد على هذا الدليل.
2 كلمة: "فبان" مكررة في الأصل، والفاء في هذه الكلمة قلقة لا وجه لها، فالأولى حذفها.

(2/373)


صحيح؛ لأن العرب فرقت بين لفظ الأمر والنهي؛ فجعلت لفظ الأمر موضوعًا للإيقاع والحث على الفعل، ولفظ النهي لنفي الفعل؛ فلم يجز أن يجعل أحدهما الآخر، كما لا يجوز ذلك في الخبر والاستخبار.
فإن قيل: ليس يمنع [46/ب] هذا، ألا ترى أن القائل إذا قال: ائت الشمس من المغرب، عقل منه: أنها تغرب من المشرق.
قيل: إنما عقل هذا من معنى اللفظ، لا من موضوعه وصيغته، ونحن لا نمنع هذا في الأمر؛ وإنما نمنع أن يعقل النهي من نفس اللفظ.

(2/374)


مسألة المندوب مأمور به حقيقة
مدخل
...
مسألة 1 [المندوب مأمور به حقيقة]:
إذا صرف الأمر عن الوجوب؛ جاز أن يحتج به على الندب والجواز، ويكون حقيقة فيه، ولا يكون مجازًا، وهذا بناء على أصلنا: أن2 المندوب مأمور به حقيقة.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحتج به، ويكون مجازًا3.
واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من قال مثل قولهم4.
__________
1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"16"، وشرح الكوكب المنير ص"126"، والتمهيد الورقة "24-26".
2 في الأصل: "وأن"، والواو هنا زائدة، والصواب حذفها.
3 راجع في هذا: تيسير التحرير "1/347"، وفواتح الرحموت "1/377".
4 راجع في هذا: المستصفى "1/75"، والإحكام للآمدي "1/112".

(2/374)


دليلنا:
أن حقيقة الواجب: ما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه، وحقيقة

(2/374)


الندب: ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه؛ فإذا حمل الأمر على الندب؛ فقد حمل على شيء فيه بعض أحكام الواجب، وليس فيه البعض الآخر؛ فكأنه أخرج منه بعض مقتضاه، وحمل على بعض، فكان ذلك حقيقة لا مجازًا، كما قلنا في لفظ العموم: "يقتضي استغراق الجنس"؛ فإذا خص، أخرج منه بعض المراد، وبقي البعض، فيكون ذلك حقيقة لا مجازًا، وكذلك ههنا.
ولا يشبه هذا الاسم "الأسد" إذا استعمل في الرجل الشديد، واسم "الحمار" إذا استعمل في الرجل البليد، حيث كان مجازًا فيهما؛ لأنه يستعمل في شيء، لا يتضمنه ما هو موضوع له بحال؛ فكان اللفظ منقولًا عما وضع له إلى غيره؛ فلذلك كان مجازًا، وفي هذا الموضع استعمل في بعض مقتضاه، ولم يعدل عن جميعه، فكان ذلك حقيقة لا مجازًا، ولأنه لو قال: له علي عشرة إلا واحدًا؛ كان ذلك حقيقة في التسعة، كما لو لم يستثن منه، كذلك ههنا.

(2/375)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن اللفظ موضوع لإفادة الوجوب دون الجواز، وإنما الجواز تابع للوجوب، وأنه لا يجوز أن يكون واجبًا، ولا يجوز فعله؛ فإذا سقط الوجوب؛ وجب أن يسقط الجواز؛ لأنه تابع له.
والجواب: أنا لا نسلم أن الجواز للوجوب، بدليل أنه قد ينفرد الجواز عن الوجوب، فيكون الشيء جائزًا، ولا يكون واجبًا؛ فلو كان تابعًا له لم ينفرد عنه، فهو بمثابة العموم إذا خص بعضه1، كان الباقي حقيقة؛ لأن الباقي ينفرد عن الخصوص، كذلك ههنا.
واحتج: بأن الشيء الواحد لا يكون له حقيقتان.
والجواب: أنه يبطل بالمستثنى منه؛ فإن الاسم حقيقة فيه.
__________
1 في الأصل: "بعض".

(2/375)


مسألة في الفرق بين الفرض والواجب
مدخل
...
مسألة [في الفرق بين الفرض والواجب]: 1
فالفرض: ما ثبت وجوبه بطريق مقطوع به، مثل نص القرآن [47/أ] المتواتر، وإجماع الأمة2.
والواجب: ما ثبت من طريق غير مقطوع به، كأخبار الآحاد والقياس، وما كان مختلفًا في وجوبه كوجوب المضمضة والاستنشاق وغسل اليدين عند القيام من نوم الليل، والتسبيح في الركوع والسجود وغير ذلك3.
هذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله، ذكره في مواضع:
فقال في رواية أبي داود4 وابن إبراهيم: "المضمضة والاستنشاق
__________
1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"50-51"، وروضة الناظر ص"16"، وشرح الكوكب المنير ص"110".
2 هذه إحدى روايات ثلاث نقلت عن الإمام أحمد في تعريف الفرض، على القول بالفرق بينه وبين الواجب.
والرواية الثانية هي: أن الفرض، ما لا يسقط في عمد ولا سهو.
والرواية الثالثة هي: أن الفرق: ما ثبت بالقرآن.
انظر: المسودة ص"50".
3 وممن قال بهذا الرأي من الحنابلة أبو إسحاق بن شاقلا والحلواني، وعزاه ابن عقيل إلى الأصحاب.
انظر: شرح الكوكب المنير ص"110".
4 هو: سليمان بن الأشعث بن إسحاق، أبو داود السجستاني، إمام في الحديث، صاحب السنن، من أصحاب الإمام أحمد، وممن رووا عنه كثيرًا من الحديث والفقه، له كتاب مسائل الإمام أحمد. ولد سنة 202هـ ومات بالبصرة سنة 275هـ.
له ترجمة في: البداية والنهاية "11/54"، وتذكرة الحفاظ "2/591"، وتاريخ بغداد "9/55"، وتهذيب التهذيب "4/169"، وطبقات الحنابلة "1/159"، وطبقات المفسرين للداوودي "201/1"، ووفيات الأعيان "1/214".

(2/376)


لا تسمى فرضًا؛ ولا يسمى فرضًا إلا ما كان في كتاب الله تعالى1". فقد نفى اسم الفرض عن المضمضة والاستنشاق مع كونهما واجبين عنده.
وقال أيضًا رحمه الله في رواية المروزي وقد سأله عن صدقة الفطر: أفرض هي؟ فقال: ما أجترئ أن أقول: إنها فرض.
وكذلك نقل الميموني عنه وقد سأله هل يقول: بر الوالدين فرض؟ فقال: لا، ولكن أقول: واجب، ما لم يكن معصية.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة2.
__________
1 نص الرواية كما في مسائل الإمام أحمد من رواية أبي داود ص7 هو: "حدثنا أحمد بن حنبل، وسئل عمن نسي المضمضة والاستنشاق حتى صلى؟ قال: يمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة، قلت: لا يعيد الوضوء؟ قال: لا، ليس هذا من فرض الوضوء".
ولكن المحقق ذكر في هامش الكتاب المذكور نص الرواية من نسخة المكتبة الظاهرية وهو: "سمعت أحمد سئل عن المضمضة والاستنشاق فريضة؟ قال: لا أقول فريضة إلا ما في الكتاب".
2 راجع في هذا: أصول السرخسي "1/110-113"، وتيسير التحرير "2/135"، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت "1/58".

(2/377)


ونقل عبد الله وأبو الحارث عن أحمد رحمه الله: كل ما في الصلاة فرض1.
فظاهر هذا أن التسبيح في الركوع والسجود والتشهد الأول والتكبير غير تكبيرة الإحرام وقول سمع الله لمن حمده؛ يسمى فرضًا مع كونه مختلفًا في وجوبه؛ فعلى هذا لا فرق بين الواجب والفرض والحتم واللازم والمكتوبة، وحد الجميع واحد، وهو قول أصحاب الشافعي.
ونقلت من خط أبي إسحاق2 في تعاليقه: قال أبو عبد الله: لا أقول فرضًا؛ إلا في كتاب الله. معنى قوله: إن الذي قاله الرسول سنة، بدلالة قوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء" 3، وقوله: "إنما أنسى لأسن" 4
__________
1 هذه الروايات الأربع التي استدل بها المؤلف موجودة بنصها في المسودة ص"50-51".
2 يعني: ابن شاقلا.
3 هذا الحديث صحيح رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع "5/44".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة "2/506".
وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين "1/15".
وأخرجه عنه الدارمي في المقدمة، باب اتباع السنة "1/43-44".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "4/126".
4 هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ، في كتاب الصلاة، باب العمل في السهو "1/205"، مطبوع مع شرح الزرقاني، حيث قالك "بلغني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأنسى، أو أنسى لأسن" .
"لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه، وهو أحد هذه الأحاديث الأربعة التي في الموطأ، لا توجد وقد نقل الزرقاني في شرحه للموطأ "1/205" عن ابن عبد البر قوله في الحديث: "لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه، وهو أحد هذه الأحاديث الأربعة التي في الموطأ، لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول".
كما نقل الزرقاني أيضًا عن بعض العلماء: القول بجواز الاحتجاج به؛ لأن البلاغ من أقسام الضعيف، وبخاصة رواية الإمام مالك، الذي يقول فيه سفيان: إذا قال مالك: بلغني، فهو إسناد صحيح.

(2/378)


قال: وقول أبي عبد الله، كما ما في الصلاة فرض؛ أراد بذلك: ما أخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
والوجه للفرق بينهما1: أنا نجد كل مميز يسبق عقله إلى أن صلاة الظهر آكد من صلاة المنذورة، وإن كانتا واجبتين، وكذلك الإيمان بالله تعالى آكد وأبلغ من صدقة خمسة دراهم من مائتي درهم. وكذلك الزكاة آكد من النذر في الصدقة.
فهذه أمور يجدها كل عاقل في نفسه، فوجب أن يفرق ما هو آكد باسم يفارق ما هو دونه، فيجعل اسم الفرض: عبارة عما كان في أعلى المنازل في الوجوب، والوجوب عما كان دونه، وإن كان اسمًا عامًا في نفسه.
ولأن أهل اللغة فرقوا بين الفرض والوجوب، فقالوا: إن الوجوب مأخوذ في الأصل من السقوط، يقال: وجب الحائط، يعني: سقط.
والفرض عبارة عن التأثير، ومنه فرضة القوس لموضع الحز، أو عين القدر من قولهم: "فرض القاضي النفقة"، بمعنى قدرها.
__________
1 المؤلف هنا اختار القول بالتفريق بين الفرض والواجب، وانتصر له، مع أنه نقل عنه في المسودة ص"50" قوله في مقدمة المجرد: "الفرض والواجب سواء، لا يختلفان في الحكم ولا في المعني".
ونقل أبو البقاء الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير ص"110" القولين عن المؤلف.

(2/379)


والتأثير آكد من السقوط؛ لأن الشيء قد يسقط ولا يؤثر، وكذلك ذكر التقدير في الشيء يدل على الحصر والتعيين1 [47/ب] فيصير كالنذر المضموم إلى الإيجاب. والوجوب لا يفيد هذا المعنى؛ فبان أن الفرض في اللغة آكد من معنى الواجب.
وقد بينا أن الوجوب تتفاوت منازله، فوجب أن يخص اسم الفرض الذي وضع للمبالغة في التأثير: عبارة [عما] كان في أعلى المنازل، وما دونه خص باسم الواجب، فيصير الوجوب الذي هو سقوط التكليف على المأمور به في نفس المكلف؛ لما تضمن من الدعاء إلى إيقاعه والمبادرة إلى فعله، ما لا يؤثر فيه الواجب الذي فرض.
ولأن العبارة2 مختلفة في عادة أهل الشرع أيضًا، ألا ترى أنهم يقولون: الواجب في الحكم كذا، ولا يقولون: فرض في الحكم، ويقال في حقوق الآدميين مثل الديون والشفعة: واجبات، ولا يقال: إنها فروض، ويقال: واجب عليك أن تفعل كذا، ولا يقولون: فرض عليك، ويقال: أوجبت على نفسي، ولا يقال: فرضت، ولا يقال في العادة لمن تلزم طاعته: فرضت عليك كذا، فبان أن معنى اللفظين مختلف في اللغة والشريعة.
__________
1 في الأصل: "والتغيير".
2 في الأصل: "العبادة".

