العدة في أصول الفقه

باب النسخ (1)
حقيقة النسخ: هو الرفع والإزالة، ومنه يقال: نسخت الريحُ التراب والآثار، إذا أزالت ذلك. ونسخت الشمسُ الظل، إذا أزالته.
وقد يعبر به عن نقل الخط مِنْ موضع إلى كل موضع، يقال: نسخ فلان هذا الخبر إذا نقل ما فيه. ومنه قوله تعالى: (إنَّا كنَا نستنسخ ما كنتم تعملون) (2)، يعني نكتبه وننسخه، وهذا مجاز.
ويفتقر النسخ إلى وجود خمس شرائط:
أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ، فإن كان ملفوظاً به معه، فإنه يكون استثناء وتخصيصاً.
وأن يكون الحكم المنسوخ قد ثبتت بالشرع، ثم رفع، فأما إن كان الناس فعلوا شيئاً بعادة لهم، أقروا عليها، ثم رفع ذلك، لم يكن نسخاً، وكان ابتداء شرع.
__________
(1) راجع في هذا الباب: "المسودة" ص (195-232)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (93/أ-104/أ)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/189-235)، و"شرح الكوكب المنير" ص (254-271).
(2) (29) سورة الجاثية.

(3/768)


وأن يكون الرافع المزيل دليلاً شرعياً، فأما إن زال حكم العبادة من غير دليل، كمن جنَ أو مات، فإن فرض العبادة يسقط عنه، ولا يكون نسخاً.
وأن لا يكون للعبادة المنسوخة مدة معلومة، بل كانت مطلقة فقطع دوامها في الثاني. فأما إن كانت معلقة بمدة معلومة ففي نسخها كلام.
وأن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله، ولا يكون أضعف منه.
مسألة (1)
يجوز نسخ الشرائع عقلاً وشرعاً.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية صالح وأبي الحارث: قوله تعالى: (ما نَنْسَخْ منْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأهَا) (2) أن ذلك لجواز النسخ، وأن الله
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (195)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (94/أ-95/أ)، و"شرح الكوكب المنير" ص (256)، و"روضة الناظر" مع شرحها، "نزهة الخاطر" (1/198).
(2) (106) البقرة.
وفي قوله: (نَنْسَأها) قراءتان:
الأولى: (ننسأها) بفتح النون الأولى والسين، وسكون الهمزة بين السين والهاء، وهذه القراءة هي التي اختارها المؤلف، وقد كررها ثلاث مرات.
وبهذه القراءة قرأ ابن كثير وأبو عمرو.
كما قرأ بها عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعى وابن محصن.
والمعنى على هذه القراءة: ما ننسخ من آية الآن أو نؤخر نسخها. مأخوذ من النسأ، وهو التأخير. =

(3/769)


تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما أحب.
وبهذا قالت الجماعة.
وحكي عن أبي مسلم الأصفهاني (1) : أنه كان يمنع وقوع النسخ شرعاً ويجيزه عقلاً (2).
__________
= الثانية: (نُنْسِهَا) بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز.
وبها قرأ الباقون، أي من عدا ابن كثير وأبا عمرو.
والمعنى على هذه القراءة: ما ننسخ من آية أو ننسكها يا محمد، فلا تذكرها.
مأخوذ من النسيان الذي هو ضد الذكر.
راجع في هذا: "النشر في القراءات العشر" (2/219-220)، وكتاب "الكشف عن وجوه القراءات السبع" ص (1/257-259) وكتاب "السبعة في القراءات" ص (168)، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص (145).
(1) هو: محمد بن بحر الأصفهاني. قال ابن النديم: (كان كاتباً مترسلا بليغاً متكلماً جدلا). كان على مذهب المعتزلة، وقد ألف كتاباً في التفسير على مذهب المعتزلة أسماه: "جامع التأويل لمحكم التنزيل". له ترجمة في: "طبقات المعتزلة" ص (299)، و"طبقات المفسرين" للداودي (2/106)، و"الفهرست" ص (196) الطبعة التجارية و"لسان الميزان" (5/89).
وتد ذكر صاحب "المسودة" ص (195) أن اسمه: (يحيى بن عمر بن يحيى الأصبهاني).
كما ذكر صاحب "فواتح الرحموت" (2/55) أنه الجاحظ.
ولعل الصواب أنه "محمد بن بحر"، فقد نص الفتوحي في كتابه : "شرح الكوكب المنير" ص (256) على ذلك.
(2) نقل ذلك عنه عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه: "أصول الدين" ص (226-227) وقال: (... ولا اعتبار بخلافه في هذا الباب، مع تكذيبه لقوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها...).
ونقل الفتوحي في كتابه: "شرح الكوكب المنير" ص (256) عن ابن السمعاني =

(3/770)


واختلفت [110/أ] اليهود في جواز نسخ الشرائع على مذاهب:
منهم من منع ذلك من طريق العقل.
ومنهم من قال: لا يجوز من جهة السمع.
ومهم من قال: يجوز من جهة السمع والعقل، ولكن لا يؤمن بما جاء به نبينا، ولا يقر بمعجزاته، ولا يقبل شريعته.
والدلالة على جوازه شرعاً:
أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجباً بلا خلاف، ثم نسخه الله بالتوجه إلى الكعبة، بقوله تعالى: (فَوَل وَجْهكَ شطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ) (1) الآية.
وكذلك تقديم صدقة بين يدي نجوى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان واجباً بقوله تعالى: (إذَا نَاجيتم الرَّسُولَ فَقَدمُوا بيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَة) (2) ثم نسخ الله تعالى ذلك (3).
__________
= قوله: (وهو رجل معروف بالعلم، وإن كان قد انتسب إلى المعتزلة، ويعد منهم.
وله كتاب كبير في التفسير، وله كتب كثيرة، فلا أدري كيف وقع هذا الخلاف منه؟!).
وقد علق ابن بدران في كتابه: "نزهة الخاطر" (1/199) على ذلك بقوله: (... وبالجملة، فإن أبا مسلم إن كان قال هذا القول على إطلاقه فهو جاهل بأسرار الشريعة المحمدية جهلاً منكراً، والجاهل لا عبرة بخلافه، ولا بوفاقه في هذا الفن؛ لأنه فن المجتهدين، لا فن الأغبياء المقلدين).
(1) (144) سورة البقرة.
(2) (12) سورة المجادلة.
(3) والناسخ قوله تعالى: (أَأَشفَقْتُم أَنْ تُقَدمُوا بَيْنَ يَدي نَجواكُم صَدَقَات فَإذْ لمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيكُم فَأقيمُوا الصَلاَةَ وآتُوا الزكَاةَ) الآية (13) من سورة المجادلة.

(3/771)


وقال تعالى: (ما نَنسَخ من آيَةِ أَوْ نَنْسَأهَا (1) نَأتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (2) فأخبر أن فيه ناسخاً ومنسوخاً.
وقال تعالى: (فبِظُلْم من الذينَ هَادُوا حَرمنا عَلَيْهمْ طَيِّبَات أحِلَّتْ لَهُمْ) (3)، فأخبر أنه قد حرّم عليهم ما كان حلالاً لهم. وهذا هو النسخ. ونظائر ذلك كثير.
والدلالة على جوازه عقلاً:
أن الناس في التكليف على قولين:
منهم من قال: لله تعالى أن يكلف عباده بما شاء أن يكلفهم، لمصلحة ولغير مصلحة، ولكن لا يختلف أن التكليف إنما وقع على وجه المصلحة، كما أن ما يفعل فينا إنما يفعله للمصلحة.
ومنهم من قال: حسن التكليف لما فيه من مصالحهم.
وأيهما كان فإن النسخ يجب أن يكون جائزاً، لأنه على القول الأول، النسخ بمنزلة ابتداء التكليف، وعلى القول الثاني لا يمتنع أن يختلف حال المكلف في المصلحة، فيختلف التكليف، ألا ترى أن الرجل قد يكون من مصلحته في وقت البر واللطف، وفي وقت آخر مصلحته التشديد والعنف.
ويبين صحة هذا أن الطاهر تصوم وتصلي، والحائض تمنع منها.
ولأن تأخير بيان المراد باللفظ العام من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز، كتأخير بيان التخصيص، وهو تأخير لبيان المراد باللفظ العام في
__________
(1) هذه قراءة في الآية، وقد سبق الكلام على ذلك في أول المسألة.
(2) (106) سورة البقرة.
(3) (160) سورة النساء.

(3/772)


الأعيان، مثل قوله تعالى: (فَإذَا انْسَلَخَ الأشْهرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمشْركينَ) (1) وما أشبه ذلك.
فإن قيل: تخصيص عموم القرآن يجوز بخبر الواحد وبالقياس، ولا يجوز نسخه بهما.
قيل: يجوز ذلك في العقل، كما جاز ذلك في التخصيص، وإنما منعناه (2) شرعاً، وهو أن التخصيص لا يرفع الجملة، فجاز أن يقع بما هو دونه، والنسخ يرفع الجملة فلم يقع إلا بما هو أقوى من المنسوخ.
ولأن عندهم أن اعتقاد نبوة موسى عليه السلام، قبل أن بعث وظهرت معجزاته لا يجوز، ولم يجز الإخبارُ عن الله تعالى في تلك الحال وكان محظوراً، فلما ظهرت المعجزة على يده، صار الإخبار بثبوته طاعة، فما أنكرتم أن يكون الشيء عبادة ثم يخرج من [110/ب] أن يكون عبادة.
وأيضاً: لما حسن أن ينقلنا من حال إلى حال في الخلقة، فننقل من الصغر إلى الكبر. ومن الشباب إلى الهرم، ومن الصحة إلى السقم، ومن الحياة إلى الممات، حسن أن ينقلنا في التكليف، لأنه لا فرق بين ما يفعله بنا، وبين ما يأمرنا بفعله.
ولأن الله تعالى أمر آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه، وحرم ذلك في شريعة من بعده من الأنبياء.
وأباح العمل في السبت على ألسنة سائر الأنبياء، وحرمه على لسان موسى عليه السلام.
وكذلك إبراهيم عليه السلام خَتَن نفسه بعد الكبر. وهم يزعمون أن من
__________
(1) (5) سورة التوبة.
(2) في الأصل: (معناه).

(3/773)


شرع موسى المبادرة إلى الختان في اليوم الذي في يولد المولود.
وكذلك يزعمون أن يعقوب جمع بين الأختين في وقت واحد، وذلك لا يجوز في شريعة موسى. وهذا يدل على بطلان ما قالته اليهود، لعنهم الله.
واحتج من منع ذلك عقلاً:
بأن النسخ يفضي إلى البَدَاء، فإنه قد يكون أمر بشيء وأراده ثم علم من حال المأمور به في الثاني ما لم يكن قد علمه منه في وقت الأمر به، فأوجب النهي عنه، إذ لو لم يكن ذلك لكان بيّن مدة الفعل في وقت الأمر، وفي حصول الإجماع على بطلان ذلك دليل على فساد قول ما أدى إليه.
والجواب: أنا لا نقول: إنه لما أمر بها أراد بقاءها على الدوام، ثم بان له خلاف ذلك فنسخها، بل نقول: أمر بما أمر به، وهو عالم بما أمر وبما ينهي عنه بعده، ولم يظهر له شيء كان خفياً عنه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل نقول: إنه حين أمر بها أمر وهو يريد بقاءها والتعبد بها، إلى أنه معلوم عنده أن فيه مصلحة أو لا مصلحة فيه، وإن لم يطلع عليه، ولا يوجب ذلك أن يكون قد ظهر له منه في حال النهي مالم يكن عالماً به، ألا ترى أنه إذا نهى عن فعل من الأفعال ابتداء، فإنه لا يوجب ذلك أن يكون عالماً حال النهي ما لم يكن قد علمه قبل ذلك، ثم هذا يبطل بنقل الانسان من حال إلى حال.
وقيل الجواب عن هذا: إنما يقتضي البَدَاء لو أمر بفعل عبادة في وقت، ثم ينهي عنها في ذلك الوقت على جهة واحدة، فأما إذا نهي عن مثل تلك العبادة التي أمر بها، فلا يفضي إلى البدَاء.
وقد كشف بعض المتكلمين عن هذا الجواب، وقال: إن هذا

(3/774)


يجري مجرى ما لو علق الآية بمدة، نحو قوله: "صلوا عشرين سنة"، فإن ما بعد المدة يسقط الأمر على غير وجه البَدَاء، كذلك إذا أمر به مطلقاً إلى مدة معلومة عنده، وكذلك أفعال الله تعالى تجري هذا المجرى بدليل أنه يغني الواحد في وقت، ويفقره في وقت آخر، ويسود الشيء في وقت، ويبيضه في وقت، [111/أ] ويحرك الشيء في وقت، ويسكنه في وقت، ويحييه في وقت، ويميته في وقت.
وكذلك آدم كان يزوج بناته من بنيه، وكان مباحاً، ثم حظره الله تعالى عندهم.
وكذلك جميع ما شرعه موسى لم يكن لمن قبله من الأنبياء.
وكذلك اختتان إبراهيم عليه السلام بعد الكبر.
واحتج: بأنه يؤدي إلى التناقض من قبَل أنه أمر بعبادة، وكان عملها حسنا، فإذا نهي عنها بعد مدة يصير فعلها مفسدة، بعد أن كان مصلحة.
والجواب: أنه لا يؤدي إلى ذلك، لأنا لا نجعل العبادة الواجبة مصلحة ومفسدة، أو حسنة وقبيحة، وإنما نجعل العبادة مصلحة في وقت، ومفسدة في وقت آخر. ثم إن هذا يبطل بانتقالنا من حال إلى حال.
واحتج: بأن الأمر إذا ورد مطلقاً اقتضى فعل المأمور به أبداً، ووجب على المأمور أن يعتقد وجوبه عليه أبداً، ويكون ذلك الاعتقاد حسناً، فلو جاز ورود النهي عن مثل ذلك في المستقبل، لكان ذلك دلالة على البداء؛ لأنه قد نهي عما وقع الأمر به على الوجه الذي أمر به، ولصار الاعتقاد الذي كان محكوماً له بالحسن قبيحاً.
والجواب: عن قوله: إن الأمر يقتضي فعل المأمور به أبداً، خطأ؛ لأن التكليف قد يسقط بمعانٍ (1) تطرأ على المكلف، مثل الموت والجنون
__________
(1) في الأصل: (معاني).

