العدة في أصول الفقه

باب النواهي
صيغة النهي
مدخل
...
باب النواهي
مسألة 1 [صيغة النهي]:
للنهي صيغة مبنية تدل بمجردها عليه، وهو قول القائل لمن دونه: "لا تفعل" ؛ كالأمر سواء.
نص عليه الإمام رضي الله عنه في رواية عبد الله فقال: "ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمنه أشياء حرام، مثل نهيه أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها2،
__________
1 راجع هذه المسألة: في كتاب التمهيد في أصول الفقه الورقة "47/ب"، والمسودة ص"80".
2 هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها عن جابر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما "7/15".
وأخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح عن أبي هريرة رضي الله عنه "2/1029-1030".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء "1/476".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها "3/424".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وخالتها "6/80-81".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها "1/621".
وأخرجه عنه الطيالسي في أبواب الأنكحة المنهي عنها، باب تحريم الجمع بين المحارم "1/308".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/169-170".

(2/425)


ونهى عن جلود السباع أن تفترش1؛ فهذا حرام. ومنه أشياء نهى عنها نهي أدب".
خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يكون [56/أ] نهيًا لصيغته؛ وإنما يكون نهيًا بإرادة الناهي كراهية المنهي عنه.
وخلافًا للأشعرية في قولهم: لا صيغة له؛ وإنما هو معنى قائم في النفس.
والكلام في هذا كالكلام في الأمر سواء، وقد دللنا بما فيه كفاية.
ويدل عليه أيضًا إجماع الصحابة؛ فإنهم كانوا يرجعون إلى ظواهر النواهي في ترك الشيء.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو المليح عن أبيه عن الني صلى الله عليه وسلم مرفوعًا أخرجه عنه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في النهي عن جلود السباع "4/241"، بمثل لفظ المؤل فمرة، ومرة لم يذكر قوله: "أن تفترش".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الفرع والعتيرة، باب النهي عن الانتفاع بجلود السباع "7/156".
والحديث روي مسندًا ومرسلًا، والمرسل أصح كما قال الترمذي فيما سبق، والمناوي في: فيض القدير "6/328".

(2/426)


من ذلك قول ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر أربعين عامًا، لا نرى بذلك بأسًا، حتى أتانا رافع فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، فانتهينا بقول رافع"1. وغير ذلك من الظواهر.
ولأن السيد إذا قال لعبده: لا تفعل كذا، ففعل؛ صلح أن يعاقبه عليه.
وقد ورد لفظ: "لا تفعل" في القرآن على وجوه:
منها: ما ورد على وجه الرغبة والسؤال، مثل قوله: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} 2.
ومنها: ما ورد بلفظ التقرير مثل قوله: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} 3.
وقد ورد على وجه التحذير، مثل قول القائل لعبده: الآن قد أمرتك، لا تفعل4.
وورد على وجه الاستقلال، مثل أن يقول: لا تكلمني، فإنك لست بأهل للكلام5 ولا موضعًا له.
ويرد لتسكين النفس مثل قوله: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} 6.
ويرد على وجه الأمان من الخوف، مثل قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} 7.
__________
1 هذا الحديث سبق تخريجه.
2 "286" سورة البقرة.
3 "76" سورة الكهف.
4 في الأصل: "فلا تفعل"، والتصويب من الناسخ في هامش الأصل نقلًا عن ابن حمدان.
5 في الأصل: الكلام.
6 "76" سورة يس.
7 "7" سورة التحريم.

(2/427)


وورد للعظة، مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 1، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} 2، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 3 {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} 4.
__________
1 "29" سورة النساء.
2 "31" سورة الإسراء.
3 "32" سورة الإسراء.
4 "61" سورة طه.

(2/428)


مسألة 1 [النهي المطلق يقتضي الفور والتكرار]:
والنهي يقتضي المبادرة إلى ترك المنهي عنه على الفور، كالأمر، وأنه يقتضي التكرار كالأمر سواء.
وقال أبو بكر ابن الباقلاني: لا يقتضي التكرار، كالأمر، ولا يقتضي الفور.
وما ذكرناه في الأوامر فهو دلالة في النهي، فلا وجه لإعادته.
ولأن الواحد من أهل اللغة متى قال لعبده: لا تدخل هذه الدار، فترك المأمور دخولها ساعة، ثم دخلها استحق الذم عند سائر العقلاء؛ فدل على أنه يقتضي التكرار.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"81" ، وشرح الكوكب المنير ص"342-343" من الملحق.

(2/428)


مسألة النهي عن أشياء بلفظ التخيير يقتضي المنع من أحدها
مدخل
...
مسألة 1 [النهي عن أشياء بلفظ التخيير يقتضي المنع من أحدها]:
النهي إذا تعلق بأحد أشياء بلفظ التخيير، مثل: أن لا تكلم زيدًا أو
__________
1 راجع هذه المسألة في التمهيد لأبي الخطاب الورقة "48/ب"، والمسودة ص"81"، وشرح الكوكب المنير ص"343" من الملحق.

(2/428)


عمرًا؛ فإنه يقتضي المنع من كلام أحدهما على وجه التخيير، على ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه في رواية البغوي: كل ما في كتاب الله تعالى "أو" فهو على التخيير.
خلافًا للمعتزلة في قولهم: إنه يقتضي المنع من كليهما1 جميعًا2، وهو اختيار الجرجاني.
وقال أبو بكر ابن الباقلاني: يقتضي المنع من كلام أحدهما على وجه التخيير.
__________
1 في الأصل: "كلاهما".
2 راجع: "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/182-183".

(2/429)


دليلنا:
أن النهي كالأمر في باب الكف، ثم ثبت أنه لو قال: تصدق بدرهم أو دينار؛ لم يجب الجمع بينهما، كذلك النهي1.
__________
1 في الأصل: "الأمر"، وقد ذكر الناسخ في هامش الأصل: أن ابن حمدان صوبه بما أثبتناه.

(2/429)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} 1 [56/ب] معناه: ولا كفورًا2.
والجواب: أنا حملناه على الجمع بدليل.
__________
1 "24" سورة الإنسان.
2 ووجه الاستدلال من هذه الآية: أن الله تعالى نهى عن الطاعة للآثم وللكفور، مع أن الآية ذكرت ذلك بصيغة التخيير "أو".

(2/429)


واحتج: بأنا وجدنا أهل اللغة يقولون: لا تطع زيدًا أو عمرًا، المعنى: اتق طاعتهما؛ كأنه قال: لا تطع زيدًا ولا عمرًا.
والجواب: أنا لا نسلم بهذا.
واحتج: بأن في المنع منهما احتياطًا، حتى لا يواقع المحظور، ولهذا قلنا فيمن اشتبهت عليه جاريته بجارية1 غيره: أنه لا يطأ واحدة منهما.
والجواب: أنه يلزم عليه التخيير في الواجب؛ لأن فعل كل واحد منهما احتياطًا؛ لأنه بفعل أحدهما لا يأمن ترك واجب، ومع هذا لا يجب.
واحتج: بأن ما وجب تركه مع غيره؛ وجب تركه بانفراده.
والجواب: أنه يبطل بالجمع بين الأختين، يجب من ترك كل واحدة منهما مع وجود الأخرى عنده ولا يجب مع عدمها.
__________
1 في الأصل: "من جارية".

(2/430)


مسألة النهي عن شيء له ضد واحد أمر بضده
مدخل
...
مسألة 1 [النهي عن شيء له ضد واحد أمر بضده]:
إذا ورد النهي عن فعل شيء له ضد واحد كان أمرًا بضده من جهة المعنى، نحو قوله: {لاَ تَكْفُرْ} 2 يكون أمرًا بضده، وهو الإيمان.
وإذا كان للمنهي عنه أضداد، تضمن ذلك أمرًا بضد واحد من الأضداد، كقوله: لا تسجد.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "العمدة في أصول الفقه للؤلف الورقة "1/ب" ، والتمهيد لأبي الخطاب الورقة "48/أ" ، والمسودة ص"81-82" .
2 "102" سورة البقرة.

(2/430)


دليلنا:
أنه إذا نهى عن فعل شيء؛ تضمن ذلك وجوب الكف عنه، ولا يمكنه الكف عنه إلا بفعل واحد من الأضداد؛ فثبت أن النهي عنه تضمن واحدًا من أضداده لا محالة، ألا ترى أنه لا يتوصل إلى ترك الحركة إلا بفعل ضدها من السكون؛ فصار كأنه ترك الحركة بالسكون، فتضمن ذلك إيجاب فعله عليه.
ويبين صحة هذا ما ذكرناه: أن الأمر بالشيء؛ أمر بما لا يتم إلا به، ولهذا جعل الأمر بالطهارة والأمر بالكفارة، لكن بطلب ما يتوصل به إليه.

(2/431)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن اللفظ يصح وروده مقترنًا بذكر إباحة جميع أضداده؛ فلو كان النهي يتناول ذلك؛ لم يجز نفيه بما يقترن به.
والجواب: أنا لا نسلم هذا، وإنما يصح أن يرد بإباحة بعض أضداده، لا جميعها.

(2/431)


مسألة إطلاق النهي يقتضي الفساد
مدخل
...
مسألة 1 [إطلاق النهي يقتضي الفساد 2 ]:
وقد قال أحمد رضي الله عنه في رواية3 أبي القاسم إسماعيل بن عبد الله بن ميمون العجلي4 في الشغار5:
يفرق بينهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 راجع هذه المسألة في: العمدة في أصول الفقه للمؤلف الورقة "1/ب"، والواضح في أصول الفقه الجزء الثاني الورقة "40-48"، والتمهيد في أصول الفقه الورقة "48"، والمسودة ص"82-83"، وشرح الكوكب المنير ص"339-343" من الملحق، وروضة الناظر ص"113-115".
2 وهذا مذهب جماهير العلماء من الحنابلة والشافعية، والمالكية والحنفية وبه قالت الظاهرية، وهو قول بعض المتكلمين.
راجع في هذا بالإضافة للمراجع السابقة: الإحكام للآمدي "2/175"، وشرح تنقيح الفصول للقرافي ص"173"، وشرح الجلال على جمع الجوامع "1/393"، وتيسير التحرير "1/376-377".
3 نقل ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة أبي القاسم العجلي "1/105" هذه الرواية.
4 من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقلوا عنه بعض المسائل التي أفتى فيها، انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "1/105".
5 الشغار في اللغة: خلو المكان بعد أن كان مشغولًا. ومنه: شغرت البلد إذا خلت من ساكنيها، وشغر الكلب إذا رفع أحد رجليه ليبول.
راجع مادة: "شغر" في المصباح المنير "1/483"، ومختار الصحاح ص"363".
والشغار عند الحنابلة كما يقول الخرقي في مختصره ص"138": "إذا زوجه وليته، على أن يزوجه الآخر وليته؛ فلا نكاح بينهما، وإن سموا مع ذلك مهرًا أيضًا".
وأما ابن قدامة في كتابه المغني "7/100" فيحكي: أن النصوص عن أحمد رحمه الله تفيد أنه إذا سمي صداقًا صح العقد.

(2/432)


قد نهى عنه1، وقال: أرأيت لو تزوج امرأة أبيه؛ أليس قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2.
وقال رضي الله عنه في رواية أبي طالب وقد سئل عن بيع الباقلا3 [57/أ] قبل أن تحمل وهو ورد، فقال: [نهى] النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها4، هذا بيع فاسد، وهو قول جماعة الفقهاء.
__________
1 كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صداق.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب الشغار "7/15".
وأخرجه مسلم في كتاب النكاح باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه "2/1034".
وأخرجه الترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء في النهي عن نكاح الشغار "3/422"، ولم يذكر في الحديث تفسير الشغار.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب النهي عن الشغار "1/606".
وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح باب في الشغار "1/479".
وأخرجه النسائي في كتاب النكاح باب تفسير الشغار "6/92".
2 "22" سورة النساء.
3 الباقلا، إذا شددت اللام صارت مقصورة، وإذا خففت صارت ممدودة.
انظر: مادة "بقل" في مختار الصحاح ص"73"، والمصباح المنير "1/93-94".
4 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها "3/95"، وفي باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها "3/96".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب البيوع باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها "3/1165".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها "2/226-227".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها "2/746-747".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع باب بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحها "7/230".
وأخرجه عنه مالك في الموطأ في كتاب البيوع باب النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها "30/260".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "4/5-6"، وفيض القدير "6/206"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"443".

