العدة في أصول الفقه

باب العموم
مدخل
...
باب العموم 1 :
العموم 2 على أربعة أضرب 3:
[الأول]:
لفظ الجمع، مثل: المسلمين، والمشركين، والرجال، والجبال، والأبرار، والفجار4.
الثاني:
لفظ الجنس5، مثل الناس، والنساء، والإبل، والحيوان وليس ذلك من ألفاظ الجمع؛ لأنه ليس له من جنسه واحد.
__________
1 سبق تعريف العام في باب ذكر الحدود ص"140".
2 لو عبر: بألفاظ العموم؛ كان أولى؛ لأن التقسيم لألفاظ العموم لا للعموم نفسه.
3 راجع في هذا: "المسودة" ص"89-90"، و "شرح الكوكب المنير" ص"346-347" من الملحق و "روضة الناظر" ص"116-119".
4 يشترط في هذا الضرب والضرب الثاني والضرب الرابع: أن تكون "أل" لغير معهود، وقد جمع ابن قدامة هذه الأشرب الثلاثة تحت قسم واحد عبر عنه بقوله: "كل اسم عرف بالألف واللام لغي المعهود"، و"روضة الناظر" ص"116".
5 الجنس: كما في "رضوة الناظر": "ما لا واحد له من لفظه"، كما مثل المصنف هنا.

(2/484)


الثالث:
الألفاظ المبهمة، مثل "من" في العقلاء، و"ما" في غيرهم إذا كان في الاستفهام أو في [65/أ] الشرط والجزاء، و"أي" في الجمع، و"أين" في المكان، و"متى" للزمان.
الرابع:
الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام، مثل: الإنسان، والسارق، والزاني، والقاتل، والكافر، والبيع، والصيد، والدينار وما أشبهه1.
__________
1 هناك بعض صيغ العموم، لم يذكرها المؤلف، وإليك هي:
الأولى: "كل" نحو قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} .
وكذلك: "جميع"، وقد ذكرها الآمدي في "الإحكام": "2/183"، وابن قدامة في "روضة الناظر" ص"116"، ولم يمثلا لها.
وقد ذكر الجلال المحلي في "شرحه لجمع الجوامع": "1/409": أن ابن السبكي كتبها بعد "كل"، ثم شطب عليها؛ وذلك لأنها تضاف إلى المعرفة، فالعموم من المضاف إليه لا من المضاف؛ ولكن البنانين في حاشيته في الموضع المشار إليه، مثل لها بقوله: "جميع زيد حسن"، واتبعه بقوله: "لا عموم في المضاف إليه قطعًا"، ولم يسلم له ذلك فقد ذكر الشربيني في تقريره: أن السعد تعقبه بقوله: "قد يقال على معنى.. جميع أجزاء زيد".
الثانية: ما أضيف من ألفاظ الجموع والأجناس ولفظ الواحد إلى معرفة كقولك: نساء زيد، وإبل عمرو.
الثالثة: النكرة في سياق النفي، كقولك: لا رجل في الدار.
ومن أراد الاستزدادة فليرجع إلى: "الإحكام للآمدي": "2/183"، و"روضة الناظر" ص"116".

(2/485)


صيغة العموم
مدخل
...
[صيغة العموم]:
وله صيغة موضوعة له في اللغة، إذا وردت متجردة عن القرائن دلت على استغراق الجنس، نص على هذا في رواية ابنه عبد الله رحمهما الله،

(2/485)


وقد سأله عن الآية إذا جاءت عامة، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1، وأخبره أن قومًا يقولون: لو لم يجئ فيها خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم توقفنا عندها؛ فلم نقطع حتى يبين الله لنا فيها، أو يخبر الرسول، فقال: قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 2 فكنا نقف عند الولد لا نورثه، حتى ينزل الله تعالى: أن لا يرث قاتل، ولا عبد، ولا مشرك.
وقال في كتاب طاعة الرسول: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3، فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم "سارق" وإن قل؛ فقد وجب عليه القطع. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع في ثمر ولا كثر" 4 دل ذلك
__________
1 "38" سورة المائدة.
2 "11" سورة النساء.
3 "38" سورة المائدة.
4 لفظ الحديث هذا: "لا قطع في ثمر ولا كثر" ، وقد رواه رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الحدود باب ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر بسنده المتصل عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن رافع بن خديج رضي الله عنه "4/52-53"، ثم قال بعد ذلك: "هكذا روى بعضهم"، ثم قال: "وروى مالك بن أنس وغير واحد هذا الحديث.. ولم يذكروا فيه عن واسع بن حبان".
وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود باب ما لا قطع فيه بالسند المذكور "2/449"، غير أنه لم يذكر: "واسع بن حبان"، فيكون السند على هذا منقطع؛ لأن: "محمد بن يحيى"، لم يسمع من "رافع بن خديج".
وأخرجه النسائي في كتاب قطع السرقة، باب ما لا قطع فيه، بمثل سند الترمذي الذي ذكرته متصلًا ومنقطعًا؛ كما أخرجه عن رافع أيضًا، وفيه: "ميمون" قال: إنه لا يعرفه، كما أخرجه عن رافع بسند آخر هو: "أخبرنا محمد بن خالد =

(2/486)


.....................
__________
= ابن خلي قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا سلمة، يعني ابن عبد الملك العوصي عن الحسن وهو ابن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن رافع بن خديج.."، "8/79-81".
وأخرجه عن رافع بن ماجه في كتاب الحدود باب: لا يقطع في ثمر ولا كثر "2/865" بسند متصل، كما أخرجه في نفس الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي سنده: "سعد بن سعيد المقبري"، وأخوه: "عبد الله بن سعيد المقبري" ؛ أما الأول: فقد قال فيه ابن عيينة: "كان قدريا". وقال فيه ابن عدي: "لم أر للمتقدمين في "سعد" كلامًا، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه". وقال أبو حاتم: "مستقيم في نفسه، بليته من أخيه". وقال فيه الذهبي" واهٍ، ورمي بالقدر أيضًا".
انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" 1/254، و "ميزان الاعتدال" 2/120.
أما الثاني: فمتروك، كما قال أحمد والدارقطني والبخاري وغيرهم.
انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء": "1/340"، و "ميزان الاعتدال": "2/429".
وأخرجه الدارمي كذلك متصلًا ومنقطعًا، وبإسناد ثالث فيه مجهول، وذلك في سننه في كتاب الحدود، باب: ما لا يقطع فيه من الثمار "2/95-96" وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" عن رافع في كتاب الحدود باب سرقة الثمر والكثر، متصلًا ومنقطعًا "3/172".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في أبواب القطع في السرقة باب ما لا قطع فيه، بسند متصل "3/301".
وأخرجه عنه مالك في "الموطأ" في كتاب الحدود باب ما لا قطع فيه، بسند منقطع "4/163".
وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده" في كتاب الحدود باب ما لا قطع فيه، بسند متصل "1/301".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "3/361-362"، و"تلخيص =

(2/487)


[على]1 أنها ليست على ظاهرها، وأنه على بعض السراق دون بعض.
واحتجاجه في المسائل بالعموم كثير، ورأيت في مجموع لأبي بكر بخطه: قد أبان أبو عبد الله رحمه الله عموم الخطاب؛ فلا يخصه إلا بدليل، واستدل على ذلك بكلام كثير2، وقال بعد ذلك: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3 كقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4؛ فلو لم يجئ بيان من يقتل من المشركين،
__________
= الحبير": "4/65"، و"فيض القدير": "6/436".
ومن هذا العرض للحديث تبين أن الحديث روي مسندًا، كما روي منقطعًا، والانقطاع حصل بحذف الواسطة بين: "محمد بن يحيى بن حبان" وبين: "رافع بن خديج"، وهذه الواسطة هو: "واسع بن حبان"، الذي قد جاء ذكره في الأسانيد المتصلة. وبهذا يصبح الحديث صالحًا للاحتجاج به، وبخاصة: وقد تلقته الأمة بالقبول، كما يقول الطحاوي فيما نقله عنه ابن حجر في التلخيص.
وقد نقل الرزقاني في شرحه على "موطأ مالك" عن ابن العربي قوله: "فإن كان فيه كلام؛ فلا يلتفت إليه": "4/164"، والله أعلم.
معنى: "الثمر": ما كان على رءوس النخل، ويطلق على الثمار كلها قبل أن تجذ. وقيل: كل ما يسرع إليه الفساد.
معنى: "الكثر": جمار النخل، وهو: شحمه الذي في وسطه. وقيل هو: الطلع، وهو: أول ما يبدو من ثمر النخل.
انظر: "الفائق في غريب الحديث": "3/247".
1 زدنا هذه الكلمة ليستقيم الكلام، علمًا أن صاحب "المسودة" ص"90"، ذكرها، عندما نقل كلام المؤلف هنا.
2 من قول المؤلف: "وله صيغة موضوعة في اللغة..." إلى هنا منقول بنصه في "المسودة" ص"89-90"، مع العزو للمؤلف هنا.
3 "38" سورة المائدة.
4 "5" سورة التوبة.

(2/488)


ويقطع من السراق؛ لاقتضى الحكم على العموم، وحكى قول من قال بالوقف.
وبهذا قال جماعة الفقهاء: أبو حنيفة ومالك والشافعي وداود1.
وذهب أبو الحسن الأشعري وأصحابه: إلى أن العموم لا صيغة له، وأن الألفاظ التي تصلح للعموم والخصوص؛ يجب التوقف فيها إلى أن يدل الدليل على أحدهما، فيحمل عليه2.
وحكي عن محمد بن شجاع الثلجي3 أنه قال: يحمل على الثلاثة، ويتوقف فيما زاد عليه، حتى يقوم الدليل على المراد به، وحكي ذلك عن جماعة من المعتزلة.
ومن الناس من فرق بين الأوامر والأخبار؛ فقال: في الأوامر تحمل على العموم، ووقف في الأخبار.
__________
1 راجع في نسبة هذا الرأي بالنسبة للحنفية: "تيسير التحرير": "1/197" وما بعدها، و"أصول السرخسي": "1/151-162"، وبالنسبة للمالكية: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص"178-182"، وبالنسبة للشافعية: "الإحكام" للآمدي": "2/185-204"، و"شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع": "1/408-414"، وبالنسبة للظاهرية: "الإحكام لابن حزم": "3/338-362".
2 هذا أحد القولين المنقولين عن أبي الحسن الأشعري رحمه الله، وقد وافقه عليه القاضي أبو بكر الباقلاني.
وهناك قول آخر هو القول بالاشتراك بين العموم والخصوص.. حكى هذا الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/186".
3 هكذا ضبطه المصنف: "الثلجي" بالمثلثة الفوقية بعدها لام ساكنة فجيم معجمة؛ ولكن الناسخ صوبه في الهامش بقوله: "هكذا في الأصل، وصوابه البلخي" أي بالموحدة التحتية بعدها لام ساكنة فخاء معجمة وهو كذلك في "المسود" ص"89".
وما ضبطه به المؤلف هو الصواب، الموافق لما في "تاريخ بغداد": "5/350"، و"شذرات الذهب": "2/151"، و"المغني في الضعفاء": "2/591".
وهو محمد بن شجاع، أبو عبد الله، المعروف بالثلجي، فقيه الحنفية في وقته، سمع من يحيى بن آدم وابن علية وغيرهما. وتفقه على الحسن بن زياد اللؤلؤي، اتهم بالوضع، وبالوقف في القرآن، وبالكذب. قال فيه أحمد: مبتدع صاحب هوى. مات فجأة سنة 266هـ، وله من العمر 90 سنة تقريبًا.
انظر ترجمته في المراجع السابق ذكرها.

(2/489)


دليلنا:
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 1، فروي أن عبد الله بن الزبعري2 قال: لما نزل ذلك لأخاصمن محمدًا، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: قد عبدت الملائكة وعبد المسيح أفيدخلون النار؟، فأنزل الله تعالى3: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 4[65/ب].
فحمل لفظ "ما" على عمومه، وهو حجة في اللغة.
وأكد ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليه، وبين الله تعالى مراده
__________
1 "98" سورة الأنبياء.
2 هو عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي... القرشي، السهمي، أبو سعد، صحابي جليل، كان من شعراء قريش المشهورين، هجا المسلمين بشعره قبل إسلامه، ثم أسلم عام الفتح، وشهد المشاهد بعد الفتح.
له ترجمة في "الاستيعاب": "3/901"، و"الإصابة": "4/68".
3 أخرج هذه الحادثة الواحدي بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما وذلك في كتابه: "أسباب النزول" ص"315". كما ذكر ذلك الفخر الرازي في "تفسيره": "22/223".
4 "101" سورة الأنبياء.

(2/490)


فيه، فأنزل قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ، يدل على أن "ما" للعموم.
ثم أسلم عبد الله، واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصيدة، يقول فيه1:
أيام يأمرني بأغوى خطة ... سهم ويأمرني بها مخزوم
فاليوم آمن بالنبي محمد ... قلبي، ومخطئ هذه محروم
فاغفر فدى لك والدي كلاهما ... ذنبي؛ فإنك راحم مرحوم2
ويدل عليه قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} 3، فقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ؛ فحمل نوح لفظ "الأهل" على عمومه، فلم ينكر الله تعالى عليه ذلك، وإنما بين أن مراده خاص، وهو: المصلح منهم.
__________
1 الضمير في قوله: "فيه" إن كان يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالكلام مستقيم، وإن كان يعود إلى القصيدة؛ فيجب أن يقول: "فيها".
2 هذه الأبيات، ذكر منها الحافظ ابن حجر في كتابه: "الإصابة" عن ترجمة عبد الله الزبعرى "4/68" بيتين، الأول والثاني، وذكره بينهما بيتًا ثالثًا غير مذكور هنا.
وكذلك. ذكرها الحافظ ابن عبد البر في كتابه: "الاستيعاب": "3/903-904"، ذكرها ضمن أبيات. ويلاحظ: أنه أبدل كلمة: "ذنبي" في الشطر الثاني من البيت الأخير، أبدلها بكلمة: "فارحم"
3 "45" سورة هود.

(2/491)


ويدل عليه قوله تعالى: في قصة إبراهيم: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} 1، علم من ذلك أنهم مهلكون لجميع أهلها، فقال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} ؛ فأخبرته الملائكة أنهم ينجونه وأهله، واستثنوه من جملة أهل القرية؛ فعلم أن إطلاق اللفظ اقتضى العموم.
فإن قيل: اللفظ يصلح للعموم؛ فلذلك حكم عليه في الآيات التي ذكر فيها.
قيل: لا يجوز حمله عليه بالصلاح له، بل يجب التوقف فيه، ومن فعل ذلك؛ فقد أخطأ عند المخالف، فلا يجوز حمله على الخطأ.
وعلى أن نوحًا عليه السلام قد قطع به بقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ، والصلاح لا يوجب القطع.
وأما قصة إبراهيم فلا يصلح هذا السؤال فيها أيضًا؛ لأنه لو كان للصلاح؛ لكان الكلام يخرج مخرج الاستفهام والمسألة، فيقول: ألوط فيهم؟ أتهلكونه فيمن يهلكون؟ فلما ذكر لفظ التخيير والتخويف، يعني لا تهلكوهم، فإن فيهم لوطًا؛ علم أنه كان قد عقل من ظاهر اللفظ: أنه مقتضٍ للعموم والشمول.
وأيضًا: فإن المسألة إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
من ذلك: أن عمر احتج على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في منعه من قتال مانعي الزكاة لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إل الله؛ فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم" ؛ فلم ينكر عليه ذلك؛ وإنما عدل إلى الاستثناء،
__________
1 "31" سورة العنكبوت.

(2/492)


فقال: الزكاة من حقها، وقال النبي: "إلا بحقها" .
وكذلك مطالبة فاطمة1 أبا بكر رضي الله عنهما بالميراث2 من النبي صلى الله [66/أ] عليه وسلم، واحتجاجها بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 3؛ فأقرها على العموم، وقابلها بقوله: "ما نورث ما تركنا صدقة" 4.
__________
1 هي فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم، أم الحسن والحسين، زوجة علي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع. ولدت قبل البعثة بنحو ستة أشهر. وماتت بعد وفاة والدها بستة أشهر، كما صح ذلك عن عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركناه صدقة" : "3/1379-1380".
لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1893"، و "الإصابة": "8/157-160".
2 ذكر مجيء فاطمة رضي الله عنها تطلب ميراثها من أبي بكر رضي الله عنه.. أورده ابن الجوزي في كتابه: "الموضوعات": "3/281"، ونقل عن ابن قتيبة قوله: "وكنت أرى أن لهذا أصلًا؛ فقال بعض نقلة الأخبار: أنا أسن من هذا الحديث، وأعرف من عمله". ولم يذكر ابن الجوزي ذلك بالسند، حتى ينظر فيه.
وقد تعقب السيوطي في كتابه: "اللآلئ المصنوعة": "2/441-442"، ابن الجوزي في ذكره لهذا الحديث في كتابه: "الموضوعات" بقوله: "قلت أي السيوطي: في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة: "أن فاطمة أتت أبا بكر تلتمس ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث.." الحديث.
3 "11" سورة النساء.
4 هذا الحديث أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها وذلك في كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" : "8/185-187". وعنها أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث" الحديث "3/1379-1383".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال "2/126-128".
وعن أبي هريرة أخرجه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم "4/157-158".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "مسند أبي بكر رضي الله عنه" ص"32، 33، 34، 35"، و "تيسير الوصول إلى جامع الأصول": "3/148-149"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"524".

(2/493)


وكذلك لما اختلف عثمان1، وعلي رضي الله عنهما [في الجمع بين الأختين بملك اليمين] فقال عثمان: يجوز، واحتج بعموم2 قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 3، وقال علي: لا يجوز، واحتج بعموم قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} 4.
__________
1 هو عثمان بن عفان الأموي، ذو النورين. ثالث الخلفاء الراشدين. من السابقين إلى الإسلام. هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، استشهد سنة 35هـ بعد خلافة دامت 12 سنة، وله من العمر بضع وثمانون سنة.
له ترجمة فيه: "الاستيعاب": "3/1037"، و"أسد الغابة": "1/40"، و"تذكرة الحفاظ": "1/8"، و"شذرات الذهب": "1/40"، و"النجوم الزاهرة": "1/92".
2 في الأصل: "لعموم".
3 "30" سورة المعارج.
4 "23" سورة النساء.
وهذا الأثر أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب النكاح باب ما جاء في كراهية إصابة الأختين بملك اليمين "3/148-149".
وراجع في هذا الأثر: "تيسير الوصول" في كتاب النكاح، الفصل الثاني: ما لا يوجب حرمة مؤبدة "2/168"، و"تفسير القرطبي": "5/117"، "تفسير الفخر الرازي": "10/34-35"، و"أحكام القرآن" للجصاص "3/74-75".

(2/494)


واحتج أيضًا من كان يبيح شرب الخمر1 بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} 2، ولم ينكر سائر الصحابة ذلك؛ وإنما بينوا لقائل هذا أنه منسوخ.
وروي عن عثمان3 أنه لما سمع قوله:
وكل نعيم لا محالة زائل4
__________
1 ينسب القول بإباحة الخمر إلى قدامة بن مظعون رضي الله عنه؛ فقد روي أنه شربها متأولًا الآية التي ذكرها المؤلف.
كما روى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه: "أن قومًا بالشام شربوا الخمر متأولين لهذه الآية؛ فقال عمر وعلي رضي الله عنهما: يستتابوا؛ فإن تابوا؛ وإلا قتلوا".
راجع: "سنن الدارقطني": "3/166"؛ فإنه أخرج قصة شارب الخمر من الصحابة، ولم يذكر اسمه، وراجع أيضًا: "التعليق المغني على الدارقطني" في الموضع السابق، وانظر: "تفسير الفخر الرازي": "10/34-35".
2 "93" سورة المائدة.
3 هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب القرشي الجمحي، أبو السائب، صحابي جليل. هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا. ومات بالمدينة سنة 2هـ، ودفن بالبقيع.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/1053"، و "الإصابة" القسم الرابع ص"461" طبعة دار نهضة مصر.
4 هذا عجز بيت للشاعر لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه، ورد البيت في ديوانه ص"256"، وصدر البيت هو: =

(2/495)


قال: كذبت، نعيم أهل الجنة لا يزول، وهذا يدل على أنه يجب حمل اللفظ على عمومه عندهم.
فإن قيل: يحتمل أن يكون مع كل لفظ قرينة تدل على أن المراد بها الجنس، وهو دلالة الحال.
قيل: لو كان لنقل؛ لأن ما لا يتم الدليل [إلا] به لا يسوغ للراوي ترك نقله، وحيث لم ينقل؛ ثبت أنه ما كان، يبين صحة هذا أنه معلوم أن الجماعة لم تشترك في معرفة القرينة؛ فلو كان موضوع اللفظ لا يفيد؛ ما قلنا لم يقتصروا على هذا اللفظ دون القرينة.
فإن قيل: يحتمل أن يكون سكوت الصحابة عن الرد على من احتج بالعموم، لأجل علمها أن هذا الخطأ لا يبلغ بصاحبه المأثم.
قيل: هذا لا يصح؛ لأن ألفاظ العموم جرت في احتجاج بعضها على بعض في الأحكام؛ فلو كان عند المحجوج عليه أن لا دلالة في اللفظ؛ لسأله عما أوجب القول بعمومه، كما سأله عن حجاج قوله؛ ألا ترى:
__________
=
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وهو من قصيدة يقول في مطلعها:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
كما ورد البيت منسوبًا إلى لبيد في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة " 1/297".
وفي كتاب "الموشح" للمرزباني ص"100".
وقد نسب المرزباني التكذيب للشاعر إلى عثمان بن مظعون، كما نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عن الجميع. المرجع السابق "100-101".
ولبيد هذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم، وحسن إسلامه، مات سنة 41هـ وله من العمر 140 سنة، وقيل أكثر من ذلك.
انظر ترجمته في: "الاستيعاب": "3/1335"، و"الإصابة" القسم الخامس ص"675" طبعة دار نهضة مصر. و"الشعر والشعراء": "1/274".

(2/496)


أن من ألزم غيره ما لا حجة فيه؛ لم يلزم، ولم تجر العادة بسكوته عنده، ولأنه لو كان هذا؛ لبطل تعلقنا بإجماع الصحابة في إثبات خبر الواحد والقياس، ولجاز أن يقال: إن سكوت الصحابة في ذلك؛ لأجل ما ذكره هذا القائل، دون تصويب الاجتهاد وقبل خبر الواحد.
فإن قيل: ما ذكرتموه من أخبار الآحاد؛ فلا يجوز أن يثبت بها أصل يقطع به.
قيل: أكثرها ثبت من جهة الاستفاضة فيما بينهم وانتشر؛ ولكن نقل إلينا نقل آحاد، وفي جملتها ما يقطع على صحته1، فهو مثل ما نقوله في الإخبار عن شجاعة عنترة وسخاء حاتم2، ثم نقل إلينا نقل آحاد، ويجب العمل به؛ لأنه تواتر في المعنى.
وأيضًا: فإن أهل اللغة متى أرادوا توكيد العموم؛ أكدوه بلفظ مخصوص لا يؤكدون به الخصوص؛ فقالوا في العموم: رأيت القوم أجمعين، ورأيتهم كلهم، وقالوا في الخصوص: "رأيت زيدًا نفسه"؛ فلولا [66/ب] أن للعموم صيغة يتميز بها من الخصوص؛ لما اختلف حكمها في التوكيد.
وقد عبر عن هذا بعبارة أخرى فقيل: لا يستعمل لفظ التأكيد مع اسم العموم إلا في الجنس كله، فيجب أن يكون الاسم موضوعًا للجنس،
__________
1 في الأصل: "صحة".
2 هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس، أبو عدي الطائي القحطاني. يضرب به المثل في الجود والكرم، كان فارسًا شاعرًا، له ديوان صغير مطبوع. قال صاحب تاريخ الخميس: "توفي حاتم في السنة الثامنة من مولد النبي صلى الله عليه وسلم".
له ترجمة في: "الأعلام": "2/151"، و"تاريخ الخميس": "1/255"، وفي هامش الأعلام. مراجع أخرى في ترجمته.

(2/497)


وإلا خرج اللفظ المعرف بالاسم من أن يكون تأكيدًا؛ لأنه لا يكون تأكيدًا إلا أن يكون معناهما واحد.
فإن قيل: قد يؤكد العموم والخصوص بالإشارة، وإن لم يكن لها صيغة يختص بها أحدهما دون الآخر.
قيل: الإشارة لم توضع لتوكيد العموم؛ وإنما هي موضوعة للاستعانة بها1 لينظر بها المخالف إلى قصد المشير2.
فإن قيل: فلو كان للعموم صيغة لاستغنى بها عن التوكيد؛ لأن التأكيد لا يفيد إلا ما أفادته الصيغة؛ فلما حسن توكيد العموم بما ذكرتموه؛ علمنا أن العموم لا صيغة له.
قيل: هذا يبطل بالاسم الخاص؛ لأنه يحسن توكيده بأن يقول: رأيت زيدًا نفسه، ثم لا يدل ذلك على أن الخصوص لا صيغة له، وكذلك الأعداد يحسن توكيدها؛ كقولك: عشرة كاملة، ثم لا يدل ذلك على أن "العشرة" ليست موضوعة لعدد مخصوص يفيد ذلك عند إطلاقه من غير توكيد.
وجواب آخر وهو: أن الشيء الواحد، لما جاز أن يدل عليه بدليلين وثلاثة وأربعة، ثم لا يفيد الدليل الثاني والثالث والرابع إلا ما أفاده الأول، كذلك لا يمتنع أن يؤكد العموم بتأكيد لا يفيد إلا ما أفاده العموم ومع ذلك يكون للعموم صيغة.
وأيضًا: فإنا وجدنا أهل اللغة يقولون: هذا اللفظ عموم، وهذا اللفظ
__________
1 في الأصل: "بهاء".
2 في الأصل: "ليضطر بها المخالف إلى قصة المسير" ، وهو خطأ من الناسخ، والصواب: من أثبتناه. وهذا الجواب موجود بمعناه في كتاب: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري "1/223"، ولم يذكر فيه نص العبارة المشار إليها.

(2/498)


خصوص، كما يقولون: هذا خبر وهذا استخبار، ويقولون: هذا الاسم واحد، وهذا اسم تثنية و [هذا اسم] جمع؛ فلما كان الاسم الواحد والاثنين والجمع والخبر والاستخبار صيغة تختص بها، كذلك العموم والخصوص1.
وأيضًا: فإن قوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2 لا يخلو إما أن يحمل على العموم لظاهره، أو على الخصوص، أو يتوقف فيه، ولا يجوز حمله على الخصوص لوجهين:
أحدهما: أن للخصوص لفظًا هو أخص به من هذا؛ فلو أراده لعبر عنه باللفظ المختص به.
ولا يصح أن يستثنى منه أكثر من قدر الخصوص3.
ولا يجوز حمله على الوقف؛ لأن اللفظ يتضمن اقتضاء فعل القتل، ومن حمله على الوقف؛ لا يعدوه فعلًا؛ بل يخرجه4 عن الإفادة، ويكون وجوده كعدمه، وهذا محال في صفة الحكيم أن يذكر ما لا فائدة فيه؛ فلم يبق إلا حمله على العموم به.
وأيضًا: فإن حسن الاستثناء يدل على الصيغة؛ فإنه يقول: "اقتلوا المشركين إلا المعاهدين"، و "ومن وصلني وصلته؛ إلا بني فلان". وحسن
__________
1 هذا الدليل مجود مع اختلاف قليل في كتاب: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري "1/222".
2 "5" سورة التوبة.
3 لم يذكر المؤلف الوجه الثاني؛ ولعل قوله: "لا يصح أن يستثني.." إلى هنا، هو الوجه الثاني.
4 مشى المؤلف على اعتبار معنى "من"؛ فلذلك جمع الفعل: "يعدوه"، وكان الأولى أن يجمع الفعل المعطوف عليه، وهو: "يخرجه".

(2/499)


الاستثناء يدل على أن اللفظ عام في الجنس؛ لأن الاستثناء [67/أ] إخراج ما لولاه لوجب دخوله فيه.
فإن قيل: جواز الاستثناء لصلاح اللفظ له؛ لا لأنه أوجبه.
قيل: هذا لا يصح لوجوه:
أحدها: أنه قد قيل: أن الاستثناء مشتق من قولهم: "ثنيت فلانًا عن رأيه، وثنيت إليه عنان فرسي إذا صرفه إليه" .
وقيل: إنه سمي استثناء؛ لأنه تثنية الخبر، وأيها كان؛ فإنه يقتضي أن يكون اللفظ عامًا فيه متناولًا له لو لم يكن الاستثناء1.
وجواب آخر وهو: أن الاستثناء من أسماء العدد يقتضي إخراج بعض ما تناوله اللفظ، كذلك الاستثناء من ألفاظ الجمع، والألفاظ المبهمة مثل ذلك، ولا فرق بينهما.
وجواب آخر وهو: أنه لو كان دخول الاستثناء فيه، لأنه يصلح؛ لصلح أن يستثنى من جنسه وغير جنسه؛ فنقول: جاء القوم إلا زيدًا وإلا حمارًا، كان "الناس" يعبر بهم عن الحمير مجازًا لأجل البلادة؛ فلما لم يصح هذا، ثبت أن الاستثناء دخل؛ لأن اللفظ أوجبه، لا أنه يصلح له.
وجواب آخر وهو: لو كان لأنه يصلح له، لا أنه أوجبه؛ لَمَا افترق الحال بين أن يقع الاستثناء موصولًا أو مفصولًا؛ لأنه يخبر عما صلح [له] ؛ فلما ثبت أن الاستثناء لو وقع مفصولًا كان تخصيصًا، أو نسخًا عند من لا يقول بتخصيص العموم؛ بطل أن يكون دخوله فيه؛ لأنه يصلح له، وثبت أن دخوله فيه؛ لأنه يتناوله.
وأيضًا: فإنه إذا قال: "اقتلوا رجلًا من المشركين"؛ كان الرجل
__________
1 لم يذكر المؤلف بقية الوجوه، ولكنه ساقها بعد ذلك على شكل جوابات.

(2/500)


شائعًا في جنس المشركين، وأي رجل قتلوا منهم كانوا ممتثلين لأمره؛ فإذا قال: "اقتلوا المشركين"؛ وجب أن يقتلوا جميعهم؛ لأن القتل يجب أن يتعلق ههنا بمن يتعلق الرجل الذي أمر بقتله بهم.
وحكي عن أبي بكر بن الباقلاني: أنه كان يسلم هذا.
وإن امتنع ممتنع من تسليمه، قيل له: الدليل: أنه إذا قال: "لا تقتل رجلًا من المشركين"؛ وجب أن يكف عن واحد من جنس المشركين، وهذا لا خلاف فيه؛ ولهذا قال أهل اللغة: إن النكرة في النفي تقتضي الجنس، وإذا كان كذلك وجب أن يكون في الإثبات واحد1 من الجنس.
يبين صحة هذا: أنه إذا قال: "والله لا أدخل دارًا"؛ اقتضى الجنس، فأي دار دخلها حنث في يمينه، وإذا قال: "لأدخلن دارًا"؛ اقتضى دخول دار من الجنس؛ فأي دار دخلها بر في يمينه، والبر والحنث في الإيمان بمنزلة الطاعة والمعصية.
وأيضًا: فإن العموم معنى ظاهر تمس الحاجة إلى العبارة عنه والإخبار به في المخاطبة المتعلقة بالمصالح في الدين والدنيا، وقد رأيناهم وضعوا لكل ما تمس الحاجة إلى العبارة عنه من الأشخاص والأفعال اسمًا يخصه ويميزه2 عن غيره، وجب أن يكون العموم والخصوص بمثابته؛ لأن الداعي إليه كالداعي إلى [67/ب] سائر ما وضعوا له من العبارات3.
فإن قيل: هذا يبطل بالطعوم والروائح؛ لأنها متغايرة متباينة، ولم يضعوا لكل طعم، ولا لكل رائحة اسمًا يخصه ويميزه عن غيره مع الحاجة إلى العبارة
__________
1 في الأصل: "واحدًا".
2 في الأصل: "تميزه" بالمثناة الفوقية.
3 هذا الدليل ساقه أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/210". مع اختلاف في التعبير.

(2/501)


عنه، وكذلك قالوا1 في المواجهة: "فعلت أنت"، و"فعلتما أنتما"، و"فعلتم أنتم"، وكذلك في الإخبار عن الغائب قالوا: "فعل فلان"، و"فعلها"، و"فعلوا"، وقالوا في الإخبار عن نفسه وعن غيره:
"فعلتُ" و"فعلنا"، ولم يميزوا التثنية من الجمع، وجعلوا اللفظ مشتركًا فيهما.
قيل: قد ميزوا بالإضافة، فقالوا: "طعم الخبز"، و"طعم الماء"، و"طعم الفاكهة"، و"حلاوة السكر"، و"حلاوة العسل"، و"حموضة الخل"، و"حموضة المصل"، و"رائحة الكافور"، و"رائحة المسك" كما قالوا: "لحم الغنم"، و"لحم البقر"، و"لحم الجمل"، و"لحم العصافير"؛ فميزوا بينها2 بالإضافة.
وأما التثنية في الإخبار عن نفسه وعن غيره، فهو أنهم وضعوا له لفظًا يدل عليه؛ فقالوا: "فعلتُ أنا وأخي معي أو فلان"، و"إنا فعلنا"، و"فعلت أنا وجماعة معي أو فلان وفلان" و"وإنا فعلنا"؛ وإنما لم يضعوا التثنية من لفظ الواحد؛ لأنهم يثنون اللفظ بنظيره، ولا نظير له في الإخبار عن نفسه وعن غيره؛ لأنه لا يقول: أنا وأنا، كما [لا] يقول أنت وأنت، وهو وهو.
فإن قيل: لفظ الجمع مع الرمز والإشارة ودلالة الحال يدل على قصد المتكلم ومن أحد من الخصوص؛ فاستغنوا بذلك عن اللفظ، كما تقول في قول القائل: "أي شيء يحسن زيد؟" فإنه يحتمل التكثير والتقليل والاستفهام؛ وإنما يتوصل إلى قصد المتكلم بدلالة الحال.
قيل: لم ننكر أن يكون في اللغة لفظ مشترك يدل دلالة الحال على قصد
__________
1 في الأصل: "قال".
2 في الأصل: "بينهما".

(2/502)


المتكلم به؛ وإنما أنكرنا أن يكون ما تمس الحاجة إلى العبارة عنه في مصالح دينه ودنياه لم يضعوا له لفظه، وهذه المعاني التي يحتملها قوله: "أي شيء يحسن زيد؟"، وقد وضعوا لها لفظًا تميز به عن غيره؛ فقالوا: "علمه قليل أو كثير، وأي شيء يحسن زيد"؟.
وأيضًا: فإنه لفظة "من" إذا استعملت في الاستفهام كقوله: "من عندك؟" و"من كلمت؟"؛ صلح أن يجيب بذكر كل عاقل، فثبت أن اللفظ يتناول الجميع1.
وكذلك إذا استعملت في المجازاة كقوله: "من دخل داري أكرمته"؛ صلح استثناؤهم؛ لأن الاستثناء: يخرج من اللفظ ما لولاه كان داخلًا فيه، ألا تراه لما لم يتناول غير العقلاء؛ لم يصح استنثاؤهم؟
فإن قيل: لا نسلم أن صيغة "من" لكل من يعقل؛ لأن ممن يعقل الجن والملائكة، ولا يدخلون فيه.
قيل: الصيغة تناولت كل هؤلاء؛ وإنما خرج ذلك بدليل؛ لأنه إنما يسأله عمن يجوز أن يكون عنده، وعمن يجوز دخوله2.
فإن قيل: إنما كان مجيبًا ومستثنيًا؛ لأنه [68/أ] أجاب من يصلح له اللفظ.
قيل: هو يصلح له ويصلح لغيره عند المخالف؛ فكان ينبغي أن لا يكون مجيبًا حى يعلم مراد المستخبر بقوله: "من عندك؟"، ولما أجمعوا على أنه يجيب بكل من ذكره من جنس العقلاء؛ بطل السؤال.
__________
1 هذا الدليل ساقه أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/237". مع اختلاف طفيف.
2 هذا الاعتراض والجواب عنه، ذكره أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/221-222".

(2/503)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن صيغة العموم لا تخلو من أن تكون ثبتت بالعقل أو بالنقل؛ فلا يجوز أن يكون بالعقل؛ لأنه لا مدخل فيه، ولا يجوز أن يكون بالنقل؛ لأن النقل لا يخلو إما أن يكون تواترًا أو آحادًا، ولا يجوز أن يكون تواترًا؛ لأن التواتر لم يوجد؛ لأنه لو وجد لعلمناه، ولا يجوز أن يكون آحادًا؛ لأن نقل الآحاد لا يوجب العلم، ومسألة العموم طريقها العلم والقطع؛ فلم يجز إثباتها بما لا يوجب العلم1.
والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنا أثبتنا ذلك من طريق العقل والنقل، وقد ذكرنا الطريقين جميعًا.
الثاني: أنا أثبتنا من طريق ثالث، وهو الاستدلال بمخارج كلامهم على مقاصدهم وإرادتهم مثل ما ذكرته من الاستدلال بالنكرة في الإثبات والنفي والاستفهام والاستثناء، وهذا قسم ثالث لم يذكره المخالف.
جواب ثالث: أنا نقلبه عليهم فنقول: إثباتك إياه مشتركًا؛ لا يخلو ذلك من أن يكون [عقلًا] أو نقلًا، ونذكر القسمين.
وهذا كما قال نفاة القياس: من [أن] إثبات القياس لا يخلو إما أن يكون عقلًا أو نقلًا، ولا يجوز أن يكون عقلًا؛ لأنه لا مدخل له فيه، ولا يجوز أن يكون نقلًا على ما ذكره المخالف؛ فقلنا لهم: تحريم القياس لا يخلو إما أن يكون بالعقل أو بالنقل، وإذا كان جوابنا هناك، فهو جوابنا ههنا.
__________
1 هذا الدليل ساقه أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/223-224" بأوسع مما هنا.

(2/504)


واحتج بأن لفظ الجمع يستعمل مرة في البعض ومرة في الكل، واستعماله في البعض أكثر؛ لأنه يقال: "غلق الناس"، و"فتح الناس"، و"جمع التجار إلى دار السلطان"، ويراد به البعض دون الكل، ويقول الواحد: "غسلت ثيابي، وصرمت نخلي"، ويريد به البعض؛ فإذا كان كذلك؛ كان حقيقة في البعض والكل، وكان بمنزلة اللفظ المشترك، مثل: "العين"، و"اللون"، فإنه يحتمل: العين: "عين الذهب"، و"عين الماء"، و"عين الميزان"، و"عين الركبة"، و"عين القوم"، وهو خيارهم، والعين على القوم، وهو: "الجاسوس"، وكذلك "اللون" يحتمل "البياض"، و"الحمرة"، و"السواد"، و"الصفرة"، ولا يجوز حمل اللفظ على بعضها إلا بدليل، كذلك ههنا.
والجواب: أن هذا يبطل بأسماء الأعيان واستعمالها1 في الحقيقة والمجاز، مثل تسميتهم الماء الكثير بحرًا، والرجل العالم والجواد بحرًا، وكذلك تسمتيهم "البهيمة حمارًا"، و"الرجل البليد" حمارًا، و"البهيمة أسدًا وليثًا"، و"الحية شجاعًا"، [68/ب] و"الرجل الذي به بأس وشدة شجاع".
ويبطل أيضًا باستعمال لفظ الجمع في الواحد، مثل قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2، وقول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} 3، فأراد بالأول: "نعيم بن مسعود"4، ومع هذا فلم يدل ذلك على الاشتراك.
__________
1 في الأصل: "واستعمال".
2 "9" سورة الحجر.
3 "173" سورة آل عمران.
4 هو: نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي. صحابي جليل، رضي الله عنه، هاجر =

(2/505)


ويفارق هذا: "العين" و"اللون"؛ لأن ذلك يستعمل بنفسه في أشياء مختلفة في كل واحد منها مثل استعماله في الآخر، وليس كذلك
__________
= إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء وقعة الخندق، كان له دور كبير فيها؛ حيث استطاع الإيقاع بين اليهود والمشركين، سكن المدينة، ومات في خلافة عثمان بن عفان.
انظر ترجمته في: "الاستيعاب": "4/1508"، و "الإصابة" القسم السادس ص"461"، طبعة دار نهضة مصر.
و "الناس" في أول الآية، اختلف المفسرون في تفسيره، هل يفسر بالفرد، أو يفسر بالجمع؟ على اتجاهين:
الاتجاه الأول:
أن المراد به فرد، وهؤلاء على قسمين:
قسم ذهب إلى أن المراد به: نعيم بن مسعود، كما ذكر المؤلف، وهو رأي عكرمة، ومجاهد، ومقاتل، والكلبي.
وقسم ذهب إلى أن المراد به: أعرابي، طلب منه: أن يفعل ذلك، نظير أجر له، وهو رأي السدي.
الاتجاه الثاني:
أن المراد به جمع، وأصحاب هذا الرأي على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ذهب إلى أن المراد: ركب عبد القيس، لما مروا بأبي سفيان يريدون المدينة، فطلب منهم إبلاغ محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، بأنه يجمع الجموع لحربهم، وهو رأي ابن إسحاق وجماعة.
القسم الثاني: ذهب إلى أن المراد: المنافقون.
القسم الثالث: ذهب إلى أن المراد: جماعة من هذيل من أهل تهامة، وهو رأي أبي معشر.
ويلاحظ: أنه لا يتم الاستدلال إلا على التفسير بالفرد.
راجع في هذا: "تفسير القرطبي": "4/279-280"، و "تفسير القاسمي": "4/1038-1039".

(2/506)


ههنا، فإنه يستعمل بنفسه عند الإطلاق للعموم والشمول، بدليل ما ذكرنا من الاستدلال بالنكرة في الإثبات والنفي والاستفهام والاستثناء.
واحتج بأن الاستفهام يحسن فيه، ولو كان موضوعًا للجنس؛ لم يحسن الاستفهام، كما لا يحسن في الأسماء الموضوعة للعدد، مثل: "العشرة"، و"المائة"، و"الألف".
والجواب: أن الاستفهام يجوز في قوله: "إنا فعلنا"، وقوله: "رأيت بحرًا"، و"رأيت حمارًا", وتقول: "قلت ذلك ألف مرة"، فيحسن أن يكون قلته على التكثير أو على الوفاء والتكميل، وتقول: "رأيت زيدًا" فيقول السامع: "رأيته نفسه"، ولم يدل ذلك على الاشتراك.
وجواب آخر وهو: أنه إنما يحسن الاستفهام فيه؛ لأن اللفظ وإن كان موضوعًا للعموم بإطلاقه؛ فظاهره قد يصلح للخصوص، فيستفهمونه ليتيقن أنه إنما أراد الخصوص؛ ولأنه قد يدخل الاستفهام على طريق التأكيد، كما إذا قال القائل: "اقتل فلانًا"، صلح أن يراجعه، فيقول: "أأقتله"؟ تأكيدًا واحتياطًا؛ لأن اللفظ ما تضمنه.
واحتج: بأن اللفظ قد ورد وأريد به العموم، وورد وأريد به الخصوص؛ فلم يكن حمله على أحدهما أولى من حمله على الآخر؛ فوجب التوقف.
والجواب: أن اللفظ الدال على العموم هو التجرد عن القرائن، وهذا اللفظ لم يرد قط إلا وهو دال على العموم؛ وإنما يدل على الخصوص بقرينة.
واحتج: بأنه لو كان موضوعًا للعموم حقيقة؛ لكان إذا حمل على

(2/507)


الخصوص أن يصير [مجازًا]1.
والجواب: أنه إذا حمل على الخصوص؛ فقد حمل على بعض ما تناوله اللفظ، فلا يكون مجازًا، كما إذا قال: "لفلان عشرة إلا خمسة"، إذا حمل اللفظ على الخمسة حمل على ما تناوله اللفظ، ويكون حقيقة لا مجازًا.
واحتج: بأن اللفظ لو كان موضوعًا للعموم لما جاز أن يوجد؛ إلا وهو دال عليه، كما لا يجوز أن يوجد الفعل إلا وهو دال على فاعل.
والجواب: أن اللفظ الدال على العموم هو المتجرد عن قرينة، ولا يوجد هذا اللفظ إلا وهو دال على العموم؛ وإنما يدل على الخصوص بقرينة تنضم [69/أ] إليه.
واحتج بأن حمله على العموم يوجب التضاد؛ لأنه يحمل على العموم وعلى الخصوص، وهما ضدان.
والجواب: أن اللفظ الذي يحمل على العموم لا يحمل على الخصوص، والذي يحمل على الخصوص لا يحمل على العموم؛ بل أحدهما مقترن والآخر متجرد.
واحتج: بأنه لو كان اللفظ للعموم؛ لما جاز أن يطلق لفظين عامين متنافيين إلا على وجه النسخ، كالنصين المتنافيين؛ فلما جاز أن يقول: "اقتلوا المشركين"، ثم يقول: "لا تقتلوا أهل الذمة"؛ فلا يكون ذلك نسخًا، ثبت أن اللفظ ما دل على العموم بنفسه.
والجواب: أن العمومين إذا وردا متنافيين؛ فهما في معنى النسخ؛ لأن النسخ يختص الأزمان، والتخصيص يختص الأعيان، فهما في المعنى
__________
1 هذه الكلمة زادها الناسخ في هامش الأصل، وإثباتها ضروري؛ ليستقيم الكلام.

(2/508)


سواء، وإن اختلفا في الاسم، وعلى أن العمومين إذا وردا متنافيين؛ لم يوجد فيهما اللفظ الدال على استغراق الجنس؛ لأنه لم يتجرد لفظ أحدهما عن قرينة تدل على أن المراد به الخصوص.
واحتج: بأنه لو كان اللفظ موضوعًا للاستغراق؛ لما جاز تخصيص الكتاب بأخبار الآحاد والقياس؛ فإنه لا يجوز إسقاط حكم بخبر واحد وقياس.
والجواب: أن التخصيص ليس هو إسقاطًا لحكم اللفظ كله؛ وإنما يخرج بعضه ويبقى البعض، ويبين به أن هذا هو الذي كان مراعى باللفظ، فلا يكون إسقاطًا لحكم الكتاب؛ بل يكون بيانًا للمراد به.

(2/509)


فساد قول من حمل العموم على أدنى الجمع
مدخل
...
فصل: فساد قول من حمل العموم على أدنى الجمع ما تقدم
ولأن الصحابة لم ينقل عن أحد منهم أنه اعتقد في عموم القرآن والسنة أدنى الجمع، والوقف في الباقي، بل حملوا اللفظ على عمومه؛ فدل على أنه ليس بموضوع الكلام، إذ لو كان كذلك لنقل ذلك عنهم. ولاحتج به بعضهم على بعض.
ولأن للخصوص لفظًا هو أخص به من لفظ العموم، ولو كان المراد الخصوص1؛ لعبر عنه باللفظ المختص به.
ولأنه يصح أن يستثنى منه أكثر من قدر الخصوص.
ولأنه لو جاز أن يحمل على أقل الجمع لأنه اليقين؛ لجاز أن يحل على الواحد؛ لأنه هو اليقين؛ لأن لفظ الجمع قد يرد والمراد به الواحد
__________
1 في الأصل: "بالخصوص".

(2/509)


قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} 1، وقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} 2 قيل تقديره: ألقِ ألقِ على وجه التأكيد3.
وقول عمر حين كتب إلى سعد4: إني قد وجهت إليك ألفي رجل؛ وإنما أنفذ إليه القعقاع5 ومعه ألف، فسمي الواحد ألفًا؛ لأنه يسد مسدها، ولما لم يجز حمله على الواحد؛ لأن الإطلاق لا يتناوله؛ كذلك أقل الجمع.
__________
1 "9" سورة الحجر.
2 "24" سورة ق.
3 هذا أحد الأقوال، وهناك ثلاثة أقوال هي:
الأول: أن ضمير التثنية في قوله تعالى: {أَلْقِيَا} هي نون التوكيد، سهلت إلى الألف.
الثاني: أن الألف في قوله: {أَلْقِيَا} هي نون التوكيد، سهلت إلى الألف.
الثالث: أن ذلك لغة للعرب، يخاطبون المفرد بالتثنية.
راجع في هذا: "تفسير الفخر الرازي": "28/165"، و"تفسير ابن كثير": "4/224"، و"تفسير القاسمي": "15/5504".
4 هو: سعد بن مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري، أبو إسحاق بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وآخرهم موتًا، أول من رمى بسهم في سبيل الله، له فضل كبير في فتح العراق، بنى الكوفة، ووليها لعمر، اعتزل الفتنة بعد مقتل عثمان، مات بالعقيق، وحمل إلى المدينة سنة 55هـ على الأرجح.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "2/606"، و"الإصابة": "3/88-84".
5 هو: القعقاع بن عمرو التميمي، كان من الشجعان الفرسان، أبلى بلاء جميلًا في موقعة القادسية، ذكر سيف بن عمر: أن له صحبة. وسيف هذا ضعفه ابن السكن، وقال فيه أبو حاتم: "متروك الحديث". مات القعقاع نحو سنة 40هـ.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/1283"، و"الإصابة": "5/244-245"، و"الأعلام": "6/48".

(2/510)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الثلاثة متيقن؛ فوجب [69/ب] حمله عليه1.
والجواب: أن هذا يوجب حمله على الواحد؛ لأنه متيقن2 واللفظ قد يعبر به عنه.
ويوجب أيضًا: أن يحمل لفظ العشرة على أقل من ذلك، أنها3 قد تستعمل في بعضها بدليل، وهو إذا اقترن به الاستثناء وأجمعنا على أنها تحمل على الجميع بظاهرها، وعلى أن الثلاثة4 وإن كان متيقنًا؛ فإن اللفظ حقيقة فيما زاد عليه؛ فلم يكن حمله على الثلاثة5 بأولى من حمله على الجميع.
واحتج: بأن استعمال لفظ العموم في الخصوص هو الغالب؛ فحمل عليه.
والجواب: أن هذا الغالب لا يختص بثلاثة.
واحتج: بأن العموم مأخوذ من الخصوص، ومنه قولهم: "مطر عام".
والجواب: أن العموم مأخوذ من قولهم: "عممت الشيء أعمه عمومًا، وعمهم العدل والرخص والغلاء".
__________
1 الضمير عائد على "الثلاثة" باعتباره عددًا.
2 في الأصل: "لأنه نفي".
3 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "لأنها" لأن الجملة تعليل لما قبلها.
4 في الأصل: "الثلاث".
5 في الأصل: "الثلاث".

(2/511)


فساد قول من فرق بين الأخبار والأوامر في صيغ العموم
...
فصل: والدلالة على فساد قول من فرق بين الأخبار والأوامر
أن الطريق إلى إثبات أحدهما هو الطريق إلى الآخر؛ فالممتنع من أحد الأمرين؛ يلزمه الامتناع من الآخر، ألا ترى أن استعمال اللغة في الأمرين على وجه واحد، ورجوع الصحابة إلى أوامر الله تعالى وأخباره إلى ظاهر الخطاب، كرجوعهم في الآخر، فدل على أنه لا فرق بينهما.
ولأنه ثبت أن الله إذا أمر بلفظ عام؛ وجب حمله على العموم، كذلك إذا أخبر بلفظ عام؛ لأنه لا يجوز أن يخطابنا ويريد بخطابه غير ما وضع له في اللغة، ومتى لم يرد ذلك؛ دل عليه وبينه.
واحتج من فرق بينهما:
بأن الأوامر تكليف؛ فلو لم يعرف المراد به، لاقتضى تكليف ما لا يطاق، وليس كذلك الخبر عن الوعد والوعيد وغير ذلك؛ لأنه لا يقتضي وجوب شيء يحتاج أن يعلم به.
والجواب: أن الخبر إنما يخاطب به لفائدة كالأمر، وإن كان فائدتهما تختلف؛ ألا ترى أنه يزجر بالوعيد ويرغب بالوعد، وذلك يقتضي العلم بمراده بها، فالحال فيهما واحدة.
ولأن المقصود وإن اختلفت جهاته؛ فلا يوجب التفريق بين الأمرين، مثلًا اختلاف المقصود في الأوامر.
فإن قيل: الخبر لا يدخله نسخ ولا تخصيص، والأمر يدخله الأمران. قيل: هذا يؤكد ما قلنا؛ لأن الأمر لما جاز أن يقع فيه النسخ والتخصيص1،
__________
1 في الأصل: "والحظر".

(2/512)


ومع هذا يحمل على العموم؛ فالخبر مع امتناع وقوع النسخ أولى أن لا نحمله1 على العموم.
فإن قيل: يجوز وقوع الخبر عن مجهول، نحو قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} 2، وقوله: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} 3 ثم لا يبينه أبدًا، ولا يجوز أن يأمر بمجهول، ولا يبينه في الثاني.
قيل: يجوز ذلك بأن يقول: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 4 [70/أ] ثم لا يبين ذلك، وتكون فائدة الأمر صحة تنزيله ووجوب اعتقاده.
__________
1 في الأصل: "أن لا يحمله...".
2 "58" سورة القصص.
3 "38" سورة الفرقان.
4 "43" سورة البقرة.

(2/513)


يصح ادعاء العموم في المضمرات والمعاني
مدخل
...
فصل: يصح ادعاء العموم في المضمرات والمعاني 1
فأما المضمرات نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2، و: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} 3، معلوم أنه لم يرد نفس العين؛ لأنها فعل الله تعالى؛ وإنما المراد أفعالنا فيها، فيعم تحريمها بالأكل والبيع4.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص "90"، و "شرح الكوكب المنير" ص "345"، من الملحق.
2 "3" سورة المائدة.
3 "96" سورة المائدة.
4 سبق للمؤلف ص"145" أن ذكر أن هذه الآية من قبيل المجمل مع أنه ذهب هنا إلى أنها عامة، وهذا تناقض، مع أن الصواب القول بعمومها.

(2/513)


وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لجنب" 1 ليس المراد عين المسجد؛ وإنما المراد به أفعالنا، فهو عام في الدخول واللبث.
وكذلك قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 2،
__________
1 هذا الحديث أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا، في كتاب الطهارة باب الجنب يدخل المسجد "1/53".
وأخرجه ابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا، في كتاب الطهارة، باب ما جاء في اجتناب الحائض المسجد "1/212".
وفي إسناد أبي داود: "فليت العامري"، قيل: فيه مجهول. ورد هذا بقول أحمد: "ما أرى به بأسًا". وقال أبو حاتم: شيخ.
أما إسناد ابن ماجه ففيه: "محدوج الذهلي"، و "أبو الخطاب الهجري" متكلم فيهما.
وعلى هذا فحديث أبي داود أصح من حديث ابن ماجه، وقد قال أبو زرعة: الصحيح حديث ميسرة عن عائشة. وقد صحح حديث عائشة ابن خزيمة، وحسنه ابن القطان.
راجع: "نصب الراية": "1/193-195"، و"تلخيص الحبير": "1/139-140".
2 هذا الحديث أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه عن أبي ذر رضي الله عنه وذلك في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي "1/659".
وأخرجه الحاكم عن ابن عباس في كتاب الطلاق باب: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة": "2/198"، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
وأخرجه الطحاوي عنه في كتابه: "شرح معاني الآثار" وذلك في كتاب الطلاق باب في طلاق المكره "3/95".

(2/514)


والنسيان لا يمكن رفعه؛ لأنه قد تقضى، والمراد به حكمه، فهو عام في المأثم والحكم به.
وكذلك قوله: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين" ؛ عام في الصحة والكمال.
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية صالح في الرجل يحدث نفسه بما إن سكت عنه يخاف1 أن يكون قد أشرك2، فقال: يروى
__________
= وقد أخرج هذا الحديث ابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "معجمه"، وأبو نعيم في "الحلية"، وابن عدي في "الكامل" والبيهقي.
وفي كل طريق من طرقه مقال يقدح في صحته.
وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل": سألت أبي عنه، فأنكره جدًا.
وقال البيهقي: ليس بمحفوظ عن مالك، كما قال محمد بن نصر: ليس له إسناد يحتج بمثله.
وقال ابن أبي حاتم في كتابه: "العلل": "1/431": سألت أبي عنها فقال: "هذه أحاديث منكرة، كأنها موضوعة.. ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده".
ونقل ابن حجر في "التخليص" عن النووي قوله: "إنه حديث حسن".
وقال ابن الريبع في كتابه: "تمييز الطيب من الخبيث" ص"81-82": "رواته ثقات".
ويلاحظ: أن الحديث لم يرد باللفظ الذي أورده المؤلف، وإن كان الأصوليين والفقهاء يوردونه كذلك؛ وإنما ورد بلفظ: "إن الله تجاوز.." وبلفظ: "إن الله وضع...".
وأقرب لفظ ورد للفظ المؤلف هو لفظ ابن عدي في "الكامل": "رفع عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ، والنسيان، والأمر يكرهون عليه".
راجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "تلخيص الحبير": "1/281-383"، و"نصب الراية": "2/64-65"، و"3/223".
1 هكذا في الأصل، وفي "المسودة" ص"91": "خاف".
2 وفي "المسودة" ص"91" زيادة: "أشرك، وذهب دينه".

(2/515)


عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها 1 ما لم تعمل [أو] 2 تتكلم" 3 فاستعمل4 هذا في رفع المأثم، وقد استعمله في رفع الحكم في رواية.
وذهب الأكثر من أصحاب أبي حنيفة والشافعي إلى أنه لا يعتبر العموم في ذلك.
__________
1 قوله: "أنفسها"، ذكر النووي في ضبطها وجهان: الرفع والنصب وحكي عن القاضي عياض قوله: "أنفسها" بالنصب، ويدل عليه قوله: إن أحدنا يحدث نفسه. كما حكى عن القاضي عياض عن الطحاوي قوله: أهل اللغة يقولون: "أنفسها" بالرفع، يريدون بغير اختيارها، قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} .
راجع: "شرح النووي على صحيح مسلم": "2/147".
2 ساقطة من الأصل، وهي ثابتة في لفظ الحديث، ولا يستقيم الكلام بدونها، وهي ثابتة أيضًا في "المسودة" عندما نقل كلام المؤلف ص"91".
3 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الطلاق باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون "7/59" بمثل لفظ المؤلف.
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر "1/116-117".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطلاق باب في الوسوسة بالطلاق "1/512".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب من طلق في نفسه، ولم يتكلم به "1/658" وفي باب طلاق المكره والناسي "1/659"، وزاد فيه: "وما استكرهوا عليه" .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطلاق باب ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته "3/480" وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه النسائي عنه في كتاب الطلاق باب من طلق في نفسه "6/127-128".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده": "2/398-425، 474".
وانظر: "تلخيص الحبير": "1/282".
4 في الأصل: "فامتنع"، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه، بدليل ما بعده، وبدليل مجيئه في "المسودة" ص"91"، عندما نقل عن المؤلف كلامه هنا.