(3/775)


والعجز، وما يجري هذا المجرى، فكيف يصح أن يكون الأمر مقتضياً لوجوب المأمور به أبداً.
وقوله: إن ذلك يكون بدَاءً، خطأ؛ لأن النهي ها هنا لا يقع عما وقع الأمر به، وإنما وقع النهي عن مثله في المستقبل، وهذا غير ممتنع؛ لأن الفعلين قد يكونا متماثلين من جنس واحد، مع كون أحدهما حسناً وفيه المصلحة، وكون الآخر قبيحاً ولا مصلحة فيه، ألا ترى أن اعتقاد المكلف نبوته، واعتقاده لها يكون مصلحة بعد بعثه الله تعالى إياه، ولا يكون مصلحة قبل أن يبعثه نبياً.
وقولهم: إن عليه أن يعزم على الفعل ويعتقده أبداً، فليس كذلك، وإنما يعتقد وجوبه إلى ما لم يرفع عنه.
واحتج: بأنه لو جاز ورود النسخ في الشرائع، لجاز مثله في اعتقاد التوحيد.
والجواب: أن الفعل الشرعي يجوز أن يكون مصلحة في وقت، ولا يكون مصلحة في وقت آخر مع بقاء التكليف، ويكون مصلحة لزيد، ولا يكون مصلحة لعمرو.
فاما فعل التوحيد، فلا يخرج عن أن تكون المصلحة فيه لجميع المكلفين وفي جميع الأوقات.
يبين صحة هذا: أنه لايجوز أن يجمع بين الأمر بالفعل الشرعي وبين النهي عن مثله، بأن يقول: "صلوا هذه السنة، ولا تصلوا بعدها"، ولا يجوز أن يجمع بين إيجاب اعتقاد التوحيد وبين النهي [111/ب] عن مثله في المستقبل.
واحتج: بأنه لو جاز ورود النهي عن الفعل بعد ورود الأمر بمثله مطلقاً، لكان ذلك مؤدياً إلى أن لا يكون ها هنا معنى يدلنا على تأبيد

(3/776)


العبادة، وفي ذلك إبطال قدرة الله تعالى على أن يدلنا على تأبيد العبادة إلى وقت زوالها بزوال التكليف.
والجواب: أنه يجوز تأبيد العبادة بأن ينقطع الوحي، أو يضطر إلى قصد (1) الرسول فيه، كما اضطررنا إلى قصده في تأبيد شريعته، وأنه لا نبي بعده.
واحتج من قال منهم بأنه لا يجوز النسخ شرعاً: بما روي عن موسى عليه السلام أنه قال: "شريعتي مؤبدة ما دامت السموات والأرض".
والجواب: أن هذا كذب.
وقيل: إن أول من قال هذا لليهود ابنُ الراوندي (2) بأصبهان (3)، فإنه أخذ منهم دنانير، وعلمهم ذلك، وقال: قولوا لهم: إن شريعتنا مؤبدة، كما يقولون.
__________
(1) في الأصل: (فعله) والتصويب من "المسوّدة" ص (195).
(2) هو: أحمد بن يحيى بن الراوندي. نسبة إلى: (رواوند) قرية من قرى (قاسان) بالسين المهملة من نواحي (أصبهان).
كان ملحداً ملازماً للزنادقة والرافضة. وكان من المعتزلة، ثم خرج عنهم، وصنف الكتب في الرد عليهم. له كتب كثيرة، منها: "الدامغ" يدمغ به القرآن، ومنها "الزمردة"، ومنها نصيحة المعتزلة. مات سنة (300 هـ)، أو (301 هـ).
له ترجمة في "شذرات الذهب" (2/235)، و"طبقات المعتزلة" ص (299).
(3) (أصبهان) بفتح الهمزة وكسرها، والأول أكثر وأشهر. وهي لفظ معرب معناها الجيش، والكلام على تقدير مضاف، أي: مدينة الجيش، وهي مدينة عظيمة مشهورة ويطلق: (أصبهان) على الاقليم كله.
انظر: "مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع" (1/87).

(3/777)


والدليل على ذلك: أن هذا لو كان صحيحاً لوجب أن يكون اليهود قالوا لعيسى ونبينا صلى الله عليهما وسلم مع تصديقهما لموسى عليه السلام ومخالفتهما لشريعته عليهم السلام، فلما لم ينقل أن أحداً قال لهما هذا، مع حرصهم على تكذيبهما والرد عليهما وتنفير الناس عنهما، دل على أنه لا أصل له.
وجواب آخر وهو: أنه لو ثبت لكان معناه إلا أن يدعو صارف إلى تركها وهو من ظهرت المعجزة على يده، وثبتت نبوته، مثل ما ثبتت نبوة موسى، والخبر يجوز تخصيصه كما يجوز تخصيص الأمر والنهي.
فصل (1)
والنسخ في اللغة عبارة عن شيئين:
أحدهما: الإزالة، فإذا كان في موضع آثار، فزالت، قالوا: "نسخت الآثار"، ويقال: "نسخت الشمس الفيء"، إذا أزالت الفيء.
والثاني: عبارة عن نقل مثل الشيء عن موضعه إلى موضع آخر، ومنه قوله تعالى: (إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كنْتم تَعْمَلُون) (2)، معناه ننسخ العمل، وهو باق على ما كان (3).
وهو في الشرع: عبارة عن إخراج ما لم يرد باللفظ العام في الزمان، مع تراخيه عنه.
__________
(1) راجع في هذا الفصل: "التمهيد" الورقة (93/أ)، و"روضة الناظر" مع شرحها، "نزهة الخاطر" (1/189).
(2) (29) سورة الجاثية.
(3) في المعنى اللغوي راجع: "القاموس المحيط" (1/271) مادة "نسخ"، و"معجم مقاييس اللغة" (5/424).

(3/778)


وقولنا: مع تراخيه، احتراز من التخصيص، فإنه يكون متراخياً ومقارناً. ولا يبطل هذا بقوله: (ثُم أَتمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْل) (1)، أن زمان العبادة ينقص، وليس بنسخ؛ لأَنا قلنا مع تراخيه، والحد مقارن.
وقال قوم من المتكلمين: هو إخراج ما أريد باللفظ. وهذا غلط، لأنه يؤدي إلى البَداء على الله تعالى فإنه إذا أراد أن يكون التوجه إلى بيت المقدس واجباً بعد ستة عشر شهراً، ثم لم يرد ذلك، كان بداءً، وذك لا يجوز عليه لاستحالة جواز الجهل [112/أ] والنسيان عليه.
فإن قيل: فقد أجزتم نسخ الشيء قبل فعله، وإن كان بداءً.
قيل: ليس ذلك بداءً؛ لأنه يحمله على أن الأمر اقتضى مقدمات الفعل، ويكون تقديره ما لم أنسخه عنك؛ لأنه ليس من شرط الأمر إرادة المأمور به.
الفرق بين النسخ والتخصيص
والفرق بين النسخ والتخصيص من وجوه:
أحدها: من شرط الناسخ أن يتأخر عن المنسوخ، فلا يسبقه، ولا يقارنه. وأما التخصيص: فالذي يقع به التخصيص يصح أن يسبق المخصوص ويقارنه ويتأخر عنه.
والثاني: لا يصح النسخ إلا بمثل المنسوخ في القوة، وأقوى منه، والتخصيص يصح بمثل المخصوص وما دونه، وأضعف منه، لأن
__________
(1) (187) سورة البقرة.

(3/779)


التخصيص لا يرفع كل الخطاب، وإنما يخص بعضه، وترك الباقي على ما هو عليه، فكان أخف من النسخ، فصح التخصيص بأخبار الآحاد والأفعال والقياس، والنسخ أقوى؛ لأنه رفع الخطاب كله، فقوي في بابه، فلا يجوز رفعه إلا بمثله في القوة أو ما هو أقوى.
الثالث: النسخ يرفع كل النطق، والتخصيص يبقي بعض اللفظ (1).
فصل (2)
والنسخ على ثلاثة أضرب: نسخ الحكم دون الرَّسْم، ونسخ الرسم دون الحكم، ونسخ الرسم والحكم.
أما نسخ الحكم دون الرسم فجائز، وذلك مثل الوصية للوالدين والأقربين (3). ومثل عدة الوفاة، فإن ذلك منسوخ، ورسمه في القرآن.
وذلك أن العدة كانت في بدء الأمر حولاً، فنسخت إلى أربعة أشهر وعشر، وهما جميعاً في القرآن، قال تعالى: (وَالّذِين يتَوَفّوْنَ مِنْكُم وَيَذَرُونَ أزْوَاجاً وَصِيّةً لأزْوَاجِهِم مَتَاعاً إلَى الْحَوْلِ
__________
(1) بقي بعض الفروق بين النسخ والتخصيص، لم يذكرها المؤلف، وقد ذكر جملة منها ابن قدامة في كتابه: "روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (197-198)، فارجع إليه إن شئت.
(2) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (198)، و"روضة الناظر" مع شرحها:
"نزهة الخاطر" (1/201-203)، و"شرح الكوكب المنير" ص (262-264).
(3) يشير المؤلف بهذا إلى قوله تعالى: (كُتِبَ عَليكُمِ إذَا حَضَرَ أَحَدَكمُ الموتُ إنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيّةُ للْوالدينِ والأقرَبِين بِالْمَعْرَوفِ حَقاً عَلَى المتقِينَ)، وقد وفى ابن كثير الموضوع حقه في تفسيره (1/211-212).

(3/780)


غيرَ إخْراج) (1)، نسخ بقوله: (والّذِينَ يتوَفَّوْنَ منْكُم وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسهن أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً) (2).
وأما نسخ الرسْم دون الحكم فجائز أيضاً، وذلك مثل آية الرجم، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لولا أن يقال: عمر زاد في كتاب الله، لكتبت في حاشية المصحف: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم (3).
وكذلك نسخ التتابع في صوم كفارة اليمين في قراءة عبد الله، وبقي حكمها (4).
__________
(1) (240) سورة البقرة.
(2) (234) البقرة. وراجع في هذا: تفسير ابن كثير(1/296-297).
(3) هذا الحديث روي مطولاً، كما روي مختصراً، وقد أخرجه البخاري في كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى من الزنا (8/210).
وأخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب رجم الثيب الزاني (3/1317).
وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في الرجم (2/456).
وأخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في تحقيق الرجم (4/38).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب الرجم (2/853).
وأخرجه الإمام مالك في كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم ص (514).
وأخرجه الدارمى في كتاب الحدود، باب في حد المحصنين بالزنا (2/99).
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحدود، باب النهي عن مقدمات الزنا وما يوجب الرجم... (2/283).
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (5/183).
وهي من الآيات التي نسخت تلاوتها، وبقي حكمها، ومراد عمر من قوله هذا أن يبقى في أذهان الناس حكم الآية، لا تلاوتها، والله أعلم.
(4) وذلك في قوله تعالى: (فَصِيَام ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كفّارَةُ أيْمَانِكُم) قرأ ابن مسعود رضي الله عنه: (فَصيَامُ ثَلاثَةِ أيَّام مُتَتَابِعَات).
راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (1/148).

(3/781)


وقال قوم: لا يجوز نسخ الرسم مع بقاء حكمه.
دليلنا:
أن التلاوة لا تفتقر إلى الحكم الشرعي، ولا الحكم الشرعي يفتقر إلى التلاوة، بل يجوز أن ينفصل كل واحد كل منهما عن الآخر؛ لأن الحكم قد يثبت من غير تلاوة، مثل أفعال النبي، فصارت التلاوة مع حكمها بمنزلة عبادتين، فلما جاز نسخ إحدى العبادتين دون الأخرى، كذلك نسخ التلاوة [112/ب] دون الحكم، ونسخ الحكم دون التلاوة.
فإن قيل: لما لم يجز وجود العلم في القلب من غير أن يكون صاحبه عالماً، ولا وجوده عالماً من غير وجود العلم في قلبه، كذلك لا يجوز وجود الحكم من غير تلاوة.
قيل: قد بينا هذا، وقلنا: إن التلاوة والحكم ينفصل كل واحد منهما، وليس كذلك العلم، لأنه لا يجوز أن ينفصل كونه علماً يعلم من العلم الذي صار به عالماً.
وأما نسخهما فمثل ما روي عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: (كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات فتوفي (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي مما يقرأ في القرآن) (2)
__________
(1) في الأصل: (من في).
(2) هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات (2/1075).
وأخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء لا تحرم المصة والا المصتان (3/147).
وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب هل يحرم ما دون خمس رضعات (1/476). =

(3/782)


فكانت العشر (1) منسوخة الحكم والرسم.
وقد ينسخ إلى بدل وغير بدل:
فما نسخ إلى غير بدل: العدة حولاً إلى أربعة أشهر وعشر، وما زاد على أربعة أشهر لغير بدل.
وما ينسخ إلى بدل فعلى أربعة أضرب: نسخ واجب إلى واجب، وواجب إلى مباح، وواجب إلي ندب، ومحظور إلى مباح.
فأما واجب إلى واجب، فعلى ضربين:
واجب مضيق إلى مثله، كنسخ القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة (2).
وواجب مخير إلى مضيق، كالصيام، كان المطيق القادر عليه في صدر (3) الإسلام مخيراً بين الصيام والفدية، فنسخ إلى مضيق وحتم (4)،
__________
= وأخرجه النسائي في كتاب النكاح باب القدر الذي يحرم من الرضاعة (6/83).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا تحرم المصة ولا المصتان (1/625).
وأخرجه الدارمي في كتاب النكاح، باب كم رضعة تحرم؟ (2/80).
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الرضاع، باب جامع ما جاء في الرضاعة ص (376).
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب تحريم الرضاع كتحريم النسب (2/333).
(1) في الأصل: (العشرة).
(2) سبق تخريج هذا في قصة تحويل القبلة ص (354).
(3) في الأصل: (صدور).
(4) ومن القائلين بالنسخ معاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وابن أبي ليلى وعلقمة وابن شهاب، ورجحه الطبري. وهناك فريق من العلماء ذهبوا إلى أن الآية محكمة وليست منسوخة، ثم اختلفوا بعد ذلك في تفسيرها فذهب ابن عباس والسدي وسعيد بن المسيب إلى أن معنى قوله تعالى: (وَعَلَى الذينَ يُطِيقُونَهُ) =

(3/783)


قال الله تعالى: (وَعَلى الّذينَ يطيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَام مَسَاكِين) (1)، ثم قال: (فَمنْ شَهِدَ مَنْكُمُ الشَّهْرَ فَليَصُمْهُ) (2).
وأمّا واجب إلى مباح، فالصدقة عند مناجاة الرسول، كانت واجبة بقوله تعالى: (إذَا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدموا بيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدقة) (3)، فنسخ ذلك الوجوب إلى جواز تركها وجواز فعلها بقوله [تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدَمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَات فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكمْ فَأَقيموا الصَلاَةَ وَآتُوا الزكاةَ 000)] (4) وأما واجب إلى ندب [فـ] كالمصابرة في صدر الإسلام، على كل واحد أن يصابر عشرة، فنسخ إلى اثنين، وندب إلى ما زاد بقوله تعالى:
__________
= يطيقون صومه في حال شبابهم وصحتهم، فإذا ما كبروا وعجزوا عن الصوم فعليهم فدية طعام مسكين.
وذهب ابن عباس وعلي وعكرمة وطاوس والضحاك إلى أن الآية تقرأ: (وَعَلَى
الذينَ يُطَوِّقُونَهُ)، ومعنى ذلك: أن الشيخ والشيخة العاجزين عن الصوم لكبرَهما الذين يكلفهما الصوم، فلا يطيقانه، لهما أن يفطرا، وعليهما فدية طعام مسكين عن كل يوم.
راجع في هذا: "تفسير الطبري" (3/418-438)، و"تفسير ابن كثير" (1/213-215).
(1) (184) البقرة. وقراءة (مساكين) بالجمع، كما أثبتها المؤلف، قرأ بها نافع وابن ذكوان وغيرهما. أما قراءة (مسكين) بالافراد، فقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وغيرهم.
انظر: "اتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص (154).
(2) (185) سورة البقرة.
(3) (12) سورة المجادلة.
(4) (13) سورة المجادلة.