(2/380)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 1 وأراد به أوجب الحج. وقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
__________
1 "197" سورة البقرة.

(2/380)


فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} 1.
ومعناه: أوجبتم لهن فريضة.
والجواب: أن الحج ثبت وجوبه من طريق مقطوع به؛ فلهذا أطلق عليه اسم الفرض. وقوله: {فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} معناه: قدرتم.
واحتج: بأن الفرض؛ إنما سمي فرضًا؛ لما فيه من معنى الوجوب دون ما ذكرتموه من ثبوته من طريق يوجب العلم؛ لأن النوافل ثابتة من هذا الطريق، ولا يسمى فرضًا.
والجواب: أنه إنما يسمى فرضًا لما فيه من معنى الوجوب من طريق مقطوع به؛ فأما النوافل فإن كان طريقها مقطوعًا به، فليس فيها معنى الوجوب؛ فقد وجد أحد الشرطين [وفقد الآخر].
واحتج: بأن تخصيص الواجب بما ثبت من طريق؛ لا يوجب العلم، وتخصيص الفرض بما ثبت من طريق؛ يوجب العلم دعوى مجردة، لا دليل عليها من لغة ولا شرع، ولا طريق مستنبط منهما2؛ فلم يصح.
والجواب: أنا قد دللنا عليه من جهة الاستنباط، وهو أن أهل اللغة والشرع فرقوا بينهما في العبارة، وقالوا: الفرض عبارة عن التأثير، والوجوب عبارة عن السقوط، و[لما] وجدنا التأثير أبلغ من السقوط؛ جعلنا الفرض عبارة عما ثبت من طريق مقطوع علمه؛ ليكون له مزية.
واحتج: بأن لفظ الوجوب آكد من لفظ الفرض؛ لأنه أقل احتمالًا من لفظ الفرض، فكان لفظ الوجوب؛ أحق بما [48/أ] ثبت من طريق
__________
1 "237" سورة البقرة.
2 في الأصل: "منها".

(2/381)


القطع، يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1، وأراد: ينزل عليك القرآن.
وقال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} 2 وأراد به: أحل الله له.
وقال: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} 3، وأراد: بيناها.
ويقال: فرض الحاكم على فلان لزوجته كذا وكذا من النفقة، وأراد به: قدر، ويقال: فرض القوس إذا حز طرفيه.
وأما الوجوب؛ فإنه عبارة عن السقوط، من قوله: وجبت الشمس ووجب القمر، ووجب الحائط، إذا سقط. وقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 4 أي: سقطت، فسمى ما لا بد من فعله واجبًا؛ لأن تكليفه سقط عليه سقوطًا لا ينفك منه؛ إلا بفعله، فكان احتمال لفظ الفرض أكثر من احتمال لفظ الواجب، وكان الثابت بطريق مقطوع به باسم الواجب؛ أحق منه باسم الفرض.
والجواب: أن لفظ الفرض، وإن كان محتملًا لأشياء؛ فجميعها عبارة عن التأثير، والوجوب عبارة عن السقوط، والتأثر آكد من السقوط؛ لأنه قد يسقط؛ فلا يؤثر، فكان ما أثر آكد.
فقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} يعني: أنزله، ونزوله تأثير عندنا.
__________
1 "85" سورة القصص.
2 "38" سورة الأحزاب.
3 "1" سورة النور.
4 "36" سورة الحج.

(2/382)


وكذلك قوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} يعني: أحل له، والإحلال له: تأثير له.
وكذلك قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} أراد: بيناها، والبيان: تأثير فيها.
وكذلك فرض الحاكم يعني: قدّر، والتقدير له: تأثير في الحصر والتعيين.
واحتج: بأنه لو كان الفرض عبارة عما كان في أعلى المنازل من الوجوب؛ لوجب أن يختص الاسم بمعرفة التوحيد وتصديق الرسول؛ لأنه أعلى منزلة من غيره.
والجواب: أن الفرض لما كان عبارة عن العبادة التي تؤثر في نفس المكلف في المبادرة إليه والمسارعة إلى فعله، وهذا التأثر موجود في جميع ما علم قطعًا أنه مراد منا، مثل الصلوات ونحوها، فوجب أن يكون جميعها فرضًا، وإن كان بعضها آكد من بعض، كما أن التأثير الواقع في الشيء يتفاوت، وإن كان الاسم يتناول جميعها، ويفارق ذلك ما لا يقع منه التأثير.
واحتج: بأن الواجب اسم لما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه، والفرض اسم لهذا أيضًا؛ فإذا كانا متساويين في هذا المعنى؛ لم يكن لأحدهما مزية لاختلاف اسمهما، كما أن الندب والنفل لما كان معناهما واحد -وهو ما يستحق بفعله ثواب؛ لم يكن لأحدهما مزية على الآخر.
والجواب: أن الواجب وإن ساوى الفرض في الثواب والعقاب؛ فقد خالفه من وجه آخر، وهو: أن ثبوته من طريق مقطوع به، فمنع من المساواة في التسمية، كما أن الندب والمباح تساويا في إسقاط [48/ب] العقاب، واختلفا في التسمية لاختلافهما من وجه، وهو: أن الندب يثاب على فعله، والمباح لا ثواب عليه.

(2/383)


واحتج: بأن اختلاف أسباب الوجوب، وقوة بعضها على بعض، لا يوجب اختلاف الشيئين في أنفسهما؛ ألا ترى أن النفل قد ثبت بأخبار متواترة وثبت بأخبار الآحاد، والكل متساوٍ1، وكذلك الفرض قد ثبت بأخبار متواترة وأخبار الآحاد، والكل سواء.
والجواب: أن قوة بعضها على بعض توجب اختلافهما في أنفسهما؛ لأن ما كان معلومًا أنه مراد الله تعالى قطعًا؛ فإنه مخالف لما كان تجوزًا، وكذلك ما يكفر جاحده مخالف ما لا يستحق هذه الصفة، ومتى اختلفت الأشياء في أنفسها وأحكامها؛ اختلفت الأسامي التي تستعمل فيها لاختلاف ما يستفاد بالعبارة منها.
فإن قيل: فيجب أن تفرقوا في المنهيات، كما فرقتم في المأمورات، فتقولوا: لفظة الحرام عبارة عما ثبت من طريق مقطوع به، وما لم يثبت بذلك لا يطلق عليه ذلك، ويسمى مكروهًا.
قيل: هكذا نقول، وقد قال أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور في المتعة: لا أقول حرام.
وقال رحمه الله في رواية ابن منصور في الجمع بين الأختين المملوكتين: لا أقول حرام؛ ولكن ينهى عنه.
قال أبو بكر: إنما توقف لوجود الخلاف. فقد منع من إطلاق اسم الحرام مع كونه حرامًا عنده؛ لأنه مختلف فيه.
__________
1 في الأصل: "متساوي" والجادة ما أثبت.

(2/384)


مسألة الأمر بفعل الشيء لا يتناول الفعل المكروه
مدخل
...
مسألة [الأمر بفعل الشيء لا يتناول الفعل المكروه]:
أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله في رواية صالح: إذا وطئها وهي

(2/384)


حائض؛ لم يحل لها الرجوع بهذا الوطء إلى زوجها الأول؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1، وظاهره: أن الوطء في حال الحيض، لما كان منهيًا عنه؛ لم يدخل تحت الوطء المأمور به للإباحة.
واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب أبو بكر الرازي2 إلى أنه يتناول المكروه، واحتج في طواف المحدث بقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 3، وقال: جواز الفعل مراد، واللفظ يتناوله، فجاز إثباته، وإن كانت الصفة التي حصل الفعل عليها مكروهة.
واختار أبو عبد الله الجرجاني مثل قولنا.
__________
1 "222" سورة البقرة. والآية في الأصل: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} والآية في المصحف كما أثبتناه.
2 وهكذا نقل عنه السرخسي في أصوله"1/164"، وذكر عنه الاحتجاج بآية الطواف.
3 "29" سورة الحج.

(2/385)


دليلنا:
أن المأمور به ما اقتضاه الأمر وحث عليه: إما واجبًا وإما ندبًا، والمكروه منهي عن فعله وممنوع منه؛ فهو مضاد للمأمور به؛ فلا يجوز أن يكون اللفظ متضمنًا له، كما أن المحذور لما كان ضد الواجب؛ لم يجز أن يكون الأمر متناولًا له؛ ولأن المفعول على صفة لم يؤذن فيه بمثابة فعل آخر؛ فصار كمن أمر بالصيام، فأوقع ما يسمى صلاة.

(2/385)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الطواف مأمور به، والكراهة تعلقت بفعل آخر، وهو ترك الطهارة.

(2/385)


والجواب: أن ترك الطهارة، وإن كان منهيًا عنه؛ فإن هذا النهي يعود إلى الفعل الذي هو في الأصل طواف؛ لأنه منع من إيقاعه على هذا الوجه، ولو كان هذا صحيحًا؛ لوجب أن لا يكون السجود للشيطان منهيًا، وأن يكون النهي تعلق بإرادة فعله لغير الله تعالى، وكذلك قتل المؤمن لا يكون منهيًا عنه؛ وإنما يتعلق النهي بقصده إلى قتل نفس المؤمن دون الكافر، وهذا يوجب أن يكون جميع ما نهي عنه مأمورًا به، وهذا فاسد.

(2/386)


مسألة تعلق الأمر بالمعدوم
مدخل
...
مسألة [تعلق الأمر بالمعدوم]: 1
الأمر يتعلق بالمعدوم، وأوامر الشرع قد تناولت جميع المعدومين إلى قيام الساعة.
ويفيد هذا الخلاف أنه لا يحتاج إلى أمر ثانٍ.
وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية حنبل: "لم يزل الله يأمر بما شاء ويحكم". فقد نص على أنه أمر فيما لم يزل، ولا مأمور.
وقال أيضًا -فما خرجه في محبسه-: "لم يزل متكلمًا إذا شاء"؛ فقد أثبت قدم كلامه، وكلامه أمر ونهي، وهو قول الأشعرية ومن تابعهم من أصحاب الشافعي.
وذهب المعتزلة وجماعة من أصحاب أبي حنيفة فيما ذكره أبو عبد الله الجرجاني2 في أصوله: إلى أن الأمر لا يتعلق بالمعدوم، وأن أوامر الشرع
__________
1 راجع في هذه المسألة التمهيد في أصول الفقه الورقة "46-47"، والمسودة ص "44-45"، وروضة الناظر ص "110"، وشرح الكوكب المنير ص "175-176".
2 هو: محمد بن يحيى بن مهدي، وقد سبقت ترجمته ص"269".