(2/433)


خلافًا للمعتزلة1 والأشعرية في قولهم: لا يقتضي فساد المنهي عنه بإطلاقه2.
__________
1 هكذا هو في "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/184"، إلا أن أبا الحسين البصري اختار قولا آخر هو: "أنه يقتضي فساد المنهي عنه في العبادات، دون العقود والإيقاعات".
2 وقد اختار القول بعدم الفساد إمام الحرمين والقفال، كما حكاه الآمدي في "الإحكام": "2/175"، وكذلك الغزالي في المستصفى "2/25" وإن كان في المنخول ص"126" قد اختار العكس.

(2/434)


دليلنا:
ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد" ، وفي بعض الألفاظ: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه؛ فهو رد" . وروى: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد" 1.
__________
1 حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه البخاري في كتاب الصلح، =

(2/434)


فإن قيل: معنى الرد: أنه غير مقبول، والقبول من الله تعالى هو الإثابة عليه، ونحن نقول: إنه لا يثاب على فعله.
قيل: الرد يحتمل ذلك، ويحتمل الإبطال والإفساد، كما يقول: رد فلان على فلان، إذا أبطل قوله وأفسده، فوجب حمله عليهما.
وأيضًا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة إلا بطهور" 1،
__________
= باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود "3/228"، بمثل لفظ المؤلف الأول.
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور "3/1343-1344" بمثل لفظ المؤلف الأول، وبمثل لفظه الثاني.
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة "2/506"، بمثل لفظ المؤلف الثاني.
وأخرجه عنها ابن ماجه في مقدمة سننه، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه "1/7"، بمثل لفظ المؤلف.
وأخرجه عنها الإمام أحمد في مسنده "6/146" بمثل لفظ المؤلف الأول.
وأخرجه عنها الطيالسي في مسنده في كتاب العلم، باب التحذير من الابتداع في الدين "1/40"، بلفظ: "من فعل في أمرنا ما لا يجوز، فهو رد" .
1 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة "1/204".
وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور "1/5-6".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور "1/100"، كما أخرجه عن أبي المليح عن أبيه مرفوعًا.
وعن ابن عمر أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الطهارة باب ما جاء في فضل الوضوء، وأن الصلاة لا تقبل بدونه "1/49". وعن أبي المليح عن أبيه مرفوعًا أخرجه النسائي في كتاب الطهارة باب فرض الوضوء "1/75" بلفظ: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور..." .
وعنه أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب فرض الوضوء "1/14" بمثل لفظ النسائي.
وانظر في هذا الحديث: فيض القدير "6/415"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"57".

(2/435)


و "لا نكاح إلا بولي" 1 و "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" ، ومعلوم أنه لم يرد بذلك نفس الفعل؛ لأن الفعل لا يمكن رفعه، وإنما أراد نفي حكمه، فاقتضى ذلك أن الفعل إذا وجد على الصفة المنهي عنها؛ لم يكن له حكم، وكان وجوده كعدمه؛ فيكون الفرض باقيًا على حالته؛ فوجب الإتيان به.
وأيضًا: فإن الصحابة رضي الله عنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها.
فمن ذلك: احتجاج ابن عمر في فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} 2.
__________
1 هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا، في كتاب النكاح باب ما جاء لا نكاح؛ إلا بولي "3/398-402"، وقال: حديث فيه اختلاف.
وعنه أخرجه أبو داود في كتاب النكاح باب في الولي "1/481".
وعنه أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح إلا بولي "1/605".
وعنه أخرجه الدارمي في كتاب النكاح باب النهي عن النكاح بغير ولي "2/62".
وعنه أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب النكاح باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" ، وما جاء في العضل "1/305".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/183-184"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"539".
2 "221" سورة البقرة.

(2/436)


وكذلك احتجاجهم في إفساد عقود الربا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، وإلا سواء بسواء عينًا بعين يدًا بيد" 1. وما أشبه ذلك؛ [فلو] كان إطلاقه لا يفيد الفساد؛ لم يرجعوا إلى ظاهر الكلام.
فإن قيل: إنما رجعوا إلى ذلك لدلالة مقترنة إلى هذه الألفاظ دلت في الحال على ذلك.
قيل: لو كان الذي يفيد الفساد دلالة غير اللفظ لطالب بعضهم من بعض حال ورود المنازعة، ولكانت تنقل ذلك للعصر الثاني والثالث حتى لا يؤدي إلى تضييع الشرع.
__________
1 هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب "المساقاة" باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "3/1211".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل "3/532"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع باب في الصرف "2/222-223".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع باب بيع البر بالبر، وباب بيع الشعير بالشعير "7/240-243".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات باب الصرف، وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "2/757-758".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب البيوع باب النهي عن الصرف "2/174".
وأخرجه عنه الشافعي في كتاب البيوع باب جامع الأصناف يجري فيها الربا "2/177".
وراجع في هذا الحديث أيضا: نصب الراية "4/35-36"، وفيض القدير "3/570-572"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"450".

(2/437)


وأيضًا: فإن النهي يخرجه عن أن يكون شرعًا، والصحة والجواز من أحكام الشرع، فما أخرجه من أن يكون موافقًا للشرع وجب أن يخرجه من أن يكون موافقًا لحكمه.
ويعبر عن هذا بعبارة أخرى وهو: أن ما يفعل على وجه منهي عنه؛ لا يجوز أن يكون هو المفروض ولا المندوب والمباح؛ لأن المنهي عنه لا يكون مأمورًا به ولا مندوبًا؛ لاستحالة اجتماع الشيء وضده؛ فإذا لم يكن [57/ب] هو المأمور به لم يؤثر فعله في إسقاط حكم الأمر الآخر، فكان حكمه باقيًا عليه؛ فليزمه الإتيان به، وهذا معنى قولنا: النهي يقتضي الفساد، ولهذا قال أصحابنا: النهي إذا كان لمعنى في غير المنهي عنه؛ وجب فساد المنهي عنه أيضًا للمعنى الذي ذكرنا.
وأيضًا فإن الأمر يدل على الصحة والجواز، فوجب أن يدل النهي على البطلان والفساد؛ لأن النهي ضد الأمر، فما أفاده الأمر في المأمور؛ يجب أن يفيد النهي ضده في المنهي، ولهذا لما أفاد الأمر وجوب الفعل، أفاد النهي وجوب الترك.
وأيضًا: فإن النهي متعلق بصفة، وعدمها شرط في الفعل؛ فإذا فعله بطل لعدم الشرط.
وبيان هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" 1.
__________
1 هذا الحديث رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم كتاب النكاح باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته "2/1030-1031".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم "3/190-191"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك باب المحرم يتزوج "1/427". =

(2/438)


ظاهر النهي لأجل إحرامه، ولأن الإحلال شرط في صحة العقد، وهذا على أصلنا في القول بدليل الخطاب؛ لأنه إذا قال: لا ينكح المحرم، يدل على أن المحل ينكح، ويكون الإحلال شرطًا في صحته.
فإن قيل: هذا لا يدل على أن عدم الصفة شرط في صحة الفعل؛ وإنما يدل على أنه شرط في إباحة الفعل.
قيل: الأمر والإباحة يدلان على الصحة؛ لأن صاحب الشريعة إذا قال: أمرتك بأن تفعل النكاح في حال الإحلال؛ فإذا عقده؛ دل على أنه صحيح مجزئ؛ لكونه محلًا، وكذلك إذا قال: أبحت لك أن تفعل النكاح في حال الإحلال، فإذا عقده؛ كان صحيحًا لإحلاله.
__________
= وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج باب النهي عن النكاح المحرم "5/151".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح باب المحرم يتزوج "1/632".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب مناسك الحج باب في تزويج المحرم "1/368".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج "2/267".
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الحج باب نكاح المحرم "2/273".
وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب الحج باب في نكاح المحرم "1/213".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الحج باب ما جاء في نكاح المحرم وإنكاحه "2/18".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب مناسك الحج باب نكاح المحرم "2/268".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/170-171"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"387".

(2/439)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الدليل لا يجوز وجوده وليس معه مدلوله، وقد وجدنا في الشريعة نهيًا وتحريمًا يقارن الصحة والإجزاء؛ فدل على أنه لا يدل على الفساد،

(2/439)


وذلك مثل البيع في حال النداء، والطلاق في حال الحيض والوطء فيه، والذبح بالسكين المغصوبة، والصلاة في الدار المغصوبة، وفي السترة المغصوبة، والوضوء بالماء المغصوب، وإقامة الحد بالسوط المغصوب، وما أشبه ذلك؛ فإنه يقع موقع الجائز مع كونه محرمًا منهيًا عنه.
والجواب: أن هذا لا يمنع وجوده، ولا يقتضي الفساد، كما لم يمنع وجوده ولا يقتضي التحريم، وقد ثبت أن إطلاق النهي يقتضي التحريم، وإن دل الدليل على أنه لا يوجب الفساد.
فإن قيل: إن دل الدليل على أنه لا يوجب التحريم؛ خرج من أن يكون نهيًا.
قيل: لا يوجب خروجه من أن يكون نهيًا، كما لا يجب أن يخرج الأمر بسقوط وجوبه -بدليل- من أن يكون أمرًا، وعلى أن هناك دليلًا1 دل على الفساد، ولم يدل الدليل على غيره.
وأجاب [58/أ] بعضهم عن هذا بجواب آخر فقال: المفعول على هذا الوجه في المواضع التي ذكروها؛ لم يتضمنه الأمر الأول، إلا أن الله تعالى أسقط موجب الأمر عن2 المكلف بمثل هذا الفعل، كما يسقط عنه بالعجز.
واحتج بأن الفساد صفة زائدة لا يقتضيها لفظ النهي؛ فلم يجز إثباتها به.
والجواب: أن هذا باطل بالتحريم؛ فإنه صفة زائدة، لا يقتضيها النهي، وقد أثبتها باللفظ.
__________
1 في الأصل: "دليل" بالرفع.
2 في الأصل: "من".

(2/440)


ثم لا نسلم أنه لا يقتضيها اللفظ؛ لأنا قد بينا أن النهي متعلق بصفة، وعدمها شرط في الفعل.
واحتج: بأنه لو كان إطلاق النهي يقتضي الفساد؛ لوجب -إذا صرف عن إطلاقه- أن يصير مجازًا.
والجواب: أنه إنما لم يصر1 مجازًا؛ لأنه قد حمل على بعض موجباته، وهو الكراهة؛ فلهذا لم يصر مجازًا، كالعموم إذا خص بعضه، وعلى أن هذا يبطل بالتحريم؛ فإنه إذا صرف عنه لا يصير مجازًا، وإن كان الإطلاق يقتضيه.
__________
1 في الأصل: "يصير".

(2/441)


مسألة النهي إذا تعلق بمعنى في غير النهي عنه دل على الفساد أيضا
مدخل
...
مسألة 1 [النهي إذا تعلق بمعنى في غير المنهي عنه دل على الفساد أيضًا]: 2
مثل: النهي عن البيع عند النداء، والصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب، والصلاة بماء مغصوب، وهذا ظاهر كلام أصحابنا رحمهم الله في بطلان الصلاة في هذه المواضع، وكذلك اختلافهم في الذبح بسكين غصب.
خلافًا لأكثر الفقهاء في قولهم: لا يدل ذلك على الفساد، وهو قول الأشعرية أيضًا.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"83"، و "شرح الكوكب المنير" ص"342" من الملحق.
2 وبهذا قال أكثر الحنابلة والمالكية والظاهرية، كما نقله الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" ص"342".
وأطلق القرافي المالكي القول بأنه يقتضي الفساد، كما في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"173".
وصرح الآمدي: بأنه لا يعرف من يقول بهذا القول غير مالك وأحمد في رواية عنه، صرح بذلك في كتابه: "الإحكام": "2/175".
وقد أفاض القول في هذه المسألة ابن حزم في كتابه: "الإحكام": "3/307-308".