(2/516)


دليلنا:
أن قوله: "رفع" قد علم أنه ما أراد به نفس الفعل؛ لأن ذلك لا يمكن رفعه بعد وقوعه.
وكذلك قوله: "لا نكاح؛ إلا بولي" لا يمكن رفعه بعد وقوعه؛ وإنما أريد ما تعلق بذلك الفعل والعقد؛ فصار اللفظ محمولًا على ذلك بنفسه، لا بدليل، ويحصل تقديره كأنه قال: "رفع عن أمتي ما تعلق بالخطأ والنسيان؛ فيعم المأثم والحكم، ولا نكاح إلا بولي، يعم الكمال والصحة.
وكذلك: {لا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1، قد علمنا أنه لم يرد اللفظ2 بل أراد ذلك وما هو أعلى منه؛ فصار كأنه قال: لا تقربهما بسوء.
__________
1 "23" سورة الإسراء.
2 العبارة في "المسودة" ص"92" ، هكذا: "قد علمنا أنه لم يرد تبيين اللفظ..".

(2/517)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن قولنا: عموم، معناه: خطاب موضوع للجنس، ولفظ يعم الجنس، وهذا لا يوجد في المعاني والمضمرات؛ فإن المضمر والمعنى ليس بلفظ.
والجواب: أنا قد بينا أن اللفظ مراد بهذا، من الوجه الذي بينا؛ فإن قيل: فيجب أن يقولوا: إن التخصيص يدخل على المضمرات والمعاني.
قيل: هكذا نقول.

(2/517)


إذا أضيف التحريم إلى ما لا يصح تحريمه كان عاما في أفعال العين المحرمة
مدخل
...
فصل: 1 لفظ التحريم إذا تعلق بما لا يصح تحريمه؛ فإنه يكون عمومًا في الأفعال في العين المحرمة
إلا ما خصه الدليل، نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 3.
وحكي عن البصري المعروف بالجعل4: أن هذا اللفظ يكون مجازًا، ولا يدل على تحريم الأفعال.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"94".
2 "3" سورة المائدة.
3 "23" سورة النساء.
وقد ذكر المؤلف ص"145" أن هاتين الآيتين من قبيل المجمل مع أنه رأى هنا: أنهما من قبيل العام، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
4 هو: الحسين بن علي بن إبراهيم، أبو عبد الله البصري، حنفي المذهب، معتزلي المعتقد. مات سنة 369هـ، وله من العمر ثمانون سنة.
له ترجمة في "تاريخ بغداد": "8/73"، و "شذرات الذهب": "3/68".

(2/518)


دليلنا:
أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [70/ب] قد علم أنه ما أريد به تحريم العين نفسها؛ لأن العين فعل1 الله تعالى، لا يتوجه التحريم إليها، وإنما أريد تحريم أفعالنا فيها، فصار اللفظ محمولًا على ذلك بنفسه، لا بدليل، وكل ما حمل اللفظ عليه بنفسه كان حقيقة لا مجازًا كقوله: "لا صلاة إلا بطهور" حقيقة هذا رفع الفعل؛ فلما استحال رفعه بعد وقوعه؛ كان معناه: حقيقة في رفع حكمه، كذلك ههنا.
ولأن من أراد أن يحرم على عبده أو ولده شيئًا؛ فإنه يقول: حرمت عليك هذا، فيفهم منه تحريم تصرفه فيه بنفس اللفظ، فثبت أن اللفظ نفسه دل على ذلك، فكان حقيقة.
__________
1 في الأصل: "قول الله تعالى"، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه الموافق لما نقل عن المؤلف في "المسودة" ص"94".

(2/518)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن اللفظ اقتضى تحريم العين نفسها؛ فإذا حمل على الفعل؛ يجب أن يصير مجازًا، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1.
والجواب: أنه وإن لم يتناول ذلك نطقًا؛ فهو المراد من غير دليل، ويفارق هذا دليل القرية ونحوه؛ لأنا لم نعلم أن المراد به أهلها باللفظ، لكن بدليل؛ لأنه لا يستحيل جواب حيطانها في قدرة الله تعالى، واحتيج إلى دليل يعرف به أنه أراد أهلها.
__________
1 "82" سورة يوسف.

(2/519)


مسألة في الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام
مدخل
...
مسألة: في الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام 1
مثل: الإنسان، والسارق، والزاني، والقاتل، والكافر، والبيع، والصيد، والدينار، والدرهم، وما أشبه ذلك؛ فهو للجنس.
وقد أشار إلى هذا الإمام أحمد رضي الله عنه في كتاب طاعة الرسول، فقال: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2. فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم السارق، وإن قل ذلك؛ فقد وجب عليه القطع، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع في ثَمَر ولا كَثَر" ،
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"105"، و"روضة الناظر": "119-121".
2 "38" سورة المائدة.

(2/519)


دل أنها ليست على ظاهرها، وأنها على بعض السراق دون بعض. فقد صرح بأن إطلاق اللفظ اقتضى العموم في كل سارق.
وبهذا قال أبو عبد الله الجرجاني وحكاه عن أصحابه1.
واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال مثل قوله، ومنهم من قال: هي للعهد2.
__________
1 راجع في هذا: "تيسير التحرير" 1/197.
2 المشهور من مذهب الشافعية: أن المفرد إذا دخل عليه الألف واللام فهو للعموم.
وهناك خلاف لبعض الأصحاب، محصله كالآتي:
أ- أنه لا يفيد العموم مطلقًا، واختاره الرازي.
ب- أنه لا يفيد العموم إذا لم يكن واحده بالتاء، واختاره إمام الحرمين.
ج- أنه لا يفيد العموم إذا لم يكن واحده بالتاء، أو تميز واحده بالوحدة، وهو اختيار الغزالي.
راجع: "شرح جمع الجوامع مع حاشية البناني": "1/412" ، المستصفى "2/53-54".

(2/520)


دليلنا:
أن لفظ الجمع إذا كان منكرًا، مثل: مسلمين، ومشركين، ورجال؛ كان لجمع منكر، ولم يكن للجنس، كما قال تعالى: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ} 1؛ فإذا عرف بالألف واللام كان للجنس، كذلك ههنا.
ولأنه يصح الاستثناء منه بلفظ الجمع، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} 2، وهذا يدل على أنه للجنس، كألفاظ الجمع3.
__________
1 "62" سورة ص.
2 "2" سورة العصر.
3 ذكر أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد في أصول الفقه" 1/244-245 جوابين عن وجه الاستدلال بهذه الآية هما:
أ- "الاستنثاء في هذه الآية جار مجرى الاستثناء من غير الجنس؛ لأنه غير مطرد، ولو كان حقيقة لاطرد.
ب- أو أن تكون الخسارة لما لزمت جميع الناس إلا المؤمنين؛ جاز هذا الاستثناء".

(2/520)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن اللام للتعريف عندهم؛ فإذا قال: دخلت السوق، فرأيت رجلًا، ثم عدت إلى السوق فرأيت الرجل؛ كان تعريفًا لما تقدم ذكره، ولهذا قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} 1.
ويدل عليه [71/أ] قول ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 2 لن يغلب عسر يسرين3. فجعل العسر الثاني هو الأول؛ لما كان معرفًا4 بالألف واللام، وليس الثاني
__________
1 "16" سورة المزمل.
2 "5-6" سورة الانشراح.
3 هذا الأثر أخرجه الإمام مالك في كتابه "الموطأ" في كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد "9/3" مطبوع مع شرح الزرقاني، أخرجه موقوفًا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
كما روي مرسلًا من طريق الحسن قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا، وهو يضحك ويقول: "لن يغلب عسر يسرين، لن يغلب عسر يسرين؛ فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا" .
انظر:تفسير ابن كثير": "525/4"، و "تفسير القاسمي": "6192/17".
4 في الأصل: "معروفًا".

(2/521)


عين الأول، لما كان منكرًا؛ فوجب أن يكون تعريفًا لما اقتضاه الاسم، وهو واحد من الجنس، ولا يكون تعريفًا للجنس؛ لأن الاسم لا يصلح له، إذا لم يكن فيه الألف واللام؛ فلا يقتضيه، فكان تعريفًا لمقتضاه.
والجواب: عن قولهم: إنه تعريف لما يقتضيه الاسم؛ فهو منتقض باسم الجمع؛ فإنه إذا كان معرفًا كان للجنس، وإذا كان منكرًا؛ كان لبعض الجنس.
ولأن المنكر لا يصلح إلا للواحد، والمعرف يصلح للجنس، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 1، وقال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} 2، [وقال]: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} 3، و [قولهم]: أهلك الناس الدرهم والدينار؛ فدل على الفرق بينهما.
وأما قوله: "دخلت السوق فرأيت رجلًا، ثم عدت إلى السوق فرأيت الرجل"، فهو أنه ههنا رجع إلى المذكور قبله؛ لأن التعريف إذا تقدمته نكرة؛ كان الظاهر أنه راجع إليه، وتعريف له، وليس كذلك إذا لم يتقدمه نكرة؛ فإنه ليس في الكلام ما يوجب تخصيصه، فوجب حمله على تعريف الجنس4.
__________
1 "2" سورة العصر.
2 "17" سورة عبس.
3 "6" سورة الانشقاق.
4 رأيت أبا الحسين البصري ساق لهم دليلين في كتابه "المعتمد" : "244/1" هما -في رأيي- أبرز ما استدل به المانعون:
الأول: أنه لا يصح تأكيده بكل وجميع، كلفظ: "من" من ألفاظ العموم فلا يصح أن تقول: "جاءني الرجل كلهم"، ولا أجمعون، ولو كان يقتضي العموم لصح توكيده بذلك.
الثاني: أنه يقبح الاستثناء منه نحو قولك: "رأيت الإنسان إلا المؤمنين"؛ ولو كان يقتضي العموم لحسن ذلك.

(2/522)


الجموع المنكرة تحمل على أقل الجمع
مدخل
...
فصل 1 الجموع المنكرة تحمل على أقل الجمع
ألفاظ الجموع كالمشركين، والمسلمين، والقائلين، إذا لم يدخلها الألف واللام، فقيل: مشركون، ومسلمون، وقائلون، لم يحمل على العموم، ولم يكن للجنس، ويحمل على أقل الجمع، كما قال أصحاب الخصوص والعموم.
وقد أشار أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية أبي طالب، إذا قال: ما أحله الله علي حرام -يعني به الطلاق- أجاب: إنه2 يكون ثلاثًا، وإذا قال: أعني به طلاقًا؛ فهذه واحدة، لأن طلاقًا غير الطلاق.
فقد فرق بين دخول الألف واللام على الطلاق في أنه يقتضي الجنس، وبين حذفها في أنه لا يقتضي جنسه.
واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: مثل قولنا، ومنهم من حمله على العموم واستغراق الجنس.
وحكي ذلك عن الجبائي3.
وقد أشار إليه الإمام أحمد في رواية صالح وقد سأله رضي الله عنه:
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"106"، و "شرح الكوكب المنير" ص"357" من الملحق.
2 في الأصل: "إن".
3 هو: محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران الجبائي، أبو علي. المتكلم، الأصولي، من كبار المعتزلة. له مناظرات مع أبي الحسن الأشعري. ولد سنة 235هـ، ومات سنة 303هـ.
له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/241"، و"طبقات المعتزلة" ص"287-269"، و"لسان الميزان": "5/271"، و"مفتاح السعادة": "2/165"، و"وفيات الأعيان": "1/480".

(2/523)


عن لبس الحرير؛ فقال: لا، إنما هو للإناث، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحرير والذهب: "هذان حرامان على ذكور أمتي" 1.
فقد حمل قوله: "ذكور أمتي" على العموم في الصغيرة والكبيرة وإن كان جمعًا ليس فيه الألف واللام.
__________
1 هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود في كتاب اللباس، باب في الحرير للنساء بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا؛ فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا، فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي" : "2/373".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب لبس الحرير والذهب للنساء "2/1189"، وزاد فيه: "حل لإناثهم" .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال "8/138".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار"، في كتاب الكراهية باب لبس الحرير، بمثل رواية أبي داود. وبمثل رواية الإمام أحمد التي ذكرها المؤلف، إلا أنه زاد فيها: "حل لإناثهم" : "4/250-223".
وأخرجه ابن حبان في صحيحه، كما نقل عنه الزيلعي في "نصب الراية" في كتاب الكراهية، فصل في اللباس "4/ 222-223".
وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن ابن عمر رضي الله عنهما، وذلك في كتاب اللباس والزينة، باب ما جاء في تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال دون النساء "1/355".

(2/524)


وجه الأول:
أن أهل اللغة سموا هذه الألفاظ عند حذف الألف واللام منها نكرة،

(2/524)


فلو كانت متناولة لجميع الجنس؛ لما كانت نكرة، بل كانت معرفة؛ لأن جميع الجنس معرف، ألا ترى أنه إذا دخلها الألف واللام لم تكن نكرة بل تكون معرفة؛ لأنه يصح تأكيدها بلفظة "ما" الدلالة [71/ب] [على] الخصوص فتقول: أقتل مشركين ما، ورأيت رجالًا [ما]، وهذه اللفظة لا يصح دخولها على لفظ العموم، فإنه لا يصح أن تقول: أقتل المشركين [ما]، ولا رأيت الرجال ما.

(2/525)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لما صح دخول الاستثناء عليه، فخرج بعضه؛ ثبت أنه من ألفاظ العموم، كالجمع المعرف.
والجواب: أن الاستثناء يخرج البعض من الكل، ويخرج البعض من البعض، فههنا يخرج البعض من البعض، الذي هو أقل الجمع.

(2/525)


مسألة إذا ورد لفظ العموم الدال بمجرده على استغراق الجنس
مدخل
...
مسألة: 1 إذا ورد لفظ العموم الدال بمجرده على استغراق الجنس
فهل يجب العمل بموجبه واعتقاد عمومه في الحال قبل البحث عن دليل يخصه أم لا؟
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"110-111"، و"روضة الناظر" ص"126".

(2/525)


فيه روايتان:
إحداهما يجب العمل بموجبه1 في الحال2، وهذا ظاهر كلام
__________
1 في الأصل: "بموجبها" .
2 واختار هذه الرواية من الحنابلة: ابن عقيل وأبو بكر عبد العزيز والحلواني وابن قدامة.
راجع: "المسودة" ص"109"، و"روضة الناظر" ص"126".

(2/525)


أحمد رحمه الله في رواية عبد الله لما سأله عن الآية إذا كانت عامة مثل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1، وذكر له قومًا يقولون: لو لم يجئ فيها بيان عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ توقفنا2، فقال: قوله: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 3، كنا نقف عند ذكر الولد [لا نورثه]4 حتى ينزل الله، أن لا يرث قاتل ولا عبد5.
وظاهر هذا الحكم به في الحال من غير توقف.
وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا، ذكر6 في أول كتاب التنبيه فقال: وإذا ورد الخطاب من الله تعالى أو من الرسول بحكم عام أو خاص، حكم بوروده على عمومه، حتى ترد الدلالة على تخصيصه أو تخصيص بعضه.
وفيه رواية أخرى: لا يحمل على العموم في الحال، حتى يتطلب دليل التخصيص؛ فإن وجد؛ حمل اللفظ على الخصوص، وإن لم يوجد؛ حمل حينئذ على العموم7.
وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية ابنه صالح وأبي الحارث وغيرهما، فقال في رواية صالح، إذا كان للآية ظاهر، ينظر ما عملت السنة؛ فهو دليل على ظاهرها، ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ
__________
1 "38" سورة المائدة.
2 في "المسودة" ص"90" زيادة في الرواية هي ".. توقفنا عنده، فلم نقطع حتى يبين الله لنا فيها أو يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال...".
3 "11" سورة النساء.
4 غير موجودة في الأصل، والمقام يقتضيها، وهي ثابتة في "المسودة" ص"90".
5 في المسودة ص"90": "أن القاتل لا يرث ولا عبد ولا مشرك".
6 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "ذكره".
7 وقد اختار هذه الرواية من الحنابلة: أبو الخطاب.
انظر: "المسودة" ص"109"، و"روضة الناظر" ص"126".

(2/526)


فِي أَوْلادِكُمْ} 1؛ فلو كانت على ظاهرها؛ لزم من قال بالظاهر أن يورث كل من وقع عليه اسم ولد، وإن كان قاتلًا [أ]و يهوديًا.
وقال أيضًا فيما كتب به إلى [أبي]2 عبد الرحيم الجوزجاني3: فأما من تأوله على ظاهر[ه]4 -يعني القرآن- بلا دلالة من رسول الله، ولا أحد من أصحابه، فهو تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة، ويكون حكمها حكمًا عامًا، ويكون ظاهرها في العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم المعبر عن كتاب الله تعالى وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر، وما أريد بذلك.
وظاهر هذا: أنه لا يجب اعتقاده، ولا العمل به في الحال، حتى يبحث وينظر، هل هناك دليل تخصيص5؟
واختلف أصحاب الشافعي، فذهب الأكثر منهم إلى التوقف فيه حتى ينظر.
وذهب بعضهم إلى [72/أ] العمل به في الحال.
واختلف أصحاب أبي حنيفة: فحكى أبو عبد الله الجرجاني في
__________
1 "11" سورة النساء.
2 "الزيادة" من "المسودة" ص"179"، عندما نقل كلام المؤلف.
3 هو: محمد بن أحمد بن الجراح، أبو عبد الرحيم الجوزجاني، والجوزجاني: نسبة إلى مدينة بخراسان مما يلي "بلخ"، يقال لها: "جوزجانان" والجوزجاني هذا: أحد أصحاب الإمام، وممن نقلوا عنه، كان ثقة جليل القدر.
انظر: "طبقات الحنابلة": "1/262"، و"الباب في تهذيب الأنساب": "1/308".
4 الزيادة هذه من المسودة ص"112"، وهي زيادة يقتضيها المقام.
5 من أول المسألة إلى هنا منقول بنصه في "المسودة" ص"110-112".

(2/527)


كتابه: أن السامع متى سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق تعليم الحكم؛ فالواجب اعتقاد عمومه. وإن سمعه من غيره؛ لزمه التثبت وطلب ما يقتضي تخصيصه، فإن فقده حمل اللفظ على مقتضاه في العموم.
وحكى أبو سفيان في مسائله: وجوب اعتقاد عمومه من غير توقف، على الإطلاق من غير تفصيل؛ فقال في أثناء الكلام في مسألة العموم: ما تقولون في عموم اللفظ إذا ورد ابتداء هل ترجعون عند سماعه إلى الأصول في طلب دلالة التخصيص، أو تحملوا به على الاستغراق؟ فقال: نحمله على عمومه، ولو كان خصوصًا؛ لم يخله الله من بيان عند وروده من غير توقف.
فالدلالة على أنه يجب العمل من غير توقف: أن صيغة العموم إذا ورد متجردًا عن قرينة ظاهرة؛ كانت حقيقة في الجنس كله، ووجب المصير إليه قبل البحث كما قلنا في أسماء الحقائق من الأعداد وغيرها، متى وردت وجب المصير إلى موجبها، ولا يجب التوقف على ما يدل على مجازها، كذلك ههنا.
فإن قيل: لا نسلم أنها متجردة عن القرينة؛ لأن التجرد ما ثبت، وهذا كما يقول: إذا شهد عند الحاكم شاهدان، لا يعرف حالهما، فإنه لا يحكم قبل السؤال عنهما، كذلك ههنا.
قيل: الأصل عدم القرينة؛ فوجب الاعتماد على ذلك الأصل؛ لأن هذا هو الظاهر، وجرى هذا مجرى شاهدين شهدا بحق؛ فإن الحاكم يحكم بشهادتهما، وإن جاز أن يكون قد حصل هناك إبراء من ذلك الحق، أو قضاء للحق وهما لا يعلمان به؛ لأن الظاهر عدم ذلك.
وأما عدالة الشهود: فإن الظاهر يقتضي عدالتهما؛ لأن الأصل العدالة؛ ولكن لم يقتصر في الشهادة على الظاهر، ألا ترى أن الظاهر صدق الشاهد الواحد، ولكن اعتبر فيه العدد، كذلك الظاهر العدالة، لكن

(2/528)


اعتبر زيادة معنى، وهو الحث، ويفارق هذا ألفاظ صاحب الشريعة؛ لأن الاعتبار فيها بالظاهرة، ألا ترى أنه يقبل خبر الواحد، ولا يبحث عن عدالته في الباطن.
فإن قيل: لا نسلم لكم أسماء الحقائق، بل نقول: يقف على الطلب؛ فإذا لم يجد ما يدل على المجاز؛ صار إليه.
قيل: إن لم نسلم الأصل فالاستدلال قائم بنفسه، وهو: أن اللفظ قد تجرد عن قرينة ظاهرة؛ لأن الأصل عدمها.
فإن قيل: فإن سلمنا لكم ذلك، ما الفرق بينهما؟ إن في العدول عنها ترك الحقيقة، وليس في تخصيص العموم ترك الحقيقة.
قيل: فيه ترك حقيقة اللفظ؛ لأنه موضوع للاستغراق، [72/ب] فلا فرق بينهما.
وطريقة أخرى، وهي1: أن هذه الصيغة ترد في عموم الأزمان، كما ترد في عموم الأعيان، ثم ثبت أن ما ورد عامًا في الأزمان؛ لزم العمل بعمومه قبل البحث عن دليل الخصوص، كذلك ما ورد عامًا في الأعيان.
فإن قيل: الفرق بينهما: أن ما يخص الزمان نسخ، والنسخ يرد بعد ورود الصيغة، ولا يصح أن يرد معها ولا قبلها؛ فلهذا ألزم العمل بموجبها، وليس كذلك تخصيص العموم؛ لأن ما يخصه يرد معه أو قبله، فلهذا لم يعتقد وجوبه قبل البحث.
قيل: وقد يرد بعده؛ لأن تأخير البيان جائز؛ فإذا لم تكن هناك قرينة ظاهرة، فالأصل عدمها.
وجواب آخر وهو: أن هذا يوجب أن يقول: إذا سمع العموم من
__________
1 في الأصل: "وهو".

(2/529)


غير النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يلزمه بعمومه في الأزمان؛ لأنه يجوز أن يكون النسخ معه، ولكن الراوي لم يعرفه، ومع هذا فإنه يجب اعتقاده في العموم في الأزمان في الحالين؛ فبطل ما قاله.
ولأن من قال بهذا يلحق بأصحاب الوقف؛ لأنه لا يحكم حتى ينظر دليل التخصيص، كما يفعل أصحاب الوقف.
فإن قيل: [إن] احتاج العبد إلى استعماله؛ فله أن يحمله على الاستغراق، دون بيان زائد، وعندهم: لا يجوز.
قيل: إذا حمله على الاستغراق، قبل أن ينظر دليل التخصيص، كان رجوعًا عن المسألة.
والقائل الأول يجيب عن هذا: بأن أهل الوقف يقفون فيه بعد البحث، حتى يرد لفظ صريح، أنه أراد العموم.
وقد ذكر بعض من نصر هذه الطريقة أشياء أخر، لا تلزم المخالف.
منها: أن الأصول غير محصورة؛ فلا يمكن المجتهد أن ينظر في جميعها؛ وإنما ينظر في بعضها، ويجوز أن يكون قد بقي شيء لم يبلغه نظره، ويكون ذلك الباقي فيه ما يدل على التخصيص، فيفضي إلى الوقف في العموم أبدًا، ويدخل في وقف الأشعري، وهذا لا يلزم المخالف؛ لأن الحاكم إذا توقف عن الحكم بشهادة الشاهدين حتى يسأل عنهما، وجب أن يتوقف أبدًا، كذلك ههنا.
ولأنه لا يمتنع أن يكون النظر الأول مستحقًا دون التكرار، ألا ترى أن الحاكم إذا نزلت به نازلة ليس فيها نص ولا إجماع، وجب أن يجتهد، وينظر فما غلب على ظنه حكم به، ولا يجب أن يكرر النظر، كذلك ههنا.
ولا يفضي ذلك إلى مقالة الأشعرية؛ لأن هذا القائل يقول: إذا لم

(2/530)


يجد في الأصول ما يخصه، حمله على عمومه، والأشعرية لا تقول ذلك، وتتوقف حتى يدل الدليل على أحدهما دون الآخر.
وذكر أيضًا: أن السامع للعموم لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد؛ فإما أن يعتقد عمومه أو خصوصه، ولا يجوز أن يعتقد الخصوص؛ فوجب اعتقاد العموم.
وهذا لا يلزمه [73/أ] أيضًا؛ لأن هذا القائل يقول: يعتقد عمومه أن تجرد عما يخصه؛ فلا يقطع باعتقاد العموم، والمعتمد لنصرة هذا القول: ما ذكرناه.
واحتج من قال بالوقف1:
بأن الدلالة على العموم وجود الصيغة المتجردة عن دليل التخصيص، والتجرد لم يثبت لجواز أن يكون في الأصول لفظ أو معنى يوجب التخصيص، فوجب الوقف.
__________
1 لم يقل أحد بالوقف في العصور الثلاثة الأولى؛ وإنما قال بذلك قوم جاءوا بعد ذلك. وهذا رأي، يؤدي الأخذ به إلى تعطيل النصوص العامة، وترك العمل بها.
على أن هناك كثيرًا من القضايا استدل الصحابة على حكمها بالعام، وما توقفوا، ولا رد أحدهم دليل مخالفة بمثل هذا.
والعجب أن حجة الإسلام الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب -رحمه الله تعالى- حكوا الإجماع على التوقف، والمنع من الاستدلال بالعام، حتى يبحث عن المخصص.
وحكاية الإجماع هذه مردودة بما هو مسطور في كتب أصول الفقه التي تحكي الخلاف الكبير في المسألة.
راجع: أصول السرخسي "1/132"، وفواتح الرحموت مع مسلم الثبوت "1/267"، ونهاية السول "2/403"، وفواتح الرحموت "1/267".

(2/531)


والجواب: أنا قد بينا أن الأصل عدم القرينة، وأن الظاهر تجرده، ولأن هذا يلزم عليه الأعداد وغيرها من أسماء الحقائق، ويلزم عليه الزمان؛ فإن هذا الاحتمال موجود فيه من الوجه الذي ذكرنا، ومع هذا يجب العمل بعمومه؛ فبطل هذا.
واحتج: بأن من سمع قول الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1، لا يخلو إما أن يقول: يلزمه أن يعتقد عمومه، فأمره باعتقاد خلق القرآن وهذا اعتقاد باطل، وإن قال: انظر في الدلالة، فقد ترك قوله.
والجواب: أن هذا الظاهر مع قرينة ظاهرة من جهة العقل؛ يمتنع اعتقاد عمومه في خلق القرآن وصفات الله تعالى؛ فلهذا لم يجز حمله على عمومه، وخلافنا في عموم خلا عن دلالة ظاهرة عقلًا أو شرعًا.
وأما أصحاب أبي حنيفة2؛ فإنهم اعتمدوا في الفرق بين أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره؛ فإنه يجوز أن يكون في أدلة الشرع ما يمنع العموم، فلهذا يوقف حتى ينظر، وإذا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه بيان الحكم، [و]لو كان في الشرع ما يمنع حمل اللفظ على العموم لبينه حال خطابه3.
والجواب: أنه يجوز تأخير البيان عندنا.
__________
1 "62" سورة الزمر، والآية في الأصل: {واللَّهُ خَالِقُ..} ، بإثبات الواو، وهو خطأ، والصواب حذفها متابعة لما في المصحف الشريف.
2 هنا تسامح في التعبير؛ وإلا فهذا الرأي لبعض أصحاب أبي حنيفة، وقد سبق للمؤلف قريبًا أن حكى هذا الرأي عن الجرجاني.
3 الذي استقر الأمر عليه من مذهب الحنفية في هذه المسألة هو: القول بوجوب العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص. صرح بهذا صاحب "فواتح الرحموت": "1/267".

(2/532)


مسألة العموم إذا دخله التخصيص فهو حقيقة فيما بقي
مدخل
...
مسألة 1 العموم إذا دخله التخصيص؛ فهو حقيقة فيما بقي
ويستدل به فيما خلا المخصوص.
وكلام أحمد رحمه الله يدل على هذا؛ لأنه احتج فيمن ابتاع عبدًا أو أمة واستعملت ثم ظهر على عيب، أنه يرده، ويمسك الغلة2؛ لقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان" 3،
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"115-116"، و"روضة الناظر" ص"124-125".
2 الرد وإمساك الغلة واضح في العبد وفي الأمة في غير النكاح.
أما في النكاح فلا يخلو الأمر من حالين:
أولاهما: أن تكون الأمة ثيبًا، فوطئها المشتري قبل العلم بالعيب؛ فله ردها، وليس معها شيء وفي رواية أخرى لا يجوز الرد.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز ردها، ومعها أرش، واختلفوا في تقدير الأرش.
فعن أحمد: لها مهر المثل، ذكره ابن أبي موسى عنه.
ثانيهما: أن تكون الأمة بكرًا، فوطئها المشتري قبل العلم بالعيب؛ فهناك عن أحمد روايتان:
الأولى: أنه لا يجوز له الرد، وله أخذ أرش العيب، وهو الصحيح عند الإمام أحمد كما قال ابن أبي موسى.
الثانية: يجوز له ردها، ومعها شيء، وهو: ما نقص من قيمتها بسبب الوطء.
انتهى ملخصًا من "المغني" لابن قدامة "4/131-133".
3 هذا الحديث روته عائشة رضي الله عنها مرفوعًا، أخرجه أبو داود في كتاب البيوع باب فيمن اشترى عبدًا، فاستعمله، ثم وجد به عيبًا "1/254"، بمثل لفظ المؤلف.
وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء فيمن يشتري العبد، ويستغله؛ لم يجد به عيبًا؛ "3/572-573"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح"، ولفظه: "قضى أن الخراج بالضمان".

(2/533)


وهو مخصوص بلبن المصراة1، فإنه إذا ردها رد قيمة
__________
= وأخرجه النسائي في كتاب البيوع باب الخراج بالضمان "7/223"، بمثل لفظ الترمذي.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات باب الخراج بالضمان "2/754"، بمثل لفظ المؤلف، وبلفظ: "قضى أن خراج العهد بضمانه" الذي سيذكره المؤلف بعد قليل.
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده": "6/49، 208، 237".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب البيوع باب ما جاء في بيع الرقيق، وأن الكسب الحادث لا يمنع الرد بالعيب، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" : "1/164".
وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب البيوع باب بيع المصراة "4/21-22".
وأخرجه ابن حبان، كما نقل ذلك الهيثمي في كتابه: "موارد الضمان إلى زوائد ابن حبان"، في كتاب البيوع باب الخراج بالضمان ص"275".
وقد تكلم ابن حجر على إسناد هذا الحديث في كتابه: "تلخيص الحبير": "3/22"، وذكر: أن ابن القطان صححه، كما نقل عن ابن حزم قوله: "لا يصح".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي "3/503"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"456"، و"كشف الخفاء": "1/451-452"، و"تيسير الوصول إلى جامع الأصول": "1/75-76".
1 "التصرية" في اللغة مأخوذة من "الصري"، وهو الحبس، ومنه المصراة، وهي التي حبس لبنها في ضرعها.
انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري "2/293"، و"المصباح المنير": "1/518-519".

(2/534)


اللبن1، وإن كانت مضمونة عليه.
فقال في رواية عبد الله: حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن خراج العبد بضمانه"2، أذهب إليه، في العبد له وجهه، وفي المصراة له وجهه، لهذا وجه، ولهذا وجه.
واحتج أيضًا بحديث حكيم بن حزام3 "في بيع ما ليس عنده" وهو مخصوص بالسلم.
قال رحمه الله في رواية الميموني: لو ضربت بعضها ببعض رددت أحدهما؛ حكيم ببيع شيئًا حاضرًا، والسلم يبيع بصفة.
واحتج: أيضًا رحمه الله بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر
__________
1 قيمة اللبن: صاع من تمر، كما جاء في الحديث: "إن شاء ردها وصاعًا من تمر" .
وذهب قوم إلى: أنه يرد صاعًا من غالب قوت البلد؛ لأن التنصيص على التمر في الحديث؛ لأنه غالب قوت أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب فريق ثالث: إلى أن اللبن يقوم كسائر المتلفات.
راجع في هذا: "المغني" لابن قدامة "4/123".
2 هذه رواية من روايات حديث: "الخراج بالضمان"، بل هي رواية ابن ماجه، وقد سبق التنبيه على ذلك في الحديث المذكور.
3 هو: حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد.. القرشي الأسدي، أبو خالد من أشراف قريش جاهلية وإسلامًا. أسلم في الفتح. اشتهر بالفضل والتقى، ولد بالكعبة قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، أو اثنتى عشرة سنة. ومات بالمدينة سنة 54هـ وعمره 120 سنة.
انظر ترجمته في "الاستيعاب": "1/362"، و "الإصابة" القسم الثاني ص"112" طبعة دار نهضة مصر.

(2/535)


حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس1" وهو مخصوص عنده بالفوائت2، وبركعتي الطواف3 والصلاة على الجنازة4،
__________
1 أحاديث النهي عن الصلاة في هذين الوقتين رواها كثير من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وأبو سعيد الخدري، وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم.
وقد أخرج ذلك البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس "1/143".
وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها "1/566-567".
وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الصلاة بعد العصر وبعد الفجر "1/434-344".
وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة "1/293-294".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر "1/395-396".
وأخرجه النسائي في كتاب المواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد الصبح، وباب النهي عن الصلاة بعد العصر "1/222-223".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة باب النهي عن الصلاة بعد صلاتي الصبح والعصر "1/75".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير" للمناوي "6/318"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"204"، و "نصب الراية": "1/252".
2 هكذا هو في كتاب: "المغني" لابن قدامة "2/90"، وبه أخذ النخعي والشعبي وحماد والأوزاعي وابن المنذر وأبو ثور وإسحاق.
3 هو كذلك في "المغني" لابن قدامة "2/91"، وقد فعله ابن عمرو وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم. وبه قال عطاء وأبو ثور وجماعة.
4 الصلاة على الجنازة في الأوقات المنهي عنها على قسمين:
القسم الأول: متفق عليه، وهو: الصلاة على الجنازة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، =

(2/536)


وإعادة الصلاة في الجماعة1.
وقد صرح بذلك رضي الله عنه في رواية حنبل وصالح فقال: [73/ب] "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"، والنهي من النبي جملة، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها" وقال: "من أدرك من صلاة العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدركها" 2؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد
__________
= وبعد العصر حتى تغرب الشمس؛ حكاه ابن المنذر إجماعًا، وقال ابن قدامة: لا خلاف فيه.
القسم الثاني: مختلف فيه، وهو: الصلاة عليها حين بزوغ الشمس حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب.
ففي الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات الثلاثة خلاف، وعن أحمد روايتان:
إحداهما: لا تجوز الصلاة، واختارها القاضي أبو يعلى، وهي المذهب.
الثانية: تجوز الصلاة؛ حكاها أبو الخطاب.
راجع في هذا: "المغني" لابن قدامة "2/91-92".
1 إعادة الصلاة في الجماعة جائز عند الإمام أحمد رحمه الله، واختار ذلك الخرقي، حيث أطلق الكلام في ذلك. واشترط أبو يعلى: أن تكون الجماعة مع إمام الحي. انظر: "المغني" لابن قدامة "2/92".
2 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة "1/143".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة "1/424".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس "1/353-354"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت صلاة العصر "1/98".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة باب وقت الصلاة في العذر والضرورة =

(2/537)


العصر، يستعمل كل خبر منها على وجهه، ولا يضرب أحدهما بالآخر؛ فلهذا وجه لا يبتدأ بصلاة بعد العصر متطوعًا بها، ولو أدرك صلاة فائتة، صلاها بعد العصر، لقوله: "من نام عن صلاة أو نسيها" ، فقد صرح بالأخذ بالنهي، مع حصول التخصيص فيه.
وبهذا قال أصحاب الشافعي1.
واختلف أصحاب أبي حنيفة:
فحكى أبو عبد الله الجرجاني في كتابه عن عيسى بن أبان: أنه مجاز
__________
= 1/229.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب المواقيت، باب من أدرك ركعتين من العصر، "1/205-206". وقد أخرجه بمثل لفظ الجماعة بتعيين ركعة واحد في صلاة الصبح، ومثلها في صلاة العصر، غير أنه ساق رواية أخرى بلفظ: "من أدرك ركعتين من صلاة العصر، قبل أن تغرب الشمس أو ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك" .
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصبح أو العصر قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها؛ فقد أدركها "1/74".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"101"، و "نصب الراية": "1/228-229".
1 ليس هذا قول كل أصحاب الشافعي، بل هو قول أكثرهم، كما عبر الجلال، أو كثير منهم، كما عبر الآمدي، وقد اختار البيضاوي وابن الحاجب: أنه مجاز.
راجع: "حاشية البناني مع شرح جمع الجوامع": "2/5-6"، و "نهاية السول شرح منهاج الأصول": "2/394-395"، و "الإحكام" للآمدي: "2/209-210".
ونقل الغزالي في كتابه: "المنخول" ص"153"، عن الإمام الشافعي في العام إذا دخله التخصيص "أنه حقيقة في الباقي، يجب العمل به".

(2/538)


ويمنع من التعلق بظاهره، ولم يفصل بين الدليل المتصل وغيره1.
وحكي عن أبي الحسن الكرخي أنه كان يقول: يصير مجازًا إذا كان المخصص له منفصلًا، ولا يوجب ذلك إذا كان متصلًا.
وحكي عن أبي بكر الرازي: أنه حقيقة فيما بقي، إذا كان الباقي جمعًا في الحقيقة2.
وحكي عن المعتزلة والأشعرية: أنه يصير مجازًا، ولا يحتج به3؛ وإنما يصح هذا على قول الأشعرية، إذا علم أن العموم غير مراد؛ لأن عندهم: لا صيغة للعموم4.
__________
1 بل روي عنه مفصلًا، حيث قال: إن خص بمتصل غير مستقل، فهو حجة، وإلا فلا.
راجع: "فواتح الرحموت": "1/308".
وقد رأيت في "فواتح الرحموت": "1/311": أن الحنفية لا خلاف بينهم في أن العام المقرون بشرط أو صفة أو غاية أو استثناء ليس مجازًا.
وعلى هذا يبقى خلافهم مع المذاهب الأخرى فيما لو خص بمنفصل.
2 هكذا نقل عنه الآمدي في "الإحكام" "2/209"، و "فواتح الرحموت": "1/311"، وكذلك "المسودة" ص"116".
إلا أن صاحب فواتح الرحموت نقل عنه رأيًا آخر، محصله: أن العام المخصص حقيقة إن بقي غير منحصر، وبين بعد ذلك: أن الرأي الأول هو الذي نقله الحنفية عنه، وهم أدرى بأقواله.
3 ليس هذا مذهب المعتزلة كلهم؛ بل مذهب كثير منهم، فقد ذهب أبو الحسن البصري إلى غير هذا، كما نقل عن عبد الجبار خلاف ما هنا، كما سيأتي.
4 المؤلف هنا خلط بين مسألتين:
الأولى: هل العلام بعد التخصيص حقيقة أو مجازًا؟
الثانية: هل العام بعد التخصيص حجة أو لا؟

(2/539)


...............................
__________
= وقد ذكر المؤلف في المسألة الأولى أربعة آراء:
1- حقيقة مطلقًا.
2- مجاز مطلقًا.
3- حقيقة إن خص بمتصل، مجاز إن خص بمنفصل.
4- حقيقة إذا كان الباقي جميعًا.
وهناك أربعة آراء، لم يذكرها المؤلف هي:
1- إن خص العام بدليل لفظي هو حقيقة، وإلا فلا.
2- إن خص العام بشرط أو صفة؛ فهو حقيقة؛ وإلا فلا، وهو للقاضي عبد الجبار من المعتزلة.
3- يكون حقيقة في الباقي، مجاز في الاقتصار عليه.
4- إذا خص العام بدليل متصل، من شرط أو استثناء؛ فهو حقيقة، وإلا فلا، وهو منسوب للقاضي أبي بكر.
أما المسألة الثانية وهي: هل العموم حجة بعد التخصيص أو لا؟ فالكلام في مقامين:
المقام الأول: إذا خص العام بمبهم، فقد نقل الآمدي الاتفاق على عدم الاحتجاج به. وتعقب بأن هناك خلافًا، وقد نقله ابن برهان، ورجح كونه حجة.
المقام الثاني: إذا خص بمعين، وهذا فيه آراء ثلاثة:
1- حجة مطلقًا، وهو منسوب للفقهاء، واختاره القاضي أبو يعلى كما هنا، كما اختاره أبو الخطاب.
2- غير حجة مطلقًا، وهو منسوب لعيسى بن أبان وأبي ثور.
3- التفصيل، والمفصلون لهم آراء كثيرة، أشهرها:
أ- حجة إن خص بمتصل، وهو منسوب للكرخي.
ب- حجة إن لم يمتنع المخصص من تعلق الحكم بالاسم العام، وإليه مال أبو الحسن البصري.
ج- حجة في أقل الجمع.
راجع في هذا: "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/282-294"، و"الإحكام" للآمدي "2/209"، و"فواتح الرحموت": "1/311"، و"حاشية البناني مع شرح جمع الجوامع": "2/6-7"، و"المسودة" ص"116".

(2/540)


فالدلالة على أنه حقيقة في الباقي: ما روي أن فاطمة رضي الله عنها احتجت بقول الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 1؛ فلم ينكر أحد احتجاجها بهذه الآية2، وإن كان قد خص منها: الولد الكافر، والرقيق، والقاتل؛ وإنما خصوا منها ميراث النبي صلى الله عليه وسلم بسنة خاصة3، فدل على أن تخصيص العموم لا يمنع من الاحتجاج به فيما لم يخص منه.
وكذلك روي عن عثمان وعلي رضي الله عنهما: أنهما قالا في الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية4، وحرمتهما آية5، وكل واحدة من الآيتين دخلها التخصيص6.
__________
1 "11" سورة النساء.
2 سبق تخريج هذا الأثر عن فاطمة رضي الله عنه ص"493".
3 وذلك ما رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث؛ ما تركناه صدقة" ، متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
4 يشير إلى قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} الآية، كما ذهب إليه القرطبي في "تفسيره": "5/117"، وقال الجصاص: المراد قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال ذلك في كتابه: "أحكام القرآن": "3/74".
5 يشير إلى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ... إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} الآية.
6 هذا الأثر نسب إلى عثمان رضي الله عنه، وفيه لما سئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين قال: "لا آمرك، ولا أنهاك، أحلتهما آية، وحرمتهما آية".
وقد روى الشعبي عن علي رضي الله عنه قوله: "أحلتهما آية، وحرمتهما آية، والتحريم أولى". كما روي عنه أنه لما سئل عن قوله: "أحلتهما آية، وحرمتهما آية"، قال: "كذبوا". وهذا كما قال الجصاص: "محمول على نفي المساواة في مقتضى الآيتين".
وكون حرمتهما آية، وأحلتهما آية: إنما هو في الظاهر؛ وإلا فلا يمكن بحال أن يجتمع في محل واحد التحليل والتحريم. ويمكن أن يحمل عليه قول علي رضي الله عنه: "كذبوا"، كما أشار إليه الجصاص.
ونقل هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه.
راجع في هذا: "تفسير القرطبي": "5/117"، و"أحكام القرآن" للجصاص "3/74-75".

(2/541)


وأيضًا فإن اللفظ فيما عدا الخصوص حقيقة؛ لأن اسم المشركين يقع حقيقة على من بقي بعد التخصيص؛ فوجب أن تكون دلالة اللفظ قائمة بعد التخصيص، كهي قبل التخصيص.
وقيل: بأن دلالة اللفظ سقطت فيما عارضه، وهي فيما عداه باقية؛ لأنه لا معارض فيه؛ فجاز الاحتجاج به.
ولا يلزم على هذا العلة إذا خصت، أنه لا يجوز الاحتجاج بها؛ لأنها إذا خصت؛ كانت منتقضة، ولم تكن علة، كذلك الحكم، وليس كذلك العموم؛ فإنه إذا خص منه شيء كانت دلالته باقية، فيما لم يخص منه لأنه إنما كان دليلًا في جميع ما تناوله الخبر؛ لكونه قولًا لصاحب الشريعة، لا معارض، وهذا موجود فيما لم يخص منه.
[74/أ] وأيضًا: فإن دلالة التخصيص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة؛ فلما كان الاستثناء غير مانع من بقاء دلالة اللفظ فيما بقي، وصارت الجملة مع الاستثناء عبارة عن الباقي بالاتفاق، كذلك لفظ العموم، يصير مع دلالة التخصيص عبارة عما عدا الخصوص.
فإن قيل: إنما كان كذلك في الاستثناء؛ لأن الاستثناء يصير مع الجملة عبارة عن الباقي؛ لأن التسعة لها اسمان:
أحدهما تسعة، والآخر عشرة إلا واحدًا؛ فأيهما عبر عنهما؛ كان الاسم حقيقة فيها، كما أنه لا فرق بين أن يقول: اثنان، وبين أن يقول: واحد

(2/542)


وواحد، في أن العبارتين تفيدان معنى واحدًا، وكذلك: دلالة التخصيص إذا كانت مقارنة، ويفارق المنفصل؛ لأنه لا يجعل كالمتصل، كما لم يفعل ذلك في الاستثناء.
قيل: وكذلك التخصيص المنفصل يصير مع الجملة عبارة عن الباقي، كالتخصيص المتصل، ولا فرق بينهما.

(2/543)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن اللفظ صار مستعملًا في غير ما وقع له؛ فاحتاج إلى دليل يدل على أن المراد به بمنزلة المجمل الذي لا يدل على المراد بلفظه، يحتاج إلى قرينة تفسره وتدل على المراد به.
والجواب: أنا لا نسلم أنه يستعمل في غير ما وضع له؛ لأن هذا اللفظ موضوع للعموم بمجرده، وللخصوص بقرينة، وهذا غير ممتنع في اللغة، ألا ترى أنا أجمعنا: أنه موضوع بمجرده للعموم، وللخصوص بقرينة متصلة به، مثل الاستثناء، وكذلك يقول القائل: خرج زيد، فيكون إخبارًا عن خروجه، ويضم إليه "ما" فيكون إخبارًا عن ضده، وتضيف إليه ألفًا، فيكون استفهامًا، وذلك حقيقة، كذلك في مسألتنا.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى أن لا يكون في اللغة مجاز، ويقال: قولنا: "بحر"، موضوع للماء الكثير بمجرده، وللعالم أو الجواد بقرينة، وكذلك: "الأسد"، موضوع للبهيمة بمجرده، وللرجل الشديد بقرينة، و "الحمار" موضوع للبهيمة بمجرده، وللبليد بقرينة.
قيل: إن لزمنا هذا في التخصيص؛ لزمك في الاستثناء، فإن المخالف يقول في الاسثتناء ما نقول نحن في التخصيص.
وجواب آخر وهو: أن هذه المواضع أثبتناها مجازًا بالتوقيف من جهة أهل اللغة؛ فليس في تخصيص العموم أنه مجاز توقيف، ولا يشبه

(2/543)


هذا المجمل؛ لأن المجمل غير دال بلفظه على شيء، والعموم دال على ما تناوله؛ وإنما خرج بعضه بدليل أقوى منه، وبقي الباقي على موجب اللفظ.
ولا يشبه هذا استعمال اللفظ في الرجل الشجاع سبعًا، والبليد حمارًا، أنه مجاز؛ لأنه عدل باللفظ عما وضع له في أصل اللغة، وههنا لم يعدل باللفظ فيما بقي عما وضع له؛ لأن اسم المشركين حقيقة [74/ب] فيما بقي.

(2/544)


مسألة يجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد
مدخل
...
مسألة 1 : يجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد 2
خلافًا لأبي بكر الرازي، فيما حكاه الجرجاني عنه وأبي بكر القفال
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"116-117"، و"روضة الناظر" ص"125"، و"شرح الكوكب المنير" ص"181".
2 قال أبو البقاء الفتوحي: "وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وأصحابه، ونقل عن ابن مفلح قوله: "يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد عن أصحابنا". وقد اختاره ابن قدامة.
وبهذا قال مالك فيما حكاه عنه القاضي عبد الوهاب.
وبه قال بعض الشافعية، واختاره منهم: أبو إسحاق الشيرازي، وهو مختار الحنفية.
راجع في هذا: "شرح الكوكب المنير" ص"181"، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص"224"، و"شرح الجلال على جمع الجوامع": "2/3"، و"اللمع" للشيرازي ص"17"، و"فواتح الرحموت على مسلم الثبوت": "1/306"، و"روضة الناظر" ص"125".
ويلاحظ: أن القاضي هنا اختار القول بتخصيص العموم إلى أن يبقى واحد. ولكن في "المسودة" ص"117" نقل عنه قوله في "الكفاية": "إنه لا يجوز تخصيص جميع ألفاظ العموم؛ إلا أن يبقى كثرة، وإن لم يقدر؛ إلا أن تستعمل في الواحد على سبيل التعظيم".
وكذلك نسب أبو البقاء هذا الرأي إليه، وذلك في كتابه: "شرح الكوكب المنير" ص"181".

(2/544)


في قولهما: يجوز تخصيص لفظ الجمع، إذا كان الباقي جمعًا في الحقيقة، ولا يجوز النقصان منه إلا بما يجوز به النسخ1.
__________
1 بقي بعض الآراء في المسألة لم يذكرها المؤلف، وهي:
أ- يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد، إن لم يكن لفظ العام جمعًا. واختاره عبد الوهاب بن السبكي في كتابه "جمع الجوامع".
ب- وقيل: يجوز إلى أقل الجمع. واختلف في أقل الجمع؛ فقيل: ثلاثة، وقيل: اثنان.
ج- وقيل: يجوز إلى أن يبقى قريب من مدلول اللفظ العام قبل التخصيص، وبه قال ابن حمدان من الحنابلة.
د- وقيل: يجوز تخصيصه إلى أن يبقى كثرة، وإن لم تقدر، وبه قال أبو يعلى في كتابه "الكفاية".
هـ- وقيل: يجوز إلى أن يبقى أفراد العالم بعد التخصيص غير محصورة.
و- وقيل: يجوز تخصيصه إلى الأكثر، وفسر الأكثر بالزائد على النصف.
راجع في هذا: "شرح الكوكب المنير" ص"181"، و"المسودة" ص"117"، و"شرح الجلال على جمع الجوامع": "3/2"، و"فواتح الرحموت على مسلم الثبوت": "306/1".

(2/545)


من عبيد أو دواب فهو لفلان إلا كذا وكذا، حتى يبقى واحد.
ولأن القرينة المتصلة بمنزلة المنفصلة؛ لأن كلام صاحب الشريعة، وإن تفرق؛ فإنه يجب ضم بعضه إلى بعض، وبناء بعضها على بعض؛ فإذا كان كذلك وكان المتصل صحيحًا ما بقي من اللفظ شيء، كذلك التخصيص.

(2/546)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن لفظ الجمع موضوع للثلاثة فصاعدًا؛ فإخراج اللفظ عن الثلاثة إخراج عن موضوعه وترك الحقيقة، وهذا لا يجوز إلا بما يجوز به النسخ، ويكون بمنزلة إسقاط حكم جميع اللفظ.
والجواب: أنه يجوز عندنا ترك حقيقة اللفظ وصرفه إلى المجاز والاتساع بما يجوز التخصيص به، ولا يكون بمنزلة النسخ؛ وإنما يكون بمنزلة التخصيص، ولهذا نقول في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 1، إن المراد به: موضع الصلاة2، ونحمله على المجاز بضرب من الاستدلال.
وعلى أنه إذا وجب بناء بعض كلامه على بعض، وجب أن تكون
__________
1 "43" سورة النساء.
2 هذا أحد الآراء، وقد اختاره ابن عباس وابن مسعود، وبه قال الإمام الشافعي، ويكون الكلام على تقدير مضاف، أي: لا تقربوا مواضع الصلاة، وذلك سائغ في لغة العرب، وقد جاء في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} ، والمعنى: مواضع صلوات، التي هي المساجد.
وذهب فريق ثانٍ إلى أن المراد بالآية: الصلاة نفسها.
وذهب فريق ثالث إلى أن المراد بالآية: الصلاة وموضعها، لما بينهما من الملازمة.
راجع: "تفسير القرطبي": "5/202"، و"تفسير الفخر الرازي": "10/102-103".

(2/546)


القرينة المنفصلة بمنزلة المتصلة، وتكون بمنزلة الاستثناء؛ فلا يكون ذلك تركًا لموضوع اللفظ وحقيقته.
فإن قيل: أليس من مذهبكم: أنه لا يجوز رفع الأكثر بالاستنثاء وكذلك لا يجوز في التخصيص؟
قيل: هذا لا يصح على أصل المخالف؛ لأنه يجوز الاستثناء ما بقي من اللفظ شيء، وأما على أصلنا؛ فلا يعتبر أن يبقى لفظ الجمع؛ لأنه لو قال: له علي عشرة إلا ستة؛ فقد1 بقي لفظ الجمع وزيادة، ولا نجيزه؛ وإنما امتنع أن يرفع بالاستثناء الأكثر أن الاستثناء لغة، وأهل اللغة منعوا من استثناء الأكثر. وسنبين ذلك في مسائل الاستثناء إن شاء الله تعالى2؛ فأما في تخصيص العموم؛ فلم يُرَ عنهم منع ذلك.
وجواب آخر وهو: أن التخصيص أوسع؛ لأنه يصح منفصلًا ومتصلًا، والاستثناء لا يكون إلا متصلًا؛ ولأن التخصيص من جنس ما يرفع الجملة، وهو النسخ؛ لأن التخصيص هو تخصيص الأعيان، والنسخ تخصيص الزمان، وليس من جنس الاستثناء ما يرفع [75/أ] الجملة.
__________
1 في الأصل "قد".
2 وذلك ص"659-683".

(2/547)


مسألة يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل
مدخل
...
مسألة 1 : يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل
نحو قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2، ومعلوم أنه لم
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة": "118-119"، و"روضة الناظر" ص"127"، و"شرح الكوكب المنير" ص"182-183".
2 "62" سورة الزمر.

(2/547)


يخلق نفسه، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 1، ولم يدخل تحته الصبيان والمجانين.
وقد تكلم الإمام أحمد رحمه الله فيما خرجه في محبسه على قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 2 فقال: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، ليس فيها من عظم الرب شيء، أحشاؤكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والوشي والأماكن القذرة، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 3.
فقد عارض الظاهر بالعقل والشرع، وهو قول أكثر أهل العلم، وقال قوم: لا يجوز ذلك4.
دليلنا: أنه يفضي بنا العلم، كالكتاب والسنة المتواتر والإجماع؛ فلما جاز تخصيص العموم بالكتاب والسنة والإجماع، كذلك يجوز تخصيصه بدليل العقل.
__________
1 "21" سورة البقرة.
2 "3" سورة الأنعام.
3 "16" سورة الملك.
4 ونسبه الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/267" إلى طائفة شاذة من المتكلمين، ومما يجدر ذكره: أن الإمام الشافعي رحمه الله، لم يسمه تخصيصًا؛ لأن ما خصصه العقل لا يشمله حكم العام عنده.
وعلى هذا فالخلاف بينه وبين الجمهور لفظي؛ لأن ما خصصه العقل عند الجمهور لا يدخل تحت لفظ العام عند الشافعي حتى يحتاج إلى تخصيص.
انظر: "الرسالة" ص"33"، و "شرح الجلال على جمع الجوامع": "2/24-25".

(2/548)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لو جاز تخصيص العموم بالعقل؛ لجاز نسخه بذلك، كما أن الكتاب والسنة والإجماع لما جاز التخصيص بها جاز النسخ بها.
والجواب: أن القياس يخصص به، ولا ينسخ، وكذلك الإجماع، وعلى أن النسخ إنما لم يجز بالعقل؛ لأن النسخ بيان مدة الحكم، والعقل يجوز بقاء الحكم من غير زوال؛ فلا يجوز أن يكون له تأثير في إزالة ما يجوز بقاؤه، وليس كذلك التخصيص؛ لأنه بيان مراد المخاطب، وهذا المعنى يصح ثبوته بدليل العقل، ألا ترى أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} 1، وكان مخصوصًا في المكلفين، دون الأطفال والمجانين، وكان خصوصه معلومًا بدليل العقل.
وجواب آخر وهو: أن دليل العقل له تأثير فيما هو في معنى النسخ، وإن لم يسم نسخا؛ لأن معنى النسخ هو المنع من أن يلزم في المستقبل، مثل ما كان لازمًا فيما مضى من الوقت، وهذا يثبت بدليل العقل، ألا ترى أن دليل العقل يمنع من لزوم الفرض عند العجز عنه، كما يمنع من ذلك دلالة السمع، إلا أن ذلك لا يطلق عليه اسم النسخ؛ لأن اسم النسخ يختص بما كان ثابتًا من جهة السمع دون العقل، ألا ترى أن فرض التوجه إلى بيت المقدس، لما كان ثابتًا من جهة السمع؛ كان زواله نسخًا؟
وأن إباحة شرب الخمر، لما لم تكن ثابتة من جهة السمع، لكن من جهة العقل؛ لم يسم زوالها نسخًا؛ فإذا كان كذلك، وكان سقوط التكليف بدلالة العقل غير ثابت من جهة السمع؛ لم يكن نسخًا، ولم تجر عليه هذه التسمية، وإن كانت تجري عليه لو كان [75/ب] متعلقًا بدلالة من جهة السمع.
__________
1 "1" سورة النساء.

(2/549)


واحتج بأن دلالة العقل مقدمة على العموم، والتخصيص إنما يكون بما يقارب العموم أو يتأخر عنه.
والجواب: أنه يجوز أن يتقدم دليل الخطاب على العموم؛ لأن الدليل يجوز أن يتقدم عن مدلوله1؛ ألا ترى أن الدليل قد دل على أن الله يثيب المؤمنين بالجنة، ويعاقب الكفار بالنار؟ وإن كان مدلول هذا الدليل متأخرًا عن دليله، كذلك لا ينكر أن يسبق دلالة التخصيص لفظ العموم.
واحتج بأن التخصيص بمنزلة الاستثناء، ثم لا يجوز أن يتقدم الاستثناء الجملة، كذلك دليل التخصيص.
والجواب: أن تقدم الاستثناء لا يفيد شيئًا، ألا ترى أنه لو قال: "زيدًا" ؛ لم يكن لهذا الكلام معنى؟
وأما التخصيص فإن انفراده قد يكون مفيدًا؛ ألا ترى أنه لو قال: خطابي إنما يتناول العقلاء دون الأطفال والمجانين؛ لكان هذا كلامًا مفيدًا، كذلك إذا تقدمت دلالة العقل على هذا المعنى، ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 2 كان ذلك مخصوصًا بالعقلاء، بدلالة العقل السابقة للخطاب، وهكذا كل عموم هذه صفته؛ فإن دليل العقل يكون مخصصًا، لمنع كونه متقدمًا عليه.
__________
1 في الأصل: "من أوله".
2 "21" سورة البقرة.

(2/550)


مسألة يجوز تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد
مدخل
...
مسألة 1 : يجوز تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد
سواء كان العموم قد
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"119"، و"روضة الناظر" ص"127-129"، و"شرح الكوكب المنير" ص"205-206".