(2/386)


الواردة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بالموجودين في وقته؛ فأما من بعدهم فإنه دخل في ذلك بدليل1.
ثم اختلف القائلون: بأن الأمر يتعلق بالمعدوم:
فمذهبنا: أنه أمر إلزام وإيجاب على الحقيقة بشرط وجوده على صفة من يصح تكليفه، سواء كان في الحال موجودًا يتوجه الخطاب إليه، أو لم يكن، وهو اختيار أبي بكر الباقلاني.
ومنهم من قال: إن هذا أمر إعلام، إذا كان كيف يكون، وليس بأمر إيجاب وإلزام.
ومنهم من قال: يتعلق بالمعدوم، إذا كان هناك موجود مخاطب ببلاغة؛ فأما إن لم يكن من يتوجه الخطاب إليه فلا.
والصحيح: ما ذكرنا؛ لأن إعلام المعدوم لا يصح؛ وإنما يعلم المواجه بالخطاب، ويصح الأمر لمن ليس بحاضر ليبلغ ذلك إليه، ولأن هذا القائل قد وافق أن الله سبحانه فيما لم يزل آمرًا ناهيًا، ولا مخاطب.
والدلالة على توجه الأمر إلى المعدوم قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، وهذا يقتضي أمره بالتكوين قبل وجوده. وكذلك قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 3.
ولأن الصحابة والتابعين كانوا يرجعون في إيجاب الحكم إلى الظواهر
__________
1 وقد اختاره الغزالي في المستصفى "2/81" ، والآمدي في الإحكام "2/253" ، والبيضاوي في المنهاج "3/364" مطبوع مع شرحه نهاية السول "2/364" .
2 40 سورة النحل.
3 46 سورة غافر.

(2/387)


المتضمنة للأمر من الله تعالى ومن نبيه [49/ب] عليه السلام على من يوجد في عصرهم لا يمتنع من ذلك أحد منهم؛ فدل على أن الأمر تناول من كان معدومًا حال الخطاب.
فإن قيل: يحتمل أن يكون ورد معها دلالة توجب مشاركة الجميع في هذا الحكم، وإن لم ينقل إلينا.
قيل: لو كان هناك دلالة أو قرينة لنقل؛ لأن ما لم يتم الدليل إلا به؛ لا يسوغ للراوي ترك نقله، وحيث لم ينقل ثبت أنه ما كان، يبين صحة هذا أنه معلوم، أن الجماعة لم تشترك في معرفة القرينة؛ فلو كان موضوع اللفظ لا يفيد؛ لم يقتصروا على نقل اللفظ والتعلق به دون القرينة.
وأيضًا: فإنه يصح الأمر بالزكاة مع عدم المال بشرط وجوده، وكذلك الأمر بالفعل للعاجز مع عدم الآلة بشرط وجودها، كذلك المعدوم بشرط وجوده.
فإن قيل: العاجز عاقل مخاطب عالم بالخطاب، والمعدوم بخلاف ذلك.
قيل: لا فرق بينهما وذلك أن المعدوم مأمور بشرط القدرة على ذلك.
وأيضًا: فإنه يصح وصية الإنسان إلى من يحدث من أولاده، والقيام بأمر الوقف، وإن كان معدومًا في الحال، ويكون أمرًا صحيحًا لمن يحدث، ويكون الحادث متصرفًا بالوصية السابقة في الحقيقة؛ فدل على أن الأمر يتوجه إليه.
وأيضًا: قد دلت الدلالة على أن أمر الله تعالى ونهيه هو كلامه، وأنه قديم من صفات ذاته غير محدث، وأنه لم يزل آمرًا، ولا حاضر مأمور، فدل على ما ذكرنا.
فإن قيل: هذا أصل فاسد؛ لأن المتكلم بالأمر ولا أحد يواجه

(2/388)


ويسمع كلامه هاذٍ1 سفيه، غير جائز.
قيل: هذا لا يصح لوجوه:
أحدها: أن هذا إن كان صحيحًا؛ فإنما يكون فيمن يفعل الكلام ويصح منه تركه؛ فأما من يجب كونه متكلمًا في أزليته؛ فلا يصح هذا في حقه.
الثاني: أنه لو كان هذيانًا، إذا لم يكن سامع2 للخطاب، لوجب أن يقال إذًا: "هذى الطفل والمجنون والمبرسم" ، وهناك من يسمع ذلك، أن لا يكون هذيانًا، لأجل أن هناك سامعًا حاضرًا3؛ فلما لم يجب هذا، لم يصح ما قالوه.
الثالث: أنهم لا يجدون كلامًا لأحد منا؛ إلا وهناك سامع؛ لأنه لا أحد منا متكلم في سر ولا جهر؛ إلا والله تعالى سامع كلامه.
وجواب آخر وهو: أن معنى الكلام لنفسه الإفهام والتعليم والإشعار بما يريد إفهامه بالكلام، ويكون هذا بمثابة من زعم أنه لو كان عالمًا قادر بنفسه غير معلم ولا مقدر لأحد، ولا ينتفع بكونه عالمًا قادرًا في قدمه؛ لوجب كونه سفيهًا عابثًا، وإذا لم يجز ذلك لم يجب ما قالوه.
وعلى أن الإنسان منا قد يوصي إلى معدوم وقت الوصية، ويأمره فيها وينهاه في وصيته [50/أ] ولا يكون عبثًا، مع أن الذم قد يصح قبل وجود المذموم، بدليل أن الله تعالى ذم إبليس فيما لم يزل قبل خلقه.
__________
1 في الأصل: "هادي" بدون اعجام.
2 في الأصل: "سامعًا للخطاب" والصواب ما أثبتناه به لأن "كان" هنا تامة، بمعنى "وجد".
3 في الأصل: "سامع حاضر".

(2/389)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الأمر يتعلق بمأمور، والمعدوم ليس بشيء يصح تعلق الأمر به.
والجواب: أن الأمر تعلق بمأمور وجد في الثاني، كما تعلقت الوصية بمن يحدث في الثاني، وكما تعلق الأمر بالعاجز لقدرة تحدث في الثاني.
واحتج: بأن الأمر إن كان إعلامًا يستحيل أن يوجد في المعدوم، وإن كان إلزامًا يستحيل أيضًا أن يلزم المعدوم الذي ليس بشيء.
والجواب: أنه أمر إلزام لمن يحدث في الثاني، كما قلنا في الوصية في العاجز.
واحتج: بأن الأمر لو تعلق بالمعدوم؛ لوجب أن يتعلق بالصبي والمجنون، لوجودهما، ويكون الأمر متعلقًا بالبلوغ والعقل، وفي اتفاق الجميع على امتناع ذلك دليل على امتناعه في المعدوم.
والجواب: أن كل من أجاز تكليف المعدوم بشرط بقائه؛ فإنه يقول: بأن الصبي والمجنون مأموران بشرط البلوغ والعقل، ولا فرق بينهما؛ وإنما معنى قول الأمة: إنهما غير مكلفين، وإن القلم مرفوع عنهما: رفع المأثم عنهما، ورفع الإيجاب المضيق.
ويمكن أن يكون قوله: رفع القلم عنهما بالخطاب والمواجهة؛ لأنه لا يصح مواجهتهما بذلك، لعدم علمهما بذلك، وقد ذكر أبو بكر بن الباقلاني هذا الجواب وحكاه عمن قال بخطاب المعدوم.
واحتج: بأنه لو جاز أمره الذي هو الإيجاب والإلزام، لجاز ذمه ولعنه وتسميته بأسماء المدح والذم.
والجواب: أنه إنما لم يوصف بذلك؛ لأنه ليس بإيجاب مضيق، وإنما يستحق الذم للتفريط، ويستحق المدح لوجود الفعل؛ فلم يتصفوا بذلك

(2/390)


لهذا المعنى، وجرى ذلك مجرى المأمور إذا كان عاجزًا بشرط القدرة؛ فإنه لا يوصف بذلك قبل القدرة، وإن كان مأمورًا.
واحتج بأن من شرط الأمر وجود المأمور، كما أن من شرط القدرة وجود القادر، فاستحال وجود قدرة بغير قادر، كذا يجب أن يستحيل وجود أمر بغير مأمور.
والجواب: أن نظيره أن من شرط الأمر آمر كما أن من شرط القدرة قادر.
ولأنه إنما لم يصح قدرة بغير قادر، لأن من شرطها وجود القادر بها؛ لأنها إنما كانت قدرة لقيامها بقادر يأتي1 الفعل بها، وليس كذلك الأمر؛ لأن من شرطه وجود الآمر لكونه قائمًا به، إذ الأمر كلامه، وليس من شرطه وجود المأمور، كما ليس من شرط القدرة وجود المقدور؛ إلا أن يكون مما لا ينفى، ألا ترى أنه يجوز أن يوصي الرجل في وصيته بما يعلمه ولده بعده إذا وجد ومخلفيه، فيكون ما يعمله من يوجد منهم [50/ب] بعده بأمر عند وصيته.
فإن قيل: كيف تصح هذه المسألة على أصولكم، وعندكم أن المعدوم ليس بشيء، وتدللون2 عليه بقوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} 3 وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} 4.
__________
1 في الأصل: "ويأتي"، والواو هذه قلقة، لا معنى لها، فحذفناها؛ ليستقيم الكلام.
2 في الأصل: "وتدلون" بلام واحدة.
3 "9" سورة مريم.
4 "1" سورة الإنسان.

(2/391)


قيل: يصح على أصلنا من الوجه الذي بينا، وهو أنه أمر بشرط وجوده على صفة من يصلح تكليفه، وعلى أصل المخالف فهو لازم؛ لأن عندهم المعدوم شيء.
فإن قيل: فكيف يصح هذا على أصلكم، وقد قلتم: إن شريعة من قبلنا؛ ليس بشرع لنا؛ فلو كان الخطاب غائيًا لدخل فيه كل مكلف يوجد في الثاني؟
قيل: الصحيح من الروايتين أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه، وعلى الرواية الثانية: ليس بشرع لنا، لقيام الدلالة على نسخه.
وقد ذكر أبو عبد الله الجرجاني: أن هذا خلاف في عبارة؛ لأنه لا يدعى إلى فعل شيء، ويجب أن تكون فائدته ما ذكرناه من أنه لا يحتاج إلى تكرار الأمر.

(2/392)


مسألة أمر الله العبد بما يعلم أنه سيحال بينه وبينه جائز
مدخل
...
مسألة 1 [أمر الله العبد بما يعلم أنه سيحال بينه وبينه جائز]:
يجوز الأمر من الله تعالى بما في معلومه أن المكلف لا يمكن منه، ويحال بينه وبينه بكونه مع شرط بلوغه حال التمكن.
وهذا بناء2 على أصلنا في تكليف ما لا يطاق، وتكليف الكفار العبادات.
وهو مذهب الأشعري ومن وافقه من أصحاب الشافعي، وهو اختيار
__________
1 راجع في هذه المسألة: "التمهيد" لأبي الخطاب الورقة "36"، والمسودة ص "52-53" فإنهما اعتمدا على كتاب العدة، كثيرًا.
2 في الأصل: "بناه"، والتصويب من "المسودة" ص "53".

(2/392)


أبي بكر الرازي والجرجاني1.
وذهبت المعتزلة إلى أنه لا يجوز ذلك2.
__________
1 راجع في هذا: "شرح جمع الجوامع مع حاشية البناني": "1/218"، وتيسير التحرير "2/137".
2 راجع في هذا: المغني لعبد الجبار، قسم الشرعيات "17/59-60، 126"، والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري "1/177".