(3/784)


(إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عشْرونَ صَابِرُونَ يَغْلبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يكنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبوا أَلْفاً مِنَ الَّذينَ كًفَرُوا) (1) فنسخ الله هذا رحمة منه لعباده ورخصة بقوله: (الآنَ خَففَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أن فِيكُمْ ضَعْفاً فَإنْ يَكنْ منكمْ مائةٌ صابِرَةٌ يَغْلبوا مِائَتيْنِ وَإنْ يَكُنْ منْكُمْ أَلْفٌ يَغْلبُوا أَلْفَيْنِ بإذْن الله) (2) فنسخ إلى مصابرة كل واحد اثنين، وندب إلى مصابرة أكثر.
وأما نسخ حظر إلى أمر (3) إباحة، كقوله: (عَلِمَ اللهُ أنّكُمْ كنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عليْكمْ وَعفَا عنكمْ فَالآْنَ بَاشَرُوهُن وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لكُمْ وَكُلُوا وَاشْربُوا حَتّى يَتَبَيّن لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيضُ مِنَ الْخَيْط الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (4) فكان الأكل والشرب والمباشرة [113/أ] محظورَة، ثم نسخت.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (كنتم قد نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا إلا خيراً)، فأباحه بعد الحظر.
مسألة (5)
يجوز نسخ الشيء بمثله، وأخف منه وأثقل.
وهو قول الجماعة.
واختلف أهل الظاهر فيما حكاه الحرزي في مسائله:
__________
(1) (65) سورة الأنفال.
(2) (66) سورة الأنفال.
(3) غير واضحة في الأصل.
(4) (187) سورة البقرة.
(5) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (201)، و"التمهيد في أصول الفقه" =

(3/785)


فذهب جماعة منهم إلي هذا.
ومنع منه آخرون، وقالوا: لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل، وهو قول أبي [بكر بن] (1) داود.
دليلنا:
أن الله تعالى أوجب الصوم في أول الإسلام على التخيير. ثم نسخ ذلك وحتمه: والانحتام أغلظ من التخيير.
وهكذا كان حد الزاني في أول الإسلام الحبس (2) بقوله تعالى: (وَالَلاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نسائِكُم فَاسْتَشْهِدُوا عَليْهِن أَرْبعة مِنْكمْ فَإنْ شَهِدُوا فأَمْسكوهُن فِي الْبُيوتِ حَتّى يَثوَفاهن الْمَوْتُ أَوْ يجْعلَ الله لهن سَبِيلاً) (3) ثم نسخ ذلك، وجعل حد البكر الجلد والتغريب، والثيب الجلد والرجم. وهذا نسخ شيء إلي ما هو أغلظ منه وأشد، فثبت جواز ذلك.
ولأن حقيقة النسخ: الرفع والإزالة، وإثبات الحكم الثاني طريقه ابتداء شرع، لا أنه من مقتضى الحكم الأول وموجبه، ألا ترى أن الله تعالى لو رفع حكماً ولم يثبت مكانه شيئاً آخر كان ذلك نسخاً، فلم يمتنع أن يزيل حكماً ويثبت مكانه أغلظ منه وأشد؟
__________
= الورقة (95/ب)، و"الواضح في أصول الفقه" الجزء الثاني الورقة (235/أ-239/أ)، و"روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (1/217-225)، و"شرح الكوكب المنير" ص (261).
(1) الزيادة من "التمهيد في أصول الفقه" لأبي الخطاب الورقة (95/ب).
(2) في الأصل: (في الحبس)، و"في" هنا زائدة، لا معنى لها.
(3) (15) سورة النساء.

(3/786)


ولأنه لا يمتنع أن تكون المصلحة في الأغلظ، وفيما مضى من الأخف.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (ما ننْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نَنْسأها نَأت بِخيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (1) ومعلوم أنه لم يرد بقوله : خيراً منها فضيلة الناسخ على المنسوخ؛ لأن القرآن كله متساوي الفضيلة، فعلم أنه إنما أراد بالخير الأخف.
والجواب: أن الشيء إنما يوصف بأنه خير من غيره؛ لأن النفع الذي فيه يكون موفياً على النفع الذي في غيره. ألا ترى أنك تقول: فعْلُ الفرض خير لك من فعل النافلة، تريد (2) أنه أنفع له (3)، ومعلوم أن النفع في الفعل، إنما يكثر بكثرة المشقة فيه، أو بكثرة انتفاع غير الفاعل به، بدلالة أن القتال في سبيل الله أكثر نفعاً في باب الثواب من الصوم؛ لأن المشقة فيه أكثر من المشقة في الصوم، وإن دعوة نبينا إلى دين الله تعالى كانت أعظم ثواباً من دعوة غيره من الأنبياء عليهم السلام. لأنه قد انتفع بها أكثر مما انتفع بدعوة غيره، [113/ب] إذ كان من أجابه إليها أكثر ممن أجاب إلى دعوة غيره من النبيين، وإن كان فيهم من لحقه من المشقة أكثر مما لحق نبينا عليه السلام، فإذا كان فعل الأشق أنفع من فعل الأخف في باب الثواب وجب أن يكون أنفع منه، فيصح النسخ به.
واحتج بأن النسخ في اللّغة هو الإزالة، وإسقاط العبادة، فمقتضاه التخفيف دون التثقيل.
__________
(1) (106) سورة البقرة.
(2) في الأصل: (يريد)، بالمثناة التحتية.
(3) في الأصل: (به).

(3/787)


والجواب: أن الإزالة والإسقاط موجود ها هنا، لأنه رفع ما كان عليه من الحكم السابق.
وقولهم: إن كل مقتضاه التخفيف ليس كذلك؛ لأن الحكم الثانى ابتداء شرع، لا أنه من كل مقتضى الحكم الأول وموجبه.
واحتج بأن الله تعالى نسخ الشيء رحمه للمكلف وطلباً لنفعه، فيجب أن لا ينسخ إلا بما هو أخف منه؛ لأن ذلك أولى بالرحمة.
والجواب: أن من رحمة الله تعالى له أن يكلفه أنفع الأشياء له، وأدعاها إلى عظيم ثوابه، وقد يكون ذلك فيما يشق عليه، كما يكون فيما هو أخف منه، بل قد يكون الأشق أنفع وأجزل لثوابه.
وجواب آخر وهو: أن هذا يوجب أن لا يبتدىء أحداً بتكليف ما يشق عليه، لأن ذلك أخف وأسهل وأدعي إلى الرحمة، ويلزمه أن يكون الله تعالى إذا أسقط عبادة، أسقطها لا إلى بدل أصلاً؛ لأن ذلك أخف.
مسألة (1)
لا يجوز نسخ القرآن بالسنة شرعاً، ولم يوجد ذلك.
نص عليه رحمه الله في روية الفضل بن زياد وأبي الحارث وقد سئل: هل تنسخ السنة القرآن، فقال: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، والسنة
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (201)، و"التمهيد في أصول الفقه" لأبي الخطاب الورقة (97/ب) و"الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل الجزء الثاني الورقة (224/ب).

(3/788)


تفسر القرآن (1). وبهذا قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة (3).
وحكي ذلك عن مالك (4) والمتكلمين من المعتزلة (5)
واختلف أهل الظاهر في ذلك (6).
دليلنا:
قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِن آية أو ننسها نأت بخير منها أَوْ مِثْلِها) (7)، وقرىء: (نَنسَأهَا) (8)، والمراد به من
__________
(1) وهناك رواية ثانية عن الإمام أحمد، ذكرها أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة (97/ب) واختارها وهي أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة.
على أن هناك أيضاً رواية ثالثة عن الإمام أحمد، ذكرها ابن عقيل في كتابه "الواضح" الجزء الثاني الورقة (246/أ) وهي: أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة والآحادية.
(2) راجع في هذا: "الرسالة" للإمام الشافعي ص (56)، و"المنخول" للغزالي ص (292).
(3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/203)، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/78).
(4) راجع: "شرح تنقيح الفصول" ص (311-312).
(5) راجع: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري، باب نسخ القرآن بالسنة (1/424-431).
(6) لم يذكر ابن حزم خلافاً في ذلك، بل ذكر أن السنة تنسخ القرآن، سواء كانت منقولة بالتواتر أو بالآحاد، وذلك في كتابه: "الإحكام" (4/477).
(7) (106) سورة البقرة.
(8) سبق أن تكلمنا عن القراءتين في هذه الآية في هامش مسألة: يجوز نسخ الشرائع عقلاً وشرعاً ص (769).

(3/789)


التأخير، ومنه: بيع النسيئة، وهو البيع إلى أجل، فكأنه قال: أو نَنْسَأه فلا ننسخه إلى مدة، فأخبر الله تعالى أن كل ما ينسخ من القرآن، فإنما ينسخ بخير منه أو بمثله، والسنة ليست بخير من القرآن ولا بمثل له، فلا يجوز أن يقع نسخ القرآن بالسنة، لأن خبر الله تعالى لا يقع بخلاف مخبره، يبين صحة هذا قوله : (نَأت بِخيْرِ منْهَا)، وهذا إنما
يتناول القرآن [114/أ] الذي يأتي من عند الله دون السنة التي يأتي بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ويبين صحة ذلك قوله : (إنَّ الله علىَ كل شَيْء قَديِرٌ)، فاقتضى ذلك: أن ما يأتي به مما يختص بالقدرة عليه، وهو القرآن دون السنة التي يتعلق بها قدرة غيره.
فإن قيل: الآية تقتضي أنه إذا نسخ آية يأتي (1) بخير منها أو مثلها، وليس فيه أن ما يأتي به يكون هو الناسخ، بل يجوز أن يكون الناسخ غيره.
قيل: قوله تعالى: (نَأت بخَيْرِ منْهَا) يقتضي أن يكون ما يأتي بدلاً (2) عما نسخه، وإنما يكون بدلاً عنه إذا كان ناسخاً، فأما إذا كانت آية مبتدأة فلا يكون بدلاً عنها.
يبين صحة هذا أن قوله : (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةِ) شرط، وقوله: (نَأتِ بِخَيْرٍ منْهَا) جزاء، لأن "ما" يجازى بها، كما يجازى "بمن"، ولهذا جزم قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا)، وقال تعالى في سورة فاطر: (مَا يَفْتَح اللهُ للِنّاس مِن رَحْمَة فَلاَ مُمْسِك لَهَا وَمَا يُمسك فلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) (3)،
__________
(1) في الأصل (يأت).
(2) في الأصل: (بدل) بالرفع.
(3) (2) سورة فاطر.

(3/790)


وإذا كان كذلك وجب أن يكون الجزاء متعلقاً بالشرط، ولهذا نقول: إذا قال: "ما تصنع أصنع، وما أخذه أعطه مثله"، إن الثاني موجب بالأول ومفعول لأجله، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون ما يأتي به ناسخاً.
فإن قيل: فلا خلاف أنه يجوز نسخه بغير قرآن، بأن ينسيه الله تعالى من حفظه ورفعه عن أوهامهم.
قيل: ما ينسيه ويرفعه يجرى مجري القرآن، لأنه من جهة الله تعالى.
فإن قيل: قوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا) في النفع، وقد يكون ما ثبت بالسنة أنفع لنا في باب المصلحة مما ثبت بالآية المنسوخة.
يبين صحة هذا أن التلاوة لا يكون بعضها خيراً من بعض، وإنما يكون ذلك في النفع، فيكون بعض الأحكام أسهل.
قيل: الآية تقتضي أن تكون خيراً منها في النفع من القرآن، كما إذا قال القائل: "ما آخذ منك ثوباً إلا أعطك (1) خيراً منه أو مثله، وما آخذ منك درهماً إلا أدفع إليك مثله أو خيراً منه"، يقتضي ثوباً مثل ثوبه أو خيراً منه، ودرهماً مثل درهمه أو خيراً منه.
وجواب آخر وهو: أن قوله : (نأتِ بخير منها أو مثلها) يقتضي [الخيرية أو المثلية] من كل وجه، والقرآن المنسوخ فيه معجز، فيجب أن يكون الناسخ معجزاً، والسنة ليس فيها معجز، والقرآن في امتثال حكمه ثواب، وفي تلاوته ثواب، وكل واحد منهما عبادة، والسنة : الثواب في جهة واحدة منها، وهو امتثال حكمها، فأما درسها وتلاوتها، فليس بعبادة ولا ثواب، وإذا كان كذلك، لم تكن السنة مثلاً
للقرآن، والآية تقتضي أن النسخ بالمثل أو بخير منه.
__________
(1) في الأصل: (أعطيك).

(3/791)


فأما قولهم: إن التلاوة لا يكون بعضها خيراً من بعض، فلا يصح؛ لأنه قد يكون [114/ب] بعضها خيراً من بعض، على معنى أنها أكثر ثواباً، مثل سورة "طه" و"يس"، وما أشبه ذلك.
وقد يكون في بعضها من الإعجاز في اللفظ والنظم أكثر مما في البعض وقد كانت العرب تعجب من بعض، ولا تعجب من بعض.
وعلى أنا لو سلمنا أنه لا يجوز في التلاوة تفاضل، فإننا نحمل قوله: (نأت بخيرٍ منْها) على الحكم، وقوله: (أَوْ مِثْلِها) على التلاوة ولا شك أن المماثلة متأتية في التلاوة، ولا يتأتى أن يقال ذلك في السنة، فإنها ليست مثل القرآن.
ويدل عليه ما روى الدارقطني (1) في سننه في جملة النوادر قال: حدثنا محمد بن مخلد (2)، حدثنا محمد بن داود القنطري أبو جعفر الكبير (3).
__________
(1) هو الحافظ الإمام علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن البغدادي. روى عن البغوي وابن صاعد وغيرهما. وعنه الحاكم وأبو حامد الاسفراييني وغيرهما.
له كتب منها: "السنن"، و"العلل"، و"الافراد". ولد سنة (306) ومات سنة (385).
له ترجمة في: "البداية والنهاية" (11/317)، و"تاريخ بغداد" (12/34)، و"تذكرة الحفاظ" (3/991)، و"شذرات الذهب" (13/116)، و"غاية النهاية" لابن الجزري (1/558)، و"طبقات الحفاظ" ص (393)، و"اللباب" (1/404)، و"المنتظم" (7/183)، و"النجوم الزاهرة" (4/172).
(2) هو: محمد بن مخلد بن حفص أبو عبد الله الدوري العطار الخضيب، ثقة مأمون.
روى عن مسلم بن الحجاج والحسن بن عرفة. وعنه الدارقطني مات سنة (331 هـ) وله من العمر ثمان وتسعون سنة.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (3/310)، و"تذكرة الحفاظ" (3/828)، و"طبقات الحفاظ" ص (344).
(3) روى عن جبرون بن واقد حديثين باطلين، كما قال الذهبي في "الميزان" (3/ =

(3/792)


حدثنا جبرون بن واقد (1) ببيت المقدس، حدثنا سفيان بن عيينة (2) عن أبي الزبير (3) عن جابر بن عبد الله (4) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كلامي لا
__________
= 540)، ونقل عن ابن عدي أنه ذكر الحديثين في ترجمة جبرون، وقال: "تفرد بهما محمد"، يعني محمد بن داود القنطري.
(1) هو: جبرون بن واقد الإفريقي. روى عن سفيان بن عيينة، وعنه محمد بن داود القنطري، قال الذهبي في "الميزان" (1/387) : "متهم" وقال في "المغني في الضعفاء" (1/127) ليس بثقة، روى بقلة حياء عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر "كلام الله ينسخ كلامي"... "الحديث".
(2) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون أبو محمد الهلالى الكوفي. الإمام المتقن. روى عن عمرو بن دينار والزهري وخلق. وعنه الشافعي وابن المديني وابن معين وخلائق. مات بمكة سنة (198هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/174)، و"تذكرة الحفاظ" (1/262)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (123)، و"شذرات الذهب" (1/354)، و"غاية النهاية" (1/308)، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/190)، و"ميزان الاعتدال" (2/170).
(3) هو: محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير الأسدي المكي. روى عن جابر وابن عمر وابن عباس وغيرهم. وعنه مالك والسفيانان والزهري وغيرهم. وثقه ابن معين والنسائي وابن المديني، وضعفه ابن عيينة وآخرون مات سنة (128 هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/126)، و"تهذيب التهذيب" (9/440)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (360)، و"ميزان الاعتدال" (4/37).
(4) هو جابر بن عبد الله أبو عبد الله الأنصاري. صحابي جليل. كان من المكثرين الحفاظ للسنن كما قال ابن عبد البر. كف بصره في آخر حياته مات سنة (74 هـ) وهو ابن اربع وتسعين سنة على ما قيل.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/219)، و"تذكرة الحفاظ" (1/43) و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (50). و"شذرات الذهب" (1/84) و"النجوم الزاهرة" (1/198).