(2/550)


دخله التخصيص، أو لم يدخله.
نص على هذا رحمه الله في رواية عبد الله في الآية إذا كانت عامة، ينظر ما جاءت به السنة؛ فتكون السنة هي دليلًا على ظاهر الآية، مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 1؛ فلو كانت الآية على ظاهرها؛ ورث كل من وقع عليه اسم ولد، وإن كان يهوديًا أو نصرانيًا أو عبدًا أو قاتلًا؛ فلما جاءت السنة أنه لا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلمًا، ولا يرث قاتل ولا عبد؛ كانت هي دليلًا على ما أراد الله تعالى من ذلك، ونحو هذا قال في رواية [أبي] عبد الرحيم الجوزجاني.
وهو قول أصحاب الشافعي2.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان العموم قد دخله التخصيص بالاتفاق3؛ جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يكن دخله التخصيص؛ لم يجز تخصيصه بخبر الواحد4.
__________
1 "11" سورة النساء.
2 وهذا القول نسبه الآمدي في كتابه "الإحكام": "301/2" إلى الأئمة الأربعة رحمهم الله، واختاره. وحكاه عبد الوهاب بن السبكي في "جمع الجوامع": "27/2" عن الجمهور، واختاره، كما حكاه القرافي في كتابه "شرح تنقيح الفصول" ص"208" عن المالكية والشافعي وأبي حنيفة.
3 وهو الذي خص بمقطوع؛ فإنه متفق على القول به.
4 راجع في هذا: "مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت": "1/349"، و"أصول السرخسي": "1/133، 142".
وقد رأيت الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/301"، وابن السبكي في: "جمع الجوامع": "2/27-28" ذكرا عن الكرخي قوله: "إن خص العام بمنفصل؛ جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يخص أو خص بمتصل؛ فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد.

(2/551)


وذهب بعض المتكلمين إلى أنه لا يجوز التخصيص بخبر الواحد في الجملة1.
فالدلالة على جوازه في الجملة:
إجماع الصحابة، روي عنهم: أنهم خصوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} 2، بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها" ... الخبر.
وقبلوا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل" 3 وخصوا به آية [76/أ] المواريث، ونظائر ذلك يطول [ذكره]، وإذا انعقد إجماعهم على ذلك؛ لم يجز مخالفته.
فإن قيل: فقد رد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث فاطمة بنت قيس4 لما روت: أن النبي صلى الله عليه وسلم "لم يجعل لها سكنى ولا نفقة"، وقال:
__________
1 وهناك قول آخر، وهو: التوقف، وهو منسوب لأبي بكر الباقلاني.
انظر المراجع الآنفة الذكر.
2 "24" سورة النساء.
3 هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه في كتاب العقول، باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه ص"540".
وأخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في كتاب الديات، باب ديات الأعضاء 2/496.
وأخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الفرائض، باب ميراث القاتل 2/913.
4 هي: فاطمة بنت قيس بن خالد الأكبر القرشية الفهرية. صحابية، من المهاجرات الأول، ذات عقل وكمال، في بيتها اجتمع أهل الشورى عند قتل عمر بن الخطاب، روى عنها جماعة منهم أبو سلمة والشعبي والنخعي.
لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1901"، و"الإصابة": "8/164".

(2/552)


لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة1.
قيل: عمر لم يمتنع من قبول هذا الخبر؛ لأنه يعارض الظاهر؛ لكن لم يتقبله؛ لأنه عارضه بغيره، فاعتقد خطأ فاطمة وسهوها في الرواية؛ يدل عليه: أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لعلها نسيت أو شبه لها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة" 2 .
__________
1 حديث عمر -رضي الله عنه- أخرجه عنه مسلم في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها "2/1118".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة "3/475".
وأخرجه عند أبو داود في كتاب الطلاق، باب من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس "3/534".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطلاق، باب في المطلقة ثلاثًا لها السكنة والنفقة أم لا؟ "2/87".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطلاق والخلع "4/25" .
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "3/273".
2 حديث عمر -رضي الله عنه- رواه الشعبي، وقد حدث به في حضرة الأسود بن يزيد، فما كان من الأسود إلا أن أخذ كفًا من حصى، فحصب به الشعبي، وقال: له: "ويلك، تحدث بمثل هذا! قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ".
هذا لفظ مسلم في: "صحيحه"، في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها "2/1118-1119".
وكذلك أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها ولا سكنى "3/475-476"، وزاد فيه: "وكان عمر يجعل لها السكنى والنفقة".
راجع أيضًا: المنتقى من أحاديث الأحكام ص"604"، ونصب الراية "3/273".

(2/553)


وأجاب عنه أحمد رحمه الله في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: كان ذلك منه على [وجه] احتياط، وقد كان يقبل من غير واحد قوله وحده.
مع أن هذا الخبر مطرح الظاهر؛ لأن السكنى مخصوصة في حق الصغيرة؛ فإنه لا سكنى لها، وخبر الواحد يخص به الظاهر المخصوص عند أبي حنيفة، فعلم أن الخبر مطرح الظاهر.
فإن قيل: فقد قبلوا خبر الواحد فيما يوجب النسخ بدلالة: أن أهل قباء قبلوا قول المخبر الواحد بتحويل القبلة؛ فكان يجب أن يتبعوهم فيه، كما اتبعوهم في التخصيص بخبر الواحد.
قيل: هكذا نقول: ونتبعهم في النسخ، كما فعلنا في التخصيص.
وقد نص أحمد رضي الله عنه على هذا في رواية الفضل بن زياد وأبي الحارث في خبر الواحد إذا كان إسناده صحيحًا: وجب العمل به، ثم قال: أليس قصة القبلة حين حولت، أتاهم الخبر، وهم في الصلاة فتحولوا نحو الكعبة1؟
__________
1 هذه القصة رواها البراء بن عازب رضي الله عنه. أخرجها عنه البخاري في كتاب الصلاة. باب التوجه نحو القبلة حيث كان "1/104-105"، وأخرجها عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة كما أخرجه عن ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهما "1/374-375".
وأخرجها الترمذي عن البراء بن عازب في كتاب الصلاة، باب ما جاء في ابتداء القبلة "2/169-170". وأخرجها عنه النسائي في كتاب القبلة، باب استقبال القبلة "2/47".
وأخرجها عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب القبلة "1/322".
وأخرجها الطيالسي في: "مسنده"، في كتاب الصلاة، باب وجوب استقبال القبلة "1/85".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "1/305-306".

(2/554)


وخبر الخمر أهراقوها1، ولم ينتظروا غيره؛ فقد أخذ بخبر الواحد.
واحتج: بقصة أهل قباء، وأن الصحابة أخذت بهذا الخبر، وإن كان فيه نسخ.
وأيضًا: فإن خبر الواحد يجب العمل به، كما يجب بخبر التواتر، ثم ثبت أنه يجوز التخصيص بخبر التواتر للعموم، الذي دخله التخصيص والذي لم يدخله، كذلك خبر الواحد.
فإن قيل: خبر التواتر يوجب العلم كالعموم؛ فلهذا جاز التخصيص به، وليس كذلك خبر الواحد؛ فإنه لا يوجب العلم.
قيل: هذا المعنى لا يوجب الفرق بينهما في باب التخصيص، كما لم يوجب الفرق بينهما في باب العمل، ولأن خبر التواتر وإن أوجب العلم؛ فليس له رتبة العموم؛ لأن الكتاب ينفرد بأنه معجز، وخبر التواتر ليس كذلك. ولأن خبر الواحد وإن لم يوجب العلم؛ فإنه لا يرفع ما هو مقطوع به؛ لأن المقطوع به هو صيغة العموم، والخبر لا يرفعها؛ وإنما يخص ما تناوله [76/ب] من الحكم، وذلك غير مقطوع [به]، بل يثبت بالتخصيص
__________
1 هذا الخبر رواه أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وهي من البسر والتمر "7/136".
وأخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر "3/1571".
وأخرجه أبو داود في كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر "2/292".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "4/296".

(2/555)


أنه لم يكن مرادًا بالعموم. وهذا معنى قول أحمد رضي الله عنه: "إنه دليل على ما أراد الله تعالى من ذلك".
وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن لا يوجب العلم، ويزيل ما يوجب العلم، ألا ترى أن خبر الواحد مقبول فيما يقتضي العقل خلافه، مثل تحريم الربا وشرب الخمر، وما يجري لليقين، وخبر الواحد لا يوجب إلا غلبة الظن، وكذلك لو قال النبي: إن هذه الدار ملك لفلان، ثم قامت بعد ذلك بينة على أن زيدًا قد ملك الدار على فلان؛ فإنا نزيل ملكه الثابت من جهة اليقين، بالبينة التي لا توجب إلا غلبة الظن، كذلك ههنا.
وأيضًا: فإن صيغة العموم معرضة للتخصيص ومحتملة له، وخبر الواحد غير محتمل؛ فجاز أن يقضي بغير المحتمل على المحتمل، كالمجمل وتفسيره؛ فإنه يقضي بتفسيره عليه، كذلك ههنا.
وأيضًا: فإن خبر الواحد وإن لم يكن مقطوعًا به، فإنه يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وكذلك شهادة الشاهدين لا يقطع الحاكم بها، ولكن ثبتت بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع به جرى مجراه في العمل؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: إذا زالت الشمس فصليا ركعتين، وما أخبركم به فلان عني؛ فهو شرعي، فإن المقطوع به من قوله كالذي يخبر به عنه، وإن لم يكن مقطوعًا به، كذلك ههنا.

(2/556)


حجة المخالف1
...
واحتج المخالف:
بأن الكتاب مقطوع عليه، وخبر الواحد محتمل؛ فلا يخص المقطوع به بأمر محتمل.
والجواب عنه: ما تقدم من أن هذا لم يمنع العمل، ومن أن خبر التواتر ليس له رتبة الظاهر، ومع هذا جاز تخصيصه به، ومن أن هذا لا يمتنع -كما قلنا- في الأشياء التي ينتجها العقل، تطرح بخبر الواحد،

(2/556)


وبقول الشاهد، ومن أن الصيغة مقطوع عليها، ولسنا نرفعها؛ وإنما نخص ما تناولته من الحكم، وما تناولته1 من الحكم لا يقطع به أنه مراد؛ وإنما يخص ما كان محتملًا.
وجواب آخر، وهو: أن السنة -وإن لم يكن مقطوعًا بها- فإن حكمها ثبت بأمر مقطوع به.
واحتج: بأن الكتاب أقوى من السنة، بدليل أنهما لو تعارضا؛ أسقطنا الخبر للكتاب2، وإذا كان أقوى منه لم يخص القوي بالضعيف.
والجواب: أنا لا نسقط الكتاب بالسنة، بل نستعمل كل واحد منهما، ولا يمتنع أن يجمع بين القوي وما هو دونه، ألا ترى أن خبر التواتر دون الكتاب؛ لأنه وإن كان كل واحد منهما مقطوعًا به؛ فإن الكتاب ينفرد بأنه معجز، ومع هذا يخص بخبر التواتر.
وعلى أن هذا يبطل بما ذكرنا.
وفيما ذكرنا دلالة على أصحاب أبي حنيفة في فرقهم بين العموم المخصوص والذي لم يخص؛ وذلك [77/أ] أن العموم الذي لم يخص، صيغته معرضة للتخصيص ومحتملة له، وخبر الواحد غير محتمل؛ فجاز أن يقضي به عليه، كخبر التواتر، وكالمجمل والمفسر.
ولأن خبر الواحد وإن لم يكن مقطوعًا به؛ فإنه قد يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع جرى مجراه في العمل، كخبر
__________
1 في الأصل: "تناوله".
2 وذلك إذا تكافئا في الدلالة، بأن كان كل منهما مقطوعًا به أو مظنونًا، أو كانت دلالة الكتاب مقطوعًا بها، والسنة ظنية الدلالة، أما إذا كانت السنة قطعية والكتاب ظنيًا؛ فإنه يقدم السنة على الكتاب في هذه الحالة، وذلك إذا لم يمكن الجمع بينهما، وهو ما أشار إليه المؤلف في جوابه.

(2/557)


التواتر، وكما لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا زالت الشمس؛ فصلوا ركعتين، وما أخبركم به عني فلان؛ فهو شرعي؛ فإن المقطوع به من قوله كالذي يخبر به عنه وإن لم يكن مقطوعًا.
ولأن ما جاز أن يزاد في تخصيص اللفظ به؛ جاز أن يبتدأ تخصيصه، قياسًا على اللفظ الخاص.
ولأنه لما جاز أن يزاد في تخصيصه به لخصوصه ومنافاته لبعض ما شمله اللفظ العام، وهذا المعنى موجود في ابتداء التخصيص.

(2/558)


حجة المخالف2
...
واحتج المخالف:
بأن العموم الذي لم يتفق على تخصيصه مقطوع فيما يتضمنه من المسميات؛ لأن صاحب الشريعة لو قال بخصوصه؛ لذكره مع لفظه، ولو ذكره لنقل، ويفارق هذا ما دخله التخصيص؛ لأنه غير مقطوع على ما تضمنه من المسميات؛ لأنه قد صار مجازًا فيما بقي، على قول جماعة من أهل العلم، وإذا كان مقطوعًا به؛ لم يجز أن يعترض عليه بما ليس بمقطوع به، كما لا يعترض عليه بالنسخ بخبر1 الواحد.
والجواب: أنا لا نسلم أنه مقطوع [به] فيما يتضمنه من المسميات؛ لأنه محتمل للعموم وللخصوص، والخبر أخص منه؛ فهو مبين له.
وقولهم: لو كان مخصوصًا لذكره مع لفظه غير صحيح؛ لأنه يجوز تأخير البيان عندنا.
وأما نسخ الظاهر بخبر الواحد؛ فإنما لم يجز، لا لأجل أنه مقطوع عليه؛ ألا ترى أنه لا يجوز نسخه بخبر التواتر على أصلنا.
وعلى أنه ليس إذا لم ينسخ به لم يخصص به، بدليل القياس مع خبر
__________
1 في الأصل: "غير".

(2/558)


الواحد يخصصه ولا ينسخه، وكذلك قول الصحابي.
وعلى أن هذا يلزم عليه ما ذكرناه على الطائفة الأولى من تلك الوجوه كلها.
وجواب آخر. وهو: التخصيص إزالة بعض الحكم، وجمع بين الدليلين، وليس كذلك النسخ؛ فإنه إزالة حكم جميع اللفظ وإسقاطه بخبر الواحد، وهذا لا يجوز.
ولأن النسخ ابتداءه والزيادة فيه سواء، كذلك يجب أن تستوي الزيادة والابتداء.

(2/559)


مسألة يجوز تخصيص العموم بالقياس
مدخل
...
مسألة 1 : يجوز تخصيص العموم بالقياس 2
أومأ إليه الإمام أحمد رضي الله عنه في مواضع:
فقال في رواية بكر بن محمد3: إذا قذفها بعد الثلاث، وله منها ولد، يريد نفيه، يلاعن، فقيل: أليس الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"120-122"، و"روضة الناظر" ص"130"، و"شرح الكوكب المنير" ص"209".
2 ينبغي تحرير محل النزاع هنا، فالقياس إذا كان قطعيًا؛ فإنه يجوز التخصيص به بلا خلاف.
راجع في هذا: "نهاية السول": "2/463"، و"حاشية البناني": "2/29".
وعليه فالخلاف الذي ذكره المؤلف؛ إنما هو في القياس الظني.
3 هو: بكر بن محمد، أبو أحمد، النسائي الأصل، البغدادي النشأة. من أصحاب الإمام أحمد المقربين إليه، الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/119".

(2/559)


يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 1، وهذه ليست بزوجة؟ فاحتج: بأن الرجل يطلق ثلاثًا، وهو مريض فترثه؛ لأنه فار من الميراث، وهذا فار من الولد2.
فقد عارض الظاهر بضرب من القياس3.
وكذلك قال -في رواية الأثرم في المرأة: تنفي بغير [77/ب] محرم؛ فقيل له: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" 4، فقال: هذا أمر قد لزمها، يسافر [بها]5، فهم يقولون: لو وجب عليها حق، والقاضي على أيام رفعت إلى القاضي، ولو أصابت حدًا في البادية؛ جيء بها، حتى يقام عليها.
__________
1 "6" سورة النور.
2 ذكرت هذه الرواية في "المسودة" ص"120-121".
ومسألة: اللعان للزوجة المبتوتة، فصل القول فيها: الموفق ابن قدامة في كتابه "المغني": "7/12-13".
3 وجه استدلال المؤلف هذا، تعقب في "المسودة" ص"121"، بأنه ليس من قبيل تخصيص العموم بالقياس، بل من قبيل معارضة ظاهر المفهوم بالقياس؛ لأن تخصيص الحكم بالأزواج يقتضي نفيه عمن سواهم.
4 هذا الحديث رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب حج النساء "3/23".
وأخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره "2/978".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب المرأة تحج بغير محرم "1/401".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب المرأة تحج بغير ولي "2/968".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير شرح الجامع الصغير": "6/398"، و"بلوغ المرام" ص"85"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"366"، و"نصب الراية": "3/11".
5 الزيادة من "المسودة" ص"112".

(2/560)


وكذلك نقل أبو داود في رجل قال لامرأته: أنت طالق، ونوى ثلاثًا؛ فهي واحدة، فقيل1: إسحاق2 يقول: هي ثلاث، ويأخذ بالحديث: "الأعمال بالنيات" 3، فقال: ليس هذا من ذلك، أرأيت إن نوى أن يطلق امرأته ولم يتلفظ، أيكون طلاقًا؟!
__________
1 هذا يشعر بأن القائل لما بعد قيل- أحد الناس، قال ذلك للإمام أحمد؛ بينما نجد أبا داود في "مسائله" عن الإمام أحمد ص"169" ينقل عن الإمام أحمد قوله: "ثم قال -أي الإمام أحمد- زعموا أن إسحاق يذهب إلى أنها ثلاث..."؛ وهذا يفيد: أن القائل لما بعد "قيل" هو الإمام أحمد.
2 المقصود هو: إسحاق بن راهويه، كما جاء ذلك في مخطوطة المكتبة الظاهرية لمسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود، التي أثبت الفروق بينهما وبين مخطوطة المدينة المنورة للمسائل المذكورة للشيخ محمد بهجة البيطار، وذلك بهامش ص"169" من "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود.
وهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد، الحنظلي، المروزي، أبو يعقوب، الثقة، الحافظ، المحدث الفقيه. رحل في طلب العلم إلى الحجاز واليمن والعراق وغيرها. من أصحاب الإمام أحمد المكرمين عنده، وممن نقل عنه. له مسند في الحديث، وله مسائل في الفقه؛ رواها إسحاق بن منصور المروزي مع مسائل للإمام أحمد، ولا زالت مخطوطة في المكتبة الظاهرية بدمشق.
ولد ابن راهويه سنة 166هـ، ومات سنة 243هـ بنيسابور.
انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ": "2/433"، "تهذيب التهذيب": "1/216"، و"الخلاصة" ص"22"، و"طبقات الحنابلة": "1/109"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/102"، و"ميزان الاعتدال": "1/182"، و"النجوم الزاهرة": "2/293".
3 سبق تخريج هذا الحديث ص"205" عند تخريجنا لجزء منه هو: "وإنما لامرئ ما نوى" ؛ ولكن نحب هنا أن نبين أمرين يتعلقان بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" :
الأول: أن المؤلف حذف كلمة "إنما"؛ ولكنها مثبتة في مسائل الإمام أحمد التي رواها أبو داود ص"169".

(2/561)


وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز فيما وجدته في بعض تعاليق أبي إسحاق بن شاقلا قال: ألزمني الشيخ -يعني أبا بكر- على أن الظاهر يخص بالقياس، أن الله تعالى قد نص على الإماء في قوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 1، والعبيد مقيسون عليهن2. قال أبو إسحاق: نظرت وإذا هذا ليس بحجة.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك، ولم يفرق بين عموم الكتاب والسنة وبين أخبار الآحاد أو التواتر، وربما ذهبوا إلى ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية الحسن بن ثواب3: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرده
__________
= وبحذف أداة الحصر رواه الحكم في الأربعين، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في المعرفة، وهذا كافٍ في الرد على من زعم أن الحديث بحذف: "إنما" لم يصح إسناده.
الثاني: أن كلمة "النية" جاءت مفردة ومجموعة، فقد جاءت مفردة في "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود في هامش ص"105" عن المخطوطة الظاهرية.
وبالإفراد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وبالجمع رواها أبو داود وابن ماجه.
راجع في هذا: المصادر التي ذكرناها في تخريج الحديث ص"123-124" ولا داعي لإعادته.
1 "25" سورة النساء.
2 العبارة في الأصل: "مقيسًا عليه"، والصواب "مقيسون عليهن"، كما أثبتناه.
3 هو الحسن بن ثواب، أبو علي، الثعلبي، الخرمي البغدادي، ثقة، من خاصة أصحاب الإمام أحمد المقدمين عنده. روى عن الإمام أحمد ويزيد بن هارون وغيرهما. وعنه عبد الله بن محمد المروزي وأبو بكر الخلال وغيرهما. مات سنة 268هـ.
له ترجمة في" الإنصاف" للمرداوي "1/2842"، و"طبقات الحنابلة": "1/131-132"، و"المنتظم" لابن الجوزي "5/64".

(2/562)


إلا مثله1. وقع إلي جزء فيه مسائل في أصول الفقه، إملاء أبي الحسن الجزري2، وذكره فيه هذه المسألة، وحكى فيها خلافًا بين أصحابنا.
واختار أبو الحسن: أنه لا يجوز تخصيصه بالقياس، وذكر فيها كلامًا كثيرًا.
وذكر أبو إسحاق في جزء وقع إلي من شرح الخرقي فقال: أصحابنا على وجهين: فمنهم من يرى تخصيص العلة، ومنهم من لا يرى ذلك.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان عمومًا دخله التخصيص باتفاق؛ جاز تخصيصه بالقياس، وإن لم يكن دخله؛ فالحكم في القياس عندهم، كالحكم في الخبر الواحد3.
واختلف أصحاب الشافعي: فذهب الأكثر منهم إلى جواز ذلك على
__________
1 هذه الرواية منقولة في "المسودة" بنصها ضمن ما نقل عن القاضي ص "120".
2 هو: أبو الحسن الجزري، البغدادي، الحنبلي، الفقيه، الأصولي، صحب أبا علي النجاد.
له ترجمة فيه: "طبقات الحنابلة": "2/167".
3 راجع في تحقيق مذهب الحنفية: "تيسير التحرير": "1/321-326"، و"أصول السرخسي": "1/133-134"، و"فواتح الرحموت": "1/357-360".
وقد رأيت صاحب "مسلم الثبوت": "1/357" نسب القول بجواز التخصيص إلى الأئمة الأربعة، بما فيهم الإمام أبو حنيفة، وكذلك السرخسي في أصوله "1/133" حكى القول بجواز التخصيص عن أكثر الحنفية.
لكن الشيخ بخيت في حاشيته "سلم الوصول": "2/463"، ذكر أن القول عن أبي حنفية مقيد بما إذا خصص بغيره.

(2/563)


الإطلاق1، ومنهم من منع ذلك على الإطلاق2.
فالدلالة على جوازه: ما تقدم من الكلام في المسألة التي قبلها، وهو: أن القياس وإن لم يكن معلومًا؛ فإنه يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع جرى مجراه في العمل، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: "إذا زالت الشمس، فصلوا ركعتين، وما أخبركم به عني فلان فهو شرعي؟ فإن "به" من قوله كالذي يخبر به عنه، وإن لم يكن مقطوعًا، كذلك ههنا.
ولأن صيغة العموم معرضة للتخصيص محتملة له، والقياس غير محتمل؛ فجاز أن يقضي بغير المحتمل على المحتمل، كالمجمل وتفسير المجمل؛ فإنا نقضي بتفسيره عليه، كذلك ههنا.
ولأن القياس حجة في نفسه إذا انفرد؛ فإذا اجتمع معه غيره وأمكن
__________
1 وهذا هو الصحيح عندهم، كما حكاه الإسنوي في كتابه "نهاية السول": "2/463"، وهو المنقول عن الإمام الشافعي.
وهو أيضًا مذهب المالكية، كما نص على ذلك القرافي في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"203".
2 ونسبه الإسنوي في كتابه: "نهاية السول": "2/464" إلى الفخر الرازي.
وهناك أربعة آراء في المسالة، هي:
الأول: أن القياس الجلي يخصص العموم، دون الخفي، وبه قال ابن سريج.
الثاني: يعمل بأرجح الظنين إذا تفاوتا، وإن تساويا؛ فالوقف. وبه قال الغزالي في كتابه: "المستصفى": "2/134".
الثالث: التوقف، وهو منسوب لإمام الحرمين وأبي بكر الباقلاني.
الرابع: يجوز التخصيص بالقياس إذا كانت علته ثابتة بنص أو إجماع؛ وإلا فلا، وهو مختار الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/313".
راجع بالإضافة إلى "الإحكام" للآمدي: "جمع الجوامع وشرحه مع حاشية البناني": "2/30".

(2/564)


استعمالهما كان أولى، كالمطلق والمقيد.
[78/أ] وأيضًا: فإن الاسم الخاص إذا نافى بعض ما شمله الاسم العام، وجب تخصيصه به، كذلك إذا نافاه معناه؛ لأن العلة في الاسم أنه نافى بخصوصه بعض ما شمله الاسم العام.
وبيان ذلك أن الله تعالى1 قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2، ولم يفرق بين الحر والرقيق، ثم قال عز من قائل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 3، مخصصًا به قوله: {الزَّانِيَةُ} ، وأخرجنا الإماء منه، وقضينا بالاسم الخاص على الاسم العام، ثم وجدنا أن المعنى الموجب لنقصان الحد في الإماء هو الرق؛ لأنها إذا اعتقت وجب الحد كاملًا، ولم يزل بالعتق غير الرق؛ فثبت أن نقصان الحد كان متعلقًا به، وهذه العلة موجودة في العبد، فنقصنا حده، وجعلناه خمسين، وخصصنا بهذا المعنى قوله تبارك وتعالى: {وَالزَّانِي} ، وأخرجنا العبيد منه؛ لأن معنى الاسم الخاص نافى بعض ما شمله الاسم العام، كمنافاة الاسم إياه.
فإن قيل: إنما كان كذلك في الاسم الخاص مع الاسم العام؛ لأنهما نطقان، فتساويا في القوة، وانفرد الخاص بقوة الخصوص، وليس كذلك المعنى؛ فإنه ليس بنطق.
قيل: المعنى مثل الاسم، في وجوب العمل به، والمصير إلى موجبه، وتخصيص الاسم العام من العمل بموجبه، فاستويا فيه.
__________
1 في الأصل: "إن شاء الله تعالى".
2 "2" سورة النور.
3 "25" سورة النساء.

(2/565)


حجة المخالف
...
واحتج من يمنع ذلك:
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل: "فإن لم تجد في سنة رسول الله، قال: أجتهد رأيي ولا آلو" 1، فدل على أن القياس مع عدم السنة.
__________
1 حديث معاذ هذا اشتهر كثيرًا على ألسنة الأصوليين والفقهاء، حتى قال إمام الحرمين -فيما نقله الحافظ ابن حجر: "إنه حديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل".
واستدل أبو العباس ابن القاص على صحته بتلقي أئمة الفقه والاجتهاد له بالقبول، وقال: "وهذا القدر مغنٍ عن مجرد الرواية".
راجع: "تلخيص الحبير": "4/183".
وقد نقل صاحب "فواتح الرحموت": "1/359"، أن الباقلاني والطبري: وثقا هذا الحديث.
وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي "3/607-608"، وقال فيه: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل".
وأخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء "2/272".
وأخرجه الطيالسي في كتاب القضاء والدعاوى والبينات، باب آداب القضاء والقاضي وكيف يقضي "1/286".
وتكميلًا للفائدة أورد بعض أقوال العلماء في هذا الحديث:
قال البخاري في "تاريخه": "الحارث بن عمرو -أحد رواة الحديث- عن أصحاب معاذ، وعنه أبو عون؛ لا يصح، ولا يعرف إلا بهذا".
وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية": "لا يصح، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم، ويعتمدون عليه، وإن كان معناه صحيحًا".
وقال ابن طاهر ما معناه: بعد البحث الطويل في مصادر الحديث، وجد له طريقان، وكلاهما لا يصح.
وقال الدارقطني في "العلل": "رواه شعبة عن أبي عون وهكذا، وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه، والمرسل أصح".
وقال ابن حزم: "لا يصح؛ لأن الحارث مجهول، وشيوخه لا يعرفون".
وقال عبد الحق: "لا يسند، ولا يوجد من وجه صحيح". انتهى ملخصًا من "تلخيص الحبير": "182/4-183".

(2/566)


والجواب: أن ما عارضه القياس من العموم؛ فليس من السنة كما أن ما عارضه لفظ السنة من عموم القرآن؛ ليس من القرآن، ووجب القضاء بخاص السنة على عموم القرآن ههنا.
واحتج: بأنه لا يجوز أن ينزع من الاسم معنى يخصه، كذلك لا يجوز أن يخص به اسم غيره.
والجواب: أن الحكم إذا كان مطلقًا؛ فإن المطلوب هو على الحكم المطلق؛ فلا يجوز أن تكون مخصصة له مسقطة لإطلاقه؛ لأنها إذا كانت هكذا؛ لم تكن هي المأمور بطلبها، وليس كذلك اسم آخر؛ فإن المطلوب مخالف له؛ فجاز أن يكون مخصصًا له، ولأن الاسم لا يجوز أن يخص نفسه؛ كذلك معناه. ويجوز أن يخص اسمًا آخر، كذلك معناه يجوز أن يخص اسمًا آخر.
واحتج: [78/ب] بأن العموم أعلى رتبة في الحجة من القياس، ألا ترى أن القياس قد يمنع في كثير من الأصول، والعموم لا يجوز وجوده عاريًا عن إيجاب حكم؛ فلم يجز ترك الأقوى بالأضعف.
والجواب: أن هذا يبطل بخبر الواحد، يجوز أن يخص به العموم وإن كان القرآن أعلى رتبة.
على أن امتناع القياس في مواضع فيها نص يعارض القياس، وأما في مواضع فيه عمومه يجوز تخصيصه؛ فلا.

(2/567)


واحتج: بأن النسخ كالتخصيص؛ لأن النسخ تخصيص الزمان، والتخصيص يخص الأعيان، ثم ثبت أنه لا يجوز نسخ العموم به، كذلك لا يجوز التخصيص.
والجواب: أنه يبطل بخبر الواحد، لا ينسخ، ويخص، وكذلك الإجماع. على أنا قد بينا الفرق بين النسخ وبين التخصيص في التي قبلها.
واحتج: بأن القياس فرع للكتاب؛ فلا يجوز أن يخص الفرع أصله ويسقطه.
والجواب: أنا لا نخص الأصل بفرعه؛ وإنما نخص غير أصله؛ لأن القياس متى استنبط من أصله، يكون مماثلًا له في حكمه؛ فلا يخصص به، وإنما يخص أصلًا آخر يضاده، وينافيه.
واحتج: بأنه إنما يصح القياس، إذا جرى على الأصول واطرد، وهذا العموم من جملتها، وهو ينافيه؛ فيجب أن لا يصح القياس معه، كما لا يجوز مع وجود الإجماع على ضده؛ لأنه لم يجر على الأصول، كذلك ههنا.
والجواب: أنا لا نسلم أن ما خصصه القياس كان مرادًا بالعموم حتى يكون معارضًا له ومضادًا له؛ بل يتبين بالقياس، أنه لم يكن مرادًا ولا داخلًا تحته.
واحتج: بأن العموم مقطوع عليه، والقياس مظنون.
والجواب: أن المقطوع عليه هو الصيغة، وذلك لا يرفعها بالقياس؛ وإنما يخص بعض الحكم، وذلك غير مقطوع على أنه مراد، وعلى أنه إن لم يكن مقطوعًا عليه؛ فقد ثبت بدليل مقطوع عليه؛ فهو كالحكم بشهادة الشاهدين، غير مقطوع عليه، لكن ثبت بدليل مقطوع عليه.

(2/568)


واعتمد أصحاب أبي حنيفة في الفرق بين العموم المخصوص1 وغير المخصوص، بما حكيناه عنه في المسألة التي قبلها، وقد أجبنا عنه بما فيه كفاية.
__________
1 في الأصل: "أو المخصوص"، و"أو" هنا زائدة، لا معنى لها.

(2/569)


مسألة 1 : يجوز تخصيص عام السنة بخاص القرآن
أومأ إليه أحمد رحمه الله في نسخ السنة بالقرآن؛ فقال في رواية عبد الله، وذكر قصة أبي جندل2 فقال: ذلك صالح على أن يرد من جاءهم مسلمًا؛ فرد النبي صلى الله عليه وسلم الرجال، ومنع النساء، ونزل3 قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } 4 [79/أ] فظاهر هذا أنه أثبت نسخ القصة بالقرآن.
وبهذا قال الجماعة من الفقهاء والمتكلمين.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"122"، و"شرح الكوكب المنير" ص"205"، و"روضة الناظر" ص"128".
2 هو: أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشي العامري، صحابي جليل، أسلم بمكة قبل صلح الحديبية، وقد عذب بسبب إسلامه، مات في خلافة عمر.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "1621/4"، و"الإصابة" القسم السابع ص"69"، طبعة دار نهضة مصر، و"البداية والنهاية": "169/4" نشر مكتبة المعارف ببيروت ومكتبة النصر بالرياض.
3 في الأصل: "نزلت".
4 "10" سورة الممتحنة.

(2/569)


وخرج الشيخ أبو عبد الله1 في ذلك وجهًا آخر: أنه لا يجوز.
أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية حنبل وغيره؛ فقال: السنة مفسرة للقرآن، ومبينة له. وظاهر هذا: أن البيان بها يقع2.
وقال أيضًا في رواية محمد بن أشرس3: "إذا كان الحديث صحيحًا معه ظاهر القرآن، وحديثان مجردان في ضد ذلك؛ فالحديثان أحب إلي إذا صحا".
وظاهر هذا أيضًا: أنه لم يجعل ظاهر الآية يخص أحد الحديثين ولا يقابله.
وبهذا قال أصحاب الشافعي4.
__________
1 هو: الحسن بن حامد بن علي بن مروان، أبو عبد الله البغدادي. شيخ الحنابلة في وقته، فقيه، أصولي. أشهر تلاميذه القاضي أبو يعلى.
له كتب منها: "الجامع في المذهب"، وشرح مختصر الخرقي. مات راجعًا من مكة المكرمة سنة 403هـ.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد": "7/303"، و "شذرات الذهب": "3/166"، و "طبقات الحنابلة": "2/171"، و "المنتظم": "7/264"، و "المنهج الأحمد": "2/83".
2 وتكملة وجه الاستدلال بكلام الإمام أحمد: "ولو جعلنا القرآن مخصصًا لعموم السنة؛ لكان القرآن هو المبين للسنة".
3 محمد بن أشرس السلمي النيسابوري، روى عن مكي بن إبراهيم وإبراهيم بن رستم وغيرهما، متهم في الحديث، وتركه الأخرم وغيره. وقال أبو الفضل السليماني: لا بأس به.
له ترجمة في: "تنزيه الشريعة": "1/101"، و "المغني في الضعفاء": "2/557"، و "ميزان الاعتدال": "3/485".
4 كلام المصنف هنا غير محرر؛ فالأصح عند الشافعية هو: جواز التخصيص، صرح بذلك ابن السبكي في كتابه: "جمع الجوامع": "2/26"، كما صرح به الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/300"، حيث قال: "يجوز تخصيص عموم السنة بخصوص القرآن عندنا".

(2/570)


والدلالة على جواز التخصيص:
قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} 1.
ولأن الكتاب أقوى من السنة؛ فإنه مقطوع على جميعه، والسنة إنما يقطع على البعض منها.
ولأن فيه إعجازًا، والسنة لا إعجاز فيها؛ فإذا جاز تخصيص القرآن بالضعيف؛ فإنه يجوز تخصيص الضعيف بالقوي [من باب] أولى، ألا ترى أن من جوز نسخ الكتاب بالسنة؛ كانت تجويزه لنسخ السنة بالكتاب أولى؟
واحتج من منع من ذلك:
بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2.
__________
1 "89" سورة النحل.
والآية في الأصل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ} ، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه متابعة لما في المصحف. ولم يذكر المؤلف وجه الاستدلال من الآية، وقد ذكره الآمدي في كتابه "الإحكام" : "2/300" ، بقوله: "وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشياء؛ فكانت داخلة تحت العموم، إلا أنه قد خص في البعض؛ فيلزم العمل به في الباقي".
2 "44" سورة النحل.
لم يذكر المؤلف وجه الاستشهاد من الآية، ووجه الاستدلال من وجهين:
الأول: أن الله تعالى جعل النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا للقرآن؛ وبيانه إنما يكون بسنته، ولو خصصنا عموم السنة بخصوص القرآن؛ لكان القرآن مبينًا للسنة، وهو ممتنع للآية.
الثاني: وقد ذكره المؤلف في صورة دليل، ولكن لم يذكر ارتباطه بالآية الكريمة، وقد ذكره الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/300"، بقوله: "... وأيضًا، فإن المبين أصل، والبيان تبع له، ومقصود من أجله؛ فلو كان القرآن مبينًا للسنة؛ لكانت السنة أصلًا، والقرآن تبعًا، وهو محال".

(2/571)


والجواب: أن المراد بالبيان ههنا: الإظهار لا التخصيص؛ فإن الكلام يقتضي أن يبين جميع المنزل، وجميع المنزل لا يحتاج إلى تخصيص؛ وإنما يحتاج إلى الإظهار.
وعلى أن نحمل الكلام على أن المراد به: لتبين للناس ما يحتاج إلى بيان وهو ما لم يبين بالكتاب؛ فأما ما بين بالكتاب فبيانه مأخوذ منه لا من السنة1.
واحتج: بأنا لو خصصنا السنة بالآية؛ جعلنا السنة أصلًا، والقرآن تابعًا له ومفسرًا، وهذا فيه نقصان منزلته.
والجواب: أنه لا يوجب جعلها أصلًا والقرآن تابعًا، كما لم يجب ذلك في تخصيص أخبار الآحاد بأخبار التواتر، وقد ثبت جواز ذلك. ولا يقول أحد: إن أخبار الآحاد أصل، وأخبار التواتر تابعة لها ومفسرة لها.
__________
1 وهناك جواب آخر هو: أن القرآن والسنة كلاهما منزلان من عند الله تعالى.
وهناك جواب آخر أيضًا، ذكره كثير من الأصوليين، وهو -كما يقول الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/300": "إنه لا يلزم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بكونه مبينًا لما أنزل امتناع كونه مبينًا للسنة بما يرد على لسانه من القرآن، إذ السنة أيضًا منزلة على ما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، غير أن الوحي منه ما يتلى؛ فيسمى كتابًا، ومنه ما لا يتلى؛ فيسمى سنة، وبيان أحد المنزلتين بالآخر غير ممتنع".

(2/572)


مسألة يجوز تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم
مدخل
...
مسألة 1 : يجوز تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم
فإذا وقع من النبي فعل يخالف عموم قول تعلق بسائر المكلفين؛ كان ذلك موجبًا لتخصيصه، إن أمكن حمله عليه.
وكذلك الإقرار على فعل، مثل أن يفعل عنده فعل يخالف العموم؛ فأقر عليه؛ فإنه يختص به.
وقد أشار أحمد رحمه الله إلى هذا في مواضع:
فقال في رواية صالح: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 2، ولما ورث النبي صلى الله عليه وسلم [79/ب] ابنتي سعد بن الربيع3 الثلثين4؛ دل على أن الآية إنما قصدت الاثنتين فما فوق.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"125"، و"روضة الناظر" ص"129"، و"شرح الكوكب المنير" ص"208".
2 "11" سورة النساء.
ولا يكمل الاستدلال إلا بذكر المقطع الثاني من الآية، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} .
3 هو: سعد بن الربيع بن عمرو الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل شهد العقبتين، وشهد بدرًا، واستشهد يوم أحد بعد أن أبلى بلاء حسنًا، رضي الله عنه وأرضاه.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "2/589"، و "الإصابة" القسم الثالث ص"58"، طبعة دار نهضة مصر.
4 هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب "2/109".

(2/573)


وقال أيضًا في رواية صالح: قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1؛ فلما قالت عائشة وميمونة2: كانت إحدانا إذا حاضت انفردت، ودخلت مع رسول صلى الله عليه وسلم في شعاره3؛ دل على أنه أراد الجماع.
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث البنات "4/414".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الفرائض، باب فرائض الصلب "3/908".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الفرائض "4/79".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الفرائض باب الرجل يموت، ويترك بنتًا وأختًا وعصبة سواها "4/395".
وأخرجه عنه الحاكم في كتاب، باب إذا تحدثتم، فتحدثوا بالفرائض "4/333-334".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "4/83".
1 "222" سورة البقرة.
2 هي: أم المؤمنين، ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية. كان اسمها: "برة"؛ فسماها النبي صلى الله عليه وسلم: "ميمونة". تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام في شهر ذي القعدة على الأرجح سنة سبع، في عمرة القضاء، اختلف في سنة وفاتها، ورجح الحافظ ابن حجر أنها ماتت سنة 49هـ.
لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1914"، و "الإصابة": "8/191".
3 حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض، بلفظ: "كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يباشرها، أمرها أن تتزر في فور حيضتها، ثم يباشرها.." الحديث.
كما أخرج حديث ميمونة رضي الله عنها، عقب حديث عائشة رضي الله عنه، بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه؛ أمرها فاتزرت، وهي حائض..": "1/79".
وأخرجه الحديثين مسلم في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار "1/242".
وأخرجهما الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في مباشرة الحائض "1/239".
وأخرجهما أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرجل يصيب منها -أي الحائض- ما دون الجماع "1/61".
وأخرجهما الدارمي في كتاب الطهارة، باب مباشرة الحائض "1/194".
وأخرج ابن ماجه حديث عائشة في كتاب الطهارة، باب ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا "1/208".
وراجع في هذا أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/167".

(2/574)


وهو قول أصحاب الشافعي1 وأصحاب أبي حنيفة2 إلا الكرخي؛ فإن أبا عبد الله الجرجاني حكى عن بعض أصحابه، أنه حكي عنه أنه يحمل فعله عليه السلام على أنه مخصوص به، مثل نهيه عن استقبال القبلة
__________
1 هكذا عزاه الآمدي إلى أصحاب الشافعي في كتابه: "الإحكام": "2/306-308" في فعل النبي صلى الله عليه وسلم. أما بالنسبة لتقريره وكونه يخصص؛ فقد نسبه للأكثرين، خلافًا لطائفة شاذة.
ولكن رأيت السبكي في كتابه: "جمع الجوامع": "2/31" يذكر أن تخصيص العموم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره جائز في الأصح. وكلامه هذا يدل على أن هناك خلافًا بين الشافعية في هاتين المسألتين.
2 اشترط صاحب "فواتح الرحموت": "1/354" لجواز التخصيص بالفعل شرطين:
الأول: أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم داخلًا في العموم لغة، بخلاف ما لا يدخل فيه، أو كان مشكوكًا في دخوله.
الثاني: أن يكون الفعل موصولًا بالعموم.
هذا بالنسبة للفعل؛ أما التقرير فيجوز التخصيص به، إذا توفر فيه الشرط الثاني.

(2/575)


واستدبارها1، وما روي من فعله بخلاف ذلك2، لا يجعله تخصيصًا.
__________
1 حديث النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة، رواه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول، إلا عند البناء جدار أو نحوه بلفظ: "إذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره؛ شرقوا أو غربوا" : "1/47".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطالة "1/224".
وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في باب النهي عن استقبال القبلة والإنسان على حاجته "1/390".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول "1/115".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القلة عند قضاء الحاجة "1/3".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول "1/13".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب النهي عن استدبار القبلة عند الحاجة "1/24".
وأخرجه عند الدارمي في كتاب الطهارة، باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول "1/135".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب استقبال القبلة في الخلاء "1/60".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التخلي وآدابه "1/25" من "بدائع المنن".
وراجع: في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "2/298"، و"تلخيص الحبير": "1/103".
2 حديث استدباره صلى الله عليه وسلم للقبلة، رواه ابن عمر رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب التبرز في البيوت "1/48"، بلفظ: "قال -أي ابن عمر-: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي، =

(2/576)


دليلنا:
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في أحكام الشرع سواء؛ إلا ما دل الدليل على تخصيصه به، ألا تراه إذا فعل شيئًا ابتداء، لا على وجه البيان والتخصيص؛ كنا نحن وهو فيه على السواء، حتى يخصه دليل، كذلك هذا الفعل الوارد على وجه البيان والتخصيص، يجب أن يتساويا فيه أيضًا.
__________
= فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطابة "1/225".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الرخصة في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة "1/3".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في الرخصة في ذلك -أي في استقبال القبلة بالغائط أو البول- "1/16".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك في البيوت "1/25".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الرخصة في استقبال القبلة في الكنيف، وإباحته، دون الصحاري "1/116".
وأخرجه عند الدارمي في كتاب الطهارة، باب الرخصة في استقبال القبلة "1/136".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب استقبال القبلة في الخلاء "1/61".
وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في باب الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط "1/391".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التخلي وآدابه "1/26"، من "بدائع المنن".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "2/298"، و"تلخيص الحبير": "1/104".

(2/577)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه يحتمل أن يكون مخصوصًا بهذا الفعل، ويحتمل أن يكون هو وغيره فيه سواء، ولا يجوز تخصيص العموم بالشك.
والجواب: أن هذا يدل عليه الفعل الوارد من جهته ابتداء. وعلى أنه ليس ههنا شك، بل ههنا ظاهر يدل على مساواتنا له في أفعال.

(2/578)


يجوز تخصيص العام بالإجماع
...
فصل: ويجوز التخصيص بالإجماع 1
لأن الإجماع حجة مقطوع بها؛ فإذا جاز التخصيص بخبر الواحد والقياس؛ كان بالإجماع أحق.
ويفارق هذا النسخ بالإجماع أنه لا يجوز؛ لأن الإجماع إنما ينعقد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته انقطع النسخ؛ فلا يصح أن ينسخ به، وليس كذلك التخصيص؛ لأنه يقترن باللفظ دليل يخرج منه ما ليس مرادًا؛ فإذا انعقد الإجماع على تخصيصه؛ علم أنه خطاب عام أريد به الخاص، والنسخ بالإجماع على هذا يتصور؛ فإن المسلمين إذا أجمعوا على ترك خبر؛ تبينا بالإجماع: أنه منسوخ، لا أن2 الإجماع ينسخه.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"126"، و"روضة الناظر" ص"127"، و"شرح الكوكب المنير" ص"207".
2 في الأصل: "لان".

(2/578)


يجوز تخصيص العام بدليل الخطاب
...
فصل: ويجوز تخصيص العموم بدليل الخطاب 1
سواء دل دليل هو مفهومه
__________
1 راجع في هذا الفصل في: "المسودة: ص"127"، و"روضة الناظر" ص"129"، و"شرح الكوكب المنير" ص"206".

(2/578)


وفحواه، وهو: التنبيه، نحو قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1 ؛ فدل [على] المنع من2 الضرب، فيقع به التخصيص.
أو كان في ضد النطق؛ كقوله: "في سائمة الغنم الزكاة" ؛ دل على أنه: لا زكاة في المعلوفة، فيخص به العموم3؛ لأن الدليل خارج مخرج النطق، ومعناه معنى النطق في باب الاحتجاج به، [وقد] ثبت جواز التخصيص بالنطق، كذلك بما هو جار مجراه4.
__________
1 "23" سورة الإسراء.
2 في الأصل: "على".
3 في الأصل: "المفهوم".
4 هكذا ذهب المؤلف إلى جواز تخصيص العموم بالمفهوم بما فيه مفهوم المخالفة؛ لكن نقل عنه في "المسودة" ص"127" القول بتقديم العموم على المفهوم، ومعنى ذلك: عدم جواز التخصيص.

(2/579)


يجوز تخصيص العام بقول الصحابي إذا لم يظهر خلافه
مدخل
...
فصل: [80/أ] يجوز تخصيص العموم بقول الصحابي إذا لم يظهر خلافه
وكذلك تفسير الآية المحتملة1.
وهذا على الرواية التي تجعل قوله حجة، مقدمًا على القياس.
وقد نص على هذا في رواية صالح وأبي الحارث: في الآية إذا جاءت تحتمل أن تكون عامة، وتحتمل أن تكون خاصة، نظرت ما عملت عليه السنة؛ فإن لم يكن؛ فعن الصحابة، وإن كانوا على قولين، أخذ بأشبه القولين بكتاب الله تعالى.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"127"، و"روضة الناظر" ص"129"، و"القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام ص"296".

(2/579)


وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة1.
واختلف أصحاب الشافعي على القول القديم، الذي يجعلون قوله حجة؛ فمنهم من خص به، ومنهم من لم يخص2.
__________
1 راجع في هذا: "مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت": "1/355"، و"حاشية" الشيخ بخيت المطيعي على "نهاية السول": "2/481-484".
2 لكن الأصح من مذهب الشافعية -كما يقول ابن السبكي في كتابه: "جمع الجوامع" 1/34-: عدم التخصيص. وصرح الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/309"، بأن مذهب الشافعي في القول الجديد هو عدم التخصيص. وقد اختار ذلك الغزالي في كتابه: "المستصفى": "2/112".

(2/580)


ودليلنا:
أن قول الصحابي أقوى من القياس، بدليل أنه يترك له القياس؛ فيجب أن يخص به الظاهر، كخبر الواحد.
ولأنه مقدم على القياس، والقياس يخص؛ فبأن يخص خبر الواحد أولى وأحرى.

(2/580)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الصحابي يترك مذهبه وقول نفسه للعموم، ألا ترى أن ابن عمر قال: "كنا نخابر أربعين سنة، ولا نرى به بأسًا، حتى أتانا رافع بن خديج، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه؛ فتركناها"1 لقول رافع.
والجواب: أنه يترك قوله للنص؛ فأما العموم فلا؛ لأنه فيما ذهب
__________
1 هكذا في الأصل، ولو أنث الضمير في قوله: "به بأسًا"، وفي قوله: "نهى عنه"؛ لكان سليمًا؛ ولكنه ذكر الضمير في ذلك، وأنثه هنا؛ فكان الأولى أن يعبر بقوله: "فتركناه" حتى تعود الضمائر إلى "فعل المخابرة"، أو إلى "الخبر"، كما جاء في بعض الروايات.

(2/580)


إليه عن دليل، وذلك الدليل لا يخلو إما أن يكون عمومًا أو خصوصًا أو قياسًا؛ فإن كان خصوصًا أو قياسًا؛ فهما يقضيان على هذا العموم، وإن كان عمومًا؛ فقد عارض هذا لعموم؛ فلا يجب ترك قوله.
على أن بكر بن محمد سأله: يلتحف الصماء من فوق القميص1؟ فقال: لا يعجبني، يروى عن ابن عباس: أنه كرهه، وإن كان عليه
__________
1 هناك تفسيران للصماء:
الأول: تفسير أهل اللغة، وهو: أن يجلل جسده بالثوب، لا يرفع منه جانبًا، ولا يبقى ما يخرج منه يده، وذلك بأن يرد من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعًا.
والثاني: تفسير الفقهاء وهو: أن يشتمل بثوبه، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبه، فيبدو منه فرجه.
راجع: مختار الصحاح ص"394" مادة "صمم"، والمصباح المنير "1/532"، مادة "صمي" كما تراجع "منتهى الإرادات": "1/63"، وفتح الباري "1/477". قال النووي في شرحه على صحيح مسلم "14/76": ".. فعلى تفسير أهل اللغة، يكره الاشتمال المذكور؛ لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام ونحوها، أو غير ذلك؛ فيعسر عليه، أو يتعذر، فيلحقه الضرر.
وعلى تفسير الفقهاء، يحرم الاشتمال المذكور، إن انكشف بعض العورة، وإلا فيكره".
وقد جاء تفسير "الصماء" بمثل ما فسره الفقهاء في رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عند البخاري في كتاب اللباس، باب اشتمال الصماء "7/191". وقبل ذلك ذكر البخاري رواية أبي سعيد الخدري المذكورة في كتاب الصلاة، باب ما يستر من العورة "1/97".
وعلق الحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري": "1/477" على ذلك بما مفاده: إن كان التفسير المذكور مرفوعًا فهو حجة، ولا كلام في ذلك، وإن كان مرقوفًا فهو حجة على الصحيح؛ لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر.

(2/581)


قميص، وإن كان حديث النبي: أنه ثوب واحد1، ولكن ابن عباس كرهه، فقدم قول ابن عباس.
واحتج: بأن الخبر حجته؛ فلا تخص حجته بفتياه، كسائر الفقهاء.
والجواب: أن سائر2 الفقهاء قول آحادهم ليس بحجة، وقول الصحابي حجة.
فإن قيل: فما تقولون في تخصيص العموم وتفسيره بقول التابعين؟
قيل: لا يخص بقوله، ولا يفسر به؛ لأن قوله ليس بحجة.
وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله؛ فإنه رجع في تخصيص الآية إلى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي: يوجد العلم بما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم يكن، فعن أصحابه؛ فإن لم يكن، فعن التابعين. وإنما قال هذا؛ لأن غالب أقوالهم أنها لا تنفك عن أثر.
وقد صرح بهذا في رواية أبي داود: إذا جاء الشيء عن الرجل [80/ب] من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم الرجل الأخذ به، ولكن لا يكاد يجيء عن التابعين [شيء] ؛ إلا يوجد فيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضًا: يتبع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وهو في التابعين مخير.
__________
1 حديث النهي عن اشتمال الصماء، أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، في كتاب الصلاة، باب ما يستر من العورة "1/97"، وفي كتاب اللباس، باب اشتمال الصماء "7".
وأخرجه مسلم عن جابر رضي الله عنه في كتاب اللبس والزينة، باب النهي عن اشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد وفي باب في منع الاستلقاء على الظهر، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى "3/1661".
وأخرجه الدارمي عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الصلاة، باب النهي عن اشتمال الصماء "1/259".
2 في الأصل: "لسائر".

(2/582)


التفسير
مدخل
...
فصل 1 : التفسير
وتفسير الراوي للفظ النبي صلى الله عليه وسلم يجب العمل به، إذا كان مفتقرًا إلى التفسير.
وذلك مثل قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" 2.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"128".
2 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "3/81".
وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين "3/1163".
وأخرجه أبو داود في كتاب الإجارة، باب في خيار المتبايعين "2/244".
وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا "3/538".
وأخرجه النسائي في كتاب البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما "7/218".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، بل البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "2/736".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ، في كتاب البيوع، باب بيع الخيار "3/320".
وأخرجه الطيالسي في مسنده، في كتاب الكسب والبيوع، باب الخيار في البيع وإثبات خيار المجلس "1/266".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب خيار المجلس "2/162"، من "بدائع المنن".

(2/583)


فمن الناس من قال: بالتفرق بالقول1، ومنهم من قال: بالتفرق بالبدن2.
وأجمعوا على أن المراد أحدهما؛ فصرنا إلى ما دل تفسير الراوي عليه، فإن عبد الله بن عمر كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلًا، ثم رجع3.
وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك4.
__________
= وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب البيوع، باب خيار البيعين حتى يتفرقا "4/12".
وأخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب البيوع "2/5".
وقد روي الحديث بعدة ألفاظ، كلها تثبت خيار المجلس، ولفظ النسائي كلفظ المؤلف.
وراجع فيه هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "3/20"، و"تيسير الوصول": "1/71"، و"بلوغ المرام من أدلة الأحكام"، كتاب البيوع، باب الخيار ص"101"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"447"، و"نصب الراية": "4/1"، و"المحرر في الحديث في بيان الأحكام الشرعية"، في كتاب البيوع، باب الخيار في البيع ص"149".
1وبهذا قال المالكية والأحناف. وحملهم التفرق على التفرق بالأقوال، أحد الأجوبة على دلالة أحاديث خيار المجلس.
2 وبهذا قال الحنابلة والشافعية. ومستندهم هذا الحديث وغيره مما ورد في هذا الباب. وهو مستند قوي، لم يأت المخالف بما يوهن منه.
وكل ذهب إلى ما ذهب إليه عن اجتهاد، لا عن هوى. فرحم الله الجميع.
3 راجع المصادر التي ذكرناها آنفًا في تخريج الحديث السابق.
4 النهي عن صيام يوم الشك، جاء في عدة أحاديث، أصرحها ما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه موقوفًا عليه، ولفظه: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم".
وقد ذكره البخاري معلقًا في كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم =

(2/584)


فمن الناس من قال: هو عام في الغيم والصحو.
ومنهم من قال: المراد به الشك في الصحو، وهو: إذا تطابق أهل البلد على ترك الترائي للهلال فيه ليلة الثلاثين، فشكوا هل طلع أم لا1؟ فصرنا
__________
= "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا" : "3/33".
وأخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهة صوم يوم الشك "3/61"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب كراهية صوم يوم الشك "1/545".
وأخرجه النسائي في كتاب الصيام، باب صيام يوم الشك "4/126".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في صوم يوم الشك "1/527".
وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب الصوم، باب النهي عن صيام الشك "1/335".
وأخرجه الدارقطني في كتاب الصيام "2/157"، وقال: "هذا إسناد حسن صحيح، ورواته كلهم ثقات".
وأخرجه الحاكم في كتاب الصوم، باب "من صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم": "1/423-424".
ونقل الزيلعي في "نصب الراية": "2/442" عن ابن عبد البر قوله: "هذا حديث مسند عندهم، لا يختلفون في ذلك"، وذكر أن ابن حبان أخرجه في "صحيحه".
وراجع في الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "2/235"، و"ذخائر المواريث": "3/34".
والحديث من قبيل المرفوع؛ لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل نفسه.
وقال الجوهري المالكي: "هو موقوف"، ورد عليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "4/120": "بأنه موقوف لفظًا؛ مرفوع حكمًا".
1 استعمال "أم" هنا بعد "هل" خطأ، والصواب: التعبير بـ "أو" ولك أن تستبدل "هل" بالهمزة، وتذكر بعد "أم" المعادل، فتكون العبارة هكذا: "فشكوا أطلع أم لم يطلع". وقد سبق التنبيه على مثل ذلك.

(2/585)


إلى ما دل [عليه] تفسير الراوي، قال ابن عمر1: "كان إذا كان في السماء غيم؛ أصبح صائمًا، وإن كانت مصحية؛ أصبح مفطرًا"2.
وقد صار أحمد رحمه الله إلى تفسير ابن عمر رضي الله عنه في الموضعين جميعًا في رواية المروذي.
وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير..." 3 ففسره ابن عمر4 على أن المراد بقوله:
__________
1 ظاهر العبارة: أن ابن عمر هو الحاكي لفعل غيره، بينا الحاكي هو نافع، يحكي فعل ابن عمر، والأولى أن تكون العبارة هكذا: "قال نافع كان ابن عمر إذا كان في السماء..."، كما ذكرت ذلك المراجع التي سأذكرها في تخريج الأثر.
2 تفسير ابن عمر هذا ذكره أبو داود في كتاب الصيام، باب الشهر يكون تسعًا وعشرين، ونصه: "فكان ابن عمر، إذا كان شعبان تسعًا وعشرين؛ نظر له؛ فإن رؤي؛ فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قترة؛ أصبح مفطرًا، فإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما..": "1/542".
3 هذا الحديث رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الشعير بالشعير "3/92".
وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "3/1209-1210".
وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في الصرف "3/534-535".
وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الصرف 2/222.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "2/757".
وأخرجه الدارمي في كتاب البيوع، باب في النهي عن الصرف "2/173".
وأخرجه الإمام مالك في كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالفضة تبرًا وعينًا ص"393".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "1/66"، و "ذخائر المواريث": "3/45".
4 ليس هو "ابن عمر" كما هو في الأصل؛ وإنما هو: "عمر بن الخطاب" ولعل الخطأ من الناسخ، وسببه ذكر "ابن عمر" مرتين قبل هذا، وفي كل مرة يفسر حديثًا.