(2/393)


دليلنا:
أنه لو لم يكن أمرًا؛ لوجب أن لا يصح منه الدخول في العبادة بنية الفرض؛ لأنه لا يعلم هل يحال بينه وبين القدرة على فعلها؛ فلا يكون فرضًا، ولما أجمعنا على صحة العزم على نية الفرض مع هذا التجويز؛ علمنا أنه أمر صحيح.
يبين صحة هذا: أنه لا يصح أن ينوي الفرض في ليلة الشك؛ لأنه لا يتحقق الفرض، ولما صح نية الفرض ههنا علم أنه أمر صحيح.
ولأنه يصح الأمر من الله تعالى بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن، كذلك جاز أن يأمر بالفعل من يحول بينه وبينه؛ لتساويهما في تعذر الفعل من جهة المأمور في الموضعين.
فإن قيل: المأمور هناك لم يؤت في ترك الفعل من قبل الله تعالى؛ وإنما أتى في ذلك من قبل نفسه؛ فلم يحصل الأمر عبثًا.
قيل: إذا سبق علمه أنه لا يؤمن، فقد تحقق تعذر الفعل من جهة المأمور حين الأمر؛ لأن علمه لا ينقلب؛ لأن ضد العلم الجهل، وهو يتعالى عن ذلك، كذلك ههنا.
ولأن في هذا فوائد، وهو امتحان المكلف واستصلاحه وتوطين النفس

(2/393)


على فعل العزم على الطاعة، ومسرة الآمر بأمره وإيثار الإقرار من المأمور بالتزام طاعته والإخبار بالعزم على امتثال أمره إلى غير ذلك.
وأيضًا: فإنا وجدنا [51/أ] في الشاهد يحسن أمر المولى عبده بأن يسقيه الماء عند الحاجة إليه، وإن لم يكن على ثقة من تمكن العبد بما أمر به، وجوز أن يحال بينه وبينه ويخترم دونه، كذلك أوامر الله تعالى يجب أن تكون محمولة على ذلك.
فإن قيل: الله تعالى عالم بالعواقب، فلا يحسن أمره بما يعلم استحالة وقوعه من المكلف؛ فإذا علم أن المكلف سيحال بينه وبين ما كلف؛ لم يحسن أمره به، كما لا يحسن أمره بما علم استحالة حدوثه منه، وليس كذلك الأمر في الشاهد؛ لأنه لا يعلم العواقب، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في أمر الله؛ وإنما اعتبر فيه الظن بتمكين المأمور ما أمر به، فإذا ظن ذلك حسن أمره.
قيل: هذا يبطل بأمره بالإيمان من1 يعلم أنه لا يؤمن؛ فإنه يصح، وإن كان عالمًا بالعواقب أنه لا يؤمن، كذلك ههنا.
ولأن الأمر حال وروده يحصل للمأمور اعتقاد الوجوب وسكون النفس إلى فعله في الثاني، ويصح تعلق الأمر بهذا المعنى، ألا ترى أن الإيمان بالله تعالى يحصل بمجرد الاعتقاد، وإن لم يقارنه شيء من أفعال الجوارح؟
ولأن هذا القول لو صح؛ لوجب أن يمنع من إطلاقه القول بأن الإنسان منهي عن الزنا في المستقبل، ومأمور بالإيمان؛ لأنه لا يعرف بقاؤه إلى ذلك الوقت.
__________
1 في الأصل: "لم".

(2/394)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الله تعالى إذا علم من حال المكلف أنه1 سيحال بينه وبين ما أمر به، ولا يمكن من فعله؛ فإن فعله يستحيل وقوعه منه، وما يستحيل وقوعه لم يحسن الأمر به؛ ألا ترى أنه لا يحسن الأمر بصعود السماء، والمشي على الماء، وقلب العصا حية، وما يجري هذا المجرى مما يستحيل وقوعه من المأمور به؟
والجواب: أنه يبطل الأمر بالإيمان إذا حكم أنه لا يؤمن، فإنه يصح، وإن كان يستحيل وقوعه، كذلك ههنا.
وعلى أن الأمر بذلك لا يحصل فيه فائدة؛ لأن المقصود من الأمر تعريض المكلف لاستحقاق الثواب فيما يوقعه، فمتى علم عجز المكلف عن ذلك؛ لم يحصل له سكون النفس إلى فعل ما أمر به، فصار الأمر عبثًا، وهذا حصل من جهة سكون النفس واعتقاد وجوب الفعل، وتعذره بعد ذلك بسبب من جهة نية الآمر؛ فلهذا فرقنا بينهما.
وفيه فوائد، منها: إظهار أمره بذلك، وإقرار المأمور به بوجوب طاعته إن بقي، ولاعتقاده أن في أمره بذلك استصلاحًا له في غير ذلك الفعل، وتوطنة النفس على الطاعة في جميع ما يأمره، وليعرضه بذلك لثواب العزم على طاعته.
__________
1 في الأصل: "أن".

(2/395)


مسألة يجوز الأمر من الله تعالى بما يعلم أن المأمور لا يفعله
مدخل
...
مسألة 1 [يجوز الأمر من الله تعالى بما يعلم أن المأمور لا يفعله]:
وقال أحمد رحمه الله في رواية حنبل: علم الله تعالى أن آدم سيأكل
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص54، وكتاب الفصول في أصول الفقه" للجصاص الورقة "106"؛ فإن المؤلف قد استفاد من هذا الكتاب.

(2/395)


من الشجرة التي نهاه عنها قبل أن يخلقه.
خلافًا [51/ب] للمعتزلة في قوله: لا يجوز1.
__________
1 راجع في هذا: المغني للقاضي عبد الجبار قسم الشرعيات "59/59-61، 126"، والمعتمد في أصول الفقه "1/178-179".

(2/396)


دليلنا:
أنه أمر إبليس بالسجود لآدم مع علمه أنه لا يفعله، وكذلك أمر الكفار بالإيمان مع علمه أنهم لا يؤمنون.
ولأن أمره مع علمه أن المأمور لا يفعله كأمره مع علمه أنه يحال بين المأمور وبين الفعل، وقد بينا فيما تقدم جوازه.

(2/396)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لا يصح أن يريد من المكلف ما يعلم أنه لا يفعله؛ لأنه عبث.
والجواب: أن هذا ليس بعبث؛ لأن الله تعالى قد عرض المأمور بما أمره به إلى النفع إذا أداه، وإظهار1 أمره بذلك وإقرار المأمور به بوجوب طاعته. ولأن هذا يبطل بأمره لإبليس بالسجود مع علمه أنه لا يفعله.
__________
1 في الأصل "أو إظهار".

(2/396)


مسألة يجوز أن يرد الأمر من الله تعالى متعلقا باختيار المأمور
مدخل
...
مسألة 1 [يجوز أن يرد الأمر من الله تعالى متعلقًا باختيار المأمور]:
وهذا بناء على أصلنا: أن2 المندوب مأمور به مع كونه مخيرًا في فعله وتركه.
خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز ذلك3.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص "54-55"؛ فإنه اعتمد على القاضي أبي يعلى كثيرًا.
2 هكذا في الأصل: "وأن"، والواو هنا زائدة، الصواب حذفها.
3 انظر: كتاب المغني للقاضي عبد الجبار قسم الشرعيات: "17/ 126"، والمعتمد لأبي الحسن البصري: "1/ 178".

(2/396)


دليلنا:
أن الله أرخص لنا القصر في السفر، وأوجب الإتمام في الحضر، وعلق ذلك باختيارنا.
وهكذا القول في اختيار واحد من الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين؛ فإذا كان كذلك؛ لم يمتنع أن يرد الأمر معقودًا بشرط اختيار المأمور.

(2/397)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لا طريق لنا إلى معرفة ما هو مصلحة لنا فنختاره؛ فلم نأمن أن تكون المصلحة في غير ما نختاره، فلا يجوز أن يكون ذلك موكولًا إلى اختيارنا، وفارق هذا ما يؤديه إليه اجتهادنا أنه مصلحة لنا، وإن كان متعلقًا باختيارنا؛ لأن الاجتهاد قد بين لنا طريقه، فجرى مجرى المنصوص عليه؛ فإذا أدانا اجتهادنا إليه وحكمنا به؛ علمنا أنه مصلحة لنا، وما لم يجعل لنا طريق إلى معرفته؛ فلا نعلم عند اختيارنا له أنه مصلحة لنا، بل جائز أن تكون المصلحة في غيره.
والجواب: أنه ليس من شرط صحة الأمر أن يقع على وجه المصلحة لنا، فقد1 يجوز أن يأمر بما لنا فيه مصلحة وما لا مصلحة لنا فيه، ويأتي الكلام فيه على أنه يبطل بما ذكرنا من رخصة القصر والكفارة على طريق التخيير.
__________
1 في الأصل: "وقد".

(2/397)


مسألة ورود الأمر والنهي بالتكليف دائما
مدخل
...
مسألة 1 [ورود الأمر والنهي بالتكليف دائمًا]:
يجوز أن يرد الأمر والنهي بالتكليف دائمًا إلى غير غاية، فيقول: "صلوا في كل يوم أبدًا ما بقيتم"، و "صوموا رمضان أبدًا ما حييتم"؛ فيقتضي ذلك الدوام مع بقاء التكليف، وهذا مع قولنا: إن الأمر يقتضي التأكيد.
خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز أن يرد بذلك، ومتى ورد اللفظ بهذا لم يقتضِ الدوام، وإنما هو للحث على التمسك بالفعل.
__________
1 راجع هذه المسألة في: المسودة "ص55".

(2/398)


دليلنا:
أنه ليس بأمر بمحال.
ولأنه تصرف في الملك؛ فجاز كتصرف [52/أ] أحدنا في ملكه.
ولأن لفظة التأبيد1 موضوعة في اللغة لدوام الفعل دون انقطاعه، كما أنها2 موضوعة لما لا يعقل؛ فلم يجز إطلاق لفظ التأبيد على ما لا يجب دوامه؛ لأنه يصير وجود هذا اللفظ كعدمه.
ولأنه لو قال: "صلوا أبدًا؛ فإنه مصلحة لكم ما بقيتم" ؛ لكان ذلك مقتضيًا للتأبيد، كذلك إذا أطلق.
ولأن من امتنع من هذا الإطلاق يقول: إن فيه قطع الثواب.
ولأنا نعلم أنه لا بد لها من الانقطاع بالموت والجنون، وهذا لا يصح؛ لأن الثواب غير مستحق على الله تعالى على ما نبينه.
ولأن الأمر ثابت مع بقاء الأمر؛ فلا يدخل فيه حال الجنون والموت؛ لأنه غير مكلف فيه، والأمر تناول المكلف.
__________
1 في الأصل: "التأكيد".
2 في الأصل: "أن".

(2/398)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الثواب واجب عليه على الأعمال دائمًا غير منقطع؛ فلو دام عليهم التكليف بطل ثواب عملهم، ولو أثابهم في خلال ذلك؛ لم يكن ثوابهم إلا منقطعًا.
والجواب: أن أقل نعمة الله تعالى على خلقه يستحق بها عليهم أن يعبدوه؛ فلا يستحق عليه الثواب، ولو كان الثواب على العمل مستحقًا؛ لم يستحق الثناء والشكر والحمد والمدح، كما أن قاضي الدين وراد الغصب والوديعة، لما كان ذلك مستحقًا عليه؛ لم يستحق الشكر والثناء، وفي إجماعنا على أنه يجب علينا الشكر والثناء والحمد لله على نعمه علينا؛ دليل على أنه غير مستحق عليه.
واحتج: بأن هذه العبادات لا بد لها من الانقطاع؛ لأنه إنما حسن الأمر بها لما فيها من الثواب للمكلف، ودوامها يقطع الثواب؛ فإذا كانت لا بد لها من الانقطاع بالموت؛ كان لفظ التأبيد فيها مستعملًا على وجه المجاز؛ فوجب أن يسقط اعتبار الحقيقة فيه، ويكون القصد المبالغة في الحث على التمسك بالعبادة.
والجواب: أن قد بينا أن الثواب غير مستحق، على أن الأمر إنما يتعلق بمأمور مكلف، وهو إنما تكون هذه الصفة ما دام في دار التكليف؛ فإذا خرج من كونه مكلفًا بالموت؛ لم يبق عليه حكم الأمر؛ فإذا كان كذلك كانت حقيقة التأبيد ثابتة مع بقاء الأمر، فلا يكون سقوط الأمر دلالة على سقوط حقيقة التأبيد عند الاستعمال.
على أن هذا يبطل به لو قال: افعلوا ذلك أبدًا؛ فإنه مصلحة لكم ما بقيتم؛ لكان ذلك مقتضيًا للتأبيد. وإن كان لا بد من الانقطاع بالموت،

(2/399)


كذلك لفظ التأبيد بهذه المثابة.
واحتج: بأن الآمر منا في الشاهد قد يقرن إلى لفظ الأمر لفظ التأبيد؛ فلا يكون مراده به الدوام، كقول المولى لغلامه: "لازم هذا الغريم أبدًا" [52/ب]، يريد به أن لا يفارقه حتى يستوفي الدين، كقول الأب لابنه: "لازم المعلم أبدًا1، ولا تفارقه حتى تتعلم منه القرآن ونحوه"؛ فوجب أن تكون أوامر الله محمولة على المتعارف في الشاهد.
والجواب: أن دلالة الحال تقترن إلى الأمر، فيصير كأنه قال: لازم الغريم والمعلم ما لم تستوف الدين، وما لم تتعلم منه، وهكذا أوامر الله يكون ذلك تقديرها؛ كأنه قال: افعلوا ذلك ما دمتم مكلفين.
واحتج بأن المأمور قد يتخلله الجنون والنوم والإغماء، ولفظة التأبيد تعم ذلك، ومعلوم أن الخطاب لا يتوجه إليه.
والجواب: أنا قد بينا أن الأمر يتعلق بمأمور مكلف، فهذه الأحوال مستثناة لعدم التكليف، ويبطل به إذا قال: "افعلوا أبدًا؛ فإنه مصلحة"؛ فإنه يصح وإن كان هذا موجودًا.
__________
1 في الأصل "حتى" وهو تحريف.