(3/793)


بنسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً) (1) وهذا نص.
فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد.
قيل: قد سبق الجواب عن مثل هذا في غير موضع.
ولا يصح حمله على أخبار الآحاد، لأن تعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسقطه، وهو قوله: (كلام الله ينسخ بعضه بعضاً).
وأيضا: فإنه لا يجوز نسخ الأخبار المتواترة بأخبار الآحاد، لضعف الآحاد وقوة التواتر، كذلك لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة، لأن السنة أضعف من الكتاب من وجهين:
أحدهما: أن الكتاب فيه إعجاز، والسنة لا إعجاز فيها.
والكتاب في قراءته ثواب، وليس في قراءة السنة ثواب، فلم يصح نسخ القوي بالضعيف، كما لم يجز نسخ الأخبار المتواترة بالآحاد والقياس.
فإن قيل: هذه القوة في اللفظ، فأما الحكم فهما متساويان فيه.
قيل: الخلاف في نسخ اللفظ ونسخ الحكم واحد، فإنه (2) عند المخالف يجوز أن ترد السنة بنسخ تلاوة القرآن، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا لا تقرأوا هذه الآية. فتصير تلاوتها منسوخة بالسنة.
__________
(1) هذا الحديث أخرجه الدارقطني في "سننه" في جملة النوادر كما قال المؤلف.
وذلك في (4/145)، وهو حديث هالك؛ لأن فيه محمد بن داود القنطري، وجبرون بن واقد، وكل منهما متكلم فيه، بما سبق بيانه في ترجمة كل واحد منهما.
وقد حكم عليه الذهبي في كتابه "الميزان" (1/388) بالوضع، حيث قال بعد أن ذكره وذكر حديثاً آخر: "تفرد به القنطري وبالذي قبله، وهما موضوعان".
(2) في الأصل: (فإن).

(3/794)


وعلى أن الحكم إذا نسخ صار اللفظ منسوخاً، وإن كان يتلى، فإنه يقال: هذه آية منسوخة متى كان الحكم مرتفعاً.
ولأنه متى نسخ الحكم تعطل اللفظ وخرج عن كونه مفيداً، فكما لا يجوز نسخ اللفظ بالأمر الضعيف، لا يجوز نسخ حكمه أيضاً، ألا ترى أنه لما لم يجز نسخ لفظ الكتاب بأخبار الآحاد، لم يجز نسخ حكمه.
فإن قيل: لو كان الاعتبار بما ذكره، لوجب أن يجيزوا نسخ ما لا إعجاز فيه، وهي الآية الواحدة.
قيل: في الآية الواحدة إعجاز، ولو لم يكن فيها إعجاز، فهي من جنس المعجز، وفيها إعجاز وثواب، وليست السنة من جنس المعجز، ولا في تلاوتها ثواب.
فإن قيل: درس السنة وتعليم العلم [115/أ] عبادة، وفيه ثواب.
قيل: يريد بذلك بعد تعلمها وحفظها، فإن تلاوتها لا ثواب فيها، وهذا لا خلاف فيه.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لِتُبَينَ للِنّاسِ مَا نُزلَ إلَيْهِم) (1) والنسخ ضرب من البيان، كالتفسير والتخصيص.
والجواب: أنه قد قيل: إن التبيين ها هنا هو التبليغ عن الله تعالى.
وقد قيل: النسخ ليس بيان للمنسوخ، وإنما هو إزالة وإسقاط حكمه.
وعلى أن هذا محمول على التخصيص بدليل ما ذكرنا.
واحتج بأنه دليل مقطوع عليه، فجاز النسخ به كالآية.
__________
(1) (44) سورة النحل.

(3/795)


والجواب: أنه يبطل بالإجماع، فإنه بهذه الصفة، ولا يجوز النسخ به.
وعلى أنه لا يمتنع أن يتفق دليلان في هذه الصفة، ويختلفا في النسخ، كما أن القياس وخبر الواحد يتفقان في أن طريق كل واحد منهما غلبة الظن، ويجوز النسخ بخبر الواحد، ولا يجوز بالقياس، وكذلك الإجماع والسنة يتفقان في العلم بكل واحد منهما، ولا يجوز النسخ بالإجماع، ويجوز بالسنة.
فإن قيل: إذا أجمع أهل عصر على خلاف حكم القرآن، حكمنا بأنه منسوخ.
قيل: الإجماع لا يكون ناسخاً؛ لأن الناسخ هو الوحي، والإجماع لا يصح إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والوحي قد انقطع بعده، ومتى وجدنا خبر الإجماع على خلافه، تركناه بالإجماع، ولا نقول: نسخ بالإجماع بل يستدل بالإجماع على نسخه؛ لأنه لو كان الخبر ثابتاً لما خرج عن الأمة؛ لأن الأمة ضبطوا الأخبار.
فإن قيل: المجمعون لا يقولون: إنا ننسخه، وإذا لم يوجد ذلك منهم، لم يتصور النسخ من جهتهم.
قيل: نقول في السنة كذلك، لأن النسخ لا يوجد من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الله تعالى أخبر أن نسخ القرآن لا يكون من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وجواب آخر وهو أن السنة المتواترة، وإن ساوت الكتاب فيما ذكروه، من القطع، فهي مخالفة له في الإعجاز، وفي حصول الثواب في قراءتها، فلم يصح وقوع نسخه بها، وإن ساوته في العلم والعمل، كما لا يجوز نسخه بالإجماع، وإن ساواه في العمل والعلم.
واحتج: بأن النسخ كالتخصيص؛ لأن النسخ لا يقتضي تخصيص

(3/796)


الأعيان، والتخصيص لا يقتضي تخصيص الزمان، ثم ثبت أن تخصيص الكتاب يجوز بالسنة، كذلك النسخ.
والجواب: أنه يبطل بخبر الواحد وبالقياس، فإن التخصيص بهما [جائز]، ولا يجوز النسخ بهما، وعلى أن النسخ مفارق للتخصيص؛ لأن النسخ يزيل حكم اللفظ كله، والتخصيص يبقي بعضه، ولا يسقط [115/ب] جملته، فافترقا.
واحتج: بأن النسخ إنما يقع في الحكم، والسنة في إثبات الحكم بمنزلة الكتاب، فصح نسخ حكمه بها.
والجواب: أنا قد بيّنا أنه لا فرق عند المخالف بين نسخ الحكم وبين نسخ التلاوة.
وعلى أنهما وإن تساويا في إثبات الحكم، فهما مختلفان فيما ثبت به الحكم، فحكم الكتاب ثبت بلفظ معجز، وحكم السنه ثبت بلفظ
غير معجز، فلم يجز نسخ ما ثبت بأمر قوي بما ثبت بأمر ضعيف، وإن تساوى الحكمان، ألا ترى أنه لا يجوز نسخ حكم خبر الواحد بالقياس؛ لقوة الخبر الواحد وضعف القياس، وإن كان حكمهما متساوياً، بأن طريقهما معاً غلبة الظن.
واحتج: أنه إنما جاز النسخ إلى غير بدل؛ لأننا نجوز أن يكون قد نسخ بما هو مثله أو أقوى منه، وليس يوجب ذلك جواز النسخ إلى بدل هو أضعف منه، ألا ترى أنه يجوز النسخ إلى غير بدل، ولا يجوز النسخ إلى بدل هو خبر واحد أو قياس.
واحتج: بأن ذلك قد ورد في الشرع، وذلك أن الله تعالى أوجب الوصية للوالدين والأقربين، ونسخ ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا وصية لوارث)، وكذلك نسخ حد الزنا من الحبس والأذى بقوله عليه السلام:

(3/797)


(خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) (1). ونسخ قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ (2) عند الْمَسْجِدِ الْحرَامِ) (3) بقوله لما قيل له: إن
__________
(1) هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً، أخرجه عنه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الزنا (3/1316).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحدود، باب في الرجم (2/455).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم على الثيب (4/41).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب حد الزنا (2/852).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الحدود، باب في تفسير قوله تعالى: (أوْ يجعلَ اللهُ لَهُن سبيلاً) (2/101).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/476).
وأخرجه عنه الإمام الشافي في كتاب الحدود باب رجم الزاني الحصن وجلد البكر وتغريبه (2/286).
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الحدود، باب رجم الزاني المحصن وجلد البكر وتغريبه (1/298).
راجع في هذا الحديث أيضاً: "ذخائر المواريث" (1/280)، و"نصب الراية" (3/329).
(2) القراءة في قوله تعالى: (وَلاَ تَقتلُوهُمْ عنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام حَتى يَقْتُلُوكمْ فيه) التي أثبتها المؤلف في قوله تعالى: (تَقْتُلُوهُمْ). وكررَها بعد ذلك. بغير ألف في الموضعين، وهي قراءة حمزة والكسائي.
وقرأ الباقون: (ولاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِد الْحَرَامِ حَتى يُقَاتِلوكُمْ فِيهِ) بالألف فيهما.
راجع في هذا: "تفسير الطبري" (3/566-569)، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص (155) وحجة القراءات ص (127،128).
(3) (191) سورة البقرة.

(3/798)


ابن خطَل (1) متعلق بأستار الكعبة-: (اقتلوه) (2).
والجواب: أن الوصية منسوخة بآية المواريث، فلهذا قال عليه السلام: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث).
وأما حد الزنى فمنسوخ بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
__________
(1) هو عبد الله بن خطل التميمي. أسلم، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً، وكان له غلام مسلم، وحدَث مرة أن أمر غلامه أن يصنع له طعاماً، ثم نام، فلما استيقظ إذا بالغلام لم يعمل شيئاً، فعدى عليه، فقتله. ثم ارتد عن الإسلام.
ولم يقف أمره على هذا، بل اتخذ في قينتين يغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فتحت مكة رأى ابن خطل أنه هالك، فذهب إلى الكعبة، وتعلق بأستارها، عله ينجو، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أمر بقتله، فاشترك في قتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، وذلك عام الفتح سنة (8) من الهجرة.
راجع: "تاريخ الطبري" (2/335)، و"السيرة النبوية" لابن هشام القسم الثاني ص (409).
(2) هذا الحديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح (5/188).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام (2/989-990).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الاسلام (2/54).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الجهاد، باب ما جاء في المغفر (4/202).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب دخول مكة بغير احرام (5/158).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب السير، باب كيف دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر (2/140).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/164).
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الحج، باب جامع الحج ص (273).

(3/799)


كل وَاحِدٍ منهَما مائة جَلْدَة) (1).
وأما في الثيب المحصن، فإنه منسوخ بآية الرجم التي نسخ رَسمها.
وقيل: إن آية الحبس لم تنسخ؛ لأن النسخ: أن يرد لفظ عام يتوهم دوامه، ثم يرد ما يرفع بعضه، والآية لم ترد بالحبس على التأبيد، وإنما وردت إلى غاية، وهو أن يجعل الله تعالى لهن سبيلاً، فأثبت الغاية، فوجب الحد بعد الغاية بالخبر.
وقيل: إن آية الحبس (2) وآية الأذى في الأبكار، والمراد بالأولى النساء، والثانية الرجال، ونسختهما جميعاً آية الحد، فثبت ابتداء بالسنة (3).
وأما قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوهمْ عنْدَ الْمَسْجِدِ الْحرَام) (4) منسوخ (5) بقوله تعالى: (اقْتلوا الْمُشْركينَ حيْثُ وَجدْتُمُوهمْ) (6).
__________
(1) (2) سورة النور.
(2) غير واضحة في الأصل.
(3) راجع تفسير الآيتين في "تفسير الطبري" (8/73-88).
(4) (191) سورة البقرة.
(5) اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؟
فذهب قتادة والربيع إلى أنها منسوخة، ورجحه الطبري.
وذهب مجاهد إلى أنها محكمة، فلا يجوز مقاتلة أحد في المسجد الحرام إلا في حالة اعتداء الكافرين بالقتال فيه.
راجع: "تفسير الطبري" (3/567-569).
(6) (5) سورة التوبة.

(3/800)


مسألة (1)
فأما نسخ القرآن بالسنة من جهة العقل، فلا يمتنع جوازه.
واختلف أصحاب الشافعي: [116/أ] فمنهم من أجاز ذلك عقلاً.
ومنهم من منعه، وقال: لا يجوز عقلاً ولا شرعاً.
فالوجه في جوازه عقلاً:
أن النسخ تعريف بقضاء مدة العبادة وإعلام سقوط مثل ما كان واجباً بالمنسوخ، وارتفاعه فيما يستقبل من الزمان، والمعرفة بذلك تقع بالسنة كما تقع بالقرآن.
والوجه لمن منع من ذلك:
أنه يؤدي إلى الارتياب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يدل عليه قوله تعالى: (وَإذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ) (2) فلما كان نسَخَ القرآن بالسنة يزيد في ارتيابهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم - لم يجز نسخه: بل ينسخ بقرآن مثله؛ ليكون أقطع لشكوكهم، وأشد إبطالاً لدعاويهم.
والجواب: أن المشركين كانوا ينسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الافتراء إذا بدلت آية بآية مكانها، وهكذا حكى الله عنهم، فلو كان فعلهم ذلك مانعاً من جواز نسخ القرآن بالسنة، لمنع أيضاً من جواز نسخ القرآن بالقرآن.
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (202)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (97/ب-100/أ)، و"روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (1/224-227)، و"شرح الكوكب المنير" ص (264).
(2) (101) سورة النحل.
راجع في تفسير هذه الآية: "تفسير الطبري" (4/176) طبعة الحلبي.

(3/801)


مسألة (1)
يجوز نسخ السنة بالقرآن
أومأ إليه أحمد رحمه الله فقال عبد الله: سألت أبي عن رجل أخذ منه الكفار عهد الله وميثاقه أن يرجع إليهم، قال فيه: خلاف، قلت لأبي: حديث أبي جندل، قال: ذلك صالح على أن يردوا من جاءهم مسلماً (2)، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال، ومنع النساء ونزل فيهم: (فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤمنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) (3). وظاهر هذا أنه أثبت نسخ السنة (4) بقرآن.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة (5).
وللشافعي قولان: أحدهما مثل هذا، والثاني: لا يجوز نسخ السنة بالقرآن (6).
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (205)، و"شرح الكوكب المنير" ص (264)، و"روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (1/223-227).
(2) في الأصل: (سلماً).
(3) (10) سورة الممتحنة.
وراجع تفسيرها في: "تفسير الطبري" (28/69) طبعة الحلبي.
(4) في الأصل: (النسخ القضية).
(5) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/202)، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/78).
(6) اختار الإمام الغزالي القول بالجواز، كما في كتابه "المستصفى" (1/124)، وذكر الجلال المحلى في "شرحه على جمع الجوامع" (2/80) أن بعض الأصحاب حكى عن الإمام الشافعي القول بالمنع جزماً. وبعضهم حكى عنه القولين.