(2/441)


دليلنا:
ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد" .
ولأن النهي عن الفعل على هذه الصفة يخرجه عن أن يكون شرعيًا، والصحة والجواز من أحكام الشرع، وهذا الفعل منهي عنه؛ فوجب أن يكون ذلك شرعًا.
ولأنه لا فرق بين أن يكون النهي لمعنى في المنهي عنه أو في غيره في توجه البطلان، بدليل أن شراء الصيد في حق المحرم، ونكاح المحرمة؛ باطل، وإن لم يكن النهي متوجهًا لمعنى في المنهي عنه، وإنما هو لمعنى آخر وهو الإحرام؛ كذلك لا يمتنع أن تفسد الصلاة في الدار المغصوبة لمعنى في غيرها، وهو تحريم الغصب، وكذلك بيع المحجور عليه منهي عنه لمعنى في العاقد لا في العقد، وهو فاسد.
فإن قيل: ما يختص العاقد والمعقود عليه يتعلق بالعقد ويرجع إليه.
قيل: فيجب أن يفسد بيع الحاضر للبادي؛ لأن النهي عن ذلك لمعنى في المتعاقدين.

(2/442)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن النهي لا يرجع إلى المنهي عنه، بدليل: أنه ممنوع من الجلوس في الدار [58/ب] في غير صلاة، وممنوع من لبس القميص وشرب الماء، وإذا لم يرجع النهي إليه؛ لم يؤثر فيها، كما لو صلى وعنده وديعة قد طولب

(2/442)


بها، فلم يسلمها مع سعة الوقت، أو طلق في الحيض، أو ذبح بسكين غصب، أو حد بسوط غصب، أو استام على سوم أخيه، أو توضأ بما يملكه في دار مغصوبة؛ فإن الوضوء صحيح، وإن كان ممنوعًا في هذه الحال.
والجواب: أنه إذا فرق بين الأمة وولدها في البيع؛ لم يصح عند الشافعي، وإن لم يكن ذلك لمعنى في العقد، وإنما هو لمعنى في المبيع، وهو ما يلحقهما من الحزن بالفراق، ثم هذا لا يصح؛ وذلك أنه ممنوع من الكون في الغصب، وذلك يتنوع أنواعًا، بعضه صلاة، وبعضه قعود، وبعضه قيام، وقد استوفيت الكلام على هذا في كتاب الصلاة.
وفي هذه المسألة طريقة أخرى، وهو: أن النهي راجع إلى شرط معتبر في العبادة؛ لأن الصلاة أفعال تفتقر إلى أكوان، وكذلك الحج، الوقوف فيه ركن يفتقر إلى كون في مكان؛ فإذا كان الكون الذي هو شرط: منهي عنه دل على الفساد، كما لو رجع النهي إلى نفسه، ألا ترى أنه لو صلى في ثوب نجس أو في وقت منهي عن الصلاة فيه، لم يصح؛ لأن النهي رجع إلى شرط معتبر، ولم يرجع إلى نفس الفعل الذي هو الاعتمادات، كذلك ههنا، وكذلك القعود لا فرق بين أن يرجع النهي إلى نفسه كأكل الربا، أو يرجع إلى شرط كالمبيع بشرط خيار مجهول، أو أجل مجهول في أنه باطل في الموضعين.
فإن قيل: الصلاة اعتمادات بفعلها في نفسها1، والنهي انصرف إلى اعتمادات في الأرض كالمنهي عن المأمور؛ فلا يصح؛ لأن الصلاة اعتمادات بفعلها في نفسها في مكان، إذ لا بد لتلك الاعتمادات التي هي
__________
1 في الأصل: "نفسه" وقد أتى المؤلف بالضمير بعد قليل، كما أثبتناه.

(2/443)


الركوع والسجود والجلوس من مكان، وما لا يتم الفعل إلا به؛ يحصل مأمورًا به.
فإن قيل: هو مأذون له في العرف من جهة صاحب الأرض.
قيل: لو كان كذلك؛ لم يكن مأثومًا في تلك الحال، ولوجب أن يحكم له بالثواب، كما إذا صلى فيها بإذن سابق.
فإن قيل: هو منهي عن الامتناع من رد الغصب؛ فهو فعل آخر غير الصلاة المأمور بها.
قيل: يبطل بالصلاة في ثوب نجس؛ فإنه منهي عن الامتناع من ترك النجاسة؛ لأن النجاسة طريقها التروك؛ فهو فعل آخر غير الصلاة المأمور بها على قولهم، ومع هذا فالصلاة باطلة.
فإن قيل: النهي عن القرب يدل على الفساد، ولا يدل على العقود1.
قيل: لا يصح؛ هذا [59/أ] لأنه خلاف إجماع الصحابة، وذلك أنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها2.
من ذلك احتجاج ابن عمر رضي الله عنه في فساد نكاح المشركات بقوله: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 3.
وكذلك احتجاجهم في فساد عقوبة الربا بقوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا التمر بالتمر، ولا
__________
1 هذا إشارة إلى قول ثالث في المسألة وهو: أن النهي يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات، وبه قال أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد": "1/184"، وقد مرت الإشارة إلى ذلك قريبًا.
2 في الأصل: "عنه".
3 "221" سورة البقرة.

(2/444)


الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح؛ إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد" ؛ فلولا أن إطلاقه يفيد فساد العقود، لم يرجعوا إلى ظاهر الكلام.
وكذلك أوجبوا فساد النكاح في العدة، وبيع ما ليس عنده، وإن لم يكن في هذه العقود قرب.
فإن قيل: لم يوجبوا إفساد البيع في وقت النداء.
قيل: روي عن ابن سلام1 في تفسيره بإسناده عن ابن عباس قال: "إذا أذن المؤذن يوم الجمعة حرم البيع". وتحريمه يدل على النهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
فإن قيل: البيع وقت النداء يؤدي إلى فوت الصلاة عن وقتها، وهذا لا يدل على الفساد.
قيل: بل يدل عليه، ألا ترى أن الصائم منع من القبلة إذا كانت تحرك شهوته؛ لأنه يعود بفساد العبادة؛ فلو وجد تحريك الشهوة والإنزال لفسد الصوم، [فـ]كان يجب إذا وجد فوات الجمعة أن يفسد البيع.
فإن قيل: إنما منع من خطبة الرجل على خطبة أخيه؛ لما فيه من وحشة الإخوان، وبيع الحاضر؛ لما فيه من إدخال الضرر على الناس؛ لما فيه من إغلاء الأسعار.
قيل: هذا لا يمنع فساد البيع، بدليل المنع من التفريق بين الوالدة
__________
1 هو يحيى بن سلام بن ثعلب بن زكريا البصري، الثقة الثبت، له علم بالكتاب والسنة واللغة العربية، نزل المغرب، وسكن إفريقية. روى عن حماد بن سلمة وهمام بن يحيى وغيرهما. له كتاب في التفسير. مات سنة 200هـ.
له ترجمة في: طبقات المفسرين للداودي "2/371"، و"غاية النهاية" في "طبقات القراء" لابن الجزري 2/373، ولسان الميزان 6/259.

(2/445)


وولدها في البيع؛ لما فيه من إدخال الضرر على كل واحد بحصول الوله، لقوله عليه السلام: "لا توله والدة على ولدها" 1.
وكذلك لا يصح الجمع بين الأختين في عقد النكاح؛ لما يحصل بينهما من التباغض والتقاطع.
فأما الطلاق المخالف للسنة؛ فإنما أوقعناه؛ وإن كان منهيًا عنه تغليظًا على فاعله2.
وإيجابنا قضاء الصلاة في الأرض تغليظًا؛ فهما3 في المعنى سواء4.
وأما الجلد بسوط غصب؛ فإنما أجزأ؛ لأنه لو لم يجزئ لأدى إلى الزيادة في الحد، ولا يجوز هذا، وليس كذلك في إعادة الصلاة؛ لأنه غير ممتنع، كما لو نسى صلاة من يوم لا يعلم عينها، فإنه يلزمه قضاء يوم كامل.
وأما بيع الحاضر للبادي فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله:
__________
1 هذا الحديث رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أخرجه عنه البيهقي بسند ضعيف، كما أخرجه أبو عبيد في كتابه "غريب الحديث". من مرسل الزهري، والراوي عنه ضعيف. كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "تلخيص الحبير": "3/15"، وراجع أيضًا: "فيض القدير": "6/423".
2 إيقاع الطلاق في الحالة هذه قول الجماهير، خلافًا لبعض المبتدعة القائلين بعدم الوقوع.
انظر: المغني لابن قدامة "7/299".
3 في الأصل: "فيهما".
4 الصلاة في الأرض المغصوبة فيها روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله، إحداهما: عدم الصحة، وهو المشهور من المذهب، والأخرى الصحة.
انظر: المغني لابن قدامة "2/63"، والتنقيح المشبع ص"42".

(2/446)


البطلان؛ لما فيه من الضرر على أهل البلد1.
واختلفت الرواية في البيع على بيع أخيه: فروي عنه ما يدل على البطلان؛ لما فيه من الضرر بأخيه2.
__________
1القول بعدم صحة البيع وبطلانه هو ظاهر المذهب، وقد روى هذا إسماعيل بن سعيد عن الإمام أحمد، قال: سألت أحمد عن الرجل الحضري يبيع للبدوي؟
فقال: أكره ذلك، وأرد البيع في ذلك.
وعلى هذه الرواية يشترط لعدم صحة البيع ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون الحاضر قصد البادي، ليبيع له سلعته.
الثاني: أن يكون البادي جاهلًا بسعر السلعة في السوق.
الثالث: أن يكون البادي جالبًا للسلعة يريد بيعها.
وزاد القاضي أبو يعلى شرطين آخرين هما:
الأول: أن يكون البادي يريد بيع سلعته بسعر يومها.
الثاني: أن يكون بالناس حاجة إلى سلعة البادي.
وهناك رواية ثانية: أن البيع صحيح، نقل ذلك عن الإمام أحمد أبو إسحاق بن شاقلا أن الحسن بن علي المصري: سأل أحمد عن بيع حاضر لبادٍ؟ فقال: لا بأس به. فقال له: فالخبر الذي جاء بالنهي؟ قال: كان ذلك مرة.
راجع في ذلك: مختصر الخرقي ص"88"، والمغني لابن قدامة "4/193-194"، والإنصاف للمرادوي "4/333-334".
2 بطلان البيع والحالة هذه هو ظاهر المذهب.
وقد ذكر ابن قدامة: أنه يحتمل صحة البيع. ولمزيد من ذلك ارجع إلى "المغني": "4/191".

(2/447)


مسألة دليل الخطاب حجة
مدخل
...
مسألة 1 [دليل الخطاب حجة]:
وهو: أن يعلق الحكم بصفة، نحو قوله: "في سائمة الغنم الزكاة 2 " . أو بعدد نحو قوله: "في أربعين شاة شاة" 3.
__________
1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"351-353، 357-359" ، وروضة الناظر مع شرحها لابن بدران "2/200-211" ، وشرح الكوكب المنير ص"238-254" .
2 هذا الجزء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا. وهو الحديث الذي روى فيه كتاب أبي بكر رضي الله عنه، وفيه بين أحكام الزكاة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجه عن أنس بن مالك البخاري في كتاب الزكاة باب زكاة الغنم "2/139" من حديث طويل، وفيه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها زكاة، إذا كانت أربعين إلى عشرين..." .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/358-360" ، وفيه: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة.." .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة باب زكاة الغنم "5/13-14" ، وفيه: "وفي صدقة الغنم، في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة..." .
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة باب زكاة الإبل والغنم "2/113-116" ، وفيه: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة واحدة" . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الزكاة باب كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع فرائض الصدقة، وفيه زكاة الإبل والغنم "1/226-227" ، بلفظ قريب من لفظ الدارقطني.
راجع في هذا الحديث أيضًا: المنتقى من أحاديث الأحكام ص"313-331" ، ونصب الراية "2/335-336" .
3 هذا جزء من حديثين، روى أحدهما ابن عمر، والآخر علي رضي الله عنه عن الجميع.
وقد أخرجه عن ابن عمر أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة. كما أخرجه عن علي؛ غير أن زهيرًا -أحد رواة حديث علي- شك في رفع الحديث إلى النبي صلى عليه وسلم "2/360، 361-362"، ومحل الشاهد عنده بلفظ: "وفي الغنم في كل أربعين شاة..." .
وأخرجه الترمذي عن ابن عمر في كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم ولفظه كلفظ أبي داود، غير أنه حذف كلمة "الغنم".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب صدقة الغنم "1/577"، ولفظه كلفظ المؤلف.