(2/400)


مسألة من شروط الأمر أن يكون المأمور به معدوما في المستقبل
مدخل
...
مسألة من شروط الأمر أن يكون المأمور به معدوما في المستقبل: 1
من شرط الأمر أن يكون المأمور به في مستقبل الوقت غير موجود، وحكي عن طائفة من المتكلمين أن الأمر بالموجود جائز.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" "ص57"، وروضة الناظر في شروط الفعل المكلف به ص "28-29".

(2/400)


دليلنا:
أن استحالة وقوع ما هو موجود من الملكف كاستحالة الجمع بين

(2/400)


الضدين، وجعل الجسم في مكانين في وقت واحد؛ فإذا لم يجز ذلك؛ لم يحسن الأمر بالموجود.
ولأن الموجود قد خرج بوجوده عن كونه مأمورًا به؛ لأنه لو لم يكن كذلك؛ لكان لا يخرج عن كونه واجبًا؛ لأن الوجوب من مقتضى الأمر، وهذا يوجب بقاء الفرائض على المكلفين بعد فعلهم لها على الوجه المأمور به, وفي بطلان ذلك دليل على امتناع جواز الأمر بالموجود.
ولأنه لما لم يحسن أن يأمر الواحد منا في الشاهد من هو قائم بالقيام ومن هو قاعد بالقعود لكون المأمور [به] موجودًا؛ وجب أن يكون أمر الله تعالى محمولًا على ذلك؛ فلا يحسن أمره بما هو موجود؛ لأنه إنما يخاطب بما هو متعارف بين أهل اللسان.

(2/401)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لو لم يصح الأمر بالموجود؛ لم يصح ذم الكافر على كفره الذي هو فيه في الحال؛ لأنه لا يصح أمره بتركه لكون الأمر موجودًا، ولوجب أن لا يكون المؤمن مأمورًا بالإيمان؛ لأن ما قد وجد منه؛ لا يصح الأمر به على هذه الصفة.
والجواب: أن الكافر إنما يستحق الذم على ما فعله1 من اعتقاد الكفر والبقاء عليه، فلا يكون في ذلك دلالة على كونه مأمورًا بما قد وجد منه.
__________
1 في الأصل: "نقله".

(2/401)


مسألة يصح أن يتقدم الأمر على وقت الفعل
مدخل
...
مسألة 1 يصح أن يتقدم الأمر على وقت الفعل:
خلافًا للطائفة التي تقدم ذكرها في المسألة التي قبلها: أن الأمر [53/أ] لا يكون أمرًا إلا في حالة الفعل، وما يتقدمه لا يكون أمرًا؛ وإنما هو إعلام.
__________
1 راجع في هذه المسألة: المسودة "ص57".

(2/401)


دليلنا:
أن الواحد منا في الشاهد يحسن منه أن يأمر عبده بما يفعله في غد، وفيما بعد بأوقات، ويطلق عليه اسم الأمر، ويسمى قوله ذلك أمرًا [فـ] وجب أن تكون هذه الصفة جائزة في أمر الله تعالى وأمر رسوله.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ما يتقدم حال الفعل إعلامًا وتعريفًا، ولا يكون أمرًا إلا في حال الفعل، وتكون هذه سبيل أمر المولى عبده فيما يفعله في الثاني.
قيل: قولك: إنه إعلام؛ لا يخلو من أن يكون المراد به حصول العلم للمأمور [أ] وأنه يحصل له به معلوم؛ فإن أردت به حصول العلم كان ذلك باطلًا؛ لأن العلم هو الاعتقاد للشيء على ما هو به، والأمر هو حروف منظومة؛ فكيف يجوز وقوع العلم بالأمر؟!
فإن أردت به أن المأمور يحصل له بذلك معلوم بأن يعلم ما أمر به في الثاني؛ فلا يخلو ذلك: من أن يكون يعلم وجوب ما أنبأ عنه لفظ الأمر، أو حدوث أمر مستأنف في الثاني، وكلا الأمرين باطل؛ لأنه إن اعتقد وجوب ما أنبأ عنه القول؛ لم يأمن أن يكون الآمر لم يرد بذلك القول وجوب ما تضمنه؛ وإنما أراد به الندب أو نحوه؛ فإذا اعتقد هو غير ذلك؛ كان اعتقاده جهلًا، وكذلك إن اعتقد أن الأمر سيجدد له أمرًا في الثاني عند حال الفعل، لم يأمن أيضًا أن لا يوجد ذلك من الآمر بأن غيره دونه، فيكون اعتقاد المأمور جهلًا، وإذا بطلت هذه الوجوه كلها؛ لم يبق إلا أن يكون ذلك القول أمرًا.

(2/402)


مسألة جواز ورود الأمر بالعبادة قبل مجيء وقتها
مدخل
...
مسألة [جواز ورود الأمر بالعبادة قبل مجيء وقتها]: 1
إذا أمر الله [عبده]2 بعبادة في وقت مستقبل؛ جاز أن يعلمه بذلك قبل مجيء الوقت.
خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز أن يعلمه بذلك قبل الوقت3.
__________
1 راجع "المسودة" ص "57".
2 غير موجودة في الأصل؛ وقد أضفناها ليستقيم الكلام، ويدل عليه عود الضمير في قوله: "يعلمه"، وهو كذلك في "المسودة" ص "57".
3 هذا القول لبعض المعتزلة، وليس لكلهم، كما ذهب إليه المؤلف، يدل على ما قلنا: ما ذكره أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد": "179/1" حيث قال: "... وقد ذهب قوم إلى أن الأمر بالفعل مقارن لحال الفعل؛ وإنما تقدمه يكون إعلامًا. وعندنا: أن الأمر لا يجوز أن يُبتدأ به في حال الفعل؛ بل لا بد من تقدمه قدرًا من الزمن، يمكن مع الاستدلال به على وجوب المأمور به، أو كونه مرعيًا فيه، ويعقل الفعل في حال وجوبه فيه..." ثم ذكر بعد ذلك أدلته على ما ذهب إليه.
وقد أشير إلى هذا في "المسودة" ص "57" بالقول: "وينبغي أن يكون الخلاف مع بعضهم -أي المعتزلة؛ لأن مأخذ هذه المسألة لا يقتضيه أصول جميعهم، وهم فرقة كثيرة الاختلاف، وأصحابنا ينصبون الخلاف مع مطلق الجنس، لا مع عموم الجنس".

(2/403)


دليلنا:
إن إعلامه بذلك لا يفضي إلى الأمر بالمحال، فيجب أن يجوز.
ولأن الأمر إذا جاز تعليقه بوقت وزمان؛ جاز تعليقه بوقت معلوم كالطلاق والوكالة، لما جاز تعليقهما1 بزمان مستقبل صح بوقت معين.
ولأن تعليقه بوقت معين آكد من الإطلاق، يدل على هذا: أنه لو أمر عبده بفعل شيء في وقت غير معين؛ لم يحسن تأديبه على تأخيره، ولو علقه بوقت معين فأخره عنه حسن تأديبه وتوبيخه.
__________
1 في الأصل: "تعليقه" بالإفراد، والصواب ما أثبتناه؛ لعود الضمير على مثنى.

(2/403)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لو أعلمه بذلك؛ لكان قد علم أنه سيبقى إلى وقت الفعل لا محالة، ولو جاز ذلك؛ لكان إغراءً له بالمعاصي؛ لأنه يتكل على التوبة منها، وفي بطلان هذا دليل على أنه لا يجوز أن يعلم المكلف ما أمر به.
والجواب: أنه لا يعلم أنه سيبقى إلى وقت الفعل، للأصل الذي تقدم؛ وإنما يجوز أن يخبر به المكلف قبل الفعل.
وعلى أن هذا لا يمنع من إعلامه بالوقت وإن أفضى إلى ما ذكرت، كما لم يمنع ذلك من صحة التوبة، وإن أفضى ذلك إلى ما ذكرت؛ لأن التوبة تجب ما قبلها من المعاصي؛ فإذا علم بذلك أخلد إلى المعاصي، ثم عقب ذلك بالتوبة، ثم لم يمنع هذا من صحة التوبة؛ كذلك لا يمنع من معرفة الوقت، وليس لهم أن يقولوا: إنه يجوز أن يموت قبل كمال الفعل؛ لأن الموت عليه أمارة في الغالب.

(2/404)


مسألة [بعض الواجبات أوجب من بعض]: 1
يجوز أن يقال: إن بعض الواجبات أوجب من بعض.
كالصلوات الخمس [أوجب] من المنذورات، والزكوات أوجب من النذور، وكذلك الإيمان أوجب من غيره من العبادات، وكذلك الكفر
__________
1 راجع "المسودة" ص "58"، وشرح الكوكب المنير ص"110"، وتحرير المنقول وتهذيب علم الأصول للمرداوي الورقة "11/أ".

(2/404)


أعظم من المعصية من سرقة حبة.
وقد قال أحمد رحمه الله: "ركعتا الفجر آكد من الوتر".
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة1، وذكره أبو بكر بن الباقلاني أيضًا.
ومن الناس من منع ذلك2.
ولسنا نريد بهذا أنه يرجع إلى نفس الأمر وما يتعلق به، وأن الأمر بفعل الإيمان أشد تعلقًا به من تعلق الأمر بالصلاة الواجبة؛ لأن الأمر بفعل الشيء متى كان يعود إلى إيقاعه؛ فإن الإيقاع للإيمان كإيقاع غيره.
ولا نريد به أيضًا: أن الإيمان أوجب من غيره؛ لأجل أن فعله يقف على أفعال متقدمة مثل النظر والاستدلال؛ لأن سائر الطاعات لا تصح إلا بتقدم غيرها عليها، وهو الإيمان، وكذلك الصلاة والزكاة لا يصحان إلا بالنية المتقدمة، كالإيمان.
وإنما نريد بذلك: أن المستحق من الثواب بأحد الفعلين أعظم مما يستحق بغيره، أو أن أحد الواجبين طريقه القطع والآخر غلبة الظن3.
__________
1 لأنهم فرقوا بين الفرض والواجب، ومن فرق بينهما جعل الفرض أعلى من الواجب.
انظر: "شرح التلويح على شرح التوضيح": "2/123".
وقول الحنفية هو رواية عن الإمام أحمد، وبها قال ابن شاقلا والحلواني الحنبليان.
انظر: "شرح الكوكب المنير" ص "110"، وتحرير المنقول للمرداوي ورقة "11/أ".
2 وممن منع ذلك ابن عقيل من الحنابلة، وبعض المتكلمين.
راجع: "المسودة" ص "58".
3 هذا إشارة من المؤلف إلى ثمرة الخلاف.