(3/802)


دليلنا:
قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا علَيْكَ (1) الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكلِّ شَيْء) (2) والنسخ تبيان مدة الحكم، فوجب (3) أن يجوز بالكتاب.
ولأن الكتاب أقوى من السنة، فإن السنة فيها ما يوجب العلم والعمل، وفيها ما يوجب العمل دون العلم، والكتاب كله يوجب العلم.
ولأن في الكتاب إعجازاً، وليس في السنة إعجاز، فإذا جاز نسخ السنة بمثلها، فبأن يجوز نسخها بما هو أقوى منها أولى. ألا ترى أنه لما جاز نسخ خبر الواحد بخبر الواحد، كان جواز نسخه بالمتواتر أولى.
ولأن القرآن ثابت بوحي من عند الله تعالى، كما أن السنة التي بوحي ثابتة من قبله، فإذا كان كذلك، وجاز نسخ السنة بسنة مثلها، وجب أن يجوز بالقرآن.
وأيضاً: فإنه قد وجد نسخ السنة بالقرآن في مواضع:
من ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- [116/ب] صالح من شاء عام الحديبية، على أن يرد إليهم من جاءه كل منهم من المسلمين، وجاءه أبو بصير (4) وأبو
__________
(1) في الأصل: (اليك).
(2) (89) سورة النحل.
(3) في الأصل (وجب) بدون الفاء.
وراجع في تفسير هذه الآية "تفسير الطبري" (4/161) طبعة الحلبي.
(4) هو: عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد.. أبو بصير الثقفي. اشتهر بكنيته ورد ذكره في قصة صلح الحديبية. وقد مات بعد ذلك بقليل؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رده لما جاءه مسلماً، وذلك حسب شروط صلح الحديبية، فخرج هو وأبو جندل إلى الساحل، وكانوا يتعرضون لعير قريش وغيرها. فأرسلت قريش =

(3/803)


جندل، فردهما (1)، ثم جاءت امرأة مهاجرة، فمنع الله تعالى من ردها، ونسخ ذلك بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) إلى قوله: (فَلاَ تَرْجعُوهُنَّ إلى الْكُفارِ) (2)، وهذا نسخ سنة بقرآن (3).
وكذلك أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم الخندق الظهر والعصر والمغرب حتى بعد المغرب بهوي (4) من الليل، فصلاها (5)، ثم نسخ تأخيرها بالقرآن، وهو قوله: (فَإنْ خِفْتمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) (6)، وقوله: (فَإذَا كُنتَ فيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ) (7).
__________
= إلى النبي صلى الله وسلم ترجوه أن يضمهم إليه في المدينة، فكتب إليهما ولكن وصل الكتاب وأبو بصير يحتضر فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فصلى عليه أبو جندل، ودفنه في مكانه.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1612)، و"الإصابة" (2/213).
(1) قصة صلح الحديبية. وما جرى لأبي جندل وأبي بصير أخرجهما البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (5/162).
(2) (10) سورة الممتحنة.
(3) راجع تفسيرها في "تفسير الطبري" (28/69) طبعة الحلبي.
(4) الهَويّ بفتح الهاء وكسر الواو بعدهما ياء مشددة: السقوط من أعلى إلى أسفل.
والمراد هنا: ذهاب جزء من الليل. انظر "المصباح المنير" مادة (هوى).
(5) هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه. أخرجه عنه النسائي في كتاب الأذان، باب الأذان للفائت من الصلوات (2/15).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الحبس عن الصلاة (1/296).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (3/25).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب قضاء الفوائت (1/55).
(6) (239) سورة البقرة. راجع تفسيرها في: "تفسير الطبري" (2/572)، طبعة الحلبي.
(7) (102) سورة النساء. راجع تفسيرها في "تفسير الطبري" (5/250)، طبعة الحلبي.

(3/804)


ومن ذلك نسخ القبلة، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة صلى ستة عشر شهراً إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله ذلك بقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1)، ومعلوم أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس لم يكن ثابتاً بقرآن، وقد نسخ بالقرآن.
ومن ذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على عبد الله بن أُبي بن سلول (2) المنافق (3)، ثم أنزل الله تعالى: (وَلاَ تُصَلِّ عَلىَ أحَدٍ منْهُم مَاتَ
__________
(1) (144) سورة البقرة.
(2) وقد توفي في شهر ذي القعدة من السنة التاسعة للهجرة. كما نقل ذلك ابن كثير عن ابن إسحاق في كتابه "البداية والنهاية" (5/34). طبعة مكتبة المعارف ببيروت.
(3) قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول المنافق واعتراض عمر رضي الله عنه على هذه الصلاة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "أخر عني يا عمر، إني خيرت، فاخترت، قد قيل لي "استغفر لهم" الآية، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له، لزدت"، قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره، حتى فرغ منه، قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم. قال: فوالله ما كان إلا يسيراً، حتى نزلت هاتان الآيتان: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قبرِهِ) الآية، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل.
هذه القصة أخرجها البخاري عن عمر رضي الله عنه في كتاب التفسير، باب: سورة التوبة (6/85-86).
وأخرجها عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب: ومن سورة براءة (5/279) وقال فيه: (حديث حسن صحيح غريب).
وأخرجها عنه النسائي في كتاب الجنائز، باب الصلاة على المنافقين (4/54-55).
وأخرجها عنه ابن جرير الطبري في "تفسيره"، عند كلامه على تفسير آية (وَلاَ تُصَلِّ عَلَىَ أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً) (14/408). =

(3/805)


أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (1).
ونظائر ذلك كثير.
واحتج المخالف:
بقوله: (وَأنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ (2) لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم) (3) فجعل السنة بياناً للقرآن. فلا يجوز أن يكون القرآن بياناً للسنة.
والجواب: أن المراد به التبليغ، يبين صحة ذلك: أنه يجوز تخصيص السنة بالقرآن، وكذلك يجوز تفسير مجمل السنة به.
واحتج: بأنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وجب أن لا يجوز نسخ السنة بالقرآن.
والجواب: أن القرآن أعلى من السنة، فلم يجز نسخ الأعلى بالأدنى، وجاز نسخ الأدنى بالأعلى، ألا ترى أن ما ثبت بخبر الواحد يجوز نسخه بما ثبت بالتواتر، وما ثبت بالتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد.
واحتج: بأن القرآن أصل والسنة فرع له؛ لأنها بكتاب الله قبلت، وإذا كانت فرعاً، فلو قلنا: القرآن يبين معناها، لجعلناها أصلاً، والقرآن فرعاً.
__________
= وذكر ذلك ابن كثير في "تفسيره" (2/378-379) عند تفسيره للآية المذكورة.
كما ذكره في كتابه "البداية والنهاية" (5/35) طبعة مكتبة المعارف ببيروت، وذلك عند كلامه على وفاة عبد الله بن أبي بن سلول وقد سبق الكلام على هذه الآية ص (456).
(1) (84) سورة التوبة.
(2) في الأصل: (الكتاب).
(3) (44) سورة النحل.

(3/806)


والجواب: أن هذا باطل بالتخصيص، فإن القرآن يخص عموم السنة، ومع هذا فلا يقضي إلى ما قالوا.
واحتج: بأنه لو جاز نسخ القرآن بالسنة؛ لأفضى (1) إلى الاختلاط وهو أن بيانه ببيان الله تعالى، وهذا لا سبيل إليه.
والجواب: أنه لا يختلط؛ لأن بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخصيص الأعيان، والنسخ: رفع الخطاب في المستقبل، فلا يختلط أحدهما بصاحبه.
واحتج: بأن الشيء إنما ينسخ [117/أ] بجنسه، ألا ترى أن القرآن ينسخ بالقرآن والسنة بالسنة، والقرآن لا ينسخ بالسنة.
والجواب: أن الشيء ينسخ بجنسه، أو بما هو أقوى منه، والقرآن أقوى من السنة، فوجب أن ينسخ به.
مسألة (2)
يجوز نسخ الحكم قبل فعله وبعد دخول وقته. وهذا لا خلاف فيه.
واختلفوا في نسخه قبل وقت فعله:
فقال شيخنا أبو عبد الله (3) : يجوز أيضاً.
وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنه قال في رواية صالح
__________
(1) في الأصل: (أفضى).
(2) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (207)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (95/ب-97/ب)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/203-208)، و"شرح الكوكب المنير" ص (256).
(3) يعني الحسن بن حامد.

(3/807)


وأبي الحارث في قوله: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا) (1) أن ذلك لجواز النسخ وأن الله تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما أحب. وظاهر هذا جواز النسخ في عموم الأحوال.
وبهذا قال أكثر أصحاب الشافعي (2)، وهو قول الأشعرية.
وقال أبو الحسن التميمي من أصحابنا: لا يجوز (3). وهو قول أصحاب أبي حنيفة (4)، وأكثر المعتزلة (5). وبعض الشافعية (6).
فالدلالة على جوازه:
قوله تعالى في قصة إبراهيم: (يَا بُنَيّ إنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أذْبَحُكَ فَانْظُر مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَت افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (7)، وَقوله: (إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) قال القتبي (8) في "غريب القرآن" (9):
__________
(1) (106) سورة البقرة.
(2) راجع في هذا: "المنخول" للغزالي ص (297) و"المستصفى" له (1/112)، و"الإحكام" للآمدي (3/115).
(3) وذكر في "المسودة" ص (207) أنه قد نُقِل عنه القولان.
(4) هذا العزو غير محرر، فإن جمهور الحنفية يقولون بالجواز، وبعضهم يقول بعدم الجواز. ومنهم الكرخي والجصاص والماتريدي والدبوسي. راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/187)، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/61/62).
(5) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري (1/407).
(6) هو: أبو بكر الصيرفي. كما حكى ذلك الآمدي في "الإحكام" (3/115).
(7) (102) سورة الصافات.
(8) هو ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم الدينوري، أبو محمد، وقد مضت ترجمته في أول الكتاب ص (68).
(9) هذا الكتاب من أجود مؤلفاته، وقد نسبه إليه ابن العماد الحنبلي في كتابه: "شذرات الذهب" (2/169).

(3/808)


معناه: إني سأذبحك. فكأنه أمر بذبحه في المنام، وكانت رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحياً، يجب العمل به، ولهذا قال: (افعل ما تؤمر) ثم نسخه: (بذبح عظيم)، وهذا نص يدل على جواز نسخ الحكم قبل وقته.
فإن قيل: إبراهيم كان مأموراً بمقدمات الذبح، من الإضجاع وأخذ المُديَة ونحو ذلك. دون الذبح نفسه، وإنما سمي ذلك ذبحاً؛ لأن مقدمة الشيء قد تسمى باسم ذلك الشيء، ألا ترى أنهم يسمون النائحة باكية؛ لأنها تفعل مقدمات البكاء والأسباب التي يبكي عندها.
وكذلك يسمى المريض المخوف عليه ميتاً؛ لحصول مقدمات الموت.
قالوا: ويبين هذا قوله تعالى: (قَدْ صَدّقْتَ الرؤيَا) (1)، ولو كان الواجب عليه الذبح بعينه، لم يكن قد صدق رؤياه وهو لم يذبحه، فعلم بذلك أنه كان مأموراً بمقدمات الذبح.
قيل: هذا لا يصح لوجوه:
أحدها: أنه قال: (إنِّي أَرَىَ فِي الْمَنَامِ) والذَّبح: اسم للشق والفتح، ولا يعبر به عن مقدماته، لا حقيقة ولا مجازاً. ومنه قول الشاعر:
كأن بين فَكِّها والفَكِّ... فَأرةُ مِسْك ذُبِحَت في سَكِّ (2)
يعني به: الفتح والشق.
__________
(1) (105) سورة الصافات.
(2) هذا الرجز للشاعر منظور بن مرثد الأسدي.
هكذا نسبه ابن يعيش في شرحه على المفصل (4/138)، وفي (8/91)، وذكر قبله قوله:
يا حبذا جارية من عَكِّ... تَعْقِد المُرْطَ على مِدَك
مثل كثيب الرمل غير رَكِّ

(3/809)


الثاني: قوله: (سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، وليس في مقدمة الذبح ما يحتاج إلى الصبر.
الثالث: أنه قال: (إنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاَءُ الْمُبِينُ) (1)، ولا يجوز أن يفخم هذه التفخيم، والمأمور به مقدمة الذبح.
الرابع: قوله: (وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (2)، ولا يكون [117/ب] الفداء مع الامتثال للأمر.
وأما قوله: (قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيَا) فقد قيل معناه: التصديق بالقلب؛ لأن حقيقة التصديق بالقلب فكأنه قال: لما صدقت وآمنت واعتقدت وجوبه وعزمت على فعله جزيناك كما نجزي المحسنين، فنسخنا عنك فعل الذبح بذبح كبش.
وقيل فيه جواب آخر: أن النسخ إذا ورد قبل وقت الفعل، تبيَّنا أن المراد به إيجاب مقدمات الفعل، وكل النسخ هكذا؛ لأن النسخ تخصيص الزمان، وبيان لما لم يرد باللفظ، كالتخصيص في الأعيان، ولا نقول: إن الله تعالى نسخ ما أمر به وأوجب علينا فعله؛ لأن ذلك يؤدي إلى البداء على الله تعالى.
وقيل فيه جواب آخر وهو: أنه يحتمل أن يكون الأمر بالذبح أراد به ما لم أنسخه عنك، ومعناه: افعل في وقت كذا، ما لم أنسخه عنك، فإذا نسخه قبل وقته تبيَّنا أن الذبح لم يكن مأموراً به، وإنما أمره أن يعتقد وجوبه، ويعزم على فعله بهذا الشرط.
والجواب الصحيح عندي هو الأول؛ لأن الثاني والثالث تسليم لما قاله
__________
(1) (106) سورة الصافات.
(2) (107) سورة الصافات.

(3/810)


المخالف؛ لأن عنده: أن المأمور به أمارات الذبح. وعنده أيضاً: أنه يصح تعليق الأمر بشرط التمكن.
فإن قيل: إنما تعبده الله تعالى بذبح لا تبطل الحياة عنده، فكان كلما، قطع جزءاً من موضع الذبح ألحمه الله تعالى وأعاده إلى حاله، فكان الفداء واقعاً من الذبح الذي تبطل الحياة عنده.
قيل: القرآن يقتضي أن يكون الذى فعله تلَّه للجبين، ثم جاءه النداء والفداء، فلم يجز أن يقال: إنه ذبحه.
ولأن لو كان ذبحه لذكره، وكان ذكره أولى من ذكر تلَّه للجبين.
ولأنه ذلك معجزة عظيمة، وآية كبيرة، فلو كان كما قال، لوجب أن يكون قد ذكرها وتواتر النقل بها.
ولأنه لو كان فعل الذبح لم يكن الذبح فداءً، وإنما يكون الذبح فداءً، إذا لم يكن فعل الذبح.
فإن قيل: فقد روي أن الله تعالى ضرب على مذبحه صفيحة من نحاس، فكان إيراهيم كلما وضع المُدْية على الموضع انقلبت ولم يقع بها قطع (1).
قيل: هذا لا يصح على أصل المخالف لوجهين:
أحدهما: أنه لا يصح تكليف ما لا يطاق. وهذا تكليف ما لا يطاق.
والثاني: لا يكون الأمر أمراً إلا بإرادة الآمر، وإذا حال بينه وبين الفعل لم يُردْه.
وأيضاً: فإن نسخ الفعل بعد التمكين من اعتقاد وجوبه يجوز، أصله الفعلُ الثاني والثالث.
__________
(1) هذا أثر أخرجه الطبري في تفسيره، في سورة الصافات (23/78) بسنده إلى السدي، طبعة الحلبي.