(2/448)


[59/ب] أو باسم نحو قوله: "في الغنم الزكاة".
ويعبر عنه: بأن المسكوت عنه يخالف حكم المنصوص عليه بظاهره.
وقد نص أحمد رضي الله عنه على هذا في مواضع:
فقال في رواية صالح: "لا وصية لوارث" دليل أن الوصية لمن لا يرث.
وقال رضي الله عنه في رواية إسحاق بن إبراهيم: لا يحل للمسلمة أن تكشف رأسها عند نساء أهل الذمة1؛ لأن الله تعالى يقول: {أوْ نِسَائِهِنَّ} 2.
__________
1 قول الإمام أحمد رحمه الله هنا هو أحد التفسيرين للآية، وهو مبني على كون الإضافة في قوله تعالى: {نسائهن} أي المؤمنات. وهذا قول أكثر السلف، كما قال الفخر الرازي.
وهناك تفسير آخر هو: أن المراد بالآية جميع النساء. وحمل الفخر الرازي قول السلف على الاستحباب.
راجع في هذا: مفاتيح الغيب للرازي "23/207"، وأحكام القرآن للجصاص "5/175"، ومحاسن التأويل للقاسمي "12/4512".
2 "31" سورة النور.

(2/449)


وقال رحمه الله في رواية محمد بن العباس1 وقد سأله عن الرضاع فقال: عن الني صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان 2 " فأرى الثلاث تحرم3.
وقال رحمه الله في رواية حنبل وقد سئل عن الأكل من منزل المجوسي فقال: ما كان من صيد أو ذبيحة فلا، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ
__________
1 في "طبقات الحنابلة" 1/315 شيخان بهذا الاسم، أحدهما: النسائي، والآخر: المؤدب، أبو عبد الله الطويل. ولم يذكر صاحب الطبقات شيئا عن حياتهما.
2 هذا الحديث روته أم الفضل رضي الله عنها مرفوعا. أخرجه عنها مسلم في كتاب الرضاع باب في "المصة والمصتان" 2/1074 بلفظ: "لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصة أو المصتان" .
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب النكاح باب لا تحرم المصة ولا المصتان 1/642 بمثل لفظ المؤلف في شطر الحديث الأول، وبقيته كلفظ مسلم.
وأخرجه الدارقطني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعا وذلك في كتاب الرضاع 4/173.
وراجع في هذا الحديث: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص607، و"تلخيص الحبير" 4/5، و"نصب الراية" 3/217.
3 وقد نقل عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه في مسائله الورقة 150/أ قال: "سألت أبي هل تحرم المصة والمصتان؟ فقال: لا أجترئ عليه. قلت: إنها أحاديث صحاح، قال: نعم، ولكن أجيز عنها".
ولكن ابن قدامة يقول: إن الصحيح من مذهب الحنابلة: أن العدد المحرم هو خمسة رضعات فصاعدا.
وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد، مفادها: أن قليل الرضاع وكثيره يحرم.
راجع "المغني" لابن قدامة 8/140.

(2/450)


أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 1 وهؤلاء ليسوا أهل كتاب2.
ونقل عنه أيضًا رحمه الله: ليس على المسلم نصح الذمي، قال النبي صلى عليه وسلم: "والنصح لكل مسلم" 3.
ونقل عنه أيضًا رحمه الله: يقتل السبع والذئب والغراب ونحوها4 ولا كفارة عليه؛ لأن الله تعالى قال: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 5. فجعل الجزاء في الصيد، وهذا سبع فلا كفارة فيه.
__________
1 "5" سورة المائدة.
2 وقد قال الإمام أحمد في رواية أبي داود في: "مسائله" ص"257"، وقد سأل الإمام أحمد رجل عن الأكل عند المجوسي، فقال: لا بأس، ما لم يأكل من قدورهم، ويأكل من فواكههم، ذكر شيئا أو أشياء ذهب علي، قيل له: جبنهم؟ فذهب إلى الرخصة، ولم يصرح به.
وحكى ابن قدامة في كتابه: "المغني": "9/389" الإجماع على تحريم صيد المجوسي وذبيحته؛ إلا ما لا ذكاة له.
3 هذا الحديث رواه جرير بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم".
أخرجه عنه البخاري في كتاب الإيمان باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين" : "1/22"، كما أخرجه في مواضع أخرى من صحيحه.
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة "1/75".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب باب في النصيحة "2/583".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيعة باب البيعة على النصح لكل مسلم "7/126-127".
وأخرجه عند الدارمي في كتاب البيوع باب في النصيحة "2/164".
4 في الأصل: "ونحوه".
5 "95" سورة المائدة.

(2/451)


وقال في كتاب طاعة الرسول: قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} 1، يرجع في حليلة الابن من الرضاعة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" 2.
__________
1 "23" سورة النساء.
2 هذا الحديث أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها بمثل لفظ المؤلف كما أخرجه عن ابن عباس رضي الله عنهما بمثل لفظ المؤلف أيضًا، وذلك في كتاب الرضاع باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل "2/1070" ، وفي باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة "2/1071-1072" .
وعن علي رضي الله عنه أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع باب ما جاء يحرم من الرضاعة ما يرحم من النسب "3/443" بلفظ: "إن الله حرم من الرضاع ما حرب من النسب" ، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن عائشة رضي الله عنها أخرجه ابن ماجه بمثل لفظ المؤلف؛ غير أنه أبدل كلمة "الرضاعة" بكلمة: "الرضاع" ، كما أخرجه بمثل لفظ المؤلف أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنه، وذلك في كتاب النكاح باب ما يحرم من الرضاع يحرم من النسب.
وعن ابن عباس أخرجه النسائي في كتاب النكاح باب: تحريم بنت الأخ من الرضاعة "6/81-82".
وهناك روايات للحديث، نذكر منها ما استطعنا الاطلاع عليه:
1 "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" .
2 "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" .
3 "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" .
4 "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة" .
5 "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" .
6 "إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب" .
7 "إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة" .
8 "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم" .

(2/452)


وقال رضي الله عنه في رواية حنبل: قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} 1؟ فثبت أن الله سميع بصير.
وقد احتج في هذه المواضع بدليل الخطاب.
وبهذا قال مالك2 وداود3.
وقال أصحاب أبي حنيفة: ليس بحجة4.
__________
= 9 "حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب" .
10 "ما حرمته الولادة حرمة الرضاع" .
وللاطلاع على هذه الروايات راجع: "صحيح البخاري" في كتاب فرض الخمس باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم "4/100"، وسنن أبي داود في كتاب النكاح باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب "1/474"، و"سنن الدارمي" في كتاب النكاح باب ما يحرم من الرضاعة "2/79" و"الموطأ" في كتاب الرضاع باب رضاعة الصغيرة "3/238".
وراجع أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"610"، و"نصب الراية": "3/168، 218"، و"تلخيص الحبير" 3/166، 4/4"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير": "6/459".
1 "42" سورة مريم.
2 نص القرافي على هذا في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"270".
3 هو داود بن علي بن خلف، الأصبهاني أصلًا، الكوفي مولدًا، البغدادي نشأة ووفاة. إمام المذهب الظاهري، أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور، ولد سنة 202هـ، وقيل غير ذلك. ومات سنة 270هـ.
له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/158"، و"وفيات الأعيان": "2/26". وما نقله المؤلف عن داود الظاهري مخالف لما ذهب إليه ابن حزم في كتابه: "الإحكام": "7/887"، وحكاه عن جمهور الظاهرية من أن دليل الخطاب ليس بحجة.
4 راجع في هذا "تيسير التحرير": "1/98" وما بعدها.

(2/453)


واختلفوا: إذا علق الحكم بشرط؛ فمنهم من قال: ما عداه1.
ومنهم من قال: لا يدل، واختاره الجرجاني.
وقال ابن داود والأشعر[ية]2: دليل الخطاب ليس بحجة3.
واختلف أصحاب الشافعي: فذهب ابن سريج4 والقفال5 إلى أنه ليس
__________
1 يظهر أن هنا كلمة ساقطة هي: "بخلافه"، حيث تصبح العبارة: "فمنهم من قال: ما عداه بخلافه"، وهكذا ذكره ابن عقيل عندما نقل مذهب الحنفية. انظر: "المسودة" ص"357".
2 في الأصل: "الأشعر"، وهو متردد بين: "الأشعري" وبين: "الأشعرية"، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لما في "المسودة" ص"351"، حيث نقل عن المؤلف ذلك لفظ: "الأشعرية".
3 المعروف عن الأشعري أنه يقول بحجية مفهوم المخالفة، نقل ذلك عنه الغزالي في "المستصفى": "2/191"، والآمدي في "الإحكام": "3/68".
4 في الأصل: "سريح" بالسين والحاء المهملتين، وهو تصحيف والصواب: "سريج" بالسين المهملة، والجيم المعجمة، وهو كذلك في "المسودة" ص"351".
وابن سريج هو: أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، أبو العباس. فقيه الشافعية في عصره. صنف أربعمائة مصنف. تولى قضاء شيراز، كانت له مناظرات مع أبي بكر بن داود الظاهري. مات 360هـ، وله من العمر 57 سنة وستة أشهر.
انظر ترجمته في: "البداية والنهاية": "11/129"، و"تاريخ بغداد": "4/287"، و "شذرات الذهب": "2/247"، و"طبقات الشافعية" للسبكي "3/21"، و"النجوم الزاهرة": "1/194".
5 هو: محمد بن إسماعيل، أبو بكر، القفال الكبير. الشاشي موطنًا، الشافعي مذهبًا. فقيه، أصولي، متكلم، مفسر، محدث. له مؤلفات كثيرة، منها: "كتاب في أصول الفقه"، و"شرح الرسالة". مات سنة 365هـ.
له ترجمة في: "شذرات الذهب": "3/51"، و"طبقات الشافعية" للسبكي "3/200"، و"النجوم الزاهرة": "2/111".

(2/454)


بحجة1.
وذهب الأكثر منهم إلى أنه إن علق بصفة؛ فهو حجة، وإن علق باسم؛ لم يكن حجة2.
ومنهم من قال: هو حجة، وإن علق باسم مثل قولنا. قال ابن فورك: وهو الصحيح3.
ورأيت في جزء وقع إلي تخريج أبي الحسن التميمي: أن دليل الخطاب؛ ليس بحجة.
فالدلالة على صحة ما قلناه:
أنه تعالى لما أنزل قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 4، قال صلى الله عليه وسلم: "والله لأزيدن على السبعين" ، ذكره يحيى5 بن سلام6
__________
1 هكذا نقل عنهما الآمدي في "الإحكام": "3/68"، وكذلك في "المسودة" ص"351" .
2 هكذا في "جمع الجوامع": "1/252"، حيث قال: "المفاهيم إلا اللقب حجة".
3 وهو منسوب أيضًا لأبي بكر الدقاق والصيرفي الشافعيين، كما في "جمع الجوامع": "1/254".
4 "80" سورة التوبة.
5 في الأصل: "بحر"، وهو خطأ؛ لعله من الناسخ، وقد ذكره المؤلف ص"715" بأنه يحيى بن سلام.
6 سبقت ترجمته ص"445" .

(2/455)


في تفسيره عن قتادة1 قال: لما نزلت [60/أ] هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد خيرني ربي فوالله لأزيدنهم على السبعين" .
وفي لفظ آخر: "فلأستغفرن لهم" ، فأنزل الله عز وجل في سورة المنافقين: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. 3.
__________
1 هو قتادة بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب، الحافظ الأعمى، روى عن أنس والحسن وغيرهما. وعنه أبو حنيفة والأوزاعي وغيرهما. كان يدلس. وكان يقول: كل شيء بقدر إلا المعاصي. توفي بالطاعون سنة 118هـ.
له ترجمة في: "البداية والنهاية": "9/313"، و "تذكرة الحفاظ": "1/122"، و "شذرات الذهب": "1/153"، و"طبقات المفسرين" للداودي "2/43"، و"ميزان الاعتدال": "3/385"، و "النجوم الزاهرة": "1/276".
2 "6" سورة المنافقون.
3 هذا السبب هو من رواية عبد الرزاق، عن عمر، عن قتادة، وهو مرسل؛ ولكن رجاله ثقات، كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "8/336-337".
والسبب هذا معارض بما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير باب قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} عن ابن عمر رضي الله عنهما "6/85": أن الله أنزل بعد صلاة النبي على المنافق آية التوبة: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} .
وكذلك رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر رضي الله عنه "4/1865".
وإذا ذهبنا إلى الترجيح بينهما وجدنا: أن حديث ابن عمر رضي الله عنه ثابت، رواه الشيخان وغيرهما، أما أثر قتادة فهو مرسل، والحديث بسند الصحيح مقدم على المرسل.
على أن الحافظ ابن حجر قال في "الفتح": "8/337": "يحتمل أن تكون الآيتان معًا نزلنتا في ذلك..".