(2/405)


ولا يلزم على ما ذكرنا أن يجوز كذب أكذب من كذب، وصدق أصدق من صدق؛ لأنهما أمران يرجعان إلى الخبر، وهو وقوع الشيء على ما أخبر به المخبر أو على خلافه، وهذا لا يوجب اختلاف حال الخبرين في أنفسهما.
ولأن الكذب ليس بكاذب، ولا الصدق صادق؛ فلم يجز أن يقال: أصدق وأكذب، ولأن أصدق1 اسم علم، فلا يستعمل فيه للمبالغة كقولنا: زيد وعمرو، وليس كذلك: صادق أصدق من صادق؛ لأنه يصح أن يقال: إن المراد به أن أحدهما أكثر صدقًا من الآخر، وأما حسن أحسن من حسن، فيجوز.
وقد ذكر أصحابنا في الاقتصار على تطليقة واحدة، أنه أحسن من الثلاث2، وإن كانتا جميعا قد اشتركتا في السنة3.
وهذا معنى قول الخرقي4: "وطلاق السنة أن يطلقها طاهرًا من
__________
1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "الصدق".
2 في الأصل: "الثلاثة".
3 هكذا اختار القاضي، ومن قبله الحرقي القول بجواز الجمع بين الثلاث طلقات، وأن ذلك مسنون ما دام في طهر لم يمسها فيه. وهذا رواية عن الإمام أحمد.
وهناك رواية أخرى أن الجمع بين الثلاث بدعة ومحرم، واختارها من الحنابلة أبو بكر وأبو حفص.
انظر المغني لابن قدامة "7/301" .
4 هو عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد أبو القاسم الحرقي. من الطبقة الثالثة من فقهاء الحنابلة. له مؤلفات كثيرة، لم يصلنا منها سوى "المختصر في الفقه"، وذلك لاحتراق كتبه. توفي بدمشق "334هـ" .
له ترجمة في شذرات الذهب "2/336"، وطبقات الحنابلة "2/75-76"، والمدخل لمذهب الإمام أحمد ص "209".

(2/406)


غير جماع طلقة؛ فإن طلقها ثلاثًا في طهر كان أيضًا للسنة وكان تاركًا للاختيار1".
ويدل على ذلك أن الواجبين الجائزين قد يشتركان في الوجوب، أحدهما أحسن من الآخر، مثل من خفف صلاته، وأداها آخر بركوع وسجود أتم، وكذلك من أعطى زكاة ماله فقيرًا، وأعطى الآخر إلى من هو أحوج منه؛ كان ذلك أحسن.
وأما الأولى: فهو على ضربين: منه ما هو آكد، والثاني ما هو دونه.
فالآكد مثل ركعتي الفجر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوم على فعلها، وحث الناس بوجوه الحث على إيقاعها، ونبه على حكمها بقوله: "صلوهما فإن فيهما الرغائب"2 وقال: "هما خير من الدنيا وما فيها" 3.
وكذلك الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على فعله، وحث الناس عليه بقوله: "أوتروا يا أهل القرآن" 4، وقوله: "إن الله زادكم صلاة
__________
1 هذا النص موجود في مختصر الخرقي ص "152" مع اختلاف طفيف.
2 لم أقف عليه.
3 هذا الحديث روته عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. أخرجه عنها مسلم في كتاب "صلاة المسافرين" ، باب استحباب ركعتي سنة الفجر "1/505" .
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في ركعتي الفجر من الفضل "2/275".
راجع أيضًا: تلخيص الحبير "2/20" .
4 هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء أن الوتر ليس بحتم "2/316" ، وقال فيه: "حديث حسن". =

(2/407)


هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الوتر" 1، فلهذا قال أحمد رحمه
__________
= وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب استحباب الوتر "1/327".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة باب ما جاء في الوتر، كما أخرجه عن ابن مسعود رضي الله عنه في الموضع السابق "1/370".
وأخرجه النسائي عن علي رضي الله عنه في كتاب قيام الليل وتطوع النهار "3/187".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "1/118".
وأخرجه عنه الإمام أحمد كما في الفتح الرباني في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "4/273".
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في أول كتاب الوتر "1/300".
راجع في هذا الحديث أيضًا: تيسير الوصول "2/217"، والمنتقى "190".
1 هذا الحديث أخرجه الترمذي عن خارجة بن حذافة رضي الله عنه في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "2/314" وقال فيه: "حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي حبيب".
وتعقبه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي في الموضع السابق بأن ابن أبي الحكم رواه في فتوح مصر ص "259-260" عن أبيه عن بكر بن مضر عن خالد بن يزيد عن أبي الضحاك عن عبد الله بن أبي مرة، وأبو الضحاك هو: "عبد الله بن راشد الزوفي". ثم علق الشيخ أحمد شاكر على هذا بقوله: "وهذا إسناد صحيح أيضًا، وهو متابعة جيدة ليزيد بن أبي حبيب، ويرد قول الترمذي أنه لا يعرفه إلا من حديثه".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب استحباب الوتر "1/327".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة باب ما جاء في الوتر "1/369".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة باب في الوتر "1/308".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة باب فضيلة الوتر "2/30".
وحديث خارجة هذا قال فيه البخاري: لا يعرف سماع بعض هؤلاء من بعض كما نقل ذلك عنه ابن عدي في الكامل.
وقد أعله ابن الجوزي في كتابه: "التحقيق" بابن إسحاق وبعبد الله بن راشد. ونقل عن الدارقطني أنه ضعفه. =

(2/408)


................
__________
= وتعقب صاحب "التنقيح" ابن الجوزي فقال: أما تضعيفه بابن إسحاق؛ فليس بشيء، فقد تابعه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب به.
وأما نقله عن الدارقطني أنه ضعف "عبد الله بن راشد" ؛ فغلط؛ لأن الدارقطني إنما ضعف "عبد الله بن راشد البصري" مولى عثمان بن عفان الراوي عن أبي سعيد الخدري، وأما هذا راوي حديث خارجة، فهو "الزوفي" أبو الضحاك المصري، ذكره ابن حبان في كتاب الثقات.
وقال ابن حبان فيه: "إسناد منقطع، ومتن باطل".
وقال الحاكم بعد إخراجه "1/306": "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، رواته مدنيون ومصريون، ولم يتركاه إلا لما قدمت ذكره، من تفرد التابعي عن الصحابي"، وقد وافقه الذهبي على ذلك.
أما الإمام أحمد فقد أخرجه عن أبي بصرة رضي الله عنه، كما في الفتح الرباني كتاب الصلاة باب ما جاء في وقت الوتر "4/279-280"، وقد أخرجه بسندين، الأول رجاله - كما يقول الهيثمي في كتابه الزوائد "2/239": رجال الصحيح، خلا علي بن إسحاق، شيخ أحمد، وهو ثقة. أما السند الثاني ففيه ابن لهيعة.
كما أخرجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده في مسنده "2/180، 206، 208" من طريقين في أحدهما الحجاج بن أرطاة، وفي الأخرى: المثنى بن الصباح، وهما ضعيفان.
وقد أخرجه الدارقطني أيضًا في الموضع السابق ذكره "2/30"، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه النضر أبو عمر الخزاز، ضعيف.
كما أخرجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده "2/31"، وفيه: محمد بن عبيد الله العرزمي، ضعيف.
وأخرجه الطيالسي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "1/118".
وقد استوفى الكلام في ذلك الزيلعي في نصب الراية "2/108-112"، وابن حجر في تلخيص الحبير "2/16"، وراجع أيضًا: تيسير الوصول "2/208".

(2/409)


الله: "من ترك الوتر فهو رجل سوء1".
ومنها ما دون ذلك؛ فيسمى نافلة السنن.
__________
1 قول الإمام أحمد هذا، رواه عنه هارون بن عبد الله البزار، وفيه: "قال أحمد في الرجل يترك الوتر عمدًا: هذا رجل سوء، يترك سنة سنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، هذا ساقط العدالة إذا ترك الوتر متعمدًا". وقد رواه أبو طالب وصالح كما يلي: "من ترك الوتر متعمدًا هذا رجل سوء؛ وذلك لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم".
انظر: بدائع الفوائد لابن القيم "4/111"، والمغني لابن قدامة "2/133-134".

(2/410)


مسألة 1 [حكم الزيادة على الواجب]:
إذا فعل الواجب على المداومة، وزاد على ما يتناوله الاسم كالركوع والسجود إذا داوم عليه المكلف؛ فهل يكون عليه جميعه واجبًا؟
يحتمل أن يقال: الواجب أدنى ما يتناوله الاسم، والزيادة نفل، وهذا اختيار أبي عبد الله الجرجاني، وأبي بكر الباقلاني2.
__________
1 راجع في هذه المسألة المسودة ص "58-59"، وتحرير المنقول وتهذيب علم الأصول للمرداوي الورقة "12/ب"، وكذلك عزاه إليهم الفتوحي في شرح الكوكب ص "127"، واختاره الغزالي في المستصفى "1/73" وقد اختاره من الحنابلة أبو الخطاب وابن قدامة المقدسي، كما في روضة الناظر ص "20".
2 ونسب المرداوي الحنبلي هذا القول إلى الأئمة الأربعة، كما في كتابه "تحرير المنقول" الورقة: "13/ب"، وكذلك عزاه إليهم الفتوحي في "شرح الكوكب" ص: "127"، واختاره الغزالي في "المستصفى" "1/73" وقد اختاره من الحنابلة أبو الخطاب وابن قدامة المقدسي، كما في "روضة الناظر" ص"20".

(2/410)


وذهب أبو الحسن الكرخي إلى أن جميعه واجب1، وقال في الركوع إذا داوم عليه المكلف كان جميعه واجبًا، وكذلك القراءة إذا طولها.
وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله عنه؛ لأنه استحب للإمام أن ينتظر على المأموم في الركوع ما لا يشق على المأمومين؛ فلولا أن إطالة الإمام في الركوع يكون جميعه واجبًا؛ لم يصح إدراك الركعة معه؛ لأنه يفضي إلى أن يكون المفترض مقتديًا بالمتنفل2.
وجه ما ذكرناه3: أن ما زاد على ما يتناوله الاسم مخير بين فعله
__________
1 اختار هذا بعض الحنابلة، كما في المسودة ص "58".
2 تُعُقِّبَ القاضي أبو يعلى في وجه استدلاله بما نقله عن الإمام أحمد هنا. فقال في المسودة ص "58": "... وهذا ليس بمأخذ صحيح؛ لأن الكل قد اتفقوا على هذا الحكم مع خلفهم في هذه المسألة، وفي مسألة اقتداء المفترض بالمتنقل..".
كما نقل في المسودة عن ابن عقيل أنه صرح بأن مأخذ شيخه أبي يعلى مأخذ فاسد.
وقد غلط أبو الخطاب شيخه أبا يعلى في وجه استدلاله هذا، وذلك في كتابه التمهيد في أصول الفقه الورقة "43/ب" حيث قال: "وهذا الاستثناء غلط؛ لأن المفترض يمنع أن يقتدى بمن هو متنفل في جميع صلاته؛ فأما إذا أدرك معه ما هو سنة في الصلاة؛ فلا يكون قد اقتدى بمتنفل عند الجميع؛ ولهذا لو أدركه في حال الافتتاح والاستعاذة وقراءة السورة، يكون قد أدركه وهو متطوع، ثم لا يقول أحد: إنه لا يصح اقتداؤه به.
وعلى أن عن أحمد في اقتداء المفترض بالمتنفل روايتين، فكيف يحمل قوله في هذه".
3 كلام المؤلف هذا، وجوابه عن دليل القائلين بالوجوب يفيدان بأنه اختار القول بأن الزيادة نفل.
لكن المرداوي في كتابه تحرير المنقول "12/ب" نقل عن المؤلف القولين وصرح ابن قدامة في كتابه "روضة الناظر" ص "20" بأن المؤلف اختار القول بالوجوب.
وذكر في "المسودة" ص "59" أن الحلواني حكى عن المؤلف القول بالوجوب، كما ذكر أن المؤلف اختاره في كتابه "العمدة".