(3/811)


يبين صحة هذا أن الأمر يوجب على المكلف أن يعتقد وجوب فعل تلك العبادة عند دخول وقتها والعزم على فعلها، ويصير بذلك مطيعاً، فإذا نسخت (1) عنه قبل دخول الوقت، فقد نسخت بعدما صار مطيعاً [118/أ] ومثاباً شيء تضمنه حكم الأمر، فجاز ذلك، كما لو أمر بفعل عبادات ففعل بعضها، جاز نسخ الثاني، ولا فصل بين الأمرين. والمعتمد على الآية.
واحتج المخالف:
بأن الأمر بالعبادة يقتضي الأمر بالحسن، والنهي يقتضي القبح، فلو كان الأمر بالفعل قد دل على حسنه كان النهي عنه قبل مجيء وقته نهياً عن حسن، والنهي عن الحسن قبيح، كما أن الأمر بالقبيح قبيح، وهذا لا يجوز في صفات الله تعالى.
والجواب: أن الأمر يقتضي الحسن ما دام الأمر باقياً، فأما بعد زواله، فإنه يقتضي قبحه (2)، والأمر على هذا الوجه ورد، وهو أن الفعل يكون حسناً مع بقائه، ما لم يرد النسخ به، فإذا ورد خرج الفعل عن كونه حسناً، وليس يمتنع أن يكون الشيء الواحد حسناً إذا فعل على وجه، وغير حسن إذا فعل على وجه آخر كالصلاة إذا فعلت لله تعالى كانت حسنة، [و] إذا فعلت للشيطان كانت قبيحة، وفعلها في الحالين على صورة واحدة.
وقيل في جواب هذا: إن الأمر تعلق بمقدمات الفعل الذي تناوله ظاهر الأمر، كما نقول: إن الله تعالى لما نسخ التوجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ولم يرد فيما زاد عليها، وإن كان ظاهر الأمر التأبيد، ولا يقال: إنه أراد أن يكون التوجه واجباً عليهم أبداً، ثم نسخه؛ لأنه يكون بداءً على الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: (نسخ).
(2) في الأصل: (نسخة).

(3/812)


واحتج: بأن النهي عن الفعل المأمور به قبل مجيء وقته، يدل على البداء؛ لأن حال المأمور به لو كانت عنده على ما كانت عليه وقت الأمر لما كان (1) يجوز أن ينهي عنه على الوجه الذي أمر به؛ لأن ذلك يكون عبثاً، فمتى نهي عنه علمنا أن حال المأمور به يعرف عنده، إما بأن ظهر له ما لم يكن عالماً به في حال الأمر، أو خفي عنه ما كان عالماً به وقت الأمر.
والجواب: أنه لا يقتضي البَدَاء؛ لأن البداء أن يظهر للإنسان ما لم يكن عالماً به، والله تعالى حين أمر بهذه العبادة كان عالماً بأن المصلحة في بقاء فرضها إلى وقت النسخ، فلا يكون قد ظهر له ما لم يكن يعلمه، حتى يكون بداء.
وقيل فيه: لا يفضي إلى البداء؛ لأنه كان مأموراً بمقدمات الذبح، وقد وجدت منه، أو كان مأمورا بشرط.
واحتج بأن النسخ بمنزلة التخصيص، فلما استحال أن يقول: "صلوا إذا زالت الشمس، لا تصلوا إذا زالت الشمس"، لم يصح أن يأمر بالصلاة ثم ينهي عنها قبل مجيء وقتها.
والجواب: أنه إنما لم يصح ذلك؛ لأنه لا يفيد شيئاً، فيكون عبثاً ولعباً، وليس كذلك إذا كانا في زمانين مختلفين؛ لأنه يتمكن من فعل مقدماته: اعتقاد وجوب المأمور به، والعزم على فعله بشرط، فيكون ذلك طاعة ينال بها الثواب، وإذا كان [118/ب] مفيداً جاز ورود الشرع به.
__________
(1) في الأصل: (لكان).

(3/813)


مسألة (1)
الزيادة في النص ليس بنسخ.
وهو قول أصحاب الشافعي (2).
وقال أصحاب أبي حنيفة : هو نسخ (3).
ويفيد هذا: جواز الزيادة في النص بالقياس، وبخبر الواحد (4)، مثل: إيجاب النية في الوضوء بالخبر (5) والقياس، وإن كان ذلك زيادة على قوله تعالى: (اغْسلُوا وُجُوهكُمْ) (6).
وكذلك: إيجاب النفي في حد الزنا (7)، وإن كان زيادة على قوله (فَاجْلِدُوا كُل وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدةٍ) (8).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (207) و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (102/أ-103/ب)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/208-214)، و"شرح الكوكب المنير" ص (270).
(2) راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (3/155)، و"شرح جمع الجوامع" (2/91)، و"المستصفى" للغزالي (1/117).
(3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/218)، و"فواتح الرحموت" بشرح "مسلم الثبوت" (2/91).
(4) في الأصل: (الواجب).
(5) لعل هذا إشارة إلى حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً (إنما الأعمال بالنيات...) الحديث، وقد سبق تخريجه ص (205).
(6) سورة المائدة.
(7) هذا إشارة إلى حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً...) الحديث، وقد سبق تخريجه ص (798).
(8) (2) سورة النور.

(3/814)


وكذلك: إيجاب شرط الإيمان في كفارة الظهار بالقياس علي كفارة القتل، وإن كان فيه زيادة على قوله: (فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ) (1).
وكذلك: الحكم بشاهد ويمين جائز بالخبر (2)، وإن كان فيه زيادة على قوله تعالى: (فَإنْ لَمْ يَكُونَا رجُلَيْنِ فرَجُل وامْرَأتَانِ) (3).
ونحو هذا، كله يجوز عندنا، وعندهم لا يجوز.
وقال أصحاب الأشعري: إن كانت الزيادة تُغير حكم المزيد عليه، مثل: أن يأمر بركعتين، ويجعلها أربعاً، كان نسخاً. وإن كانت لا تغير حكمه، مثل: أن يزيد عشر جلدات على المائة، لم يكن نسخاً.
__________
(1) (3) سورة المجادلة.
(2) هذا إشارة إلى حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد.
أخرجه مسلم في "صحيحه" في كتاب الأقضية. باب القضاء باليمين والشاهد (3/1337).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد (2/277).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب القضاء والشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد (2/234).
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب القضاء والشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد (4/144).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الاحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين (2/793).
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (814) و"تيسير الوصول" (3/184).
(3) (282) سورة البقرة.

(3/815)


دليلنا:
أن النسخ بيان مدة ما لم يرد مما وجب دخوله في إطلاق اللفظ، ويكون الرافع متأخراً عن وقت الفعل المأمور به، وهذان الشرطان مفقودان هاهنا؛ لأن القياس الذي يدل على الزيادة يقترن بالمزيد عليه، غير متأخر عنه، فلم يكن نسخاً.
ولأن النسخ هو: رفع الحكم وإزالته، والزيادة لا توجب رفع المزيد عليه، ألا ترى أنه إذا كان في الكيس مائة درهم، فزدت فوقها درهماً، أن ذلك لا يوجب رفع شيء مما كان في الكيس، فلا يوجب ضم الزيادة إليه مع بقائه.
وكذلك إذا فرض الله تعالى على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، ثم فرض صوم شهر رمضان، فلا يكون فرض الصوم نسخاً للصلوات، كذلك هاهنا.
والذي يبين صحة هذا وأن النسخ هو الرفع والإزالة: قولهم: "نَسخت الشمسُ الظل، إذا أزالته"، و"نسخ الريحُ الأثرَ، إذا ذهب به وأزاله".
فإن قيل: وقد لا يكون عبارة عن الإزالة ألا ترى أنك تقول: نسخت الكتاب، وإن لم يزل، ما كان فيه من الكتابة؟
قيل: هذا مجاز واتساع، والحقيقة ما ذكرنا.
والذي يبين صحة هذا أن النسخ عندنا هو الإزالة، وعند مخالفينا هو تغيير الحكم، ونسخ الكتاب لا يوجد فيه شيء من ذلك، فعلم أنه مجاز.
ويدل علي جواز الزيادة بالقياس وبخبر الواحد، فنقول [119/أ] كل جاز تخصيص الحكم به جاز الزيادة فيه، أصله القرآن والخبر المتواتر.

(3/816)


وأيضاً: فإن التخصيص نقصان مما وجب دخوله في اللفظ، وليس في الزيادة نقصان، فإذا جاز التخصيص، فلأن تجوز الزيادة أولى.
واحتج المخالف:
بأن النسخ هو: أن لا يلزم في المستقبل مثل ما كان لازماً فيما مضى وهذا المعنى موجود في الزيادة في النص؛ لأن إيجاب النية في الطهارة، وشرط الإيمان في كفارة الظهار يمنع أن يلزم في المستقبل مثل ما كان لازما فيما مضى، وكذلك إيجاب التغريب مع الجلد، فوجب أن يكون نسخاً.
والجواب: أنا لا نسلم أن هذا هو النسخ، وإنما هو ما ذكرنا من الرفع والإزالة، أو بيان ما لم يُرَد مما وجب دخوله، وهذا معدوم ها هنا.
وعلى أنه يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإن الصلاة كانت جميع الشرع، ثم صارت بعضه، فلم يلزم في المستقبل مثل ما كان لازماً فيما مضى، ومع هذا فلم يكن نسخاً، وهما سواء؛ لأنه كان لازماً فيما مضى عبادة واحدة، فزيد عليها أخرى، وكذلك كان لازما جلد مائة، فزيد عليه التغريب.
واحتج: بأن الزيادة تغير حكماً ثابتاً في المزيد عليه، فوجب أن يكون نسخاً، كما إذا نسخ الحكم الثابت، مثل القبلة، والتقديم (1)، وحد الزنا، والوصية.
ووجه التغيير: أنه قبل الزيادة كان جميع الحكم، فصار بالزيادة بعض الحكم.
والجواب : أنا لا نسلم أنها غيرته؛ لأن حكم المزيد ثابت، كما
__________
(1) في الأصل : (القديم).

(3/817)


كان، ولكن يحتاج إلى زيادة ليقع موقعه، فكأن المائة قد وقعت موقعها، ولكن تحتاج إلي زيادة.
وقولهم: كان جميع الحكم، فصار بعضه، يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإن الصلاة كانت جميع الشرع، ثم صارت بعضه، ولا يكون ذلك نسخاً.
ثم يبطل هذا بالنقصان فإنه إذا سقط من المائة خمسون، لم يكن نسخاً للباقي، وقد صارت كل الحد بعد أن كانت بعضه.
واحتج: بأن النقصان نسخ، فوجب أن تكون الزيادة نسخ.
والجواب: أن النقصان يسقط حكماً ثابتاً فأوجب دخوله في اللفظ في وقت مستقبل، وليس كذلك الزيادة؛ لأنها لا تسقط حكماً، وهذا كما نقول: إنه إذا نسخ صوماً أو صلاةً، كان نسخاً، وإن زاد صوماً بعد الصلاة، لم يكن نسخاً فدل على الفرق بين النقصان وبين الزيادة.
واحتج: بأنه لا يصح أن يجمع بين الزيادة وبين حكم النص في خطاب واحد، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول الله تعالى : إذا غسلتم فى هذه الأعضاء أجزأتكم الصلاة وإن لم تنووا، ثم يقول مع ذلك: إن لم تنووا الطهارة لم تجزئكم صلاتكم، وكذلك [119/ب] لا يقول: قد أوجبت عليكم إذا حكمتم أن تحكموا بشهادة رجل واحد وامرأتين دون غيرهم، ثم يقول مع ذلك: واخترت لكم الحكم في الشاهد واليمين.
وكذلك لا يصح أن يقول: إن جلد مائة جميع حد الزاني، ثم يقول مع ذلك: هو بعض حده، فإذا استحال جمعها (1) في خطاب واحد، وجب أن يكون ورود الزيادة بعد استقرار حكم النص موجباً لنسخه.
والجواب: أن هذا يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإنه لا يصح أن يجمع بين الصوم وبين الصلاة في خطاب واحد، فلا
__________
(1) في الأصل : (جميعها).

(3/818)


يصح ان يقول: إذا صليتم برأت ذمتكم من كل عبادة، وإن لم تصوموا، ثم يقول مع ذلك: إن لم تصوموا لم تبرأ ذمتكم، ومع هذا فإيجاب الصيام بعد الصلاة لا يكون نسخاً للصلاة، كذلك ها هنا.
واحتج من قال بأنها إذا غيرت كانت نسخاً:
بأن الركعتين قبل الزيادة عليهما (1) كانتا تجزئان عن الفريضة ويصحان بانفرادهما، فلما ضم إليهما (2) ركعتين آخرتين صارتا غير مجزئتين ولا يصحان (3) بانفرادهما، فكان ذلك نسخاً لهما.
والجواب: أن الركعتين صحيحتان واقعتان عن الفرض، لكن ضم إليهما شيء آخر، فهو بمنزلة إشتراط ستر العورة فيها واستقبال القبلة ونحو ذلك من الشرائط.
ثم هذا باطل بالزيادة على الحد، فإنه كان قبل الزيادة محرماً، وتحصل به الكفارة، وبعد الزيادة لا تجزىء، ولا يكون ذلك نسخاً عند هذا القائل، وكذلك مبيحة للنكاح، فإذا زيد فيها، لم تكن مبيحة للنكاح من غير الزيادة، ولا يكون نسخاً، كذلك ها هنا.
واحتج: بأنكم قد جعلتم الزيادة على النص نسخاً لدليل الخطاب، فيجب (4) أن يكون نسخاً للمزيد عليه، وبيانه: إذا أمر الله تعالى بأن يجلد الزاني مائة واستقر ذلك، ثم زاد بعد ذلك عليها زيادة، كان ذلك نسخاً لدليل الخطاب، لأن قوله: اجلدوا مائة، دليله: لا يجلد أكثر منها.
__________
(1) في الأصل: (عليها).
(2) في الأصل: (إليها).
(3) في الأصل: (يصح).
(4) في الأصل: (يجب).