(2/586)


[ "هاء وهاء" ]: القبض في المجلس.
فروى مالك بن أوس بن الحدثان1 أنه قال: التمست صرفًا بمائة دينار، فدعاني2 طلحة بن عبيد الله3، فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى4 يأتي خادمي5 من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع؛ فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه6.
وروي أنه قال لطلحة: لا تفارقه حتى تعطيه وَرِقه7، أو ترد عليه
__________
1 هو: مالك بن أوس بن الحدثان بن عوف النصري، أبو سعد. اختلف في صحبته اختلافًا كبيرًا. مات بالمدينة المنورة سنة 92هـ على الأرجح.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/1346"، و"الإصابة": "6/18".
2 في الأصل "فدعاني وطلحة"، بإثبات "الواو"، وهو خطأ، والصواب: حذفها، كما في صحيح البخاري "3/92".
3 هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، القرشي، التيمي. أبو محمد يعرف بطلحة الفياض. شهد أحدًا وما بعدها. أحد العشرة المبشرين بالجنة. مات مقتولًا يوم وقعة الجمل سنة 36هـ، وله من العمر ستون عامًا.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "2/764"، و"الإصابة": "3/290".
4 في الأصل "حد"، وهو خطأ، والتصويب من صحيح البخاري: "3/92".
5 هكذا في الأصل. والذي في صحيح البخاري "3/92"، "خازني". وفي صحيح مسلم "3/1209": "ثم ائتنا إذا جاء خادمنا". ويجمع بينهما: بأن خادمه هو نفسه خازنه؛ فهو شخص واحد، لا شخصان.
6 رواية مسلم في صحيحه "3/1210": "كلا، والله لتعطينه وَرِقه، أو لتردن إليه ذهبه...".
7 ضبطت هذه الكلمة في الأصل هكذا "وِرْقه" بكسر الواو وسكون الراء. وعند مسلم "وَرِقه" بفتح الواو وكسر الراء. وهناك لغة ثالثة هي: "وَرْقه" بفتح الواون وسكون الراء. راجع في هذا: مختار الصحاح ص"743" مادة: "ورق"، والمصباح المنير "2/1016" مادة: "ورق" أيضًا.

(2/587)


ذهبه1.
وبهذا قال أصحاب الشافعي.
وذكر أبو سفيان عن الكرخي أنه كان يقول: يجب العمل بظاهر الآية والخبر، ولا يرجع إلى تفسير الصحابي.
وإنما رجعنا إلى تفسيره في ذلك؛ لأن هذا اللفظ مما يفتقر إلى البيان، وهو أعرف به من غيره، لمشاهدته التنزيل؛ فوجب الرجوع إلى تفسيره، كما وجب الرجوع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للآية المحتملة.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية أبي طالب: في العبد يتسرى، فقيل له: فمن احتج [81/أ] بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} [ {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ]2، فأي ملك للعبد؟ فقال: القرآن أنزل على [أصحاب] النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون فيما أنزل، وقالوا: يتسرى العبد.
ويفارق هذا ما لا يفتقر إلى البيان؛ لأن اللفظ غير محتمل؛ فكان هو وغيره في تفسيره سواء.
__________
1 أثر عمر رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الشعير بالشعير "3/92"، وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "3/1209-1210".
2 "29-30" المعارج.
ويلاحظ: أن الاستدلال لا يتم إلا بذكر الآية الثانية، إذ هي المقصودة في هذا المقام.

(2/588)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الآية والخبر يجب العمل بظاهرهما؛ لكونهما1 حجة، وقول الصحابي ليس بحجة؛ فلم يرجع إلى تفسيره.
والجواب: أن قوله حجة عندنا وعندهم إذا انفرد، وله2 حكم المنفرد عند احتمال اللفظ.
__________
1 في الأصل: "بظاهرها؛ لكونها.."، والجادة: ما أثبتناه؛ لأن الضمير عائد على مثنى.
2 في الأصل: "وهو حكم".

(2/589)


مخالفة الراوي للفظ النبي صلى الله عليه وسلم لا تؤثر في إحدى الروايتين عن أحمد
مدخل
...
فصل 1 : فإن ترك الراوي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمل بخلافه
وجب العمل بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثر فيه مخالفة الراوي له في أصح الروايتين.
قال في رواية الأثرم في الحجام: نحن نعطي كما أعطى، يعني النبي صلى الله عليه وسلم2، ولكن صاحبه لا يأكله، يطعمه الرقيق، ويعلفه الناضح3
__________
1 راجع في هذا الفصل في: "المسودة" ص"129"، و"القواعد والفوائد الأصولية" ص"296-297".
2 يعني بهذا: ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة، باب خراج الحجام "3/115" عن ابن عباس رضي الله عنه، ولفظه: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى الحجام أجره".
كما أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب كسب الحجام "2/731".
وقد تكلم عنه الحافظ ابن حجر في كتابه: "فتح الباري": "4/458".
3 يعني بذلك ما أخرجه الترمذي عن محيصة رضي الله عنه في كتاب البيوع باب كسب الحجام "3/566"، وذلك أن محيصة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام؛ فنهاه، فذكر له الحاجة، فقال: "اعلفه نواضحك، واطعمه رقيقك" .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الإجارة، باب في كسب الحجام "2/238".
كما أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب كسب الحجام "2/732".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "ذخائر المواريث": "3/94"، و"فتح الباري": "4/ 459".

(2/589)


وقول ابن عباس: لو كان حرامًا؛ لم يعطه1. فهذا تأويل من ابن عباس.
وظاهر هذا: أنه أخذ بظاهر الخبر، ولم يلتفت إلى تأويله. وهو قول أصحاب الشافعي.
وفيه رواية أخرى: لا يجب العمل به، نص عليه رحمه الله في رواية حرب2؛ فقال: لا يصح الحديث عن عائشة؛ لأنها زوجت بنات أختها، والحديث عنها.
وقال أيضًا رضي الله عنه في رواية المروذي: لا يصح الحديث؛ لأنها فعلت بخلافه.
__________
1 هذا أحد الألفاظ عن ابن عباس رضي الله عنه، واللفظ الآخر الذي أورده البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة، باب خراج الحجام "3/115"، هو: "ولو علم كراهية؛ لم يعطه".
على أن هناك لفظًا ثالثًا لأبي داود؛ أورده في سننه في كتاب الإجارة، باب كسب الحجام "2/239"، وهو: "ولو علمه خبيثًا؛ لم يعطه".
وراجع في اختلاف الروايات: "فتح الباري": "4/458-459".
2 هو: حرب بن إسماعيل بن خلف، الحنظلي، الكرماني. أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله. قال عنه الخلال: "رجل جليل القدر". من أصحاب الإمام أحمد، الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل الفقهية.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/145"، و"المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد": "1/ 287"، و"المدخل لمذهب الإمام أحمد" ص"206".

(2/590)


وقال أيضًا رحمه الله في رواية الحسن بن محمد بن الحارث1 وقد سئل عن حديث الزهري2، فقال: الزهري يقول بخلاف هذا.
وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي: أنه قال: هذا على وجهين:
أحدهما: أن يكون الخبر محتملًا للتأويل؛ فلا يلتفت إلى عمل الصحابي، كما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" ، التفرق: يحتمل أن يكون بالقول، ويحتمل أن يكون بالفعل، ثم حمله ابن عمر على التفرق بالأبدان؛ فلا يعمل على تأويله.
والثاني: أن يكون الخبر غير محتمل للتأويل؛ فعمله بخلافه؛ يكون دليلًا على أنه قد علم بنسخ الخبر، إن عقل من ظاهر حاله أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان غير ما دل عليه ظاهر الخبر من الندب دون الإيجاب.
وكان يحكى ذلك عن الكرخي: أن الأخذ بما رواه أولى مما عمل به من غير تفصيل.
__________
1 هو: الحسن بن محمد بن الحارث السجستاني. من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/139"، و"المنهج الأحمد": "1/285".
2 هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، الزهري، المدني أبو بكر: الحافظ المحدث: روى عن ابن عمر وجابر وأنس وغيرهم، وعنه مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم. مات سنة 124.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/108"، و"شذرات الذهب": "1/162"، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي ص"42"، و"النجوم الزاهرة": "1/294"، و"وفيات الأعيان": "1/451".

(2/591)


وجه الرواية الأولى:
أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة، وقول الصحابي وفعله على أحد القولين: ليس بحجة، وعلى الرواية الأخرى: هو حجة؛ إلا أن خبر الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم عليه، وإذا كان كذلك؛ وجب العمل بالخبر.
وأيضًا: فإن [81/ب] أبا حنيفة: قال: ليس بيع الأمة المزوجة طلاقًا.
واحتج هو وغيره من الفقهاء بما روى ابن عباس: أن عائشة اشترت بريرة، فأعتقتها، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان بيعها طلاقًا لما خيرها.
وخالف ابن عباس هذا الخبر، وكان يقول: بيع الأمة طلاقًا، وإن لم يكن ذلك موجبًا لترك الخبر.

(2/592)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الصحابي لا يخالف الخبر ولا يعانده؛ فإذا رأينا قوله بخلافه؛ استدللنا على نسخ الخبر، وأنه إنما تركه وخالفه عن توقيف.
والجواب: أنه يحتمل أن يكون بسنة، أو تركه بضرب من الاجتهاد في تقديم غيره عليه؛ فيجب أن ينظر فيه ولا يقلده.
واحتج: بأن الصحابي أعرف إذًا؛ فإنه شاهد الوحي والتنزيل، وعرف البيان والتأويل، وكانوا أعرف بما يقوله.
والجواب: أنه كذلك فيما يفتقر إلى البيان؛ فأما في مخالفة الخبر بقوله فلا؛ لأنه يحتمل أن يكون تركه للاحتمال الذي ذكرنا.
وجواب آخر، وهو: أنه لو علم مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوجب عليه نقله، كما يجب عليه [نقل] نص النبي على المراد بخطابه؛ فلما لم يبطل ذلك؛ علمنا أنه لم يعلم مراد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان حاله في ذلك كحال غيره ممن لم يشاهد الخطاب.

(2/592)


العادة لا تخصص العموم
مدخل
...
فصل 1 : [العادة لا تخصص العموم]
إذا ورد لفظ عام؛ لم يجز تخصيصه بعادة المكلفين، مثل أن يرد تحريم البيع مطلقًا، وعادتهم جارية بنوع منه2.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"123-125"، و"التمهيد" لأبي الخطاب الورقة "67".
2 عادة المكلف إما أن تكون عادة فردية أو جماعية.
والعادة الفردية لا كلام لنا فيها.
وأما العادة الجماعية، وهي ما تسمى بالعرف؛ فهي على قسمين:
عادة قولية: "العرف القولي"؛ فهي تخصص العموم. وقد حكى كثير من العلماء الاتفاق على ذلك، منهم الإسنوي في: "شرح المنهاج": "2/115"، وابن أمير الحاج في كتابه "التقرير والتحبير": "2/282"، وابن عبد الشكور في "مسلم الثبوت": "1/345"، وابن عابدين في "رسائله": "2/115".
ومن المتأخرين الشيخ أحمد أبو سنة في كتابه "العرف والعادة في رأي الفقهاء" ص"91"، والأستاذ مصطفى الزرقا في كتابه "المدخل الفقهي العام": "2/888".
وأما العادة الفعلية "العرف العملي"؛ فهي على نوعين:
النوع الأول: عادة عملية، أو عرف عملي، وجد في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلمه، وأقره؛ فهذا يعتبر مخصصًا، والحقيقة: أن المخصص هو تقرير النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني: عادة عملية، أو عرف عملي وجد بعد عصره عليه الصلاة والسلام؛ فإذا استمر العمل حتى كان إجماعًا عمليًا؛ فهو يخصص العموم، عند من يقول بحجية الإجماع العملي، والحقيقة: أن المخصص هو الإجماع.
أما إذا لم يكن كذلك؛ فالجمهور على أنه لا يعتبر مخصصًا. وذهبت فرقة قليلة من الحنفية إلى القول بتخصيص العموم والحالة هذه.
وقد استوفينا الكلام في هذا، في رسالتنا للماجستير بعنوان: "العرف وأثره في الشريعة والقانون" ص"84-95".
ولعل القاضي أبا يعلى يريد هنا العرف العملي، الذي لم يعضده أي عاضد.

(2/593)


وكقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1، وقد جرت عادتهم بأكل نوع منه.
لأن الحكم يتعلق باللفظ؛ فوجب القضاء به على جميع ما يصح أن يعبر به عنه، اعتبارًا بالعموم.
ولأن الظاهر أن الكلام خرج لقطع العادة الجارية، ودفع الأمر الواقع؛ فلم يجز تركه في هذا الوضع بعينه.
فإن قيل: أليس قد خصصتم الاسم بالعرف، مثل اسم الدابة ونحوها إذا أطلق؛ هلا فعلتم مثل هذا في الحكم؟
قيل: عرف الاستعمال هناك مقارن للفظ؛ فيصير ذلك هو اللغة الجارية، وهذا معدوم ههنا، مع أن اسم الدابة عام في غير المتعارف مجازًا.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية مهنا: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن أبي عبد الله قال: أدركت أبناء المهاجرين والأنصار، فكانوا2 يعمون، لا يجعلونها تحت3 الخيل: هو معروف، ولكن الناس على غير هذا، أهل الشارع خاصة لا يعمون
__________
1 "188" سورة البقرة.
2 في الأصل: "فكان يعمون" ، والصواب: ما أثبتناه.
3 في الأصل: "تحت" ، والصواب ما أثتبناه.

(2/594)


إلا نجب1 الخيل. وظاهر هذا أنه اطرح الحديث بعادة المكلفين.
قيل: إنما عارض عرفًا بعرف، [82/أ] ولم يخصص خبرًا بعرف.
__________
1 في الأصل: "نحن"، والصواب من أثبتناه.

(2/595)


مسألة تخصيص الأخبار جائز
مدخل
...
مسألة: 1 [تخصيص الأخبار جائز]:
التخصيص يدخل في نحو قوله: رأيت المشركين؛ كما يدخل في الأوامر.
وقد تكلم أحمد رضي الله عنه على آيات في القرآن وردت بلفظ الخبر، وبين أنها مخصوصة؛ ذكره فيما خرجه في محبسه، فقال: قوله تعالى للريح التي أرسلها على عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 2، وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها، منازلهم ومساكنهم والجبال3 التي بحضرتهم -وقال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4 لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه. وقال لملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 5 وقد كان ملك سليمان شيئًا لم تؤته.
خلافًا لبعضهم في قولهم: لا يدخل التخصيص في الخبر، كما لا يدخله النسخ.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"130".
2 "25" سورة الأحقاف.
3 في الأصل بدون إعجام.
4 "102" سورة الأنعام.
5 "23" سورة النمل.

(2/595)


دليلنا:
أن التخصيص إنما دخل في لفظ الأمر؛ لأنه يحتمل أن يراد به جميع

(2/595)


ما وضع له اللفظ، ويحتمل أن يراد به بعضه، وهذا المعنى موجود في الخبر، كوجوده في الأمر؛ فإنه يصح أن يقول: رأيت المشركين، ويكون قد رأى بعضهم؛ فساوى الأمر الخبر في هذا، ويفارق النسخ؛ لأنه يرفع جميع الحكم ويزيله؛ فيؤدي إلى الكذب فيما أخبر به، والتخصيص لا يرفع جميع الحكم، بل يبقى بعضه؛ فلا يؤدي إلى التكذيب والإبطال.
ويدل عليه وجود ذلك بدليل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ومعلوم أن ذاته لم تدخل فيه، وكذلك: {اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} ، ولم تدمر السموات والأرض، وما أشبه ذلك.
__________
1 "20" سورة البقرة.

(2/596)


مسألة إذ ورد الخطاب من صاحب الشرع بناء على سؤال سائل
مدخل
...
مسألة: 1 [إذا ورد الخطاب من صاحب الشرع بناء على سؤال سائل]:
نظرت؛ فإن لم يكن مستقلًا بنفسه، ومتى أفرد عن السؤال لا يكون مفهوم المراد، مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لأبي بردة بن نيار: "يجزيك ولا يجزي أحدًا بعدك" 2؛ فهذا خرج على قول أبي بردة: لا أجد إلا جذعة من المعز؛ فهو مقصور على السؤال ومضموم إليه، ويكون تقديره : إذا ذبحت جذعة من المعز يجزيك في الأضحية، ولا يجزي أحدًا بعدك.
وإن كان مستقلًا بنفسه نظرت:
فإن كان مطابقًا للسؤال فهو على ضربين:
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"130"، و "روضة الناظر" ص"122".
2 سبق تخريج هذا الحديث ص"332".

(2/596)


ضرب هو سؤال عنه جملة، وجواب عنها.
وضرب هو سؤال عن حكم عين، وجواب عن حكمها.
فالسؤال عن الجملة مثل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرض في اليوم والليلة؛ فقال: "خمس صلوات، كتبهن الله على عباده" 1.
وما روي أنه سئل عن صلاة التطوع بالليل والنهار، فقال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" 2.
__________
1 هذا جزء من حديث رواه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان "3/29-30".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام "1/40-41".
وأخرجه عنه أبو داود في أول كتاب الصلاة "1/93".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب كم فرضت في اليوم والليلة "1/184".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الصلاة، باب جامع الترغيب في الصلاة "1/357".
وأخرجه عند الدارمي في سننه في كتاب الصلاة، باب في الوتر "1/309".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "2/114"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"85"، و"ذخائر المواريث": "1/274".
2 هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في صلاة النهار "1/297".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "2/491"، وقال فيه: "اختلف أصحاب شعبة فيه؛ فوقفه بعضهم، ورفعه بعضهم، والصحيح: ما رواه الثقات عن ابن عمر؛ فلم يذكروا فيه: "صلاة النهار".

(2/597)


.......................
__________
= وأخرجه عنه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف صلاة الليل "3/185-186"، وقال: "هذا الحديث عندي خطأ".
لكن نقل الزيلعي عنه في "نصب الراية": "2/143-144" أنه قال في "سننه الكبرى": "إسناده جيد؛ إلا أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي فيه؛ فلم يذكروا فيه "النهار"؛ منهم: سالم، ونافع، وطاوس..".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "1/419".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "1/280".
وأخرجه عند الدارقطني في كتاب الصلاة، باب صلاة النافلة في الليل والنهار "1/416"، وقد نقل عنه قوله في كتابه "العلل": "ذكر النهار فيه وهم". وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصلاة، باب صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "2/487"، ونقل عن البخاري: أنه صحيح الحديث.
وقد نقل الحافظ ابن حجر في كتابه: "التلخيص": "2/22" عن البيهقي قوله: "هذا حديث صحيح"، و"علي البارقي" احتج به مسلم، والزيادة من الثقة مقبولة، وقد صححه البخاري لما سئل عنه، ثم روى ذلك بسنده إليه، قال: وروي عن محمد بن سيرين عن ابن عمر مرفوعًا بإسناد كلهم ثقات.
وأخرجه عن ابن عمر أبو داود الطيالسي في: "مسنده" في كتاب الصلاة باب الخشوع في صلاة الليل وأنها مثنى مثنى "1/117".
وأخرجه عنه الحاكم في كتابه "علوم الحديث" ص"58"، وقال بعد سياقه بسنده: "هذا حديث ليس في إسناده إلا ثقة ثبت، وذكر "النهار" فيه وهم، والكلام عليه يطول".
وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: "رواته ثقات".
ونقل صاحب "الجوهر النقي": "2/488" مطبوع مع "سنن البيهقي" عن ابن عبد البر قوله في كتابه: "التمهيد": "إن إسناد هذا الحديث مضطرب، ضعيف لا يحتج به".=

(2/598)


....................................
__________
= كما نقل عن ابن عبد البر ما حكاه بسنده إلى يحيى بن معين أنه قال: "صلاة النهار أربع لا تفصل بينهن"؛ فقيل له: إن ابن حنبل يقول: "صلاة الليل والنهار مثنى"؛ فقال: بأي حديث؟ فقيل له: بحديث الأزدي عن ابن عمر؛ فقال: ومن علي الأزدي؟! حتى أقبل هذا منه، وأدع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعًا، لا يفصل بينهن؟؛ لو كان حديث الأزدي صحيحًا؛ لم يخالفه ابن عمر".
ومن هذا العرض يتبين: أن هناك رأيين في هذا الحديث:
رأي يقول بتضعيف الحديث، وعلى رأس القائلين بهذا ابن معين وابن عبد البر.
ورأي يقول بصحته، وفي مقدمتهم البخاري والبيهقي.
ومجمل أسباب التضعيف عند القائلين به:
أولًا: أن هذه زيادة، أوردها "علي البارقي الأزدي" مخالفًا بها الثقات؛ فتطرح هذه الزيادة، ويعتمد رواية الثقات.
ثانيًا: أن هذه الزيادة تتعارض مع فعل الراوي ابن عمر رضي الله عنهما، وقد روي عنه أنه كان يتطوع بالنهار أربعًا. وما كان له أن يخالف حديثًا صحيحًا، وبخاصة وهو راويه.
وأما القائلون بالصحة فاستدلوا بما يلي:
أولًا: أن "علي بن عبد الله البارقي الأزدي" -الذي عليه مدار هذه الزيادة- ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة.
ثانيًا: أن لهذا الحديث طرقًا أخرى، منها: ما أخرجه الدارقطني بسنده عن ابن عمر مرفوعًا، وذلك في سننه في كتاب الصلاة، باب صلاة النافلة في الليل والنهار "1/417".
ومنها: ما أخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" بسنده عن ابن عمر مرفوعًا كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "تلخيص الحبير": "2/22".
ثالثًا: أن لهذا الحديث شاهدًا من حديث الفضل بن العباس مرفوعًا "الصلاة مثنى مثنى" ، أخرجه الترمذي في "سننه": "2/225".
وقد تكلم الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على سند هذا الحديث في تعليقه على سنن الترمذي "2/492"، وذيل كلامه بقوله: ".. فحديث الباب رواه الأزدي، وهو ثقة، وتابعه عليه عبد الله العمري، وهو ثقة أيضًا، كما ذكرنا مرارًا. وصححه البخاري. وكفى به حجة، وله شاهد آخر من حديث الفضل بن العباس مرفوعًا: "الصلاة مثنى مثنى" ، من غير تقييد بصلاة الليل".
على أن الحديث المذكور أخرجه أبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها، كما أخرجه إبراهيم الحربي عن أبي هريرة رضي الله عنه، حكى ذلك الزيلعي في كتابه "نصب الراية": "2/145".

(2/599)


وما روى أبو سعيد الخدري1: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم فقال [82/ب]: "الحية والعقرب والفويسقة 2 والغراب والحدأة والكلب العقور والسبع العادي" 3.
__________
1 هو: سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري الخدري. من علماء الصحابة وحفاظها المكثرين. خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق. وعمره يومئذ خمسة عشر عامًا. مات سنة 74هـ.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1671"، و"الإصابة" القسم الثالث ص"77" طبعة دار نهضة مصر.
2 "الفويسقة" هي "الفأرة"، كما صرحت بذلك بعض الروايات.
3 حديث أبي سعيد هذا؛ أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب "1/428"، ولكنه ذكر الغراب بلفظ: "يرمي الغراب، ولا يقتله".
وأخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب "3/189"، ولم يذكر "الحية" في حديثه. وقال فيه: "هذا حديث حسن".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم "2/1032"، ولم يذكر "الغرب" في روايته.
وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب "2/166"، ولم يذكر من هذه الدواب إلا ثلاثًا؛ الحية، والعقرب، والفأرة الفويسقة.=

(2/600)


والسؤال عن حكم عين من الأعيان، مثل ما روي: "أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يضرب نحره، وينتف شعره ويقول: هكلت وأهلكت، فقال: "ماذا فعلت؟ فقال: وقعت على امرأتي في رمضان،
__________
= وحديث أبي سعيد هذا متكلم فيه فقد قال الحافظ ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير": "2/274"، "وفيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف وإن حسنه الترمذي. وفيه لفظة منكرة، وهي قوله: "ويرمي الغراب، ولا يقتله" ..".
ويزيد بن أبي زياد قال فيه ابن حبان: "صدوق"؛ إلا أنه كبر وساء حفظه، وكان يتلقن".
وقال فيه يحيى: "ليس بالقوي". وقال أيضًا: "لا يحتج بحديثه".
وقال أحمد: "حديثه ليس بذاك".
وقال ابن المبارك: "ارم به".
وقال ابن الفضيل: "كان من أئمة الشيعة الكبار".
وقال شعبة: "كان يزيد بن أبي زياد رفاعًا".
وقال الذهبي: "مشهور، سيء الحفظ".
راجع في هذا: "المغني في الضعفاء" للذهبي "2/749"، و"ميزان الاعتدال" له "4/423"، و"لسان الميزان" لابن حجر "6/287" وقد قال الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار": "2/166"، بعد أن ساق الحديث بلفظ: "يقتل المحرم الحية والعقرب والفأرة الفويسقة" . قال يزيد: وعد غير هذا؛ فلم أحفظ".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "3/130"، و "ذخائر المواريث": "3/183".
وينبغي أن يعلم أن البخاري قد روى بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا في كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب "3/16" بلفظ: "خمس من الدواب لا حرج على قتلهن: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور" .

(2/601)


فقال: أعتق رقبة" 1 حين ذكر له السبب؛ فالظاهر أن الرقبة متعلقة بالوقوع الذي ذكره، تعلق الحكم بالعلة؛ لأن السبب هو الذي اقتضى الحكم وآثاره، كما إذا سمع رجلًا يقول شيئًا؛ فقال له: "استغفر الله"، يدل على أن القول الذي اقتضى الاستغفار، والسبب يكون جميعه، عليه لا يجوز أن يزاد فيه بغير دليل؛ لأن الظاهر الذي اقتضى الحكم هو الذي ذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بالحكم لأجله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم بسبب ذكر له، يجب أن يكون الحكم جميع موجبه؛ لأن تأخير
__________
1 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان، ولم يكن له شيء "3/39".
وأخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم "2/781".
وأخرجه الترمذي في كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان "3/93".
وأخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب كفارة من أتى أهله في رمضان "1/557".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان "1/534".
وأخرجه الدارقطني في كتاب الصيام باب القبلة للصائم "2/190".
وأخرجه الدارمي في كتاب الصيام، باب في الذي يقع على امرأته في شهر رمضان نهارًا "1/343".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الصيام، باب حكم من أكل أو شرب ناسيًا أو متأولًا أو أفطر عمدًا في التطوع أو في رمضان "1/265".
ويلاحظ: أن الحديث قد ورد بعدة ألفاظ، ولكن الواقعة واحدة.
وراجع في الحديث أيضًا: "نصب الراية": "2/451"، و "تلخيص الحبير": "2/206"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"242، و"تيسير الوصول" 2/242".

(2/602)


البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فلو كان للسبب حكم غيره؛ لم يترك بيانه، ولهذا قلنا فيما روي أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مقطعه1، وهو متضمخ بالخلوق، فقال: أحرمت وعلي هذا، فقال: "انزع الجبة، واغسل الصفرة" 2، ولم يأمره بالفدية؛ فدل على أن الفدية غير
__________
1 في إحدى روايات مسلم "3/836": "مقطعات".
وقد أورد الزمخشري في كتابه "الفائق في غريب الحديث": "3/208" ثلاثة أقوال في تفسيرها:
الأول: الثياب القصار؛ لأنها قطعت عن بلوغ التمام.
الثاني: الثياب التي تقطع وتخاط، كالجلباب ونحوه.
الثالث: برود: عليها وشي مقطع.
2 هذا الحديث رواه يعلى بن أمية رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج "3/6".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح "2/836".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة "3/187".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب الرجل يحرم في ثيابه "1/422-423".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب الجبة في الإحرام "5/99".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج "2/231".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم "1/212".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في الكحل والطيب والتزعفر "2/15".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "2/273"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"384". و"نصب الراية": "3/19"، و"ذخائر المواريث": "3/131"، و"تيسير الوصول": "1/240".

(2/603)


واجبه، وتكون العين المنصوص على حكمها1 أصلًا، ويكون كل من وجد منه مثل ذلك السبب في حاله2؛ وإنما كان المنصوص عليه أصلًا؛ لأنه ثبات حكمه بلفظ تناوله خصوصًا، وكان غيره في حاله3؛ لأنه حكم فيه بعلة تعدت إليه منه، كما أن الأرز وسائر المكيلات، فروع للأربعة المنصوص عليها للمعنى الذي ذكرته.
وأما إذا كان الجواب مخالفًا للسؤال نظرت:
فإن كان أخص من السؤال، مثل: أن يسأل عن قتل النساء الكوافر؛ فيقول: "اقتلوا المرتدات؛ فيجب قتل المرتدات باللفظ، وغير المرتدات من الحربيات لا يجوز قتلهن من طريقين: أحدهما: من طريق دليل الخطاب، والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عدل عن الاسم العام إلى الاسم الخاص؛ دل على أنه قصد المخالفة بين المرتدات، وبين الحربيات.
وهكذا كما قال أصحابنا في خبر حذيفة بن اليمان4 عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجدًا، وجعل ترابها طهورًا" 5،
__________
1 في الأصل: "حكمه"، والصواب ما أثبتناه؛ لأن الضمير يعود على مؤنث.
2 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "في حكمه".
3 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "في حكمه".
4 هو: حذيفة بن حسيل "بالتصغير، ويقال: بالتكبير" بن جابر بن ربيعة بن فروة، المعروف باليمان، العبسي. من كبار الصحابة وأجلائهم. شهد الخندق وما بعدها، وشهد حروب العراق. استعمله عمر على "المدائن"؛ فلم يزل بها، حتى مات سنة 36هـ.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "1/334"، و"الإصابة": "1/332".
5 هذا الحديث أخرجه مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعًا، في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة "1/371"، بلفظ: "جعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا، إذا لم نجد الماء" . وأخرجه الدارقطني عنه في كتاب الطهارة، باب التيمم "1/176" بمثل لفظ مسلم.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/148-149"، و"تيسير الوصول": "3/69"، و"ذخائر المواريث": "1/188"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"77"، و"نصب الراية": "1/158".

(2/604)


فعلق على اسم الأرض كونها مسجدًا، وعلى نوع منها كونه طهورًا؛ فدل على أنه قصد المخالفة بين المسجد والطهور.
خلافًا لأبي حنيفة أن كل أرض مسجد وطهور.
وأما إن كان أعم من السؤال، مثل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل: إنا نركب أرماثًا1 لنا في البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، [83/أ] أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال: "البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" 2؛ فسئل عن حال الضرورة، وأجاب بأنه
__________
1 في الأصل: "أزماتًا"، والصواب من أثبتناه. ولم تأت هذه اللفظة في كل المراجع التي سأذكرها في تخريج الحديث؛ إلا عند الدارمي فقد جاءت اللفظة بصيغة الأفراد، حيث جاء: "أتى رجال من بني مدلج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا يا رسول الله إنا أصحاب هذا البحر، نعالج الصيد على رمث.." الحديث "1/151".
قال الزمخشري في كتابه "الفائق": "2/84": "الرمث: الطوف، وهو خشب يضم بعضه إلى بعض، ويركب في البحر".
2 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، كما رواه غيره، وسنقتصر على تخريج حديث أبي هريرة؛ لأنه أصح ما ورد في الباب؛ ولأن لفظ حديث أبي هريرة هو اللفظ الذي ساقه المؤلف، مع اختلاف قليل بين المحدثين في لفظ الحديث.
وقد أخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور "1/100-101"، وقال: "حديث حسن صحيح".=

(2/605)


....................................
__________
= وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر "1/19".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر "1/136".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب ماء البحر "1/44".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب الوضوء في ماء البحر "1/36".
وأخرجه الدارمي في كتاب الطهارة، باب الوضوء من ماء البحر "1/151".
وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الطهارة، باب الطهور في الوضوء "1/52-53".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب أحكام المياه التي يجوز التطهر بها "1/19".
وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الطهارة، باب التطهر بماء البحر "1/3".
واختلف في الحديث بين مصحح ومضعف، والذين ضعفوه قالوا: إن فيه عللًا أربعًا:
إحداها: جهالة بعض رواته.
الثانية: الاختلاف في اسم بعض رواته.
الثالثة: الإرسال.
الرابعة: الاضطراب.
وأجيب عن هذه المطاعن الموجهة للحديث، كما نقل ذلك الزيلعي في "نصب الراية" عن الشيخ تقي الدين.
أما الذين صححوه؛ فهم على قمسين:
قسم صححه، وقبله؛ لتلقي الأمة له بالقبول؛ لا لصحة سنده. وهو منقول عن ابن عبد البر.
وقسم صححه، وقبله؛ لصحة سنده، وهم الأكثرية، ومنهم: الترمذي، وأبو محمد البغوي، وابن منده، وابن المنذر، والبخاري فيما حكاه عنه الترمذي. ولعل هذا لقول هو الأولى بالأخذ. وراجع في هذا الحديث أيضًا: "بلوغ المرام" ص"3"، و"تلخيص الحبير": "1/9-12"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"8"، و"نصب الراية": "1/96-98"، و"المحرر في الحديث في بيان الأحكام الشرعية" "ص4".

(2/606)


طهور، ولم يخص حال الضرورة دون حال الاختيار؛ فيجب عندنا أن يحمل الجواب على عمومه، ويكون الاعتبار بعموم اللفظ، دون خصوص السبب.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية علي بن سعيد وقد سئل عن الوضوء من ماء البحر؛ فقال: لا بأس به، وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، الحلال ميتته" ؛ فقد احتج بالحديث على العموم، ولم يعتبر السبب الذي ور عليه.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة1، وأكثر أصحاب الشافعي2، وأصحاب الأشعري.
__________
1 راجع في هذا: "تيسير التحرير": "1/264"، و"فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت": "2/289".
2 راجع في هذا: "المستصفى": "2/60"، و"شرح جمع الجوامع": "2/38"، و"الإحكام" للآمدي": "2/218"، وقد ذكر الآمدي: أن المنقول عن الشافعي: أنه لا يذهب إلى القول بالعموم.
وتعقبه الإسنوي في "نهاية السول": "2/479"، بأنهم اعتمدوا في ذلك على قول إمام الحرمين في "البرهان": إنه الذي صح عندي من مذهب الشافعي، ونقله عنه في المحصول. ثم قال الإسنوي عقب ذلك: "... وما ذكره الإمام مردود؛ فإن الشافعي رحمه الله قد نص على أن السبب لا أثر له؛ فقال في "الأم"، في باب ما يقع به الطلاق: ولا يصنع السبب شيئًا؛ إنما يصنعه الألفاظ؛ لأن السبب قد يكون، ويحدث الكلام على غير السبب، ولا يكون مبتدأ الكلام الذي حكم؛ فإذا لم يصنع السبب بنفسه شيئًا؛ لم يصنعه ما بعده، ولم يمنع ما بعده أن يصنع له حكم إذا قيل".

(2/607)


وقال أصحاب مالك1: يقتصر على السؤال، وحكى ذلك2 عن المزني3 وأبي بكر الدقاق4.
إن الدلالة على الحكم هو لفظ صاحب الشريعة، دون سؤال السائل؛ فإذا كان لفظه عامًا؛ وجب حمله على عمومه، كما لو ورد ابتداء.
ولأن الاعتبار بلفظه، دون السؤال، بدليل: أن السؤال إذا كان عامًا، والجواب خاصًا؛ وجب حمله على خصوصه اعتبارًا به، كذلك ههنا.
ولأنا نعتبر صفة اللفظ في كونه أمرًا ونهيًا وإباحة؛ كذلك في كونه عمومًا وخصوصًا.
ولأن المرأة إذا قالت لزوجها: طلق ضرائري؛ فقال: كل امرأة لي
__________
1 أكثر المالكية على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما حكى ذلك القرافي في كتابه "شرح تنقيح الفصول" ص"216"، كما حكي عن الإمام مالك روايتين.
والقول بأن العبرة بخصوص السبب عن الإمام مالك، هو الذي نقله كثير من الأصوليين، كالآمدي في كتابه "الإحكام": "2/219"، والإسنودي في كتابه "نهاية السول": "2/477".
2 نقل ذلك صراحة الإسنوي عن المزني، كما نقل بعض العلماء: أن الدقاق يقول بذلك.
انظر: "نهاية السول": "2/477-478".
3 هو: إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق، المزني نسبًا، المصري موطنًا، الشافعي مذهبًا، ذو علم وزهد وورع وتقوى، قال فيه الشافعي: المزني ناصر مذهبي، له مصنفات، منها: "الجامع الكبير"، و"الجامغ الصغير" مات سنة 264هـ، وعمره 89 سنة.
له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/148"، و"وفيات الأعيان": "1/196-197".
4 هو: محمد بن جعفر، وقد سبقت ترجمته.

(2/608)


طالق؛ طلقت السائلة مع ضرائرها؛ لأن لفظ الزوج عام؛ فوجب حمله على عمومه، دون خصوص السؤال، كذلك ههنا.
ولأنه زائد على السؤال؛ فوجب أن يثبت حكمها وتكون شرعًا، كما إذا كانت الزيادة منفصلة، مثل قوله: "الحل ميتته" .
ولأن العام إنما يخص بما يعارضه وينفيه، والسبب الوارد عليه اللفظ مماثل له ومطابق له في حكمه؛ فلا يجوز تخصيصه.
ولأن الخطاب قد ورد في مكان وزمان، ثم لا يقتصر به على المكان والزمان؛ كذلك لا يقتصر به على السبب.
ولأن خروجه على شخص بعينه، لا يوجب تخصيصه به، مثل آية اللعان، نزلت في شأن هلال بن أمية1. وآية القذف نزلت في
__________
1 ورد أنها نزلت في هلال بن أمية، وورد أنها نزلت في عويمر العجلاني.
أخرج البخاري قصة هلال وقصة عويمر في كتاب التفسير، باب سورة النور "9/125-126".
وأخرجهما مسلم في أول كتاب اللعان "2/1129" وما بعدها.
وأخرجهما أبو داود في كتاب الطلاق، باب اللعان "1/520-524".
وأخرجهما ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب اللعان "1/667-668".
وأخرج النسائي قصة قذف هلال امرأته، وقصة مجيء عويمر في كتاب الطلاق، باب بدء اللعان، وباب اللعان في قذف الرجل زوجته برجل بعينه، وباب كيف اللعان "6/139-142".
وأخرج الترمذي قصة هلال، في كتاب التفسير، باب ومن سورة النور "5/331".
وقد اختلف العلماء في أيهما نزلت الآية على أقوال، تنحصر في ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: الترجيح بين الأحاديث؛ فبعضهم رجح نزولها في هلال، وبعضهم رجح نزولها في عويمر.=

(2/609)


شأن الإفك1، وآية الظهار في شأن خولة2، كذلك خروجه على مسبب.
__________
= المسلك الثاني: الجمع بين الأحاديث، وذلك: أن الآية نزلت في شأنهما معًا؛ فقد وقعت الحادثة أولًا لهلال، ثم صادف مجيء عويمر.
المسلك الثالث: تعدد نزول الآية؛ فقد نزلت مرتين، مرة في شأن هلال، ومرة في شأن عويمر.
راجع في هذا: "أسباب نزول القرآن للواحدي" ص"328-329"، و"أسباب النزول" لعبد الفتاح القاضي ص"153-154".
وهلال هذا هو: هلال بن أمية الأنصاري الواقفي البدري. أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1542"، و"الإصابة" القسم السادس ص"546" طبعة دار نهضة مصر.
1 راجع في هذا: "أسباب النزول" للواحدي ص"330-335"، و"أسباب النزول" للسيوطي ص"123-126"، و"أسباب النزول" لعبد الفتاح القاضي ص"155-159".
2 في الأصل: "قوله"، وهو خطأ، والصواب: "خولة" كما أثبتناه؛ لأن الآية نزلت فيها، وقد اختلف في اسمها، فقيل: "خولة"، وهو الأكثر وقيل: "خويلة". وقيل: "جميلة".
كما اختلف في اسم أبيها، فقيل: "ثعلبة"، وهو المشهور. وقيل: "مالك بن ثعلبة". وقيل: "خويلد".
انظر ذلك في ترجمتها في: "الاستيعاب": "4/1830-1832"، و"الإصابة" القسم السابع ص"618" طبعة دار نهضة مصر.
وقصة مظاهرة زوجها أوس بن الصامت منها مشهورة؛ فلا نطيل الكلام بإيرادها، ومن أرد الاطلاع على ذلك فعليه بالرجوع إلى: "أسباب نزول القرآن" للواحدي ص"433-435"، و"أسباب النزول" للسيوطي ص"164"، و"أسباب النزول" لعبد الفتاح القاضي ص"218-219"، و"نصب الراية": "3/246"، و"تلخيص الحبير": "3/220-221".

(2/610)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الجواب والسؤال بمنزلة الجملة الواحدة؛ فيصير كأنه قال: إذا ركبتم البحر، وكان معكم القليل من الماء، وإن توضأتم خفتم العطش؛ فتوضئوا بماء البحر؛ فإنه طهور، ولو كان هكذا؛ لكان مقصورًا على حال الضرورة؛ لأن خوف العطش، يصير شرطًا في الوضوء بماء البحر، ويدل على أنهما بمنزلة الجملة الواحدة: أن الجواب مقتضى السؤال.
والجواب: أنا لا نسلم أنه بمنزلة الجملة، ونقول: هما ضمنان؛ لأن السؤال ليس بعلم على الحكم، والجواب [83/ب] علم على الحكم؛ فدل على أنهما جملتان مختلفتان.
وقولهم: إن الجواب مقتضى السؤال؛ فهو وإن كان مقتضاه؛ فيجوز أن يكون زائدًا عليه، ويجيب عما يسأل وعما لم يسأل، ولهذا قال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" .
ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} 1.
واحتج: بأنه يجوز أن يكون الجواب مبهمًا محالًا به على بيان السؤال.
والجواب: أنه يجوز أن يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم مبهمًا محالًا على بيان القرائن، وبيان القياس، ويكون لفظ القرآن محالًا على بيان السنة، وإذا كان كذلك؛ لم يدل هذا على أنهما جملة واحدة.
واحتج بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "أعتق رقبة" ، مقصور على
__________
1 "17-18" سورة طه.

(2/611)


السبب الذي خرج الكلام عليه، ولا يجوز أن يتعدى ذلك حال وقوع الفعل.
والجواب: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة" ؛ لا يعم حال الوقوع، وغير حال الوقوع، وليس كذلك: "هو الطهور ماؤه" ؛ فإنه عام في جميع الأحوال. وحمله على حال الضرورة، تخصيص له بأمر ما، يدل على ذلك: أنها لو قالت: طلقني، فقال: أنت طالق، كان الظاهر أنه طلقها لسؤالها، وأن قولها هو المقتضى لإيقاع الطلاق عليها. وإذا قالت له: طلق ضرائري، فقال: كل امرأة له طالق؛ حمل قوله على عمومه فيها وفي ضرائرها؛ فدل على ما قلناه.
واحتج: بأن الخطاب لما ورد عقيب السبب، كان الظاهر أنه بيان لحكمه1؛ فإنه لو كان بيانًا لحكم غيره2 لذكره قبل حدوثه.
والجواب: أنه لو ذكره قبل ورود السبب؛ لجاز إخراج هذا السبب منه وتخصيصه، وحين ذكره عند وجود السبب؛ أفاد أنه لا بد أن يكون السبب داخلًا في حكم الخطاب، وأنه لا يجوز تخصيصه؛ لكونه منصوصًا عليه، وعلى أن هذا يوجب إذا ورد في مكان مخصوص، وزمان مخصوص، وسائل مخصوص أن يقتصر على سؤال السائل، وعلى الزمان والمكان.
وقد أشار أحمد رحمه الله إلى أنه إذا ورد على سبب؛ لم يجز خروج السبب من الخطاب في رواية أبي داود3 وقيل له: إن فلانًا قال: قراءة الفاتحة يعني خلف الإمام -مخصوص من قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
__________
1 في الأصل: "حكمها"، والصواب: ما أثبتناه؛ لأن الضمير راجع إلى "السبب"، وهو مذكر.
2 في الأصل: "غيرها"، والصواب: ما أثبتناه، لما سبق من التوجيه.
3 راجع هذه الرواية في "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود ص"31".

(2/612)


فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} 1، فقال: من يقول هذا؟! أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة. فقد أنكر تخصيص الآية، وحملها على غير المصلي؛ لأنها واردة في المصلي؛ [فلم] يخرج [بها] عن سببها.
واحتج بأن الجواب إذا كان بلا [أ]و نعم، كان مقصورًا على السؤال؛ كذلك إذا كان أعم منه.
والجواب: [84/أ] أن الجواب هناك غير مستقل بنفسه؛ ألا تراه لا يصح تفرده عنه، وهذا بخلافه.
واحتج: بأن السبب كالعلة في الحكم، والعلة لا تدل على أكثر من معلولها.
والجواب: أنه إذا كان الخطاب أعم من السبب، كان السبب كالعلة في قدر حكمه، وما زاد عرف حكمه باللفظ.
واحتج: بأن قصره على سببه وتخصيصه بتلك العين، قد يكون فيه مصلحة؛ فلا يجوز أن يتعدى ذلك.
والجواب: أن قصره على الوقت والمكان، قد يكون فيه مصلحة، ومع هذا فلا يجب ذلك.
واحتج: بأنه لما كانت الأيمان مقصورة على أسبابها، يجب أن تكون ألفاظ صاحب الشريعة كذلك.
والجواب: أنا لا نقصرها على أسبابها، بل يعتبر في تفهم الحكم وزيادته على اللفظ؛ فأما في تخصيص اللفظ بالسبب؛ فلا؛ ولهذا نقول: إذا حلف لا يلبس من غزلها لمنّة؛ فانتفع بثمنه، أو بشيء من مالها حنث.
وقد قال أحمد رحمه الله فيمن حلف لا يصيد في نهر؛ لأجل ظلم السلطان؛ فزال الظلم: فإن اصطاد؛ حنث، كذلك ههنا.
__________
1 "204" سورة الأعراف.

(2/613)


إذا كان أول الآية عاما وآخرها خاصا حمل كل واحد منهما على ما ورد
مدخل
...
فصل 1 : إذا كان أول الآية عامًا وآخرها خاصًا:
كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2 هو عام في البائن والرجعية، وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 2 خاص في الرجعية، فيحمل كل واحد منهما على ما ورد، ولا يخص أولها بآخرها.
وهذا بناء على الأصل الذي تقدم، وأنه لا يقصر اللفظ على سببه ولا على السؤال؛ لأن التخصيص إنما يكون بما يخالفه ويعارضه، وهذا يوافقه؛ لأن قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} بعض ما اشتمل عليه قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} .
ولأن اللفظ الأول يستقل بنفسه؛ ولأن اللفظ الثاني يحتمل أن يكون راجعًا إلى جميع ما تقدم، ويحتمل أن يكون راجعًا إلى بعضه، ولا يجوز تخصيصه بالشك.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 3 قال: أول الآية يدل على أن علمه معهم. وقال في سورة أخرى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 4.
وقال رحمه الله في رواية أبي طالب: يأخذون بأول الآية ويدعون آخرها5.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"138".
2 "228" سورة البقرة.
3 "7" سورة المجادلة.
4 "255" سورة البقرة.
5 ذكرت هذه الرواية في "المسودة" ص"138"، كما هنا.

(2/614)


وليس هذا من أحمد رضي الله عنه على أنه يجب تخصيص أولها بآخرها؛ وإنما قال ذلك بدليل دل على ذلك، وعضده بما في سياق الآية.
ولو أن قائلًا قال: ظاهر الكلام التسوية بين أول الآية وآخرها، كان له وجه في الاعتبار؛ لأن المتكلم متى وضع كلامه على وجه؛ فظاهر أمره أنه يخرجه [84/ب] على ما وضعه عليه، وأنه لم يعدل عنه إلى غيره، ويجري ذلك مجرى الكناية، وسائر ما يعطف بعضه على بعض.

(2/615)


مسألة تعارض العام والخاص
مدخل
...
مسألة 1 : [تعارض العام والخاص]:
إذا تعارضت آيتان أو خبران، وأحدهما عام والآخر خاص، والخاص منافٍ للعام؛ وجب تخصيص العام، سواء تقدم العام على الخاص أو تأخر، أو جهل التاريخ، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 2 وقال النبي: "لا قطع إلا في ربع دينار" . وقوله: {لا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 3، وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 4، ونحو هذا.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في مواضع:
فقال في رواية يعقوب بن بختان5 في الخبرين: يجيئان6 عن النبي
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"134-136" .
2 "38" سورة المائدة.
3 "221" سورة البقرة.
4 "5" سورة المائدة.
5 في الأصل: "بحان" بدون إعجام، والصواب ما أثبتناه، وقد سبقت ترجمته.
6 في الأصل: "بحار" هكذا بدون إعجام، والصواب ما أثبتناه.

(2/615)


صلى الله عليه وسلم متضادين لكل خبر وجهه.
وقال في رواية المروذي: لا تضرب الأخبار بعضها ببعض؛ لكل خبر وجهه، مثل: من اشترى شاة مصراة؛ فليرد معها صاعًا من تمر، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" ، وذكر مع السلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده".
وقال رضي الله عنه في رواية أبي طالب: حديث أم سلمة: "من أراد أن يضحي؛ فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره" ، وحديث عائشة1 عام، وحديث أم سلمة مخصوص؛ فهو آكد؛ لأنه قد خص من العام: إذا أراد أن يضحي أمسك؛ وإذا بعث لم يمسك، هذا على وجهه، وهذا على وجهه.
وقال في رواية عبد الله وقد سأله عن الثوب تصيبه الجنابة2 فقال: أذهب إلى الحديثين، حديث سليمان بن يسار3 عن عائشة: "أن النبي
__________
1 حديث عائشة رضي الله عنه، المشار إليه، هو ما أخرجه الجماعة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم".
وقد مضى تخريج حديث عائشة هذا، وحديث أم سلمة أيضًا.
2 المراد بالجنابة هنا: المني.
3 هو: سليمان بن يسار، أبو أيوب أو أبو عبد الرحمن، أخو عطاء. من علماء المدينة حديثًا وفقهًا. مات سنة 94هـ، وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" "1/91"، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص"131"، و"طبقات الحفاظ" ص"35"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي ص"60"، و"النجوم الزاهرة": "1/252".

(2/616)


صلى الله عليه وسلم كان يغسله"1، وحديث الأسود2 عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فركه"3؛ أذهب إليهما، ولا أرى أحدهما4.
__________
1 حديث عائشة هذا، أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل المني وفركه، وغسل ما يصيب المرأة "1/64-65".
وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المني "1/239".
وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب غسل المني من الثوب "1/201" وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المني يصيب الثوب "1/89".
وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة باب غسل المني من الثوب "1/127".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب المني يصيب الثوب "1/178".
وأخرجه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ما ورد في طهارة المني، وحكمه رطبًا ويابسًا "1/125".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"17".
2 هو: الأسود بن يزيد بن قيسن النخعي، الكوفي، أبو عمر، روى عن الخلفاء الأربعة الراشدين، كما روى عن عائشة وغيرها. وعنه روى ابنه عبد الرحمن وأخوه عبد الرحمن وأبو إسحاق وغيرهم. توفي سنة 75هـ وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/50"، و"تهذيب التهذيب": "1/342"، و"الخلاصة" ص"32"، و"شذرات الذهب": "1/82"، و"طبقات القراء الكبار" للذهبي: "1/43"، و"غاية النهاية": "1/171".
3 حديث عائشة هذا، أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المني "1/238".
وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المني يصيب الثوب "1/200".
وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المني يصيب الثوب "1/89".
وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب فرك المني من الثوب "1/127".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب فرك المني من الثوب "1/179".
وراجع أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"17".
4 جاء عن عائشة رضي الله عنها ما يفيد أنها كانت تغسل المني إذا كان رطبًا، وتفركه إذا كان يابسًا، وذلك فيما أخرجه عنها الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب طهارة المني وحكمه رطبًا ويابسًا 1/125 بلفظ: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا".

(2/617)


ولهذا أمثال منه قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" ثم أجاز السلم، والسلم: بيع ما ليس في ملكه؛ وإنما هو على صفة.
ومنه الشاة المصراة، إذا اشتراها الرجل فحلبها، إن شاء ردها وصاعًا من تمر، وقول النبي صلى الله عليه [وسلم]: "الخراج بالضمان" ؛ فكان ينبغي أن يكون اللبن للمشتري؛ لأنه ضامن بمنزلة العبد، إذا استعمله فأصاب به عيبًا رده، فكان عليه ضمانه، تستعمل1 الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر؛ فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به.
وقال في رواية خطاب بن بشر2 وقال له أبو عثمان الشافعي3 تذهب إلى الحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" 4 فقال:
__________
1 بدون إعجام في الأصل، وقد عجمناها بما يناسب المقام.
2 هو: خطاب بن بشر بن مطر، أبو عمر البغدادي المذكر، كان رجلًا صالحًا وعاظًا، من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقل عنه بعض المسائل. مات سنة 264هـ.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/152".
3 هو: محمد بن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، أبو عثمان القاضي. أكبر أولاده الشافعي. روى عن أبيه وأحمد بن حنبل وعبد الرزاق وغيرهم.
تولى القضاء بالجزيرة، ثم بمدينة حلب. مات بالجزيرة سنة 240هـ.
له ترجمة في: "طبقات الشافعية" للسبكي "2/71".
4 هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري=

(2/618)


قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" 1؛ فقد بين أنه...
__________
= في كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها "1/182".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة "1/295".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب "1/189".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء أنه لا صلاة؛ إلا بفاتحة الكتاب.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الافتتاح، باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة "2/106".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب القراءة بفاتحة الكتاب "1/227".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة أم الكتاب في الصلاة وخلف الإمام "1/321".
وراجع أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"144".
1 هذا الحديث رواه جابر رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة، باب ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة المأموم له قراءة " : 1/323-326"، ثم قال عقبة: "لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان" قلت: أما أبو حنيفة فاختلف العلماء فيه، بين موثق، ومضعف.
أما الحسن بن العمارة؛ فمتروك، كما قال ذلك جماعة منهم أحمد ومسلم والدارقطني وأبو حاتم وقد صوب الدارقطني إرساله، حيث قال في سننه "1/325": "وروى هذا الحديث سفيان الثوري، وشعبة، وإسرائيل بن يونس، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد وغيرهم، عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلًا، عن النبي صلى الله عليه وسم، وهو الصواب".
وحكم بكونه مرسلًا المجد بن تيمية في كتابه: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"145".

(2/619)


يستعملها1، وأنه يقضي بالخاص منهما على العام، ولم يجعل أحدهما ناسخًا للآخر.
وقوله: إن الأخير أولى [85/أ] أن يؤخذ به؛ أراد إذا كان جميعًا خاصين، وقد تعارضا؛ فيكون الثاني ناسخًا للأول؛ فأما إذا كان أحدهما عامًا والآخر خاصًا، والخاص ينافي العام؛ فالحكم فيه على ما ذكرناه.
وهو قول أصحاب الشافعي.
وقال أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه الجرجاني: إن كان العام هو المتقدم؛ كان الخاص المتأخر ناسخًا لبعضه، وإن كان العام هو المتأخر كان ناسخًا لجميع الخاص.
وإن لم يعلم التاريخ؛ فقد ذكره عيسى2 على أربعة أقسام:
فقال: إن كان الناس قد عملوا بهما جميعًا؛ وجب استعمالها ويرتب العام على الخاص، مثل نهيه عن بيع ما ليس عنده، ورخص في السلم.
وإن كانوا اتفقوا على استعمال أحدهما؛ فالعمل على ما اتفقوا عليه
__________
1 في الأصل: "يستعملها"، وهو خطأ عربية، والصواب: ما أثبتناه؛ لأن الضمير يعود على مثنى، كما يدل على ذلك السباق واللحاق.
2 المراد: عيسى بن أبان الحنفي.

(2/620)


والآخر منسوخ، وذلك مثل قوله: "فيما سقت السماء العشر" 1، وقوله: "ليس في الخضروات صدقة" 2، العام: قد تلقته الأمة
__________
1 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا؛ أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري "2/148" بلفظ: "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا العشر، وما سقي بالنضج نصف العشر" .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع "1/370".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيره "3/22".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر "5/31".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب صدقة الرزوع والثمار "1/581".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض وخرص الثمار "2/129".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنقى من أحاديث الأحكام" ص"317".
2 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الخضروات "3/21"، بسنده إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه بلفظ: "إنه -أي معاذ- كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله عن الخضروات، وهي البقول؛ فقال: "ليس فيها شيء" ، ثم عقب عليه بقوله: "إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. والعمل على هذا عند أهل العلم: أن ليس في الخضروات صدقة. قال أبو عيسى: والحسن بن عمارة -أحد رواة الحديث- ضعيف عند أهل الحديث؛ ضعفه شعبة وغيره، وتركه ابن المبارك".
وعنه أخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب ليس في الخضروات صدقة "2/96" بمثل لفظ المؤلف كما أخرجه عن علي وطلحة وأنس بن مالك رضي الله عنهم في والكتاب والباب المذكورين "2/95-98".

(2/621)


بالقبول، وخبر الخضروات مختلف في حكمه؛ فلم يجز أن يقضي به على العام.
وإن كانوا اختلفوا في ذلك؛ فعمل بعض الناس بأحد الخبرين،
__________
= كما أخرجه عن عائشة رضي الله عنها في كتاب الزكاة، باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض وخرص "2/129" وفيه: "وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة" .
وأورده المجد بن تيمية في كتابه "المنتقى" في كتاب الزكاة، باب زكاة الزروع والثمار ص"317" بلفظ: "عن عطاء بن السائب، قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضروات صدقة". فقال ابن طلحة: ليس لك ذلك، إن رسول الله صلى عليه وسلم كان يقول: "ليس في ذلك صدقة" ؛ رواه الأثرم في سننه. وهو من أقوى المراسيل، لاحتجاج من أرسله به".
وهذا الحديث ضعيف؛ فقال قال الذهبي -فيما نقله عنه المناوي في كتابه "فيض القدير": "5/374": طرقه واهية بمرة.
وقد رمز له السيوطي بالضعف في كتابه "الجامع الصغير": "5/373"، مطبوع مع شرحه "فيض القدير".
وتكلم الحافظ ابن حجر على طرق هذا الحديث، وضعفها كلها، وذلك في كتابه "تلخيص الحبير" في كتاب الزكاة، باب زكاة الزروع والثمار "2/386-389"، وقد وفى البحث حقه؛ فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه.
وفي كتاب "الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير": "3/62" عزو للحديث إلى ابن ماجه، وهو خطأ فاحش؛ فلم يخرجه ابن ماجه.
ولعل الخطأ من الشيخ يوسف النبهاني، الذي ضم الزيادات إلى "الجامع الصغير"، وأطلق على ذلك اسم: "الفتح الكبير"، ولم أجد العزو وهذا في كتاب: "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي "5/373".