(2/411)


وتركه من غير أن يقيم مقامه غيره، وهذا يمنعه وجوبه، ألا ترى أن النوافل لما كانت بهذه الصفة؛ لم تكن واجبة؟
ووجه من قال جميعه واجب أن قوله تعالى: {ارْكَعُوا} 1 يقتضي ما يتناوله اسم الركوع، وإن جاز الاقتصار على الجزء، كما أن من أذن لآخر في أن يتصدق من ماله بما شاء على زيد، فتصدق عليه بألف؛ جاز، وإن2 كان فاعلًا لما أمر به، وإن كان له أن يقتصر على قدر درهم واحد.
وكذلك قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 3، يعبر عن كل ما تيسر؛ وإن جاز الاقتصار على القليل، مثل من قال: "بع عبدي بما تيسر" ؛ جاز بيعه بما كان، وإن جاز له أن ينقص منه.
ولأن البناء كالابتداء؛ ولهذا لو حلف: لا يأكل ولا يلبس ولا يركب، فاستدام ذلك؛ حنث، كما لو ابتدأ، كذلك في مسألتنا.
والجواب: أن قوله: "اركعوا" يفيد أدنى ما يتناوله الاسم، ألا ترى أنه متى فعل هذا القدر سقط الفرض عن ذمته؛ فلم يجز الزيادة عليه إلا بدلالة، ويفارق هذا قوله لآخر: تصدق على فلان من مالي؛ لأن العادة [54/ب] جارية أنه متى أراد تقدير العطية؛ فإنه يبينه للمأمور، فلما
__________
1 "77" سورة الحج.
2 الواو هنا قلقة، وقد دأب على التعبير بها في مواطن كثيرة.
3 "20" سورة المزمل.

(2/412)


ترك ذكره دل أنه جعل الخيار إليه في ذلك، فكان انضمام العادة إلى الأمر هو الموجب لما ذكره دون اللفظ.
ولا يجوز أن يقال: البناء كالابتداء؛ لأن الابتداء إنما وقع واجبًا؛ لأنه ممنوع من تركه، ولما كان البناء مأذونًا في تركه من غير أن يقيمه مقام غيره لم يكن واجبًا.

(2/413)


مسألة اللفظ المتضمن للندب يدل على وجوب غيره
مدخل
...
مسألة 1 [اللفظ الذي يتضمن الندب يدل على وجوب غيره]:
نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "بالغ في الاستنشاق " 2: أنه يفيد وجوب الاستنشاق، وإن كانت صفة.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص "59"، وعنوان المسألة فيها: "إذا ورد الأمر بهيئة أو صفة لفعل، ودل الدليل على أنها مستحبة جاز التمسك به على وجوب أصل الفعل؛ لتضمنه الأمر به؛ لأن مقتضاه وجوبها..." وهو عندي أحسن وأوضح من عنوان المؤلف.
2 هذا الحديث صحيح رواه لقيط بن صبرة رضي الله عنه، أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في كراهته مبالغة الاستنشاق للصائم "3/146".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة باب في الاستنثار "1/31"، وفي كتاب الصوم باب الصائم يصب عليه الماء من العطش ويبالغ في الاستنشاق "1/552".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة باب المبالغة في الاستنشاق "1/57".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار "1/142".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده، كما في الفتح الرباني في كتاب الطهارة باب في المضمضة والاستنشاق والاستنثار "2/25-26".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/16".

(2/413)


وكذلك قوله صلى الله عليه [وسلم] في السعي بين الصفا والمروة: "اسعوا" 1 يفيد وجوب المشي بين الصفا...
__________
1 هذا الحديث روته حبيبة بنت أبي تجزئة رضي الله عنها. أخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده" من طريقين، وفي كل منهما "عبد الله بن المؤمل"، راجع الفتح الرباني في كتاب الحج باب وجوب الطواف بالصفا والمروة "76/12-77" .
وأخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب الحج باب السعي بين الصفا والمروة "2 /49-50" ، وفي إسناده عبد الله بن المؤمل أيضًا، وأخرجه عنها الدارقطني؛ إلا أنه سماها: حبيبة بنت أبي تجرأة، بالراء المهملة "255/2" .
وأخرجه عنها البيهقي "98/5" ، وفي إسناده ابن المؤمل كالدارقطني.
وأخرجه عنها الطبراني في الكبير كما حكى ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد "274/3" ثم قال بعد ذلك: "وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن حبان، وقال: يخطي، وضعفه غيره" .
وقد أخرجه عنها إسحاق بن راهويه، حكى ذلك الزيلعي في نصب الراية "55/3" كما حكى أن عدي أعل الحديث بابن المؤمل وأسند تضيعفه إلى أحمد والنسائي وابن معين. ووافقهم على ذلك.
وقال الحافظ في الفتح "498/3" : "أخرجه الشافعي وأحمد وغيرهما، وفي إسناد هذا الحديث عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف. ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب. قلت: له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة. وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى وإذا انضمت إلى الأولى قويت". وابن المؤمل هذا، قال فيه النسائي في كتابه الضعفاء والمتركين ص "63" : "ضعيف"، وبمثل قوله قال الدارقطني.
ونقل عن ابن معين من طريقين القول بضعفه، كما نقل عنه القول بأنه لا بأس به، عامة حديثه منكر، وروى عباس عنه قوله: إنه صالح الحديث.
وقال ابن عدي: "عامة حديثه الضعف عليه بين".
راجع في هذا: الميزان "510/2" .
وأخرجه الواقدي في مغازيه عن بنت أبي تجزئة، نقل ذلك الزيلعي في نصب

(2/414)


...........................................
__________
= الراية "3/57"، ومن طريق الواقدي أخرجه البيهقي في سننه "5/98" والواقدي قال فيه البخاري في كتابه "الضعفاء الصغير" ص104: "متروك الحديث".
وقال فيه أحمد: كذاب. وقال ابن معين: ليس بثقة. هكذا في الميزان "3/662-666".
وقال فيه النسائي في كتابه الضعفاء والمتروكين ص "93": "متروك الحديث". وروته تملك العبدرية رضي الله عنها. أخرجه عنها البيهقي في سننه "5/98"، كما أخرجه الطبراني في "الكبير"، نقل ذلك الزيلعي في نصب الراية "3/56"، وقال: تفرد به مهران بن أبي عمر، ومهران هذا: وثقه ابن معين وأبو حاتم. وقال النسائي: "ليس بالقوي". وقال فيه البخاري: "في حديثه اضطراب". انظر الميزان "4/196"، والضعفاء الصغير ص "111".
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد "3/148" عند كلامه على حديث العبدرية: "وفيه المثنى بن الصباح، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعفه جماعة".
وابن المثنى هذا: قال فيه النسائي في كتابه الضعفاء والمتروكين ص "99": "متروك الحديث".
وذكر الذهبي في المغني "2/541" أن ابن معين ضعفه، كما ذكر أن بعضهم مشاه.
ونقل البخاري في كتابه الضعفاء الصغير "112" عن يحيى قوله: "ولم نتركه من أجل عمرو بن شعيب، ولكن كان منه اختلاط في عقله".
وروته صفية بنت شيبة رحمها الله تعالى. أخرجه عنها الطبراني في الكبير، نقل ذلك الزيلعي في كتابه نصب الراية "3/57"، كما نقل عن الدارقطني قوله: "في هذا الحديث اضطراب كثير".
وفيه: المثنى بن الصباح، وقد مضى الكلام عنه.
وأخرجه الدارقطني في سننه من طريق آخر عن صفية بنت شيبة عن نسوة من بني عبد الدار أدركن النبي صلى الله عليه وسلم "2/255".
ونقل الزيلعي في نصب الراية "3/56" عن صاحب التنقيح قوله: "إسناد صحيح، و"معروف بن مشكان" باني كعبة الرحمن "أحد رواة الحديث" صدوق، لا نعلم من تكلم فيه، ومنصور هذا "أحد رواة الحديث أيضًا" مخرج له في الصحيحين".

(2/415)


والمروة1، وأن نطقه يفيد مشيًا على صفة هي السرعة.
وقد استدل أحمد رضي الله عنه على وجوب الاستنشاق بالحديث2 الذي ذكر فيه المبالغة، فقال رضي الله عنه في رواية الميموني وحنبل، واللفظ لحنبل: إذا نسي المضمضة قبل الاستنشاق يعيد الصلاة3؛ لقول
__________
1 اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله في حكم السعي بين الصفا والمروة في الحج:
أ- فقيل: هو ركن.
ب- وقيل: هو سنة، لا يوجب تركه شيئًا.
وقال القاضي أبو يعلى: هو واجب، واختاره الموفق ابن قدامة، وانتصر له.
انظر المغني لابن قدامة "3/349-350".
2 المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله: أن الاستنشاق واجب في الطهارتين الكبرى والصغرى، وقطع القاضي بأنها الرواية الوحيدة عن الإمام أحمد، وقد ذكر غيره رواية أخرى: أنها واجبة في الطهارة الكبرى، مسنونة في الصغرى.
انظر: المغني لابن قدامة "1/120".
والرواية الأولى من مفردات الإمام أحمد، كما صرح بذلك البهوتي في كتابه: "منح الشفاء والشافيات في شرح المفردات" ص "33-34".
3 هذه الرواية رواها أبو داود في مسائله ص "7"، ونصها: "سئل -أي الإمام أحمد- عمن نسي المضمضة والاستنشاق حتى صلى؟ قال: يمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة. قلت: لا يعيد الوضوء؟ قال: ليس هذا من فرض الوضوء".
ونصها في رواية صالح في مسائلة الورقة 5 هكذا: "سألت أبي عمن نسي المضمضة والاستنشاق حتى يصلي؟ قال: يعيد المضمضة والاستنشاق ويعيد الصلاة". وقد أوردها صالح في الورقة ص "9" بأوضح مما سبق حيث قال: "قلت: رجل نسي المضمضة والاستنشاق وصلى؟ قال: يعيد الصلاة. قلت: يعيد الصلاة ويعيد الوضوء؟ قال: لا، ولكن يمضمض ويستنشق".

(2/416)


النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استنشقت فانتثر" 1.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يدل ذلك على الوجوب، حكاه الجرجاني.
__________
1 هذا الحديث رواه سلمة بن قيس رضي الله عنه مرفوعًا: أخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في المضمضة والاستنشاق "1/40" بلفظ: "إذا توضأت فانتثر، وإذا استجمرت فأوتر" ، وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة باب الأمر بالاستنثار "1/58"، ولفظه كلفظ الترمذي.
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار "1/142-143".
راجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/16"، وتيسير الوصول: "2/310".

(2/417)


دليلنا:
أن الأمر يتناول شيئين أحدهما الاستنشاق، والثاني المبالغة؛ لأن المبالغة لا تحصل إلا بوجود الاستنشاق، وكذلك السعي لا يحصل إلا بوجود المشي؛ فسقوط أحدهما لا يوجب سقوط الآخر، كالعموم إذا خص.
وذهب المخالف إلى أن نفس المنطوق به هو المبالغة، وهو السعي، وذلك غير واجب؛ فلم يجب مدلوله.
والجواب: أنا قد بينا أن الأمر اقتضى أمرين.

(2/417)


مسألة 1 [المذكور متى جعل دلالة على نفس عبادة]:
فإن ذلك دلالة على وجوبه فيها.
وذلك مثل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفَجْرِ} 2، لما دل على صلاة الفجر؛ فهم وجوبه فيها.
وكذلك قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ 3 } فلما نبه بذكر الحلق على الإحرام؛ كان ذلك واجبًا فيه. وكذلك قوله4: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 5، لما دل على الصلاة؛ كانا واجبين فيها؛ لأن الشيء يجعل دلالة على الغير متى كان مقصودًا في نفسه مطلوبًا منه، وهذه الأمور مقصودة من هذه العبادات مرادة فيها.
ولأن العادة جارية أن ذكر معظم الشيء يجعل دلالة على باقيه، ولا يجعل الجزء منه دلالة عليه؛ فكان ذكر الشيء على وجه الدلالة على غيره تنبيها على كونه بعضًا منه.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص "60" ، وتحرير المنقول الورقة "12/ب" .
2 "78" سورة الإسراء.
3 "27" سورة الفتح.
4 "قوله" مكررة في الأصل.
5 "77" الحج.