(2/456)


وهذا فسوق المشرك؛ فعقل أن ما زاد على السبعين يخالف حكمه حكم السبعين.
فإن قيل: روى عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو علمت إذا زدت على السبعين أن يغفر الله لهم لزدت" 1.
وهذا يمنع التعلق بالدليل، ويوجب التوقف عن الحكم بالدليل.
قيل: قوله: "لو علمت... لزدت" تعلق بدليل الخطاب، لأنه ما استفاد الزيادة إلا من ناحية الدليل، وعدم العلم بالغفران لهم لا يمنع الاحتجاج؛ لأنا استدللنا به؛ فلا يقطع على العلم به، كما إذا استدللنا بالعموم وأخبار الآحاد.
فإن قيل: الكافر لا يغفر له من جهة السمع؛ فغير جائز أن يخالفه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدل ذلك على بطلان الخبر.
قيل: الحديث قد صح، وليس بمنكر استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم؛
__________
1 حديث عمر رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري مرفوعًا في كتاب التفسير، باب قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} "6/85" بلفظ: "... إني خيرت، فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له، لزدت عليها..." ، وانظر "فتح الباري": "8/333".
وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير باب من سورة التوبة "5/279"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح غريب".
وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز باب الصلاة على المنافين "4/54".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "أسباب نزول القرآن" للواحدي ص"257" و "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير "2/378"، و"محاسن التأويل" للقاسمي "8/3224"، و "تيسير الوصول": "1/127".

(2/457)


لأن مغفرة الله تعالى لهم مما يجوز في العقل، ولا يحيلها، ويصح أن يجاب في ذلك: أفتغفر لهم؟، وهذا قبل التوقيف على أن عذابهم غير منقطع.
فإن قيل: فأنتم تثبتون وجوب الغفران بعد السبعين، والخبر يمنع ذلك.
قيل: لو خلينا وظاهر الخبر لقلنا بوجوبه، لكن لما قال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 1 نقلنا عن ظاهره.
فإن قيل: عادة العرب في قول القائل: لا أفعل كذا وإن سألتني سبعين مرة، تأكيد للنفي، وهذا لا يخفى على السامع؛ فلم يجز أن يفهم عنه دليل الإثبات.
قيل: قد فهم النبي منه دليل الإثبات بقوله: {لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} ؛ فلولا أن اللفظ يقتضي ذلك لم يسأله.
وجواب آخر وهو: أنه لو كان المراد تكثير الاستغفار؛ لم يحسم الطمع في مغفرتهم، فلما لم يفعل ذلك دل على أنه أراد التقدير والتحذير دون التكثير.
فإن قيل: فهذا الخبر لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حلف أنه يستغفر للكافر، ولو كان قد حلف على ذلك لكان لا بد من أن يفعله؛ لأن في تركه تركًا للوفاء بالعهد، وهو منزه عن ذلك، ولو فعله لكان يجاب دعاؤه، وهذا يؤدي إلى أن الله تعالى يغفر للكافر.
قيل: إنما حلف على ذلك قبل النهي، ثم نهاه عن ذلك بقوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} ، وإذا كان كذلك فقد حصل
__________
1 "84" سورة التوبة.

(2/458)


منه الوفاء بالعهد، ولم تحصل الإجابة للنهي فيما بعد.
فإن قيل [60/ب]: ليس في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل من الآية ما زاد على السبعين مخالف لحكم السبعين من حيث تخصيص هذا القدر بالذكر؛ بل إنما قال: "والله لأزيدن على السبعين" ؛ لأن الاستغفار للكفار كان مباحًا عنده في تلك الحال؛ لأن غفران الكافر جائز في طريق العقل؛ فلما حظر الله هذا القدر من الاستغفار؛ بقي ما زاد على السبعين على أصل الإباحة.
قيل: لو كان كذلك ما كان لقوله: "والله لأزيدن على السبعين" معنى، وذلك مباح كله، قاله أو لم يقله، فعلم أن المراد به: أن ما وراء السبعين بخلاف السبعين.
وعلى أنه أي حاجة كانت في الاستغفار للمشركين بعد موتهم، لا سيما والأصل1 الحظر في الأشياء.
فإن قيل: فهذا من أخبار الآحاد، وهذه مسألة أصل؛ فلا يكون دليلها خبر واحد.
قيل: مسألة الأصل تتضمن علمًا وعملًا؛ فيجب أن يثبت العمل فيه بالخبر، ويكون العلم دليله شيء آخر؛ لأن العلم مسألة، والعمل2 به مسألة أخرى.
فإن قيل: فلو صح هذا الخبر؛ فلا حجة فيه؛ لأن من أصحابنا من يقول: إن المحصور بالعدد يدل على أن ما عداه بخلاف حكمه، وهذا مخصوص بالعدد.
__________
1 في الأصل: "وأصلها".
2 في الأصل: "والعلم".

(2/459)


قيل: تخصيصه بالعدد تنبيه على القول في نظيره وحكمه.
وأيضًا: فإنه إجماع الصحابة؛ لأن يعلى بن أمية1 روى أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: ما بالنا نقصر وقد أمنّا، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 2؟ فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" 3، وهذا احتجاج بدليل الخطاب؛ لأن نطق الآية يفيد القصر بشرط الخوف، وسقوطه مع وجود الأمن من جهة الديل.
__________
1 هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة التميمي الحنظلي، أبو صفوان أو أبو خالد، صحابي جليل، أسلم يوم الفتح، كان معروفًا بالسخاء والكرم، قتل بصفين سنة 38هـ.
انظر ترجمته في: "الاستيعاب": "4/1585"، و "الإصابة" القسم السادس ص"725"، طبعة دار نهضة مصر.
2 "101" سورة النساء.
3 هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافر وقصرها "1/478".
وأخرجه أبو داود في تفريع أبواب السفر، باب صلاة المسافر "1/274".
وأخرجه النسائي في أول كتاب تقصير الصلاة في السفر "3/95".
واخرجه الترمذي في كتاب التفسير باب من سورة البقرة "5/ 343".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب تقصير الصلاة في السفر "1/339".
وأخرجه الدارمي في كتاب الصلاة باب قصر الصلاة في السفر "1/292-293".
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/25، 26".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/58-59"، و"نصب الراية": "2/190"، و"تيسير الوصول": "1/111-112".

(2/460)


وكذلك احتج ابن عباس: في أن الأخوات لا يرثن مع البنات1 بقوله [تعالى]: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 2، فلما ورث الأخت مع عدم الولد؛ ثبت أنها لا ترث مع وجوده، وأقرته الصحابة على هذا الاحتجاج، وعارضته بالسنة.
وهذا احتجاج من دليل الخطاب؛ لأن نطق الآية أفاد ثبوت الإرث مع عدم الولد، فأما سقوطه مع وجود الولد؛ فإنما أفاده الدليل.
وكذلك امتنع من الرد واحتج بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ، فلا يجوز أن تزاد على النصف، والمنع من الزيادة عليه عقله من دليل الخطاب.
وكذلك من قال: لا يجب الغسل من التقاء الختانين، إذا لم يكن معه إنزال؛ بقول النبي صلى الله عليه وسلم [61/أ]: "الماء من الماء" 3، وهذا احتجاج بدليل الخطاب.
__________
1 هذا الأثر منسوب إلى ابن عباس وإلى ابن الزبير رضي الله عنهما؛ فإنما كانا يقولان: "إن الأخت لا ترث مع البنت شيئًا"، استدلالًا بهذه الآية.
أما الجمهور: فقد ذهبوا إلى أن الأخوات مع البنات عصبة، وإن لم يكن لهن أخ.
راجع في هذا: "تفسير ابن جرير": "9/443"، و "تفسير القرطبي": "6/29"، و "تفسير القاسمي": "5/1777"، و "تفسير الرازي": "1/1211".
2 "176" سورة النساء.
3 هذا الحديث أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا في كتاب الحيض باب الماء من الماء "1/269".
وأخرجه أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعًا في كتاب الطهارة باب في الإكسال "1/49". =

(2/461)


ومن أوجب الغسل قال: هو منسوخ1.
فدل هذا على أن القول بدليل الخطاب إجماع منهم.
فإن قيل على حديث يعلى بن أمية: أن الله تعالى أمر بالإتمام حال الأمن2 بقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 3، وخص القصر بحال الخوف، فكان عندهما: أن الإتمام واجب حال زوال الخوف بالآية الأخرى، لا بدليل اللفظ.
قيل: عمر ويعلى رجعا إلى آية القصر دون الآية الأخرى؛ فلم يصح السؤال.
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء: أن الماء من الماء "184/1"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة باب الذي يحتلم ولا يرى الماء "96/1".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب الماء من الماء "199/1".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطهارة باب الماء من الماء "195/1".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "115/5-116".
وقد تكلم الشيخ أحمد محمد شاكر على إسناد حديث أبي أيوب هذا، وفصل القول فيه، وذلك في حاشيته على سنن الترمذي "1/184-185".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/135"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"62"، و "نصب الراية":
"1/80".
1 القول بالنسخ مذهب الجمهور، والناسخ: حديث: "إذا التقى الختانان؛ وجب الغسل" . وابن عباس رضي الله عنه تأوله: بأن الماء من الماء في الاحتلام.
وقد انعقد الإجماع أخيرًا على وجوب الغسل إذا التقى الختانان. هكذا نقله الحافظ ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير": "1/135" عن القاضي ابن العربي.
2 في الأصل: "الأمر".
3 "103" سورة النساء.

(2/462)


فإن قيل: من قال: لا يجب الغسل بالتقاء [الختانين]، يحتمل أن يكون علموا ذلك بدلالة أخرى لا بدليل اللفظ.
قيل: من ذهب إلى هذا؛ رجع إلى قول النبي: "الماء من الماء" ؛ فلم يصح السؤال.
فإن قيل: فقوله: "الماء من الماء" يقتضي الاستغراق؛ فلهذا دل على نفي ما عداه، وخلافنا في تخصيص المحكوم فيه ببعض صفاته.
قيل: المعروف من مذهب المخالف: أنه لا فرق بين ما دخله الألف واللام، أو لم يدخله.
وأيضًا: فإن أبا عبيد1 قد قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" 2 دليله: أن لَيَّ غير الواجد لا يحل عرضه ولا
__________
1 هو القاسم بن سلام البغدادي، أبو عبيد، لغوي ومحدث وفقيه، ذو دين، وخلق حسن، أخذ عن أبي عبيدة والكسائي والفراء وغيره، تولى قضاء طرسوس، له كتب كثيرة، منها: "الغريب"، و "الأمثال"، و "الأموال"، ولد بهراة سنة 150هـ على الأصح، وتوفي بمكة المكرمة، وقيل: بالمدينة المنورة سنة 224 على الأرجح.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "2/417"، و "تاريخ بغداد": "2/403"، و "شذرات الذهب": "2/54"، و "طبقات الحنابلة": "1/259"، و "طبقات القراء الكبار" للذهبي "1/141"، و "طبقات المفسرين" للداودي "2/32"، و"النجوم الزاهرة" "2/241".
2 حديث صحيح رواه الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه مرفوعًا.
أخرجه عنه أبو داود في كتاب الأقضية باب في الحبس في الدين وغيره "2/281".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع باب مطل الغني "7/278".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصدقات باب الحبس في الدين والملازمة "2/811". وقد علقه البخاري في كتاب الاستقراض باب لصاحب الحق مقال "3/147".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير": "5/400".