(2/622)


وعامة الفقهاء تخالفه وتنكر على الواحد؛ فالعمل1 على ما عليه العام، ويسقط الآخر.
وإن كان الخبران مما يتعلق الحكم بهما، ويسوغ الاجتهاد في الحكم الذي تضمن كل واحد من الخبرين، ولم يظهر من الصحابة العمل بأحد الخبرين؛ فالواجب: المصير إلى الاجتهاد في تقدم أحدهما على الآخر، أو استعمال كل واحد فيما يقتضيه.
ومعنى هذا عندهم: أنهما يسقطان، ويرجع إلى دليل غيرهما.
وحكي عن أبي بكر ابن الباقلاني أنه قال: إذا جهل التاريخ؛ وجب التوقف فيهما.
__________
1 في الأصل: "والعمل".

(2/623)


دليلنا:
أن الخاص يتناول ما تناوله بصريحه من غير احتمال، والعام يتناول بظاهره وعمومه، ويحتمل أن يكون المراد به ما عدا ما تناوله الخاص؛ فإذا كان كذلك، وجب القضاء بالخاص، كما يجب أن يقضي بالنص الذي لا يحتمل على اللفظ المحتمل.
ولأنا نجمع بين الخاص والعام، والجمع بين الدليلين أولى من إسقاط أحدهما بالآخر أو وقفهما وإيقاع التعارض بينهما؛ لأن كل واحد يقتضي العمل به والمصير إلى موجبه، فما أدى إلى استعماله؛ كان أولى.
ولأنه يجوز تخصيص العموم بالقياس وبدليل العقل، وإن كان متقدمًا عليه؛ فجاز تخصيصه بالخبر الخاص وإن كان متقدمًا عليه.

(2/623)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه إذا كان متقدمًا والخصوص متأخرًا؛ فإنما كان ناسخًا ببعضه؛ لأن بيان العموم لا يجوز تأخيره عن حال وروده؛ فإذا ورد متأخرًا عنه لم

(2/623)


يجز أن يقع موقع بيانه؛ فلم يبق إلا أن يكون ناسخًا.
والجواب: أن تأخير البيان [85/ب] جائز عندنا، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
واحتج بأنه إذا كان الخصوص متقدمًا؛ أن العام المتأخر ينسخ الخاص: أن العموم يفيد الحكم في جميع ما يصح أن يعبر به عن المسميات بدلالة اتفاقهم إذا كان الخصوص متقدمًا عليه؛ وإذا كان كذلك؛ صار كل واحد بمنزلة ما ورد منفردًا؛ فيصير مقدار ما وقعت المعارضة فيه متنافيًا؛ فيقضي بالثاني على الأول، مثل اللفظين إذا وردا بلفظ الخصوص.
والجواب: أن العموم وإن كان يفيد الحكم في جميع المسميات؛ فقد بينا أنه يفيد ذلك من طريق الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد ما عدا ما تناوله الخاص، والخاص يتناول ما يتناوله بصريحه من غير احتمال؛ فوجب القضاء عليه.
واحتج: بأنه لو كان أراد استثناء الأقل من العموم الثاني؛ لذكره ونبه عليه، لعلمه باعتقاد أهل اللغة الصيغة؛ فلما لم يبين كان الظاهر ورود الثاني في معارضة الأول؛ فيكون ناسخًا له.
والجواب: أنه لم يذكره مع اللفظ؛ لأنه يجوز تأخير بيانه؛ فإذا بينه بالثاني؛ وجب حمله عليه.
واحتج بأن الحكم الذي يفيده العام من المسميات طريقه القطع؛ فجاز إثبات النسخ لما تقدم به كالخاص المنفرد.
والجواب: أنا لا نسلم أنه يفيد جميع المسميات من طريق القطع؛ وإنما يفيد ذلك من طريق الظاهر، ويجوز أن يكون المراد ما عداه.
واحتج بأن ما اتفق على استعماله قد صار مقطوعًا عليه؛ فوجب أن يسقط ما طريقه الاجتهاد كما يسقط خبر الواحد إذا عارضه نص التواتر.

(2/624)


والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنه لم يخالف في الخضروات، وفيما دون خمسة أوسق، وأهل العلم على خلافه؛ حتى خالفه أصحابه، وإذا كان كذلك؛ وجب القول بالخاص؛ لأن عليه عامة أهل العلم.
ثم لا نسلم أنه متفق على استعماله؛ لأن ما قابله الخاص غير مستعمل عندنا.
ولأنا أجمعنا على أن قوله: "ليس فيما دون خمس 1 أواق من الورق 2 صدقة" 3 يقضي به على قوله:
__________
1 في الأصل: "خمسة"، والصواب ما أثتبناه؛ لأن العدد يخالف المعدود، والمعدود هنا، وهو"الورق" مؤنث، والعدد "خمس" فلا بد أن تحذف منه علامة التأنيث. وما أثبتناه موافق للمصادر التي سنذكرها في تخريج الحديث.
2 "الورق" الدراهم المضروبة، وقيل: الفضة مضروبة أو غير مضروبة. راجع "مختار الصحاح"، و"المصباح المنير" مادة "ورق".
3 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة "2/141"، ولفظه: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة" .
وأخرجه عنه مسلم في أول كتاب الزكاة "2/674-675".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة "1/357".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب "3/13".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الورق "5/26".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال "1/571". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب ما لا يجب فيه الصدقة من الحبوب والورق والذهب "1/323".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب وجوب زكاة الذهب والورق والماشية.. "2/93".
وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة ص"167".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "بلوغ المرام" ص"71"، و"نصب الراية": "2/363"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"317".

(2/625)


"في الرقة 1 ربع العشر 2"؛ فوجب أن يقضي بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق 3 من التمر صدقة" 4 على قوله: "فيما سقت السماء العشر" ، على أن أبا حنيفة ناقض فيه؛ لأنه يقضي بالنهي عن أكل الطافي على قوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان" ، وهذا متفق على استعماله، والنهي عن أكل الطافي مختلف فيه.
__________
1 هذا جزء من حديث طويل، مشهور بكتاب الصدقات، وهو حديث أخرجه البخاري وأحمد والنسائي وأبو داود وغيرهم. وقد سبق تخريجه.
2 هذا الجزء من الحديث بلفظه المذكور أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة "1/358-360".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الزكاة، باب صدقة الماشية ص"175-176".
وراجع "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"311-313".
3 "أوسق" جمع "وسق"، والوسق: ستون صاعًا.
4 هذا جزء من حديث، سبق تخريجه في حديث: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" في الصفحة السابقة.

(2/626)


مسألة إذا تعارض خبران كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه آخر
مدخل
...
مسألة 1 : إذا تعارض خبران [86/أ] كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه آخر:
هما سواء، مثاله: قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها" ، وقوله: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" ؛ الأول خاص في الفائتة، عام في الأوقات، والثاني خاص في الوقت، عام في الصلوات.
وقد نص على هذا أحمد رحمه الله في رواية حنبل وصالح فقال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"، والنهي من النبي على الجملة، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها" ؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد العصر، وإن كان على جملته ما صلى أحد بعد العصر صلاة فائتة؛ فيستعمل كل واحد منهما على وجهه.
وهو قول أصحاب الشافعي.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يقدم الخبر الذي فيه ذكر الوقت؛ ذكره الجرجاني عن أصحابه؛ لأن الخلاف واقع في الوقت، وجواز فعل الصلاة، فقدم ما فيه ذكر الوقت لتناوله المقصود.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"139".

(2/627)


دليلنا:
أن كل واحد منهما قد تناول ما وقع الاختلاف فيه؛ فإن الخلاف واقع في الوقت، وجواز فعل الصلاة فيه واقع في جواز فعل الصلاة في الوقت؛ فكل واحد منهما خاص فيما فيه اختلاف من وجه، وعام من وجه، وعام فيما فيه اختلاف من وجه؛ فتساويا.

(2/627)


مسألة تفصيل القول فيما لو تعارض نصان أحدهما عام والآخر خاص
مدخل
...
مسألة 1 : إذا تعارض آيتان أو خبران أحدهما عام والآخر خاص:
والخاص موافق للعام، أو أحدهما مطلق والآخر مقيد؛ فهل يقضي بالعام على الخاص، والمطلق على المقيد؟
فهو على أربعة أوجه:
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"142-147".

(2/628)


الوجه الأول
...
أحدهما:
أن يكون الحكم والسبب واحدًا، مثل أن يقول: في كفارة القتل مؤمنة، ثم يذكر القتل في موضع آخر؛ فيقول: تحرير رقبة؛ فإنه يبني المطلق على المقيد، ويتعلق الحكم بالزائد، ويكون بمنزلة أن يرد خبران في حكم واحد وسبب واحد، وأحدهما زائد، فالأخذ بالزائد أولى، كما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، ولم يصل"1 ونقل الآخر: "أنه دخل البيت وصلى"2؛ فكان الأخذ بالزائد أولى.
__________
1 هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الصلاة، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} "1/104".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره "2/698".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحج، باب الصلاة في الكعبة "1/467".
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصلاة باب الصلاة في الكعبة "2/328".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "2/320".
2 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في=

(2/628)


فإن كان الحكم والسبب واحدًا؛ إلا أن أحدهما خاص والآخر عام، ولم يكن للخاص دليل؛ فإن الخاص داخل في العام، وهو بعض ما شمله العموم، ويكون ما تناوله الخاص ثابتًا بالخاص والعام، وما زاد على ذلك ثابتًا بالعام دون الخاص.
مثاله: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أفطر في رمضان؛ فعليه ما على المظاهر" 1، وقضى في الذي وقع على امرأته بعتق رقبة أو صيام
__________
= كتاب الصلاة، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} "1/104".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره "2/966-967".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحج، باب الصلاة في الكعبة "1/466-467".
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الكعبة "2/326-328".
وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الحج، باب الصلاة في البيت ص"258".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الحج، باب الصلاة في الكعبة "1/381".
وراجع في هذا الحديث أيضًا في: "نصب الراية": "2/319"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"128".
1 الحديث بهذا اللفظ لم أجده، وقد قال الزيلعي في كتابه: "نصب الراية": "2/449": "حديث غريب بهذا اللفظ.. والحديث لم أجده.."، وقال صاحب "المسودة" ص"142" بعد أن ذكره: "إن صح الخبر".
وأخرج الدارقطني في سننه في كتاب الحج "190-191": "عن يحيى بن الحماني، ثنا هشيم عن إسماعيل بن سالم عن مجاهد عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر الذي أفطر يومًا من رمضان بكفارة الظهار"، ثم قال: "والمحفوظ عن هشيم بن إسماعيل بن سالم عن مجاهد مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم".

(2/629)


شهرين؛ فغلب وجوب الكفارة في حق ذلك الواطئ بالخبرين جميعًا، وثبت وجوب الكفارة فيما عدا ذلك الواطئ بالخبر [86/ب] العام.
وإن كان له دليل خطاب؛ فإنه يقضي بدليل خطابه على العام؛ فيخرج منه ما تناوله دليله، وذلك مثل قوله عليه السلام: "في أربعين شاة شاة" ، مع قوله: "في سائمة الغنم زكاة" 1؛ لأن دليل الخطاب بمنزلة النطق في وجوب العمل به، والنطق الخاص يقضي به على النطق العام، وكذلك ههنا في قوله عليه السلام: "إذا كان الماء قلتين" 2،
__________
= وأخرجه أيضًا عن الليث عن مجاهد عن أبي هريرة، ثم قال: "وليث ليس بالقوي".
وقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، في كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم "2/782".
ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا أفطر في رمضان أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينا".
وحديث مسلم هذا أخرجه غير واحد من المحدثين، ومنهم البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصيام، باب رواية من روى هذا الحديث مطلقة.. "4/225". وهو حديث كما ترى مطلقًا للكفارة على كل من أفطر في رمضان بجماع أو غيره؛ ولكن جمهور العلماء حملوا الروايات المطلقة على المقيدة، كما قال البيهقي في: "سننه الكبرى": "4/225": "... ورواية الجماعة عن الزهري مقيدة بالوطء ناقلة للفظ صاحب الشرع أولى بالقبول؛ لزيادة حفظهم وأدائهم الحديث على وجهه؛ كيف وقد روى حماد بن مسعدة هذا الحديث عن مالك عن الزهري نحو رواية الجماعة".
1 سبق تخريج هذا الحديث ص"448".
2 تثنية "قلة" وجمعها "قلال"، وقد تجمع على "قلل"، والقلة: إناء للعرب كالجرة الكبيرة. وقد قيل: إن القلة من قلال هجر تسع فرقًا، والفرق يسع أربعة أصواع نبوي. وقيل غير ذلك. راجع: "مختار الصحاح" ص"575" مادة: "قلل"، و"المصباح المنير": "2/792" المادة المذكورة، و"المطلع على أبواب المقنع" ص"7".

(2/630)


لم ينجسه شيء1"، مع قوله: "الماء طهور، لا ينجسه إلا ما غير
__________
1 هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء "1/15".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب التوقيت في الماء "1/42".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب منه [أي من باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء] آخر "1/95".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس "1/172".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الوضوء، باب قدر الماء الذي لا ينجس "1/152".
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الطهارة، باب الفرق بين القليل الذي ينجس والكثير الذي لا ينجس ما لم يتغير "1/260".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة "13/25".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب الطهارة، باب الماء يقع فيه النجاسة "1/15".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الطهارة، باب طهورية الماء المطلق "1/41-42".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "2/12".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب أحكام المياه التي يجوز التطهير بها "1/19".
وأخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطهارة، باب الماء لا ينجسه شيء "1/80" والحديث قد روي بلفظ المؤلف الذي ساقه. وروي بلفظ: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" .
وأخرجه عنه الحاكم في كتاب الطهارة، باب إذا كان الماء قلتين؛ لم ينجسه شيء =

(2/631)


.................................
__________
= 1/132-133 والحديث قد روي مرفوعًا، كما روي موقوفًا على ابن عمر.
وهو حديث اختلف العلماء فيه:
فذهب بعضهم إلى تصحيحه، ومنهم الحاكم، حيث قال في "مستدركه": "1/132" عن رواية الوليد بن كثير -إحدى روايات الحديث: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين؛ فقد احتجا بجميع رواته"، ووافقه الذهبي. وصوب ذلك الشيخ أحمد شاكر في حاشيته على سنن الترمذي "1/99".
وسئل يحيى بن معين عن رواية حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فقال: إسنادها جيد، قيل له: فإن ابن علية؛ لم يرفعه؛ فقال: وإن لم يحفظه ابن علية؛ فالحديث جيد الإسناد.
ونقل عن ابن مندة قوله: إسناده على شرط مسلم.
وذهب بعضهم إلى تضعيفه، ومنهم ابن دقيق العيد، فقد قال: هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو: صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنه -وإن كان مضطرب الإسناد، مختلفًا في بعض ألفاظه- فإنه يجاب عنها بجواب صحيح، بأن يمكن الجمع بين الروايات، ولكني تركته؛ لأنه لم يثبت عندنا بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعًا في تعيين مقدار القلتين.
وقال ابن عبد البر في كتابه "التمهيد": ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين؛ مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت من جهة الأثر؛ لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم؛ ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع.
وقال في كتابه "الاستذكار": حديث معلول، رده إسماعيل القاضي.
وقال الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار": 1/16 ما محصله: أننا لم نعمل بالحديث؛ لأنه لم يتبين لنا مقدار هاتين القلتين، بدليل يستند إليه.
وقد وفى الكلام في هذا الحديث الزيلعي في كتابه "نصب الراية": "1/104-109"، والحافظ ابن حجر في كتابه "التلخيص" "1/16-20"، فارجع إليهما إن شئت.
راجع بالإضافة إلى ما سبق: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"12"، و"علل الحديث" لابن أبي حاتم "1/44"، و"بلوغ المرام": "1/3".

(2/632)


طعمه أو ريحه" 1؛ فإنه يحمل على القلتين؛ فيقضي بدليل خطابه عليه، فيخرج ما دون القلتين منه.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الحياض "1/174". ولفظه: "إن الماء لا ينجسه شيء؛ إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه" وفي إسناده: "رشدين بن سعد".
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الطهارة، باب ما نجاسة الماء الكثير "1/259" وفي إسناده أيضًا: "رشدين بن سعد".. ولم يذكر في هذه الرواية "اللون".
كما أخرجه بطريقين آخرين، غير الطريق الأولى، ولفظه في إحداهما: "إن الماء طاهر؛ إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه" .
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب الماء المتغير "1/28-29"، وفي إسناده "رشدين بن سعد". وقال الدارقطني عقب إخراجه: "لم يرفعه غير "رشدين بن سعد" عن معاوية بن صالح، وليس بالقوي، والصواب في قول راشد".
وتعقب الدارقطني في قوله: "لم يرفعه غير رشدين بن سعد" بأن الحديث أخرجه البيهقي في سننه "1/259-260" من طريقين آخرين، وقد مضى الإشارة إلى ذلك.
كما أخرجه الدارقطني عن "راشد بن سعد" مرسلًا، ولم يذكر في هذه الرواية: "اللون".
وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الطهارة، باب الماء يقع فيه النجاسة "1/6" عن "راشد بن سعد" مرسلًا.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطهارة، باب الماء لا ينجسه شيء وما جاء في ذلك "1/80"، عن "راشد بن سعد" مرسلًا.
وهذا الحديث متكلم فيه؛ فقد قال الإمام الشافعي فيما نقله عنه البيهقي فيه سننه=

(2/633)


فإن قيل: فقد ناقضتم في ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع ما لم يقبض"، وروي أنه قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" ؛ فكان يجب أن يقضي بدليل خطابه على اللفظ العام، ويخرج منه ما عدا الطعام.
قيل: تخصيص العام بدليل الخطاب واجب، إلا أن يمنع منه دليل أقوى من دليل الخطاب؛ فيسقط ويبقى دليل الخطاب، ويجب حمل العام على عمومه، وهذا دليل أقوى من دليل الخطاب، وهو التنبيه؛ فإن التنبيه آكد من الدليل؛ لأنه مجمع عليه، ودليل الخطاب مختلف فيه، فوجب ترك الدليل للتنبيه، ووجه التنبيه: أن الطعام إذا لم يجز بيعه قبل القبض مع حاجة الناس إليه؛ فلأن لا يجوز غيره أولى.
موجود في حال تلف السلعة، والقياس يترك له دليل الخطاب؛ لأنه يجري مجرى التخصيص؛ لأنه إسقاط بعض حكم اللفظ؛ فإن اللفظ يوجب إثباتًا ونفيًا؛ فإسقاط أحدهما بالقياس بمنزلة التخصيص بالقياس.
__________
= "1/260": "وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء ولونه وريحه، كان نجسًا، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله. وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه خلافًا".
على أن البيهقي نفسه قال قبل ذلك: "الحديث غير قوي".
وقال الدارقطني: لا يثبت هذا الحديث.
وقال النووري: اتفق المحدثون على تضعيفه.
ونقل ابن أبي حاتم في كتابه "علل الحديث": "1/44" عن أبيه قوله: ".. يوصله رشدين بن سعد"، يقول عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ورشدين ليس بقوي. والصحيح مرسل".
ومعنى الحديث قد قام الإجماع على اعتباره، قال ابن المنذر، كما نقل عنه ابن حجر في التلخيص "1/15": "أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير، إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت له طعمًا أو لونًا أو ريحًا؛ فهو نجس".
ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى: "تلخيص الحبير": "1/14-16"، و"بلوغ المرام" ص"3"، و"نصب الراية": "1/94-95"، و"التعليق المغني على سنن الدارقطني": "1/28-29".

(2/634)


ولأن القياس يقدم على دليل الخطاب؛ لأن ترك دليل الخطاب يجري مجرى تخصيص اللفظ العام، والقياس يدل على أن غير الطعام بمنزلته؛ لأنه إنما لم يجز بيع الطعام؛ لأنه لم يتعين بالعقد، وهذه العلة موجودة في غير الطعام.
وفي معنى هذا قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة؛ فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار" 1؛ لم يقض2 بدليل خطابه على عموم قوله: "إذا اختلف المتبايعان؛ فالقول قول البائع" 3 ولم يختص ذلك بقيام السلعة؛ لأن التنبيه مقدم على دليل الخطاب؛ لأنه متفق عليه، ووجه التنبيه: أنه إذا أمر بالتحالف، وهناك سلعة قائمة، يمكن أن يستدل بها على صدق أحدهما؛ فإذا كانت تالفة، لا يمكن الاستدلال على صدق أحدهما أولى.
ولأن القياس يوجب ترك دليل الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أمر بالتحالف؛ لأن كل واحد منهما مدعٍ ومدعًى عليه، وهذا المعنى
__________
1 هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه الدارمي في كتاب البيوع، باب إذا اختلف المتبايعان "2/166".
وأخرجه عنه الدراقطني في كتاب البيوع "3/20".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب البيعان يختلفان "2/737".
2 في الأصل: "يقضي".
3 هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم "2/255".
وأخرجه عنه الترمذي مرسلًا، في كتاب البيوع، باب ما جاء إذا اختلف البيعان "3/561".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب اختلاف المتبايعين في الثمن "7/266".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب البيوع "3/21".

(2/635)


الوجه الثاني:
إذا كان الخبر مختلفًا، مثل صيام وإطعام، صيام وصلاة؛ فإنه لا ينبني المطلق على [87/أ] المقيد، سواء كان السبب واحدًا، كالكفارة فيها صيام شهرين متتابعين وإطعام مطلق، أو كان مختلفًا، مثل الصيام يقيده بالبالغ، والزكاة أطلقها؛ فإنه لا يبنى المطلق على المقيد.
ولهذا قال أحمد رضي الله عنه في رواية ابن منصور: إذا أخذ في الصوم، فجامع بالليل؛ يستقبل، فإن أطعم بوطء شيء؛ ليس هذا من نحو هذا.
قال أبو بكر من أصحابنا: لأنه لم يشترط في الإطعام المسيس كما شرط في الأولين؛ فما شَرَطَه على شرطه، وما أطلقه على إطلاقه. والوجه في ذلك أنه إنما يحمل المطلق على المقيد، إذا كان الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين؛ إلا أنه مطلق في أحدهما مقيد في الآخر، وهذا معدوم في الجنسين.
ولأن المقيد مع المطلق بمثابة الخاص مع العام والمفسر مع المجمل، وهناك يجب أن يكون كل واحد من جنس الآخر، كذلك ههنا.

(2/636)


والوجه الثالث:
إذا كان الخبر واحدًا، والسبب مختلفًا؛ لكن [قيد] في موضعين بقيدين مختلفين، وأطلق في الثالث، كالصيام، قيد بالتتابع في الكفارة: فقال: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 1، وقيل: بالتفريق في التمتع،
__________
1 "4" سورة المجادلة.

(2/636)


فقال: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 1، وأطلق في كفارة الأيمان، فقال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 2، وفي رمضان، فقال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ} 3؛ ولهذا المطلق مثلان مقيدان مختلفان؛ فإنما يحمل المطلق على إطلاقه، ولا شيء على واحد منهما؛ لأنه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر.
وإنما أوجب أصحابنا التتابع في صيام كفارة اليمين، بدليل، لا أنه4 يحمله على المقيد.
وقد بين أحمد رحمه الله هذا في رواية صالح فقال: "وإن لم يكن فصيام5 ثلاثة أيام متتابعة" في قراءة ابن مسعود.
فبين أنه صار إلى التتابع في ذلك لهذا الدليل، وهي قراءة ابن مسعود6.
__________
1 "196" سورة البقرة.
2 "89" سورة المائدة.
3 "184" سورة البقرة.
4 في الأصل: "أنه لا".
5 في الأصل: "صيام".
6 وهي قراءة ثبتت بطريق الآحاد، وقد فصل الآمدي القول في ذلك في كتابه الإحكام "148/1".

(2/637)


الوجه الرابع:
إذا كان الجنس واحدًا والسبب مختلفًا، كالرقبة في كفارة القتل والظهار؛ فالرقبة جنس واحد، قيدت بالإيمان في كفارة القتل، وأطلقت في كفارة الظهار، وهما سببان مختلفان.
وكما قيد الأيدي إلى المرافق في موضع، وهو الغسل، وأطلقها في موضع، وهو المسح في التيمم؛ فهذا على روايتين:

(2/637)


إحداهما يبنى المطلق على المقيد من طريق اللغة، وقد أومأ أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب فقال: أحب إلي أن يعتق في الظهار مثله.
واحتج من قال بذلك:
بقول1 الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، وقال في موضع آخر: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 3، ولم يذكر عدلا، ولا يجوز إلا عدل، كذلك يكونون4 مسلمين، وظاهر هذا أنه بني5 المطلق على المقيد من طريق اللغة، كما بني الإطلاق في العدالة على المقيد منها.
وبهذه الرواية [87/ب] قال أصحاب مالك6.
وفيه رواية أخرى: لا يبنى المطلق على المقيد، ويحمل المطلق على إطلاقه.
أومأ إليه أحمد رضي الله عنه في رواية أبي الحارث فقال: التيمم ضربة للوجه والكفين، فقيل له: أليس التيمم بدلا من الوضوء، والوضوء إلى المرفقين؟ فقال: إنما قال الله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} 7، ولم يقل: إلى المرفقين، وقال في
__________
1 في الأصل: "قال".
2 "2" سورة الطلاق.
3 "282" سورة البقرة.
4 في الأصل: "يكون".
5 في الأصل: "بناء".
6 هذا العزو غير محرر، فأكثر المالكية على أنه لا يحمل المطلق على المقيد، كما صرح بذلك القرافي في كتابه: شرح تنقيح الفصول ص266.
7 "6" سورة المائدة.

(2/638)


الوضوء: {إِلَى الْمَرَافِقِ} 1، وقال: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2 فمن أين تقطع يد السارق؟ من الكف.
وظاهر هذا: أنه لم يبن3 المطلق في التيمم على المقيد في الوضوء، وحمله على إطلاقه.
وهو اختيار أبي إسحاق بن شاقلا، ذكره فيما وجدته بخطه معلقًا فقال: للمظاهر أن يطأ قبل الإطعام، وليس له ذلك في الصيام والعتق، وقال:
فإن قيل: المطلق يحمل على المقيد.
فقال:
إذا كان المذكور واحدًا في حكم واحد، كالشاهدين؛ فأما مثل رقبة القتل، ورقبة الظهار؛ فلأنهما حكمان، كذلك الإطعام والصيام؛ لأنهما جنسان، بلى لو ذكر الإطعام في موضع فأبهمه وذكره في موضع آخر فقيده؛ حملنا المطلق على المقيد.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال: مثل قولنا، وأنه يبنى المطلق على المقيد من طريق اللغة.
ومنهم من حمل المطلق على المقيد بالقياس عليه؛ لا من جهة اللغة وهو قول الأكثر منهم. وهو اختيار أبي بكر بن الباقلاني.
وهكذا الاختلاف في العام والخاص، نحو قوله: "فيما سقت السماء
__________
1 "6" سورة المائدة والآية في الأصل: "إلى المرفقين".
2 "38" سورة المائدة.
3 في الأصل: "يبني".

(2/639)


العشر" عام في القليل والكثير، وقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" خاص في المقدار؛ فهل يحمل العام على الخاص، على ما حكينا من الاختلاف في حمل المطلق على المقيد؟
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل وصالح: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"؛ فهو جملة1، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها" ؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد العصر.
__________
1 في الأصل: بدون إعجام لهذه الكلمة.

(2/640)


دليلنا:
أن العرب تطلق الحكم في موضع، وتقيده في موضع، والمراد بالمطلق المقيد.
يدل عليه قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} 1. وكذلك قوله تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} 2 وتقديره: والحافظات فروجهن3، والذاكرات الله كثيرًا.
وكذلك قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 4 وتقديره: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد.
__________
1 "155" سورة البقرة.
2 "35" سورة الأحزاب.
3 في الأصل: "فروجهم".
4 "17" سورة "ق".

(2/640)


وكذلك قول الشاعر:
[88/أ]
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف1
يعني: بما عندنا راضون2.
وقال آخر:
وما أدري إذا يممت أرضًا ... أريد الخير، أيهما يليني3؟
__________
1 هذا البيت نسبه سيبويه في "كتابه": "1/37-38" للشاعر قيس بن الخطيم واستشهد به المبرد في كتابه: "المقتضب": "3/112"، ولم ينسبه لأحد.
أما البغدادي في كتابه: "خزانة الأدب": "4/283" تحقيق عبد السلام هارون؛ فقد نسبه للشاعر: عمرو بن امرئ القيس، ثم بين بعد ذلك غلط من نسب البيت إلى قيس بن الخطيم بقوله: "وعرف من إيرادنا لهذه القصائد ما وقع من التخليط بين هذه القصائد، كما فعل ابن السيد واللخمي في شرح أبيات الجمل، وتبعهما العيني والعباسي في شرح أبيات التلخيص؛ فإنهم جعلوا ما نقلنا من شعر قيس بن الخطيم مطلع القصيدة، ثم أوردوا فيها البيت الشاهد، وهو: "الحافظو عورة العشيرة"، والشاهد الثاني، وهو: "نحن بما عندنا، وأنت بما عندك راض"، والحال: أن هذين البيتين من قصيدة عمرو بن امرئ القيس".
راجع بالإضافة إلى ما سبق: تعليق الأستاذ محمد عبد الخالق عظيمة في هامش المقتضب "3/113-122".
2 في الأصل: "راضي".
3 هذا البيت للشاعر المثقب العبدي. وهو من قصيدة، يقول في مطلعها:
أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألت، كأن تبيني
والبيت الذي بعد البيت الشاهد هو:
أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني؟
راجع في نسبة هذا البيت للشاعر المذكور: "معاني القرآن" للفراء "1/231"، والبيت عنده هكذا:
وما أدري إذا يممت وجهًا...
و"شرح اختيارات المفضل" للخطيب التبريزي "3/1267"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص"228"، و"الشعر والشعراء" له: "1/396"، و"الخزانة" للبغدادي "4/49" طبعة بولاق.

(2/641)


يعني: أريد الخير، وأتوقى الشر.
فإن قيل: إنما حملنا المطلق ههنا على المقيد؛ لأن أحد الكلامين غير مستقل بنفسه ولا مفيد؛ لأن قوله تعالى: {وَالذَّاكِرَات} ابتداء لا خبر له وكذلك قوله: "عين اليمين"، وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَات} ، وليس كذلك في مسألة الخلاف؛ لأن المطلق مقيد1 مستقل بنفسه؛ لأن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِم} 2 يفيد إطلاقه: إخراج ما يتناوله اسم الرقبة.
قيل: لا فصل بينهما؛ وذلك أن قوله: {وَالذَّاكِرَاتِ} مفيد أيضًا؛ فإنه يحمل على عمومه في ذكر الله وأنبيائه ورسله، وغير ذلك.
وكذلك قوله: {عَنِ الْيَمِينِ} يحمل على عمومه في كونه قعيدًا3 أو غير قعيد؛ لأن قعيدًا صفة زائدة.
وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} يحمل على عمومه في الابتداء بالنفس والنقصان منها.
فإن قيل: إنما وجب حمل4 المطلق هناك على المقيد بالعطف؛ فإن العطف يجعل المعطوف بمنزلة المعطوف عليه، كما إذا قال: "خرج
__________
1 في الأصل: "مقيد" بالقاف، وهو تصحيف عن "مفيد" بالفاء.
2 "3" سورة المجادلة.
3 في الأصل: "قعيد".
4 في الأصل: "حمله".

(2/642)


زيد وعمرو"، يكون تقديره: "وخرج عمرو"؛ فأما ههنا؛ فلم يعطف أحدهما على الآخر.
قيل: العطف إنما حمل على المعطوف لإطلاقه، لا لأجل حروف العطف.
يبين صحة هذا: أنه لو قيد العطف بحكم آخر، فقال: والحافظات ألسنتهن؛ لم يجب حمله على المعطوف في حفظ الفرج؛ لأنه مقيد1 بغيره2. وكذلك لو قال: والذاكرات رسل الله؛ لم يجب حمله على ما قبله من ذكر الله، لأجل تقيده3؛ فلما حمل على ما قبله عند الإطلاق؛ علم أن الموجب لذلك: الإطلاق، لا حرف العطف.
يبين صحة هذا: أنه قد يخالف العطف المعطوف4 عليه في الحكم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} 5، معلوم أن صلاة الملائكة غير صلاته.
وقد قيل: إنه لا يجوز أن يكون حمل عليه لهذه العلة، ألا ترى أن العموم يحمل على الخصوص إذا كانا في حكم واحد، نحوه قوله: "فيما سقت السماء العشر" هو عام في القليل والكثير، وقوله: "إذا كان خمسة أوسق" خاص؛ فيحمل عليه، وإن لم يكن عطفًا عليه، كذلك ههنا يجب أن يكون الحمل عليه، لا من جهة العطف.
__________
1 في الأصل: "مفيد" بالفاء المعجمة، وهو تصحيف عن "مقيد" بالقاف المعجمة.
2 في الأصل: "يغيره" بالمثناة التحتية فيهما، وهو تصحيف عن "بغير" بالتحتية الموحدة في الأولى، وبالمثناة التحية في الثانية.
3 الكلمة في الأصل بدون إعجام إلا للياء، وإعجامها اجتهادي بحسب السياق.
4 في الأصل: "للمعطوف"، والفعل: "يخالف" يتعدى بنفسه.
5 "43" سورة الأحزاب.

(2/643)


فإن قيل: لو كان هذا مقتضاه في اللغة؛ لوجب إذا انتفى هذا المعنى بلفظ يفارق المطلق، أن يكون مخرجًا له عن حقيقة كالعموم الذي يخرج عن موضوعه بدليل.
قيل: [88/ب] العموم إذا دخله التخصيص؛ لا يصير مجازًا عندنا. ويبين صحة هذا: أن الصحابة جعلت القرآن بمنزلة الآية الواحدة، يدل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال للخوارج1 -لما احتجوا عليه بآية من القرآن: "من فاتحته إلى خاتمته"، ومعناه: يجب أن يلتزم جميع ما فيه.
وأيضًا: فإن في بناء الخاص على العام جمعًا بين الخبرين وأخذًا بهما؛ فكان أولى من اطراح أحدهما، وفيما ذكرنا دلالة على من قال: لا يحمل المطلق على المقيد، وعلى من قال: يحمل عليه بالقياس.
واحتج من قال: لا يحمل عليه:
__________
1 الخوارج -كما يقول الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل": "1/114": "كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت عليه الجماعة، يسمى خارجيًا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان".
وكان أول ظهور هذه الفرقة الضالة في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حرب "صفين".
وقد كان من رأيهم قبول التحكيم، وقد حملوا علي بن أبي طالب على قبوله قائلين: "القوم يدعوننا إلى كتاب الله، وأنت تدعونا إلى السيف".
ثم صارت بعد ذلك فرقًا شتى يجمعها -كما يقول الشهرستاني في المرجع السابق: "القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك، ويكفرون أصحاب الكبائر، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة: حقًا واجبًا".
راجع أيضًا: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم "2/107".

(2/644)


بأنه المطلق المراد به معلوم بظاهره؛ فوجب أن يحمل عليه، ولا يعدل به عنه إلا بدليل، والخاص ليس بدليل؛ لأن التخصيص إنما يقع بما يخالف الظاهر ويعارضه؛ فأما بما يوافقه فلا، والمقيد يوافق المطلق؛ فوجب أن لا يخص به.
والجواب: أن المقيد يخالف المطلق ويعارضه؛ لأن تقييده يدل على أن ما عداه بخلافه، وإذا كان كذلك فقد خصصناه بما عارضه.
وجواب آخر، وهو: أن المطلق وإن كان معلومًا؛ فإنه معلوم من حيث الظاهر، والخاص معلوم من حيث القطع؛ فيجب أن يحمل عليه، كالخاص والعام إذا تعارضا في حكم واحد؛ فإنه يقضى بالخاص عليه؛ لأنه مقطوع عليه، وإن كنا نعلم أن العام معلوم ظاهره؛ فكان يجب أن يتعارضا فيسقطا، أعني: العام والخاص؛ لأن كل واحد منهما معلوم بظاهره، ولما قضي بالخاص على العام، كذلك ههنا.
وقولهم: إن التخصيص إنما يقع بما يخالف الظاهر ويعارضه، وكذا نقول؛ إلا أن دليل الخطاب الخاص يعارض الظاهر عندنا ويخالفه، وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في دليل الخطاب.
واحتج: بأن شروط الإيمان في كفارة الظهار زيادة في النص، وذلك نسخ؛ والنسخ لا يجوز بالقياس ولا بخبر الواحد، قالوا: والذي يدل على أنه نسخ: أن النسخ هو حظر ما أباحته الآية، وإباحة ما حظرته؛ فلما كان شرط الإيمان في رقبة الظهار يوجب حظر ما أباحته الآية من جوازها عن الكفارة؛ وجب أن تكون هذه الزيادة نسخًا.
والجواب: أن هذين ليس بزيادة؛ وإنما هو تخصيص ونقصان؛ لأن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1 شائع في الجنس، مؤمنة وكافرة،
__________
1 "92" سورة النساء.

(2/645)


وسليمة ومعيبة.
وقوله: لا تجزي إلا مؤمنة نقصان؛ فهو كما لو قال: أعط درهمًا من شئت من هؤلاء العشرة؛ فإذا قال: إلا زيدًا فلا تعطه؛ هذا نقصان وتخصيص، كذلك ههنا.
وعلى أنها لو كانت زيادة في النص؛ [89/أ] لم تكن نسخًا؛ وإنما هي زيادة حكم؛ لأن النسخ هو الإسقاط.
واحتج: بأن الخصوص إنما يرد على الأعيان المنطوق بها، دون المعاني التي لم ينطق بها، وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} هو المنطوق بها؛ فأما صفاتها مؤمنة وكافرة، وسليمة ومعيبة، فما تناولها.
والجواب: أن التخصيص ما دخل إلا على الأعيان؛ لأن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} شائعة في الجنس أي رقبة كانت؛ فإذا قلنا: إلا مؤمنة؛ كان تخصيص الأعيان، فكأنه أخرج من هذا الشائع في جنسه عينًا موصوفة، فالتخصيص دل على الأعيان. ومثال هذا: لو قال: أعط درهمًا من شئت من هؤلاء العشرة إلا الفقيه منهم؛ فإنه قد أخرج منهم واحدا موصوفا، كذلك ههنا، وإذا قال: أعتق رقبة إلا كافرة؛ أخرج رقبة موصوفة.
واحتج: بأن قياس المنصوصات بعضها على بعض لا يجوز؛ لأنها قد استغنت بدخولها تحت النص على القياس على غيرها، ولهذا لم يجز قياس التيمم على الوضوء في إيجاب مسح الرأس والقدمين، ولا قياس السارق على المحارب في قطع رجله، ولا قياس كفارة القتل على الظهار في إيجاب الإطعام؛ لأن كل واحد من ذلك منصوص عليه، كذلك ههنا.
والجواب: أن هذا ليس بقياس المنصوص عليه على المنصوص؛ وإنما هو حمل المسكوت عنه على المنصوص عليه.

(2/646)


وإنما لم يحمل التيمم على الوضوء في إيجاب [مسح] الرأس والقدمين؛ لأنهما غير مذكروين في التيمم؛ وإنما يحمل المطلق على المقيد إذا كان الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين إلا أنه مطلق في أحدهما مقيد في الآخر كالرقبة هي مذكورة في الظهار والقتل؛ إلا أنها مقيدة في أحدهما، مطلقة في الآخر، وكذلك الإطعام غير مذكور في كفارة القتل. وكذلك قطع الرجل غير مذكور في قطع السارق؛ وإنما اعتبرنا وجود الحكم المختلف فيه في الموضعين؛ لأن المطلق والمقيد كالفرع والمقيد كالأصل.
واحتج: بأنه ليس حمل المطلق على المقيد بأولى من حمل المقيد على المطلق.
والجواب: أن في بناء المقيد على المطلق إسقاط ما تناوله النص، وبناء المطلق على المقيد تخصيص، والتخصيص جائز، والإسقاط غير جائز؛ فهو كما قلنا في العموم والخصوص: يخص العموم، ولا يسقط الخصوص.
وهكذا الجواب عن أن الرقبة لو كانت مفسرة؛ لم يجز البناء، كذلك إذا كانت مطلقة؛ لأنها إذا كانت مقيدة، كان في البناء إسقاط النص، وهذا معدوم في بناء المطلق على المقيد.
فإن قيل: أليس قد قلتم: إذا كان أول الآية عامًا وآخرها خاصًا، أو كان [89/ب] أولها مطلقًا وآخرها مفسرًا؛ لم تقضوا بآخرها على أولها، نحو [89/ب] قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1 ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 2، حملتم أولها
__________
1 "228" سورة البقرة.
2 "228" سورة البقرة.

(2/647)


على عمومه في البوائن والرجعيات، ولم تخصوه بآخرها في الرجعيات.
قيل: هذا ليس من قبيل1 المطلق والمقيد؛ لما بينا أن من شرطه أن يكون الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين، وهذا غير مذكور في آخر الآية، ولا هو أيضًا من قبيل الخاص والعام بآيتين؛ لأنه إذا قضينا بآخرها على أولها؛ منعنا2 صيغة العموم في أولها، وإذا كان آيتين؛ لم يمنع العموم من أحدهما.
واحتج: بأن حمل العام على الخاص إهمال العام؛ لأنه يقتضي الاستغراق؛ فإذا خصصناه أهملناه.
والجواب: أنه ليس بإهمال؛ وإنما هو جمع، ولا يمكن إلا على هذا الوجه.
واحتج من قال: يحمل عليه بالقياس.
بأن هذا تخصيص في الحقيقة؛ لأنه إذا قال: أعتق رقبة؛ فإن هذا لفظ شائع عام في الرقاب كلها؛ فإذا قلنا: إن الرقبة الكافرة لا تجزي؛ خصصنا بعض الرقاب، وأخرجناها عن كونها مجزئة؛ فيكون ذلك تخصيصًا للعموم، والتخصيص جائز بالقياس.
والجواب: أنه تخصيص كما ذكرت؛ ولكن ليس يجب أن يكون التخصيص بالقياس، بل يجوز أن يكون التخصيص، وبلفظ خاص، كما كان تخصيص العموم بالخصوص إذا تعارضا في حكم واحد.
واحتج: بأن قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3
__________
1 في الأصل: "قيض" بدون إعجام.
2 في الأصل: "ومنعنا"، وهذه الواو زائدة؛ لذلك حذفناها.
3 "92" سورة النساء.

(2/648)


لا يصلح لقوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1؛ فلم يجز أن يكون أحدهما قاضيًا على الآخر بلفظه: ولا مشاركًا له من جهة العطف؛ فوجب اعتبار المعنى.
والجواب: أن قوله: {وَالذَّاكِرَاتِ} 2، لا يصلح، لقوله: {وَالذَّاكِرِينَ} ومع هذا فقد قضى بأحدهما على الآخر. وكذلك قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 3. وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} 4 لا يصلح، لقوله: {مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} ، وقد منعنا أن يكون الموجب لذلك حرف العطف، وبينا أن الموجب لذلك الإطلاق، بدليل أنه لو قيد العطف؛ لم يجز حمله على المعطوف عليه.
__________
1 "3" سورة المجادلة.
2 "35" سورة الأحزاب.
3 "17" سورة ق.
4 "155" سورة البقرة.

(2/649)


مسألة أقل الجمع المطلق ثلاثة
مدخل
...
مسألة 1 : أقل الجمع المطلق ثلاثة:
وعلى هذا الأصل قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل في رجل وصى أن يكفر عنه فقال: أقل ما يكفر ثلاثة أيمان.
قال الخرقي فيمن قالت له زوجته: "اخلعني على ما في يدي من الدراهم"؛ ففعل، فلم يكن في يدها شيء: لزمها ثلاثة دراهم2.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص149، و"روضة الناظر" وشرحها، "نزهة الخاطر العاطر" 2/137-140.
2 كلام الخرقي هذا موجود بنصه في "مختصره"، في كتاب الخلع ص"151".

(2/649)


وقال رحمه الله في رواية صالح: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 1 ؛ فيلزمه أن لا [90/أ] يحجب بالأخوين؛ لأنه قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} ، والإخوة ثلاثة.
وبهذا قال مالك2 وأصحاب أبي حنيفة3 وأكثر أصحاب الشافعي4.
وحكى عن أصحاب مالك5، وقوم من النحويين منهم علي بن عيسى6،
__________
1 "11" سورة النساء.
2 نقله عبد الوهاب عن الإمام مالك، كما حكى ذلك القرافي في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"233" .
3 راجع في مذهب الحنفية: "أصول السرخسي" : "1/151-154" ، و "تيسير التحرير" : "1/206-209" ، و "مسلم الثبوت" الطبعة المجردة "1/203-205" .
4 راجع في هذا: "نهاية السول" : "2/349" ، و "جمع الجوامع" مع شرحها للجلال المحلى "1/419" ونسبه الآمدي في كتابه "الإحكام" : "2/204"، إلى الإمام الشافعي وجماعة من أصحابه.
5 نقله القاضي أبو بكر عن الإمام مالك، ذكر ذلك القرافي في كتابه: "تنقيح الفصول" ص"233" .
6 هو: علي بن عيسى بن الفرج بن صالح أبو الحسن الربعي الزهري، من أئمة النحو وحذاقهم. أخذ عن السيرافي، ورحل إلى "شيراز" فأخذ عن أبي علي الفارسي، ولازمه مدة عشرين سنة تقريبًا، وبعد ذلك عاد إلى بغداد، وأقام بها بقية عمره. له مؤلفات، منها: "البديع" في النحو، و "شرح كتاب الإيضاح" لأبي علي الفارسي، مات لعشر بقين من شهر محرم سنة 420هـ، وله من العمر اثنتان وتسعون سنة.
له ترجمة في: "البداية والنهاية" : "12/27" ، و"بغية الوعاة" : "2/181"، و"شذرات الذهب" : "3/216"، و"نزهة الألباء" ص"414" .

(2/650)


وأبو بكر ابن الباقلاني1، وبعض الشافعية: أقله اثنان2.
__________
1 حكى ذلك عنه القرافي في كتابه: "تنقيح الفصول" ص"233".
2 وعلى رأس هؤلاء الغزالي، كما حكى ذلك عنه الآمدي في "الإحكام": "2/204"، ولكن الأصح عند الشافعية أن أقل الجمع ثلاثة، كما صرح بذلك الجلال المحلى في شرحه على "جمع الجوامع": "1/419".

(2/651)


دليلنا:
إجماع الصحابة، روي عن عبد الله بن عباس أنه قال لعثمان بن عفان رضي الله عنهما: أن الأخوين لا يردان الأم إلى السدس؛ إنما قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 1، وليس أخوان إخوة في لسان قومك؛ فقال عثمان: لا أستطيع2 أمرًا كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار3.
وهذا يدل على أن أقل الجمع ثلاثة؛ لأن ابن عباس قاله، وأقره عثمان عليه؛ وإنما صرفه عنه بالإجماع الذي ذكره.
__________
1 "11" سورة النساء.
2 في الأصل: "أنقص" بالصاد المهملة، وفي رواية الحاكم والبيهقي ".. أن أرد" .
3 أثر ابن عباس -رضي الله عنه- هذا أخرجه الحاكم في: "المستدرك" في كتاب الفرائض، باب ميراث الأخوة من الأب والأم "4/335" ، وقال بعد ذلك: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه" ، ووافقه على ذلك الذهبي في تعليقه على المستدرك.
وتعقب الحافظ ابن حجر في كتابه "تلخيص الحبير" : "3/85" ، الحاكم في تصحيحه، حيث قال: "وفيه نظر؛ فإن فيه شعبة مولى ابن عباس، وقد ضعفه النسائي" .
وأخرجه البيهقي في: "السنن الكبرى" ، وفي كتاب الفرائض، باب: فرض الأم "6/227" .

(2/651)


فإن قيل: فقد روي عن زيد بن ثابت: أقل الجمع اثنان1.
قيل: إن صح هذا؛ فيحتمل أن يكون معناه، أن الاثنين في حكم الجمع في حجب الأم.
وأيضًا: فإن أسماء الحقائق لا تنتفي عن مسمياتها؛ فلو كان اسم الجمع يقع على الاثنين حقيقة؛ لم يحسن أن يقول القائل: ما رأيت رجالًا؛ وإنما رأيت رجلين؛ فلما صح نفي ذلك؛ دل على أن الرجلين إذا سميا رجالًا كان مجازًا، وكان بمنزلة قوله: ما هذا أبي وإنا هو جدي، وما هذا بابني وإنما هو ابن ابني.
وأيضًا: فإن أهل اللغة فرقوا بين التوحيد والتثنية والجمع، وجعلوا للإفراد بابًا وللتثنية بابًا وللجمع بابًا، ولا يخلو لهم كتاب من هذا الترتيب، وإذا كان كذلك؛ وجب أن يختص الجمع بما زاد على الاثنين، كما اختصت التثنية بما زاد على الواحد.
وأيضًا: فإنهم إذا أرادوا بيان عدد الجمع ومقداره؛ بدءوا من الثلاثة، فقالوا: "ثلاثة رجال"، و"أربعة رجال" ولم يقولوا: "اثنان رجال"، وقالوا: "جماعة رجال"، ولم يقولون: "جماعة رجلين"؛ فدل هذا على ما ذكرنا.
__________
1 هذا الأثر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أخرجه عنه الحاكم في: "المستدرك" في كتاب الفرائض، باب ميراث الإخوة "4/335"، ولفظه: "... عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه كان يقول: الإخوة في كلام العرب أخوان فصاعدًا"، ثم عقب عليه بقوله: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".
وأخرجه عنه البيهقي في: "السنن الكبرى"، في كتاب الفرائض، باب فرض الأم "6/227".

(2/652)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بقوله تعالى لموسى وهارون: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ

(2/652)


مُسْتَمِعُونَ} 1 ولم يقل: معكما؛ فدل على أن معنى اللفظين واحد.
والجواب: أن الله تعالى إنما أراد بذلك: موسى وهارون، ومن آمن معهما من قومهما.
واحتج: بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 2؛ فعبر عن الإخوة بالأخوين.
والجواب: أن المراد به: أيها المؤمنون أنتم إخوة، يعني كل واحد منكم أخ لصاحبه، فأصلحوا بين كل أخ قاتَلَ أخاه.
ويحتمل أن يكون المراد بالأخوين: الطائفتين [و]الجماعتين [90/ب] والقبيلتين لأن اسم الأخوين يقع على ذلك. قال الشاعر:
فالْحَقْ بحلفك في قضاعة إنما ... قيس عليك وخندف أخوان3ِ
فسمى القبيلتين أخوين، فيصير تقدير الآية: أيها المؤمنون أنتم الإخوة، فأصلحوا بين كل طائفتين من المؤمنين اقتتلوا.
وعلى أنه لا حجة في ذلك؛ لأنه عبر عن الإخوة بالأخوين.
واحتج بقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 4؛ فجعلهما طائفتين، ثم أضاف الفعل إليهما بلفظ الجمع.
والجواب: أن الطائفة اسم للجماعة، بدلالة قوله: {وَلْتَأْتِ
__________
1 "15" سورة الشعراء.
2 "10" سورة الحجرات.
3 لم أقف على قائله.
4 "9" سورة الحجرات.

(2/653)


طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} 1، ولو كانت الطائفة واحدًا، لم يقل: {لَمْ يُصَلُّوا} ؛ فصار المراد به: وإن جماعة من المؤمنين اقتتلوا.
واحتج بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 2 ؛ وإنما هما قلبان.
والجواب: أن هذا ليس مما نحن فيه بشيء3 ؛ لأن كل شيء يكون بعضًا لشيء؛ فإن أهل اللسان يعبرون عنه في حال التثنية بلفظ الجمع؛ ليفصلوا به بين ذلك وبين الشيء الذي ليس بعضًا من المضاف إليه، يقولون للاثنين: هذه رءوسكما، وهذه وجوهكما؛ ألا ترى أن الشيء إذا لم يكن بعضًا من المضاف إليه؛ لم يصح ذلك فيه؛ ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: هذه أثوابكما4، وهذه دوركما، ويريد به ثوبيهما وداريهما، ولكن يقول: هذان ثوباكما وداراكما.
وقيل فيه: إنه لما كان أكثر ما في البدن من الجوارح اثنين اثنين، أقيم القلب أيضًا مقام عضوين؛ فصار في التقدير: كما لهما5 أربعة قلوب؛ فلهذا صح أن يقول: {قَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} .
واحتج بقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 6 ؛ فأضاف الفعل إليهما بلفظ الجمع.
__________
1 "102" سورة النساء. والآية في الأصل: "وليأت" بالمثناة التحتية.
2 "4" سورة التحريم.
3 في الأصل: "سيل" بدون إعجام للحرف الأول والثاني.
4 في الأصل: "أبوابكما".
5 في الأصل: "كان لها".
6 "19" سورة الحج.

(2/654)


والجواب: أن الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، يقال: رجل خصم، ورجال خصم، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون ذلك عبارة عن جمعين.
فإن قيل: كان جبريل وميكائيل.
قيل: يجوز أن يكون مع كل واحد منهما ملائكة، وهكذا الجواب عن قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 1 ؛ لأنه يجوز أن يكون المراد به الجماعة, وتكلم الواحد منهم، وهو القائل منهم: {هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 2، يبين ذلك قوله: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} 3، ولو كانا اثنين لقال: بغى أحدنا على الآخر. ولم يقل: بغى بعضنا على بعض؛ لأن ذلك إنما يقال: في الجماعتين والقبيلتين.
واحتج بقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إلى قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} 4 ، فأضاف الفعل إليهما في أول الآية بلفظ التثنية، وفي آخرها [91/أ] بلفظ الجمع.
والجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد به: حكم داود وسليمان وقومهما؛ لأنه تعالى قال: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} .
ويحتمل أن يكون المراد به: الحكم المشروع لأمة داود، كما يقال: هذا حكم المسلمين، يريد به: الحكم المشروع لهم.
وقيل: المراد به: حكم الأنبياء، والكناية عن جماعتهم.
__________
1 "21" سورة ص.
2 "23" سورة ص.
3 "22" سورة ص.
4 "78" سورة الأنبياء.

(2/655)


وقيل: إنه لا بد من محكوم له، فيكون داود وسليمان والمحكوم له، وهو صاحب الكرم؛ لأن الحكم يضاف إلى الحاكم بفعله، وإلى المحكوم له باستحقاقه؛ ولذلك يجوز له مطالبة الحاكم به، فلهذا قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} .
فإن قيل: لم يجر ذكر المحكوم له؛ وإنما جرى ذكر الحاكمين.
قيل: ذكر الحاكمين يتضمن ذكر المحكوم له، فكني عن الجميع.
وقيل: إنه على سبيل التفخيم والتعظيم، كما قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، وهو واحد لا شريك له، وقال: {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونََ} 1 وأراد به عائشة رضي الله عنها2. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 3، يعني عائشة.
واحتج بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 4 وكان الاثنان في حكم الثلاثة.
والجواب: أن ظاهر الآية كان يقتضي أن لا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا ثلاثة إخوة؛ إلا أنا عدلنا بالآية عن ظاهرها لقيام الدلالة.
واحتج بقوله تعالى في يوسف وأخيه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} 5 .
__________
1 "26" سورة النور.
2 وقال ابن قتيبة في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" ص"284" : "يعني عائشة وصفوان بن المعطل" .
3 "11" سورة النور.
4 "11" سورة النساء.
5 "83" سورة يوسف.

(2/656)


والجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد به: يوسف وأخوه الذي وجدت السقاية في رحله، والأخ الذي يخالف وقال: {لَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} 1 .
ويحتمل أن يكون أطلق لفظ الجمع مجازًا ، كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} 2، وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ} 3 قيل: إنه كان واحدًا.
واحتج بقوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" 4 .
__________
1 "80" سورة يوسف، والآية في الأصل بحذف كلمة "لي" الأخيرة في الآية.
2 "99" سورة المؤمنون.
3 "173" سورة آل عمران.
4 هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب الاثنان جماعة "1/312"، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: "اثنان فما فوقهما جماعة" .
وأخرجه عنه الحاكم في كتابه "المستدرك" في كتاب الفرائض، باب الاثنان فما فوقهما جماعة "4/334".
وفي إسنادهما: "الربيع بن بدر"، وهو -كما يقول الحافظ ابن حجر في كتابه "التلخيص": "3/81-82": ضعيف، وأبوه مجهول.
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب الاثنان جماعة "1/280-281"، وفيه: "الربيع بن بدر"، كما أخرجه في الموضع المذكور عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولفظه فيهما مثل لفظ ابن ماجه، وفي إسناده الأخير: عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، قال فيه البخاري: "تركوه"، وبمثل قوله قال الحافظ في "التلخيص".
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا، ولفظه مثل لفظ ابن ماجه: قال الحافظ الهيثمي في كتابه الزوائد "2/45"، بعد سياق الحديث: "وفيه: مسلمة بن علي، وهو ضعيف".
كما أخرجه عنه الطبراني أيضًا والإمام أحمد بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي وحده؛ فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا، فيصلي معه" ؟ فقام رجل، فصلى معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذان جماعة" قال الهيثمي -بعد سياقه: "وله طرق كلها ضعيفة".
وقد بوب البخاري في "صحيحه" في كتاب الأذان "1/158" بقوله: باب اثنان فما فوقهما جماعة، وساق حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه: "فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما" .

(2/657)


الجواب: أنه قصد به بيان حكم الجمع في الصلاة، وأنه يحصل بالاثنين، وإن لم يكن في اللغة جميعًا، ولم يقصد به بيان الجمع؛ لمشاركة الصحابة له في معرفة الأسماء اللغوية.
واحتج: بأن الجمع معناه: الضم؛ فإذا ضم واحد إلى واحد؛ وجد معنى الجمع.
والجواب: أن الاشتقاق لا يدل على حقيقة الاسم؛ لأن اسم الدابة مشتق من دب يدب على الأرض، ولا يسمى الآدمي دابة، وسائر ما يدب على الأرض دابة حقيقة؛ لوجود المعنى الذي اشتق منه. وكذلك سميت الخابية1؛ لما يخبأ فيها، ولا يسمى الصندوق خابية، وإن كان يخبأ فيه.
وجواب آخر، وهو: أن الضم قد يوجد في الأعداد المختلفة، والأجسام المتقاربة، ولم يكن ذلك [91/ب] موجبًا لكون جميع ما ضم في حكم الشيء الواحد.
وهكذا الجواب عن قولهم: إن الواو حقيقتها الجمع.
__________
1 "الخابية" أصلها: "الخابئة" بالهمز، ولكن العرب تركت الهمزة استثقالًا لها.
انظر: "اللسان"، مادة "خبأ": "1/55".