(3/819)


وهذا كما قال الصحابة والتابعون: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (الماء من الماء) منسوخ، وإنما المنسوخ حكم دليل الخطاب منه، دون حكم النطق؛ لأن حكم النطق ثابت لم يتغير.
والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن المزيد عليه لم يتغير حكمه، فهو (1) بعد الزيادة، كهو (2) قبلها، وليس كذلك دليل الخطاب، فإنه قد زال، لأن تقديره: لا تزيدوا على المائة، وقد أوجب الزيادة عليها، فصار المنع من الزيادة منسوخاً.
وربما قال قائل: إن ذلك ليس بنسخ، وإنما هو جار مجرى التخصيص للعموم، قال: لأن دليل الخطاب من القرآن والسنة المتواترة يجوز تركه بالقياس وبخبر الواحد.
والصحيح: أنه نسخ؛ لأن [120/أ] العموم إذا استقر بتأخير بيان التخصيص كان ما يراد من التخصيص بعده نسخاً، كذلك دليل الخطاب إذا استقر كان ما يرد بعده مما يوجب تركه نسخاً.
فصل (3)
إذا نص على حكم في عين من الأعيان بمعنى، وقيس عليه كل موضع وجد فيه ذلك المعنى، ثم نسخ الله تعالى حكم تلك العين صار حكم الفروع منسوخاً.
__________
(1) في الاصل: (وهو).
(2) في الاصل: (فهو).
(3) راجع هذا الفصل في المسودة ص (213)، (220)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (101/أ)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/230-232)، و"شرح الكوكب المنير" ص (268).

(3/820)


وقال أصحاب أبي حنيفة: يبقى الحكم في جميع الفروع (1)، وذكروا ذلك في مسألتين:
إحداهما وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنبيذ الذي كان مع عبد الله بن مسعود (2).
فقيل لهم: إنه كان نيئاً، ولا يجوز عندكم أن يتوضأ بالنبيذ النيء.
فقالوا: إذا ثبت بالنص جواز الوضوء بالنيء، لأنه ثمرة طيبة وماء طهور، وجب جوازه بالمطبوخ، لأن هذا المعنى موجود فيه، وقد نسخ حكم النيء وبقي حكم المطبوخ.
والمسألة الثانية: النية لصوم رمضان بالنهار، فرووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بعث إلى أهل العوالي (3) يوم عاشوراء (4) أن من لم يأكل
__________
(1) هذا العزو إلى الحنفية غير محرر. فقد ذكر الكمال بن الهمام في كتابه "التحرير" (3/215) مطبوع مع شرحه "تيسير التحرير" ما نصه: (ومبناه على المختار من أن نسخ حكم الأصل، لا يبقى معه حكم الفرع..).
وقال صاحب "مسلم الثبوت" (2/86) مطبوع مع شرحه "فواتح الرحموت" (مسألة: اذا نسخ حكم الأصل لا يبقى حكم الفرع، وقيل: يبقى، ونسب إلى الحنفية).
ثم عقب الشارح على كلامه هذا بقوله: (أشار إلى أن هذه النسبة لم تثبت، وكيف لا، وقد صرحوا: أن النص المنسوخ لا يصح عليه القياس، وسيجيء في شروط القياس أن من شروطه أن لا يكون حكم الأصل منسوخاً).
ويلاحظ: أن الكمال بن الهمام نص في الموضع السابق على أن التسمية بالنسخ من عدمها انما هو خلاف لفظي، أو سهو من المخالف، إذ المؤدي واحد.
(2) حديث وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بالنبيذ، سبق تخريجه ص (341).
(3) "العوالي": ضاحية من ضواحي المدينة المنورة.
(4) "عاشوراء" هو: اليوم العاشر من شهر محرم، خلافاً لابن عباس رضي الله عنه في قوله هو اليوم التاسع منه، كما أخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء؟ (2/797).

(3/821)


فليصم (1) فأجاز صوم يوم عاشوراء بالنية من النهار، وكانت العلة فيه: أنه صوم مستحق في زمان بعينه، وهذا المعنى موجود في صوم رمضان وغيره، ثم نسخ صوم عاشوراء، وبقي حكمه في غيره.
دليلنا:
أن ما ثبت تابعاً لغيره وجب أن يزول بزوال الموجب والمقتضى إذا
__________
(1) هذا الحديث رواه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الصيام. باب صيام يوم عاشوراء (3/55) بلفظ: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذن في الناس أن من كان أكل، فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل، فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه (2/798).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصيام، باب إذا لم يجمع من الليل هل يصوم ذلك اليوم من التطوع (4/162).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصيام، باب في صوم يوم عاشوراء (1/354).
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصيام، باب من زعم أن صوم
عاشوراء كان واجباً ثم نسخ وجوبه (4/288).
راجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (350).
وهناك حديث آخر روته الربيع بنت معوذ رضي الله عنها، أخرجه عنها البخاري في كتاب الصيام باب صوم الصبيان (3/45)، بلفظ: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار، من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم...) الحديث.
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء، فليكف بقية يومه (2/798).
وأخرجه عنها البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الصيام، باب من زعم أن صوم عاشوراء كان واجباً ثم نسخ وجوبه (4/288).

(3/822)


زال، كالحكم المتعلق بالعلة إذا زالت العلة زال الحكم المتعلق بها.
واحتج المخالف:
بأنه لو نسخ ذلك لكان نسخاً بالقياس على موضع النص، وهذا لا يجوز بالإجماع.
والجواب: أنه ليس بنسخ بالقياس، وإنما زال الموجب فزال ما تعلق به، كما زالت العلة فزال الحكم المتعلق بها، وإنما النسخ بالقياس: أن ينسخ حكم الفرع بعد استقراره بالقياس على أصل شرع بعد استقراره، وهذا لا يجوز بالإجماع، فأما إزالته بنسخ أصله، فليس ينسخ بالقياس.
فصل (1)
إذا كان الناسخ مع جبريل عليه السلام، ولم يَصِل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ليس بنسخ.
وإن وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل يكون نسخاً؟
ظاهر قول أصحابنا: أنه ليس بنسخ إلا عند من بلغه ذلك وعلمه؛ لأنه أخذ بقصة (2) قباء، واحتج بها على إثبات خبر الواحد في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد.
واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: مثل هذا، ومنهم من
__________
(1) راجع هذا الفصل في المسودة ص (223)، و"التمهيد في أصول الفقهه" الورقة (101/ب)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/221-223)، و"شرح الكوكب المنير" ص (255).
(2) في الأصل: (بعضه).

(3/823)


قال: يكون نسخاً، ولا يعتبر علمهم به (1).
دليلنا:
أن أهل قباء صلوا ركعة إلى بيت المقدس، ثم استداروا في الصلاة، ولو كان النسخ ثبت [120/ب] في حقهم لأمروا بالقضاء، فلما لم يؤمروا بالقضاء، دل على أن النسخ لم يكن ثبت في حقهم.
ولأن الخطاب لا يتوجه إلى من لا علم له به، كما لا يخاطب النائم والمجنون لعدم علمهما وتمييزهما.
ولأنه لا خلاف أنه مأمور بالأمر الأول، ومتى تركه مع جهله بالناسخ كان عاصياً، فدل على أن الخطاب باق عليه.
واحتج المخالف:
بأنه لا يمتنع أن يسقط حكم الخطاب بما لم يعلمه، ألا ترى أنه إذا وكل في بيع سلعة، ثم عزل الوكيل، ولم يَعْلم بعزله انعزل، وإن باع السلعة بطل بيعه، كذلك ها هنا.
والجواب: أن في تلك المسألة روايتين:
إحداهما: لا ينعزل، ويحكم بصحة بيعه، وكذلك لو مات الموكل، فباع، يصح بيعه، فعلى هذا لا فرق بينهما (2).
وعلى هذا قال أصحابنا: إذا حلف على زوجته فقال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فأذن لها، وهي لا تعلم، وخرجت وقع الطلاق،
__________
(1) هكذا نقل الآمدي عنهم في كتابه: "الإحكام" (3/153)، واختار القول بالنفي.
(2) هذه الرواية ذكرها ابن قدامة في كتابه "المغني" (5/102)، عن الامام أحمد، وعليها يدل ظاهر كلام الخرقي في "مختصره" ص (99).

(3/824)


ولم يكن لذلك الإذن حكم.
وفيه رواية أخرى: ينعزل الوكيل وإن لم يعلم (1).
فعلى هذا الفرق بينهما: أن أوامر الله تعالى ونواهيه مقرنة بالثواب والعقاب، فاعتبر فيها علم المأمور [به] والمنهي عنه فيها، وليس كذلك الإذن في التصرف والرجوع فيه، فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب.
فصل (2)
في الخبر هل يصح نسخه أم لا؟
ينظر فيه: فإن كان لا يصح أن يقع إلا على الوجه المخبر به، فلا يصح نسخه، كالخبر عن الله تعالى بأنه واحد ذو صفات، والخبر بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء أنهم كانوا أنبياء موجودين، والخبر بخروج الدجال في آخر الزمان ونحو هذا، فهذا لا يصح نسخه؛ لأن نسخه والرجوع عنه يفضي إلى الكذب، وهذا لا يجوز على الله تعالى، فلم يجز ذلك.
وإن كان مما يصح أن يتغير، ويقع على غير الوجه المخبر عنه، فإنه يصح نسخه كالخبر عن زيد بأنه مؤمن أو كافر، أو عبد أو فاسق، فهذا يجوز نسخه، فإذا أخبر عن زيد بأنه مؤمن، جاز أن يقول بعد ذلك: هو كافر. وكذلك يجوز أن يقول: الصلاة على المكلف في المستقبل،
__________
(1) هذه الرواية ذكرها أيضاً ابن قدامة في كتابه "المغني" (5/103) عن الإمام أحمد نصاً، وذلك من رواية جعفر بن محمد عنه.
(2) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (196)، فإنه نقل عن المؤلف من كتابه
"العدة"، وذكر جملة من كلام المؤلف هنا، وراجع أيضاً: "شرح الكوكب المنير" ص (257-260).

(3/825)


ثم يقول بعد مدة: ليس على المكلف فعل الصلاة؛ لأن نسخ ذلك لا يفضي إلى الكذب في الخبر؛ لأنه يجوز أن تتغير صفته من حال إلى حال، كما يجوز أن يتغير حكم المكلف عن العبادة من زمان إلى زمان.
فصل (1)
في الإجماع لا يصح نسخه؛ لأنه (2) حجة: انعقدت بعد انقطاع علم الوحي؛ لأنه ينعقد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد انقطع الوحي بعد وفاته.
وإذا لم يصح نسخه لم ينسخ به أيضاً؛ لأن الناسخ هو الوحي، والوحي قد انقطع، فلا نسخ بغيره.
فإن قيل: أليس اذا وجدتم خبر الواحد تركتموه بالإجماع؟
قيل: يترك بالإجماع، [121/أ] ولا ينسخه به، بل يستدل بالإجماع على نسخه؛ لأنه لو كان الخبر صحيحاً لم يخرج عن الأمة؛ لأن الأمة ضبطوا الأخبار، فإذا رأينا خبراً يخالف ما اجماعهم عليه، استدللنا بإجماعهم على نسخه.
فإن قيل: أليس إذا كانت الصحابة على قولين، ساغ الأخذ، بكل واحد منهما، فإذا أجمع التابعون على أحد القولين بدل القول الآخر، فقد نسختم بالإجماع.
قيل: لا يزول القول الآخر بإجماع التابعين، لأن التابعين لو أدركوا
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (224)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (100)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/229-230)، و" شرح الكوكب المنير" ص (266).
(2) في الأصل: (لأنها).

(3/826)


كلهم عصر الصحابة، وكانوا مع أحد القولين لم يزل الأخذ، فبأن لا يزول بإجماعهم بعد انقراض الصحابة أولى.
وإن قلنا: يزول أحد القولين، لم يكن نسخاً بالإجماع، لكنا نقول: إنما ساغ العمل بكل واحد منهما بشرط أن لا يكون مانع منه، فإذا وجد ما يمنع منه، لم يسغ العمل به، كما نقول: يجوز الاجتهاد والعمل به ما لم يعلم النص، فإذا علم زال الاجتهاد لوجود النص، لا أنه نسخ الاجتهاد، كذلك ها هنا.
فصل (1)
فأما القياس فلا ينسخ؛ لأنه يستنبط من أصل، فلا يصح نسخه مع بقاء الأصل المستنبط منه، والأصل باق، فكان القياس باقياً ببقائه.
وإذا لم يصح نسخه لم ينسخ به أيضاً؛ لأنه إنما يصح ما لم يعارضه أصل، فإن عارضه أصل سقط في نفسه. فبطل أن ينسخ الأصل به مثل أن يقول: علة الربا في البر: مكيل جنس، فإن وجد خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواز التفاضل في الأرز، سقط القياس.
ولأن القياس دليل محتمل، وليس بالقوى الذي يقع به النسخ.
فصل (2)
وأما دليل الخطاب وما في معناه من التنبيه، نحو قوله: (فلا تقل
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (225)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (100/ب-101/أ)، و"شرح الكوكب المنير" ص (267).
(2) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (222)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (101/أ)، و"شرح الكوكب المنير" ص (268).

(3/827)


لهمَا أفّ) (1)، فإنه ينسخ وينسخ به. وهو قول المتكلمين. خلافاً لأصحاب الشافعي، فيما حكاه الإسفراييني (2) : أنه لا ينسخ ولا ينسخ به (3).
دليلنا:
أن المنع من الضرر ثبت نطقاً لا قياساً، فصح نسخه، والدليل على ثبوته نطقاً: أنهم قالوا: هذا مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه.
ولأن ما ثبت باللفظ ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، ألا ترى أنه لو قال: اقتلوا أهل الذمة؛ لأنهم كفار، جاز قتل عبدة الأوثان بهذا اللفظ، وإن لم يتناولهم اللفظ من طريق الصيغة، لكن من طريق العلة والتنبيه، كذلك ها هنا.
ولأن القياس: ما يختص بفهم أهل النقل والاستدلال، وما دل عليه فحوى الخطاب، فإنه يستوي فيه العالم والعامي.
__________
(1) (23) سورة الاسراء.
(2) في الأصل: (الاسفراينين)، والصواب ما أثبتناه؛ لأنه نسبة إلى "اسفراين".
وفي "المسودة" ص (222). "الاسفرائيني" بالهمزة بعدها "ياء"؛ لأنه نقل كلام المؤلف من أول الفصل إلى هنا، ونسبه إليه.
والإسفراييني: هو: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، أبو إسحاق الإسفراييني، نسبة إلى "اسفراين" بُليدة بنواحي نيسابور، على منتصف الطريق إلى جرجان، كما قال صاحب اللباب، والاسفراييني أحد العلماء المشهورين أصولاً
وفروعاً. له كتب، منها: "تعليقة في أصول الفقه"، و"الجامع في أصول الدين والرد على الملحدين". مات بنيسابور سنة (418 هـ).
له ترجمة في: "البداية والنهاية" (12/24)، و"شذرات الذهب" (3/209)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (4/256)، و"طبقات الشافعية" للاسنوي (1/59)، و"اللباب" (1/55)، و"وفيات الأعيان" (1/8).
(3) فصل القول في ذلك الآمدي في كتابه: "الإحكام" (53/150).