(2/463)


عقوبته؛ فصرح بالقول بدليل الخطاب، وهو أوثق من نقل اللغة عن أهلها، فوجب المصير إلى ذلك.
فإن قيل: أبو عبيد لم يحك ذلك بعينه عن العرب، ولا يجوز أن يجعل ظاهر كلامه أنه عن العرب؛ لكونه من أهل اللغة؛ لأنه ممن يتكلم في الأحكام ويختار المذاهب؛ فجاز أن يكون قاله من جهة الحكم، وطلب فائدة اللفظ.
وقد عارض ذلك ما ذكره الأخفش1 في قول القائل: "ما جاءني غير زيد"، أن ذلك لا يدل على مجيء زيد.
قيل: أن أبا عبيد ذكره هذا في كتب اللغة، ولم يذكره في كتب الأحكام، والظاهر: أنه لغة العرب.
وقولهم: ما ذكره عن الأخفش لا يعارض قول أبي عبيد؛ لأن الأخفش لم يكن من أهل اللغة؛ وإنما كان له معرفة بالنحو، وأبو عبيد إمام في اللغة، وله غريب المصنف2 وغيره من الكتب في اللغة.
__________
1 هو: سعيد بن مسعدة، أبو الحسن، الأخفش الأوسط، مولى بني مجاشع، سكن البصرة، ثم دخل بغداد، وأقام بها مدة، روى عن هشام بن عروة والنخعي وغيرهما. وعنه أبو حاتم السجستاني. كان الأخفش معتزليًا، له مصنفات كثيرة، منها: "معاني القرآن"، و "المقاييس في النحو" و "الأوسط في النحو". مات سنة 210هـ وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: بغية الوعاة "1/590"، و "شذرات الذهب": "2/36"، و "طبقات المفسرين" للداودي "1/185"، و "الفهرست" ص"77"، المطبعة التجارية، و "مرآة الجنان": "2/61".
2 هذا الكتاب من أجود الكتب اللغوية، وأنفعها، وقد نسبه الخطيب البغدادي في "تاريخه": "12/404". وإلى القاسم بن سلام، ونقل عن ابن درستويه النحوي قوله في هذا الكتاب: ".. وهو من أجل كتبه في اللغة، فإنه احتذى فيه كتاب النضر بن شميل المازني يسميه كتاب الصفات، وبدأ فيه بخلق الإنسان، ثم بخلق العرش، ثم بالإبل فذكر صنفًا بعد صنف، حتى أتى على جميع ذلك، وهو أكبر من كتاب أبي عبيد، وأجود".
كما نسبه إليه الداودي في "طبقات المفسرين": "2/35".

(2/464)


وأيضًا: فإن أهل اللغة لا يضمون الصفة إلى الاسم، ويقيدون الاسم بها إلا للتمييز والمخالفة بينه وبين ما عداه.
يبين ذلك: أنهم لا يقولون: اشترِ عبدًا أسود، أو جارية بيضاء، أو خبزًا سميذًا1، أو لحمًا نيئًا أو مشويًا، ولا يقولون: ادفع هذا المال إلى بني فلان الفقراء منهم، أو الفقهاء منهم، وما أشبه ذلك، إلا لتخصيص الموصوف بهذا الوصف وتمييزه. والمخالفة2 بينه وبين من عداه.
ومن كان عنده جميع الصفات واحدة؛ لم يقيد خطابه بذلك، بل يطلق3 الاسم إطلاقًا، ومن قيده مع [61/ب] تساويهما عنده كان مسقطًا في قوله، ملغزًا في خطابه؛ فوجب إذا قال صاحب الشريعة: "في سائمة الغنم والزكاة" أن تكون الزكاة مختصة بالسائمة، ولا تكون واجبة في المعلوفة، ولا يلزم على هذا الاسم المجرد إذا ضم الحكم إليه؛ لأنا نقول فيه ما نقوله في الصفة المضمومة إلى الاسم.
وقد صرح بهذا أحمد رضي الله عنه في رواية الميموني وقد سئل عن
__________
1 في كتاب "فقه اللغة" للثعالبي ص"317": "سميذ" بالذال المعجمة لون من ألوان الخبز: والكلمة فارسية، معربة.
2 في الأصل: "المخالف".
3 في الأصل: "أطلق".

(2/465)


التيمم بالسهلاة1، فقال: كيف يتيمم بهذه الأشياء وليست بصعيد؛ ولكن يتيمم ويعيد جميع ذلك؛ لأن اسم الصعيد لا يتناوله، والآية تضمنت التيمم بما يسمى صعيدًا بقوله: "صعيدا" فدل على أن غيره لا يجوز التيمم به.
وكذلك قال في رواية الميموني: لا يتوضأ بماء الورد، هذا ليس بماء، وإنما يخرج من الورد.
وأيضًا: فإن اسم الغنم عام في المعلوفة والسائمة؛ فإذا ذكر الصفة معه فقال: في سائمة الغنم، فخص الاسم، فوجب أن يكون مقصورًا عليها، كالحكم المعلق على الغاية، والاستثناء إذا تعقب عددًا.
وقد قال بعضهم: ينظر الحكم، بماذا اخترل2 عم الحكم؛ فوجب أن يتضمن نفيًا وإثباتًا؛ كالاسم المقرون بالاستثناء والمقيد بالغاية.
وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم امتدح بالاختصار بقوله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارًا" 3. فإذا قلنا: إن قوله:
__________
1 هكذا في الأصل: ولعل المراد: الأرض السِّهْلَة بكسر السين، وهي تراب كالرمل، يجيء به الماء.
وعن الجوهري: أنها رمل خشن، ليس بالدقاق الناعم.
انظر: اللسان "13/371-372"، مادة: "سهل".
2 هكذا في الأصل، ولم أتوصل إلى معرفة المراد.
3 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب التعبير، باب رؤيا الليل "9/43" بلفظ: "أعطيت مفاتيح الكلم" .
وفي باب المفاتيح في اليد بلفظ: "بعثت بجوامع الكلم" ، وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة "1/371-372" بلفظ: "أوتيت جوامع الكلم..." ، ولم يذكر: "واختصر لي الكلام اختصارًا" ، وبمثل لفظ المؤلف أخرجه الدارقطني في سننه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما، في كتاب النوادر "4/144-145". وفي إسناده: "زكريا بن عطية"، قال فيه أبو حاتم: "منكر الحديث"، كما ذكر ذلك الذهبي في كتابه: "المغني في الضعفاء": "1/239".
وكذلك أخرجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبو يعلى في مسنده، كما حكى ذلك السيوطي في "الجامع الصغير": "1/563" مطبوع مع شرحه "فيض القدير"، وقد رمز له بالحسن.
وقد ذكر المناوي في كتابه: "فيض القدير": "1/563" أن البيهقي أخرجه في "الشعب" عن عمر بن الخطاب أيضًا.

(2/466)


"في سائمة الغنم الزكاة" ؛ لم يفد ذكر السوم غير ما أفاده الإطلاق؛ حملنا الكلام على الإطالة من غير فائدة، فكان حمله على فائدة أولى.
فإن قيل: فائدة تخصيص المذكور بيان الحكم فيه، ليقف ما سواه على تعريض المجتهد لطلب الثواب.
قيل: هذه الفائدة غير حاصلة من جهة اللفظ؛ بل هي سابقة له؛ لأن المجتهد معرض لطلب الثواب بالاجتهاد، فامتنع أن يكون ورود هذا الفظ أفاد ذلك، ولم يبق إلا أن تكون الفائدة ما ذكرنا.

(2/467)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لا يجوز أن يكون لله تعالى دليل على حكم من الأحكام، ويوجد ذلك الدليل عاريًا من مدلوله؛ فلما وجدنا الله تعالى قد خص أشياء بذكر بعض أوصافها، وعلق بها أحكامًا، ولم يكن تخصيصها بها موجبًا للحكم بما عداها بخلافها، وعلق بها أحكامًا، ولم يكن تخصيصها بها موجبًا للحكم بما عداها بخلافها، نحو قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} 1؛ فخص النهي عن ذلك بحال خشية الإملاق، ولم يختلف النهي في الحالين.
وقوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} 2، فخص
__________
1 "31" سورة الإسراء.
2 "36" سورة التوبة.

(2/467)


النهي عن الظلم لهذه الأشهر، ثم كان الظلم منهيًا عنه في سائر الشهور.
وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} 1، وهو عليه السلام منذر البشر.
وقوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 2.
علمنا: أن تخصيص الشيء ببعض [62/أ] أوصافه وإيجاب الحكم فيه؛ لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه.
والجواب: أن دليل الخطاب سقط في هذه المواضع؛ لقيام الدلالة عليه.
ثم لا يمنع ذلك لكونه موضوعًا في الأصل على ما اعتبرناه، كما أن قيام الدلالة على كون العموم غير مستغرق للجنس، لا يدل على أنه غير موضوع في الأصل للاستغراق، نحو قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 3، ومعلوم أنها لم تؤتَ مثل فرج الرجل.
وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4، ومعلوم أنه لم يخلق نفسه سبحانه.
وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 5، ومعلوم أنها لم تدمر السموات والأرض.
فلئن جاز أن يعترض بمثل هذا علينا في دليل الخطاب؛ كان لأصحاب
__________
1 "45" سورة النازعات.
2 "130" سورة آل عمران. وكلمة "الربا" ساقطة من الأصل.
3 "23" سورة النمل.
4 "102" سورة الأنعام.
5 "25" سورة الأحقاف.

(2/468)


الخصوص أن يعترضوا على الجميع في القول بالعموم بهذه المواضع.
فإن قيل: العموم لا يجوز وجوده عاريًا عن إيجاب حكم، وههنا يوجد عاريًا عن إيجاب حكم.
قيل: بالقياس يوجد عاريًا عن إيجاب حكم، وهو إن عارضه نص، ومع هذا لم يدل ذلك على أنه ليس بحجة.
واحتج: بأن ما يقتضيه الخطاب بصريحه أو دليله طريقه اللغة دون غيرها، وثبوته من طريق اللغة لا يخلو من أن يكون بالعقل أو بالنقل، ولا يجوز أن يكون بالعقل؛ لأنه لا مدخل للعقل في إثبات اللغة، ولا يجوز أن يكون بالنقل لأنه لا يخلو: إما أن يكون متواترًا أو آحادًا، ولا يجوز أن يكون تواترًا؛ لأنه لو نقل ذلك من طريق التواتر لعلمنا؛ لأنه لا يجوز أن يختص المخالف بعلم النقل المتواتر، ولا يجوز أن يكون آحادًا؛ لأن هذه المسألة من مسائل الأصول, ولا يجوز إثباتها بخبر الواحد الذي لا يوجب العلم.
والجواب: أنا أثبتناه بالنقل الذي قامت الحجة به، كما يستدل المخالف على إثبات العمل بخبر الواحد وبالإجماع بنقل ليس بمتواتر؛ لقيام الحجة عنده بصحته.
وأثبتناه أيضًا بالعقل، وقول المخالف: إن العقل لا مدخل له في إثباته: ليس بصحيح؛ لأن له مدخل في الاستدلال بمخارج كلامهم على مقاصدهم وموضوعاتهم، وقد استدللنا بذلك على ما تقدم بيانه.
واحتج: بأنه لو كان يدل على المخالفة؛ لم يجز أن يصرح بالتسوية بينهما؛ فلما جاز أن يقول: في سائمة الغنم وفي معلوفتها زكاة؛ دل على أن تخصيص السائمة بالذكر؛ لا يدل على المخالفة؛ لأنه لو دل على المخالفة؛ لكان ذلك متناقضًا.

(2/469)


والجواب: أن هذا باطل "بالغاية"؛ فإنها تدل على خلاف ما قبلها، وإن جاز الجمع بينهما نحو قوله: وأيديكم إلى المرافق واغسلوا ما ببعد المرافق.
وكذلك صيغة العموم تدل على الاستغراق، وإن جاز أن يقترن بها [62/ب] دليل الاستثناء، فنقول: اقتلوا المشركين إلا زيدًا، ولا يكون هذا مناقضًا للفظ.
وجواب آخر: وهو أنه لا يمتنع أن يختلف حكم الاتصال والانفصال؛ فيجوز الجمع بينهما باللفظ المتصل، ولا1 يجمع بينهما في المنقطع، ألا ترى أنه لو قال: "لا إله"، وسكت؛ حكم بكفره، ولو وصل ذلك بقوله: {إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} 2، ولم يكفر3، وكذلك لو قال لغير مدخول بها: أنت طالق، وسكت؛ طلقت، ولو قال: إن دخلت الدار؛ لم تطلق قبل وجود الصفة، كذلك ههنا.
واحتج: بأن المسموع إيجاب الزكاة في السائمة، ولم يسمع في المعلوفة ذكر حكمي؛ فوجب التوقف، كما أن أصل الأحكام قبل أن يرد السمع على الوقف.
والجواب: أن قبل النطق لم يسمع للمعلوفة حكم بنفي ولا إثبات، وبعد النطق قد علم حكم بعضها سمعًا وبعضها مفهومًا من السمع من الوجه الذي بينا.
يبين صحة هذا: أن الشرع قد يفهم من حكم اللفظ، كما يفهم
__________
1 في الأصل: "فلا".
2 "90" سورة يونس.
3 في الأصل: "لم يكف"، والصواب ما أثبتناه بدلالة السياق.