(2/658)


واحتج: بأن الاثنين قد يخبران عن أنفسهما بلفظ الجمع، فيقولان: فعلنا كذا وكذا.
والجواب: أنه باطل بالواحد يخبر عن نفسه بلفظ الجمع، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 ، على أنه إنما يخبر بذلك الاثنان عن أنفسهما؛ لأن الإضافة إليهما كافية في التمييز، يعلم2 بهذا أن هذا اسم للاثنين؛ فأما حالة الإطلاق؛ فليس هناك ما يقع به التمييز لتعرفه بلفظ التثنية والجمع.
ثم نعارض هذا بمثله، فنقول: قد فرقوا بين الاثنين والجماعة في المواجهة؛ فقالوا: أنت وأنتما وأنتم، وكذلك: هو3 وهما وهم، فسقط ما قالوه.
__________
1 "9" سورة الحجر.
2 كلمة "نعلم" بدون إعجام في الأصل.
3 في الأصل: "هذا" .

(2/659)


مسائل الإستثناء
مدخل
...
مسائل الاستثناء: 1
الاستثناء: كلام ذو صيغ2 محصورة، تدل على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول3.
__________
1 راجع مسائل الاستثناء في: "المسودة" ص"152-160"، و "شرح الكوكب المنير" ص"183-199".
2 في الأصل: "ذو صيغة"، وقد ذكر المؤلف بعد ذلك الكلمة: "صيغ" كما أثبتناها.
3 تعقب المؤلف في "المسودة" ص"154"، بأن هذا التعريف، إنما هو تعريف "الاستنثاء" عند النحاة؛ أما تعريفه عند الفقهاء، فهو أعم من ذلك، إذ إن الاستثناء عندهم يكون بالمفرد، كما عند النحاة، ويكون بالجملة، كقولك: له هذه الدار، ولي منها هذا البيت.

(2/659)


ولا يدخل على هذا التخصيص وأدلته المنفصلة، أنها ليست باستثناء وإن كان هذا المعنى موجودًا فيها؛ لأن تلك الأشياء ليست تختص بالقول، ألا ترى أن التخصيص يكون تارة بقول صاحب الشريعة، وتارة يكون بدليل العقول، وليس ذلك بقول؟
ولا يلزم عليه القول المتصل بلفظ العموم، نحو قولهم: "رأيت المؤمنين، وما رأيت زيدًا، ولم أر عمرًا وخالدًا" ؛ لقولنا: "كلام ذو صيغ محصورة" . وحروف الاستثناء محصورة، وليس الواو منها.

(2/660)


مسألة الاستثناء إنما يصح إذا اتصل بالكلام
مدخل
...
مسألة 1 : الاستثناء إنما يصح إذا اتصل بالكلام:
فأما إذا انقطع فإنه لا يعمل.
وقد ذكره الخرقي في كتاب الإقرار2 فقال: "ومن أقر بعشرة دراهم وسكت3 سكوتًا يمكنه4 الكلام فيه، ثم قال: زيوفًا، أو صغارًا، أو إلى شهر؛ كانت عشرة وافية جيادًا5 حالة" .
وقد اختلفت الرواية عنه في الاستثناء في اليمين6.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"152-153"، و "شرح الكوكب المنير" ص"188-190".
2 ص"99" من "مختصر الخرقي".
3 في "مختصر الخرقي" ص"99": "ثم سكت...".
4 في "مختصر الخرقي" ص"99": "... كان يمكنه الكلام فيه..".
5 في "مختصر الخرقي" ص"99" تقديم كلمة: "جياد" على كلمة "وافية".
6 فصل المرداوي في كتابه: "الإنصاف" في كتاب "الأيمان": "11/25-27" القول في الروايات في هذه المسألة، فارجع إليه إن شئت.

(2/660)


فقال في رواية أبي طالب: إذا حلف بالله، وسكت قليلًا، ثم قال: إن شاء الله؛ فله استنثاؤه؛ لأنه يكفر.
وكذلك نقل المروزي عنه رضي الله عنه: إذا كان بالقرب ولم يختلط كلامه بغيره.
وظاهر هذا جواز الفصل بزمان يسير ما دام في المجلس.
وقد نقل أبو النصر1 وأبو طالب عن أحمد رحمه الله: ما يدل على أنه لا يصح إذا فصل.
وهو اختيار الخرقي؛ لأنه قال: "إذا لم يكن بين اليمين والاستثناء فصل2" .
وهو الصحيح.
وبه قال جماعة الفقهاء والمتكلمين.
وحكي عن عبد الله بن عباس: جواز الاستثناء، وإن كان منطقعًا.
__________
1 هو: إسماعيل بن عبد الله بن ميمون أبو النضر العجلي المروزي، سمع من الإمام أحمد، ونقل عنه مسائل كثيرة، كما سمع عبيد الله بن موسى العبسي، وعبد الرحمن بن قيس الزعفراني وغيرهما. وروى عنه محمد بن خلف الدوري وأبو الحسن المنادي وغيرهما. مات سنة 270هـ.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/105-106".
2 انظر: "مختصر الخرقي" ص"217"، والعبارة فيه: "... إذا لم يكن بين اليمين والاسثتناء كلام".

(2/661)


دليلنا:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر [92/أ] عن يمينه" 1، ولو
__________
1 هذا الحديث رواه عبد الرحمن بن سمرة القرشي العبشمي رضي الله عنه مرفوعًا.

(2/661)


كان الاستثناء يرفعهما بعد مدة، كان الخلاص به أسهل من الحنث والكفارة؛ فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم خلاصه منها بالحنث والكفارة؛ ثبت أنه لا خلاص له بغير ذلك.
ولأن الاستثناء جارٍ1 مجرى الشرط؛ لأنه إذا انفصل عما قبله لم يعد، ألا ترى أنه إذا قال: اضرب زيدًا أو أعطه درهمًا، ثم قال بعد يوم: إذا قام، أو أكل؛ لم يعد ذلك، ولم يكن شرطًا صحيحًا. كذلك قوله: له عشرة، أو قال: والله لا أكلت الخبز، ثم قال بعد شهر: يومي هذا، لم يقبل2 ذلك؛ فلم يكن صحيحًا.
ويفارق هذا النسخ والتخصيص؛ لأن لفظ النسخ ولفظ التخصيص
__________
= أخرجه عنه البخاري في كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعد": "8/184".
وأخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينًا، فرأى غيرها خيرًا منها.. "3/1273".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب الرجل يكفر قبل أن يحنث "2/205".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور، باب فيمن حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها "4/106".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأيمان والنذور باب الكفارة قبل الحنث "7/10".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الكفارات، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها "1/681".
وأخرجه عنه الدارقمي في كتاب الأيمان والنذور "2/107".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "بلوغ المرام" ص"173".
1 في الأصل: "جاري".
2 في الأصل: "يقل".

(2/662)


مقيد بانفراده؛ فلهذا جاز أن يتأخر.
ولأن تصحيحه يفضي إلى أن لا يستقر حكم الخطاب أبدًا، ولا يعتقد وجوب ما أمر به الرسول ويتعبد به؛ لجواز أن يعقبه باستثناء يرفعه، وهذا ظاهر الفساد.
ويفارق هذا النسخ؛ لأن النسخ يرفع الحكم حال وجوده، بعد أن سبق اعتقاد الحكم وثبت قبل ورود النسخ، فلا يرفع الحكم حال وجوده؛ فلا يرفع حكم الخطاب بكل حال. والاستثناء إذا ورد؛ تبينا أنه لم يثبت للخطاب حكم فيرفعه بكل حال.
ويفارق هذا التخصيص؛ لأنه يجوز تأخيره عن وقت الخطاب1 ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة؛ فلا يؤدي إلى إسقاط حكم اللفظ على التأبيد، والاستثناء على قول غيره يرد أبدًا، فيرفع حكم الخطاب.
__________
1 من قوله: "لأنه يجوز..." إلى هنا مكرر في الأصل.

(2/663)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لأغزون قريشًا" ، ثم سكت ساعة ثم قال: "إن شاء الله" 1؛ فلولا صحة الاستثناء لم يذكره.
__________
1 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود، في كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت "207/2"، كما أخرجه عن عكرمة مرسلًا.
وأخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ابن حبان في "صحيحه" وأبو يعلى في "مسنده"، قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": هذا حديث رواه شريك ومسعر؛ فأسنداه مرة، وأرسلاه أخرى.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" عن عبد الواحد بن صفوان عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا. أما ابن القطان فقد ذكره من جهة ابن عدي، وقال: و "عبد الواحد" هذا ليس حديث بشيء، والصحيح مرسل.
انظر: "نصب الراية": "3/302-303"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"793".

(2/663)


والجواب: أن قوله: "إن شاء الله" ؛ لم يكن على وجه الاستثناء؛ وإنما كان على معنى أن الأفعال المستقبلة تقع بمشيئة الله تعالى؛ ولهذا قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1 .
واحتج: بأنه معنى يرفع اليمين؛ فجاز أن يقع منفصلًا كالكفارة.
والجواب: عن الكفارة ما ذكرناه في النسخ، وهو أن تأخر الكفارة لا يرفع حكم اليمين بكل حال، والاستثناء يرفع حكمها، وإن قاسوا على النسخ وعلى التخصيص؛ فالكلام عليه ما ذكرنا.
وفيما ذكرنا من الخبر والشرط دلالة على من أجاز ذلك في المجلس؛ لأن الشرط والجزاء متى تفرقا بقدر المجلس لم يصح، كذلك الاستثناء.
فإن قيل: المجلس يجري مجرى حال العقد، بدليل قبض رأس مال السلم وثمن الصرف.
قيل: اعتبار هذا بالشرط والجزء أشبه، لما ذكرنا.
__________
1 "23" سورة الكهف.

(2/664)


يجوز تقديم المستثنى على المستثنى منه
...
فصل: يجوز أن يقدم الاستثناء [92/ب] على المستثنى منه
إذا كان متصلًا به، نحو قوله: ما جاءني إلا أخاك من أحد، وما مررت إلا إياك بأحد.

(2/664)


وقد قال حسان:1
الناسَ ألِّب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر2
فقدم قوله:
إلا السيوف وأطراف القنا...
وجعله بمثابة قوله: ليس لنا وزر إلا السيوف وأطراف القنا.
وقال الكميت:3
فما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب4
فنصبا جميعًا بالاستثناء مما هو في موضع النصب والخفض، وقد قال أهل العربية: إن الاستثناء إذا تقدم نصب أبدًا المستثنى منه، تقول: ما جاءني إلا إياك أحد، وما مررت إلا إياك أحد، واستشهدوا بهذين البيتين.
__________
1 هو: حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام أبو الوليد الأنصاري النجاري شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، نافح عن الدعوة الإسلامية في فجر تاريخها، وكان لشعره أثر كبير على الكفار، وبخاصة قريش، مات قبل الأربعين في خلافة علي رضي الله عنه، وله من العمر عشرون ومائة سنة، عاش نصفها في الجاهلية.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "1/341"، و"الإصابة": "2/8".
2 هذا البيت ليس لحسان بن ثابت رضي الله عنه، كما ذهب المؤلف؛ وإنما هو لكعب بن مالك رضي الله عنه قاله للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد نسب البيت إليه سيبويه في "الكتاب": "1/371" طبعة بولاق، والمبرد في كتابه "المقتضب": "4/397"، وابن يعيش في "شرحه للمفصل": "2/79".
3 هو: الكميت بن زيد أبو المستهل الأسدي. كان معلم صبيان الكوفة، وكان به صمم. كما كان رافضيًا متعصبًا لأهل الكوفة، في شعره تكلف شديد وسرقة كثيرة. ولد سنة 60هـ، ومات سنة 126هـ.
له ترجمة في "الأعلام": "6/92"، و"الشعر والشعراء": "2/581"، و"طبقات الشعراء" لابن سلام الجمحي ص"45".
4 هذا البيت لكميت بن زيد، كما ذكر المؤلف، وقد نسبه إليه المبرد في كتابه: "المقتضب": "4/398"، وابن يعيش في كتابه: "شرح المفصل": "2/79"، وخالد الأزهري في كتابه: "التصريح": "1/355"، وابن منظور في كتابه: "اللسان" مادة "شعب".

(2/665)


يجوز الاستثناء من الاستثناء
مدخل
...
فصل: يجوز الاستثناء من الاستثناء
قال تعالى: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} 1.
__________
1 "59-60" سورة الحجر.

(2/666)


مسألة لا يصح استثناء الأكثر
مدخل
...
مسألة: لا يصح استثناء الأكثر
ذكره الخرقي في كتاب الإقرار1.
وحكى ذلك عن ابن درستويه النحوي2، ونصره ابن الباقلاني في كتاب التقريب من أصول الفقه.
وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى جواز ذلك.
__________
1 وذلك في "مختصره" ص"99-100"، وعبارته هكذا: "ومن أقر بشيء واستثنى منه الكثير -وهو أكثر من النصف- أخذ بالكل، وكان استثناؤه باطلًا".
2 هو: عبد الله بن جعفر بن درستويه -بضم الدال والراء المهملتين، وقيل: بفتحهما- ابن المرزبان أبو محمد. أحد النحاة المشهورين. بصري المدرسة؛ شديد الانتصار لهم. وثقه ابن مندة، وضعفه هبة الله اللالكائي. له كتب كثيرة منها: "الإرشاد في النحو" و"شرح الفصيح". مات سنة 347هـ، وله من العمر تسع وثمانون سنة. له ترجمة في: "البداية والنهاية": "1/233"، و"بغية الوعاة": "2/36"، و"تاريخ بغداد": "9/428"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/223"، و"مفتاح السعادة": "1/166"، و"النجوم الزاهرة": "3/321".

(2/666)


دليلنا:
أن الاستثناء لغة، وأهل اللغة قد نفوا ذلك وأنكروه.
قال أبو إسحاق الزجاج في كتاب المعاني لما تكلم على قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} 1: ولم يأت في كلام العرب إلا في القليل من الكثير2.
وقال أبو الفتح ابن جني3 ولو قال قائل: هذه مائة إلا تسعين، ما كان متكلمًا بالعربية، وكان كلامه عيًا ولكنةً.
وقال القتبي4 في جوابات المسائل5، وذكر أيضًا في كتاب
__________
1 "14" سورة العنكبوت.
2 المطبوع من الكتاب إلى آخر سورة "براءة"، والآية المشار إليها من سورة العنكبوت.
3 هو: عثمان بن جني أبو الفتح الموصلي. كان أبوه مملوكًا روميًا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي. كان إمامًا في النحو والأدب. تتلمذ على أبي علي الفارسي مدة أربعين سنة، وبعد موت أستاذه أبي علي؛ تولى مكانه في بغداد. له مؤلفات كثيرة، منها: "الخصائص"، و"شرح المقصور والممدود"، و"المذكر والمؤنث". مات سنة 392هـ، وله من العمر خمس وستون سنة تقريبًا.
له ترجمة في: "الأعلام": "4/364"، و"بغية الوعاة": "2/132"، و"شذرات الذهب": "3/140"، و"نزهة الألباء" ص"406"، ومقدمة كتاب الخصائص للأستاذ محمد علي النجار.
4 هو: ابن قتيبة عبد الله بن مسلم أبو محمد الدينوري، وقد سبقت ترجمته.
5 هذا الكتاب طبع سنة 1349هـ بمطبعة السعادة بمصر، باعتناء مكتبة القدسي، وقد طبع بعنوان: "المسائل والأجوبة في الحديث واللغة"، ويقع في 26 صحيفة، وقد أشار إليه المؤلف في أول الكتاب عند تعريفه للفقه لغة، أما الكلام الذي أشار إليه هنا؛ فلم أجده في الكتاب المذكور.

(2/667)


الجامع في النحو1 فقال: يجوز أن يقول: صمت الشهر كله [إلا يومًا، ولا يجوز أن يقول: صمت الشهر كله]2 إلا تسعة وعشرين يومًا، ويقول: لقيت القوم جميعًا إلا واحدًا أو اثنين، ولا يجوز أن يقول: لقيت القوم جميعًا إلا أكثرهم، وأنشد:
عداني أن أزورك أن بهمي ... عجاف3 كلها إلا قليلًا4
ولأنه لو جاز استنثاء الأكثر؛ جاز استثناء الكل، ألا ترى أن التخصيص لما جاز في أكثر العموم؛ جاز في جميعه، وهو النسخ؛ فلما لم يجز في الكل؛ لم يجز في الأكثر؛ لأن الأكثر قد أجري مجرى الكل.
ولأنه استثناء الأكثر؛ فلم يصح، كالراهن إذا استثنى الأكثر في الإقرار.
ولأنه استثنى الأكثر؛ فلم يصح، كما لو قال: أنت طالق، وطالق،
__________
1 ذكر هذا الكتاب منسوبًا إلى ابن قتيبة ابن النديم في "الفهرست" ص"116" من الطبعة التجارية سنة 1348هـ.
2 الكلام لا يستقيم بدون هذه الزيادة، وقد استعنَّا في ذلك بابن قدامة، حيث نقل نص ابن قتيبة في كتابه "المغني" في كتاب الإقرار "5/147" هكذا: "وقال القتيبي: يقال: صمت الشهر إلا يومًا، ولا يقال: صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يومًا، ويقال: لقيت القوم جميعهم إلا واحدًا أو اثنين، ولا يجوز أن يقال: لقيت القوم إلا أكثرهم" .
3 هكذا في الأصل، وفي مراجع تخريج البيت: "عجايا".
4 هذا البيت ذكره ابن فارس في كتابه: "معجم مقاييس اللغة": "243/4" مادة: "عجا"، ولم ينسبه لأحد.
كما ذكره ابن منظور في كتابه: "اللسان" "255/19" مادة: "عجا"، ولم ينسبه لأحد أيضًا.

(2/668)


وطالق؛ إلا طالق طلقتين؛ فإنه لا يصح.
فإن قيل: هناك لو استثنى [93/أ] الأقل، وهو طلقة؛ لم يصح، وكان المعنى فيه أن هناك جملًا1 ؛ فالاستثناء عدد، فرفع جملتين؛ فلم يصح.
قيل: عندنا لو استثنى طلقة صح؛ فلا نسلم هذه المعارضة، وقولهم: إن هناك جملًا2 ؛ فهو يرفع جملتها؛ فلا يصح؛ لأنها في حكم الجملة الواحدة، فالواو تجعل الكلام بمنزلة جملة واحدة، بدليل أن الاسثتناء يرجع إلى الجميع، وكذلك الشرط.
__________
1 في الأصل: "جمل" .
2 في الأصل: "جمل" .

(2/669)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 1، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينََ} 2، فاستثنى الغاوين من المخلصين، والمخلصين من الغاوين وأيهما كان الأكثر؛ فقد استثنى الأكثر وأبقى الأقل؛ على أن الغاوين أكثر من غير ذلك.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما أن هذا استثناء من جميع الجنس؛ فيجوز أن يقال فيه: إنه يجوز إخراج الأكثر من الأقل؛ فأما استثناء الأكثر من الأعداد المحصورة فلا، ويكون الفرق بينهما: أن اللغة وردت بجواز ذلك في الجنس، وهو ما ذكروه من الآية، ومنعت من ذلك في الأعداد، وهو ما حكيناه عنهم.
__________
1 "42" سورة الحجر.
2 "82" سورة ص.

(2/669)


ولأن حمل جميع الجنس على العموم؛ إنما هو بطريق الظاهر، لا من جهة القطع على جميع الجنس، وليس كذلك في الأعداد؛ لأن جميعها منطوق به نصًا وصريحًا؛ فلهذا فرقنا بينهما.
وجواب آخر عن الآية وهو: أنه يحمل هذا على الاستثناء المنقطع، وهو بمعنى: لكن من اتبعك من الغاوين، كقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 1 معناه: لكن رب العالمين، وكقوله: {إِلاَّ خَطَأً} 2 يعني: لكن خطأ.
واحتج بقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} 3؛ فقد استثنى النصف.
والجواب: أن أصحابنا اختلفوا في استثناء النصف.
فالخرقي أجاز ذلك؛ لأنه قال: إذا استثنى منه الكثير، وهو أكثر من النصف4. فعلى هذا يقول بظاهر الآية.
وأبو بكر منع استثناء النصف5؛ فعلى هذا: قوله تعالى: {نِصْفَهُ} كلام مبتدأ، وليس باستثناء.
واحتج بقول الشاعر:
__________
1 "77" سورة الشعراء.
2 "92" سورة النساء.
3 "2-4" سورة المزمل.
4 وذلك في "مختصره" ص"99".
5 حكى ذلك عنه أيضًا ابن قدامة في كتابه: "المغني": "5/147"، معللًا ما ذهب إليه من أنه لم يرد في كلامهم إلا القليل من الكثير، والنصف ليس بقليل.

(2/670)


أدوا التي نقصت تسعين1 من مائة ... ثم ابعثوا حكمًا بالحق قوالًا2
والجواب: أن هذا ليس باستنثناء؛ لأنه لم يأت بحرف الاستثناء؛ وإنما ذكر نقصان الأكثر مما دخل تحت الاسم.
واحتج: بأنه إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ؛ فصح في الأكثر كما يصح في الأقل، كالتخصيص.
والجواب: أن التخصيص أوسع، ألا ترى أنه يصح بدليل منفصل، والاستثناء لا يصح إلا متصلًا، والتخصيص لا يختص بعبارة، والاستثناء [93/ب] يختص بحروف مختصة، والتخصيص يجوز بسائر الأدلة: الشرع والعقل، والاستثناء لا يقع إلا باللفظ.
ولأن من جنس التخصيص ما يرفع الجملة، وهو النسخ؛ لأن التخصيص تخصيص الأعيان، والنسخ تخصيص الزمان، وليس من جنس الاستثناء ما يرفع الجملة.
وقد ذكر هذا ابن عرفة النحوي3 في كتاب الاستثناء
__________
1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "سبعين" بدليل كلام ابن عرفة الآتي ذكره.
2 نقل ابن قدامة في "الروضة" ص"134" عن ابن فضالة النحوي قوله: "هذا بيت مصنوع ولم يثبت عن العرب".
3 هو: إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان أبو عبد الله العتكي الأزدي الواسطي، المعروف بنفطويه. كان عالمًا بالعربية واللغة والحديث. أخذ عن ثعلب والمبرد. له مؤلفات كثيرة، منها: "غريب القرآن"، و"إعراب القرآن"، و"الاستثناء والشروط في القراءات".
مات في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 323هـ، وله من العمر تسع وسبعون سنة تقريبًا.
له ترجمة في: "إنباه الرواة": "1/176"، و"البداية والنهاية": "1/1831"، و"بغية الوعاة": "1/428"، و"تاريخ بغداد": "6/159"، و"شذرات الذهب": "2/298"، و"غاية النهاية": "1/25"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/19"، و"المنتظم": "6/277"، و"ميزان الاعتدال": "1/64".

(2/671)


والشروط1، وأنه لم يخرج مخرج الاستثناء؛ وإنما خرج مخرج الاقتضاء لبقية دية المقتول فيما أنشدوه من البيت، وأعلم أنه أعطى ثلاثين، ونفى سبعين، وأنشد أمام هذا البيت:
إن الذين قتلتم أمس سيدهم ... لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما2
ثم قال: أدوا التي نقصت.
واحتج: بأنه استثنى إبقاء بعض الجملة؛ فوجب أن يصح، كما إذا أبقى الأكثر.
والجواب: أن الاستثناء للأقل يطابق اللغة، والأكثر يخالف اللغة، وقد بينا: أن الاستثناء لغة؛ فلهذا فرقنا بينهما.
وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن يصح إذا بقي الأكثر دون الأقل، كما قال أصحاب أبي حنيفة: يصح ترك بعض الطواف واللعان إذا أتى بالأكثر، وكذلك قال الجميع: يصح إدراك بعض الركعة مع الإمام إذا فاته الأكثر.
__________
1 اسم الكتاب كاملا: "الاستثناء والشروط في القراءات"، وقد ذكرته بعض المراجع السابق ذكرها منسوبًا إليه.
2 هذا البيت لأبي مكعت منقذ بن خنيس، والبيت مذكور في: "الأمالي الشجرية": "1/332"، و"المغني" لابن هشام ص"762" تحقيق مازن المبارك ورفيقه، و"همع الهوامع": "1/135".

(2/672)


مسألة لا يصح الاستثناء من غير الجنس
مدخل
...
مسألة 1 : لا يصح الاستثناء من غير الجنس
وقد ذكر أصحابنا هذا في الإقرار، فقال الخرقي: ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه؛ كان الاستثناء باطلًا2.
وذهب أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك إلى جواز ذلك.
وهو اختيار أصحاب الشافعي: فذهب بعضهم إلى جوازه، ومنهم من قال: لا يصح، مثل قولنا.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"156".
2 هكذا في "مختصر الخرقي" ص"99"، وتكلمة العبارة هي: ".. إلا أن يستثنى عينًا من ورق، أو ورقًا من عين".

(2/673)


دليلنا:
أن الاستثناء هو إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ، وغير جنس المستثنى منه غير داخل فيه؛ فلا يصح الاستثناء منه.
والدليل على أن الاستثناء ما ذكرته: أنه مشتق من قولهم: ثنيت فلانًا عن رأيه، وثنيت عنان دابتي، إذا رده ومنعه؛ فدل على أن الاستثناء يرد بعض ما يجب دخوله في اللفظ ويثنيه عنه،
وقد قيل: إنه يسمى استثناء لشبه الخبر بعد الخبر، وعلى هذا يجب أن يكون المستثنى منه والاستثناء قد تناولاه جميعًا؛ فإذا كان كذلك؛ وجب أن يصح الاستثناء في بعض ما دخل في اللفظ.
وأيضًا: فإنه إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ؛ فوجب أن لا

(2/673)


يصح من غيره؛ كالتخصيص.
وأيضًا: فإن الاستثناء [94/أ] لا ينفرد1 بنفسه؛ فلا يجوز الابتداء به؛ وإنما يصح إذا كان متصلًا بالمستثنى منه؛ فدل على أنه متعلق به، واستنثاؤه لبعض ما شمله اللفظ وتناوله.
وأيضًا: فإنه قبيح في الخطاب أن يقول: خرج القوم إلا الحمير، ورأيت الناس إلا الحمير والكلاب. وليس قبحه إلا لما ذكرته.
__________
1 في الأصل: "لا تنفرد".

(2/674)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن هذا جائز في القرآن وفي أشعار العرب:
قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلاَّ إِبْلِيسَ} 1، وليس إبليس من الملائكة، وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 2 وقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا، إِلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 3، وقوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 4. وقال تعالى: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} 5. وقال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} 6، والظن ليس بعلم، وقوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
__________
1 "30" سورة الحجر.
2 "77" سورة الشعراء.
3 "25" سورة الواقعة.
4 "29" سورة النساء.
5 "43-44" سورة يس.
6 "157" سورة النساء.

(2/674)


أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمْ} 1، ومعلوم أن من رحم معصوم، وليس بعاصم.
وقال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس2
فاستثنى من الأنيس ما ليس من جنسه.
وقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب3
فاستثنى الفلول من العيب.
وتقول العرب: ما نفع إلا ما ضر، وما زاد إلا ما نقص، وما بالدار أحد إلا الحمار، وما جاءني زيد إلا عمرًا، ونظائر ذلك.
والجواب عن قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
__________
1 "43" سورة هود.
2 هذا البيت لجران العود. وهو في "ديوانه" ص"53"، و"الكتاب" لسيبويه: "1/133-365"، و"التصريح" لخالد "1/353"، و"شرح المفصل" لابن يعيش "1/80، 117"، و"المقتضب" للمبرد "2/319-347"، و"همع الهوامع" للسيوطي "1/225، 2/144"، والشطر الأول في بعض الروايات:
وبلدة ليس بها أنيس
واليعافير: أولاد الظباء.
والعيس: بقر الوحش.
3 هذا البيت للنابغة الذبياني. وهو في "ديوانه" ص"6"، و"الخزانة" للبغدادي "2/9" طبعة بولاق، و"المغني" لابن هشام ص"155" تحقيق مازن المبارك وصاحبه، و"همع الهوامع" للسيوطي "1/232".

(2/675)


إلا إبليس} 1 ؛ فهو أن إبليس من الملائكة.
قال أبو إسحاق2: سمعت الشيخ يعني أبا بكر3، وقد سئل عن إبليس أمن الملائكة؟ فقال: أمر الله بالسجود الملائكة؛ فلولا أن إبليس منهم ما كان مأمورًا.
قال أبو إسحاق: فقلت له: أجمعنا على أن الملائكة لا تناكح، ولا يكون لها ذرية، وقد كان لإبليس ذرية؛ دل على أنه من غيرها.
وأما غيره من الآيات: فإنما معناه: لكن، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} 4، وأراد: لكن إن قتل خطأ، تقول العرب: "ما لي ابن بنت" و"ما لي نخل إلا شجر"، والمراد به: لكن، ولا "تلق فلانًا إلا ما لقيت"، معناه: لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه.
وقال ابن قتيبة في كتاب "الجامع في النحو": ومما يكون فيه "إلا" بمعنى "لكن" قوله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} 5 أي: لكن من رحم. وكذلك قوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} 6 معناه: لكن قليلًا.
وكذلك قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا [94/ب]
__________
1 "30" سورة الحجر.
2 يعني: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا.
3 يعني: عبد العزيز بن جعفر، المعروف: بغلام الخلال.
4 "92" سورة النساء.
5 "43" سورة هود.
6 "116" سورة هود.

(2/676)


إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} 1 يعني: لكن. وهذا قول سيبويه2.
وأما قول الشاعر:
إلا اليعافير وإلا العيس
فإنه استثناء من الأنيس وهذا مما يستأنس به.
فأما الفلول في السيوف في البيت الآخر؛ فهو عيب؛ وإنما سببه هو الذي يمدح به.
وما حكوه عن العرب؛ فقد حكينا خلافه.
واحتج: بأنه استثناء لا يرفع الجملة؛ فصح كما لو كان من جنسه، وكما لو استثنى عينًا من ورق.
والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الجنس بغيره، كما لم يجز اعتبار التخصيص بغيره، ولأن الاستثناء من الجنس يوجد فيه معنى الاستثناء، وههنا لا يوجد معناه؛ لأن معناه إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ.
وأما استثناء العين من الورق: ففيه خلاف بين أصحابنا؛ فأبو بكر يمنع منه3. والخرقي يجيزه4؛ لأنهما أجريا مجرى الجنس الواحد في أشياء، مثل كونها قيم الأشياء والأروض وغير ذلك.
__________
1 "98" سورة يونس.
2 وذلك في كتابه: "1/366-368" طبعة بولاق، ولكنه قدر المعنى في آية هود الأولى: ".. ولكن من رحم.."، وقدر الآية الثانية بقوله: ".. ولكن قليلا ممن أنجيناهم"، كما قدر آية يونس بقوله: ".. ولكن قوم يونس.."، ويلاحظ أنه في كل تقديراته، يثبت "الواو" قبل "لكن".
3 هكذا حكى عنه ابن قدامة في كتابه: "المغني: "5/130"، كما حكى عن ابن أبي موسى قوله: إنه رواية في المذهب.
4 لأنه قال في "مختصره" في كتاب الإقرار ص"99": "ومن أقر بشيء، واستثنى من غير جنسه، كان استثناؤه باطلًا؛ إلا أن يستثنى عينًا من ورق، أو ورقًا من عين". ونقل ابن قدامة في كتابه: "المغني": "5/130"، عن ابن أبي موسى، أنه رواية في المذهب أيضًا.

(2/677)


مسألة الاستثناء إذا تعقب جملا عطف بعضها على بعض
مدخل
...
مسألة 1 : الاستثناء إذا تعقب جملًا عطف بعضها على بعض
وصلح أن يعود إلى كل واحد منها لو انفرد؛ فإنه يعود إلى جميع ما تقدم ذكره.
وذلك مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} 2 ؛ فإنه يرجع الاستثناء إلى نفي الفسق وقبول الشهادة، ونظائر ذلك.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور وقيل له: قوله: "لا يُؤَم الرجل في أهله، ولا يُجلَس على تكرمته؛ إلا بإذنه" 3،
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"156"، و"روضة الناظر" ص"134"، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "59".
2 "4" سورة النور.
3 هذا الحديث رواه عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاري البدري مرفوعًا.
أخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/464".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/137".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء من أحق بالإمامة "1/458-459"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/313-314".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الإمامة، باب من أحق بالإمامة "2/59".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "4/118-121".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/279-280".
وأخرجه الطيالسي عنه في كتاب الصلاة، باب الإمام ضامن، ومن أحق بالإمامة "1/131".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "ذخائر المواريث": "3/8"، و"نصب الراية": "2/24"، و"بلوغ المرام" ص"48"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"225".

(2/678)


قال: "أرجو أن يكون الاستثناء على كله".
وبهذا قال أصحاب الشافعي1.
وقال أصحاب أبي حنيفة2 وجماعة من المعتزلة3: يعود إلى أقرب مذكور.
وقال أصحاب الأشعري: هو على الوقف على ما يبينه الدليل4.
__________
1 راجع في هذا: "المنخول" للغزالي ص"160"، و"المستصفى" له "2/174"، و"جمع الجوامع" مع شرحه "2/17"، و"الإحكام" للآمدي "2/279".
2 راجع في هذا: "فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت "1/332"، و"تيسير التحرير": "1/302".
3 راجع في هذا: "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/264"، فقد فصل القول في ذلك، ونقل عن القاضي عبد الجبار تفصيلًا في ذلك، حيث قال: "قال قاضي القضاة: إذا لم يكن الثاني منهما إضرابًا عن الأول وخروجًا عنه إلى قصة أخرى، وصح رجوع الاستثناء إليهما، وجب رجوعه إليهما. وإن كان إضرابًا عن الأول وخروجًا عنه إلى قصة أخرى، فإنه يرجع إلى ما يليه...".
ثم بين بعد ذلك المسائل المندرجة تحت كل حالة من الحالتين.
4 واختاره الغزالي في كتابه "المنخول" ص"161"، و"المستصفى": "2/178"، ونسبه الآمدي في كتابه: "الأحكام": "2/280" إلى القاضي أبي بكر وجماعة من الشافعية. كما ذكر الآمدي رأيًا آخر، وهو القول بالاشتراك، ونسبه للمرتضى من الشيعة.

(2/679)


دليلنا:
أن الشرط يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره؛ لأنه لو قال: نساؤه طوالق وعبيده أحرار، وماله صدقة إن شاء زيد، وإن دخلت الدار لم يقع شيء من ذلك قبل مشيئته، وكان الشرط راجعًا إلى الجميع، كذلك الاستثناء؛ لأن الاستثناء لا يستقل بنفسه؛ وإنما هو متعلق بما قبله من الكلام، ويجب أن يكون متصلًا به، وإذا انفصل؛ سقط حكمه، والشرط بمثابته في ذلك، فكانا سواء.
فإن قيل: الشرط يؤثر في الجملة، والاستثناء يؤثر في بعضها.
قيل: هذا لا يوجب الفرق بينهما في الجملة الواحدة، ولأن الاستثناء بمشيئة الله يرجع إلى الجميع عندهم؛ يجب أن يكون الاستثناء بغيره [95/أ] كذلك.
ولأن الجملة المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة، لأنه لا فرق بين أن يقول: "رأيت رجلًا ورجلًا"، وبين أن يقول: "رأيت رجلين"، وإذا كان كذلك وجب أن يرجع إلى جميعها، ويكون بمنزلة جملة واحدة.
وهذا صحيح على مذهب أحمد رحمه الله؛ لأنه قال1: "إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق وطالق؛ يقع عليها ثلاث، فتكون بمنزلة الجملة الواحدة".
وعلى هذا الأصل إذا قال: أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة؛ تقع
__________
1 في الأصل: "لو قال"، و "لو" هنا لا معنى لها، ولا يستقيم الكلام بوجودها؛ لذلك حذفناها.

(2/680)


عليها طلقتان، ويصح الاستثناء؛ لأنه يكون استثناء واحدة من ثلاث ولا يكون استثناؤه واحدة من واحدة.
فإن قيل: الجملة الواحدة ليس بينهما وبين الاستثناء حائل؛ لهذا رفعها، وإذا فرقها فقد جعل بينهما وبينه حائل؛ فلهذا لم يرفعها، وإنما يرفع ما يتعقبه.
قيل: وأول العطف يقتضي الاشتراك، ويجعل الثاني والأول كأنهما معا مذكوران بلفظ واحد؛ فلا يصح أن يكون بينهما حائل في الحكم، وإن كان بينهما حائل في الصورة.
ولأن الاستثناء إذا تعقب جملًا، وصلح أن يعود إلى كل واحد منهما؛ فليس عوده إلى بعضها بأولى من البعض؛ فوجب رده إلى الجميع، كالعموم لما لم يكن حمله على بعض مسمياته أولى من بعض؛ حمل على الجميع.

(2/681)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن العموم قد ثبت في جملة من الجمل المتقدمة، وعود الاستثناء إلى الجميع مشكوك فيه؛ فلا يجوز أن يزيل العموم بالشك.
والجواب: أنا لا نسلم ذلك؛ لأن العموم إنما ثبت بوقوع السكوت عن الكلام من غير استثناء، وإذا اتصل به الاستثناء؛ لم يثبت العموم، وعلى هذا يلزم عليه العموم؛ لأنه قد يخص بأمر مقطوع عليه، كالنص، وقد يخص بأمر غير مقطوع عليه، كالقياس، وإن كان العموم قد ثبت في جميع المسميات.
واحتج: بأن الاستثناء لا يستقل بنفسه، ولا يفيد بانفراده؛ فوجب رده إلى ما تقدم ذكره؛ فإذا رد إلى ما يليه، فقد استقل وأفاد؛ فلا تجب الزيادة عليه.

(2/681)


والجواب: أنه يبطل بالشرط، ويلزم عليه لفظ العموم؛ فإنه إذا حمل على أقل الجمع أفاد، ومع ذلك لا يقضي عليه، بل يحمل على جميع الجنس، وكذلك الاستثناء إذا تعقب جملة تناولت أشياء؛ فإنه إذا علق ببعض تلك الأشياء أفاد، ومع ذلك فإنه يرد إلى جميعها.
واحتج: بأن الاستثناء إذا تعقب الاستثناء بغير الواو رجع إلى ما يليه، ولا يرجع إليهما، كذلك ههنا. وبيانه: أن يقول: "له علي عشرة إلا أربعة إلا درهمين1" ، إن الاستثناء الثاني يرجع إلى الاستثناء [95/ب] الأول، ولا يرجع إليه وإلى العدد الذي قبله، فيلزمه ثمانية دراهم" .
والجواب: أنه إنما رجع إلى ما يليه؛ لأنه لا يصح رجوعه إليهما2؛ فإن أحدهما نفي والآخر إثبات؛ فإذا رجع إليهما تناقض.
واحتج: لو قال: "أنت طالق وطالق وطالق إلا طالق" ؛ لم يصح الاستثناء، وهذا يدل على أنه رجع إلى ما يليه؛ فلا يرجع إلى الجميع، إذ لو رجع إلى الجميع؛ لصح الاستثناء؛ لأنه قد رفع الأقل، ولما لم يصح؛ دل على أنه رجع إلى ما يليه، فقد رفع جميعه؛ فلهذا لم يصح.
والجواب: أنه يصح الاستثناء، هذا قياس المذهب؛ لأنه قد قال في غير المدخول بها: "أنت طالق وطالق وطالق، يقع ثلاثًا"، وجعل الواو للجمع؛ فحصلت في حكم الجملة الواحدة؛ فعلى قياس هذا يصح الاستثناء؛ لأنها جملة واحدة.
وقد سلم أصحاب الشافعي هذا، وقالوا: لا يصح الاستثناء؛ لأنه يرفع الجملة؛ وإنما يرجع إلى الجميع، إذا لم يرفع جميع الجملة من الجمل المتقدمة.
__________
1 في الأصل: "إلا درهم".
2 في الأصل: "إليها".

(2/682)


وهذا غير صحيح؛ لأن الواو للعطف يجعل الجمل1 كالجملة الواحدة لعطف بعضها على بعض، وإذا جعلت كالجملة الواحدة؛ صح الاستثناء، وكان راجع إلى الجميع.
فأما من قال بالوقف؛ فقوله ظاهر الفساد؛ لأن السلف اختلفوا في هذه المسألة على قولين: منهم من قال: إنه يعود إلى الكل، ومنهم من قال: إنه يعود إلى الأقرب، ولم يقل أحد: إنه موقوف؛ فالقول بالوقف إحداث قول ثالث، لا يجوز إثباته.
وأيضًا: فإن الاستثناء يؤثر في الكلام كالشرط، ومعلوم أن الشرط يرجع إلى ما يليه، ولا يتوقف فيه، كذلك الاستثناء.
واحتج المخالف:
بأن الاستثناء يصح أن يعود إلى البعض، ويصح أن يعود إلى الجميع؛ فوجب التوقف فيه.
والجواب: أن عوده إلى الجميع هو الظاهر؛ وإنما يعود إلى الأقرب بقرينة ودليل؛ فلا نسلم لهم تساوي الأمرين.
__________
1 في الأصل: "الجملة" والصواب: ما أثبتناه.

(2/683)


مسألة: في المحكم والمتشابه 1
ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن "المحكم": ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان.
و"المتشابه": ما احتاج إلى بيان2.
لأنه قال في كتاب "السنة": بيان ما ضلت فيه الزنادقة في القرآن.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"161"، و"رسالة الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد، و"روضة الناظر" ص"35-36"، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "ب/83-84"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص"86-102".
2 كلام الإمام أحمد هذا نقله ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350" وقد سبق للمؤلف ص"152": أن عرف المحكم بقوله: "ما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعقل معناه من لفظه".
كما عرف المتشابه بأنه: "المشتبه المحتمل، الذي يحتاج في معرفة معناه إلى تأمل وتفكر وتدبر وقرائن تبينه وتزيل إشكاله".

(2/684)


ثم ذكر آيات تحتاج إلى بيان1.
وقال في رواية ابن إبراهيم "المحكم": الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه: الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا.
ومعناه: ما ذكرنا؛ لأن قوله: "المحكم": الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا، معناه: الذي يحتاج إلى بيان؛ فتارة يبين بكذا وتارة يبين بكذا؛ لحصول الاختلاف في تأويله، وذلك نحو قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2؛ لأن القرء من الأسماء المشتركة، تارة يعبر عن الحيض، وتارة عن الطهر. ونحو قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3 .
وهذا قول عامة الفقهاء.
وقد اختلف في ذلك:
__________
1 هذه رسالة صغيرة للإمام أحمد رحمه الله، طبعها الشيخ محمد حامد الفقي بمطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1375هـ-1956م، ضمن مجموع سماه: "شذرات البلاتين من طيبات كلمات سلفنا الصالحين" الجزء الأول وصفحاتها من "41-52".
ولم أجد كلام الإمام أحمد رحمه الله المشار إليه في هذه الرسالة؛ وإنما وجدته في رسالة: "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله"، وقد طبعها الشيخ محمد حامد الفقي ضمن المجموع المذكور، والنص المشار إليه يقع في ص"4" وما بعدها. ويلاحظ أن هذه الرسالة قد طبعت في المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1393هـ والنص المشار إليه يقع في هذه الطبعة في ص"7" وما بعدها.
2 "228" سورة البقرة.
3 "141" سورة الأنعام.

(2/685)


فقال قوم: "المحكم": هو الأمر والنهي، والحلال والحرام، والوعد والوعيد1.
و "المتشابه": ما كان من ذكر القصص والأمثال.
قالوا: لأن "المحكم" ما استفيد الحكم منه، و"المتشابه" ما لا يفيد حكمًا.
ومنهم من قال: "المحكم" ما وصلت حروفه، و"المتشابه": ما فصلت حروفه، وتفصيلها: أن ينطق بكل حرف كالكلمة، كقوله: {الم} 2، {المص} 3، {الر} 4، و {كهيعص} 5، ونحو ذلك. والموصولة: ما لاينطق بكل حرف وحده، كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} 6، ونحو ذلك.
وذلك أن "المحكم": ما عرف معناه، و"المتشابه": ما لا يعقل معناه، وهو أوائل السور، بالحروف المقطعة7.
ومنهم من قال: "المحكم": الناسخ، و"المتشابه": المنسوخ8.
__________
1 نسبه ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350" إلى ابن عباس ومجاهد.
2 "1" سورة البقرة.
3 "1" سورة الأعراف.
4 "1" سورة هود.
5 "1" سورة مريم.
6 "2" سورة البقرة.
7 القول بأن "المحكم": ما علم العلماء تأويله. و"المتشابه": ما لم يعلم العلماء تأويله، منسوب إلى جابر بن عبد الله بن رئاب، كما ذكر الطبري في "تفسيره": "6/180"، وابن الجوزي في "تفسيره": "1/350-351".
8 نقل هذا القول -عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والضحاك- ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350-351"، والطبري في تفسيره "جامع البيان": "6/175-176"، والطبري في كتابه: "مجمع البيان": "3/15".

(2/686)


فإن المنسوخ ما لا يستفاد منه حكم؛ وإنما يستفاد من الناسخ.
وذكر أبو الحسين البصري1 عن أصحابه: أن "المحكم" يستعمل على وجهين:
أحدهما: أنها محكمة الصيغة والفصاحة.
والآخر: أنه لا يحتمل تأويلين مشتبهين، وأما "المتشابه": [ف]يستعمل أيضًا على وجهين: أحدهما: أنه متشابه ومتساوٍ في الحكمة.
والآخر: يحتمل تأويلين مختلفين مشتبهين احتمالًا شديدًا2.
والدلالة على ما قلناه:
قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
__________
1 هو محمد بن علي بن الطيب أبو الحسين البصري، المعتزلي، الأصولي المتكلم. كانت له حلقة كبيرة في بغداد يقرئ فيها الاعتزال. له كتب كثيرة منها: المعتمد في أصول الفقه، وتصفح الأدلة، وكتاب في الإمامة وأصول الدين. توفي ببغداد سنة 436هـ.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد": "3/100"، و"شذرات الذهب": "3/259"، و"طبقات المعتزلة" ص"387"، و"لسان الميزان" "5/289"، و"ميزان الاعتدال": "3/106"، و"فيات الأعيان": "1/482".
2 القول بأن المحكم ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد"، والمتشابه "ما احتمل من التأويل أوجهًا" نسبه الطبري في تفسيره "6/177" إلى محمد بن جعفر بن الزبير، ونسبه الطبري في تفسيره "3/15" إلى محمد بن جعفر، المذكور، وإلى أبي علي الجبائي.
وهناك أقوال أخرى في المحكم والمتشابه، لخص أهمها ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350-351"، على أن للإمام ابن تيمية رسالة في هذا الموضوع نقلها القاسمي في "تفسيره": "4/752"، وما بعدها.

(2/687)


مُتَشَابِهَاتٌ} 1، وأم الشيء: هو الأصل الذي لم يتقدمه غيره، فاقتضى ذلك، أن "المحكم": ما كان أصلًا بنفسه، مستغنيًا عن غيره، لا يحتاج إلى بيان ولا من لفظ قرينة ولا غيره.
و"المتشابه": ما خالف ذلك، وافتقر إلى بيان ودليل يعرف به المراد.
وإنما يكون هذا فيما ذكرناه من المحتمل، دون ما ذكروه من القصص والناسخ والمنسوخ.
يبين صحة هذا: قوله تعالى في سياق الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} 2 فثبت أن المتشابه هو الذي يحتاج إلى تأويل وبيان.
يبين صحة هذا: أن المتشابه والقصص يعقل معناها، وكذلك المنسوخ، فكيف يقال متشابه؟!
ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} اختلفوا في هذه "الواو"، هل هي واو عطف أو ابتداء كلام؟
فمنهم من قال: الواو للابتداء، وليست للعطف؛ فهذا [96/ب]
__________
1 "7" سورة آل عمران.
راجع في تفسير هذه الآية: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي "4/8"، و"جامع البيان" للطبري "6/175"، و"مجمع البيان" للطبري "3/12"، و"التفسير الكبير" للرازي "7/138"، و"زاد المسير" لابن الجوزي "1/350"، و"محاسن التأويل": "4/751".
2 "7" سورة آل عمران.

(2/688)


القائل يقول: الله تعالى يعلم تأويل المتشابه وحده، وقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} معناه: يقولون آمنا به؛ فأما أن يعلموا ذلك فلا1.
ومنهم من قال: الواو واو العطف، ويكون معناه: الله يعلم تأويله، وأهل العلم يعلمون ذلك أيضًا2.
والوجه الأول أشبه بأصولنا. وقد بينا ذلك في أول كتاب "إبطال التأويل لأخبار الصفات"3.
والوجه فيه" ما ذكره أبو بكر ابن الأنباري4 في كتاب "الرد على أهل الإلحاد" ما ذهب إليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أبي5 وابن مسعود وابن عباس.
__________
1 وبهذا قال ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وعمر بن عبد العزيز والفراء وأبو عبيدة وثعلب وابن الأنباري وجمهور العلماء، نقل ذلك ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" : "1/354".
2 وبهذا قال الربيع، وأبو سليمان الدمشقي، نقل ذلك ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" : "1/354".
كما قال به ابن قتبية، وانتصر له في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" ص98"-1001".
3 هذا أحد كتب القاضي أبي يعلى، وهو مفقود -حسب علمي- وإن كان يوجد منه نقول: ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، واستفاد منها.
4 هو: محمد بن القاسم بن بشار، أبو بكر الأنباري، علامة في النحو واللغة. كان زاهد متواضعًا، ثقة صدوقًا، كما كان آية في الحفظ، له مصنفات كثيرة، منها: "غريب الحديث"، و"كتاب الوقف"، و"كتاب المشكل". مات سنة 328هـ وله 57 سنة.
له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/315"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء" ص"330".
5 هو: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد الخزرجي الأنصاري. صحابي جليل، شهد بيعة العقبة الثانية، وشهد بدرًا، كان أحد القراء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. مات في خلافة عمر بن الخطاب، وقيل: مات سنة 19هـ، وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "1/65"، و"الإصابة" القسم الأول ص"27" طبعة دار نهضة مصر.

(2/689)


ففي قراءة عبد الله1: "إن تأويله إلا عند الله والراسخون يقولون2".
وفي قراءة أبي: "ويقول الراسخون في العلم"3. وعن ابن عباس أنه كان يقرأ: "ويقول الراسخون في العلم"4. وكان الفراء5 وأبو عبيدة6 يقولان: الراسخون مستأنفون، والله هو المنفرد؛ لأن الله تعالى
__________
1 المراد: عبد الله بن مسعود.
2 وقد نسب هذه القراءة إلى عبد الله بن مسعود الطبري في "تفسيره": "6/204"، وابن الجوزي في "تفسيره": "1/354".
3 نسب هذه القراءة إلى أبي الطبريُّ في "تفسيره": "6/204"، وابن الجوزي في "تفسيره": "1/354".
4 انظر: "تفسير" ابن جرير الطبري "6/204"، و"تفسير ابن الجوزي" "1/354"؛ فإنهما قد نسبا هذه القراءة إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وراجع الإعراب على كل قراءة كتاب: "إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن" للعكبري "1/73".
5 هو: يحيى بن زياد بن عبد الله بن مروان الديلمي، أبو زكريا، المعروف بالفراء، نعت بذلك لأنه كان يفري الكلام، إمام في النحو، كوفي المدرسة. بل كان أعلم أصحاب هذه المدرسة بعد إمامها الكسائي. كان يميل إلى الاعتزال. ذو دين وورع. مع عجب وعظم نفس، له كتب كثيرة منها: معاني القرآن، والجمع والتثنية في القرآن. مات بطريق مكة سنة 207هـ، وله من العمر 67 سنة.
له ترجمة في: "بغية الوعاة": "2/333"، و"تذكرة الحفاظ": "1/372"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء".
6 هو معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري، النحوي، كان عالما بالشعر والغريب والأخبار والنسب، كما قال المبرد. له أخبار مع الأصمعي وأبي نواس وغيرهما. كان يميل إلى رأي الخوارج. له مؤلفات كثيرة، منها: "المجاز في القرآن"، و"كتاب صفة الخيل". ولد سنة 110هـ على الأرجح، وتوفي بالبصرة سنة 209هـ وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/371"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء" ص"137"، و"وفيات الأعيان": "4/323".

(2/690)


قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} . ومعناه: صدقنا به؛ لأن الإيمان هو التصديق، ولم يقل: "والراسخون في العلم يقولون علمنا به"، وإذا كان كذلك لم يقتضِ1 العطف المشاركة في العلم، وجرى هذا مجرى قول القائل: ما يعلم ما في هذا البيت إلا زيد، وعمرو يقول: آمنا به، ومعناه: أنه مصدق له، ولا يقتضي مشاركته في العلم بما في البيت، كذلك ههنا.
ووجه من قال: إنها عاطفة احتج:
بقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 2، وعلى قولكم، ليس فيه بيان المشكل.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين، والحرام 3 بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس" 4؛ فدل على أن القليل
__________
1 في الأصل: "يقتضي" .
2 "89" سورة النحل.
3 في الأصل: "حلال بين، وحرام بين" وما أثبتناه هو الموافق للفظ الحديث، كما في مصادر تخريجه التي سنذكرها.
4 هذا الحديث رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه "1/21" .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات "3/1219" .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في ترك الشبهات "3/502".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات "2/218".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات في الكسب "7/213".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات "2/1318".
وأخرجه عند الدارمي في كتاب البيوع، باب في الحلال بين الحرام بين "2/161".

(2/691)


من الناس يعلمها، وهم العلماء.
ولأنه لو لم يكن ذلك مع العلم؛ لم يكن للراسخين على العامة فضيلة؛ لأن الجميع يقولون: آمنا به.
ولأنه لو لم يكن معلومًا؛ أفضى ذلك إلى أن يتعبد بالشيء المجهول, لا يعلم ما هو.
ومن نصر الأول أجاب عن قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1؛ فلا يقتضي جميع الأشياء، كما قال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 2 ولم تؤت مثل ذكر الذكر ومثل لحيته. وقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} 3، ولم تدمر السموات والأرض.
وأما قوله: "لا يعلمها4 كثير من الناس" ؛ فهو محمول على الأحكام الشرعية؛ لأن الحلال والحرام يرجع إلى ذلك.
__________
1 "89" سورة النحل.
2 "23" سورة النمل.
3 "25" سورة الأحقاف.
4 في الأصل: "فلا يعلمها" بزيادة الفاء، ومأ أثبتناه هو الصواب، الموافق لنص الحديث، الذي ذكره المؤلف.

(2/692)


وأما قوله: لو لم يعلموه؛ لم يكن للراسخين فضيلة؛ لأن لهم مزية بمعرفة غيره من الأحكام.
وأما قوله: إنه يفضي إلى أن يتعبد بالشيء المجهول؛ فغير ممتنع مثل هذا، كما تعبدنا بالإيمان بملائكته وكتبه ورسله، وإن لم نعرف ملائكته ورسله وما في كتبه؛ كذلك ههنا.

(2/693)


فصل جواز ورود القرآن بآيات متشابهة
مدخل
...
فصل 1 : يجوز أن يرد القرآن بآيات متشابهة
يدل ظاهرها على التشبيه، وقد ذكر أحمد رحمه الله آيات من المتشابه، وتكلم عليها [97/أ] وبين وجوهها في رواية عبد الله عن أبيه.
فإن قيل: يجب أن لا يجوز هذا؛ لأن في جوازه ما يدل على أنه يشبه الأشياء.
قيل: لا يدل على ذلك؛ لأنه قد نصب لنا أدلة تدلنا على أنه منزه عن التشبيه، وأنه أراد بكلامه التأويل.
فإن قيل: فلو كان الغرض ما ذكرتم، لاقتصر على الدليل المحكم دون المتشابه.
قيل: لا يجب ذلك، كما لم يجب أن يقتصر على رفع الشبه، التي ضل بها الضالون، كإيلام الأطفال وغيره.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"164"، و"رسالة الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "83/ب-84/أ"، و"روضة الناظر" ص"35"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة، باب المتشابه ص"86-102".

(2/693)


فإن قيل: لا يجب هذا؛ لأن الوصول إلى الحق ممكن مع هذه الشبه؛ وإنما يؤتى المكلف من قبل نفسه، ولا يمتنع أن يكون في إيلام الأطفال مصالح لا نعلمها.
ولأن وصولنا إلى الحق مع اعتراض الشبه وإمعان الفكر والنظر تخريجًا1 للأفهام، وزيادة في الثواب.
قيل: مثله في الآيات المتشابهة.
فإن قيل: فما الفائدة في إنزال بعض القرآن متشابها؟
قيل: يجوز أن يكون في ذلك فائدة يعلمها الله ولا نعلمها؛ على أنا نذكر في ذلك فوائد، منها:
أنه لو كان كل القرآن محكمًا دالًا ظاهره على التوحيد؛ لاحتج أكثر الناس به في التوحيد، وأعرضوا [عن] الاستدلال بأدلة العقول، لما في طباع أكثره من استثقال الفكر والفحص؛ فكانوا يتوصلون إلى الشيء من غير طريقه؛ لأن صحة القرآن إنما تعرف بعد المعرفة بالتوحيد، وإذا كان بعض القرآن ظاهره يفيد التوحيد، وينفي2 التشبيه، وبعضه يوهم التشبيه؛ لم يكن المكلف بأن يصير إلى أحدهما أولى من أن يصير إلى الآخر فاضطر عند ذلك إلى إعمال عقله، ولو كان كله محكمًا لم يكن إلى ذلك مضطرًا.
ومنها: أن في ذلك زيادة للأذهان، وتخريجًا للعقول مع زيادة الدرجات.
ومنها: أن العرب كانت تمنع من استماع القرآن، من أن يستميل
__________
1 في الأصل بدون إعجام.
2 في الأصل: "بقي".

(2/694)


السامع إلى الإسلام؛ فكان إنزاله محكمًا ومتشابهًا يوهم مستمعهم أنه متناقض، ويطعمه في الظفر بمثله من المتناقض عنده، فيدعوه إلى إعمال الإصغاء إليه؛ فإذا تأمله، وطال استماعه، علم أنه لا تناقض فيه، واستماله ودعاه إلى الإسلام بما فيه من الفصاحة وغيرها.

(2/695)


مسألة في القرآن مجاز
مدخل
...
مسألة: [في القرآن مجاز]: 1
نص عليه أحمد رحمه الله فيما خرجه في متشابه القرآن في قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} 2 هذا في مجاز اللغة، يقول الرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك خيرًا3.
وهو قول الجماعة.
خلافًا لمن منع ذلك من أصحابنا، وطائفة من أهل الظاهر.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"164"، و"روضة الناظر" ص"34"، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "82/ب-83/أ"، و"شرح الكوكب المنير" ص"60"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة باب القول في المجاز ص"103-134".
2 "15" سورة الشعراء.
3 كلام الإمام أحمد هنا موجود بنصه مع اختلاف طفيف، في رسالته "الرد على الزنادقة والجهمية" ص"18-19".

(2/695)


دليلنا:
أن الله تعالى تكلم بالقرآن على لغة العرب، ووجدناهم تكلموا [97/ب] بالمجاز والحقيقة؛ فوجب أن يجوز ذلك في كلام الله تعالى.