(3/828)


فإن قيل: ما ثبت نطقاً؛ لأنا لا ننطق بالمنع من الضرب، ولا سمع منه صيغة الضرب، وإنما عرف ذلك من معنى النطق، ومعنى النطق هو نفس القياس.
قيل: قد بينا أنه ثبت بالنطق من الوجه الذي بينا، وهو أنه يضاف [121/ب] إلى اللفظ.
ولأن الصيغة غير معتبرة من الوجه الذي بينا.
وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة في باب القياس، وذكرنا أن الحكم الثابت من طريق التنبيه، لا يسمى قياساً، وإنما هو مفهوم الخطاب وفحواه.
فصل (1)
مما يعلم به النسخ
ويعلم بثلاثة أشياء:
أحدها: النطق كقوله تعالى: (اْلآنَ خَففَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أن فِيكُمْ ضَعْفاً) (2) فنسخ عنهم أن يصابر كل واحد عشرة إلى أن يصابر اثنين نطقا.
وهكذا قال تعالى: (عَلِمَ اللَهُ انتَكُم كُنْتمْ تَخْتَانُونَ أئفُسَكمْ فَتَابَ علَيْكمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَاْلآنَ بَاشِرُوهُن
__________
(1) رجع في هذا الفصل: "التمهيد في أصول الفقه" الورقة (103/ب-104/أ)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/234-235)، و"شرح الكوكب المنير" ص (265).
(2) (66) سورة الأنفال.

(3/829)


وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَينَ لَكمّ الخيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخيطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (1)، فكان الأكل والشرب محرماً عليهم بغير القرآن، فنسخ عنهم (2) بالقرآن.
وهكذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) و(كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروا) فنسخ ذلك نطقاً.
وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية الحسن بن علي بن الحسن الإسكافي (3)، وقد سئل هل في الحديث ناسخ ومنسوخ؟ فقال: نعم، مثل لحوم الأضاحي وما أشبهه.
الثاني: أن يرد خبران متعارضان، ويعلم أن أحدهما يغير الآخر، مثل أن يقول: لا تزوروا القبور، ثم ثبت أنه قال بعد ذلك: زوروها، فيعلم بأن المتأخر عن الأول ناسخ للأول.
وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : (كنت رخصت لكم في جلود الميته، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) (4)؛ لأن النسخ باللفظ لا يعلم بأنه بعد الأول.
__________
(1) (187) سورة البقرة.
(2) في الأصل: (عليهم).
(3) أبو علي. من أصحاب الامام أحمد. ذكره ابو بكر الخلال، فقال: جليل القدر، عنده عن أبي عبد الله مسائل صالحة حسان كبار، أغرب فيها على أصحابه.
له ترجمة في: "الإنصاف" للمرداوي (12/285)، و"طبقات الحنابلة" (1/136-137).
(4) هذا الحديث أورد المصنف منه جزءاً بلفظ: (أن لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب).

(3/830)


وهذا قد نزل متأخرأ في التلاوة متقدماً في التنزيل، كقوله: (لا يَحِلُّ لَكَ النَسَاءُ مِن بَعْدُ) (1)، هذا منسوخ بقوله تعالى: (يَا أَيها النبي إنا أحْلَلْنَا لَكَ أَزْواجَكَ) (2) الآية، والناسخ متقدم في التلاوة ومتأخر في التنزيل.
وهكذا كانت العدة حولاً، فنسخت بأربعة أشهر وعشر، وكان الناسخ متقدماً في التلاوة، والمنسوخ متأخراً، وهو قوله: (وَالّذِين يُتَوَفّونَ مِنْكم وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبصنَ بِأَنْفُسِهِن أَربَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (3)، نسخ بها قوله تعالى: (وَصِية لأزْوَاجِهِم متَاعاً إلى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاج) (4) وهذا متأخر في التلاوة.
وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية عبد الله: تستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر، فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به.
والثالث: أن يرى خبر الواحد يخالف الإجماع، فيستدل بالإجماع على نسخه، لا أن الإجماع نسخه.
وإذاك ثبت أن العلم بالمتأخر يقع به النسخ، فالمتأخر يعلم بأحد أسباب ثلاثة:
أحدها: النطق، كقوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها)، (كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا)، هذا عرف المتأخر منه لفظاً.
__________
(1) (52) سورة الأحزاب.
(2) (50) سورة الأحزاب.
(3) (234) سورة البقرة.
(4) (240) سورة البقرة.

(3/831)


الثاني: أن يخبر الصحابي أن هذه الآية نزلت بعد آية، فيصير إليه [122/أ]، وينسخ بخبره.
الثالث: أن ينقل الراوي خبراً، ثم ينقل غيره ضده، فيعلم أن الأول مات قبل إسلام الراوي الثاني، فإن نقل الثاني يعلم أنه متأخر عن الأول،
وذلك في مس الذكر، روى طَلْق بن علي (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا وضوء من مسه) (2)، وروى أبو هريرة رضي الله عنه: (وجوب الوضوء
__________
(1) هو طلق بن علي بن طلق بن عمرو السحيمي الحنفي اليمامي، أبو علي صحابي جليل. روى عنه ابنه قيس، وعبد الرحمن بن علي بن شيبان.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/776)، و"الإصابة" القسم الثالث ص (538) طبعة دار نهضة مصر، و"خلاص تذهيب الكمال" ص (181).
(2) حديث طلق - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، أي: في ترك الوضوء من مس الذكر (1/41) بلفظ: (... هل هو إلا بِضعَة منه، أو قال: بضعة منه).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر (1/131)، وقال فيه: "هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من ذلك (1/84).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك أي: في ترك الوضوء من مس الذكر (1/163).
وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من مس الفرج بظهر الكف (1/134).
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب نواقض الوضوء (1/57).
وأخرجه عنه الإمام أحمد، كما في "الفتح الرباني" في كتاب الطهارة، باب حجة من رأى عدم نقض الوضوء بمس الذكر (2/88-89).
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار"، في كتاب الطهارة، باب مس الفرج هل يجب فيه الوضوء أو لا؟ (1/75-76). =

(3/832)


من مسه) (1)، وكان خبر أبي هريرة متأخراً؛ لأن أبا هريرة أسلم
__________
= وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القبل والدبر والذكر، والحكم في ذلك (1/149-150).
وحديث طلق هذا قد جاء من عدة طرق تكلم عنها الزيلعي في "نصب الراية" (1/60-69)، وأحسن طرقه طريق ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد صححه ابن حبان والطبراني وابن حزم.
وقال فيه الطحاوي في المرجع السابق: (فحديث ملازم، صحيح مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده، ولا في متنه، فهو أولى -عندنا- مما روينا أولاً من الآثار المضطربة في أسانيدها).
وقال ابن المديني: هو -عندنا- أحسن من حديث بسرة.
وضعف الحديث الإمامُ الشافعي، فقد نقل عنه البيهقي في المرجع السابق قوله: "سألنا عن قيس، فلم نجد من يعرفه، بم، يكون لنا قبول خبره؟، وقد عارضه من وصفنا ثقته ورجاحته في الحديث، وتثبته".
كما ضعفه البيهقي، وأبو حاتم، والدارقطني، وأبو زرعة، وابن الجوزي.
والحقيقة: أن في الحديث كلاماً كثيراً، ولولا خشية الإطالة لبسطنا ذلك، ولكن نكتفي بالإشارة إلى المراجع لمن أراد الاستزادة، وهي -بالاضافة إلى ما سبق-: "تلخيص الحبير" (1/125)، والتعليق على "نصب الراية" (1/63-69).
فإنه وفّى البحث حقه، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (55-56)، و"الفتح الرباني" (2/88-89).
(1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده كما في "الفتح الرباني"، في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الفرج (2/85-86) ولفظه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن أفضى بيده إلى ذكره، ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء").
وأخرجه عنه الإمام الشافعي، في كتاب الطهارة، باب ما جاء في نواقض الوضوء (1/34).
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القبل والدبر =

(3/833)


بعد وفاة طَلْق بن علي، وقبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربع سنين (1).
__________
= والذكر، والحكم في ذلك (1/147).
وأخرجه عنه البيهقي في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر (1/130-131)، ولفظه: (من مس ذكره فعليه الوضوء).
وأخرجه عنه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر (1/138)، وقال: "حديث صحيح".
وأخرجه عنه ابن حبان في "صحيحه"، وقال: "هذا حديث صحيح سنده، عدول نقلته". كما صححه ابن عبد البر، وقال ابن السكن: "هو أجود ما روي في الباب".
انظر: تلخيص الحبير (1/126).
وذكر الزيلعي في "نصب الراية" (1/56) أن البيهقي أخرجه من طريق البخاري موقوفاً على أبي هريرة، كما ذكر عن الذهبي قوله في "مختصره" : إن البخاري أخرجه في تاريخه موقوفاً.
(1) والعلماء في هذه المسألة فريقان:
فريق ذهب إلى القول بأن مس الفرج ينقض الوضوء، مستدلين بحديث أبي هريرة هذا، وبحديث بسْرة بنت صفوان رضي الله عنهما.
وأجابوا عن حديث طلق بجوابين:
الأول: أنه منسوخ بالأحاديث التي دلت على نقض الوضوء من مس الفرج، وبخاصة حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما بين المؤلف.
الثاني: أن حديث طلق بن علي ضعيف، لا ينهض لمعارضة الأحاديث الأخرى المعارضة.
وفريق ذهب إلى القول بأن مس الفرج لا ينقض الوضوء.
وأجابوا عن حديث أبي هريرة وأمثاله، بأنها أحاديث ضعيفة، لا تنهض لمعارضة حديث طلق بن علي رضي الله عنه.
ونختم هذا البحث بكلمة للشيخ عبد الحي اللكنوي - كما جاءت في هامش "التلخيص" (1/125) وهي: (والإنصاف في هذا المبحث: أنه إن اختير طريق النسخ، =

(3/834)


فصل (1)
والنسخ إنما يقع مع التعارض، هو: أن يعارض الناسخ المنسوخ، فأما إذا ورد شرعان لا يتعارضان، فلا ينسخ أحدهما الآخر. وقول من يقول: إن صوم رمضان نسخ صوم عاشوراء، لا يصح؛ لأن فرض رمضان لا ينافي صوم عاشوراء، وإنما وافق نسخ عاشوراء فرض رمضان، فقال الناس: نسخ به، وليس كذلك، بل ينسخ مع فرضه لا به.
فصل (2)
إذا قال الصحابي: هذه الآية منسوخة، فإنا لا نصير إلى قوله حتى يخبر بماذا نسخت.
أومأ إليه في رواية صالح فقال: هذا ما خرجه أبي في الحبس فقال في أوله: بعث نبيه، وأنزل عليه كتابه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من باطنه وظاهره، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه.
وهذا يدل على أنه مخصوص بذلك.
ثم ذكر بعد ذلك بأوراق قوله تعالى: (وَالَذِينَ يُتَوَفوْنَ مِنْكُمْ
__________
= فالظاهر انتساخ حديث طلق، لا العكس، وإن اختير طريق الترجيح، ففي أحاديث النقض كثرة وقوة، وان اختير طريق الجمع، فالأولى أن يحمل الأمر على العزيمة وعدم النقض على الضرورة).
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (229).
(2) نقل في المسودة ص (230-231) عن الباجي في المسألة هذه ثلاثة أقوال: أحدها: الذي ذكره المؤلف.
ثانيها: أنه ان ذكر الناسخ لم يقع به فخ، وان لم يذكره وقع.
ثالثها: يقع النسخ به على كل حال.

(3/835)


ويذَرُونَ أزوَاجاً وَصيَة لأِزْوَاجِهِم متاعاً إلى الْحوْل غَيْرَ إخْرَاج) (1)، فمن دل على أنها منسوخة غيرهم. وإنما أراد بذلك الصحابة، وظاهر هذا أنه يصار إلي قوله.
وذكر بعد ذلك بأوراق قوله تعالى: (وَعَلىَ الذِين يطُيقونَهُ فِدية) (2) قال ابن عباس: الفديةُ ولا قضاء عليه (3). وقال علقمة (4) وعبيدة (5) : نسختها الآية التي بعدها (فَمنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَهْرَ فليصمْهُ) (6).
وظاهر هذا أنه صار إلى قول التابعين، ثم قال: لا يصير إلى قوله.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة والشافعي، لئلا تناول نسخَها بما لا
__________
(1) (240) سورة البقرة.
(2) (184) سورة البقرة.
(3) سبق الكلام على تفسير هذه الآية ص (783).
(4) هو: علقمة بن قيس بن عبد الله أبو شبل النخعي الكوفي. أحد أعلام التابعين.
روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم. وعنه الشعبي وإبراهيم النخعي وآخرون.
كان من أعلم الناس بابن مسعود وأشبههم به. ولد في حياة النبي صلى الله عليه
وسلم، ومات سنة (62 هـ).
له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (271) طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/70)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/516).
(5) هو: عبيدة بن عمرو، ويقال: ابن قيس، أبو مسلم، وقيل: أبو عمرو الكوفي، أحد التابعين. أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره. روى عن علي وابن مسعود وغيرهما. وعنه الشعبي والنخعي وغيرهما. كان فقيهاً عالماً. مات سنة (72 هـ).
له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (256) طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/78)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/498).
(6) (185) سورة البقرة.

(3/836)


يجوز نسخُها به كأخبار التواتر.
وقد بينا أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز، ولأن أكثر أحواله أن ينقل خبراً من جهته، فلا ينسخ به القرآن.
فأما خبر الواحد إذا أخبر به صحابي، وزعم أنه منسوخ، فإن على قول من يجوز للراوي نقل معنى الأخبار، يجب أن يثبت به النسخ؛ لأن ظاهر كلامه أنه معنى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النسخ؛ لامتناع أن يحمل قوله على غير جهته.
وأما على قول من يعتبر اللفظ، فلا ينسخ به؛ لجواز أن يكون ما سمعه ظن أنه ناسخ، ولو أظهره لم يكن ناسخاً عندنا.
ويفارق هذا إذا روى الصحابي خبراً وفسره، قبلنا تفسيره، لأنا إنما نقبل تفسيره في الخبر المحتمل، على ما تقدم، بيانه، فجعلنا تفسيره، لمشاهدة التنزيل وحضور التأويل [122/ب] [و] ها هنا اللفظ المنسوخ غير محتمل.
فصل (1)
نسخ بعض العبادة لا يوجب نسخ الباقي وحكي عن بعض الشافعية أن المنقوص إذا لم يكن ثابتاً على الوجه الذي كان ثابتاً عليه في الابتداء، فإن نقصانه يوجب نسخ جميعه، كنسخ التوجه نسخ (2) لجميع الصلاة (3).
__________
(1) راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص (212)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (103/ب)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/214-215)، و"شرح الكوكب المنير" ص (270).
(2) في الأصل: (ينسخ).
(3) راجع في تفصيل رأي الشافعية في هذه المسألة: "الممستصفى" (1/116)، =

(3/837)


دليلنا:
أن الله تعالى لما نسخ التوجه إلى بيت المقدس، لم يوجب ذلك نسخ أوصاف الصلاة، فوجب أن يكون على ما كان عليه، وجرى مجرى نسخ منها، كالطهارة والستارة.
ولأن النسخ جارٍ مجرى التخصيص في باب كون كل واحد منهما رافعاً لبعض ما تناوله اللفظ، وكان تخصيص بعض ما تضمنه العموم لا يوجب سقوط جميعه، كذلك نسخ بعضه لا يوجب نسخ جميعه.
فصل
يجوز النسخ بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في التخصيص للعموم بأفعاله.
خلافاً لأبي الحسن التميمي من أصحابنا قال: لا يجوز، بناه على أن أفعاله لا تدل على الوجوب.
وذكر هذا في أوراق وقعت إلي فيها النسخ بأفعاله، والتخصيص بأفعاله، وأجاز التخصيص بأفعاله.
والدلالة عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته في أحكام الشرع سواء، إلا ما دل عليه دليل التخصيص. ن
__________
= و"الإحكام" للآمدي (3/162).

(3/838)