(2/470)


بالنطق؛ ألا ترى أن الوجوب معقول من الأمر، وليس لفظ الوجوب مسموعًا، وكذلك حكم التعريض معقول، وإن لم ينطق به، كقول القائل: ما أنا بزانٍ، ولا أمي بزانية، في الخصومة، وكذلك قوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا} 1، وقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 2 معقول أن لا يضربهما.
واحتج: بأنه لو كان تعليقه على صفة يدل على ضد حكمها؛ لم يوضع له عبارة تدل عليه، ولما جاز أن يقول: في السائمة الزكاة ولا زكاة في المعلوفة؛ علم أن ذلك مأخوذ مما وضع له.
والجواب: أن نفي الزكاة في المعلوفة يحصل بالدليل، والنطق يؤكد، كما يقول: "اقتلوا المشركين أجمعين"، ولو لم يقل "أجمعين" ؛ لوجب قتل الجميع؛ كذلك ههنا.
واحتج: بأنه لو كان للخطاب دليل؛ لوجب أن يبطل حكم الخطاب ويبقى حكم الدليل، كما جاز3 أن يبطل حكم الدليل ويبقى حكم الخطاب، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل" 4 ، دليله أنها إذا أُذِنَت أن
__________
1 "235" سورة البقرة، والآية في الأصل: {ولا تُوَاعِدُوهُنَّ...} وهو خطأ.
2 "23" سورة الإسراء.
3 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "كما وجب" بدليل السياق.
4 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي كما أخرجه الإمام أحمد والدارمي والدارقطني والطيالسي والحاكم والطحاوي، وكلهم أخرجه في كتاب النكاح إلا الإمام أحمد، فأبو داود في باب الولي، "1/480-481" ، والترمذي في باب ما جاء لا نكاح إلا بولي "3/398-399" ، وقال: "حديث حسن"، وابن ماجه في باب لا نكاح إلا بولي "1/605" ، والإمام أحمد في مسنده "6/47" ، والدارمي في =

(2/471)


يصح1، وعندكم: لا يصح؛ فيبطل حكم الدليل، ويبقى حكم الخطاب.
وكذلك: قوله: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان" ؛ دليله: أن الثالثة تحرم، وعندكم: لا تحرم، فسقط حكم الدليل، ويبقى حكم الخطاب، ولهذا نظائر.
والجواب: أنه لا يمتنع أن نقول: يبطل حكم الخطاب، ويبطل حكم الدليل؛ لأن النطق ودليله يجريان مجرى نطقين، فيجوز أن يسقط أحدهما ويبقى حكم الآخر.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في [63/أ] رواية محمد بن العباس وقد سئل عن الرضاع فقال: "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان" ؛ فأرى أن الثالثة تحرم"، فأسقط الخطاب في الرضعتين، وبقي حكم الدليل في الثالثة.
__________
= باب النهي عن النكاح بغير ولي "2/62"، والدارقطني "3/221"، والطيالسي في باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" ، وما جاء في العضل "1/305"، والحاكم في باب "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل": "2/168"، وقال: "هذا حديث صحح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، والطحاوي في باب النكاح بغير ولي عصبة "3/7" من كتابه: "شرح معاني الآثار".
وقد حكى الزيلعي في "نصب الراية": "3/184-185"، أن ابن حبان رواه في "صحيحه"، كما رواه ابن عدي في "كامله"، وتكلم عليه ابن الجوزي في "التحقيق"، وابن عبد الهادي في "التنقيح"، وراجع بالإضافة إلى ما سبق: "تلخيص الحبير": "3/156-157" و "المنتقى من أحاديث الأحكام ص"539"، و "التعليق المغني على الدارقطني" لمحمد شمس الحق عظيم آبادي "3/221".
1 دليل الخطاب بعبارة أوضح: أن المرأة إذا نكحت نفسها بإذن وليها، فنكاحها صحيح.

(2/472)


قال أبو بكر بن فورك: وهذا [هو] الصحيح.
ويحتمل: أن الدليل يسقط، ويبقى حكم اللفظ؛ لأن الدليل فرع النطق ونتيجته؛ فلا يصح ثبوت الفرع مع إسقاط الأصل، وهذا هو الأشبه، ويفارق هذا النطقين؛ لأن كل واجب منهما ليس بأصل للآخر.
واحتج: بأنه لو كان للخطاب دليل؛ لوجب أن يكون ضد النطق فقط، لا يكون ضدًا لغيره، مثل قوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، كان يجب أن يكون دليله: أن غير سائمة الغنم لا زكاة فيها؛ وقد قلتم: إن دليله في غير السائمة من الإبل والبقر [و]اللفظ لم يتناول ذلك.
والجواب: أنه قد قيل: إنه يقتضي سقوط الزكاة عن معلوفة الغنم فحسب؛ لأن الدليل ما كان مضادًا للنطق، فيتعلق به ضد ما تعلق بالنطق، ونقطه أفاد ثبوت الزكاة في الغنم حسبُ؛ فيجب أن يكون دليله سقوط الزكاة عن معلوفة الغنم حسبُ.
وقيل: إنه يقتضي سقوط الزكاة عن معلوفة الحيوان كله، وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث1؛ لأنه ذكر له حديث بهز بن حكيم2، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في كل
__________
1 هو: إبراهيم بن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن الصامت. من كبار أصحاب الإمام أحمد، وقد كان من المكرمين عنده، نقل عن أحمد كثيرًا من المسائل، بلغت أربعة أجزاء.
له ترجمة في "طبقات الحنابلة": "94/1".
2 هو: بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، أبو عبد الملك القشيري البصري. روى عن أبيه وعن زرارة بن أوفى، وعنه سفيان ويحيى القطان وغيرهما. اختلف فيه: فوثقه ابن معين وابن المديني والنسائي، وقال أبو داود: "أحاديثه صحاح"، وقال أبو حاتم: "هو شيخ، يكتب حديثه، ولا يحتج به"، وقال فيه الذهبي: "صدوق، فيه لين". والحق أنه حسن الحديث كما ذهب إليه غير واحد من المحققين.
له ترجمة في: "الجرح والتعديل" "2/430-431"، و "المغني في الضعفاء" "1/116"، و "ميزان الاعتدال" "1/353".

(2/473)


إبل سائمة" 1، هل يدخل في هذا أنه لا يكون إلا في السائمة، ولا يكون في العوامل زكاة؟ فقال: أجل، لا يكون في العوامل زكاة، ولا يكون إلا في السائمة؛ فعم سقوط الزكاة في غير السائمة من سائر الحيوان باللفظ المنصوص عليه في الإبل.
قال ابن فورك: هو الظاهر2؛ وذلك لأن السوم يجري مجرى العلة في تعلق الحكم به؛ فوجب كذلك حيث وجد، وعدمه حيث عدم كالشرط المعلق عليه الحكم.
ويلزم هذا القائل: أن يقول: ما عدا السائمة من الغنم لا زكاة فيه من الحيوان وغيره، حتى لو استدل به على أن الزيتون لا زكاة فيه كذلك؛ جاز لأنه ليس بغنم سائمة، وقد لا يلزمه ذلك؛ لأن النطق اقتضى إيجاب الزكاة فيما فيه السوم، فاقتضى إسقاطه فيما لا سوم فيه مما يدخله السوم.
واحتج: بأنه لو كان دليل الخطاب حجة في الإثبات؛ لكان حجة في النفي.
والجواب: أنه حجة في النفي، كما هو حجة في الإثبات، ولا
__________
1 هذا الحديث أخرجه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/363" ، وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة باب سقوط الزكاة عن الإبل "5/17" ، وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة باب ليس في عوامل الإبل صدقة "1/333" .
كما أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده في "5/2" وسنده حسن.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"311" .
2 في الأصل: "طر".

(2/474)


فرق بين قوله: "القطع في ربع دينار" ، وبين قوله: "لا قطع إلا في ربع دينار" .
وقد قال أحمد رحمه الله: قوله: "لا وصية لوارث" ؛ [63/ب] دليل على أنها تصح لغير وارث.

(2/475)


فصل 1 إذا تعلق الحكم باسم؛ دل على أن ما عداه بخلافه:
أن2 الصفة وضعت للتمييز بين الموصوف وغيره، كما أن الاسم وضع لتمييز المسمى من غيره؛ فإذا قال: ادفع هذا إلى زيد أو إلى عمرو، واشتر لي شاة أو جملًا، وما أشبه ذلك، لم يجز العدول عنه، وكانت التسمية للتميز والمخالفة بينه وبين ما عداه كالصفة سواء، ثم لو علق الحكم على صفة؛ دل [على] أن ما عداه بخلافه، كذلك إذا علقه بالاسم.
فإن قيل: الاسم لا يجوز أن يكون علة للحكم، والصفة يجوز أن تكون علة.
قيل: يجوز أن يكون الاسم علة كالصفة.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني: يتوضأ بماء الباقلا، وماء الحمص؛ لأنه ماء؛ وإنما أضفته إلى شيء لم يفسد، وإنما غير لونه، فقد جعل العلة في جواز الوضوء به وقوع اسم الماء عليه.
فإن قيل: لو قال: أوجبت الزكاة في الغنم، وأوجبتها في البقر؛ لم
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"352-353"، و"شرح الكوكب المنير" ص"249-250"، و"نزهة الخاطر" لابن بدران "2/224-225" .
2 "أن" مكررة في الأصل.

(2/475)


يتنافيا1 ذلك، ولو قال: في سائمة الغنم وفي المعلوفة زكاة؛ تنافيا، وسقط أن يكون الحكم متعلقًا بصفة السوم أو بصفة العلف، وصار الوجوب متعلقًا بصفة السوم أو بصفة العلف، وصار الوجوب متعلقًا2 باسم الغنم فحسب.
ولأنهم يسمون كل واحد من الجماعة باسم مع تساويهم في الحكم؛ فيقولون: أعط زيدًا وعمرًا وخالدًا وبكرًا، واشتر لحمًا وتمرًا، ولا يضمون بصفة إلى اسم، والموصوف بالصفة وبضدها سواء عندهم في الحكم؛ فلا يقولون: ادفع إلى رجل فقير أو إلى رجل غني، والفقير والغني سواء عندهم3.
قيل: لا فرق بينهما، وذلك أنهم يضمون صفة إلى اسم الموصوف، كما يضمون اسمًا إلى اسم، فيقولون: أعط الفقراء والأغنياء.
وعلى أن هذا باطل بـ"الغاية"؛ فإن ما بعدها4 مخالف لما قبلها؛ وإن كان الجمع بين ما بعد الغاية وما قبلها، فيقول: اغسلوا أيديكم إلى المرافق، واغسلوا ما فوق المرافق، كذلك لا يمتنع في الحكم إذا علق باسم يجوز الجمع بينه وبين ضده، ومع هذا إطلاقه يدل على خلافه؛
فإن قيل: لو قال: زيد أكل؛ لم يدل على أن غيره لم يأكل، ألا ترى أنه لو أفاد ذلك لما حسن أن يخبر من بعد. أن عمرًا أكل؛ لأنه يكون متناقضًا5 في كلامه، وكذلك لو قال: جاء زيد الطويل، دل على أن ما عداه بخلافه؛ لأن هذه زيادة صفة.
قيل: لا نسلم هذا، بل نقول: قوله: زيد أكل، يدل على أن
__________
1 في الأصل: "يتنافا".
2 في الأصل: "منطلقًا".
3 في الأصل: "عنده"، والصواب من أثبتناه؛ لعود الضمير على جمع.
4 في الأصل: "بعده"، والصواب ما أثبناه، لعود الضمير على مؤنث.
5 في الأصل: "مناقضًا".