(2/418)


مسألة 1 [ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب]:
إذا أمر الله تعالى [عبده] بفعل من الأفعال وأوجبه عيله، وكان المأمور لا يتوصل إلى فعله إلا بفعل غيره؛ وجب [55/أ] عليه كل فعل لا يتوصل إلى فعل الواجب إلا به2.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"60"، وتحرير المنقول للمرداوي الورقة "12/ب"، وروضة الناظر ص "19-20"، وشرح الكوكب المنير ص "112".
2 يفهم من ثنايا كلام المؤلف رحمه الله: محل النزاع، ولكنه غير مدرك بصورة واضحة، ولتوضيحه نقول:
ما لام يتم المأمور إلا به على صورتين:
الأولى: ما لا يتم الوجوب إلا به؛ فليس بواجب، حكاه المرداوي في تحرير المنقول الورقة "12/ب" إجماعًا.
الثانية: ما لا يتم الواجب إلا به، وذلك على قسمين:
الأول: غير مقدور للمكلف؛ فليس بواجب عند الحنابلة.
الثاني: مقدور للمكلف؛ فواجب عندهم، حكاه المرداوي والموفق ابن قدامة وأبو البقاء الفتوحي.
وهناك طريق أخرى للتقسيم تابع ابن قدامة الغزالي فيها.
كما أن هناك طريق ثالثة سكلها أحد آل تيمية في "المسودة".
انظر: المراجع السابقة في أول المسألة.
وما لا يتم المأمور إلا به؛ إما أن يدخل في هيئة المأمور به أو لا؛ فإن كان داخلًا؛ فلا خلاف في كونه داخلًا في المأمور به.
وإن كان خارجها؛ فإما أن يكون سببًا أو شرطًا، وكل منهما، إما شرعي أو عقلي أو عادي، وفي كل ذلك خلاف. أفاده أبو البقاء الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" ص "112"، والمرداوي في تحرير المنقول الورقة "12/ب".

(2/419)


وذلك مثل أن يجب عليه أن يتطهر للصلاة، ولا يمكنه أن يتطهر إلا بشراء الرشاء واستقاء الماء؛ فيلزمه الشراء والاستقاء؛ لأنه يلزمه فعل الواجب عليه إذا كان له طريق إليه، فلا يجوز له تركه مع الإمكان، وهو في الحال متمكن على هذا الوجه؛ فلهذا لزمه.
ولهذا قال1 أصحابنا: إذا وجد الماء بأكثر من ثمن مثله، بزيادة لا تجحف بماله؛ لزمه شراؤه2.
فإن قيل: فيجب أن توجبا عليه اكتساب الاستطاعة لفعل الحج، واكتساب النصاب ليؤدي الزكاة.
قيل: ذلك شرط في الوجوب دون الفعل، ولا يجب عليه أن يفعل ما يوجب به العبادة على نفسه، وليس كذلك ههنا، فإنه معنى لا يتوصل إلى أداء الواجب عليه إلا به؛ فلزمه فعله.
ولهذا قال أصحابنا في المفلس: إذا كانت له حرفة؛ لزمه أن يكتسب،
__________
1 في الأصل: "فقال".
2 زيادة ثمن الماء على ثمن المثل على حالتين:
الأولى: أن تكون الزيادة يسيرة، مع استغنائه عن الثمن؛ ففي هذه الحالة يجب عليه شراء الماء.
الثانية: أن تكون الزيادة كثيرة، ولها صورتان:
الأولى: أن تكون مجحفة بماله؛ فلا يلزمه الشراء.
الثانية: أن تكون غير مجحفة، فعلى وجهين:
الوجه الأول: يلزمه الشراء؛ لأنه واجد للماء، وقادر عليه.
الوجه الثاني: لا يلزمه الشراء؛ لأن فيه ضررًا عليه بالزيادة.
أفاد ذلك ابن قدامة في كتابه المغني "1/221".

(2/420)


ويقضي دينه1؛ لأنه يتوصل بذلك إلى أداء الواجب2.
__________
1 هذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. والرواية الأخرى: أنه لا يجبر على التكسب.
انظر: المغني لابن قدامة "4/400-4001" .
2 لم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى الاختلاف في المسألة، ولا دليل للمخالف، كما هي عادته، وإنما اكتفى بذكر اعتراض للمخالف مع الرد عليه.

(2/421)


مسألة 1 [هل تتوقف أوامر الله لعباده على المصلحة]:
الأمر لا يقف على المصلحة، وقد يجوز أن يأمر بما لا مصلحة للمأمور فيه؛ ولكن التكليف منه إنما يقع على وجه المصلحة.
خلافًا للمعتزلة في قولهم: يقف على المصلحة2.
والكلام في ذلك مبني على أصول:
أحدها: أنه يجوز أن يأمر بما لا يريد، وما لا يريده لا مصلحة فيه.
وقد دل على هذا الأصل: أمره لإبراهيم بذبح ولده، ولم يرد وجوده منه؛ لأنه نهاه عن فعله، وفداه بالكبش.
الأصل الثاني: أنه لا يجب عليه فعل الأصلح في خلقه، وإذا لم يجب عليه ذلك؛ لم يقف أمره على المصلحة؛ لأنها غير واجبة عليه.
وقد دل على هذا الأصل: أنه لو وجب عليه فعل الأصلح؛ لم يستحق
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"63-65"، و "شرح الكوكب المنير" ص"96".
2 راجع في هذا المعتمد لأبي الحسين البصري "1/178-179".

(2/421)


الثناء والمدح؛ لأنه فعل ما يجب عليه فعله. ولما أجمعنا على أنه يستحق ذلك؛ علم أنه لا يجب عليه ذلك، وإنما يفعله تفضلًا.
والأصل الثالث: أن من قال: يقف الأمر على المصلحة؛ بناه على أصل، وهو: أنه يقبح في العقل أن يأمر بما لا مصلحة فيه.
ونحن نبينه على هذا الأصل، وأن1 العقل لا يقبح ولا يحسن2، وإذا لم يدل ذلك لم يقف على المصلحة؛ إذ ليس هناك ما يمنع من ضد المصلحة.
وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3 فأخبر أنهم آمنون من العذاب قبل بعثة الرسل إليهم، فعلم أن الله تعالى لم يوجب على العقلاء شيئًا من جهة العقل؛ بل أوجب ذلك عند مجيء الرسل.
وقوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ
__________
1 هكذا في الأصل: "وأن" والإتيان بالواو هنا تعبير درج عليه المؤلف؛ وإلا فالكلام لا يستقيم إلا بحذفها.
2 كون العقل لا يقبح، ولا يحسن، ولا يوجب، ولا يحرم، قول الإمام أحمد وأكثر الأصحاب، ومن أقوال الإمام أحمد في هذا، "ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقل؛ وإنما هو الاتباع" .
وقد ذهب بعض الحنابلة إلى أن العقل يقبح، ويحسن، ويوجب، ويحرم؛ منهم: أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وابن القيم.
ونقل عن الشيخ تقي الدين قوله: "الحسن والقبح ثابتان، والإيجاب والتحريم بالخطاب، والتعذيب متوقف على الإرسال" .
راجع: "شرح الكوكب المنير" ص "96" .
3 "15" سورة الإسراء.

(2/422)


لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1؛ فلو كان العقل حجة عليهم، لما قال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} بل كان الواجب [55/ب] أن يقول: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد العقل؛ ولما لم يقل هذا؛ ثبت أن العقل لا تأثير له في ذلك.
ويدل على هذه المسألة من غير بناء على أصل: أن الله تعالى أمر إبراهيم بالذبح ومنعه منه قبل وقوع الفعل؛ فلو كان أمره بالذبح مصلحة؛ لم ينهه عن فعله قبل فعله؛ فلما نهاه عنه؛ علمنا أنه لم يكن له مصلحة في ذلك الأمر.
ويدل عليه أيضًا: اتفاق الجميع على أنه قد يأمر من قد سبق في علمه أنه لا يفعل ما أمر به، كأمره للكفار بالإيمان، وقد علم أنهم لا يؤمنون، ومعلوم أنه لا مصلحة لهم في هذا الأمر؛ لأن تركه لا يوجب عليهم مأثمًا؛ لأنه لا يوجد من جهتهم مخالفة، وبالأمر يحصل منهم مخالفة، فيستحقوا على ذلك العذاب، فكان ترك الأمر أنفع لهم منه. وجرى هذا مجرى من علم من حاله أنه متى دفع إليه سيفًا يقاتل به؛ قتل به نفسه؛ فإن المصلحة له أن لا يعطيه شيئًا، وكذلك من علم من حاله أنه متى سافر قطع عليه وقتل، ولم يصل إلى ربح، كان الأصلح له ترك ذلك. وهذه طريقة جيدة على هذه المسألة2.
__________
1 "165" سورة النساء.
2 في "المسودة" ص "64" تحرير لمحل النزاع، حيث جاء فيها: "... وذلك أن عندنا للأمر بالشيء لمصلحة ثلاث جهات:
أحدهما: نفس الأمر بقيد الاعتقاد والعزم.
وثانيها: الفعل من حيث هو مأمور به تعبدًا وابتلاءً وامتحانًا.
وثالثها: نفس الفعل بما اشتمل عليه من المصلحة.
والمعتزلة تنكر القسمين الأولين. فعلى هذا يجوز أن يأمر بفعل لا مصلحة فيه، بل في الأمر والتكليف به.
الثاني: أنه يجوز أن يأمر العبد بما لا مصلحة فيه، على تقدير المخالفة، فتكون المصلحة في الفعل -لو وقع- لا مصلحة للعبد في نفس تكليفه؛ كالأمر بالإيمان، وهذا مما لا يختلف أهل الشرائع فيه.
الثالث: أنه يجوز أن يأمر بما لا مصلحة فيه على تقدير الموافقة، بمعنى: أن العبد لو فعل المأمور به؛ لم تكن له فيه مصلحة، فهذا جائز لله؛ لأنه يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، خلافًا للمعتزلة "في قولهم": هو غير جائز له..

(2/423)


وقد ذكر بعضهم طريقة في هذا فقال: قد أمر الله تعالى بالدعاء، ولا مصلحة في ذلك على قول المخالف؛ لأن الداعي إن كان عاصيًا؛ لم ينفعه دعاؤه؛ لأنه قد استحق الخلود في النار، وإن كان طائعًا؛ لم ينفعه دعاؤه؛ لأنه قد استحق الثواب الدائم بالطاعة.
وهذه طريقة لينة؛ لأن الأمر بالدعاء يفيد على قولهم زيادة في الآخرة، كما أن تكليفه عبادة بعد عبادة يفيد زيادة في الآخرة.
وبناء المخالف الكلام في هذه المسألة على الأصول التي ذكرناها. والكلام معه في تلك الأصول.
سؤال: إن قيل: هل يجوز أن يقول: افعل ما أردته منك إن لم أكرهه؟
قيل: لا يجوز؛ لأنه قد قام الدليل على قدم إرادته، وكونه لم يزل مريدًا لما أراده، واستحالة كونه كارهًا له بعد إرادته؛ فلم يجز اشتراط ذلك، ذكر هذا السؤال أبو بكر، ومنع منه1.
__________
1 الحقيقة أن هذه المسألة من المسائل العويصة، ولكن المؤلف رحمه الله رسم الخطوط العريضة لها.
وبقي عليه مسألة، لم يتعرض لها، وهي: جواز وقوع الأوامر لغير مصلحة، فنفاه الأكثرون من السلف والخلف.
وذهبت طائفة إلى جواز خلو المشروعات عن المصالح، وهؤلاء على طرفي نقيض مع المعتزلة.
راجع: "المسودة" ص"64-65".

(2/424)