(2/695)


ولأن المجاز تارة يكون بزيادة حرف، لو حذف استقل الكلام بحذفه.
وتارة يكون بنقصان حرف، ولا بد من إضمار فيه، وقد وجدا جميعًا في القرآن.
أما الزيادة فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، ومعناه ليس مثله شيء. وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 2، وتقديره: تجري تحتها. وقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 3 وتقديره: بما كسبتم. وهذا نفس المجاز.
والنقصان نحو قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} 4 معناه: حب العجل؛ فحذف الحب، وأقام ذكر العجل مقامه5. وكذلك قوله: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} 6 معناه: أهلها7.
وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ} 8 معناه: صاحب قول الحق.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 9 وتقديره: أولياء
__________
1 "11" سورة الشورى.
2 "25" سورة البقرة.
3 "30" سورة الشورى.
4 "93" سورة البقرة.
5 انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة: "1/47"، و"تأويل مشكل القرآن" ص"210".
6 "82" سورة يوسف.
7 انظر: المرجعين السابقين.
8 "34" سورة مريم.
9 "57" سورة الأحزاب.

(2/696)


الله، وأولياء رسوله.
وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1 وتقديره: أفعال الحج في أشهر معلومات؛ لأن الأشهر لا تكون حجًا2.
ورأيت في كتاب أصول الفقه في كتب أبي الفضل التميمي قوله3: والقرآن ليس فيه مجاز عند أصحابنا، واستدل بأن المجاز لا حقيقة له، ثم قال: فأما قوله: "واسأل القرية... والعير" فيجوز أن تكلم الجمادات الأنبياء، ثم قال: وسمعت قول الخرزي رحمه الله، وقد قيل: قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} ، أو حب العجل؟ فقال: قيل: العجل في نفسه، مثل القرية والعير سواء.
وذكر أبو بكر في تفسيره: اختلاف الناس في قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} ، فقال: حدثنا معمر عن قتادة: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} قال: أشربوا حب العجل بكفرهم4.
وعن أحمد حدثنا هاشم حدثنا أبو جعفر5 عن الربيع6: {وَأُشْرِبُوا
__________
1 "197" سورة البقرة.
2 وقدره ابن قتيبة في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" ص"210": "أي: وقت الحج".
3 في الأصل: "فقال".
4 أخرج هذا الطبري بإسناده عن قتادة، عن تفسيره لهذه الآية "1/442" طبعة الحلبي.
5 هو: عيسى بن أبي عيسى ماهان أبو جعفر الرازي التميمي. روى عن الربيع بن أنس وقتادة والشعبي وجماعة، وعنه ابنه عبد الله وأبو نعيم وغيرهما، وثقه ابن معين وابن أبي حاتم وغيرهما، وقال فيه الإمام أحمد والنسائي: "ليس بالقوي"، وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد": "11/143"، و"المغني في الضعفاء": "2/500"، و"ميزان الاعتدال": "3/319".
6 هو: الربيع بن أنس البكري الخراساني البصري، روى عن أنس والحسن وأبي العالية. وعنه أبو جعفر الرازي وسليمان التميمي وغيرهما. قال فيه ابن أبي حاتم: "صدوق".
له ترجمة في: "التاريخ الكبير" للبخاري "ج1 ق2 ص271"، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم "ج1 ق2 ص454".

(2/697)


فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} قال: أشربوا العجل في قلوبهم1.
وقال أسباط2 عن السدي3: [لما]4 رجع موسى5 أخذ العجل الذي وجد قومه قد عبدوه، وهم عاكفون عليه، فذبحه، ثم حرقه، ثم ذراه في اليم؛ فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه منه، ثم قال لهم موسى:
__________
1 أخرج هذا الطبري في "تفسيره": "1/424" طبعة الحلبي بإسناده إلى الربيع.
2 هو: أسباط بن نصر الهمداني الكوفي المفسر، روى عن السماك والسدي وإسماعيل السندي، وعنه أبو غسان النهدي وعمرو بن حماد وغيرهما، قال النسائي فيه: ليس بالقوي، وضعفه أبو نعيم، ووثقه ابن معين، وتوقف فيه أحمد. مات سنة 170هـ.
وله ترجمة في: شذرات الذهب "1/279"، والمغني في الضعفاء "1/66"، وميزان الاعتدال "1/175".
3 هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، الهاشمي بالولاء، السدي الكبير، أبو محمد، الكوفي الأعور، روى عن ابن عباس وأنس وغيرهما. وعنه الثوري وزائدة وغيرهما. وثقه أحمد، وقال أبو حاتم: "لايحتج به" وقال ابن عدي: "صدوق". رمي بالتشيع. مات سنة 127هـ.
له ترجمة في: خلاصة تذهيب الكمال ص"30"، وشذرات الذهب "1/174"، وطبقات المفسرين للداودي "1/109"، وميزان الاعتدال "1/236"، والمغني في الضعفاء "1/83"، والنجوم الزاهرة "1/304".
4 الزيادة من تفسير الطبري "2/74، 358"؛ فإنه ساق هذا الأثر بسنده إلى السدي.
5 في تفسير الطبري زيادة: "إلى قومه".

(2/698)


اشربوا منه؛ فشربوا؛ فمن كان يحبه خرج على شاربه؛ فلذلك قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} 1.
قال أبو بكر2: وأولى التأويلين [تأول]3 من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل؛ لأن الماء لا يقال: أشرب فلان في قلبه؛ وإنما يقال ذلك في حب الشيء، كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} 4 وأنشد قول طرفة بن العبد5:
ألا إنني6 سُقِّيتُ أسود كالحًا7
__________
1 "93" سورة البقرة.
2 هذا قول الطبري، وأبو بكر إنما نقل ذلك منه؛ لأن الطبري متوفى سنة 310هـ، وأبو بكر متوفى سنة 363هـ.
3 الزيادة من تفسير الطبري.
4 "82" سورة يوسف.
5 هو: طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك، ويقال: إن اسمه عمرو، وسمي طرفة بسبب بيت قاله، وهو شاعر جاهلي، له معلقة مشهورة يقول في مطلعها:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
مات مقتولًا، وعمره عشرون سنة، ودفن بالبحرين.
انظر ترجمته في كتاب الشعر والشعراء "1/185-196"، وطبقات الفحول الشعراء ص"115-116".
6 في الأصل: "إني".
7 هذا البيت موجود في ديوانه طرفة ص"20"، وفي تفسير الطبري "2/359" كما هو موجود في نوادر اللغة للأنصاري ص"83"، وفي لسان العرب في مادة: "سود" والبيت هو:
ألا إنني سقيت أسود حالكًا ... ألا بجلي من الشراب ألا بجل
ويروى: "سالخًا" بدل "حالكا" كما يروى "من الحياة" بدل "من الشراب" وقد روى المؤلف: "كالحًا" بدل "حالكًا" .

(2/699)


يعني: سقيت سمًا1 أسود، فاكتفي بذكر "أسود"، عن2 ذكر "السم" لمعرفة السامع؛ فقد صرح أبو بكر بأن هناك مضمرًا محذوفًا3.
ويبين صحة هذا أن الموضع المذكور فيه "القرية"، والمراد أهلها، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} 4 [98/أ]، ومعلوم أن المحاسبة والعذاب لم يقعا5 على الجدار. وقال {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} إلى قوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} 6 .
فإن قيل: هناك حذف في الكلام.
قيل: إلا أن هذه الألفاظ لم يوضع لها في صميم اللغة؛ فإن لم تسمها مجازًا؛ فذلك منازعة في عبارة، مع تسليم المعنى الموجود في المجاز.
وأيضًا: فإن أهل اللغة قد صنفوا في ذلك كتبًا؛ فمن منع ذلك؛ فهو كمن دفع أن يكون في اللسان مجاز.
__________
1 في الأصل: "سم"، والتصويب من تفسير الطبري "2/360"، وفي كتاب النوادر لأبي زيد الأنصاري ص"83": أن المراد بالأسود الماء.
2 في الأصل: "من"، والتصويب من تفسير الطبري "2/360".
3 في الأصل: "مضمر محذوف"، وهو خطأ عربية.
4 "8" سورة الطلاق.
5 في الأصل: "لم يقع".
6 "112" سورة النحل.

(2/700)


حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن المجاز كذب؛ لأنه يتناول الشيء على خلاف الوضع.

(2/700)


والجواب: أن هذا خرق الإجماع؛ لأنهم استحسنوا التكلم بالمجاز مع استقباحهم الكذب، وعلى أن الكذب يتناول الشيء على غير سبيل المطابقة، والمجاز فيه تطابق الخبر من طريق العرف، وإن كان لا يطابق اللغة.
واحتج: بأنه لو تكلم بالمجاز؛ لكان به حاجة إليه.
والجواب: أن هذا يوجب أن لا يتكلم بالحقيقة؛ لأنه يقتضي الحاجة أيضًا؛ فإن قيل: إنما يتكلم بالحقيقة لحاجة عبيده، لا لحاجة نفسه، قيل: وكذلك المجاز.
واحتج: بأن العدول عن الحقيقة إلى المجاز للضرورة؛ فلا يجوز وصف الله تعالى بالحاجة والضرورة إليه.
والجواب: أنه يستعمل في غير ضرورة؛ بل ذلك يستحسن في لغتهم، كما تستحسن الحقيقة، كما أن الإطالة قد تستحسن في موضع من كتاب الله تعالى، ولم يدل ذلك على أنه إنما يحتاج إليها من لا يقدر على الإيجاز، كذلك ههنا.

(2/701)


فصل: يصح الاحتجاج بالمجاز 1
والدلالة عليه: أن المجاز يفيد معنى من طريق الوضع، كما أن الحقيقة تفيد معنى من طريق الوضع. ألا ترى أن قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} 2 يفيد المعنى، وإن كان مجازًا؛ لأن الغائط هو المكان
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"170".
2 "43" سورة النساء.

(2/701)


المطمئن في الأرض، استعمل في الخارج.
وكذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1 ومعلوم أنه أراد أعين الوجوه ناظرة؛ لأن الوجوه لا تنظر؛ وإنما العين.
وقد احتج بهذه الآية في وجوب النظر في يوم النظر يوم القيامة، في رواية المروذي، والفضل بن زياد، وأبي الحارث.
وأيضًا: فإن المجاز قد يكون أسبق إلى القلب، كقول الرجل لصاحبه: "تعال" ، أبلغ من قوله: يمنة ويسرة، وكذلك قوله: لزيد علي درهم، مجاز، وهو أسبق إلى النفس، من قوله: يلزمني لزيد درهم. وإذا كان يقع المجاز أكثر مما يقع بالحقيقة؛ صح الاحتجاج به.
__________
1 "23" سورة القيامة.

(2/702)


مجاز من وجه آخر
...
فصل: 1
[98/ب] قد قيل في المجاز2: لا يقاس عليه؛ لأنه غير موضوع لما تناوله3 في أصل اللغة؛ ألا ترى أنه لا يصح أن يقال: وأسأل الثوب والقلنسوة، ويريد صاحب الثوب وصاحب القلنسوة، قياسًا على قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 4 أو يقول: فبما كسبت أرجلكم، كما قال: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 5، ولا يقول: تحرير صدر، كما قال:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 6.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"173" .
2 نقل في المسودة ص"174" ، أن أبا بكر الطرطوشي قال: "أجمع العلماء على أن المجاز لا يقاس عليه في موضع القياس".
3 في الأصل: "ما تناوله".
4 "82" سورة يوسف.
5 "30" سورة الشورى.
6 "92" سورة النساء.

(2/702)


تناول اللفظ الواحد للحقيقة والمجاز فيكون حقيقة من وجه مجازا من وجه آخر
...
فصل 1 : يجوز أن يكون اللفظ الواحد متناولًا لموضع الحقيقة والمجاز؛ فيكون حقيقة من وجه، مجازًا من وجه آخر:
نحو قوله: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2 حقيقة في الوطء؛ بدليل أنه يستعمل في موضع لا يجوز فيه العقد، نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ناكح البهيمة 3 ، والناكح يده" 4.
وقولهم: "انحكنا الفرا فسنرى"5، ثم استعمل في الموضعين جميعًا
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"168" .
2 "22" سورة النساء.
3 في الأصل: "اليتيمة" .
4 النهي عن نكاح البهيمة ثابت بالسنة؛ ولكن المؤلف جمع بينه وبين النهي عن نكاح اليد، ولم أجدهما مجتمعين إلا في حديث ذكره الذهبي في كتابه: "الكبائر" ص"59"، ولفظه: "وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة يلعنهم الله تعالى، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ويقول: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل والمفعول به -يعني اللواط- وناكح البهيمة، وناكح الأم وابنتها، وناكح يده، إلا أن يتوبوا" .
وفي مسألة: "الاستمناء" آثار عن السلف؛ ساقها عبد الرزاق في كتابه "المصنف" في كتاب الطلاق باب الاستمناء "7/390"، كما ساق بعضها البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب النكاح، باب الاستمناء "7/199".
5 هذا مثل يضرب للتحذير من سوء العاقبة، وهو مثل قاله رجل لامرأته لما أكرهته على أن يزوج ابنتهما من رجل لا يريده، وكانت النتيجة كما توقع الأب، إساءة عشرة، أعقبها الطلاق.
انظر: "مجمع الأمثال" للميداني "2/335".

(2/703)


في العقد؛ فيحرم عليه أن يتزوج بمن تزوجها أبوه، وإن لم يوجد منه الوطء.
وكذلك قوله: "أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ" 1، حقيقة في اللمس باليد؛ إلا أنه يطلق على الجماع مجازًا؛ فيحمل عليهما جميعًا، ويوجب الوضوء منهما جميعًا.
والدلالة عليه:
أنه لا تدافع بين الإرادتين2 اللتين تتناول اللفظ بوضع الحقيقة والمجاز؛ فجاز اجتماعهما؛ ليكون اللفظ متناولًا لهما جميعًا.
يبين صحة هذا: أن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3 متناول للرقبة الحقيقية ولغيرها من الأعضاء على طريق المجاز. وكذلك قوله: اشتريت كذا وكذا رأسًا من الغنم؛ فيتناول الرأس الذي هو العضو المخصوص وسائر الأعضاء.
ويبين صحة هذا: اشتهار قولهم: "عدل العمرين"، يريدون أبا بكر وعمر، وهو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وكذلك قولهم: ما لنا طعام إلا الأسودان: التمر والماء.
__________
1 "43" سورة النساء.
قراءة: {لَمَسْتُمْ} بحذف الألف التي اختارها المؤلف، هي قرءة حمزة والكسائي وخلف. وقرأ الباقون: {لامَسْتُمْ} بإثبات الألف، كما هو في المصحف العثماني.
راجع في هذا: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري "2/250"، وكتاب "الكشف عن وجوه القراءات السبع" للقيسي "1/391"، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص"191".
2 في الأصل: "أن الإرادتين".
3 "92" سورة النساء.

(2/704)


وقد نقل مهنا قال: سألت أبا عبد الله رحمه الله من العمران؟ قال: عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز1.
__________
1 هو: أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي، المدني، ثم الدمشقي، الخليفة العادل. روى عن أنس وسعيد بن المسيب، وجماعة، وعنه سلمة بن عبد الرحمن والزهري وغيرهما، كان زاهدًا ورعًا متواضعًا مع الثقة والأمانة، كانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة عشر يومًا. مات سنة 101هـ.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" : "1/118" ، و "تهذيب التهذيب" : "7/475" ، و "خلاصة تذهيب الكمال" ص"241" ، و "طبقات الحفاظ" ص"46" ، و "غاية النهاية في طبقات القراء" : "1/593" ، و "النجوم الزاهرة" : "1/246" .

(2/705)


فصل: في وجوه المجاز: 1
منها: أن يستعمل اللفظ في غير ما هو موضوع له، نحو اسم "الحمار"، أطلقوه على البليد، واسم "الأسد" أطلقوه على الرجل الشجاع.
ومنها: المستعمل في موضوعه وغير موضوعه، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 2 يتناول الرقبة وجيمع الذات. وقوله: "اشتريت كذا رأسًا من الغنم" يتناول الرأس وسائر الأعضاء.
وكذلك إطلاق اسم الشيء على ضده؛ كإطلاقهم "السليم" على اللديغ، و"المفازة" على المهلكة.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"169"، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة "1/8-16"؛ فإنه ذكر كثيرًا من وجوه المجاز.
2 "92" سورة النساء.

(2/705)


ومنها: الحذف كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1 حذف الأهل2: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} 3 حذف: حب العجل4. ومنها: الصلة [ك]قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 5 يعني: بما كسبتم.
ومنها: [99/أ] أن يطلق اسم المصدر على المفعول، كقولك: "هذا الدرهم ضرب فلان، والعالم خلق الله"، أي: مخلوقه ومضروبه.
ومنها: إطلاق اسم الفاعل على المفعول، كقوله: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 6، أي مرضية. واسم المصدر على الفاعل، كقولك: "رجل عدل"، أي عادل.
ومنها: أن يطلق اسم الفاعل على المصدر، كقولهم: "لحقتني اللائمة"، يعني: اللوم.
ومنها: أن يطلق اسم المدلول على الدليل، يقال: "سمعت علم فلان"، أي: عبارته عن علمه الدال عليه.
ومنها: أن يطلق اسم المسبب على السبب، كإطلاقهم اسم الرحمة على المطر.
فهذه جملة وجوه المجاز.
__________
1 "82" سورة يوسف.
2 انظر: "مجاز القرآن": "1/8-47"، و "تأويل مشكل القرآن" ص"210".
3 "93" سورة البقرة.
4 انظر: "مجاز القرآن": "1/47"، و"تأويل مشكل القرآن" ص"210".
5 "30" سورة الشورى.
6 "21" سورة الحاقة.

(2/706)


مسألة
ليس في القرآن شيء بغير العربية (1).
ذكر ذلك أبو بكر في أول كتاب التفسير. وهو قول عامة الفقهاء والمتكلمين.
وروي عن ابن عباس وعكرمة (2) : أن في القرآن شيئا بغير العربية (3) نحو قوله تعالى (طه) (4) و(نَاشِئَةَ الليل) (5) وغير ذلك، فقالوا: هي بالحبشية والسريانية، وغير ذلك من اللغات.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (164)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (84)، و"روضة الناظر" ص (35).
(2) هو عكرمة أبو عبد الله المدني، مولى عبد الله بن عباس. بربري الأصل. أحد المفسرين المشهورين. وأحد الرواة المكثرين عن ابن عباس رضي الله عنهما.
رحل في طلب العلم إلى اليمن ومصر والمغرب وخراسان وأصبهان. مات سنة (105 هـ) أو سنة (106 هـ) أو سنة (107 هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/95)، و"تهذيب التهذيب" (7/163)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (229)، و"شذرات الذهب" (1/130)، و"طبقات الفسرين" الداودي (1/380)، و"طبقات الحفاظ" ص (37)، و"النجوم الزاهرة" (1/263).
(3) أخرج ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه - ابنُ جرير الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب. (1/8) طبعة الحلبي.
(4) (1) سورة طه.
(5) (6) سورة المزمل.

(3/707)


دليلنا:
قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عَرَبيا لَعلكُم تَعْقِلُونَ) (1)، وقال في آية أخرى: (قُرْآنا عَربَياً غَيْرَ ذي عِوَج) (2)، وآيات كثيرة في هذا المعنى، فثبت أن جميع القرآن عربي لا شيء سواه.
ولأن الله تعالى تحدى العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن وبمثل سورة منه، فلولا أن القرآن كله عربي (3) لما صح أن، يتحداهم بأن يأتوا بما ليس في لسانهم ولا يحسنونه، فثبت أنه كله عربي لا شيء سواه.
واحتج المخالف:
بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى أهل اللغات كلها، فيجب أن يكون في كتابه من سائر اللغات.
والجواب: أن هذا مطرح بالإجماع، فإنه ليس في القرآن من الزنجية، ولا من التركية، ولا من الخوارزمية، وهو كل مبعوث إلى هؤلاء.
وعلى أنه لو اعتبر ما ذكروه لكان يجب أن يكون في القرآن من كل لغة قدر يقع به التبليغ، وإلا فإذا لم يكن فيه ما يقع به التبليغ لم يكن له معنى.
ثم نقول (4) : النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد بُعِثَ إلى الكافة إلا أن المقصود العرب، الذين هم أهل الفصاحة واللسان، وغيرهم تبع لهم، فإذا بلغ العرب دخل الباقون على وجه التبع لهم، كا أن موسى لما أعجز السحرة كان الناس تبعاً لهم، وكذلك عيسى مع الطب.
__________
(1) (2) سورة يوسف.
(2) (28) سورة الزمر.
(3) في الأصل: (عربياً).
(4) في الأصل بدون إعجام.

(3/708)


واحتج: بأنا نجد في القرآن شيئا بغير العربية، نحو قوله: (كَمشْكَاة) (1) قيل: كلمة هندية. و(اسْتَبْرَق) (2) كلمة فارسية، وقولهَ: (القِسْطَاس) (3) قيل: كلمة رومية. وقوله: (وَفَاكِهَة وَأبا) (4) الأب: لا يعرف في العربية، [99/ب] فثبت: أنها بغير العربية.
والجواب: أن هذه الأشياء عربية، يجهلها بعض العرب، ويعرفها البعض.
وروي عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أعرف كلمات من القرآن بلسان قومي حتى عرفتها من غيرهم. من ذلك قوله (5) : (فَاطِرِ السموات) (6) سمعت امرأة تقول: أنا فطرته، يعني ابتدأته، فعلمت أنه أراد مبتدأ السموات ومنشأها (7).
__________
(1) (35) سورة النور.
(2) (31) سورة الكهف.
(3) (35) سورة الاسراء.
(4) (31) سورة عبس.
(5) في الأصل: (قولهم).
(6) (14) سورة الأنعام.
(7) لم أجد أن ابن عباس - رضي الله عنه - سمع ذلك من امرأة، وإنما الذي وجدته: أنه أتاه أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها قال ابتدأتها.
وهذا الأثر أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "شعب الإيمان"، حكى ذلك السيوطي في كتابه "الدر المنثور" (5/244).
والأثر موجود في: "تفسير" ابن كثير (3/546)، و"الكشاف" للزمخشري (3/595)، و"فتح القدير" للشوكاني (4/339)، و"اللسان" لابن منظور (6/362) مادة: (فطر).

(3/709)


ومثل هذا في العجمية، قد يكون ألفاظ يعرفها بعض العجم، ولا يعرفها البعض، فلا يخرجها ذلك عن أن تكون من جملة العجمية.
والذي يبين صحة هذا، وأن هذه عربية: أن الله تعالى أضاف ذلك اليهم، فاقتضى الظاهر أن الكل لغة لهم.
فصل
تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد غير جائز (1).
لقوله تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلىَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون) (2).
وقال تعالى: (لتُبين للناس مَا نُزلَ إلَيْهِم) (3) فأضاف البيان إليه. وروى أبو بكر بإسناده عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (4)، وروي أيضا بإسناده
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (174).
(2) (169) سورة البقرة.
(3) (44) سورة النحل.
(4) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/199)، وقال فيه: "حديث حسن صحيح"، وفيه: (بغير علم)، بدل (برأيه)، وقد أخرجه جزء من حديث عن ابن عباس أيضا بسند آخر، ولفظه كلفظ المؤلف، وقال فيه: "حديث حسن".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عنه: (1/233، 269، 323، 327).
وأخرجه عنه الطبري في "تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن: (1/34-35).
وأخرجه عنه البغوي في كتابه "شرح السنة"، كتاب العلم، باب من قال في القرآن بغير علم (1/257-258). =

(3/710)


عن جندب (1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال برأيه فأصاب فقد أخطأ) (2).
__________
= ورمز له السيوطي في "جامعه الصغير" بالصحة، وقد عقب عليه المناوي في شرحه "فيض القدير شرح الجامع الصغير" (6/190) بقوله: (.. ثم إن فيه من جميع جهاته "عبد الأعلى بن عامر الكوفي". قال أحمد وغيره: ضعيف، وردوا تصحيح الترمذي له).
وراجع في هذا الحديث أيضا: "تيسير الوصول" (1/80).
(1) هو: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي العلقي، أبو عبد الله. له صحبة. كان بالكوفة ثم انتقل منها إلى البصرة. له رواية عن أبي بن كعب وحذيفة بن اليمان.
وعنه روى جماعة من أهل البصرة، وآخرون من أهل الكوفة.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/256)، و"الإصابة" القسم الأول، ص (509) طبعة دار نهضة مصر.
(2) هذا الحديث رواه جندب بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/200) بمثل لفظ المؤلف.
كما أخرجه عنه أبو داود في كتاب العلم، باب الكلام في كتاب الله بغير علم (2/287)، بمثل لفظ المؤلف، غير أنه أبدل كلمة (القرآن) بكلمة (كتاب الله).
وأخرجه عنه الطبري في "تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي (1/35) طبعة الحلبي.
وأخرجه عنه البغوي في كتابه: "شرح السنة" في كتاب العلم، باب من قال في القرآن بغير علم (1/259).
وقد رمز له السيوطي في كتابه "الجامع الصغير" بالحسن. وقال المناوي في شرحه "فيض القدير شرح الجامع الصغير" (6/191) تعقيباً على ذلك: (ولعله لاعتضاده، وإلا ففيه "سهل بن عبد الله بن أبي حزم" تكلم فيه أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم. وقال الترمذي: تكلم فيه بعضهم). =

(3/711)


قال أبو بكر (1) : معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : أنه "أخطأ" في فعله بِقيله فيه برأيه، وإن وافق قيلُه عينَ الصواب عند الله؛ لأن قيلَه فيه برأيه ليس فعِل عالم (2)، فإن الذي قال، نُهي عنه وحظر عليه (3).
وبإسناده عن عائشة قالت ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفسر شيئاً من القرآن إلا آيا بعدد، علمهن إياه جبريل عليه السلام (4).
وروي بإسناده عن ابن عباس قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار (5).
وبإسناده عن سعيد بن المسيب (6) أنه سُئل عن آية من القرآن فقال:
__________
= راجع في هذا الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (1/80)، و"ذخائر المواريث" (1/183).
(1) يعني: عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال.
(2) في تفسير الطبري: (1/35) : (ليس بقيل عالم).
(3) هذا القول قاله أيضا الطبري، ذكره في مقدمة تفسيره، في باب ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي (1/35) مطبعة الحلبي.
(4) هذا الحديث روته عائشة رضي الله عنها، أخرجه عنها أبو يعلى، حكى ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" في أول كتاب التفسير (6/303) ولفظه. (عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفسر شيئاً من القرآن برأيه، إلا آيا بعدد علمه إياهُن جبريلُ)، كما حكى الهيثمي: أن البزار أخرجه بنحوه. ثم عقب عليه بقوله: (وفيه راوٍ لم يتحرر اسمه عند واحد منهما، وبقية رجاله رجال الصحيح).
وأخرجه عنها الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي غلط في تأويلها منكرو القول في تأويل القرآن (1/37) مطبعة الحلبي.
(5) هذا الحديث سبق تخريجه قريباً عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعاً ص (710).
(6) هو: سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي المدني، أبو محمد. سيد التابعين.
محدث ومفسر وفقيه، مع زهد وورع وتقى. حج أربعين حجة. أكثر روايته =

(3/712)


لا أقول في القرآن شيئاً (1).
قال أبو بكر في تفسيره: منه (2) ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك مثل (3) الخبر عن آجال حادثة وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك. قال الله تعالى: (يسْألُونَك عَنِ الساعة أيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنمَا عِلْمها عِنْدَ رَبَي لاَ يُجَليهَا لِوَقْتهَا إَلا هُوَ ثَقلتْ في السمَوَات وَالأرْض لاَ تأتِيكُمْ إلا بَغْتَة) (4).
ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وذلك [مثل] إقامة إعرابه ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم، وذلك كسامع منهم لو سمع تالياً يتلو: (وَإذا قيل لَهُم لاَ تُفْسِدُوا في الأرْض قَالُوا إنما نحْنَ مصْلِحُونَ أَلاَ إنهمْ
__________
= عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد تزوج ابنته. ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر.
ومات سنة (94 هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/58)، و"تهذيب التهذيب" (5/183)، و"شذرات الذهب" (1/102)، و"طبقات الحفاظ" ص (19)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/413).
(1) هذا الأثر عن ابن المسيب، أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي غلط في تأويلها منكرو القول في تأويل القرآن: (1/37) مطبعة الحلبي.
(2) في الأصل: (فيه)، والتصويب من "المسودة" ص (175)، ومن الكلام الآتي بعد ذلك.
(3) في الأصل: (من)، والتصويب من المسودة ص (175)، فقد نقل فيها كلام المصنف هنا.
(4) (187) سورة الأعراف.

(3/713)


هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَ يَشْعُرُونَ) (1)، لم يجهل أن [100/أ]، معنى الإفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الإصلاح هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة، وإن جهل المعاني التي جعلها الله تعالى [إفساداً، والمعاني التي جعلها الله] (2) صلاحاً (3).
فصل (4)
فأما تعليم التفسير، ونقله عمن قوله حجة، ففيه ثواب وأجر، كتعليم الأحكام من الحلال والحرام.
وقد فسر أحمد رحمه الله آيات كثيرة، رواها المروذي عنه في سور متفرقة، سُئل عنها، وقال في قوله تعالى: (إنني مَعَكُمَا) (5) : هو جائز في اللغة، يقول الرجل: سأجري عليك رزقاً،، أي: أفعل بك خيراً (6).
وظاهر هذا أنه أجاز تفسير القرآن على مقتضى اللغة. والدلالة عليه: قوله تعالى: (كتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدّبّرُوا آيَاتِه وَلِيَتَذَكرَ أولُوا الألْبَابِ) (7)، وهذا فيه حث على معرفة التنزيل.
__________
(1) (11-12) سورة البقرة.
(2) ما بين القوسين ليس في الأصل، والزيادة من المسودة ص (175) ؛ لأنه نقل كلامه هنا، وأيضا فالسياق يقتضي تلك الزيادة.
(3) في المسودة في الموضع السابق: (إصلاحاً).
(4) راجع هذا الفصل في: المسودة ص (175).
(5) (46) سورة طه.
(6) هذا النص عن الإمام أحمد موجود في رسالته: "الرد على الجهمية والزنادقة" الجزء الأول من شذرات البلاتين ص (14) طبعة السنة المحمدية.
(7) (29) سورة ص.

(3/714)


واحتج على ذلك يحيى بن سلام في تفسيره بما رواه عن أبيه عن الخليل ابن مرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) (1)، قال يحيى: ولولا أن علم التأويل من الحق ما دعا به النبي عليه السلام لابن عباس.
__________
(1) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب المناقب، باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما (5/34)، ولفظه: (ضمَني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: (اللهم علمه الحكمة).
وفي رواية أخرى له: (علمه الكتاب).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (4/1927)، ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الخلاء، فوضعت له وضوء، فلما خرج قال: "من وضع هذا؟" في رواية زهير، قالوا: ابن عباس، وفي رواية أبي بكر، قلت -أي: ابن عباس-
قال: "اللهم فقهه").
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب المناقب، باب مناقب ابن عباس رضي الله عنهما (5/680)، ولفظه كلفظ البخاري في روايته الأولى. وقال فيه: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/58)، ولفظه كلفظ الترمذي، إلا أنه زاد فيه: (وتأويل الكتاب).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده من ثلاث طرق: الأولى: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زهير أبو خيثمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على كتفي، أو على منكبي، شك سعيد، ثم قال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل".
قال الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على مسند الإمام أحمد" (4/127) "إسناده صحيح".
الثانية: حدثنا هشيم عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: مسح النبي صلى =

(3/715)


..................................
__________
= الله عليه وسلم رأسي، ودعا لي بالحكمة.
قال الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على المسند" (3/253) : "إسناده صحيح".
ولعل هاتين الطريقين هما اللتان أرادهما الهيثمي بقوله في "مجمع الزوائد" (9/276) : (ولأحمد طريقان، رجالهما رجال الصحيح).
الثالثة: حدثنا أبو سعيد، حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثنا حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اعط ابن عباس الحكمة، وعلمه التأويل".
قال الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على المسند" (4/138) : إسناده ضعيف، لضعف "الحسين بن عبد الله".
وأخرجه عنه ابن سعد في "طبقاته" (2/365)، ولفظه: (دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتيني الله الحكمة مرتين).
كما أخرجه عنه أيضا بلفظ: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح على ناصيتي، وقال: (اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب).
وأخرجه عنه بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة فوضعتُ له وضوءً من الليل، فقالت ميمونة: يا رسول الله وضع لك هذا عبد الله بن عباس. فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل).
وأخرجه عن عكرمة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اعط ابن عباس الحكمة، وعلمه التأويل".
وأخرجه عن ابن عباس الأصبهاني في كتابه "حلية الأولياء" (1/315)، ولفظه: (قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام إلى سقاء، فتوضأ، وشرب قائماً، قلت: والله لأفعلن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت، وتوضأت، وشربت قائماً، ثم صففت خلفه، فأشار إلي لأوازيَ به، أقوم عن يمينه، فأبيت، فلما قضى صلاته قال: "ما منعك أن لا تكون وازيت بي" ؟ قلت: يا رسول الله أنت أجل في عيني وأعز من أن أوازي بك، فقال: "اللهم آته الحكمة". =

(3/716)


..................................
__________
= وأخرجه عنه بلفظ: (ضَمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اللهم علمه الحكمة".
وأخرجه عنه أبو الطاهر الذهلي في "فوائده"، ولفظه كلفظ المؤلف، وفيه قصة وضع الوضوء للنبي صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "الإصابة" في ترجمة ابن عباس (4/90) طبعة الخانجي.
كما ذكر ابن حجر أن ابن أبي خيثمة أخرجه عن ابن عباس بسنده، ولفظه كلفظ المؤلف.
وذكر الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (9/276)، أن الطبراني أخرجه عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم ترجمان القرآن أنت" ودعا لي جبريل عليه السلام مرتين).
قال الهيثمي: (وفيه "عبد الله بن خراش"، وهو ضعيف).
كما ذكر أنه أخرجه عن ابن عباس أيضا، بلفظ: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره، ثم قال: "اللهم احش جوفه علماً وحلماً، فلم يستوحش في نفسه إلى مسألة أحد من الناس، ولم يزل حبر هذه الأمة، حتى قبضه الله) قال الهيثمي: (وفيه من لم أعرفه).
وقد جاء هذا الحديث من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، فقد نقل الحافظ ابن حجر في كتابه "الاصابة" (4/90). أن البغوي أخرجه في "معجمه" بسنده إلى ابن عمر رضى الله عنهما، ولفظه: (أنه كان يقرب من ابن عباس ويقول: اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك، فمسح رأسك، وتفل في فيك، وقال: "اللهم فقهه في الدين: وعلمه التأويل").
كما نقل في المرجع السابق عن الزبير بن بكار أنه أخرجه بسنده عن ابن عمر قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال: "اللهم بارك فيه، وانشر منه").
وعن ابن عمر أخرجه أيضاً الأصبهاني في "حلية الأولياء" (1/315) ولفظه كلفظ الزبير بن بكار.
ونختم تخريج هذا الحديث بما قاله ابن عبد البر في كتابه "الاستيعاب" (3/934-935)، ونصه: (رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، أنه قال لعبد الله =

(3/717)


وروى أبو بكر بإسناده في تفسيره عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن، حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن (1)
وبإسناده عن شقيق (2) قال: استعمل علي بن أبى طالب ابن عباس علي الحج، قال: فخطب الناس خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا، ثم قرأ عليهم سورة النور، فجعل يفسرها (3).
وبإسناده عن سعيد بن جبير (4) قال: من قرأ القرآن، ثم لم يفسره،
__________
= ابن عباس: "اللهم علمه الحكمة وتأويل القرآن". وفي بعض الروايات: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" وفي حديث آخر: "اللهم بارك فيه وانشر منه، واجعله من عبادك الصالحين".
وفي حديث آخر: "اللهم زده علماً وفقهاً".
وهي كلها أحاديث صحاح.
وقال مجاهد عن ابن عباس: رأيت جبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم مرتين.
ودعا لي النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين).
(1)هذا الحديث أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن.. (1/35) طبعة الحلبى.
(2) هو: شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي. من سادات التابعين أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره. روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم. وعنه الشعبي وعمرو بن مرة ومنصور وآخرون. مات سنة (82 هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/268)، و"تذكرة الحفاظ" (1/60)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (142)، و"طبقات الحفاظ" ص (20).
(3) هذا الأثر أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن.. (1/36)، طبعة الحلبي.
(4) هو: سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، الكوفي، أبو محمد، أو أبو عبد الله. من سادة التابعين. روى عن ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن =

(3/718)


كان كالأعمى أو كالأعرابي (1)
فصل
في تفسير القرآن على مقتضى اللغة هل يجوز أم لا؟ (2)
قد فسر أحمد رحمه الله قوله: (إنني معكما) (3) على مقتضى اللغة، قال: هو جائز في اللغة، يقول الرجل: سأجري عليك رزقاً (4).
وقال أيضاً رحمه الله: تفسير روح الله إنما معناها: أنها روح خلقها الله تعالى، كما يقال: عبد الله، وسماء الله، وأرض الله (5).
ونقل الفضل بن زياد عنه وقد سئل عن القرآن تمثل له الرجال بشيء من
__________
= مغفل وطائفة. وعنه الأعمش وعمرو بن دينار وسليم الأحول وغيرهم. قتله الحجاج سنة (95 هـ). وعمره يناهز الخمسين.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/76)، و"تهذيب التهذيب" (4/11)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (116)، و"شذرات الذهب"(1/108)، و"طبقات القراء الكبار" للذهبي (1/56)، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/181)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/305).
(1) هذا الأثر عن سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى- أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن.. (1/36) طبعة الحلبي.
(2) راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص (175)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (84/ب).
(3) (46) سورة طه.
(4) راجع هذا النص عن الإمام أحمد في رسالته: "الرد على الزنادقة والجهيمة" ص (18-19).
(5) راجع هذا النص عن الإمام أحمد في المرجع السابق ص (32).

(3/719)


الشعر، فقال: ما يعجبني. فظاهر هذا يقتضي المنع.
ووجه الجواز :
قوله تعالى: (إنا أنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِياً) (1)، وقوله: (بلسَان عَرَبِي مُبينِ) (2)، وهذا يفيد أنا إذا تحققنا معنى اللفظ من طريق اللغة، صح حمل القرآن عليه.
ووجه من منع :
قوله تعالى: (لِتُبَينَ للِناسِ مَا نُزلَ إلَيْهِم) (3)، فاقتضى ذلك أن البيان من جهته يوجد.
والجواب: أن هذا محمول على بيان الأحكام.
واحتج بقوله : (الأعْرَابُ أشَد كُفْراً ونفَاقاً وَأجْدَرُ ألا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أنْزَلَ الله عَلى رَسُولِهِ) (4).
والجواب: أنا لا نحتج بقولهم في الحدود، وإنما نحتج بقولهم [100/ب] في الألفاظ.
واحتج بأنا وجدنا منهم الكفر والكذب، نحو قولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وتسميتهم الأصنام آلهة فقال تعالى : (إنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُموها) (5).
والجواب: أنا نرجع اليهم في الألفاظ المفردة المرسلة، نحو السواد
__________
(1) (2) سورة يوسف.
(2) (195) سورة الشعراء.
(3) (44) سورة النحل.
(4) (97) سورة التوبة.
(5) (23) سورة النجم.

(3/720)


والبياض والإنسان لا في الألفاظ المركبة، التي يقع فيها الصدق والكذب.
وفي قولهم: ثالث ثلاثة، في أفراد هذه الألفاظ ليس فيها صدق ولا كذب.
فصل
وأما تفسير الصحابة فيجب الرجوع إليه (1).
وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في مواضع من كتاب طاعة الرسول رواه صالح عن أبيه فقال: قال الله تعالى: (يا أيها الَذينَ آمنُوا لاَ تقْتلوا الصيد وَأنْتُم حرُمٌ ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل) (2) فلما حكم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظبي بشاة (3)، وفي النَعامة ببدنة (4)، وفي الضبع بكبش (5)، دل على أنه أراد
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (176).
(2) (95) سورة المائدة، والآية في الأصل: (يقتله منكم..)، وهو خطأ.
(3) نقل ذلك البيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب جزاء الصيد بمثله من النعم.. (5/181) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4) حَكَم في النعامة ببدنه كلٌ من عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم، حكى ذلك البيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب فدية النعام وبقر الوحش وحمار الوحش (5/182).
(5) قضى بذلك عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، نقل ذلك البيهقي في "سننه" في كتاب الحج باب فدية الضبع (5/183-184).
وقد روي جابر بن عبد الله رضي الله عنه حديثاً يرفعه، أخرجه عنه أبو داود في كتاب الأطعمة باب في أكل الضبع (2/319)، ولفظه: (هو صيد، ويجعل فيه كبش، إذا صاده المحرم).

(3/721)


السنة (1).
وقال: (فَمَنْ تَمتع بالْعُمرَةِ إلَى الْحج فما اسْتيسر مِن الْهَدْيِ) (2) فلما استدل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذبحوا البقرة عن سبعة، دلّ على أن ذلك أيسر (3).
__________
= وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب جزاء الصيد يصيبه المحرم (2/1030-1031) بلفظ: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشاً، وجعله من الصيد).
وأخرجه عنه البيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب فدية الضبع (5/183).
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج، (2/246).
(1) وأخرج الدارقطني حديثاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعاً في كتاب الحج (2/247)، ولفظه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظبي شاة، وفي الضبع كبشاً، وفي الأرنب عناقاً، وفي اليربوع جفرة فقلت لابن الزبير: وما الجفرة؟ قال: التي قد فطمت ورعت).
وأخرجه عنه البيهقي في كتاب الحج، باب فدية الضبع (5/183)، كما أخرجه عن عمر بن الخطاب وقال: الصحيح أنه موقوف على عمر رضي الله عنه.
وأخرجه عن عمر بن الخطاب أبو يعلى كما حكى ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" في كتاب الحج، باب جزاء الصيد (3/231)، وقال عقبَه: (وفيه الأجلح الكندي، وفيه كلام، وقد وثق).
والأجلح هذا وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: "لا يحتج بحديثه".
ولمزيد من الاطلاع، انظر: "نصب الراية" (3/134)، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (389)، و"تفسير ابن كثير" (2/97) طبعة الاستقامة، عند تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم 00) الآية.
(2) (196) سورة البقرة.
(3) في مسألة الأيسر هنا، ذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (1/205) فيه ثلاثة أقوال، أولها: أنه شاة، ونسبه إلى علي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن، وعطاء، وابن جبير، وابراهيم، وقتادة، والضحاك.
ثانيهما: أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير. ونسبه لابن عمر وعائشة، والقاسم. =

(3/722)


وقال: (فَمَنْ لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) (1)، فلما قال من قال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يكون آخر ذلك يوم عرفة، استقر حكم الآية على ذلك (2).
وقال: لما كان أكثر قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ان الكلالة من لا ولد له ولا والد (3)، استقر حكم الآية على ذلك.
__________
= ثالثها: أنه على قدر الميسرة، ونسبه لابن عباس.
على أنه قد روي عن الحسن وقتادة قولهما: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة.
كما نقل عن الإمام أحمد قوله: الهدي من الأصناف الثلاثة، من الإبل والبقر والغنم. حكى ذلك ابن الجوزي في "تفسيره"، في الموضع السابق.
(1) (196) سورة البقرة.
(2) لم يستقر حكم الآية على ذلك، بل هناك خلاف. وما ذكره المؤلف منسوب إلى ابن عمر رضي الله عنه، كما حكى ذلك ابن الجوزي في "تفسيره" (1/206)، حيث قال: (ونقل عن ابن عمر أنه قال: من حين يحرم إلى يوم عرفة).
كما حكى عن علي رضي الله عنه أن هذه الثلاثة الأيام هي: قبل التروية بيوم.
ويوم التروية، ويوم عرفة، وبه قال الحسن وعطاء والشعبي وأبو العالية وابن جبير: وطاوس وإبراهيم.
وهناك آراء أخرى ذكرها ابن الجوزي في "تفسيره"، فارجع إليه إن شئت.
(3) تفسير الكلالة بهذا، أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في كتاب الفرائض، باب الكلالة (10/301-304) عن أبي بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم.
كما أخرج عن عمر وابن عباس أنهما قالا: الكلالة: من لا ولد له.
ومثل صنيع عبد الرزاق، صنع البيهقي في : "سننه الكبرى" في كتاب الفرائض، باب حجب الأخوة والأخوات من كانوا بالأب والابن وابن الابن (6/224-225)، فأخرج عن أبي بكر وعمرو ابن عباس -رضي الله عنهم- القول الأول، كما أخرج عن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- القول الثاني.
راجع في هذا الأثر أيضاً : "تلخيص الحبير" (3/89).

(3/723)


والوجه فيه : أنهم شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، فعرفوا ذلك، ولهذا جعلنا قولهم حجة.
فأما تفسير التابعين فلا يلزم.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي داود: إذا جاء الشيء عن الرجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي، لا يلزم الأخذ به (1).
وقال رحمه الله في كل موضع آخر: الاتباع أن يتبع ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، ثم هو بعد في التابعين مخير (2).
والوجه فيه : أن قول آحادهم ليس بحجة. ويفارق آحاد الصحبة، لأنه حجة.
وقال في رواية المروذي: ينظر ما كان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن فعن أصحابه، فإن لم يكن فعن التابعين.
ويمكن أن يحمل هذا على إجماعهم.
مسألة
لايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (3).
لأن وقت الحاجة وقت الأداء، فإذا لم يكن مبيناً تعذر الأداء، فلم يكن بد من البيان.
__________
(1) هذه الرواية موجودة في "مسائل الإمام أحمد" التي رواها عنه أبو داود ص (276-277)، وتكملة الرواية عند أبي داود: (ولكن لا يكاد يجيء الشيء عن التابعين إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) هذه الرواية موجودة بنصها في المرجع السابق ص (276).
(3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (178-182)، و"شرح الكوكب المنير" ص (231)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (85/ب-86/أ).

(3/724)


وأما تأخيره عن وقت الخطاب وقبل وقت الحاجة :
فقد اختلف أصحابنا: فقال شيخنا أبو عبد الله (1) رحمه الله يجوز ذلك. وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية صالح وعبد الله في [101/أ] الآية ترد عامة، ينظر ما جاءت به السنة، فهو دليل علي ظاهرها، ولا فرق بين تأخير البيان عن المجمل أو عن العموم.
وذلك مثل قوله تعالى: (اقْتُلوا الْمشركينَ) (2)، (وَالسارِقُ وَالسارِقة فَاقْطَعُوا أَيْديهما) (3)، (الزَّانية وَالزَّاني فاجْلدُوا) (4)، (وَآتُوا حقه يوْمَ حَصًادِهِ) (5).
وبهذا قالت الأشعرية، إلا أنهم لا يثبتون للعموم صيغة، لكنهم يجوزون تأخير بيان المراد، كاللفظ الذي أراد خلاف ظاهره، وبيان المجمل إلى وقت الفعل.
وقال أبو بكر عبد العزيز وأبو الحسن التميمى: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
فقال أبو بكر في أول كتاب التنبيه : لا يجوز تأخير البيان عن وقت النطق.
وقال في مجموع له بخطه: بيان الرد على من قال بتأخير البيان إلى وقت العمل، وذكر كلاماً كثيراً.
__________
(1) المراد به: الحسن بن حامد.
(2) (5) سورة التوبة.
(3) (38) سورة المائدة.
(4) (2) سورة النور.
(5) (141) سورة الأنعام.

(3/725)


وقال في إثباته : اتفق الفريقان على أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة، ولم يحده إلا وقت التكليف.
وقال أبو الحسن التميمي في بعض مسائله: لا يختلف المسطور عن أحمد رحمه الله: أنه لا يجوز تأخير البيان.
وبهذا قالت المعتزلة (1)، وأهل الظاهر: داود وشيعته (2).
وقال أصحاب أبي حنيفة : يجوز تأخير بيان المجمل، ولايجوز تأخير بيان العموم (3).
واختلف أصحاب الشافعي على مذاهب: فذهب الأكثر منهم إلى جواز ذلك على الإطلاق. وقال بعضهم: يجوز في المجمل، ولايجوز في العموم (4).
فالدلالة على جواز تأخيره في الجملة :
قوله تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) (5) فأمره أن يتبع قرآنه ويسمعه (6)، وأخبر أنه يبينه فيما بعد؛
لأن "ثم" تقتضي مهلةً وفصلاً.
فإن قيل: معناه: إن علينا إظهاره وإعلانه، ألا ترى أنه اشترط ذلك في جميع القرآن؟
__________
(1) راجع في هذا : "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين االبصري (1/342).
(2) راجع في هذا : "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (1/75).
(3) راجع في هذا : "تيسير التحرير" (3/174)، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (1/46).
(4) راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي : (3/28)، و"شرح جمع الجوامع" مع "حاشية البناني" (2/69)، و"المستصفى" (1/368).
(5) (18-19) القيامة.
(6) في الأصل : (يسمعها).

(3/726)


قيل: حقيقة البيان هو إظهار الشيء من الخفاء إلى حالة التجلي والإظهار، وهذا إنما يكون فيما يفتقر إلى البيان، فأما ما هو مبين فلا يوجد.
وقولهم: إنه اشترط ذلك في جميع القرآن، فلا يمتنع أن يكون المراد به بعضه، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لتُبَينَ للنَّاسِ مَا نُزلَ إليهم) (1)، والمراد بعضه (2).
وأيضاً قوله تعالى في قصة نوح: (إنَّ ابْنِي مِنْ أَهلِي وَإن وَعْدَكَ الحق) فقال: (إنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إنهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح) (3) فدل على أن الله تعالى قد كان أطلق الأهل، وأراد به المصلحين منهم، دون المفسدين، وأخر بيانه عن وقت الخطاب.
وأيضاً: فإن الله تعالى أوجب الصلاة مجملة، فقال: (إن الصلاَةَ كانت علىَ الْمؤمنين كتاباً موقوتاً) (4)، ثم بينها جبريل [101/ب] عليه السلام بفعله صلاة في أول الوقت وآخره، ثم بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله، فقال عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وأيضاً : فإن تأخير بيان النسخ يجوز عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، كذلك يجوز تأخير بيان التخصيص؛ لأن النسخ تخصيص الأزمان، والتخصيص تخصيص الأعيان؛ لأن قوله : توجهوا إلى بيت المقدس في كل
__________
(1) (44) سورة النحل.
(2) تعقبه الشيخ ابن تيمية في "المسودة" ص (181) بعد أن نقل عن المؤلف الاستدلال بالآية، والاعتراض على الاستدلال ورد الاعتراض.
تعقبه بقوله: (هذا ضعيف، بخلاف تفسير ابن عباس، ولا دلالة في الآية على محل النزاع).
(3) (45) سورة هود.
(4) (103) سورة النساء.

(3/727)


صلاة، قام في جميع الأزمان، وقد أراد به بعض الأزمان، وأخر بيانه.
وقوله تعالى : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) (1) عام في جميع أعيان المشركين، وأراد به بعضهم، وأخر بيانه عن وقت الحاجة فلم يكن بينهما فرق.
فإن قيل: تأخير بيان النسخ لا يخل بصحة الأداء، وتأخير بيان التخصيص يخل بصحة الأداء.
قيل: لا يخل بصحة الأداء، لأنا لا نجوز تأخير البيان عن وقت الفعل.
وجواب [آخر] وهو: أن خطاب العاجز عن الفعل يصح إذا أقدره عليه في حال الفعل، وعدم القدرة يخل بصحة الأداء، ولا يمنع ذلك من صحة الخطاب.
فإن قيل: لا يجوز أن تؤخر القدرة عن وقت الفعل، فلا يخل بصحة الأداء.
قيل: وكذلك لا يجوز أن يؤخر البيان عن وقت الفعل، فلا فرق بينهما.
فإن قيل: الخطاب العام في الأزمان مخالف للخطاب العام في الأعيان في موضوع اللغة، ألا ترى أن رجلاً لو قال لعبده أو وكيله: اعط فلاناً كل يوم رطلاً من خبز، فلما كان بعد مدة منعه من ذلك، كان الخطاب في الأول حسناً عند جميع العقلاء، وإن كان قد أخر بيان وقت المنع إلى وقت الحاجة، ولو قال له : اعطه كل يوم رطلاً من تمر، وهو يريد به رطلاً من لحم أو خبز، كان الخطاب في قبيحاً، فدل على الفرق بينهما.
__________
(1) (5) سورة التوبة.

(3/728)


قيل: قوله : "اعطه كل يوم رطلاً من تمر"، وهو يريد رطلا،ً من لحم أو خبز لا يفيد المأمور به، فكان عبثاً أو لغواً، وليس كذلك إذا قال: "اقتلوا المشركين"، فإن القتل المأمور به معقول معلوم، والخطاب مفيد، وإنما أخر بيان من يوقع القتل فيه، كما أخر في النسخ بيان الزمان الذي يوقعه فيه.
فإن قيل : لا يجوز تأخير بيان النسخ، إلا أن يقترن به بيان النسخ، فيقول: صلوا إلى بيت المقدس، ما لم أنسخه عنكم، وهذا يمنع من عموم الخطاب في جميع الأزمان. وقيل: إن هذا سؤال كان يورده ابن الدقاق (1).
قيل: هذا خطأ؛ لأن هذا مقرون بكل خطاب، وإن لم ينطق به المخاطب، لأن الدليل قد دل على جواز النسخ، فصار ذاك مقدراً في خطاب صاحب الشرع ومقروناً به، وإن لم يذكره، فوجب [102/أ] أن يكونا سواء، فيجب أن يخبر هذا في بيان العموم، فيقول (2) : اقتلوا المشركين إلا من أبين لكم.
ودليل آخر، وهو: أنه يجوز أن يخاطب العاجز عن الفعل، ويؤخر خلق القدرة له وإيجاد الآلة التي بها يتمكن من الفعل إلي وقت الفعل؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك قبل الفعل، كذلك البيان لا حاجة به إليه قبل الفعل، ولا فرق بينهما؛ لأن الفعل يفتقر إلى القدرة كما يفتقر إلى البيان.
فإن قيل: تأخير القدرة عن الفعل لا يفضي إلى أن يعتقد المخاطب جهلاً؛ لأنه يعلم أنه أريد به حال القدرة، والبيان متى تأخر اعتقد المخاطب جهل ما أمر به.
__________
(1) هو محمد بن محمد بن جعفر، أبو بكر الدقاق، وقد سبقت ترجمته ص (107).
(2) في الأصل : (فإذا قال).

(3/729)


قيل: لا يعتقد جهلاً؛ لأنه يعتقد قتل المشركين أجمع، ما لم يرد البيان.
واحتج المخالف:
بأن تأخير البيان يؤدي إلى اعتقاد الجهل والعزم على الباطل؛ لأن المخاطب يلزمه اعتقاد عمومه، وهذا اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به، وذلك جهل، ويلزمه أن يعزم على قتل من وصل إلى قتله من المشركين، وهذا عزم على باطل؛ لأن من بذل الجزية أو أمنه (1) مسلم لا يجوز قتله، وإذا أدّى إلى هذا، وجب أن لا يجوز تأخيره.
والجواب: أنه لا يؤدي إلى هذا؛ لأنه يعتقد عمومه إذا تجرد عما يخصه ويصرفه عن ظاهره، كما نقول أجمع في النسخ، وكما نقول إذا أسمعه الله العام ولم يسمعه الخاص، وكان بيان الخصوص في الأصول سابقا للعموم، وكان يحتاج إلى الاجتهاد في طلبه، واستقراء الأصول بسببه، فإنه في حال اجتهاده يعتقد العموم إن تجرد عما يخصه عند المخالف، كذلك في مسألتنا يعتقد العموم والظاهر إن تجرد، والخصوص والباطن إن اقترنت به قرينة.
واحتج: بأن العموم والخصوص يفيد كل واحد كل منهما غير ما يفيده الآخر، فلا يجوز أن يعبر بأحدهما عن صاحبه من غير بيان، كما لا يعبر بالصلاة عن الصيام، وإذا كان كذلك، بطل أن يعبر بالعموم عن الخصوص من غير إشعار.
والجواب: أنه باطل بالعموم في الأزمان، فإنه يفيد غير ما يفيده الخصوص، ومع هذا فقد يعبر بأحدهما عن صاحبه كذلك.
ولا يشبه هذا ما قالوه من الأمر بالصلاة، أنه لا يكون عبارة عن
__________
(1) في الاصل: (لو أمنه).

(3/730)


الصيام، ألا ترى أنها لا تكون عبارة عنها بلفظ مقارن، فلو قال: "صلّ" ثم قال عقيبه: أردت بذلك الصيام لم يصح، ولو قال في العموم: "اقتلوا المشركين"، ثم قال متصلاً به: "إلا النساء"، صح.
واحتج: بأنه لا سبيل للمخاطب إلى معرفة مراد المخاطب به، فوجب أن يكون قبيحاً، كما يقبح أن يخاطب العرب بلغة الزنج ولغة العجم، وكما يقبح أن يقول: "صلوا"، ويريد به : "صوموا"، ويقول: "صوموا" ويريد به: "صلوا".
[102/ب] والجواب: أن ذلك الخطاب غير مفيد؛ وليس كذلك ها هنا؛ لأن هذا الخطاب مفيد؛ لأنه عرف لفظه، وعقل معناه، واعتقد فيه العموم إن بقي على حالته، والخصوص إن دل عليه الدليل.
واحتج: بأن من خوطب بالعموم، فقد ألزم اعتقاده والإخبار به لغيره، فلو كان المراد به الخصوص، وقد أخبر عنه بالعموم لكان قد ألزم الإخبار بالكذب، وهذا لا يجوز تكليفه.
والجواب: أن هذا يبطل بالنسخ، فإن هذا المعنى موجود فيه، ومع هذا فإنه يصح تأخيره. وعلى أنه يعتقده ويخبر عنه إن حكي معه، ولم ينقل عنه، كما قلنا في النسخ.
واحتج: بأن من أطلق كلاماً له ظاهر، ثم قال بعد استقراره من غير إشعار بخلاف ذلك استقبح منه، وإن كان متعلقاً بحق آدمي لم يقبل منه، وإذا كان ذلك مستقبحا منه، لم يجز أن يرد كلام الله تعالى وكلام رسوله على ذلك.
والجواب: أن هذا المعنى موجود في النسخ، وعلى أنه إنما يقبح ذلك في اللفظ الصريح، فأما المحتمل، فلا.
واحتج: بأن البيان في العام كالاستثناء، فإذا لم يجز تأخير أحدهما، كذلك الآخر.