(2/476)


غيره لم يأكل، ثم هذا باطل بالصفة؛ فإنه لو قال: السائمة أكلت، وجاءت السائمة؛ لم يدل ذلك على أن المعلوفة لم تأكل ولم تجئ، ومع هذا تعليق الحكم بها يدل على خلافها.
وما ذكروه من أنه يحسن أن يخبر [64/أ] بعد ذلك أن عمرًا قد أكل؛ فإنه يبطل بالصفة، فإنه يصح أن يخبر1 [أن في] السائمة زكاة، ويخبر بعد ذلك في المعلوفة.
فإن قيل: استعمال دليل الخطاب في الاسم يسد باب القياس؛ لأنه إذا قال: لا تبيعوا البر بالبر؛ يجب أن لا يقاس الأرز عليه؛ لأن تخصيص البر بالذكر يوجب إباحة التفاضل في غيره؛ فلما كان مانعًا من القياس الثابت وجب اطراحه.
قيل: هذا لا يصح لوجوه:
أحدها: أن الكلام في هذه المسألة في أصل اللغة، وهو للخطاب دليل أم لا؟ والقياس حكم شرعي، فكان يجب أن يثبت له دليل في أصل اللغة وإن منع منه الشرع.
وعلى أن هذا يبطل بالصفة؛ فإنه يمنع القياس فيما عداها، كذلك الاسم يمنع القياس فيما عداه، ولا فرق بينهما.
وعلى أنه كان يجب استعماله ما لم يعترض2 على معنى اللفظ؛ فإذا اعترض3 عليه؛ سقط، كما استعملنا الدليل ما لم يعارض التنبيه، نحو قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4 دليله: أن غير التأفيف يجوز، لكن لما كان ذلك يسقط معنى اللفظ؛ سقط.
__________
1 في الأصل: "غير".
2 في الأصل: "يعرض".
3 في الأصل: "أعرض".
4 "23" سورة الإسراء، والآية في الأصل: "ولا تَقُلْ"... بالواو، وهو خطأ.

(2/477)


فصل 1 أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لها دليل:
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل: لا يصلى على القبر بعد شهر، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم على قبر أم سعد2 بعد شهر3؛ فجعل صلاته بعد شهر دليلًا على المنع فيما زاد عليه؛ لأن الفعل كالقول في أنه يقتضي الإيجاب، ويخصص به4 العموم.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"353"، و"شرح الكوكب المنير" ص"250" .
2 هي: كبشة بنت رافع بن عبيد، أم سعد بن معاذ الخزرجية، صحابية، عاشت إلى أن توفي ابنها سعد بن معاذ.
لها ترجمة في: "الاستيعاب" : "4/1906" ، و "الإصابة" القسم الثامن ص"91"، طبعة دار نهضة مصر.
3 هذا الحديث أخرجه البيهقي في كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن الميت "4/48-49"، عن ابن عباس رضي الله عنه موصولًا، وفي إسناده "سويد بن سعيد"، متكلم فيه.
وأخرجه البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلًا في الموضع السابق، وقال: "وهو مرسل صحيح"، كما قال: "والمشهور عن قتادة عن ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا".
ووافقه ابن حجر على ذلك في كتابه: "تلخيص الحبير" : "2/125" ، وأخرجه مرسلًا الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على القبر "3/347" .
4 في الأصل: "بها".

(2/478)


قوله عليه السلام "إنما الولاء لمن أعتق"
مدخل
...
فصل 1 قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق":
قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق" ، يقتضي نطقه: إثبات
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"354"، و"شرح الكوكب المنير" ص"250-252"، و"روضة الناظر" ص"143".

(2/478)


الولاء للمعتق، وانتفاء الولاء لغير المعتق مستفاد من ناحية الدليل1.
وقال قوم: النطق أفاد الأمرين معًا2، وهو اختيار أبي عبد الله الجرجاني؛ لأنه ذكر هذا الخبر وقال: قد قيل: إن ذلك يدل على نفي غيره، قال: وهو قول محتمل؛ لأنه يستعمل على وجه التأكيد للمذكور وتحقيقه، مثل قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3.
ولأنه يشبه الاستثناء من الجملة؛ لأن هذه إنما يستحق الإلهية إله واحد؛ وإنما الولاء يستحقه الذي يعتق، فأشبه4 النفي والإثبات في الأشياء5.
__________
1 وبهذا قال ابن عقيل والحلواني من الحنابلة.
انظر المراجع السابق ذكرها.
2 وبهذا قال أبو الخطاب والموفق ابن قدامة من الحنابلة.
انظر المراجع السابق ذكرها.
3 "171" سورة النساء.
4 في الأصل: "فنبه".
5 هناك رأي ثالث في المسألة، لم يذكره المؤلف، وهو: أن "إنما" لا تفيد الحصر نطقًا ولا فهمًا، وإنما تؤكد الإثبات، وبه قال أكثر الحنفية واختاره الآمدي والطوفي، وإليه مال أبو حيان.
راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي "3/91"، و"شرح الكوكب المنير": ص"251"، و"فواتح الرحموت على مسلم الثبوت": "1/434".

(2/479)


دليلنا:
إن قوله: "إنما الولاء لمن أعتق" ، إنما فيه الولاء للمعتق فحسب، وأما النفي؛ فليس في اللفظ ما يقتضيه؛ فلم يجز أن يدعي انتفاء الولاء من نفس اللفظ، وإنما هو مستفاد من الدليل، فلا يشبه هذا قوله: "لا صلاة إلا بطهور" .

(2/479)


ولأن في اللفظ نفيًا وإثباتًا، فحكم بأن الأمرين معًا استفيدا من نفس اللفظ.
وما ذكروه من أنها تستعمل على وجه التأكيد للمذكور [64/ب] وتحقيقه؛ فهو كما قال، إلا أن المذكور هو إثبات الولاء للمعتق؛ فأما نفيه عن غير المعتق؛ فغير مذكور.
وقوله: يشبه الاستثناء من الجملة، دعوى.

(2/480)


فصل 1 [مفهوم الخطاب والتنبيه واحد]:
وهو مثل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} 2 ؛ نبه على أنه إذا أمن3 بدينار أداه.
وكذلك قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4؛ نبه على المنع من الضرب وهذا مستفاد من فحوى الخطاب ومفهومه، لا من نطقه.
وقد احتج أحمد بمثل هذا في مسائله فقال رحمه الله في رواية أحمد بن سعيد5: لا شفعة لذمي، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتموهم
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"346-347"، و"شرح الكوكب المنير" ص"240-241"، و"روضة الناظر" ص"138".
2 "75" سورة آل عمران. والآية في الأصل: "وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ"، وقد صوب الناسخ الآية في الهامش بما هو ثابت في المصحف الكريم.
3 في الأصل: "أمر".
4 "23" سورة الإسراء، والآية في الأصل: { وَلَا تَقُلْ} بالواو، وهو خطأ.
5 في "طبقات الحنابلة": "1/45-46"، ثلاثة بهذا الاسم؛ فالأول: أبو العباس اللحياني، والثاني: أبو عبد الله الرباطي، والثالث: أبو جعفر الدارمي، وكلهم من أصحاب الإمام أحمد، الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل. ولم أهتد إلى معرفة مراد المؤلف بهذا الاسم.

(2/480)


في طريق فألجئوهم إلى أضيقه" 1؛ فإذا كان ليس لهم في الطريق حق، فالشفعة أحرى أن لا يكون لهم فيها حق2.
وقال أيضًا في رواية الفضل بن زياد وقد سئل عن رهن المصحف عند أهل الذمة قال: "لا، نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو3".
وحكي عن قوم: أنه لا مفهوم للخطاب؛ وإنما دل الخطاب على المنع
__________
1 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم "4/1707".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأدب، باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة "5/60"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب في السلام على أهل الذمة "2/643".
وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب السلام والاستئذان باب الأمر بإفشاء السلام، وما جاء في السلام على أهل الكتاب والرد عليهم "1/362".
وأخرجه أحمد في "مسنده" 2/263.
وراجع في هذا الحديث أيضا: "فيض القدير" 6/386، و"تيسير الوصول" 2/273.
2 من أول الرواية إلى هنا منقول في "المسودة" ص"347". وكذلك رواية الفضل بن زياد الآتية غير أنه لم يذكر اسم الراوي في الموضعين.
3 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار "3/1490"، وأخرجه عنه الإمام الشافعي، انظر: "بدائع المنن" في كتاب الجهاد باب النهي عن السفر بالمصحف إلى بلاد العدو "2/105".

(2/481)


من التأفيف حسبُ. سمعت أبا القاسم الجزري1 يحكي أنه قول داود.
وحكي عن قوم: أن المنع من التأفيف وسائر أنواع الأذى مستفاد من اللفظ2.
أما من قال: لا مفهوم للخطاب؛ فقول ظاهر الفساد؛ لأنه قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 3 واضْرِبْه؛ مراد بالأول نفي الأذية عنه، كان ذلك نقضًا لموضوع كلامه ومفهوم نطقه؛ فلا يجوز أن يقال: إن اللفظ ما تضمن المنع من الضرب.
وأما من قال: إن اللفظ تضمن ذلك فهو ظاهر الفساد أيضًا؛ لأن قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4 اقتضى نطقه المنع من التأفيف، وليس في لفظه المنع من غيره؛ فلا يجوز أن يكون غير التأفيف ممنوعًا بالنطق، لكن لما منع من التأفيف من الأذى، فكان الضرب فيه أكثر من الأذى، كان المعنى الذي يمنع من التأفيف لأجله مجودًا في الضرب وزيادة، فكان ممنوعًا منه5.
__________
1 كان حيًا سنة "402" ومن الذين وقعوا محضر الطعن في نسب العبيديين في هذه السنة.
انظر: "المنتظم": "7/256".
2 المؤلف هنا: خلط بين مسألتين، الأولى: هل مفهوم الموافقه حجة أو لا؟. والثانية الذين يقولون بمفهوم الموافقة اختلفوا في الدلالة هل هي لفظية أو قياسية؟.
3 "23" سورة الإسراء.
4 "23" سورة الإسراء، والآية في الأصل: {وَلا تَقُلْ} ... بالواو، وهو خطأ.
5 فات المؤلف هنا: أن ينبه على أمرين هما:
الأول: شرط مفهوم الموافقة، وهو: أن يكون الحكم في المسكوت عنه أولى من المنطوق عند جماعة، وزاد آخرون: أو مساويًا له.
ومثلوا للأول: بقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ؛ فالضرب أولى بالحكم من التأفيف. =

(2/482)


.................................................
__________
= ومثلوا للثاني: بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} ، فإحراق أموالهم مساوٍ لأكلها في الإتلاف.
الثاني: تقسيم مفهوم الموافقة، وهو ينقسم إلى قسمين:
1- قطعي، ومثلوا له بآية التأفيف؛ فإنه يقطع بأن الضرب للوالدين أشد إيذاء من التأفيف.
2- ظني، ومثلوا له بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ؛ فإن الآية دلت على وجوب الكفارة في القتل الخطأ، فيظن: أن القتل العمد أولى بالكفارة. وإنما قلنا: ظني؛ لاحتمال أن لا تقوى الكفارة على رفع العمد، بخلاف القتل الخطأ.
راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي "3/65"، و"روضة الناظر" ص"154"، و"حاشية البناني مع شرح الجلال على جمع الجوامع" "1/240-243".
وربما أشار المؤلف إلى ذلك في الروايتين اللتين نقلهما عن الإمام أحمد، الأولى: من رواية أحمد بن سعيد، والثانية: من رواية الفضل بن زياد.
وقد رأيت صاحب "المسودة" ص"347" نقل الرواية على أنها مثال للقطعي؛ فرهن المصحف عند الذمي أولى بالتحريم من السفر به إلى أرض العدو خشية أن ينالوا منه.
كما نقل الرواية الثانية على أنها مثال للظني؛ لأنه إذا لم يكن لهم حق في الطريق، فأولى أن لا يكون لهم حق في الشفعة.
قلت: بل ذلك لاحتمال أن لا يكون المراد من الحديث: ليس لهم حق في الطريق، بل المراد: أن لا يوسع لهم فيه على سبيل التعظيم لهم. والله أعلم.

(2/483)