(3/731)


والجواب: أنه لم يجز إلحاق التخصيص بالاستثناء دون إلحاقه بالنسخ، وإلحاقه بالنسخ أولى، لأن لفظ الخصوص إذا انفرد استقل بنفسه، فإنه يقول بعد يوم: لاتقتل أهل الذمة فيفيد حكماً بنفسه كلفظ النسخ، فكان إلحاقه به أولى. ويفارق لفظ الاستثناء، فإنه لا يستقل بنفسه، ولا يفيد حكماً، فإنه لو قال: اقتلوا المشركين، ثم قال بعد يوم: إلا أهل الذمة لم يفد هذا بمجرده فائدة، لأنه لا ندري هذا الكلام إلى ماذا يرجع.
واحتج: بأن الله تعالى أمر نبيه بالتبليغ على الفور، فإذا أخر البيان عن وقت الخطاب، لايكون قد بلغ على الفور.
والجواب: أنا لا نسلم أنه أمر بالتبليغ على الفور، بل أمر به على التراخي، وعلى أن البيان مخالف لحكم التبليغ، وذلك لأن التبليغ يجوز أن يتأخر بدليل آخر يدل عليه، والبيان لا يجوز عندهم أن يتأخر بدليل يدل عليه، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر.
واحتج: بأن تأخير البيان يفضي إلى أن يكون اللفظ الوارد في حكم ما لم يرد ويكون المخاطب به بعد وروده بمنزلته قبل وروده؛ لأنه لا ندري المراد به.
والجواب: أنه باطل بالنسخ، فإن لفظ العموم المستغرق للأزمان يرد (1) مع تجويز النسخ، ولا يكون بمنزلة ما لم يرد، وعلى أنه إذا لم يرد، لم يعقل المكلف شيئاً، ولا يفيد إلزام حكم عبادة، وليس كذلك [103/أ]، ها هنا، فإنه يفيد إلزام حكم عبادة واعتقاد العموم، إن عريَ اللفظ عن دليل التخصيص.
واحتج: بأنه لو جاز تأخير البيان، وأن يكون بيانه من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخترم النبي قبل بيان المراد به، فيلزم الأمة العمل، كذلك
__________
(1) في الأصل: (فيرد)، والفاء هنا لا معنى لها، لذلك حذفناها.

(3/732)


الخطاب، وليس المراد به هذا الظاهر، وتكون الأمة قد كلفوا غير المراد.
والجواب: أنه لا يجوز في صفة الحكيم أن يخترم رسوله المبلغ المبين عنه معنى ما أراد، قبل (1) أن يبينه للناس، وإذا كان كذلك لم يفض (2) إلي ما قالوه.
وعلى أنه باطل بالنسخ، لأنه يرد معرضاً، ثم قد يخترم النبي قبل بيان الناسخ، كذلك ها هنا.
وعلى أن هذا غير ممتنع في بيان العموم؛ لأنه لإن اخترم قبل البيان تمسك الناس بذلك العموم، وأخذوا بموجبه، إذ ليس عليهم أن يعلموا مراد الله تعالى به من غير الظاهر منه.
فصل
وما ذكرنا من الدلائل، فهو دليل على أصحاب أبي حنيفة في فرقهم بين بيان العموم وبيان المجمل، ومما يخصهم أن بيان المجمل كبيان العموم؛ لأنه ينكشف به المراد باللفظ، ثم جاز ذلك في المجمل، وجب أن يجوز في العموم.
فإن قيل: فرق بينهما، وذلك أن بيان العموم إذا أفاد إلزام اعتقاد أمر ليس بمراد، وهذا يقبح أن يرد به التكليف، والمجمل يفيد اعتقاد حكمه وبيان صفته حال الحاجه، فيحصل به توطين النفس لفعل المأمور به، وهذا حسن في التكليف.
قيل: يبطل بالنسخ، فإنه يجوز تأخيره، وإن أفضى إلى ما قالوه.
__________
(1) في الأصل: (مثل).
(2) في الأصل: (يفضي) بإثبات الياء.

(3/733)


وعلى أنا قد بينا أنه يعتقد عموم ذلك، ما لم يخص، وينقل عنه، كما يعتقد ذلك في الزمان.
مسألة (1)
أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر فيها، فإن لم يكن على سبيل القربة، كالأكل والشرب واللباس والقيام والقعود ونحو هذا، فإنه يدل على أنه فعل مباح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل المحظور، وإن فعل لم يقر عليه.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله عن الاضطجاع، فقال: ما فعلته إلا مرة، وليس هو من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فلم يجعل ذلك حجة؛ لأن الاضطجاع ليس بقربة.
وإن كان على سبيل القربة والطاعة والعبادة، فعلى ثلاثة أضرب: ما كان بياناً، أو امتثالاً لأمر، أو ابتداءً من غير سبب.
فإن كانت بيانا لم تدل على شيء غير البيان، ويكون حكمها مأخوذاً من المبين، فإن كان المبين واجباً، فقد بين الواجب، وإن كان ندباً، فقد بين الندب.
والبيان على ضربين: [بيان] مجمل وتخصيص عموم.
فبيان المجمل نحو قوله تعالى: (وَآتُوا حقَّهُ يَوْمَ حَصَاده) (2) ثم أخذ النبي يوم الحصاد العشر، فكان فعله صلى الله عليه بياناً لذلك [103/ب] المجمل، وفعله لا يدل على غير البيان.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (187)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (89/ب-90/أ).
(2) (141) سورة الأنعام.

(3/734)


وبيان التخصيص نحو قوله تعالى: (وَالسارِقُ وَالسارِقة فَاقْطَعُوا أيْديهمَا) (1) هذا عام في كل سارق سرق، قليلاً أو كثيراً، من حرز وغير حرز، فإذا حمل إليه سارق من غير حرز وأقل من ربع دينار فلم يقطعه كان (2) هذا بياناً وقع به التخصيص.
وإنما يعلم أن هذا خرج على وجه البيان، إذا تقدم العام.
وإن كانت امتثال أمر، لم تدل (3) أيضاً في أنفسها على شيء، غير أن ينظر إلى الأمر، فإن كان على الوجوب، علمنا أنه فعل واجباً بالأمر، وان كان ندباً، علمنا أنه فعل الندب بالأمر، فأما من فعْلِه، فلا.
وأما إن كان ابتداءً من غير سبب مستند إليه ففيه روايتان: إحداهما: أنها على الوجوب، أومأ إليه رحمه الله: في مسائل، فقال في رواية حرب: يمسح رأسه كله، كذا جاء الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "مسح الرأس كله" (4).
وقال أيضاً رحمه الله في رواية الأثرم: إذا رمي الجمار، فبدأ
__________
(1) (38) سورة المائدة.
(2) في الأصل مكررة.
(3) في الأصل: (يدل) بالياء.
(4) هذا جزء من حديث روته الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها.
أخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم (1/28).
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مسح الرأس مرة (1/49)، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنها البغوي في كتابه: "شرح السنة"، كتاب الطهارة، باب مسح الرأس والأذنين (1/438).
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "ذخائر المواريث" (2/187)، والمنتقى من أحاديث الأحكام" ص (44).

(3/735)


بالثالثة ثم الثانية ثم الأولى، لم يصح، قد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمار (1)، وبين فيها سنته (2).
وقال أيضاً في رواية الجماعة: المغمى عليه يقضي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أغمي عليه، فقضى (3). وقد احتج بأفعاله على الوجوب.
__________
(1) في "المسودة" ص (187) : (قد فعل النبي صلى الله عليه وسلم الرمي وبين فيه سنته).
(2) ترتيب رمي الجمار قد جاء فيه عدة أحاديث. منها ما روته عائشة رضي الله عنها.
أخرجه عنها أبو داود في كتاب المناسك، باب في رمي الجمار (1/456).
وأخرجه عنها الحاكم في "مستدركه" في كتاب المناسك، باب طواف الافاضة ورمي الجمار: (1/477-478)، وقال: "هذا حديث صحيح" على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
وأخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده" : (6/90).
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (413)، و"نصب الراية" (3/84).
(3) بعد طول البحث لم أقف على هذا الحديث، وانما الذي رأيته هو ما رواه الدارقطني في "سننه" في كتاب الصلاة، باب الرجل يغمى عليه وقد جاء وقت الصلاة هل يقضي أو لا؟ (2/81) عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأفاق نصف الليل، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وقد ذكر أبو داود في "مسائله" التي نقلها عن الإمام أحمد ص (49) أنه سأل الإمام أحمد عن المغمى عليه، هل يقضي؟ قال: نعم، يقضي ما فاته، واحتج بحديث عمار.
وأيضاً، فإن ابن قدامة في كتابه: "المغني" (1/353-354) ذكر أن المذهب في المغمى عليه : أنه يقضي ما فاته، واستدل لذلك، ولم يذكر الحديث الذي أورده المؤلف، وانما ذكر فعل عمار - رضي الله عنه - واستدل به، ولو كان هناك حديث مرفوع، لذكره، وكان هو الفيصل في المسألة.

(3/736)


وبهذا قال أصحاب مالك (1).
وفيه رواية أخرى: أن ذلك لا يقتضي الوجوب، وإنما يقتضي الندب، نص عليه رحمه الله في رواية إسحاق بن ابراهيم فقال: الأمر من النبي سوى الفعل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل الشيء من جهة الفضل، وقد يفعل الشيء هو له خاص، وإذا أمر بالشيء فهو للمسلمين.
وقال في رواية الأثرم: وقيل له: أليس ينبغي أن يستعمل بأن يقول كما يقول المؤذن؟ قال: ويجعل هذا واجباً، إنما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع المؤذن، قال كما يقول (2)، فهو فضل، ليس على أنه واجب.
وهو اختيار أبي الحسن التميمي فيما وجدته له مسألة مفردة، يقول فيها: انتهى إليّ من قول أبي عبد الله: أن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست على الإيجاب، إلا أن يدل دليل، فيكون ذلك الفعل الدليل الذي صار به على الإيجاب.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه أبو سفيان السرخسي عن
__________
(1) راجع في هذا: "شرح تنقيح الفصول" ص (288).
(2) حديث فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا رواه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي (1/150).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب القول مثل ما يتشهد المؤذن (2/21).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الأذان (1/218).
وأخرجه عنه البغوي في كتابه: "شرح السنة" في كتاب "الصلاة" باب إجابة المؤذن (2/285-286).

(3/737)


أصحابه (1)، وأهل الظاهر أيضاً (2).
وذهبت المعتزلة (3) والأشعرية الى أن ذلك على الوقف، ولا يحمل على الوجوب، ولا على الندب إلا بدلالة.
واختلف أصحاب الشافعي على مذاهب:
منهم من قال: هي على الوجوب.
ومنهم من قال: هي على الندب.
ومنهم من قال: هي على الوقف (4).
فالدلالة [104/أ] على أنها على الوجوب:
قوله تعالى: (قُلْ يا أيها الناس) إلى قوله: (وَاتَّبِعُوهَ لعلكم تَهْتدُونَ) (5)، فأمر باتباعه، والأمر على الوجوب.
__________
(1) هناك رأيان للحنفية في هذه المسألة هما:
الأول: الندب. قال في "تيسير التحرير" : (3/123) : (وهو معزو في المحصول إلى الشافعي، وفي القواطع إلى الأكثر من الحنفية..).
الثافي: الإباحة، وقد أفاد صاحب "مسلم الثبوت" (2/181) أنه الصحيح عند أكثر الحنفية. واختاره أبو بكر الجصاص.
(2) راجع في هذا: "الاحكام" لابن حزم (4/422).
(3) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري (1/377).
(4) نسب الآمدي في "الإحكام" : (1/160) القول بالوجوب إلى ابن سريج والاصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران..
أما القول بالندب فنسبه إلى الإمام الشافعي بصيغة (قيل)، واختاره إمام الحرمين.
أما القول بالوقف فنسبة إلى جماعة من الشافعية، منهم الصيرفي والغزالي.
(5) (158) سورة الأعراف.

(3/738)


فإن قيل: الاتباع هو: أن يفعل ذلك على الوجه الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا لم يعلم الوجه الذي أوقع الفعل عليه، من وجوب أو ندب أو إباحة، لم نكن متبعين له.
قيل: الاتباع يكون في الفعل، وإن اختلف قصد التابع والمتبوع، كالمتنفل يأتم بالمفترض، فيتبعه في صلاته، وإن اختلفا في القصد والاعتقاد وكذلك من خرج للجهاد، فتبعه آخر يريد تجارة، سمي متبعاً له في سفره وإن خالفه في قصده.
فإن قيل: في الآية إضمار، وتقديره: واتبعوه في فعله، فيحتاج أن تثبت صفة الفعل على أي وجه وقع حتى يتبع فيه.
قيل: نحن نستدل بالآية على وجوب اتباعه في فعله الواقع منه وفي صورته وصفته، فأما كيفية وقوعه فلا تعرض له.
ويدل عليه قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول الله أسْوَةٌ حسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (1).
فإن قيل: هذا يدل على أن التأسي بالنبي مستحب.
قيل: قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) تهديد (2) يدل على أن ذلك إيجاب وإلزام.
فإن قيل: قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) ليس بتهديد، لأن الرجاء تأميل النفعة.
__________
(1) (21) سورة الاحزاب.
(2) في الأصل: (تهديداً) بالنصب.

(3/739)


قيل: المراد به ها هنا لمن كان يخاف الله واليوم الآخر. قال أبو ذؤيب الهذلي (1) :
إذَا لسعَتْهُ النّحْلُ لم يَرْجُ لَسْعَهَا... وخَالَفَها في بَيْتِ نُوب عَوَامِلِ (2)
يريد: لم يخف لسعها من اشتيار (3) العسل في بيوت النحل. والنوب:
__________
(1) هو: خويلد بن خالد بن محرث، وقيل: خويلد بن محرث، من بني مازن بن سويد بن تميم بن سعد بن هذيل. شاعر مخضرم. أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره. قال حسان: "هذيل أشعر الناس، وأبو ذؤيب أشعر هذيل". مات في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بطريق مكة، قريباً منها. وقيل: مات بالمغرب، وقيل: بمصر.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1648)، و"الاصابة" (7/63)، و"الشعر والشعراء" (2/653)، و"طبقات الشعراء" ص (110،103).
(2) هذا البيت نسبه السكري في كتابه: "شرح أشعار الهذليين" (1/144) إلى الشاعر المذكور. وهو البيت الخامس عشر من قصيدة بلغت ثلاثة وعشرين بيتاً، يقول في مطلعها:
أساءلت رسم الدار أم لم تسائل... عن السّكْنِ أو عن عَهْدِه بالأوائِل
وقد ذكر السكري في كلمة: (خالفها) روايتين، إحداهما بالخاء المعجمة، والثانية بالحاء المهملة. كما ذكر أن "العوامل" هي التي تعمل العسل والشمع.
في الأصل: (سعار) من غير اعجام.
و"اشتيار العسل" اجتناؤه، وأخذه من موضعه. قال أبو عبيد: "شرتُ العسل، واشترته، اجتنيته وأخذته من موضعه".
انظر: "اللسان": (6/103) مادة: "شور"، و"معجم مقاييس اللغة": (3/226)، في المادة المذكورة.

(3/740)


النحل (1)، والنوب (2) : القرب.
ويدل عليه قوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتبعُوني يُحْببْكم اللهُ وَيغفِرْ لكُم ذُنُوبكَمُ) (3)، وهذا يدل على أن التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعه واجب.
ومن جهة السنة:
ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، فخلع نعله، فخلعوا نعالهم، فلما فرغ قال: "لم خلعتم نعالكم؟" قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا، فقال: "أتاني جبريل فأخبرني أن فيهما قذراً" (4).
__________
(1) في الأصل: (والنوب والنحل).
وسميت "النحل" بـ "النوب"، لرعيها ونوبها إلى مكانها. قال السكري في كتابه: "شرح أشعار الهذليين" (1/144) : ("نوب" : تنتاب المرعى، فتأكل، ثم ترجع، فتعسل، و"تنوب": تذهب وتجيء).
وقال أبو عبيد: "إنما سميت: "نوباً"؛ لسواد فيها". نقل ذلك عنه السكري في المرجع السابق.
وانظر أيضاً: "معجم مقاييس اللغة" (5/367).
(2) في الأصل: (البوب) بالباء.
(3) (31) سورة آل عمران.
(4) هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل (1/151).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعلين (1/260).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده": (3/20).
وأخرجه عنه الحاكم في "مستدركه" في كتاب الصلاة، باب "لا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره"، وليضعهما بين رجليه (1/260) وقال: (وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه). =

(3/741)


فوجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استفهم منهم، فقالوا فعلنا كفعلك، فلم ينكر عليهم، ولم يقل لا يجوز لكم ذلك، بل أقرهم على اتباعه، وبين لهم السبب الذي فعل لأجله.
فإن قيل: فلو كان اتباعه واجباً لم يستفهم منهم؛ لأنهم فعلوا الواجب.
قيل: يحتمل أن يكون استفهم لينظر هل فعلوا ذلك لاتباعه أم لمعنى آخر؟ فلما أخبروه أنهم فعلوه لأجله، [104/ب] أقرهم عليه، وبين العلة التي خلعها لأجلها.
فإن قيل: لم ينكر عليهم؛ لأنه قال (صلوا كما رأيتموني أصلي).
قيل: لا نعلم أن هذا القول قاله قبل هذه القصة أو بعدها، فنقف حتى نعلم كيف كان، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يصلوا كما يصلي، وخلع النعل ليس بصلاة، وإنما هي أفعال أوقعها فيها من غيرها، بدليل: أن هذا لو كثر منه وتكرر بطلت صلاته.
وأيضا: ما روت أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله سألوني عن القُبلة للصائم، فقال: "لِمَ لم تقولي لهم: إني أقبل وأنا صائم (1) ؟!". فَعَرفها
__________
= وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الصلاة، باب من صلى وفي ثوبه أذى لم يعلم به، ثم علم (2/402).
(1) حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب الصيام، باب ما جاء في تقبيل الرجل زوجته، وهو صائم (1/258- 259)، ولفظه: (أن رجلاً قبل امرأته، وهو صائم، فوجَد من ذلك وجْداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة أم المؤمنين، فأخبرتها، فقالت أم سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله =

(3/742)


شرعَه، وأنكر عليها ترك إخبارهم لفعله. فلولا أن فعله يقتدى به لما أمرها بذلك.
ولا معنى لقولهم: إن هذه أخبار آحاد فلا يثبت: بها أصول؛ لأن أخبار الآحاد إذا تلقيت بالقبول، كانت مقطوعًا بها كالتواتر. وليس في الأمة أحد يكذّب حديث خلع النعلين في الصلاة (1).
وأيضاً: وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وذلك أنهم لما اختلفوا في وجوب الغسل بالتقاء الختانين، فقال قوم: يجب. وقال أُبي بن كعب: لا يجب ما لم ينزل، وقال (2) : الماء من الماء (3)، فسألوا عائشة فقالت: إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا (4) [فـ] رجعوا إليها وأقروها على ما احتجت به في وجوبه، فثبت أنهم أجمعوا على ذلك.
وروي أن عمر رضي الله عنه قَبّل الحجر، وقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت حبيبي رسول الله قَبّلك ما قَتلتك (5).
__________
= صلى الله عليه وسلم عندها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال هذه المرأة؟". فأخبرته أم سلمة، فقال: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك"؟.) الحديث.
(1) مضى تخريجه ص (741).
(2) في الأصل: (وقالوا).
(3) سبق تخريجه بهذا اللفظ ص (461).
(4) سبق تخريجه بهذا اللفظ ص (328).
(5) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الرمل في الحج والعمرة (2/17).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (2/925).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في تقبيل الحجر (1/433). =

(3/743)


وغير ذلك من رجوع الصحابة إلى أفعاله في المسح وغيره.
وأيضا: فإن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كأقواله، بدليل: أنه يخص به العموم، ويبين به المجمل، فوجب أن يكون بمنزلته في حمله على الوجوب عند تجرده (1).
كما أن السنة لما ساوت الكتاب فيما ذكرنا ساوته في حملها على الوجوب عند التجريد.
ولأن الفعل إذا كان منه على سبيل القربة، احتمل أن يكون ندباً واحتمل أن يكون واجباً واحتمل الندب، فحمله على الوجوب أولى لما فيه من الاحتياط؛ لأن الندب يدخل في الواجب، والواجب لا يدخل في الندب.
فإن قيل: فقد يكون واجباً في حقه خاصاً له، فلا يلزم غيره.
قيل: إطلاق أفعاله عندنا محمولة على أنها له ولأمته، وإنما بقع منها خاصاً بدلالة، وإلا فالأمر بيننا وبينه مشترك.
واحتج من قال يستحب:
بقوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنتُم تُحِبونَ اللهَ فَاتبعُوني يحبِبْكم اللهُ) (2)، ومحبته تقتضي الاستحباب دون الإيجاب.
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في تقبيل الحجر (3/205).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب تقبيل الحجر (5/180).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب استلام الحجر (1/981).
(1) أعاد المؤلف الضمير بصيغة المفرد المذكر هنا وفي المواضع السابقة مع أنها عائدة إما على (أفعال) واما على (أقوال) ولعله قصد المفرد من ذلك.
(2) (31) سورة آل عمران.

(3/744)


[105/أ] والجواب: أن قوله: (فَاتَّبِعُونِي) (1) أمر، والأمر يقتضي الإيجاب. فالآية حجة لنا من هذا الوجه.
وقوله: (يُحْببْكُم اللهُ) لا يقتضي الاستحباب، لأن المحبة تكون لفعل الواجب والمستحب جميعاً.
واحتج: بقوله تعالى: (لقدْ كَانَ لَكُم في رَسوُلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة) (2) ولم يقل عليكم، فدل على أن التأسي به مستحب.
والجواب: أن في سياقها ما يدل على الوجوب، وهو قوله: (وَمَن يَتَول فَإن اللهَ هُوَ الْغَنِيَّ الْحَميدُ) (3) فتوعد على المخالفة.
ولأنه قال تعالى: (وَلَهُم اللَّعْنَةُ، وَلَهمْ سُوءُ الدارِ) (4) معناه: عليهم اللعنة.
واحتج: بأن وجوب أفعال - صلى الله عليه وسلم - لا تخلو من أن تثبت بالعقل أو بالسمع، والعقل لا يقتضي وجوبها؛ لأن المصالح تختلف باختلاف أحوال المكلفين، ولهذا خالفت الحائض الطاهر، والمقيم المسافر، فيجوز أن يكون فعله صلاحا له، ومتى فعلنا مثله كان فساداً لنا، فثبت بهذا أن العقل لا يقتضي وجوب مثل أفعاله علينا، والسمع لم يرد أيضاً بذلك ووجوبه.
والجواب: أنها وجبت بالسمع، وقد بينا ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.
واحتج: بأنه متى وجب علينا أن نفعل مثل فعله كنا متبعين له فيه،
__________
(1) في الأصل: (فاتبعوه).
(2) (21) سورة الأحزاب.
(3) (24) سورة الحديد.
(4) (52) سورة غافر.

(3/745)


ومعلوم أن المتبوع أوكد حالاً من التبع، فإذا كان كذلك، وكان (1) ظاهر فعله لا ينبىء عن وجوبه عليه، فلأن لا يدل على وجوبه علينا أولى.
والجواب: أن هذا يبطل على أصل المخالف، بالأمر، فإنهم جعلوه دالاً على الوجوب في حق غيره، ولا يدل على وجوبه عليه، لأن الآمر لا يدخل تحت الأمر، فلا يمتنع أن يكون الفعل من جهته كالأمر.
وعلى أنا نقول: إن ظاهر أفعاله تدل على الوجوب في حقه، كما قلنا في أوامره: هي لازمة له وهو داخل تحتها كالمأمور سواء، ولا فرق بينهما. وهذا قياس المذهب.
واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل الأفعال في أحوال لا يشاهد فيها، ولا يمكن حضوره والوقوف عليه، وما هذه صفته لا يجوز أن يكون واجباً علينا؛ لأن ما لا طريق لنا إلى معرفته لا نتعبد به، وإذا لم يكن الفعل الذي هذه حاله واجباً علينا، لم يجب أيضاً غيره من الأفعال، لأنه ليس بعض أفعاله بالوجوب أولى من بعض.
والجواب: أن ما يفعله في الخَلوَات يمكنه أن يخبر بها من لم يشاهد، كما أنه يجوز أن يأمر بالفعل من ليس يحضره، ثم يقع لهم بذلك الخبر.
واحتج: بأنه لا يخلو أن يكون [105/ب] المعتبر في هذا الباب بصورة أفعاله التي ظهرت دون الوجوه التي عليها وقعت، أو يكون المعتبر بصورتها مع الوجوه التي وقعت عليها، ولا جائز أن يكون المعتبر بصورتها فقط؛ لأنه لو وجب ذلك لجاز لنا إيقاع مثل الفعل الذي فعله على جهة الإيجاب مع وقوعه منه على جهة الندب أو الإباحة، وهذا باطل بالاتفاق. وإذا وجب
__________
(1) في الأصل: (فكان).

(3/746)


اعتبار صورة الفعل مع الوجه الذي وقع، فهذا يمنع أن يكون ظهور فعله دلالة على الوجوب.
والجواب: أن المعتبر بصورة الفعل فقط، إذا كان واقعاً على وجه القربة.
وقولهم: إنه قد يقع منه على وجه الندب والإباحة، غلط؛ لأن إطلاق أفعال القرب منه يقتضي الإيجاب، وإنما يحمل على الندب بدلالة.
واحتج: بأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - يَعْتوِرها معنيان: أحدهما الفعل و[ثانيهما] الترك؛ لأن الترك أحد قسمي الفعل، فلما لم يكن تركه موجباً علينا ترك الفعل الذي تركه، كذلك فعله، لا يوجب علينا مثل فعله.
والجواب: أن هذا يبطل بالأمر فإنه يَعْتَوِره معنيان: الأمر والترك، وترك الأمر لا يوجب ترك ما ترك الأمر به، وأمره يوجب امتثال ما أمر به.
واحتج: بأن حمله على الندب أولى؛ لأنه متحقق، وما عداه مشكوك فيه.
والجواب: أن حمله على الوجوب أولى، لما فيه من الاحتياط والخروج من الغرر.
واحتج أبو الحسن في مسألته (1) : بأن فعله قد يكون مصلحة له، دون أمته.
والجواب: أنه يبطل بأمره إذا خرج في رجل بعينه قد تكون مصلحة له ولا يختصه.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: (في مسائله).

(3/747)


وذكر أيضاً: بأن الصغائر قد تقع من الأنبياء، قال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبهُ فَغَوَى) (1).
وأخبر عن موسى لما قتل الرجل (هَذَا مِن عَملِ الشَّيْطَانِ) (2).
وكذلك ما وجد من إخوة يوسف، ومن داود، وإذا ثبت وقوع الخطأ منهم، لم يجب علينا احتذاء أفعالهم.
والجواب: أنا قد بينا أنه إنما يجب ما كان على سبيل القربه والطاعة.
واحتج من قال: إنها على الوقف:
بأنا لا نعلم على أي وجه فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل أن يكون فعله واجباً، ويحتمل أن يكون ندباً، ويحتمل [أن يكون] (3) إباحةً، ويحتمل أن يكون مخصوصاً دون أمته، وإذا لم يعلم على أي وجه أوقعه لم يصح الاقتداء به.
والجواب: أن الفعل المتجرد عن القرائن لا يكون إلا واجبا عاما فيه وفي أمته، وإنما يكون ندباً أو خاصاً له عند انضمام قرينة الندب، كما قلنا في صيغة الأمر إذا وردت [106/أ] متجردة عن القرائن اقتضت الوجوب، وإنما يحمل على الندب بقرينة.
وعلى أنه وإن كان محتملا للوجوب والندب، فحمله على الوجوب أولى، لما فيه من الاحتياط.
وجواب آخر، وهو: أن الاتباع قد يكون في الفعل وإن اختلف
__________
(1) (121) سورة طه.
(2) (15) سورة القصص.
(3) ما بين القوسين المعقوفين من تصويب الناسخ في هامش الأصل.

(3/748)


قصد التابع والمتبوع، فالمتنفل يأتم بالمفترض، فيتبعه في صلاته، وإن اختلفا في القصد والاعتقاد.
وكذلك من خرج للجهاد، فتبعه آخر يريد تجارة، سمي متبعاً له في سفره، وإن خالفه في قصده.
ومما يلحق بأول المسألة ما رأيت (1) في آخر كتاب النفقات من كتاب الشافي بخط عتيق: روى محمد بن هبيرة البغوي (2) عن أحمد بن حنبل رحمه الله قلت له: أليس أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً؟ قال: نعم، إلا أن منه أشد، قلت له: ففعله؟ قال: فعله ليس عليك بواجب، وذلك أنه كان يقوم حتى ترم قدماه (3)، ويفعل أفعالا لا تجب عليك (4).
وبهذا قال أصحاب أبى حنيفة.
فصل
وإذا ثبت أن أفعاله على الوجوب، فإن وجوبها من جهة السمع، خلافاً لمن قال: تجب بالعقل.
__________
(1) في الأصل: (ورأيت).
(2) من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/325).
(3) هذا الحديث رواه المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أخرجه عنه البخاري في كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترم قدماه (2/60).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4/2171-2172).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (4/255).
(4) هذه الرواية عن الإمام أحمد نقلها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/325)، في ترجمة محمد بن هبيرة البغوي، المذكور آنفا.

(3/749)


دليلنا:
أن أصل النبوة لما لم يثبت عقلاً، وإنما يثبت بدليل، ففعله أولى.
ولأن الأفعال الشرعية، تختلف بحسب اختلاف أحوال المكلفين، بدلالة أن الحائض مخالفة لحال الطاهر، وكذلك المقيم مخالف للمسافر، والغني والفقير، لم يمتنع أن تكون حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة لأحوالنا في الفعل، فيكون ما يفعله صلاحاً له، ومتى فعلنا مثله كان فساداً لنا، فوجب الرجوع في اتباع أفعاله إلى دلالة أخرى غير الفعل.
واحتج المخالف:
بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل ذلك على وجه القربة كان من مصالحه، فيجب أن يكون من مصالحنا.
والجواب: أن هذا يوجب كون الصلاة مصلحة في حق الحائض، لأنها مصلحة في حق الظاهر، وكذلك الصيام والقصر في حق المقيم، والزكاة في حق الفقير.
واحتج بأن ما أوقعه صواب وحق، فوجب اتباعه.
والجواب: أن هذا يبطل بما كان مخصوصاً به من الأشياء، ويبطل بالصلاة في حق الطاهر صواب وحق، وليس ذلك بصواب في حق الحائض.
واحتج: بأن في ترك اتباعه إظهار خلاف عليه ومباينة له، وذلك يوجب التنفير عنه والتصغير لشأنه، فوجب حملها على الوجوب.
والجواب: أن هذا باطل بما كان مخصوصاً به.
ويبطل أيضاً بأفعاله المباحة من الأكل والشرب واللبس والمشي،

(3/750)


فإن ترك اتباعه فيها يفضي إلى ما قالوه، ومع هذا لا يجب اتباعه وعلى [106/ب] أن هذا يوجب المشاقة في حق من لا يوجبها، وعندنا أنه يجب اتباعه فيها، وإنما تختلف في الطريقة التي بها يجب، فلا يصح ماقالوه.
مسألة (1)
يجوز أن يكون النبي الثاني متعبداً بما تعبد به الأول، والعقل لا يمنع من ذلك؛ لما فيه من المصلحة له، فلما لم يمنع أن يتفق حكم زيد وعمرو فيما هو مصلحة لهما من الشرعيات، ولم يمتنع أيضاً أن يختلف حكمهما في ذلك، وجب أن يجوز كون النبي الثاني متعبداً بما تعبد به الأول.
فإن قيل: لو جاز أن يكون الثاني متعبداً بما كان الأول متعبدا به لكان لا فائدة في بعثه وإظهار الإعلام على يده: ولأنه لم يأت بشريعة مبتدأة، وإنما نقل إلى قومه شريعة من تقدمه.
قيل: إنما يحسن إظهار الإعلام على يد النبي الثاني؛ لأنه لا بد من أن يأتي بما لا يعرف إلا من جهته، إما أن يكون ما يأتي به في شريعة مبتدأة، أو يكون ذلك مما كان الأول متعبداً به، إلا أنه قد درس وصار بحيث لا يعرف إلا من جهة النبي الثاني (2).
فإن قيل: فما أنكرتم أن لا يجوز أن يتعبد الثاني بخلاف ما كان الأول
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (182)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (104/أ)، و"روضة الناظر" وشرحها "نزهة الخاطر العاطر" (1/400) وما بعدها.
(2) وقد تعقبه شيخ الاسلام ابن تيمية في "المسودة" ص (183) بقوله: (وهذا فيه نظر، فإنه يجوز عندنا إظهار الكرامات للأولياء، فكيف للنبي المتبع؟ وتكون فائدته التقوية كأنبياء بني إسرائيل).

(3/751)


متعبداً به؛ لأْنه حينئذ يصير راداً لما أتى به الأول ومخالفاً له فيه، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز أن يخبر الثاني بخلاف ما أخبر به الأول.
قيل: لو كان الثاني متعبداً بما تعبد به الأول [فذلك] لا يوجب أن يكون راداً لما أتى به في الأول؛ لأنه يقول: ما يأتي به الأول حق وصواب، مثل ما أتيت به، وإن كان مخالفاً له، كما أن المستشارين إذا أشار أحدهما بخلاف ما يشير به صاحبه، لم يكن أحدهما راداً لرأي الآخر، بل يقول كل واحد منهما: إن ما يراه صاحبي صواب منه، وما رأيت أنا صواباً مني، وليس هذه حال الخبر، لأنه إنما يكون صدقاً وكذباً بحال (1) يرجع إليه؛ لأنه إن كان مخبره على ما أخبر به كان صدقاً (2)، وإن كان بخلاف ما أخبر به كان كذباً.
وأما الأفعال الشرعية، فإنها لا تكون حقاً وصواباً بحال يرجع إليها، وإنما يكون صوابا، لما فيه من المصلحة، فيكون الفعل الواحد مصلحة في حال، وتكون المصلحة في خلافه في حال أخرى، كالمرأة الطاهر (3) تكون المصلحة لها في الصلاة والصيام، وإذا حاضت كانت المصلحة لها في ترك ذلك.
وكذلك المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، ولا يمتنع أن تكون المصلحة للنبي الثاني في أن يتعبد بخلاف ما تعبد به الأول.
فإن قيل: كيف يصح هذا على أصلكم، وعندكم أن العقل لا يبيح ولا يحظر؟
قيل: من أصلنا: أن العقل لا مدخل له في إباحة شيء [107/أ] ولا
__________
(1) في الأصل: (محال).
(2) في الأصل: (صادقاً).
(3) في الأصل: (والطاهر)، والواو هنا لا معنى لها.

(3/752)


حظره، وكلامنا هاهنا: هل العقل يحيل ذلك؟ ولسنا نمنع وجوب (1) أشياء لا يحيل وجودها العقل كرؤية الله تعالى، وأشياء يحيل العقل وجودها كاجتماع الضدين.
مسألة (2)
إذا ثبت جواز ذلك، فهل كان نبينا متعبداً بشريعة من قبله أم لا؟
فيه روايتان:
إحداهما: أن كل ما لم يثبت نسخه من شرائع من كان قبل نبينا عليه السلام فقد صار شريعة لنبينا، ويلزمنا أحكامه من حيث إنه قد صار شريعة له، لا من حيث كان شريعة لمن قبله.
وإنما يثبت كونه شرعاً لهم بمقطوع عليه، إما الكتاب أو الخبر (3) من جهة الصادق أو بنقل متواتر، فأما الرجوع إليهم وإلى كتبهم فلا.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا، فقال في رواية أبي طالب فيمن حلفت بنحر ولدها، [عليها] كبش (4)، تذبحه وتتصدق بلحمه، قال الله تعالى: (وَفديناهُ بِذِبْح عَظِيم) (5).
__________
(1) لعله "وجود".
(2) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (183)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (104/ب-106/ب)، و"روضة الناظر" مع شرحها. "نزهة الخاطر" (1/400-403).
(3) في المسودة ص (184) : (مقطوعاً عليه إما بكتاب أو بخبر...).
(4) في الأصل: (فيمن حلفت بنحر ولدها كبشاً)، والتصويب من المسودة ص (184)، إلا أن القصة وقعت لرجل، والرواية من نقل صالح، وليست من نقل أبي طالب، كما هنا.
(5) (107) سورة الصافات.

(3/753)


فقد أوجب أحمد رحمه الله كبشاً في ذلك، واحتج بالآية عليه، وهي شريعة إلي إبراهيم.
وقال في رواية أبي الحارث والأثرم وحنبل والفضل بن [زياد و] (1) عبد الصمد (2) وقد سئل عن القرعة، فقال: في كتاب الله في موضعين: قال الله تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحضِينَ) (3)، وقال: (إذْ يُلقُونَ أقلامهُم) (4) فقد احتج بالآيتين في إثبات القرعة، وهي في شريعة يونس ومريم.
وقال أيضاً في رواية أبي طالب وصالح في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم فيهَا أَن النَّفْسَ بالنَّفْسِ) (5) فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا يُقتل مؤمن بكافر) (6)،َ قيل له: أليس قد قال الله تعالى: (النفس
__________
(1) زدنا ما بين القوسين؛ لأن "الفضل" ليس ابن "عبد الصمد"، وإنما هو ابن "زياد"، وهو من أصحاب الإمام أحمد، وقد سبقت ترجمته.
أما عبد الصمد هذا، فهو من أصحاب الامام أحمد أيضاً، كما سيأتي.
وقد نقل صاحب "المسودة" ص (184) كلام المؤلف هنا، كما أثبتناه.
(2) في "طبقات الحنابلة" (1/217-218) أربعة بهذا الاسم، كلهم من أصحاب الإمام أحمد الذين رووا عنه:
أ- عبد الصمد بن أبي سليمان بن أبي مطر.
ب- عبد الصمد بن يحيى.
جـ- عبد الصمد بن محمد العبادي.
د- عبد الصمد بن الفضل.
(3) (141) سورة الصافات.
(4) (44) سورة آل عمران.
(5) (45) سورة المائدة.
(6) هذا الحديث رواه أبو جحيفة رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الجهاد، باب فكاك الأسير (4/84) ولفظه: (... عن أبي جحيفة رضي الله =

(3/754)


بالنفس) ؟ قال: ليس هذا موضعه، علي بن أبي طالب يحكي ما في الصحيفة (لا يقتل مؤمن بكافر)، وعن عثمان ومعاوية (1) : "لم يقتلوا مؤمناً بكافر" (2).
__________
= عنه، قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر).
وأخرجه أبو داود عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه، وذلك في كتاب الديات، باب: أيقاد المسلم بالكافر؟ (2/488).
وأخرجه الترمذي عن أبي جحيفة في كتاب الديات، باب ما جاء لا يقتل مسلم بكافر (4/24).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب القسامة، باب سقوط القود من المسلم للكافر (8/21).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الديات، باب لا يقتل مسلم بكافر (2/110).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب القتل والجنايات، باب ما جاء في قتل الجماعة بالواحد وأنه لا يقتل مسلم بكافر (2/250).
وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده"، في كتاب القتل والجنايات، باب لا يقتل مؤمن بكافر (1/293).
وانظر في هذا الحديث أيضاً : "نصب الراية" (4/334)، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (617).
(1) هو: معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب، القرشي الأموي، صحابي جليل. ولد قبل البعثة بخمس سنين على الأرجح. كان من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم. ولاه عمر إمارة الشام، وأقره عثمان عليها. وبعد موت عثمان لم يبايع علياً، وحصلت الفتنة الكبرى، التي كانت الأولى في حياة المسلمين، التي انتهت بإمرة معاوية. توفي سنة (60 هـ).
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1416)، و"الإصابة" (6/112).
(2) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في كتاب العقول، باب دية المجوسي =

(3/755)


وهذا أيضاً يدل على أن الآية على ظاهرها في المسلمين ومن قبلهم، ولكنه عارضها بحديث الصحيفة، ولو لم يكن كذلك لما عارضها، ولقال:
ذلك خاص لمن قبلنا.
وبهذه الرواية قال أبو الحسن التميمي في جملة مسائل خرجها في الأصول. وهو قول أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه أبو سفيان عن أبي بكر الرازي.
وفيه رواية أخرى أنه لم يكن متعبداً بشيء من الشرائع، إلا ما دل الدليل على ثبوته في شرعه، فيكون: شرعاً له مبتدأ.
أومأ إليه رحمه الله في رواية أبي طالب في موضع آخر، فقال: (النفْسُ بالنفْسِ) كتبت على اليهود، وقال: (1) (وَكتبنا عليهمِ فِيهَا) (2) َ [أي] (3) في التوراة، ولنا (كُتِبَ عَليْكُم الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الحُر بِالحر وَالعبْدُ بالعبد وَاْلأنْثَى بالأنْثَى) (4).
وبهذا قالت المعتزلة (5) والأشعرية.
__________
= عن ابن عمر رضي الله عنهما (10/96) ولفظه: (أن رجلاً مسلماً، قتل رجلاً من أهل الذمة عمداً، فرفع إلى عثمان، فلم يقتله به، وغلظ عليه الدية، مثل دية المسلم، قال الزهري: وقتل خالد بن المهاجر رجلاً من أهل الذمة في زمن معاوية، فلم يقتله به، وغلظ عليه الدية ألف دينار).
وراجع أيضاً: "تلخيص الحبير" (4/16).
(1) في "المسودة" ص (185) (قال) بحذف الواو، وهو الأولى.
(2) (45) سورة المائدة.
(3) الزيادة من "المسودة" ص (185).
(4) (178) سورة البقرة.
(5) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" (2/899).

(3/756)


واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال: ما لم [107/ب] يثبت نسخه شرع لنا.
ومنهم من قال: ليس بشرع لنا.
واختلف القائلون بأنه كان متعبداً:
فقال بعضهم: بشريعة إبراهيم.
وقال قوم: بشريعة موسى إلا ما نسخ.
وقال قوم: بشريعة عيسى؟ لأنها ناسخة لشريعة موسى.
والأشبه: أنه كان متعبداً بكل ماصح من شرع من كان قبله من الأنبياء.
فالدلالة على أنه شرع لنا:
قوله تعالى: (أولئكَ الَّذيِنَ هَدىَ اللهُ فَبِهُداهُم اقْتَدِه) (1)، فذكر الله تعالى أنبياءه (2) : إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وغيرهم، وأخبر أنه هداهم، وأمر باتباعهم فيما هداهم به، والأمر يقتضي الوجوب.
فإن قيل: إنما أمر باتباعهم في التوحيد وما يدل العقل عليه لوجوه: أحدها: أنه أضاف ذلك إليهم، فاقتضى ما يقطع على كونه شرعاً لهم، وهو التوحيد، فأما غيره من الأحكام فغير مقطوع عليه، بل يحكم به من جهة غلبة الظن.
ولأنه قال: (وَمِن آبائِهِم وَذُرياتِهِمْ) (3)، وهدى الذرية هو التوحيد.
__________
(1) (90) سورة الأنعام، ولفظ الجلالة ليس في الأصل.
(2) في الأصل (وأنبياءه)، والواو لا معنى لها هنا.
(3) (87) سورة الأنعام.

(3/757)


ولأن الله تعالى ذكر من لم يكن نبياً في جملة من أمره بالاقتداء به من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.
ولأن ملة إبراهيم قد كان فيها المنسوخ، ومعلوم أنه لا يتعبد بالمنسوخ.
قيل: الهدي يتناول التوحيد وغيره، فالآية تقتضي وجوب الاتباع في جميعه.
وعلى أن التوحيد لا يتبع فيه غيره عندهم، وإنما يوحد بما هو مأمور [به]، والآية تقتضي اتباع غيره.
وجواب آخر وهو: أن التوحيد عندنا وما يدل العقل على صحته يجب بالشرع، ولا يجب بالعقل عبادة موجبة، ولا يصح السؤال.
وقولهم: إننا لا نقطع على أن غير التوحيد هدى لهم، فمتى لم نقطع على ذلك ونعلمه من جهة يقع العلم بها لم يجب اتباعه.
وما ذكروه من الذرية، فقد يكون التوحيد هدى لهم، وقد يكون غيره هدى لهم، فيجب اتباع جميعه.
وأما ذكر من لم يكن نبياً في جملة أمره بالاقتداء به، فغير مانع مما ذكارنا؛ لأن من لم يكن نبياً كانوا على شرائع الأنبياء صلوات الله عليهم متمسكين بها، بدلالة قوله تعالى: (وَاجتبينَاهُم وَهديناهُم إلى صِرَاط مُستْقيم) (1) وقد قال تعالى: (وَاتبعْ سَبِيلَ مَنْ أنَابَ إلي) (2)، وقال: (ويتبع غير سبيل المُؤْمِنِينَ) (3)، فلما
__________
(1) (87) سورة الأنعام، وفي الأصل: (فاجتبيناهم).
(2) (15) سورة لقمان.
(3) (115) سورة النساء.

(3/758)


كان سبيل المؤمنين متبعا، لم يمتنع أن يؤمر النبي باتباع ما اتبعه غيره ممن تقدمه.
وقولهم: إن في شريعة إبراهيم منسوخاً لا يضر؛ لأنا لما علمنا أنه لا يصح تكليف المنسوخ، علم أن الأمر لم يتناوله.
فإن قيل: لما أمر باتباعهم في هداهم صار ذلك ثابتاً بدليل شرعي، ونحن لا نمنع ذلك، وإنما الخلاف في حالة الإطلاق.
قيل: عندكم إذا دل على ذلك دليل شرعي [108/أ] صار حكماً مبتدأ، فإذا فعله الإنسان، لم يكن مقتدياً بهم ولا متبعاً لهم، والآية تقتضي اتباعهم والاقتداء بهم فيه.
ويدل عليه قوله تعالى: (وَكتَبْنا عَليهم فِيها أَنَّ النفْس بِالنفْسِ) (1) الآية، ولم يأمر بالاتباع، فلو كان الاتباع واجباً بأمر مجدد في شريعته لكان يقترن به، فلما لم يقترن به أمره دل على أنه إذا ثبت أنه شرع لغيره وجب عليه وعلى أمته الاتباع.
ويدل عليه قوله تعالى: (ثُم أوْحينا إليك أَنِ اتبعْ مِلةَ إبْرَاهيمَ حنِيفا) (2)، فأمره باتباع ملة إبراهيم، وأمره على الوجوب.
ويدل عليه قوله تعالى: (إنا أَنْزَلْنا التَوْرَاةَ فيهَا هُدى وَنورٌ يحكُمُ بها النبيونَ الَّذينَ أسْلَمُوا للذينَ هادُوا) (3)، ولم يفرق بين نبينا وبين سائر الأنبياء، قال: (وَمنْ لم يحكم بِما أَنْزَلَ اللهُ فأولِئكَ هُمُ الْكافِرُونَ)، (فأولئِكَ هُمُ الظالِمونَ)
__________
(1) (45) سورة المائدة.
(2) (123) سورة النحل.
(3) (44) سورة المائدة.

(3/759)


(فأولئِكَ هُمُ الفاسقونَ) (1)، والتوراة مما أنزله وتواعد من لم يحكم بها.
يؤكد هذا ما روي أن الربيع (2) كسرت سن جارية فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : (كتاب الله القصاص) (3). والذي في كتاب الله ما حكاه عن التوراة، وأن السن بالسن، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى الأحكام عنها، وعمل بها.
فإن قيل: قوله: (كتاب الله القصاص) إشارة إلى قوله: (فَمَنِ اعتَدى عَليْكُم فَاعتدوا عليْه) (4)، ولم يرد قوله: (السن بالسن).
قيل: هذا عام، و(السن بالسن) خاص، فكان رد كلامه إلى ما هو نص أولى من العموم.
وأيضاً: فإن الحكم إذا ثبت في الشرع لم يجز تركه، حتى يرد دليل بنسخه وإبطاله، وليس في نفس بعثة النبي ما يوجب نسخ الأحكام التي
__________
(1) (44-47،45) المائدة.
(2) هي: الربيع بنت النضْر الأنصارية. أم حارثة بن سراقة، وأخت أنس بن النضر، وعمة أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم. صحابية جليلة.
لها ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1838)، و"الإصابة" القسم السابع ص (642) طبعة دار نهضة كل مصر.
(3) هذا الحديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الديات، باب السن بالسن (9/10).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الديات، باب القصاص في السن: (2/503).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب القسامة، باب القصاص في السن: (9/23).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الديات، باب القصاص في السن: (2/884).
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (620).
(4) (194) سورة البقرة.

(3/760)


قبله، فإن النسخ إنما يكون عند التنافي، والبعثة إنما تكون بالتوحيد، وليس فيه منافاة لتلك الأحكام، فوجب التمسك بتلك الأحكام والعمل بها حتى يرد ما ينافيها ويزيلها، كما وجب ذلك قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأيضا: فإنه شرع مطلق، فوجب أن يدخل فيه كل مكلف إلا أن يثبت نسخه، أصله ما ثبت من الشرع المطلق، ولأن نبينا كان قد بعثه متعبداً، فدل على أنه كان مأموراً بشرع من قبله.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (لِكل جَعلنا منكم شرعة ومنْهَاجاً) (1)، والشرعة والشريعة واحد، والمنهاج: الطريق الواضح.
والجواب: أنه لا بد أن يكون بين الشريعتين اختلاف من وجه، وهو ما نسخ، وإن كان بينهما اتفاق من وجه، فحصلت الإضافة لهذا المعنى.
واحتج: بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بعثت إلى الأحمر والأصفر، وكل من بعث إلى قومه) (2) فدل على أنهم لم يكونوا مبعوثين [108/ب] إلينا، فلا يكون شرعهم لازماً لنا.
والجواب: أن قوله: "بعث" يعني: متبوعاً مقصوداً إلى قومه، وغير قومه تبع له.
__________
(1) (48) سورة المائدة.
(2) هذا الحديث أخرجه مسلم في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/370) عن جابر بن عبد الله وفيه: (.. كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود...).
وأخرجه الدارمي في كتاب الجهاد باب أن الغنيمة لا تحل لأحد قبلنا (2/142) عن أبي ذر، وفيه (.. بعثت إلى الأحمر والأسود...).

(3/761)


واحتج بما روي عن عمر بن الخطاب: أنه خرج يوماً وبريده قطعة من التوراة، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ما هذا؟ جئت بها بيضاء نقية، لو أدركني موسى ما وسعه إلا اتباعي) (1)، وأنكر حمل التوراة، وأخبر أن موسى لو أدركه لزمه أن يتبعه.
والجواب أنه إنما أنكر عليه، لأن التوراة مبدلة مغيرة، وأكثرها
__________
(1) حديث حسن رراه عبد الله بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، أخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" في (3/470-471)، وأخرجه عنه الطبراني كما حكى ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/173) وقال: (رجاله رجال الصحيح، إلا أن فيه "جابراً الجعفي" وهو ضعيف).
وأخرجه عنه البزار، قال الهيثمي: (رجاله رجال الصحيح، إلا "جابراً الجعفي" وهو ضعيف اتهم بالكذب).
ورواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/338).
كما أخرجه عنه أبو يعلى والبزار، فيما حكى الهيثمي، وفيه "مجالد بن سعيد" قال
الهيثمي: (ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما).
وأخرجه عنه البغوي في كتابه "شرح السنة" في كتاب العلم، باب حديث أهل الكتاب (1/270).
وأخرجه عنه البزار كما حكى الهيثمي، وفيه "جابر الجعفي" كما أخرج الإمام أحمد بعضه من هذه الطريق. ورواه أبو الدرداء رضي الله عنه، أخرجه عنه الطبراني في "الكبير" قال الهيثمي: (وفيه أبو عامر القاسم بن محمد الاسدي، ولم أر من ترجمه، وبقية رجاله موثقون).
ورواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجه عنه أبو يعلى، وفيه كما قال الهيثمي "عبد الرحمن بن إسحاق" ضعفه أحمد وجماعة.
ويلاحظ: أن القصة وردت بعدة ألفاظ، ولولا خوف الإطالة لأوردناها، ولكن من أراد الوقوف عليها فلينظر المراجع السابق ذكرها وبخاصة "مجمع الزوائد" (1/173-174).

(3/762)


منسوخ، فلا يجوز التمسك بها والرجوع إليها، ونحن لا نرجع إلى ما ثبت بالتوراة، وإنما نرجع إلى ما ثبت بدليل مقطوع عليه من قرآن أو خبر متواتر أو سنة متواترة أو وحي نزل به.
وقوله: (لو أدركني موسى لزمه أن يتبعني) ؛ لأنه يقتضي [أن يكون] واحداً من أمته، فيلزمه اتباعه.
فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العلة في نهيه عن النظر في التوراة: أنه لو كان موسى حيا لم يسعه إلا أن يتبعه، فامتنع أن تكون العلة في النهي كونها مغيرة مبدلة.
قيل (1) :
واحتج: بأن شرع من قبلنا لو كان شرعاً لنا لم يتوقف عن الجواب في الحادثة حتى ينزل الوحي، فلما توقف ولم يعمل بشرع من قبله، ثبت (2) أنه ليس بشرع له.
والجواب: أنه توقف؛ لأنه لم يكن عنده الحكم، ولا ثبت عنده الحكم في شرع غيره، فلهذا توقف، ألا ترى أن ما ثبت عنده صحته من أحكامهم، مثل استقبال بيت المقدس في الصلاة (3)، وغير ذلك، لم يتوقف فيه، بل كان يسارع إلى اتباعه والاقتداء به.
واحتج: بأنه لا يمتنع أن تكون المصلحة لأمة نبي في شيء، ومصلحة أمة أخرى في ضدها، فإذا لم يمتنع هذا امتنع (4) أن يكون: شرعهم شرعاً لنا.
__________
(1) هكذا في الأصل، لم يذكر الجواب عن هذا الاعتراض.
(2) في الأصل: (لم يثبت).
(3) سبق تخريجه في قصة تحويل القبلة ص (354).
(4) في الأصل: (فإذا لم يمتنع هذا لم يمتنع..).

(3/763)


والجواب: أنه لا يمتنع أن تكون مصلحة لهم، ويتصل بأمة بعدها، كما أن الصحابة تتعبد بما هو مصلحة لهم، ويكون شرعاً وديناً لمن بعدهم من التابعين.
واحتج: بأنه لو وجب علينا اتباع شرعهم لوجب أن نتتبع أدلتهم ونعرفها، كما يجب ذلك في حكم الإسلام، ولوجب علينا حفظ شريعتهم ودراستها.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يقال: إنه ثبت عندنا صحة بعض الأدلة بالأوجه التي ذكرناها، فوجب (1) المصير إلى موجبه والعمل به، كما يجب المصير إلى نفس الحكم، ويجب حفظه ودراسته ما يلزمنا حكمه، وهو ما ثبت عندنا كونه شرعاً لهم، فأما ما لم يثبت، وإنما يخبرون هم به، فإنه لا يجب ذلك؛ لأن حكمه لا يلزمنا.
واحتج: بأنه إنما يجب الرجوع إلى أحكام [109/أ] الشرع، إذا عرف جمل أحكامه وتفصيلها، لجواز أن يكون هناك ناسخ أو شيء يخص العام، وهذا غير ممكن في شرعهم.
والجواب: أن ما أخبر الله تعالى به فالظاهر أن حكمه ثابت غير منسوخ ولا مخصوص، لأنه لو كان منسوخاً أو مخصوصاً، لكان مطرحاً، ولم يبين حكمه.
واحتج: بأنه أضاف جميع الشرع إلى موسى وعيسى.
والجواب: أن هذا لا ينفي أن يكون الشيء منه شرعاً لغيره، لأننا نقول: إن جميعه مضاف إليه، وإن كان قد يلزم حكمه لغير أهل ملته.
__________
(1) في الأصل: (وجب).

(3/764)


واحتج: بأنه لو كان شرع من قبلنا شرعاً لنا، لوجب أن يبعث نبين في وقت واحد بشريعة واحدة، فلما لم يجز هذا، ثبت أنه ليس شرع من قبلنا شرعاً لنا، لأنه يفضي إلى أن يكون شرع نبيين على وجه واحد.
والجواب: أنه يجوز، وقد فعل، بعث إبراهيم وابن أخيه بشريعة واحدة، في وقت واحد، وبعث موسى وهارون بشريعة واحدة، في وقت واحد.
على أنه لو كان الأمر على ما قالوه، فإنما يمتنع هذا لوجود نبيين في وقت واحد، فأما إذا انقرض واحد، وقام غيره بعده، فإن شريعته شريعة نبي واحد.
واحتج: بأن جميع الشريعة مضافة إلى نبينا، فلو كان ما ليس فيها يجب العمل به بشريعة غيره، لم تضف إليه.
والجواب: أن ما يتبعه من شرع غيره، فهو شريعته، ومضاف إليه؛ لأنه لم ينسخه عنا.
فصل (1)
فأما قبل البعث، فإن نبينا عليه السلام كان متعبداً بشريعة من قبله، سواء قلنا: ليس شرع من قبله له بعد البعث، أو قلنا: هو شرع له.
وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية حنبل فقال: من زعم أن
__________
(1) راجع في هذا الفصل: المسودة ص (182)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (104/ب).

(3/765)


النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على دين قومه، فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟
وبه قال أصحاب الشافعي (1).
وقال قوم: ذلك على الوقف (2)، يجوز أن يكون متعبداً، ويجوز أن لا يكون.
وحكى أبو سفيان السرخسي عن أصحابه (3) أنه بعد البعث شرع من قبله قد صار شرعاً له، لا من حيث كان شريعة له قبله، فأما قيل أن يبعث، فإنه لم يكن متعبداً بشيء من الشرائع.
والدلالة على أنه كان متعبداً: ما تقدم من قوله تعالى: (ثُم أَوْحيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتبعْ مِلة إبْرَاهيمَ) (4)، وغير ذلك من الآيات.
ولأنه قبل البعث كان متبعاً لهم، بدليل أنه ركب الحيوان، وأمر بذبح الحيوان، وأكل لحمه، وحج واعتمر مراراً، فقيل: انه حج ثلاثاً، وكل هذا لا يوجد [109/ب] بالعقل، وإنما يفعل يشرعا، ثبت أن ما فعله شرع من قبله.
فإن قيل: ركوب الحمار وذبح الحيوان بالعقل.
قيل: الحج والعمرة لا يثبتان (5) بالعقل، وقد فعل ذلك، ثبت أنه
__________
(1) المختار عند الشافعية: الوقف، كما في جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/352).
(2) ومنهم إمام الحرمين والغزالي والآمدي. انظر المستصفى (1/246)، والإحكام (4/121).
(3) أي: الحنفية، وهو المختار عندهم، كما في مسلم الثبوت (2/183) مطبوع مع شرحه فواتح الرحموت.
(4) (123) سورة النحل.
(5) في الأصل: (لا يثبت).

(3/766)


فعل ذلك بالشرع لا غير.
وكذلك ذبح الحيوان ينافيه العقل، لما فيه من إيلام الحيوان. وكذلك الحصل عليه وركوبه (1)، طريقه الشرع دون العقل.
واحتج المخالف: بما تقدم لمن منع أن يكون شرع من تقدم شرعاً لنا، وقد أجبنا عنه.
واحتج: بأنه لو كان كذلك لوجب ظهور عمله بتلك الشريعة واقتدائه بها، ولو ظهر لنقل، ولم يخفَ على أهله ومن أتى به.
والجواب: أنه قد ظهر، ونقل مما ذكرناه عنه من صلاته وصيامه وحجه وعمرته وذبحه وركوبه. ن (2).
__________
(1) في الأصل: (من ركوبه).
(2) علامة الانتهاء من الباب.

(3/767)